الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ) المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 24   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، والصفحات مذيلة بحواشي أحمد ومحمود شاكر، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر الطبري، أبو جعفر الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ) المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 24   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، والصفحات مذيلة بحواشي أحمد ومحمود شاكر، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] بسم الله الرحمن الرحيم بركة من الله وأمر الحمد لله رب العالمين الرحمنِ الرحيم مَلِكِ يومِ الدين والحمد لله الذي خلق السمواتِ والأرضَ وجعل الظلماتِ والنورَ. والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعلْ له عِوَجًا. والحمد لله الذي له ما في السمواتِ والأرضِ، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيمُ الخبيرُ. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنَّا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمدٍ، رسول الله وخيرته من خلقه، خاتم النبيين، وأشرف المرسلين. وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإِحسانٍ إلى يوم الدين. "فصلَّى الله على نبيِّنا كلَّما ذكره الذاكرون، وغَفَل عن ذكره الغافلون. وصلى الله عليه في الأوَّلين والآخرين. أفضلَ وأكثرَ وأزكى ما صلَّى على أحدٍ من خلقه. وزكَّانا وإياكم بالصلاة عليه، أفضلَ ما زكَّى أحدًا من أمته بصلاته عليه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته" (1)   (1) اقتباس من كلام الشافعي، في كتابه (الرسالة) ، رقم 39، بتحقيقنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أما بعد: فإن هذا التفسير الجليل، باكورة عمل عظيم، تقوم به (دار المعارف بمصر) ، لإحياء (تُراث الإسلام) ، وإخراج نفائس الكنوز. التي بقيتْ لنا من آثار سلفنا الصالح، وعلمائنا الأفذاذ. الذين خدموا دينَهم، وعُنُوا بكتاب ربّهم، وسنّة نبيّهم، وحفظِ لغتهم، بما لم تصنعه أمةٌ من الأمم، ولم يبلغْ غيرُهم مِعْشارَ ما وفّقهم الله إليه. فكان أَوّلَ ما اخترنا، باكورةً لهذا المشروع الخطير: كتابُ (تفسير الطبري) . وما بي من حاجةٍ لبيان قيمته العلمية، وما فيه من مزايا يندر أَن توجدَ في تفسيرٍ غيرِه. وهو أعظم تفسير رأيناه، وأعلاه وأثبتُه. استحقَّ به مؤلفُه الحجةُ أن يسمَّى (إمامَ المفسّرين) . وكنتُ أخشى الإقدامَ على الاضطلاع بإِخراجه وأُعْظِمُه، عن علمٍ بما يكتنفُ ذلك من صعوباتٍ، وما يقوم دونَه من عقباتٍ، وعن خبرةٍ بالكتاب دهرًا طويلا أربعين سنةً أو تزيد. لولا أنْ قوَّى من عزمي، وشدَّ من أزْري، أخي الأصغر، الأستاذ محمود محمد شاكر. وهو - فيما أعلم - خير من يستطيع أن يحمل هذا العبء، وأن يقوم بهذا العمل حقَّ القيام، أو قريبًا من ذلك. لا أعرف أحدًا غيرَه له أهلا. وما أريد أن أشهدَ لأخي أو أُثْنيَ عليه. ولكني أقرّ بما أعلم، وأشهد بما أَسْتَيْقن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقد أَبَى أخي السيد محمود إلا أن يُلْقِيَ عليّ بعضَ العبء، بالتعاون معه في مراجعة الكتاب، وبتخريج أحاديثه، ودَرْس أسانيده. وهذا - وحدَه - عملٌ فوقَ مقدوري. ولكنّي لم أستطع التخليَ عنه، فقبلتُ وعملتُ، متوكلا على الله، مستعينًا به. وأسأل الله سبحانه الهدى والسداد، والرعاية والتوفيق. إنه سميع الدعاء. كتبه أحمد محمد شاكر عفا الله عنه بمنه القاهرة يوم الجمعة 4 جمادى الآخرة سنة 1374 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بِسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا * قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} * * * {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} * * * والحمد لله الذي أرسلَ رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهُدَى ودِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الحقِّ ليُظْهِرَه عَلَى الدِّين كُلِّه وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْركونَ. {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} * * * اللَّهُمّ إِنّا نبرأُ إليك من كُلِّ حَوْلٍ وقوَّةٍ، ونستَعينك ونَسْتَهديك، ونعوذُ برضاكَ من غَضَبِك، فاغفر لَنا وارْحَمنا وتبْ علينا إنّك أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحيم. ربَّنا وَلا تجعلنَا من الذين فرَّقُوا دِينَهم وَكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون. * * * اللهُمَّ اجعلنا مسلمِينَ لك، وَافِين لك بالميثاق الذي أخذتَ علينا: أن نكون قوّامين بالقِسْط شُهَداءَ على الناس، اللهُمَّ اهدنا صراطَك المستقيم، صراطَ الذين أنعمت عليهم من النبيّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء، الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا، وعلموا أنك أنت الجبّارُ الذي خَضَعتْ لجَبرُوتِه الجبَابرة، والعزيزُ الذي ذلّتْ لعزَّته الملوكُ الأعِزَّة، وخَشَعت لمهَابة سَطْوتِه ذوُو المهابة، فلم يُرهِبْهم بغيُ باغٍ ولا ظُلْم سفّاحٍ ظالم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} {وَلا تحْسَبَنَّ اللَّهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} * * * اللهُم اغفر لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وتغمّده برحمتك، واجعله من السابقين المقرَّبين في جنّات النعيم، فقد كان - ما عَلِمْنا- من الذين بَيَّنوا كتابَك للناس ولم يكتموه، ولم يشتَرُوا به ثَمَنًا قليلا من مَتاع هذه الحياةِ الدنيا؛ ومن الذين أدَّوْا ما لزمهم من حقِّك، وذادُوا عن سنة نبِّيك؛ ومن الذين ورَّثوا الخلَفَ من بعدهم علم ما عَلموا، وحَمَّلوهم أمانةَ ما حَمَلوا، وخلعُوا لك الأندادَ، وكفَروا بالطاغوتِ، ونَضَحوا عن دينك، وذبُّوا عن شريعتك، وأفضَوْا إليك ربَّنا وهمْ بميثاقك آخذون، وعلى عهدك محافظون، يرجون رَحْمتَك ويخافُون عذابَك. فاعفُ اللهمّ عنا وعنهم، واغفر لنَا ولهم، وارحمنا وارحمهم، أنت مولانَا فانصرنَا على القومِ الكافرين. * * * كان أبو جعفر رضي الله عنه يقول: "إِنّي لأعجبُ مَمنْ قرأ القرآن ولم يعلَم تأويلَه، كيف يلتذُّ بقراءته؟ ". ومنذ هداني الله إلى الاشتغال بطلب العلم، وأنا أصاحب أبا جعفر في كتابيه: كتاب التفسير، وكتاب التاريخ. فقرأتُ تفسيره صغيرًا وكبيرًا، وما قرأتُه مرَّةً إلا وأنا أسمعُ صوته يتخطّى إليّ القرون: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذُّ بقراءته؟ فكنتُ أجدُ في تفسيره مصداقَ قوله رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بيد أني كنتُ أجدُ من المشقّة في قراءتِه ما أجد. كان يستوقفني في القراءةِ، كثرةُ الفُصُول في عبارته، وتباعُد أطراف الجُمَل. فلا يسلم لي المعنى حتى أعيد قراءة الفقرة منه مرتين أو ثلاثًا. وكان سبب ذلك أنّنا ألفنَا نهجًا من العبارة غيرَ الذي انتهج أبو جعفر، ولكن تبيَّن لي أيضًا أن قليلا من الترقيم في الكتابِ، خليقٌ أن يجعَل عبارته أبينَ. فلما فعلتُ ذلك في أنحاءٍ متفرقة من نسختي، وعدتُ بعدُ إلى قراءتِها، وجدتُها قد ذهب عنها ما كنت أجد من المشقّة. ولما راجعتُ كتب التفسير، وجدتُ بعضَهم ينقلُ عَنْه، فينسبُ إليه ما لم أجده في كتابه، فتبيَّنَ لي أن سبب ذلك هو هذه الجمل التي شقّت عليَّ قراءتها. يقرؤها القارئ، فربّما أخطأ مُرادَ أبي جعفرٍ، وربَّما أصابَ. فتمنَّيت يومئذٍ أن ينشر هذا الكتاب الجليلُ نشرةً صحيحة محقّقة مرقّمةً، حتى تسهُل قراءتُها على طالب العلم، وحتى تجنّبه كثيرًا من الزَّلل في فهم مُرَاد أبي جعفر. ولكنْ تبيَّن لي على الزمن أن ما طبع من تفسير أبي جعفر، كانَ فيه خطأ كثير وتصحيفٌ وتحريف، ولما راجعتُ التفاسير القديمة التي تنقلُ عَنْه، وجدتُهم يتخطّونَ بعض هذه العبارات المصحفة أو المحرفة، فعلمتُ أن التصحيف قديم في النسخ المخطوطة. ولا غرو، فهو كتابٌ ضخْمٌ لاَ يكادُ يسلُم كلّ الصواب لناسخه. وكان للذين طبعوه عذرٌ قائمٌ، وهو سقم مخطوطاته التي سلمت من الضياع، وضخامة الكتاب، واحتياجه إلى مراجعة مئات من الكتب، مع الصبْر على المشقة والبَصَر بمواضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الخَلَل. فأضمرتُ في نَفْسي أن أنشُر هذا الكتابَ، حتى أؤدّي بعض حقِّ الله عليَّ، وأشكرُ به نعمةً أنالُها - أنَا لَهَا غيرُ مستحقّ - من ربٍ لاَ يؤدّي عبدٌ من عباده شكرَ نعمة ماضيةٍ من نعمه، إلا بنعْمة منه حادثةٍ توجِب عليه أن يؤدّي شكرها، هي إقدارُه على شكر النعمة التي سلفت؛ كما قال الشافعي رضي الله عنه. وتصرَّم الزَّمن، وتفانت الأيّامُ، وأنا مستهلَكٌ فيما لاَ يُغْني عنّي شيئًا يوم يقوم الناس لربّ العالمين. حتَّى أيقظَنِي عدوانُ العادِين، وظُلْم الظّالمين، وطغيانُ الجبابرة المتكبّرين، فعقدت العزمَ على طبع هذا التفسير الإمامِ، أتقرَّبُ به إلى ربِّ العالمين، ملك يوم الدين. وأفضيتُ بما في نفسي إلى أخي الأكبر السيد أحمد محمد شاكر - أطال الله بقاءه، وأقبسني من علمه- فرأى أن تنشره "دار المعارف"، باكورةَ أعمالها في نشر (تُراث الإسلام) . ولم يمض إلا قليل حتى أعدَّت الدار عُدّتها لنشر هذا الكتاب الضخم، مشكورةً على ما بذلته في إحياء الكتاب العربيّ. وكنت أحبُّ أن يكون العمل في نشر هذا الكتاب مشاركة بيني وبين أخي في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، ولكن حالت دون ذلك كثرة عمله. وليتَه فَعَل، حتى أستفيد من علمهِ وهدايته، وأتجنّبَ ما أخاف من الخطإ والزلل، في كتابٍ قال فيه أبو عمر الزاهد، غلام ثعلب: "قابلتُ هذا الكتاب من أوّله إلى آخره، فما وجدتُ فيه حرفًا خطأً في نحو أو لغة". وأنَّى لمثلي أن يحقّق كلمة أبي عمر في كتاب أبي جعفر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ونحن أهل زمانِ أُوتوا من العجز والتهاون، أَضعافَ ما أُوتي أسلافُهم من الجدّ والقدرة! فتفضل أخي أن ينظُرَ في أسانيد أبي جعفر، وهي كثيرة جدًّا، فيتكلّم عن بعض رجالها، حيثُ يتطلب التحقيق ذلك، ثم يخرِّج جميع ما فيه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن وجدَ بعد ذلك فراغًا نَظَر في عملي وراجعه واستدرك عليه. فشكرتُ له هذه اليدَ التي طوّقني بِها، وكم له عندي من يدٍ لاَ أملك جزاءَها، عنْد الله جزاؤها وجزاءُ كلّ معروفٍ. وحسبُه من معروف أنّه سدّد خُطايَ صغيرًا، وأعانني كبيرًا. وتوليتُ تصحيحَ نصّ الكتاب، وضبطه، ومقابلته على ما بين أيدينا من مخطوطاته ومطبوعاته، ومراجعته على كتب التفسير التي نقلت عنه. وعلّقتُ عليه، وبيّنت ما استغلقَ من عبارته، وشرحتُ شواهده من الشعر. وبذلتُ جُهْدي في ترقيمه وتفصيله. فكلّ ما كان في ذلك من إحسانٍ فمن الله، وكلّ ما فيه من زَلَلٍ فمنّي ومن عجزي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والنسخ المخطوطة الكاملة من تفسير الطبري، لاَ تكادُ تُوجَد، والذي مِنْها في دار الكتب أجزاءٌ مفردة من الجزء الأوّل، والجزء السادس عشر، ومنها مخطوطة واحدة كانت في خمسة وعشرين مجلَّدًا ضاع منها الجزء الثاني والثالث، وهي قديمةً غير معروفة التاريخ. وهي على ما فيها تكادُ تكون أصحّ النسخ. وهي محفوظة بالدار برقم: 100 تفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فجعلتها أمًّا لنشر هذا الكتاب. أما سائر المخطوطات فهي سقيمة رديئة، لم تنفع في كثير ولا قليل، فضْلا عن أنها قطع صغيرة منه. فنهجتُ نهجًا آخر في تصحيح هذا التفسير، وذلك بمراجعة ما فيه من الآثار على كتاب "الدرّ المنثور" للسيوطي، "وفتح القدير" للشوكاني، فهما يكثران النقل عن تفسير أبي جعفر. أما ابن كثير في تفسيره، فإنه لم يقتصر على نقل الآثار، بل نقل بعض كلام أبي جعفر بنَصِّه في مواضع متفرقة، وكذلك نقل أبو حيان والقرطبي في مواضع قليلة من تفسيريهما. فقابلتُ المطبوع والمخطوط من تفسير أبي جعفر على هذه الكتب. وكنت في هذا الجزء الأوَّل من التفسير أذكر مرجع كلّ أثرٍ في هذه الكتب، ثم وجدتُ أن ذلك يطيل الكتاب على غير جدوى، فبدأت منذ الجزء الثاني أغفل ذكر المراجع، إِلا عند الاختلاف، أو التصحيح، أو غير ذلك مما يوجب بيان المراجع. وراجعتُ كثيرًا ممّا في التفسير من الآثار، على سائر الكتب التي هي مظّنة لروايتها، وبخاصّة تاريخ الطبري نَفْسِه، ومن في طبقته من أصحاب الكتب التي تروي الآثار بالأسانيد. وبذلك استطعتُ أن أحرّر أكثرها في الطبري تحريرًا أرجو أن يكون حسنًا مقبولا. أمّا ما تكلّم فيه من النحو واللغة، فقد راجعته على أصوله، من ذلك "مَجاز القرآن" لأبي عبيدة، "ومعاني القرآن" للفراء، وغيرهما ممّن يذكر أقوال أصحاب المعاني من الكوفيين والبصريين. وأما شواهدُه فقد تتبعتُ ما استطعتُ منها في دواوين العربِ، ونسبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ما لم يكن منها منسوبًا، وشرحتُها، وحققت ما يَحتاجُ إلى تحقيق من قصائدها، مختصرًا في ذلك ما استطعت. وقد رأيتُ في أثناء مراجعاتي أنّ كثيرًا ممن نقل عن الطبري، ربّما أخطأ في فهم مُرَاد الطبري، فاعترض عليه، لمّا استغلقَ عليه بعضُ عبارته. فقيدت بعضَ ما بدا لي خلالَ التعليق، ولم أستوعِبْ ذلك استيعَابًا مخافة الإطالة، وتركت كثيرًا مما وقفتُ عليه من ذلك في الجزء الأوّل، ولكني أرجو أنْ أستدرِك ما فاتني من ذلك في الأجزاء الباقية من التفسير إن شاء الله ربُّنَا سبحانه. وبيّنتُ ما وقفتُ عليه من اصطلاح النحاة القدماء وغيرهم، ممّا استعمله الطبري، وخالفَه النحاةُ وغيرهم في اصطلاحهم، بعد ذلك، إلى اصطلاح مُسْتَحدَث. وربّما فاتني من ذلك شيءٌ، ولكني أرجو أنْ أبيّن ذلك فيما يأتي من الأجزاء. وقد وضعتُ فهرسًا خاصًّا بالمصطلحات، في آخر كلّ جزءٍ، حتى يتيسّر لطالب ذلك أن يجدَ ما استبهَمَ عليه من الاصطلاح في موضع، في جزءٍ آخر من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وكنتُ أحبُّ أن أبيّن ما انفردَ به الطبريّ من القول في تأويل بعض الآياتِ، وأشرح ما أَغْفَله المفسّرون غيرُه، ولكني خفتُ أن يكونَ ذلك سببًا في زيادة الكتاب طولا على طوله؛ مع أني أَرَى أن هذا أمرٌ يكشف عن كتاب الطبري، ويزيدنا معرفة بالطبري المفسّر، وبمنهجه الذي اشتقّه في التفسير، ولم اختلف المفسّرون من بعده، فأغفلوا ما حرصَ هو على بيانه؟ وكنتُ أحبُّ أيضًا أن أُسَهِّل على قارئ كتابه، فأجعل في آخرِ الآياتِ المتتابعة التي انتهى من تفسيرها، مُلَخَّصًا يجمَعُ ما تفرَّق في عشراتٍ من الصفحاتِ. وذلك أني رأيتُ نفسي قديمًا، ورأيت المفسِّرين الذين نقلوا عَنْهُ، كانوا يقرأون القطعة من التفسير مفصولةً عمَّا قبلها، أو كانوا يقرأونه متفرِّقًا. وهذه القراءةُ، كما تبيِّن لي، كانتْ سببًا في كثيرٍ من الخَلْط في معرفة مُرَادِ الطبري، وفي نسبة أقوالٍ إليه لم يقلْها. لأنَّه لما خاف التكرار لطول الكتابِ، اقتصَر في بعض المواضِع على ما لاَ بُدَّ منه، ثقَةً منه بأنّه قد أبان فيما مضى من كتابه عن نهجه في تفسير الآيات المتصلة المعاني. والقارئ الملتمِس لمعنى آيةٍ من الآياتِ، ربَّما غَفَل عن هذا الترابُط بين الآية التي يقرؤها، والآيات التي سبقَ للطبري فيها بيانٌ يتّصل كل الاتصال ببيانه عن هذه الآية. ولكني حين بدأت أفعل ذلك، وجدت الأمر شاقًا عسيرًا، وأنه يحتاجُ إِلى تكرار بعضِ ما مضى، وإلى إِطالةٍ في البيانِ. وهذا شيءٌ يزيدُ التفسيرَ طولا وضخامة. ولمَّا رأيتُ أن كثيرًا من العلماء كان يعيبُ على الطبري أنه حشَدَ في كتابِهِ كثيرًا من الرواية عن السالفين، الذين قرأوا الكُتُب، وذكروا في معاني القرآنِ ما ذكروا من الرواية عن أهل الكتابَيْن السالِفَيْن: التَّوراة والإنجيل - أحببتُ أن أكشف عن طريقة الطبري في الاستدلال بهذه الرواياتِ روايةً روايةً، وأبيّن كيف أخطأ الناسُ في فهم مقصده، وأنّه لم يَجْعل هذه الروايات قطُّ مهيمنةً على كتاب الله الذي لاَ يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه. وأحببتُ أن أبيّن عند كُلِّ روايةٍ مقالة الطبريّ في إِسنادِها، وأنه إسنادٌ لاَ تقوم به حُجَّةٌ في دين الله، ولا في تفسير كتابه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وأن استدلاله بها كان يقوم مقام الاستدلالِ بالشِّعر القديم، على فهم معنى كلمة، أو للدلالة على سياقِ جملة. وقد علقتُ في هذا الجزء 1: 454، 458 وغيرهما من المواضع تعليقًا يبينُ عن نهج للطبري في الاستدلال بهذه الآثار، وتركتُ التعليقَ في أماكنَ كثيرة جدًّا، اعتمادًا على هذا التعليق. ورأيتُ أن أدَعَ ذلك حتى أكتب كتابًا عن "الطبري المفسِّر" بعد الفراغ من طبع هذا التفسير. لأني رأيتُ هناكَ أشياء كثيرةً، ينبغي بيانُها، عن نهج الطبري في تفسيره. ورأيتني يجدّ لي كُلَّ يوم جديدٌ في معرفة نهجه، كلَّما زدتُ معرفةً بكتابه، وإلفًا لطريقته. فاسأل الله أن يعنيني أن أفردَ له كتابًا في الكلام عن أسلوبه في التفسير، مع بيان الحجّة في موضع موضعٍ، على ما تبيّن لي من أسلوبه فيه. ورحمَ الله أبا جعفر، فإنه، كما قال، كان حدَّث نفسه بهذا التفسيرِ وهو صبيٌّ، واستخار الله في عمله، وسأله العونَ على ما نواه، ثلاثَ سنين قبل أن يعمله، فأعانه الله سبحانه. ثم لما أراد أن يملي تفسيره قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدرُه؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا ممّا تفنَى فيه الأعمارُ قبل تمامه! فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقةٍ. فكان هذا الاختصار سببًا في تركه البيانَ عمّا نجتهد نحنُ في بيانه عند كل آية. وهذا الاختصارُ بيّنٌ جدًّا لمن يتتبّع هذا التفسيرَ من أولِه إِلى آخره. هذا وقد كنتُ رأيتُ أن أكتب ترجمةً للطبري أجْعَلُها مقدّمَةً للتفسير. ولكنّي وجدت الكتابة عن تفسيره في هذه الترجمة، لن تتيسّر لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 إلا بعد الفراغ من كتابه، وكشف النقاب عمّا استبهم من منهاجِه في تفسيره. فأعرضتُ عن ذلك، وقلت أجمع ترجمةً للطبري، فجمعتُ كُلّ ما في الكتب المطبوعة والمخطوطة من ترجمة وأخبار، وما قيل في تصانيفه وتعدادها، فإذا هي قد تجاوزت ما يمكن أن يكونَ ترجمةً في صدر هذا التفسير، فآثرتُ أن أفردها كتابًا قائمًا بنفسه، سوف يخرجُ قريبًا بعون الله سبحانه. أمّا الفهارسُ، فإِنّي كنت أريدُ أن أدعَها حتى أفرغَ من الكتاب كُلِّه، فأصدرها في مجلداتٍ مستقلّة، ولكن الكتابَ كبيرٌ، وحاجةُ الناسِ، وحاجتي أنَا، إلى مراجعة بعضه على بعض، وربط أوّله بآخره أوجبتْ أن أتعجَّل فأُفرد بعض الفهارس مع كُلّ جزء. فجعلت فهرسًا للآيات التي استدلّ بها في غير موضعها من التفسير. فقد تبيّن لي أنّه ربّما ذكر في تفسير الآية في هذا الموضع، قولا في الآية لم يذكرُه في موضعها من تفسير السورة التي هي منها. وأفردت فهرسًا ثانيًا لألفاظ اللغة، لأنه كثير الإحالة على ما مضى في كتابه، وليكون هذا الفهرس مرجعًا لكل اللُّغَة التي رواها الطبري، وكثير منها ممّا لم يرد في المعاجم، أو جاء بيانه عن معانيها أجودَ من بيان أصحاب المعاجم. وهو فهرسٌ لاَ بُدَّ أن يتم عند كُلّ جزء، حتى لاَ يسقط عليّ شيءٌ من لغة الطبري. وأفردت فهرسًا ثالثًا لمباحث العربيّة، لأنّه كثيرًا ما يحيلُ على هذه المواضِع، ولأنّ فيها نفعًا عظيمًا تبيّنتُه وأنا أعمل في هذا التفسير. وزدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فهرسًا رابعًا للمصطلحات القديمة التي استحدث الناسُ غيرها، ليسْهُل على قارئ كتابه أن يجد تفسيرها في موضعها، فإِني لم أفسِّرها عند كُلّ موضع ذكرتْ فيه، لكثرة تكرارها في الكتاب. وفهرسًا خامسًا، هو ردوده على الفرق وأصحاب الأهواءِ. وأفردتُ فهرسًا سادسًا للرجال الذي تكَلَّم عنهم أخي السيد أحمد في المواضع المتفرقة من التفسير، حتى يسهلُ على من يريد أن يحقّق إسنادًا أن يجد ضالّته. فإِنّه حفظه الله، لم يلتزم الكتابة على الرجال عند كُلّ إِسنادٍ. وهذا فهرسٌ لاَ بُدّ منه مع كُلِّ جزءٍ حتى لاَ تتكرّر الكتابة على الرجال في مواضع مختلفة من الكتاب، ولتصحيح أسماء الرجال حيث كانوا من التفسير. أما الفهرس العام للكتاب، فقد اقتصرت فيه على ذِكْرِ ما سوى ذلك، ولم أذكر فيه بدأه في تفسير كُلّ آية، لأنّ آيات المصحف مرقمة، وأثبتنا أرقام الآيات في رأس الصفحات. فمن التمس تفسير آية، فليستخرج رقمها من المصحف، وليطلبْ رقمها في تفسير الطبري من رؤوس الصفحات. * * * هذا، وقد تركتُ أن أصْنَع للشعر فهرسًا مع كلِّ جزءٍ، فإني سأجعلُ لَهُ فهرسًا مفردًا بعد تمام طبع الكتابِ، على نمط اخترتُه لصناعته. وأمَّا فهارس الكتاب عامَّة، فستكون بعد تمام الكتاب كله. وهي تشتمل فهارس أسانيد الطبري، على طراز أرجُو أن أكون موفقًا في اختياره وعمله. ثم فهرس الأعلام، وفهرس الأماكن، وفهرسُ المعاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 والفهارس الجامعة لما أفردتُه من الفهارس مع كلِّ جزء. وهذا شيءٌ لاَ بُدَّ منه، لضبط ما في التفسير من مناحي العلم المختلفة، وليتيسّر على الطالب أن يجد بُغْيته حيث شاء من كتاب الطبري، لأنّه كثير الإحالة في كتابه على ما مضى منه. * * * وبعد، فقد بذلتُ جهدي، وتحرَّيتُ الصوابَ ما استطعتُ، وأردتُ أن أجعَلَ نشرَ هذا الكتابِ الإمامِ في التفسير، زُلْفَى إِلى اللهِ خالصةً. ولكن كيف يخلُص في زماننا عملٌ من شائبة تشوبهُ! فأسألُ الله أن يتقبَّل مني ما أخلصتُ فيه، وأن يغفر لي ما خالطه مِنْ أمرِ هذه الدنيا، وأن يتغمّدني برحمته يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وأضرع إليه أن يغفر لَنَا ولإخوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان، وآخرُ دَعْوَانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين. محمود محمد شاكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بسم الله الرحمن الرحيم بركة من الله وأمر قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطَّبري في سنة ست وثلثمئة، قال: الحمد لله الذي حَجَّت الألبابَ بدائعُ حِكَمه، وخَصَمت العقولَ لطائفُ حُججه (1) وقطعت عذرَ الملحدين عجائبُ صُنْعه، وهَتفتْ في أسماع العالمينَ ألسنُ أدلَّته، شاهدةٌ أنه الله الذي لاَ إله إلا هو، الذي لاَ عِدْلَ له معادل (2) ولا مثلَ له مماثل، ولا شريكَ له مُظاهِر، ولا وَلدَ له ولا والد، ولم يكن له صاحبةٌ ولا كفوًا أحدٌ؛ وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة، والعزيز الذي ذلت لعزّته الملوكُ الأعزّة، وخشعت لمهابة سطوته ذَوُو المهابة، وأذعنَ له جميعُ الخلق بالطاعة طوْعًا وَكَرْهًا، كما قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [سورة الرعد: 15] . فكل موجود إلى وَحدانيته داع، وكل محسوس إلى رُبوبيته هاد، بما وسَمهم به من آثار الصنعة، من نقص وزيادة، وعجز وحاجة، وتصرف في عاهات عارضة، ومقارنة أحداث لازمة، لتكونَ له الحجة البالغة. ثم أرْدف ما شهدتْ به من ذلك أدلَّتُه، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته، برسلٍ ابتعثهم إلى من يشاء من عباده، دعاةً إلى ما اتضحت لديهم صحّته، وثبتت في العقول حجته، {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء: 165]   (1) حاجه يحاجه: نازعه الحجة، وحجه يحجه: غلبه على حجته. وخاصمه: جادله بالحجة والبرهان، وخصمه: غلبه وظهرت حجته على حجته. واللطائف: جمع لطيفة، وكل شيء دقيق محكم وغامض خفي، يحتاج إلى الرفق والتأني في إدراكه، فهو لطيف. (2) العدل (بكسر العين وفتحها وسكون الدال) والعديل: النظير والمثيل. وعادله: ساواه وماثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وليذَّكَّر أولو النهي والحلم. فأمدَّهم بعوْنه، وأبانهم من سائر خلقه، بما دل به على صدقهم من الأدلة، وأيدهم به من الحجج البالغة والآي المعجزة، لئلا يقول القائل منهم (1) {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [سورة المؤمنون: 33-34] فجعلهم سفراءَ بينه وبين خلقه، وأمناءه على وحيه، واختصهم بفضله، واصطفاهم برسالته، ثم جعلهم -فيما خصهم به من مواهبه، ومنّ به عليهم من كراماته- مراتبَ مختلفة، ومنازل مُفترقة، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، متفاضلات متباينات. فكرَّم بعضهم بالتكليم والنجوى، وأيَّد بعضهم برُوح القدس، وخصّه بإحياء الموتى، وإبراء أولى العاهة والعمى، وفضَّل نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، من الدرجات بالعليا، ومن المراتب بالعُظمى. فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل (2) وخصه من درجات النبوّة بالحظ الأجزَل، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر. وابتعثه بالدعوة التامة، والرسالة العامة، وحاطه وحيدًا، وعصمه فريدًا، من كل جبار عاند، وكل شيطان مارد (3) حتى أظهر به الدّين، وأوضح به السبيل، وأنهج به معالم الحق، وَمَحق به منار الشِّرك. وزهق به الباطلُ، واضمحل به الضلالُ وخُدَعُ الشيطان وعبادةُ الأصنام والأوثان (4) مؤيدًا بدلالة على الأيام باقية، وعلى الدهور والأزمان ثابتة، وعلى مَرِّ الشهور والسنين دائمة، يزداد ضياؤها على كرّ الدهور إشراقًا، وعلى مرّ الليالي والأيام   (1) في المطبوع: "القائل فيهم"، ومثل هذا التبديل كثير في المطبوع، سأغفل منه ما شئت لكثرته، وطلبا للاختصار في التعليق بما لا غناء فيه. (2) الأقسام: جمع قسم (بكسر فسكون) ، وهو الحظ والنصيب من الخير. (3) الجبار العنيد والعاند: الذي جار ومال عن طريق الحق، ثم عتا وطغا وجاوز قدره. والمارد: الذي مرن على الشر حتى بلغ الغاية، فتطاول عتوا وتجبرًا. (4) في المخطوطة: "وجدع" بالجيم مضمومة، من جدع الأنف، وهو قطعها، كناية عن الإذلال. ولا أظنها جيدة هنا. والخدع جمع خدعة (بضم فسكون) : وهي ما يخدع به من المكر والختل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ائتلاقًا، خِصِّيصَى من الله له بها دون سائر رسله (1) -الذين قهرتهم الجبابرة، واستذلَّتهم الأمم الفاجرة، فتعفَّتْ بعدهم منهم الآثار، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام- ودون من كان منهم مُرْسلا إلى أمة دون أمة، وخاصّة دون عامةٍ، وجماعة دون كافَّة. فالحمدُ لله الذي كرمنا بتصديقه، وشرّفنا باتِّباعه، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به وبما دعا إليه وجاء به، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أزكى صلواته، وأفضلَ سلامه، وأتمَّ تحياته. ثم أما بعد (2) فإنّ من جسيم ما خصّ الله به أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرَّفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظَه ما حفظ عليهم -جلّ ذكره وتقدست أسماؤه- من وحيه وتنزيله، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة، وعلى ما خصه به من الكرامة علامةً واضحة، وحجةً بالغة، أبانه به من كل كاذب ومفترٍ، وفصَل به بينهم وبين كل جاحد ومُلحِد، وفرَق به بينهم وبين كل كافر ومشرك؛ الذي لو اجتمع جميعُ من بين أقطارها، من جِنِّها وإنسها وصغيرها وكبيرها، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا (3) . فجعله لهم في دُجَى الظُّلَم نورًا ساطعًا، وفي سُدَف الشُّبَه شهابًا لامعًا (4) وفي مضَلة المسالك دليلا هاديًا، وإلى سبل النجاة والحق حاديًا، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة: 16] . حرسه بعين   (1) في المطبوع: "تخصيصًا"، وهو تصرف من الطابعين. خصه بالشيء يخصه خصا وخصوصية (بفتح الخاء وضمها) وخصيصى: أفرده به دون غيره. (2) حذف الطابعون قوله: "ثم"، ليجعلوا كلام الطبري دارجًا على ما ألفوا من الكلام. (3) يضمن ما جاء في سورة البقرة: 23، ويونس: 38، والإسراء: 88. (4) السدف: جمع سدفة، وهي ظلمة الليل يخالطها بعض الضوء، تكون في أول الليل وآخره، ما بين الظلمة إلى الشفق، وما بين الفجر إلى الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 منه لاَ تنام، وحاطه برُكن منه لاَ يضام، لاَ تَهِي على الأيام دعائمه، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه، ولا يجوز عن قصد المحجَّة تابعه (1) ولا يضل عن سُبُل الهدى مُصَاحبه. من اتبعه فاز وهُدِى، ومن حاد عنه ضلَّ وغَوَى، فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يَئِلون، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون (2) وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون، وفصْل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون، وعن الرضى به يصدرون، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون. اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في مُحْكَمه ومُتَشابهه، وحلاله وحرامه، وعامِّه وخاصِّه، ومجمَله ومفسَّره، وناسخه ومنسوخه، وظاهره وباطنه، وتأويل آية وتفسير مُشْكِله. وألهمنا التمسك به والاعتصام بمحكمه، والثبات على التسليم لمتشابهه. وأوزعنا الشكر على ما أنعمتَ به علينا من حفظه والعلم بحدوده. إنك سميع الدعاء قريب الإجابة. وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما. اعلموا عبادَ الله، رحمكم الله، أن أحقَّ ما صُرِفت إلى علمه العناية، وبُلِغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضًى، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وأن أجمعَ ذلك لباغيه كتابُ الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مِرْية فيه، الفائزُ بجزيل الذخر وسنىّ الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حَميد (3) . ونحن -في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- منشئون إن شاء الله ذلك، كتابًا مستوعِبًا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، جامعًا، ومن سائر الكتب   (1) المحجة: الطريق. والقصد: استقامة الطريق وسهولته. (2) وأل يئل وألا ووؤولا: لجأ طلبًا للنجاة. والموئل: الملجأ والمنجى. والمعقل: الحصن المنيع في رأس الجبل، وعقل إليه يعقل عقلا وعقولا: لجأ إليه وامتنع به. وفي المطبوعة "يعتقلون"، وفي المخطوطة مثلها غير منقوطة. ولم أجد "اعتقل" بمعنى عقل. وإن صحت في قياس العربية. (3) تضمين آية سورة فصلت: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 غيره في ذلك كافيًا. ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه (1) واختلافها فيما اختلفت فيه منهُ. ومُبيِّنو عِلَل كل مذهب من مذاهبهم، ومُوَضِّحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه. والله نسألُ عونه وتوفيقه لما يقرب من محَابِّهِ، ويبْعد من مَساخِطه. وصلى الله على صَفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا. وأولُ ما نبدأ به من القِيل في ذلك: الإبانةُ عن الأسباب التي البدايةُ بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحْرى. وذلك: البيانُ عما في آي القرآن من المعاني التي من قِبَلها يدخل اللَّبْس على من لم يعان رياضةَ العلوم العربية، ولم تستحكم معرفتُه بتصاريف وجوه منطق الألسُن السليقية الطبيعية.   (1) في المطبوعة "عليه الأمة"، وهو تصرف لا خير فيه. والهاء في "منه" راجعة إلى كتاب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 (القولُ في البيانِ عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطِق مَنْ نزل بلسانه القرآن من وَجْه البيان -والدّلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة- مع الإبانةِ عن فضْل المعنَى الذي به بَايَن القرآنُ سائرَ الكلام) قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، رحمه الله: إن من أعظم نعم الله تعالى ذكره على عباده، وجسيم مِنَّته على خلقه، ما منحهم من فَضْل البيان الذي به عن ضمائر صُدورهم يُبينون، وبه على عزائم نفوسهم يَدُلّون، فذَلَّل به منهم الألسن (1) وسهَّل به عليهم المستصعب. فبِهِ إياه يُوَحِّدون، وإيَّاه به يسَبِّحون ويقدِّسون، وإلى حاجاتهم به يتوصّلون، وبه بينهم يتَحاورُون، فيتعارفون ويتعاملون. ثم جعلهم، جلّ ذكره -فيما منحهم من ذلك- طبقاتٍ، ورفع بعضهم فوق بعض درجاتٍ: فبَيْنَ خطيب مسْهِب، وذَلِقِ اللسان مُهْذِب، ومفْحَمٍ (2) عن نفسه لا يُبين، وَعىٍّ عن ضمير قلبه لا يعبَر. وجعل أعلاهم فيه رُتبة، وأرفعهم فيه درجةً، أبلغَهم فيما أرادَ به بَلاغًا، وأبينَهم عن نفسه به بيانَا. ثم عرّفهم في تنزيله ومحكم آيِ كتابه فضلَ ما حباهم به من البيان، على من   (1) ذلل الشيء: لينه وسهله ونفى عنه جفوته وصعوبته. (2) أسهب الرجل: أكثر الكلام، فإذا أكثر الكلام في خطأ قالوا: رجل مسهب (بفتح الهاء) ، وإذا أكثر وأصاب فهو مسهب (بكسر الهاء) . وذلق اللسان: فصيح طليق لا يتوقف. وقوله "مهذب": من أهذب الطائر في طيرانه، والفرس في عدوه، والمتكلم في كلامه: أسرع وتابع، وفي حديث أبي ذر "فجعل يهذبُ الركوع" أي يسرع فيه ويتابعه. يقال: كلمنى فلان فأفحمته: أسكته فلم يطق جوابًا وانقطع، فهو مفحم. وفي المطبوعة "ومعجم عن نفسه.." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فضّلهم به عليه من ذى البَكَم والمُستَعْجِم اللسان (1) فقال تعالى ذكرُه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [سورة الزخرف: 18] . فقد وَضَحَ إذا لذوي الأفهام، وتبين لأولي الألباب، أنّ فضلَ أهل البيان على أهل البَكَم والمستعجمِ اللسان، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه. فإذْ كان ذلك كذلك -وكان المعنى الذي به باينَ الفاضلُ المفضولَ في ذلك، فصار به فاضلا والآخرُ مفضولا هو ما وصفنا من فضْل إبانة ذى البيان، عما قصّر عنه المستعجمُ اللسان، وكان ذلك مختلفَ الأقدار، متفاوتَ الغايات والنهايات- فلا شك أن أعلى منازل البيان درجةً، وأسنى مراتبه مرتبةً، أبلغُه في حاجة المُبِين عن نفسه، وأبينُه عن مراد قائله، وأقربُه من فهم سامعه. فإن تجاوز ذلك المقدار، وارتفع عن وُسْع الأنام، وعجز عن أن يأتي بمثله جميعُ العباد، كان حجةً وعَلَمًا لرسل الواحد القهار -كما كان حجةً وعَلَمًا لها إحياءُ الموتى وإبراءُ الأبرص وذوي العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طبّ المتطببين (2) وأرفع مراتب عِلاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالَمِين. وكالذي كان لها حجةً وعَلَمًا قطعُ مسافة شهرين في الليلة الواحدة، بارتفاع ذلك عن وُسع الأنام، وتعذّر مثله على جميع العباد، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين، ولليسير منه فاعلين. فإذْ كان ما وصفْنا من ذلك كالذي وصفْنا، فبيّنٌ أنْ لا بيان أبْيَنُ، ولا حكمة أبلغُ، ولا منطقَ أعلى، ولا كلامَ أشرفُ- من بيان ومنطق تحدّى به   (1) كل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم ومستعجم. استعجمت عليه قراءته: التبست عليه فلم يتهيأ له أن يمضي فيها، فسكت وانقطع عن القراءة. (2) مقادير: جمع مقدار، وهو القوة، ومثله القدر والقدرة والمقدرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 امرؤ قومًا في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة، وقيلِ الشعرِ والفصَاحة، والسجع والكهانة، على كل خطيب منهم وبليغ (1) وشاعر منهم وفصيح، وكلّ ذي سجع وكهانة -فسفَّه أحلامهم، وقصَّر بعقولهم (2) وتبرأ من دينهم، ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به، والإقرار بأنه رسولٌ إليهم من ربهم. وأخبرهم أن دلالته على صدْق مقالته، وحجَّتَه على حقيقة نبوّته- ما أتاهم به من البيان، والحكمة والفرقان، بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقةٍ معانيه معانيَ منطقهم. ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عَجَزَة، ومن القدرة عليه نقَصَةٌ. فأقرّ جميعُهم بالعجز، وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص. إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلُّف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر. فأبدى من ضعف عقله ما كان مستترًا، ومن عِيّ لسانه ما كان مصُونًا، فأتى بما لا يعجِزُ عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: "والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، والثاردات ثَرْدًا، واللاقمات لَقْمًا"! (3) ونحو ذلك من الحماقات المشبهةِ دعواه الكاذبة. فإذْ كان تفاضُلُ مراتب البيان، وتبايُنُ منازل درجات الكلام، بما وصفنا قبل -وكان الله تعالى ذكرُه وتقدست أسماؤه، أحكمَ الحكماء، وأحلمَ الحلماء،   (1) في المطبوعة: "كل خطيب.." بحذف "على"، وفي المخطوطة "على خطيب.." بحذف "كل". وكلتاهما لا يستقيم بها كلام. والصواب ما أثبتناه. وأراد الطبري أنهم رؤساء صناعة الخطب والبلاغة ... على كل خطيب منهم وبليغ". يعني أن الذين تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن من العرب، كانوا رؤساء البيان والبلاغة على كل مبين وبليغ من سائر العرب. (2) سفه أحلامهم: نسبهم إلى السفه، وهو خفة الحلم واضطراب الرأي وضعفه، وهو باب من الجهل. وفي المطبوعة: "وقصر معقولهم" والمعقول مصدر كالعقل، يقال: ما لفلان معقول، أي ما له عقل. وكأنه أراد بقوله "قصر": نسبهم إلى قصر العقل وقلته. وأما قوله "قصر بعقولهم"، فكأنه ضمن "قصر" معنى استخف بها، فعداه بالباء، أي عاب عقولهم واستقصرها واستخف بها. وأنا في شك من صواب هذا الحرف. (3) من هذيان مسيلمة الكذاب لعنه الله. انظر تاريخ الطبري 3: 245 وسواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 - كان معلومًا أن أبينَ البيان بيانُه، وأفضلَ الكلام كلامه، وأن قدرَ فضْل بيانه، جلّ ذكره، على بيان جميع خلقه، كفضله على جميع عباده. فإذْ كان كذلك -وكان غيرَ مبين منّا عن نفسه مَنْ خاطبَ غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب- كان معلومًا أنه غير جائز أن يخاطبَ جل ذكره أحدٌا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطَبُ، ولا يرسلَ إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسانٍ وبيانٍ يفهمه المرسَلُ إليه. لأن المخاطب والمرسَلَ إليه، إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه، فحالهُ -قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعدَه- سواءٌ، إذ لم يفدْه الخطابُ والرسالةُ شيئًا كان به قبل ذلك جاهلا. والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابًا أو يرسل رسالةً لا توجب فائدة لمن خُوطب أو أرسلت إليه، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث، والله تعالى عن ذلك مُتَعالٍ. ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم: 4] . وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل: 64] . فغير جائز أن يكونَ به مهتديًا، منْ كانَ بما يُهْدَى إليه جاهلا. فقد تبين إذًا -بما عليه دللنا من الدِّلالة- أن كلّ رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه، وكلّ كتاب أنزله على نبي، ورسالة أرسلها إلى أمة، فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه. فاتضح بما قلنا ووصفنا، أن كتاب الله الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان محمد صلى الله عليه وسلم. وإذْ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربيًّا، فبيِّنٌ أن القرآن عربيٌّ. وبذلك أيضًا نطق محكم تنزيل ربنا، فقال جل ذكره: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف: 2] . وقال: {وَإِنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 192-195] . وإذْ كانت واضحةً صحةُ ما قلنا -بما عليه استشهدنا من الشواهد، ودللنا عليه من الدلائل- فالواجبُ أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمعاني كلام العرب موافقةً، وظاهرُه لظاهر كلامها ملائمًا، وإن باينه كتابُ الله بالفضيلة التي فضَلَ بها سائرَ الكلام والبيان، بما قد تقدّم وَصْفُنَاهُ. فإذْ كان ذلك كذلك، فبيِّن -إذْ كان موجودًا في كلام العرب الإيجازُ والاختصارُ، والاجتزاءُ بالإخفاء من الإظهار، وبالقلة من الإكثار في بعض الأحوال، واستعمالُ الإطالة والإكثار، والترداد والتكرار، وإظهارُ المعاني بالأسماء دون الكناية عنها، والإسرار في بعض الأوقات، والخبرُ عن الخاصّ في المراد بالعامّ الظاهر، وعن العامّ في المراد بالخاصّ الظاهر، وعن الكناية والمرادُ منه المصرَّح، وعن الصفة والمرادُ الموصوف، وعن الموصوف والمرادُ الصفة، وتقديمُ ما هو في المعنى مؤخر، وتأخيرُ ما هو في المعنى مقدّم، والاكتفاءُ ببعض من بعض، وبما يظهر عما يحذف، وإظهارُ ما حظه الحذف- (1) أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك، في كلّ ذلك له نظيرًا، وله مِثْلا وشبيهًا. ونحن مُبَيِّنو جميع ذلك في أماكنه، إن شاء الله ذلك وأمدّ منه بعونٍ وقوّة.   (1) قوله: "أن يكون.." مبتدأ قوله "فبين"، وما بينهما اعتراض طويل؛ وهذا دأب الطبري أبدًا، حتى كأنه لم يكن يخشى على قارئ أن يسوء فهمه أو تكل فطنته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 القول في البَيَان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم قال أبو جعفر: إن سألنا سائل فقال: إنك ذكرت أنه غيرُ جائز أن يخاطب الله تعالى ذكرهُ أحدًا من خلقه إلا بما يفهمه، وأن يرسل إليه رسالة إلا باللسان الذي يفقهه.. 1- فما أنت قائل فيما حدثكم به محمد بُن حُميد الرازي، قال: حدثنا حَكّام بن سَلْم، قال: حدثنا عبْسة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن أبي موسى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [سورة الحديد: 28] ، قال: الكفلان: ضعفان من الأجر، بلسان الحبشة (1) . 2- وفيما حدثكم به ابن حُمَيْد، قال: حدثنا حكام، عن عَنبسة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [سورة المزمل: 6] قال: بلسان الحبشة إذا قامَ الرجلُ من الليل قالوا: نَشأ (2) . 3- وفيما حدّثكم به ابن حميد قال: حدّثنا حكام، قال: حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} قال: سبِّحي، بلسان الحبشة (3) ؟ قال أبو جعفر: وكل ما قلنا في هذا الكتاب "حدّثكم" فقد حدثونا به.   (1) الخبر 1- يأتي بهذا الإسناد في تفسير سورة الحديد: 28 وفي إسناده هناك خطأ. (2) الخبر 2- يأتي بإسناده في تفسير سورة المزمل: 6 (3) الخبر 3- يأتي بإسناده في تفسير سورة سبأ: 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 4- وفيما حدّثكم به محمد بن خالد بن خِداش الأزديّ، قال: حدثنا سلم ابن قتيبة، قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [سورة المدثر: 51] قال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية شار، وبالنبطية أريا، وبالحبشية قسورة (1) . 5- وفيما حدثكم به ابن حميد قال: حدّثنا يعقوب القمّى، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَير قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميٌّا وعربيًّا؟ فأنزل الله تعالى ذكره: {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [سورة فصلت: 44] فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان فيه. {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [سورة هود: 82، وسورة الحجر: 74] قال: فارسية أعربت "سنك وكل (2) . 6- وفيما حدثكم به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: في القرآن من كل لسان (3) . وفيما أشبه ذلك من الأخبار التي يطولُ بذكرها الكتاب، مما يدل على أن فيه من غير لسان العرب؟ قيل له: إنّ الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا -من أجل أنهم لم يقولوا: هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلامًا، ولا كان ذاك   (1) الخبر 4- يأتي بإسناده في تفسير سورة المدثر: 51 (2) الخبر 5- يأتي بإسناده في تفسير سورة فصلت: 44. ونص الخبر هناك: "فأنزل الله بعد هذه الآية كل لسان فيه.." وهي أجود. وفي الدر المنثور 5: 367: "وأنزل الله تعالى بعد هذه الآية فيه بكل لسان. حجارة..". ثم يأتي بإسناده مختصرًا في تفسير سورة هود: 82. وانظر سائر ما روى في "سجيل" في تفسير سورة الفيل: 4. وقوله "حجارة من سجيل".. كلام مستأنف، ضربه مثلا لما جاء في القرآن من الألسنة الأخرى. (3) الخبر 6- لم أجده في مكان آخر بعد. وهو في الدر المنثور 5: 367 وفيه: "بكل لسان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 لها منطقًا قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفةً قبل مجيء الفرقان- فيكون ذلك قولا لقولنا خِلافًا (1) . وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناهُ كذا، وحرفُ كذا بلسان العجم معناه كذا. ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرْطاس، وغير ذلك -مما يتعب إحصاؤه وُيمِلّ تعداده، كرهنا إطالة الكتاب بذكره- مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى. ولعلّ ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها. فلو أن قائلا قال -فيما ذكرنا من الأشياء التي عددْنا وأخبِرْنا اتفاقَه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية، وما أشبهَ ذلك مما سكتنا عن ذكره-: ذلك كله فارسي لا عربي، أو ذلك كله عربي لا فارسي، أو قال: بعضه عربي وبعضه فارسي، أو قال: كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به، أو قال: كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته - كان مستجهَلا (2) لأن العربَ ليست بأولى أن تكون كان مخرجُ أصل ذلك منها إلى العجم، ولا العجم أحقَّ أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب، إذ كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودًا في الجنسين. وإذْ كان ذلك موجودًا على ما وصفنا في الجنسين، فليس أحدُ الجنسين أولى بأن يكون أصلُ ذلك كان من عنده من الجنس الآخر. والمدّعي أن مخرج صل ذلك إنما كان من أحد الجنسين إلى الآخر، مدّعٍ أمرًا لا يوصَل إلى حقيقة صحّته إلا بخبر يوجب العلم، ويزيل الشكّ، ويقطع العذرَ صحتُه.   (1) خلاف: مخالف، وسيكثر مجيئها في كلام الطبري. (2) قوله: "كان مستجهلا"، جواب قوله: "لو أن قائلا قال..". والفصل في عبارة الطبري يكون أطول من هذا، كما سيمر بك. واستجهل فلانًا: عده جاهلا، أو وجده جاهلا. والجهل هنا: فساد الرأي واضطرابه، لأنه مبني على التحكم المحض، كما ترى في رد الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بل الصواب في ذلك عندنا: أن يسمَّى: عربيًّا أعجميًّا، أو حبشيًّا عربيًّا، إذ كانت الأمّتان له مستعملتين -في بيانها ومنطقها- استعمالَ سائر منطقها وبيانها. فليس غيرُ ذلك من كلام كلّ أمة منهما، بأولى أن يكون إليها منسوبًا- منه (1) . فكذلك سبيل كل كلمة واسم اتفقت ألفاظ أجناس أمم فيها وفي معناها، ووُجد ذلك مستعملا في كل جنس منها استعمالَ سائرِ منطقهم، فسبيلُ إضافته إلى كل جنس منها، سبيلُ ما وصفنا -من الدرهم والدينار والدواة والقلم، التي اتفقت ألسن الفرس والعرب فيها بالألفاظ الواحدة والمعنى الواحد، في أنه مستحقٌّ إضافته إلى كل جنس من تلك الأجناس- اجتماعٌ واقترانٌ (2) . وذلك هو معنى من روينا عنه القولَ في الأحرف التي مضت في صدر هذا الباب، من نسبة بعضهم بعضَ ذلك إلى لسان الحبشة، ونسبة بعضهم بعضَ ذلك إلى لسان الفرس، ونسبة بعضهم بعضَ ذلك إلى لسان الروم. لأنّ من نسب شيئًا من ذلك إلى ما نسبه إليه، لم ينفِ -بنسبته إياه إلى ما نسبه إليه- أن يكون عربيًّا، ولا من قال منهم: هو عربيّ، نفى ذلك أن يكون مستحقًّا النسبةَ إلى من هو من كلامه من سائر أجناس الأمم غيرها. وإنما يكون الإثبات دليلا على النفي، فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني، كقول القائل: فلان قائم، فيكون بذلك من قوله دالا على أنه غير قاعد، ونحو ذلك مما يمتنع اجتماعه لتنافيهما. فأمّا ما جاز اجتماعه فهو خارج من هذا المعنى. وذلك كقول القائل فلان قائم مكلِّمٌ فلانًا، فليس في تثبيت القيام له ما دلَّ على نفي كلام آخر،   (1) قوله "منه"، متعلق بقوله "بأولى"، أي "بأولى منه.." (2) في المطبوعة "باجتماع وافتراق". وأراد الطبري بقوله "اجتماع واقتران" أي أن يقال هو: "عربي أعجمي، أو حبشي عربي"، كما مر آنفا في كلامه. وسياق عبارته بعد حذف التفسير والاعتراض من كلامه هو هذا: "فسبيل إضافته إلى كل جنس منها، سبيل ما وصفنا.. اجتماع واقتران". أي أن يجمع بين الوصفين أو يقرن بين النسبتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 لجواز اجتماع ذلك في حالٍ واحدٍ من شخص واحد. فقائل ذلك صادق إذا كان صاحبه على ما وصفه به. فكذلك ما قلنا -في الأحرف التي ذكرنا وما أشبهها- غيرُ مستحيل أن يكون عربيًّا بعضها أعجميًّا، وحبشيًّا بعضها عربيًّا، إذ كان موجودًا استعمالُ ذلك في كلتا الأمتين. فناسِبُ ما نَسبَ من ذلك إلى إحدى الأمتين أو كلتيهما محقٌّ غيرُ مبطل. فإن ظن ذو غباءٍ أن اجتماع ذلك في الكلام مستحيلٌ -كما هو مستحيل في أنساب بني آدم- فقد ظنّ جهلا. وذلك أن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين دون الآخر، لقول الله تعالى ذكره: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة الأحزاب: 5] . وليس ذلك كذلك في المنطق والبيان، لأنّ المنطق إنما هو منسوب إلى من كان به معروفًا استعمالُه. فلو عُرِف استعمالُ بعض الكلام في أجناس من الأمم -جنسين أو أكثر- بلفظ واحد ومعنى واحد، كان ذلك منسوبًا إلى كل جنس من تلك الأجناس، لا يستحق جنسٌ منها أن يكون به أولى من سائر الأجناس غيره. كما لو أنّ أرضًا بين سَهل وجبل، لها هواء السهل وهواء الجبل، أو بين برٍّ وبحرٍ، لها هواء البر وهواءُ البحر- لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سُهْلية جبلية (1) . أو بأنها بَرِّية بِحْرية، إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافيةً حقَّها من النسبة إلى الأخرى. ولو أفردَ لها مفردٌ إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الأخرى، كان صادقًا محقًّا. وكذلك القول في الأحرف التي تقدم ذكرناها في أول هذا الباب. وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك، هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان- عندنا بمعنى، والله أعلم: أنّ فيه من كلّ لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به، نظيرَ ما وصفنا من القول فيما مضى.   (1) النسبة إلى سهل (بفتح فسكون) : سهلى، بضم السين، على غير القياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وذلك أنه غيرُ جائز أن يُتوهّم على ذي فطرة صحيحة، مقرّ بكتاب الله، ممن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله -أن يعتقد أنّ بعضَ القرآن فارسي لا عربيّ، وبعضه نبطي لا عربيّ، وبعضه روميّ لا عربيّ، وبعضه حبشي لا عربي (1) ، بعد ما أخبر الله تعالى ذكرُه عنه أنه جعله قرآنًا عربيًّا. لأن ذلك إنْ كان كذلك، فليس قولُ القائل: القرآن حبشيٌّ أو فارسيٌّ، ولا نسبةُ من نسبه إلى بعض ألسن الأمم التي بعضُه بلسانه دون العرب- بأولى بالتطويل من قول القائل (2) : هو عربي. ولا قولُ القائل: هو عربيٌّ بأولى بالصّحة والصواب من   (1) في المطبوع والمخطوط "وبعضه عربي لا فارسي" مكان "وبعضه رومي لا عربي"، وهو فاسد المعنى فآثرت أن أثبت ما يقتضيه سياق الكلام. وقد ذكر الروم آنفًا في ص 16. (2) في المطبوعة: "بالتطول" وأراد الطبري بقوله "التطويل" نسبة القول إلى التزيد والسعة في الكلام، حتى يستغرق الوصف بإحدى الصفات سائر الصفات الأخرى. وكلام الطبري يحتاج إلى فضل بيان - من أول قوله: "وذلك أنه غير جائز أن يتوهم.." إلى قوله: "ولا جائز نسبته إلى كلام العرب". فأقول: أراد الطبري أن يقول: إنه لا يستقيم في العقل أن يكون الرجل مؤمنًا بكتاب الله، عارفًا بمعانيه وحدوده، مقرًا بأن الخبر قد جاء من ربه أنه جعل القرآن "قرآنا عربيا"، ولم يجعله أعجميا بقوله "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي"- ثم يعتقد مع ذلك: أن بعض القرآن فارسي لا عربي، وبعضه نبطي لا عربي، وبعضه رومي لا عربي، وبعضه حبشي لا عربي. فإنه إن فعل، فقد نفى عن بعض القرآن أنه عربي، والله يصف القرآن كله بأنه عربي. وأثبت لبعض القرآن أنه أعجمي، والله تعالى ينفي عن جميعه أنه أعجمي. وخبر الله تعالى عن كتابه أنه جعله "قرآنا عربيا" صفة شاملة لا يجوز لأحد أن يخصص شمولها على بعض القرآن دون بعض. ولو جاز لأحد أن يخصص شمولها من عند نفسه فيقول: "بعض القرآن حبشي لا عربي، أو فارسي لا عربي.."، لجاز أيضًا لقائل أن يقول من عند نفسه: "القرآن حبشي أو فارسي أو رومي، أو أعجمي". وحجة الطبري في ذلك: أن الذي يخصص شمول الصفة من عند نفسه على بعض القرآن بأنه عربي، ويقول إن بعضه الآخر يوصف بأنه حبشي أو فارسي أو رومي- يدعى أن وصف القرآن بأنه عربي، محمول على تغليب إحدى الصفات على سائر الصفات الأخرى. ولو جاز ذلك، لجاز لقائل أن يقول: "القرآن حبشي أو فارسي أو رومي"، لأنه فعل مثله، فغلب إحدى الصفات على الصفات الأخرى. وإذا اقتصر المقتصر على صفة بعضه فقال: "القرآن حبشي أو فارسي"، لم يكن أولى بأن ينسب إلى التوسع في الكلام والتزيد في الصفة، من القائل: "القرآن عربي"، لأنه اقتصر أيضًا على صفة بعضه، فتوسع في الكلام وتزيد في الصفة. وإذا كان ما في القرآن من فارسي ورومي ونبطي وحبشي، نظير ما فيه من عربي، فليس قول القائل: "القرآن عربي"، أولى بالصحة والصواب من قول القائل: "القرآن فارسي أو حبشي"، فكلاهما أطلق صفة أحد النظيرين على الآخر. وإذا جاز لأحدهما أن يفعل ذلك مصيبًا في قوله، جاز للآخر مثله مصيبًا في قوله. وهذا فساد من القول وتناقض، ومخالف لقوله تعالى: "ولو جعلناه قرآنًا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي"، فهذه شهادة من الله تعالى بأنه لم يجعله أعجميًا، كشهادته سبحانه بأنه جعله "قرآنًا عربيا". وقد اقتضى مذهب هذا القائل أن يقال: "القرآن حبشي أو فارسي". كما يقال: "القرآن عربي" سواء. فناقض هذا قول الله سبحانه. وهذا قول "غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة، مقر بكتاب الله، ممن قرأ القرآن، وعرف حدود الله" كما قال الطبري رحمه الله. وإذن فقول القائل من السلف: "في القرآن من كل لسان"، ليس يعني به أن فيه ما ليس بعربي مما لا يجوز أن ينسب إلى لسان العرب- بل معناه أن فيه ألفاظًا استعملتها العرب، وهذه الألفاظ أنفسها مما استعملته الفرس أو الروم أو الحبش، على جهة اتفاق اللغات على استعمال لفظ واحد بمعنى واحد، لا على جهة انفراد الكلمة من القرآن بأنها فارسية غير عربية، أو رومية غير عربية. فإن السلف أعرف بكتاب الله وبمعانيه وبحدوده، لا يدخلون الفساد في أقوالهم، مناقضين شهادة الله لكتابه بأنه عربي غير أعجمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قول ناسبه إلى بعض الأجناس التي ذكرنا. إذ كان الذي بلسان غير العرب من سائر ألسن أجناس الأمم فيه، نظيرَ الذي فيه من لسان العرب. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّن إذًا خطأ من زعم أن القائل من السلف: في القرآن من كل لسان، إنما عنى بقيله ذلك، أنّ فيه من البيان ما ليس بعربيّ، ولا جائز نسبته إلى لسان العرب. ويقال لمن أبى ما قلنا -ممن زعم أن الأحرف التي قدمنا ذكرها في أول الباب وما أشبهها، إنما هي كلام أجناس من الأمم سوى العرب، وقعت إلى العرب فعرَّبته-: ما برهانك على صحة ما قلت في ذلك، من الوجه الذي يجب التسليم له، فقد علمتَ من خالفك في ذلك، فقال فيه خلاف قولك؟ وما الفرقُ بينك وبين من عارضك في ذلك فقال: هذه الأحرف، وما أشبهها من الأحرف غيرها، أصلها عربي، غير أنها وقعت إلى سائر أجناس الأمم غيرها فنطقت كل أمة منها ببعض ذلك بألسنتها- من الوجه الذي يجبُ التسليم له؟ فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن اعتلَّ في ذلك بأقوال السلف التي قد ذكرنا بعضها وما أشبهها، طولبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 -مطالبَتنا من تأوَّل عليهم في ذلك تأويله- بالذي قد تقدم بيانه. وقيل له: ما أنكرتَ أن يكون من نسب شيئًا من ذلك منهم إلى من نسبه من أجناس الأمم سوى العرب، إنما نسبه إلى إحدى نسبتيه التي هو لها مستحق، من غير نَفيٍ منه عنه النسبة الأخرى؟ ثم يقال له: أرأيتَ من قال لأرض سُهْلية جبلية: هي سُهلية، ولم ينكر أن تكون جبلية، أو قال: هي جبلية، ولم يدفعْ أن تكون سُهْلية، أنافٍ عنها أن تكون لها الصفة الأخرى بقيله ذلك؟ فإن قال: نعم! كابر عَقْلَه. وإن قال: لا قيل له: فما أنكرت أن يكون قولُ من قال في سجّيل: هي فارسية، وفي القسطاس: هي رومية- نظيرَ ذلك؟ وسأل الفرقَ بين ذلك، فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزِم في الآخر مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب قال أبو جعفر: قد دللنا، على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وُفِّق لفهمه، (1) على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغاتها. فنقول الآن -إذ كان ذلك صحيحًا- في الدّلالة عليه بأيِّ ألسن العرب أنزل: أبألسن جميعها أم بألسن بعضها؟ إذ كانت العرب، وإن جمَع جميعَها اسمُ أنهم عرب، فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذْ كان ذلك كذلك -وكان الله جل ذكرُه قد أخبر عبادَه أنه قد جعلَ القرآن عربيًّا وأنه أنزل بلسانٍ عربيّ مبين، ثم كان ظاهرُه محتملا خصوصًا وعُمومًا- لم يكن لنا السبيلُ إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه، إلا ببيان مَنْ جعل إليه بيانَ القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذ كان ذلك كذلك - (2) وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه صلى الله عليه وسلم 7- بما حدثنا به خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أنس بن عياض، عن أبي حازم، عن أبي سلمة، قال-: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة-: أن رسول   (1) هكذا في المطبوع والمخطوط: "على أن الله جل ثناؤه"، والأجود أن تكون "بأن الله جل ثناؤه"، أي: "قد دللنا على صحة القول ... بأن الله جل ثناؤه"، والباء وما بعدها متعقلة بالقول. (2) جوابُ قوله: "فإذ كان ذلك كذلك"، يأتي في ص: 48 س 20 وهو قوله: "صح وثبت أن الذي نزل به القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآنُ على سبعة أحرف، فالمِراءُ في القرآن كفرٌ -ثلاث مرات- فما عرْفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردُّوه إلى عالمه (1) . 8- حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليمٌ حكيم، غفورٌ رحيم (2) . 9- حدثنا أبو كريب، قال: حدثني عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَه. 10- حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن واصل بن حيّان، عمَّن ذكره، عن أبي الأحوص، عن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطنٌ، ولكل حرف حَدٌّ، ولكل حدٍّ مُطَّلَع (3) .   (1) الحديث 7- رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (رقم 7976 ج2 ص 300 طبعة الحلبي) عن أنس بن عياض. ورواه ابن حبان في صحيحه (رقم: 73 بشرح أحمد محمد شاكر) عن أبي يعلى عن أبي خيثمة عن أنس بن عياض. ونقله ابن كثير في التفسير 2: 102 عن مسند أبي يعلى، وفي فضائل القرآن: 63 عن مسند أحمد. وهو في مجمع الزوائد 7: 151. ونسبه ابن كثير في الفضائل للنسائي. والظاهر أنه يريد كتاب التفسير للنسائي. (2) الحديث 8، 9- رواه أحمد في المسند (8372 ج2 ص 332 حلبي) عن محمد بن بشر، و (9676 ج 2 ص 440) عن ابن نمير، كلاهما عن محمد بن عمرو، وهو محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، وهو ابن عبد الرحمن بن عوف. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 151 جعله رواية أخرى للحديث الأول، ثم قال: "رواه كله أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح. ورواه البزار بنحوه". وسيأتي حديث آخر لأبي هريرة، برقم: 45. (3) الحديث 10، 11- هو حديث واحد بإسنادين ضعيفين، أما أحدهما فلانقطاعه بجهالة راويه: "عمن ذكره عن أبي الأحوص". وأما الآخر فمن أجل "إبراهيم الهجري" راويه عن أبي الأحوص. و "مغيرة" في الإسناد الأول: هو ابن مقسم الضبي، وهو ثقة. و "واصل بن حيان" هو الأحدب، وهو ثقة. و "أبو الأحوص": هو الجشمي، واسمه: عوف بن مالك بن نضلة، وهو تابعي ثقة معروف. و "مهران" في الإسناد الثاني: هو ابن أبي عمر العطار الرازي، وهو ثقة، ولكن في روايته عن الثوري اضطراب. وشيخه سفيان هنا: هو الثوري الإمام. و "إبراهيم الهجري" هو إبراهيم بن مسلم. والحديث بهذا اللفظ الذي هنا، ذكره السيوطي في الجامع الصغير رقم: 2727، ونسبه للطبراني في المعجم الكبير، ورمز له بعلامة الحسن، ولا ندري إسناده عند الطبراني. وأما أوله، دون قوله "ولكل حرف حد" إلخ، فإنه صحيح ثابت، رواه ابن حبان في صحيحه رقم: 74. وانظر مجمع الزوائد 7: 152، 153. وقوله "مطلع": هو بتشديد الطاء وفتح اللام، قال في النهاية: "أي لكل حد مصعد يصعد إليه من معرفة علمه، والمطلع: مكان الاطلاع من موضع عال". ثم قال: "ويجوز أن يكون: لكل حد مطلع، بوزن مصعد ومعناه". وسيأتي شرح ألفاظ هذا الحديث ص 24-25 بولاق، بعد الحديث 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 11- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، قال: حدثنا سفيان، عن إبراهيم الهَجَريّ، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. 12- حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا عاصم، عن زِرٍّ، عن عبد الله، قال: اختلفَ رجلان في سورةٍ، فقال هذا: أقرَأني النبي صلى الله عليه وسلم. وقال هذا: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك، قال فتغير وجههُ، وعنده رجلٌ فقال: اقرأوا كما عُلِّمتم -فلا أدري أبشيء أمِرَ أم شيء ابتدعه من قِبَل نفسه- فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافُهم على أنبيائهم. قال: فقام كلّ رجل منا وهو لا يقرأ على قراءة صاحبه. نحو هذا ومعناه (1) 13- حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش -وحدثني أحمد بن منيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن الأعمش- عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: قال عبد الله بن مسعود: تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون أو ست وثلاثون آية. قال: فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا عليًّا يُنَاجِيه،   (1) الحديث 12- إسناده صحيح. وهو مختصر. ورواه أحمد في المسند مطولا رقم: 3981 عن يحيى بن آدم عن أبي بكر، وهو ابن عياش، بهذا الإسناد. ورواه من طرق أخرى مختصرًا أيضًا. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 223- 244 بأطول مما هنا، بإسنادين: من طريق إسرائيل عن عاصم، ومن طريق أبي عوانة عن عاصم. وصححه ووافقه الذهبي. وذكره الحافظ في الفتح 9: 23، ونسبه لابن حبان والحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قال: فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة. قال: فاحمرَّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما هلكَ من كان قبلكم باختلافهم بينهم. قال: ثم أسرّ إلى عليّ شيئًا، فقال لنا علي: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرُكم أن تقرأوا كما عُلِّمتم (1) . 14- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن عيسى بن قرطاس، عن زيد القصار، عن زيد بن أرقم، قال: كنا معهُ في المسجد فحدثنا ساعة ثم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة، أقرأنيها زيدٌ وأقرأنيها أبيّ بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءةِ أيِّهم آخُذُ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعليٌّ إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان كما عُلِّم، كلٌّ حسنٌ جميل (2) . 15- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن المِسْوَر بن مَخْرمة وعبد الرحمن بن عبد القاريّ أخبراه: أنهما سمعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورةَ الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يُقْرِئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبَّرت حتى سلَّم، فلما سلّم   (1) الحديث 13- إسناداه صحيحان أيضًا، وهو رواية أخرى للحديث قبله. ولم نجده بهذا الإسناد واللفظ في موضع آخر. (2) الحديث 14- هذا حديث لا أصل له، رواه رجل كذاب، هو "عيسى بن قرطاس"، قال فيه ابن معين: "ضعيف ليس بشيء، لا يحل لأحد أن يروى عنه". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الثقات، لا يحل الاحتجاج به". وقد اخترع هذا الكذاب شيخًا له روى عنه، وسماه "زيد القصار"! لم نجد لهذا الشيخ ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع. وهذا الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 153- 154، وقال: "رواه الطبراني، وفيه عيسى بن قرطاس، وهو متروك". ومن العجب أن يذكر الحافظ هذا الحديث في الفتح 9:23، وينسبه للطبري والطبراني، ثم يسكت عن بيان علته وضعفه! غفر الله لنا وله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 لبَّبته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتُك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتُك تقرؤها! فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تُقْرِئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلتْ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر. فققرأتُ القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فققال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلتْ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منها (1) . 16- حدثني أحمد بن منصور، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا حرب بن ثابت من بني سُلَيم، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن جده، قال: قرأ رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغيَّر عليه، فقال: لقد قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغيِّر عليَّ. قال: فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: بلى! قال: فوقع في صدر عمرَ شيء، فعرف   (1) الحديث 15- رواه أحمد في المسند رقم: 296 عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وهو ابن شهاب، بهذا الإسناد نحوه. ورواه أيضًا رقم: 297 عن الحكم بن نافع عن شعيب عن الزهري، به. ورواه بأسانيد أخر، مطولا ومختصرًا: 158، 277، 278، 2375. ورواه البخاري 9:21-23 من فتح الباري، مطولا بنحو مما هنا، من طريق الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب. ونقله ابن كثير في فضائل القرآن: 72 عن رواية البخاري، ثم ذكر أنه رواه أيضًا مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي، من طرق عن الزهري. وفي تيسير الوصول 1:190 "أخرجه الستة"، وفيه مكان "وتصبرت"، و "تربصت به" وقوله: "كدت أساوره" أي كدت أواثبه وأبطش به. وقوله "فتصبرت حتى سلم". موافق لرواية البخاري، وفي المسند: "فنظرت حتى سلم" أي انتظرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه، قال: فضربَ صدره وقال: ابعَدْ شيطانًا -قالها ثلاثًا- ثم قال: يا عمرُ، إن القرآن كلَّه صواب، ما لم تجعلْ رحمةً عذابًا أو عذابا رحمةً (1) . 17- حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي، قال: حدثنا عبد الله بن ميمون، قال: حدثنا عبيد الله (2) -يعني ابن عمر- عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ القرآن، فسمع آية على غير ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به عمرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا قرأ آية كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ (3) .   (1) الحديث 16- رواه أحمد في المسند (16437 ج 4 ص 30 طبعة الحلبي) عن عبد الصمد، وهو ابن عبد الوارث، بهذا الإسناد، نحوه. ونقله الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن: 73، وقال: "وهذا إسناد حسن. وحرب بن ثابت هذا يكنى بأبي ثابت، لا نعرف أحدًا جرحه". ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 150-151، وقال: "رواه أحمد، ورجاله ثقات". وذكره الحافظ في الفتح 9: 22-23، ونسبه للطبري فقط، فقصر إذ لم ينسبه للمسند. وإسناده يحتاج إلى بحث: فأولا- "حرب بن ثابت": ثبت في نسخ الطبري هنا "حرب بن أبي ثابت"، وهو خطأ صرف من الناسخين. صوابه "حرب بن ثابت"، وهو "المنقري"، ترجمه البخاري في التاريخ الكبير: 2\ 1\ 58، قال: "حرب بن أبي حرب أبو ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، قاله عبد الصمد. وقال موسى: حدثنا حرب بن ثابت المنقري. يعد في البصريين". وترجمه ابن حبان في الثقات 443-444، قال: "حرب بن ثابت المنقري، من أهل البصرة، يروي عن الحسن ومروان الأصفر، روى عنه عبد الصمد، كأنه: حرب بن أبي حرب الذي ذكرناه". وقد ذكر قبله ترجمة "حرب بن أبي حرب، يروي عن شريح، روى عنه حصين أبو حبيب". والحافظ ابن حجر حين ترجم لحرب بن ثابت، أشار إلى كلام ابن حبان هذا، وعقب عليه بأنه "واحد، جعله اثنين، ثم شك فيه"!! ولم ينصفه في هذا، فإنهما اثنان يقينًا، فصل بينهما البخاري في الكبير، فجعل الذي يروى عن شريح برقم: 226، غير الذي نقلنا كلامه عنه برقم: 227. وأما الذي جعل الراوي راويين فإنه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2\ 1\ 252 ذكر ثلاث تراجم، بالأرقام: 1121، 1123، 1125، فالأخير هو الذي روى عن شريح، والأولان هما شخص واحد، وهم فيه ابن أبي حاتم. وقد نسب "حرب بن ثابت" هذا في التعجيل: 91-92 بأنه "البكري"، وكذلك في الإكمال للحسيني: 23. وأنا أرجح أن هذا خطأ من الناسخين، أصله "البصري"، فإن نسبته فيما أشرنا إليه من تراجمه "المنقري"، وهو من أهل البصرة، فعن ذلك رجحت أن صوابه "البصري". وثانيًا- "إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة": هكذا رواه عبد الصمد بن عبد الوارث عن حرب بن ثابت المنقري. ولكن بعض العلماء شك في صحة هذا، فقال البخاري في الكبير في ترجمة حرب: "وقال مسلم: حدثنا حرب بن ثابت سمع إسحاق بن عبد الله" فهذه رواية البخاري عن شيخه مسلم بن إبراهيم الفراهيدي عن حرب بن ثابت "أنه سمع إسحاق بن عبد الله". وهي تؤكد صحة ما رواه عبد الصمد. ولكن قال البخاري عقب ذلك: "حدثني إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عبد الصمد قال: حدثنا حرب أبو ثابت قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. ويقال: إسحاق هذا ليس بابن أبي طلحة، وهم فيه عبد الصمد من حفظه، وأصله صحيح"، فهذه إشارة إلى هذا الحديث.. ولكنه قال في التاريخ الكبير 1\ 1\ 382 في ترجمة "إسحاق الأنصاري": "إسحاق الأنصاري. حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حرب بن ثابت المنقري قال: حدثني إسحاق الأنصاري عن أبيه عن جده، وكانت له صحبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القرآن كله صواب: وقال عبد الصمد: حدثنا حرب أبو ثابت سمع إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. وقال بعضهم: لقن عبد الصمد، فقالوا: ابن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يكن في كتابه: ابن عبد الله". فهذه إشارة أخرى من البخاري لهذا الحديث أيضًا، كعادته في تاريخه، في الإشارة إلى الأحاديث التي يريد أن يرشد إلى مواطن البحث فيها. وقد أشار البخاري في الموضعين إلى قول من شك في أن "إسحاق الأنصاري" راوي هذا الحديث غير "إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري" الثقة المعروف بروايته عن أبيه "عبد الله" عن جده "أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري الصحابي الكبير" أحد النقباء، الذي شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأتى بقوله هذا مجهلا إياه ممرضًا، بقوله مرة: "ويقال"، ومرة: "وقال بعضهم". ثم عقب على هذا التمريض في المرة الأولى بقوله: "وأصله صحيح"، يعني أصل الحديث. فهو تصريح منه بصحة الحديث، وبرفض قول هذا القائل الذي شك فيه. وقد وافقه على ذلك زميله وصنوه أبو حاتم الرازي، فقال ابنه في الجرح والتعديل، في ترجمة "إسحاق الأنصاري" 1\ 1\ 239-240: "سمعت أبي يقول: يرون أنه: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري". وسبقهما إلى ذلك شيخهما إمام المحدثين، الإمام أحمد بن حنبل، فأثبت هذا الحديث في مسند "أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري" دون شك أو تردد. فصح الحديث، والحمد لله. (2) هو عبيد الله بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وليس هو ابن عمر بن الخطاب. (3) الحديث 17- إسناده ضعيف جدا، من أجل "عبد الله بن ميمون". أما "عبيد الله بن محمد بن هارون الفريابي" شيخ الطبري، فالظاهر أنه ثقة، ولكني لم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2\ 2\ 335، قال: "نزيل بيت المقدس، روى عن سفيان بن عيينة، سمع منه أبي ببيت المقدس". ولم يذكر فيه جرحًا. وأما علة الحديث فهو "عبد الله بن ميمون بن داود القداح"، وهو ضعيف جدًا، قال البخاري: "ذاهب الحديث"، وقال أبو حاتم والترمذي: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "يروي عن الأثبات الملزقات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد"، وقال الحاكم: "روى عن عبيد الله بن عمر أحاديث موضوعة". وأما شيخه "عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب"، فإنه إمام ثقة معروف، وهو أحد الفقهاء السبعة. ومعنى الحديث في ذاته صحيح، كأنه مختصر من معنى حديث عمر بن الخطاب، الذي مضى برقم: 15. ولكن هذا القداح ألزقه بعبيد الله بن عمر، وجعله من حديث نافع عن ابن عمر. ولا أصل لهذا، ولم نجده قط من حديث ابن عمر. ولم يحسن الحافظ ابن حجر، إذ أشار إلى هذا الحديث في الفتح 9: 23، ونسبه للطبري، دون أن يذكر ضعف إسناده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 18- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن علي بن أبي علي، عن زبيد، عن علقمة النخعي، قال: لما خرج عبد الله بن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودّعهم، ثم قال: لا تنازَعُوا في القرآن، فإنه لا يختلفُ ولا يتلاشى، ولا يتغير لكثرة الرد. وإن شريعة الإسلام وحدودَه وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين ينهَى عن شيء يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلافَ. ولكنه جامعٌ ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شيء من شرائع الإسلام. ولقد رأيتُنا نتنازع فيه عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخبرنا أن كلَّنا محسنٌ. ولو أعلمُ أحدًا أعلم بما أنزل الله على رسوله منى لطلبته، حتى أزدادَ علمَه إلى علمي. ولقد قرأتُ من لسانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يُعْرَض عليه القرآنُ في كل رمضان، حتى كانَ عامُ قُبض، فعرض عليه مرّتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسنٌ. فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنَّها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يَدعنَّه رغبة عنه، فإنه من جحد بآية جحد به كله (1) .   (1) الحديث 18- إسناده ضعيف جدًا، غاية في الضعف. لعلتين: أولاهما: "علي بن أبي علي"، وهو "اللهبي"، من ولد أبي لهب. قال البخاري في التاريخ الصغير: 196، وفي الضعفاء: 25: "منكر الحديث، لم يرضه أحمد". وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: 3\ 1\ 197: "سألت أبي عن علي بن أبي علي اللهبي؟ فقال: منكر الحديث، تركوه". وقال: "سئل أبو زرعة عن علي بن أبي علي الهاشمي؟ فقال: هو من ولد أبي لهب، وهو مديني ضعيف الحديث، منكر الحديث". وقال ابن حبان في الضعفاء: 315 "يروي عن الثقات الموضوعات، وعن الأثبات المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به". وثانيتهما: أن "زبيد بن الحرث اليامي" لم يدرك علقمة ولم يرو عنه، إنما يروي عن الطبقة الراوية عن علقمة، فروايته عنه هنا منقطعة، إن صح الإسناد إليه فيها، ولم يصح قط. وقد جاء نحو هذا الحديث عن ابن مسعود، من وجه آخر ضعيف أيضًا: فرواه أحمد في المسند رقم: 3845 مطولا، من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن عابس، قال: "حدثنا رجل من همدان، من أصحاب عبد الله، وما سماه لنا" إلخ. وهذا مجهول الراوي عن ابن مسعود، فلا يكون صحيحًا. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا 7: 153، وقال: "رواه الإمام أحمد في حديث طويل، والطبراني، وفيه من لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح". قال أخي السيد محمود محمد شاكر: ولفظ المسند: "إن هذا القرآن لا يختلف، ولا يستشن، ولا يتفه لكثرة الرد". و "استشن": بلى وصار خلقًا كالشن البالي، وهو القربة البالية. وقوله "لا يتفه": لا يصير تافهًا، التافه: الحقير. وكل كلام رددت قراءته نفدت معانيه وضعف أثره إلا القرآن. وأما قوله في رواية الطبري هنا "ولا يتلاشى"، فقد قال أهل اللغة إنه مولد من "لا شيء"، كأنه اضمحل حتى صار إلى لا شيء. ومجيئه في هذا الحبر غريب. أقول: وإذ تبين أن راويه "علي بن أبي علي اللهبي" ممن يصطنع الأحاديث ويروي عن الثقات الموضوعات، كما قال ابن حبان، فلا يبعد أن يقول هذه الكلمة المولدة من عند نفسه. وهو متأخر أدرك عصر التوليد، فقد أرخه البخاري في باب من مات بين سنتي 170-180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 19- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وَهب، قال: أخبرني يونس -وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا رِشْدينُ بن سعد، عن عُقيل بن خالد- جميعًا عن ابن شهاب، قال: حدثني عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريلُ على حرف، فراجعته، فلم أزَل أستزيده فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف. قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الأحرف، إنما هي في الأمر الذي يكون واحدًا، لا يختلفُ في حلال ولا حرام (1) .   (1) الحديث 19- هو بإسنادين: أحدهما صحيح، والآخر ضعيف: الإسناد الأول: عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس، وهو ابن يزيد الأيلي عن ابن شهاب الزهري. وهو إسناد صحيح جدًا. والثاني: عن أبي كريب عن رشدين، وهو ابن سعد، عن عقيل بن خالد عن الزهري. وهو إسناد ضعيف، لضعف رشدين بن سعد، وكان رجلا صالحًا فيه غفلة، وكثر خطؤه فغلبت المناكير في أخباره. ولكنه في هذا الحديث لم ينفرد بروايته عن عقيل بن خالد، كما سيأتي. و"رشدين": بكسر الراء والدال المهملتين بينهما شين معجمة ساكنة. و "عقيل" بضم العين المهملة. والحديث رواه مسلم 1: 225 عن حرملة عن ابن وهب عن يونس، مثل الإسناد الأول هنا. ورواه البخاري 6: 222 فتح الباري، من طريق سليمان بن بلال عن يونس أيضًا. ورواه البخاري 9: 20-21، عن سعيد بن عفير عن الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن الزهري. وسيأتي أيضًا بإسناد صحيح، برقم: 22، من رواية نافع بن يزيد عن عقيل بن خالد عن الزهري. وهذان الإسنادان يؤيدان الإسناد الثاني هنا، أعني رواية رشدين بن سعد عن عقيل. ولذلك قلت إن رشدين -على ضعفه- لم ينفرد بروايته عن عقيل. وقول ابن شهاب الزهري: "بلغني أن تلك الأحرف السبعة" إلخ: لم يذكره البخاري، وذكره مسلم في روايته. وهو مرسل غير متصل، فهو ضعيف الإسناد. ولذلك أعرض البخاري عن ذكره. ثم إن الحديث رواه أيضًا أحمد، بنحوه، في المسند رقم: 2860 عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. ورواه مسلم 1: 225، عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق، ولكنه لم يسق لفظه بل أحاله على رواية يونس عن الزهري. ورواه أحمد أيضًا مختصرًا رقم: 2375، 2717، من رواية ابن أخي الزهري عن عمه. ونقله ابن كثير في فضائل القرآن: 53 عن إحدى روايتي البخاري، ثم أشار إلى روايته الأخرى وروايتي مسلم ورواية الطبري هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 20- حدثني محمد بن عبد الله بن أبي مخلد الواسطي، ويونس بن عبد الأعلى الصدفيّ، قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله، أخبره أبوه: أن أم أيوب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، أيَّها قرأتَ أصبْتَ (1) . 21- حدثنا إسماعيل بن موسى السُّدِّي، قال: أنبأنا شَريك، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صُرَد، يرفعه، قال: أتاني ملَكان، فقال أحدهما: اقرأ. قال: على كم؟ قال: على حرف، قال: زِدْهُ. حتى انتهى به إلى سبعة أحرف (2)   (1) الحديث 20- رواه أحمد في المسند (6: 433، 462-463 من طبعة الحلبي) ، عن سفيان بن عيينة، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير في فضائل القرآن: 64 عن المسند، وقال: "وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة". ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 154، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". فقصر إذ لم ينسبه للمسند أولا. ولفظ المسند "أيها قرأت أجزأك". ولفظ الطبراني موافق للفظ الطبري هنا. و"عبيد الله"، في الإسناد: هو عبيد الله بن أبي يزيد المكي، وهو ثقة معروف. وأبوه "أبو يزيد المكي": ذكره ابن حبان في الثقات. وسيأتي الحديث مكررًا، برقمي: 23، 24. (2) الحديث 21- الحديث في ذاته صحيح، لأن معناه سيأتي مرارًا، ضمن أحاديث لأبي بن كعب، وقد كررها الطبري بأسانيد متعددة، بالأرقام الآتية: 25-39. وسيأتي بحثها في مواضعها إن شاء الله. وأما هذا الإسناد بعينه، فهكذا ورد في الطبري، من حديث سليمان بن صرد. ونقل الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 153 نحوه، من حديث سليمان بن صرد، وقال: "رواه الطبراني، وفيه جعفر، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات". وليس إسناد الطبراني بين أيدينا حتى نستطيع القول فيه. ولعل اسم "جعفر" -الذي لم يعرفه الهيثمي في إسناده- محرف عن شيء آخر. ونقل ابن كثير في الفضائل: 61 هذا الحديث عن هذا الموضع من الطبري، ثم قال: "ورواه النسائي في اليوم والليلة: عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام عن إسحاق الأزرق عن العوام بن حوشب عن أبي إسحاق عن سليمان بن صرد، قال: أتى أبي بن كعب رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين اختلفا في القراءة، فذكر الحديث. وهكذا رواه أحمد بن منيع عن يزيد بن هارون عن العوام عن أبي إسحاق عن سليمان بن صرد عن أبي: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجلين، فذكره". وهذان الإسنادان اللذان ذكرهما ابن كثير صحيحان، يدلان على أن سليمان بن صَرد إنما سمع هذا الحديث من أبي بن كعب. وليس الخطأ الذي وقع في إسناد الطبري هنا، بحذف "أبي بن كعب" - خطأ شريك بن عبد الله النخعي راويه عن أبي إسحاق السبيعي. إنما الخطأ -فيما أرجح- إما من إسماعيل بن موسى السدي شيخ الطبري، وإما من الطبري نفسه. فإن الحديث رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل، في مسند أبيه (5: 125 طبعة الحلبي) عن محمد بن جعفر الوركاني عن أبي إسحاق عن سليمان عن أبي بن كعب- مختصرًا كما هنا. وسيأتي الحديث مطولا، من رواية سليمان بن صرد عن أبي بن كعب رقم: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 22- حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا نافع بن يزيد، قال: حدثني عُقَيْل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريل القرآنَ على حرف، فاستزدته فزادني، ثم استزدته فزادني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف (1) . 23- حدثني الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، أنه سمع أم أيوب تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوَه - يعني نحو حديث ابن أبي مخلد (2) .   (1) الحديث 22- هذا إسناد صحيح. قد مضى برقم: 19، بإسنادين آخرين، وبينا تخريجه هناك. و"ابن البرقي"، شيخ الطبري: هو "أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم" المصري الحافظ، توفي سنة 270. وله ترجمة في تذكرة الحفاظ 2: 135. و"ابن أبي مريم": هو "سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم" المصري، عرف بابن أبي مريم. مترجم في التهذيب. (2) الحديث 23- هذا إسناد صحيح. فالربيع بن سليمان: هو المرادي المؤذن، صاحب الشافعي وراوية كتبه. وأسد بن موسى المرواني الأموي المصري: يقال له "أسد السنة"، ثقة من الثقات، قال البخاري في التاريخ الكبير: 1\ 2\ 50: "مشهور الحديث". والحديث مكرر رقم: 20، كما أشار إلى ذلك الطبري بالإحالة عليه. وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 24- حدثنا الربيع، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا أبو الربيع السمان، قال: حدثني عُبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن أم أيوب، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: نزل القرآن على سبعة أحرف، فما قرأتَ أصبتَ (1) . 25- حدثنا أبو كريب، قال: حدثني يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن فلان العَبْدي -قال أبو جعفر: ذَهب عنى اسمه-، عن سليمان بن صُرَد، عن أبيّ بن كعب، قال: رحت إلى المسجد، فسمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: استقرئْ هذا. قال: فقرأ، فقال: أحسنت. قال فقلت: إنك أقرأتني كذا وكذا! فقال: وأنتَ قد أحسنتَ. قال: فقلت: قد أحسنتَ! قد أحسنتَ! قال: فضرب بيده على صدري، ثم قال: اللهم أذهِبْ عن أبيٍّ الشكّ. قال: ففِضْتُ عرَقًا، وامتلأ جوْفي فرَقًا- ثم قال: إن الملَكين أتياني، فقال أحدهما اقرأ القرآن على حرف. وقال الآخر: زده. قال: فقلت: زدْني. قال: اقرأه على حرفين. حتى بلغَ سبعةَ أحرف، فقال: اقرأ على سبعة أحرف (2) .   (1) الحديث 24- وأما هذا فإسناد ضعيف جدا، فأبو الربيع السمان، واسمه: أشعث بن سعيد البصري، ضعيف جدا، كان شعبة يرميه بالكذب. والحديث مضى بإسنادين صحيحين، رقم: 20، 23. (2) الحديث 25- مضى بعض معناه مختصرًا، وأشرنا إلى هذا، في الحديث رقم: 21، وأن سليمان بن صرد، راويه هناك، إنما رواه عن أبي بن كعب. وهذا الإسناد نسي فيه أبو جعفر الطبري اسم "فلان العبدي"، كما قال هو هنا. وقد نقله ابن كثير في الفضائل: 61 عن هذا الموضع من تفسير الطبري، ثم أشار إلى بعض رواياته الأخر التي سمى فيها "فلان العبدي" هذا باسمه، وأراد أن يجمع بين هذه الروايات والرواية الماضية رقم: 21، التي فيها أن الحديث من رواية سليمان بن صرد دون ذكر أبي بن كعب، فقال: "فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب، والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعي شاهد ذلك". والصحيح ما ذهبنا إليه هناك، من أنه من رواية سليمان بن صرد عن أبي بن كعب. وهذا الحديث المطول -الذي هنا- رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه 5: 124 من طبعة الحلبي، عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سقير العبدي عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب، بنحوه بمعناه. فعرفنا من رواية عبد الله بن أحمد أن اسم هذا الراوي "العبدي": "سقير". وهو بضم السين المهملة وفتح القاف، كما ضبطه الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري في كتاب المؤتلف: 65، وكذلك أثبته الذهبي في المشتبه: 266. وفي اسمه خلاف قديم، ولكن هذا هو الراجح الصحيح. فقد ترجمه البخاري في التاريخ الكبير 2\ 2\ 331 في حرف الصاد، باسم "صقير"، وإن وقع فيه خطأ من النساخ، فرسم "صعير" بالعين بدل القاف. وقد حقق مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني ذلك بالهامش، ونقل أن الأمير ابن ماكولا ضبطه "سقير" أيضًا. وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2\ 1\ 318 في حرف السين، باسم "سقير العبدي"، ثم أعاده في حرف الصاد 2\ 1\ 452 باسم "صقر العبدي، ويقال: صقير العبدي"، فجاء بقول ثالث. وترجمه الحسيني في الإكمال: 45، فقال: "سقير العبدي، عن سليمان بن صرد الخزاعي، وعنه أبو إسحاق السبيعي: ليس بالمشهور". وتعقبه الحافظ في التعجيل: 157، فقال: "لم يصب في ذلك، فقد ذكروه في حرف الصاد المهملة، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم فيه قدحًا، وذكره ابن حبان في الثقات"، وهو في الثقات: 226، باسم "صقير العبدي". فإذ تبين أن "العبدي" هذا تابعي ثقة، بتوثيق البخاري أن لم يجرحه، وبذكر ابن حبان إياه في الثقات - كان هذا الإسناد صحيحًا. ثم إن سقيرًا العبدي لم ينفرد بروايته عن سليمان بن صرد. فقد رواه عنه تابعي آخر، ثقة معروف، من مشهوري التابعين، وهو يحيى بن يعمر. فرواه أحمد في المسند 5: 124 عن عبد الرحمن بن مهدي، وعن بهز، ورواه ابنه عبد الله بن أحمد عن هدبة بن خالد القيسي، ورواه أبو داود في السنن رقم: 1477 ج 2 ص 102 عن أبي الوليد الطيالسي-: كلهم عن همام بن يحيى عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب، بنحوه مختصرًا. وهذه أسانيد صحاح على شرط الشيخين. وسيأتي عقب هذا بأسانيد كثيرة، من أوجه مختلفة، عن أبي بن كعب بالأرقام 26-39، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 26- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي -وحدّثنا أبو كرَيب، قال: حدثنا محمد بن ميمون الزعفراني- جميعًا عن حُميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، قال: ما حاك في صدري شيءٌ منذ أسلمتُ، إلا أني قرأتُ آيةً، فقرأها رجل غيرَ قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الرجل: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: بلى. قال الرجل: ألم تُقرئني آية كذا وكذا؟ قال: بلى، إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني، فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: اقرإ القرآن على حرف واحد. وقال ميكائيل: استزدْه، قال جبريل: اقرإ القرآن على حرفين. فقال ميكائيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 استزده. حتى بلغ ستةً أو سبعةً -الشك من أبي كريب- وقال ابن بشار في حديثه: حتى بلغ سبعةَ أحرف -ولم يَشكّ فيه- وكلٌّ شافٍ كافٍ. ولفظ الحديث لأبي كريب (1) . 27- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن حُميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال في حديثه: حتى بلغ ستة أحرف، قال: اقرأه على سبعة أحرف، كلٌّ شافٍ كافٍ (2) . 28- حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد   (1) الحديث 26- هذا بإسنادين: "محمد بن بشار عن ابن أبي عدي"، و "أبو كريب عن محمد بن ميمون الزعفراني"، كلاهما عن حميد الطويل. فالإسناد الأول صحيح على شرط الشيخين دون خلاف. والإسناد الثاني فيه "محمد بن ميمون الزعفراني"، وهو ثقة، وثقه ابن معين وأبو داود وغيرهما، وضعفه البخاري والنسائي وغيرهما. والحديث صحيح بكل حال، إذ لم ينفرد بروايته هذان: فقد رواه أحمد في المسند 5: 114، 122 طبعة الحلبي، مختصرًا قليلا، عن يحيى بن سعيد، وهو القطان عن حميد الطويل، بهذا الإسناد. ثم رواه ابنه عبد الله بن أحمد عن محمد بن أبي بكر المقدمي عن بشر بن المفضل، وعن سويد بن سعيد عن المعتمر بن سليمان، كلاهما عن حميد الطويل، بمعناه. ورواه أيضًا أبو عبيد القاسم بن سلام - فيما نقل عنه ابن كثير في الفضائل: 54 عن يزيد بن هارون ويحيى بن سعيد، كلاهما عن حميد، بهذا الإسناد مطولا. وسيأتي عقب هذا، رقم: 27، من رواية يحيى بن أيوب عن حميد. وقال ابن كثير، بعد نقله رواية أبي عبيد: "وقد رواه النسائي من حديث يزيد، وهو ابن هارون، ويحيى بن سعيد القطان، كلاهما عن حميد الطويل عن أنس عن أبي بن كعب، بنحوه. وكذا رواه ابن أبي عدي ومحمد بن ميمون الزعفراني ويحيى بن أيوب، كلهم عن حميد، به" وهذا إشارة منه إلى أسانيد الطبري الثلاثة هنا. وهي كلها أسانيد صحاح. (2) الحديث 27- هو مكرر الحديث قبله. وقد أشرنا إليه في تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بن سلمة، عن حُميد، عن أنس بن مالك، عن عُبادة بن الصّامت، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف (1) . 29- حدثنا أبو كريب قال حدثنا حسين بن علي، وأبو أسامة، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ، عن أبيّ، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المِرَاءِ فقال: إني بُعثتُ إلى أمة أمِّيِّين، منهم الغلامُ والخادمُ والشيخ العاسِي والعجوز، فقال جبريل: فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف (2) . ولفظ الحديث لأبي أسامة.   (1) الحديث 28- وهذا إسناد صحيح أيضًا، إلا أن حماد بن سلمة زاد "عبادة بن الصامت" بين أنس وأبي بن كعب. وسنبين ذلك، إن شاء الله. ومحمد بن مرزوق، شيخ الطبري: هو محمد بن محمد بن مرزوق الباهلي، نسب إلى جده. وهو ثقة، روى عنه مسلم في صحيحه والترمذي وابن ماجة وغيرهم. وشيخه أبو الوليد: هو الطيالسي، واسمه: هشام بن عبد الملك، إمام حافظ حجة. والحديث رواه أحمد في المسند 5: 114 طبعة الحلبي، هكذا مختصرًا، عن عفان عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. ثم رواه بالإسناد نفسه مطولا، بنحو الرواية الماضية، في 26، 27، ثم رواه عن يحيى بن سعيد عن حميد عن أنس: "أن أبيا قال"- فأشار إلى تلك الرواية، ثم قال: "ولم يذكر فيه عبادة". فالظاهر -عندي- أن حماد بن سلمة هو الذي انفرد بزيادة "عبادة" في الإسناد. ولعل هذا سهو منه، فقد رواه الرواة الذين ذكرنا من قبل، دون هذه الزيادة، وهم أكثر منه عددًا وأحفظ وأشد إتقانًا. وأيا ما كان فالحديث صحيح، سواء أسمعه أنس من أبي بن كعب مباشرة، أم سمعه من عبادة بن الصامت عن أبي. (2) الحديث 29- وهذا إسناد صحيح أيضًا. حسين بن علي: هو الجعفي. أبو أسامة: هو حماد بن أسامة. زائدة: هو ابن قدامة. عاصم: هو ابن بهدلة، وهو ابن أبي النجود. زر: هو ابن حبيش. والحديث رواه أحمد في المسند 5: 132 عن حسين بن علي الجعفي عن زائدة، وعن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زائدة أيضًا. ونقله ابن كثير في الفضائل: 59 عن الرواية الأولى من المسند. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم: 543 عن حماد بن سلمة. ورواه الترمذي 4: 61 من طريق شيبان، وهو ابن عبد الرحمن النحوي، كلاهما عن عاصم، بهذا الإسناد، نحوه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روى عن أبي بن كعب من غير وجه". "أحجار المراء"، بكسر الميم وتخفيف الراء وبالمد: موضع بقباء، خارج المدينة، وقال مجاهد: "هي قباء"، كما في النهاية لابن الأثير 1: 203، 4: 91، والقاموس وشرحه 3: 127، ووفاء الوفا للسمهودي 2: 244. ولم نجد في ذلك خلافًا، إلا ما ذهب إليه أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: 117، إذ زعم أنه "موضع بمكة، على لفظ جمع "حجر" كانت قريش تتمارى عندها، وهي صفي السباب"، ثم ذكر هذا الحديث شاهدًا؛ وأنا أرجح أنه وهم منه، انتقل ذهنه بمناسبة تقارب معنيي اللفظين إلى الظن باتحاد المكانين. فإن "صفي السباب" "موضع بمكة كانت قريش تتمارى عندها" كما قال أبو عبيد نفسه في مادة "صفي": 838، فانتقل ذهنه فقال عقب ذلك: "وهو الموضع المعروف بأحجار المراء"!! و "المراء": من المماراة، و "الصفي"، بضم الصاد وكسر الفاء وتشديد الياء: جمع "صفا"، و "الصفا": جمع "صفاة"، وهي الحجر الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئًا. ومما يؤيد اليقين بما أخطأ فيه أبو عبيد: أن في بعض روايات هذا الحديث الآتية: "عند أضاة بني غفار"، وهي موضع بالمدينة يقينًا. وقد بين أبو عبيدة نفسه ذلك في: 164، وذكر الحديث بالرواية الآتية أيضًا شاهدًا عليه. وقوله "والشيخ العاسي"، في مطبوعة الطبري "والشيخ الفاني"، وفي المخطوطة "العاشي"، وفي المسند "العاصي". وكلها بمعنى. و "عسا الشيخ": إذا كبر وأسن وضعف بصره ويبس جلده وصلب. ومثله "عصا". وقال الأزهري: عصا: إذا صلب، كأنه أراد "عسا" بالسين، فقلبها صادًا". (اللسان: عصا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 30- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا ابن نُمير، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد -وحدثنا عبد الحميد بن بيان القَنَّاد، قال: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن إسماعيل- عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي لَيْلى، عن جده، عن أبيّ بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجلٌ يصلي، فقرأ قراءة أنكرتُها عليه، ثم دخل رجلٌ آخر، فقرأ قراءةً غيرَ قراءة صاحبه، فدخلنا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: يا رسول الله، إن هذا قرأ قراءةً أنكرتُها عليه، ثم دخل هذا فقرأ قراءةً غيرَ قراءة صاحبه. فأمرهُما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنَهُما، فوقع في نفسي من التكذيب، ولا إذْ كنت في الجاهلية! فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غَشيني، ضربَ في صدري، فَفِضت عرَقًا، كأنما أنظر إلى الله فَرَقًا. فقال لي: يا أبيّ، أرْسِلَ إليّ أن اقرإ القرآنَ على حرف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فرددت عليه: أنْ هَوِّن على أمتي، فردّ عليّ في الثانية: أن اقرإ القرآن على حرف. فرددت عليه أن هونَ على أمتي، فردّ عليّ في الثالثة، أن اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل رَدّة رَدَدتُكَها مَسألة تسألُنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم. إلا أن ابن بيانَ قال في حديثه: فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: قد أصبتم وأحسنتم. وقال أيضًا: فارفضَضت عرقًا (1) . 31- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا محمد بن فُضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وقال: قال لي: أعيذُك بالله من الشك والتكذيب. وقال أيضًا: إن الله أمرني أقرأ القرآن على حرفٍ، فقلت: اللهمَّ ربّ خفف عن أمتي. قال: اقرأه على حرفين. فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرفٍ، من سبعة أبوابٍ من الجنة، كلها شافٍ كافٍ (2) . 32- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى -[و] عن ابن أبي ليلى عن الحكم- عن ابن أبي ليلى، عن أبيّ قال: دخلتُ المسجدَ فصليتُ، فقرأتُ النحل،   (1) الحديث 30- إسناداه صحيحان. وعبد الحميد بن بيان القناد، شيخ الطبري في الإسناد الثاني: ثقة من شيوخ مسلم، ويقال له أيضًا "السكري". و "القناد": نسبة إلى "القند" بفتح القاف وسكون النون، وهو السكر المصنوع من عسل القصب. والحديث رواه مسلم 1: 225 عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن إسماعيل بن أبي خالد، بهذا الإسناد، نحوه. ثم رواه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر عن إسماعيل. ورواه أحمد في المسند 5: 127 طبعة الحلبي عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل. ورواه ابنه عبد الله في المسند أيضًا 5: 128-129، عن وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله، وهو الطحان، عن إسماعيل. ونقله ابن كثير في الفضائل: 55 عن رواية أحمد. ارفضاض العرق: تتابع سيلانه. (2) الحديث 31- إسناده صحيح أيضًا. وهو مكرر الحديث قبله. ونقله ابن كثير في الفضائل: 55 عن الطبري في هذا الموضع، واقتصر فيه على آخره، من أول قوله "إن الله أمرني". ولكن وقع فيه خطأ في الإسناد "عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن جده"! فزيادة "عن أبيه" خطأ ناسخ أو طابع، ليست في الطبري، ولا موضع لها، لأن عيسى روى هذا الحديث عن جده مباشرة، كما في الإسناد الماضي. وقوله "أمرني أقرأ القرآن": هو على تقدير "أن"، وهي ثابتة في المطبوعة وابن كثير، ومحذوفة في المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي، ثم جاء رجل آخر فقرأ خِلافَ قراءتِنا، فدخل نفسي من الشكّ والتكذيب أشدُّ مما كنتُ في الجاهلية، فأخذتُ بأيديهما فأتيتُ بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، استقرئ هذين. فقرأ أحدُهما، فقال: أصبتَ. ثم استقرأ الآخر، فقال: أصبتَ. فدخل قلبي أشدُّ مما كان في الجاهلية من الشكّ والتكذيب، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، وقال: أعاذك الله من الشكّ، وأخْسَأ عنك الشيطانَ. قال إسماعيل: ففِضْتُ عرقًا -ولم يقله ابنُ أبي ليلى- قال: فقال: أتاني جبريلُ فقال: اقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: إن أمتي لا تستطيعُ. حتى قال سبع مرات، فقال لي: اقرأ على سبعة أحرفٍ، ولك بكل ردة رُدِدتها مسألة. قال: فاحتاجَ إليّ فيها الخلائق، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم (1) . 33- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الله، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيٍّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه (2) . 34- حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن جُحادة، عن الحكم - هو ابن عُتَيْبة - عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب، قال: أتى جبريلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو عند أضَاة بني غِفار فقال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآنَ على سبعة أحرفٍ، فمن قرأ منها حرفًا فهو كما قرأ (3) .   (1) الحديث 32- هو بإسنادين، أحدهما متصل صحيح، والآخر ظاهره الاتصال. وسنبين ذلك تفصيلا، إن شاء الله. وقد وقع هنا في نسخ الطبري خطأ من الناسخين، بحذف واو العطف قبل قوله "عن ابن أبي ليلى عن الحكم". ولذلك زدناها بعلامة الزيادة [و] . بأنا على يقين أن حذفها يجعله إسنادًا واحدًا، ويكون إسنادًا مضطربًا لا يفهم. والذي أوقع الناسخين في الخطأ، والذي يوقع القارئ في الاشتباه والاضطراب، تكرار "عن ابن أبي ليلى" في الإسناد. وهما اثنان، بل ثلاثة: فالأول صرح باسمه فيه، وهو: "عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، والثاني: "محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى" عم عيسى، والثالث: "عبد الرحمن بن أبي ليلى" التابعي. فالطبري روى هذا الحديث عن أبي كريب محمد بن العلاء عن وكيع بن الجراح. ثم يفترق الإسنادان فوق وكيع: فرواه وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد "عن عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى"، وهو "عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى". ورواه وكيع أيضًا "عن ابن أبي ليلى"، وهو "محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، عن الحكم، وهو "الحكم بن عتيبة". ثم يجتمع الإسنادان مرة أخرى: فيرويه "عبد الله بن عيسى" عن جده "عبد الرحمن بن أبي ليلى" عن أبي بن كعب، كالإسنادين الماضيين 30،31. وهو إسناد متصل. ويرويه الحكم بن عتيبة عن "ابن أبي ليلى"، وهو "عبد الرحمن" عن أبي بن كعب، وهذا إسناد ظاهره الاتصال، إلا أن فيه شبهة الانقطاع، لأن الحكم بن عتيبة وإن كان يروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى كثيرًا، إلا أنه في هذا الحديث بعينه رواه عنه بواسطة مجاهد، كما سيأتي في الأسانيد رقم: 34-37، وفيما سنذكر هناك إن شاء الله من التخريج. ومن المحتمل جدًا أن يكون الحكم سمعه من عبد الرحمن بن أبي ليلى نفسه، وسمعه من مجاهد عنه، فرواه على الوجهين. وهذا كثير في الرواية، معروف مثله عند أهل العلم. وإذا لم يكن الحكم سمعه من "عبد الرحمن بن أبي ليلى"، فتكون الرواية التي هنا -كالرواية التالية رقم: 33- خطأ من "محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، فإنه وإن كان فقيها صدوقًا، إلا أنه "كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث"، كما قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره. وليعلم أن "محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى" كان أصغر من ابن أخيه "عبد الله بن عيسى ابن أبي ليلى"، وكان يروي عنه، ولا يروي عن أبيه "عبد الرحمن" إلا بالواسطة، وأما ابن أخيه "عبد الله بن عيسى" فقد أدرك جده وروى عنه مباشرة. وعلى كل حال فالحديث صحيح بالروايات المتصلة، ولا تؤثر في صحته رواية محمد بن عبد الرحمن إن ظهر عدم اتصالها. (2) الحديث 33- إسناده كالإسناد قبله: "ابن أبي ليلى"، هو "محمد بن عبد الرحمن" يرويه عن أبيه "عبد الرحمن" بواسطة "الحكم بن عتيبة". وأما "عبد الله" شيخ أبي كريب، فالظاهر عندي أنه "عبد الله بن نمير"، إذ روايته عن محمد بن عبد الرحمن أبي ليلى ثابتة عندي في المسند في حديث آخر، هو الحديث رقم: 2809 هناك. (3) الحديث 34- إسناده صحيح. عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان البصري وهو وأبوه من الأعلام الثقات. محمد بن جحادة - بضم الجيم وتخفيف الحاء المهملة، ثقة عابد زاهد من أتباع التابعين. وهذا الحديث مختصر، وسيأتي عقبه مطولا بثلاثة أسانيد رقم: 35، 36، 37، من طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة. وسيأتي مطولا أيضًا رقم: 46 من طريق عبد الوارث عن محمد بن جحادة. ورواه أحمد في المسند 5: 128، مطولا أيضًا، من طريق عبد الوارث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 35- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبيّ ابن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غِفار، قال: فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآنَ على حرفٍ. قال: أسألُ الله مُعَافاته ومغفرتَه، وإن أمتي لا تطيق ذلك. قال: ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين. قال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآنَ على ثلاثة أحرف. قال: أسأل اللهُ معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآنَ على سبعة أحرف، فأيَّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا (1) . 36- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند أضاة بني غفار - فذكر نحوه (2) . 37- حدثنا أبو كريب، قال حدثنا موسى بن داود، قال: حدثنا شعبة -وحدثنا الحسن بن عرَفة، قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا شعبة- عن الحكم،   (1) الحديث 35- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم: 558، عن شعبة. ورواه أحمد في المسند 5: 127-128، عن محمد بن جعفر عن شعبة. ورواه مسلم 1: 225-226، عن محمد بن المثنى وغيره عن محمد بن جعفر. ورواه أبو داود السجستاني في السنن رقم: 1478\ 2: 102 عن محمد بن المثنى أيضًا. ونقله ابن كثير في الفضائل 58-59 عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وقال: "وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، من رواية شعبة، به". (2) الحديث 36- هو مكرر الحديث قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه (1) . 38- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب أنه قال: سمعتُ رجلا يقرأ في سورة النحل قراءةً تخالِفُ قراءتي، ثم سمعت آخر يقرؤها قراءةً تخالف ذلك، فانطلقتُ بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل، فسألتُهما: من أقرأهما؟ فقالا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: لأذهبن بكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما: اقرأ. فقرأ، فقال: أحسنتَ. ثم قال للآخر: اقرأ. فقرأ، فقال: أحسنتَ. قال أبيّ: فوجدتُ في نفسي وسوسة الشيطان، حتى احمرّ وجهي، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، فضرب بيده في صدري، ثم قال: اللهمّ أخْسئ الشيطانَ عنه! يا أبيّ، أتاني آتٍ من ربي فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفٍ واحدٍ. فقلت: ربِّ خفف عني. ثم أتاني الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. ثم أتاني الثالثة فقال مثل ذلك، وقلت مثله. ثم أتاني الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآنَ على سبعة أحرف، ولك بكل رَدّة مسألة. فقلت: يا رب اغفر لأمتي، يا رب اغفر لأمتي. واختبأتُ الثالثة شفاعةً لأمتي يوم القيامة (2) .   (1) الحديث 37- هو مكرر ما قبله أيضًا. وهو بإسنادين عن شعبة. و "شبابة" في الإسناد الثاني: هو شبابة بن سوار الفزاري المدائني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. (2) الحديث 38- هذا الإسناد نقله ابن كثير في الفضائل: 56-57، وقال: "إسناد صحيح". وأشار إليه الحافظ ابن حجر في الفتح 9: 21. وعبيد الله، الراوي عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى: هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو إمام ثقة حجة، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكان أحمد بن حنبل يقدمه على مالك وعلى غيره في الرواية عن نافع، ويقول: "عبيد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية". وفي ترجمته في التهذيب 7: 40: "وقال الحربي: لم يدرك عبد الرحمن بن أبي ليلى". وأنا أرجح أن هذا خطأ من الحربي، فإن عبد الرحمن مات سنة 82 أو 83، وعبيد الله مات سنة 144 أو 145، فالمعاصرة ثابتة، وهي كافية في إثبات اتصال الرواية، إذا لم يكن الراوي مدلسًا، وما كان عبيد الله ذلك قط. ولذلك جزم ابن كثير بصحة الإسناد. وقوله في المرة الأولى "رب خفف عنى"، في الفضائل لابن كثير "رب خفف عن أمتي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 39- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصَّنعاني، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عُبيد الله بن عمر، عن سيَّارٍ أبي الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، رَفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر أن رَجُلين اختصما في آية من القرآن، وكلٌّ يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارآ إلى أبيّ، فخالفهما أبيّ، فتقارَؤُا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، اختلفنا في آية من القرآن، وكلنا يزعم أنك أقرأته. فقال لأحدهما: اقرأ. قال: فقرأ، فقال: أصبتَ. وقال للآخر: اقرأ. فقرأ خلافَ ما قرأ صاحبُه، فقال: أصبتَ. وقال لأبيّ: اقرأ. فقرأ فخالفهما، فقال: أصبتَ. قال أبيّ: فدخلني من الشكّ في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دَخل فيّ من أمر الجاهلية، قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في وجهي، فرفع يدَه فضرب صدري، وقال: استعذْ بالله من الشيطان الرجيم، قال: ففِضْتُ عرَقًا، وكأني أنظرُ إلى الله فَرَقًا. وقال: إنه أتاني آتٍ من ربيّ فقال: إن ربَّك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل رَدّة مسألة. قال: قلت: ربِّ اغفر لأمتي، رب اغفر لأمتي، واختبأت الثالثة شفاعةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 لأمتي، حتى إن إبراهيم خليلَ الرحمن ليرغبُ فيها (1) . 40- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن الحُبَاب، عن حمّاد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال جبريل: اقرأوا القرآنَ على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: على حرفين. حتى بلغَ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شافٍ كافٍ، ما لم يختم آيةَ عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب. كقولك: هلمَّ وتعالَ (2) . 41- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، عن بُسر بن سعيد: أن أبا جُهيم الأنصاري أخبره: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقَّيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: تلقَّيتها من رسول الله صلى الله   (1) الحديث 39- وهذا إسناد صحيح إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولكنه مرسل، إذ لم يذكر ابن أبي ليلى عمن رواه من الصحابة. وهو مؤيد بروايات ابن أبي ليلى الماضية عن أبي بن كعب، فهو كالمتصل معنى. و"سيار أبو الحكم": هو العنزي الواسطي، ثقة ثبت صدوق في كل المشايخ، كما قال أحمد ابن حنبل، مات سنة 122. وفي التاريخ الكبير للبخاري: 2\ 2\ 162: "قال ابن عيينة: شيع سيار أبو الحكم عبيد الله بن عمر من الكوفة إلى المدينة، فأمر له بألف درهم، فقال: لم أشيعك لهذا، ولكن قلت: رجل صالح، فأردت أن أشيعك". (2) الحديث 40- سيأتي مرة أخرى، بهذا الإسناد واللفظ، برقم: 47. ورواه أحمد في المسند 5: 51 طبعة الحلبي، عن عفان عن حماد بن سلمة، بنحوه. ورواه أيضًا 5: 41 عن عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة، بشيء من الاختصار. ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 151، وقال: "رواه أحمد، والطبراني بنحوه، إلا أنه قال: واذهب وأدبر. وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو سيء الحفظ، وقد توبع، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح". ونقله ابن كثير في الفضائل: 62-63 عن الرواية المختصرة من المسند، ثم قال: "وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن الحباب عن حماد بن سلمة، به. وزاد في آخره: كقولك هلم وتعال". وهذه الزيادة ثابتة في الرواية المطولة في المسند 5: 51 بلفظ: "نحو قولك: تعال، وأقبل، وهلم، واذهب، وأسرع، واعجل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 عليه وسلم، فسألا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تمَارَوْا في القرآن، فإنَ المِراء فيه كفرٌ (1) . 42- حدثنا يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، قال: قال   (1) الحديث 41- رواه أحمد في المسند رقم: 17615 (4: 169-170 حلبي) ، عن أبي سلمة الخزاعي عن سليمان بن بلال، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير في الفضائل 64-65 عن المسند، وقال: "وهذا إسناد صحيح أيضًا، ولم يخرجوه"، يعني أصحاب الكتب الستة. ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 151 وقال: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". ونقله ابن كثير قبل ذلك، عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: "حدثنا إسماعيل بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن مسلم بن سعيد مولى الحضرمي - وقال غيره: عن بسر بن سعيد- عن أبي جهيم الأنصاري: أن رجلين اختلفا"، إلخ. ثم قال ابن كثير: "وهكذا رواه أبو عبيد على الشك! وقد رواه الإمام أحمد على الصواب"، ثم نقل رواية المسند. وما كانت رواية أبي عبيد على الشك، كما زعم ابن كثير، إنما للحديث طريقان: إسماعيل ابن جعفر، يرويه عن يزيد بن خصيفة عن "مسلم بن سعيد". وسليمان بن بلال، يرويه عن يزيد ابن خصيفة عن "بسر بن سعيد"، وهو أخو مسلم بن سعيد. فأشار أبو عبيد أثناء الإسناد إلى الرواية الأخرى، دون أن يذكر إسنادها. وقد ذكر البخاري الروايتين في التاريخ الكبير: 4\ 1\ 262، في ترجمة "مسلم بن سعيد مولى ابن الحضرمي"، فأشار إلى أنه روى هذا الحديث عن أبي جهيم، وقال: "قاله إسماعيل ابن جعفر عن يزيد بن خصيفة. وقال سليمان بن بلال عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي جهيم". فأثبت بذلك الروايتين، لم يجعل إحداهما علة للأخرى. فيكون يزيد بن خصيفة سمع الحديث من الأخوين: مسلم وبسر، ابني سعيد. ومن عجب أن الحافظ أشار في الإصابة 7: 35 إلى رواية هذا الحديث من طريق مسلم ابن سعيد، ونسبها للبغوي فقط، ثم لم يشر إلى رواية بسر بن سعيد، فأبعد جدًا!! و"أبو جهيم الأنصاري" هذا: اسمه "عبد الله بن الحرث بن الصمة"، وقيل في اسمه أقوال أخر. ووقع في هذا الحديث في مطبوعة الطبري ومجمع الزوائد والفضائل لابن كثير "عن أبي جهم"، وهو خطأ مطبعي في غالب الظن، لأنه ثابت في المسند "أبو جهيم". وقال الحافظ في الفتح 1: 374-375، في حديث آخر له عند البخاري: "وقع في مسلم [يعني صحيح مسلم] : دخلنا على أبي الجهم، بإسكان الهاء، والصواب أنه بالتصغير، وفي الصحابة شخص آخر يقال له أبو الجهم، وهو صاحب الأنبجانية، وهو غير هذا، لأنه قرشي، وهذا أنصاري، ويقال بحذف الألف واللام في كل منهما، وبإثباتهما". وقد أشار الحافظ إلى هذا الحديث في الفتح 9: 23، ونسبه لأحمد وأبي عبيد والطبري. ووقع فيه في هذا الموضع "أبي جهم"، بدون تصغير، وهو خطأ مطبعي أيضًا. و"بسر بن سعيد": بضم الباء وسكون السين المهملة. ووقع في مطبوعة الطبري "بشر"، وهو خطأ مطبعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ (1) . 43- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن أبي عيسى بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن جده عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمِرتَ أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف، كلٌّ كافٍ شافٍ (2) . 44- حدثنا أحمد بن حازم الغِفاري، قال: حدثنا أبو نُعيم، قال: حدثنا أبو خَلْدة، قال: حدثني أبو العالية، قال: قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خمسٍ رَجلٌ، فاختلفوا في اللغة، فرضي قراءتهم كلِّهم، فكان بنو تميم أعرَبَ القوم (3) . 45- حدثنا عمرو بن عثمان العثماني، قال: حدثنا ابن أبي أويس، قال: حدثنا أخي، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي   (1) الحديث 42- يونس: هو ابن عبد الأعلى. سفيان: هو ابن عيينة. وهذا حديث مرسل، لأن عمرو بن دينار تابعي، فروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة. (2) الحديث 43- هذا إسناد مشكل، لم أجد له وجهًا يعرف. فظاهره أن "أبا عيسى بن عبد الله بن مسعود" يروي عن أبيه عن جده، فالجد ظاهرًا أنه "مسعود"، ولكنه صرح بأنه "عبد الله بن مسعود"! فيكون "أبو عيسى" ليس ابن "عبد الله بن مسعود"، بل ابن ابنه، نسب إلى جده. ولا بأس بذلك إن كان له أصل. ولكن ليس في الرواة الذين تراجمهم عندنا من يسمى أو يكنى "أبا عيسى"، من ذرية ابن مسعود. ولا نعرف لابن مسعود من الولد إلا اثنين: عبد الرحمن، وفي سماعه من أبيه خلاف، والراجح أنه سمع منه. وأبو عبيدة، واسمه "عامر"، ولم يسمع من أبيه، تركه صغيرًا. فهذا إسناد محرف يقينًا، ما صوابه؟ لا ندري. ولا نستطيع أن نتخيل فيه احتمالات لتصحيحه. الرواية أمانة، لا تؤخذ بالرأي ولا بالقياس ولا بالخيال. وأما لفظ الحديث، فقد ذكره السيوطي في زيادات الجامع الصغير. بهذا اللفظ 1: 260 من الفتح الكبير، ونسبه لابن جرير عن ابن مسعود. ولم نجده في موضع آخر من الدواوين التي فيها الروايات بالإسناد. وقد يوفق الله غيرنا لوجوده، إن شاء الله. (3) الحديث 44- هذا مرسل، لأن أبا العالية تابعي، يروى عن الصحابة، وأبو العالية: هو رفيع، بضم الراء، بن مهران، بكسر الميم، الرياحي، بكسر الراء وتخفيف الياء الأولى. وأبو خلدة بفتح الخاء وسكون اللام: هو خالد بن دينار السعدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ولا حرَج، ولكن لا تختموا ذكرَ رحمة بعذابٍ، ولا ذكر عذابٍ برحمة (1) . 46- حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا أبو مَعْمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا محمد بن جُحادة عن الحكَم ابن عُتيبة، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم جبريلُ، وهو بأضاة بني غِفَار، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآنَ على حرف واحد. قال: فقال: أسأل الله مغفرَته ومعافاته - أو قال: ومعافاته ومغفرته - سل الله لهم التخفيف، فإنهم لا يُطيقون ذلك. فانطلقَ ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرفين. قال: أسأل الله مغفرَته ومعافاته - أو قال: معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك، فسل الله لهم التخفيف. فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرُك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال: معافاته ومغفرَته- إنهم لا يطيقون ذلك، سل الله لهم التخفيف. فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ (2) . قال أبو جعفر (3) صحّ وثبتَ أنّ الذي نزل به القرآن من ألسن العرب   (1) الحديث 45- ابن أبي أويس: هو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس المدني، ابن أخت مالك بن أنس ونسيبه. أخوه: هو أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله. والمقبري: هو سعيد بن أبي سعيد. وهذا الحديث، بهذا الإسناد واللفظ، لم أجده في موضع آخر، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد مضى لأبي هريرة حديثان بثلاثة أسانيد، بالأرقام: 7-9. (2) الحديث 46- مضى الحديث مختصرًا، رقم: 34، من طريق محمد بن جحادة. وأشرنا إليه هناك. (3) هذا جواب قوله في أول الباب، ص 21 س 14: "فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه صلى الله عليه وسلم، بما حدثنا به خلاد بن أسلم.. صح وثبت"، إلخ. وقد نقل ابن كثير في فضائل القرآن 69-70 بعض كلام الطبري هنا، واختصره اختصارًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 البعضُ منها دون الجميع، إذ كان معلومًا أن ألسنتها ولغاتِها أكثرُ من سبعة، بما يُعْجَزُ عن إحصائه. فإن قال: وما برهانك على أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن على سبعة أحرف"، وقوله: "أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف"، هو ما ادَّعيتَ - من أنه نزل بسبع لغات، وأمِرَ بقراءته على سبعة ألسُن- دون أن يكونَ معناهُ ما قاله مخالفوك، من أنه نزل بأمر وزجر وترغيب وترهيب وقَصَص وَمثَل ونحو ذلك من الأقوال؟ فقد علمتَ قائلَ ذلك من سلف الأمة وخيار الأئمة. قيل له: إنّ الذين قالوا ذلك لم يدَّعوا أن تأويلَ الأخبار التي تقدم ذكرُناها، هو ما زعمتَ أنهم قالوه في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن دون غيره، فيكونَ ذلك لقولنا مخالفًا، وإنما أخْبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجهٍ. والذي قالوه من ذلك كما قالوا. وقد رَوَينا - بمثل الذي قالوا من ذلك - عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من أصحابه، أخبارًا قد تقدم ذكرُنا بعضها، ونستقصى ذكر باقيها ببيانه، إذا انتهينا إليه، إن شاء الله. فأما الذي تقدم ذكرُناه من ذلك، فخبر أبيّ بن كعب، من رواية أبي كُريب، عن ابن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، الذي ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرفٍ، من سبعة أبواب من الجنة". والسبعة الأحرف: هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة. والأبواب السبعة من الجنة: هي المعاني التي فيها، من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثَل، التي إذا عَمل بها العامل، وانتهى إلى حدودها المنتهى، استوجب به الجنة. وليس والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين، خلافٌ لشيء مما قلناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 والدلالةُ على صحة ما قلناه - من أنّ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "نزل القرآن على سبعة أحرف"، إنما هو أنه نزل بسبع لغات، كما تقدم ذكرناه من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وسائر من قدمنا الرواية عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول هذا الباب- أنهم تمارَوْا في القرآن، فخالف بعضهم بعضًا في نفْس التلاوة، دون ما في ذلك من المعاني، وأنهم احتكموا فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1) فاستقرأ كلَّ رجل منهم، ثم صَوَّب جميعَهُم في قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضُهم لتصويبه إياهم، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعَهم: "إنَ الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف". ومعلوم أن تمارِيهم فيما تمارَوْا فيه من ذلك، لو كان تماريًا واختلافًا فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك، لكان مستحيلا أن يُصوِّب جميعهم، ويأمرَ كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه. لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحًا، وجبَ أن يكون الله جلّ ثناؤه قد أمرَ بفعل شيء بعينه وفَرَضَه، في تلاوة من دلّت تلاوته على فرضه - ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه وزَجر عنه، في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه، وأباح وأطلق فعلَ ذلك الشيء بعينه، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فِعْلَه، ولمن شاء منهم أن يتركه تَرْكَه (2) في تلاوة من دَلت تلاوته على التخيير! وذلك من قائله إنْ قاله، إثباتُ ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله وحُكْم كتابه فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82] .   (1) في المخطوطة: "وأنهم اختلفوا فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم". وكل صواب. (2) أي: جعل له فعله، وجعل له تركه. و "جعل" هنا، بمعنى: أباح وأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وفي نفْي الله جلّ ثناؤه ذلك عن حُكْم كتابه، أوضحُ الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بحكمٍ واحدٍ متفق في جميع خلقه، لا بأحكام فيهم مختلفة. وفي صحة كون ذلك كذلك، ما يبطل دعوى من ادَّعى خلاف قولنا في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" للذين تخاصموا إليه عند اختلافهم في قراءتهم. لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمرَ جميعهم بالثبوت على قراءته، ورضى قراءة كل قارئ منهم - على خلافها قراءةَ خصومه ومنازعيه فيها- وصوَّبها. ولو كان ذلك منه تصويبًا فيما اختلفت فيه المعاني، وكان قولُه صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إعلامًا منه لهم أنه نزل بسبعة أوجُهٍ مختلفة، وسبعة معان مفترقة - كان ذلك إثباتًا لما قد نفى الله عن كتابه من الاختلاف، ونفيًا لما قد أوجب له من الائتلاف. مع أنّ في قيام الحجة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض في شيء واحد في وقت واحد بحكمين مختلفين، ولا أذن بذلك لأمته - ما يُغْنى عن الإكثار في الدلالة على أن ذلك منفيٌّ عن كتاب الله. وفي انتفاء ذلك عن كتاب الله، وجوبُ صحة القول الذي قلناه، في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، عند اختصام المختصمين إليه فيما اختلفوا فيه من تلاوة ما تلَوْه من القرآن، وفسادِ تأويل قول من خالف قولنا في ذلك. وأحْرى أنّ الذين تمارَوْا فيما تمارَوْا فيه من قراءتهم فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن منكَرًا عند أحد منهم أن يأمرَ الله عبادَه جلّ ثناؤه في كتابه وتنزيله بما شاء، وينهى عما شاء، ويعِدَ فيما أحبَّ من طاعاته، ويوعِدَ على معاصيه، ويحْتِمَ لنبيه ويعظه فيه (1) ويضربَ فيه لعباده الأمثال- فيُخاصمَ   (1) في المطبوعة "ويحتج لنبيه"، بدل "ويحتم". وفي إحدى المخطوطات "ويعظ"، بغير الضمير وبغير "فيه". وأما الأخرى فليس فيها "ويعظه فيه"، بل "ويحتم لنبيه صلى الله عليه وسلم". و "حتم الأمر": قضاه، أي: يقضى لنبيه ويكتب له وعليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 غيرَه على إنكاره سماعَ ذلك من قارئه (1) . بل على الإقرار بذلك كلِّه كان إسلامُ من أسلم منهم. فما الوجهُ الذي أوجبَ له إنكارَ ما أنكر، إن لم يكن كان ذلك اختلافًا منهم في الألفاظ واللغات؟ وبعد، فقد أبان صحةَ ما قلنا الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصًّا. وذلك الخبر الذي ذكرنا: 47- أن أبا كُريب حدثنا قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن حماد ابن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بَكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال جبريل: اقرإ القرآنَ على حرف. قال ميكائيل عليه السلام: استزدْه. فقال: على حرفين. حتى بلغ ستَّة أو سبعةَ أحرف، فقال: كلها شافٍ كافٍ، ما لم يختم آيةَ عذاب بآية رحمة، أو آيةَ رحمة بآية عذاب، كقولك: هلمَّ وتعال (2) . فقد أوضح نصُّ هذا الخبر أنّ اختلاف الأحرف السبعة، إنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك "هلم وتعال" باتفاق المعاني، لا باختلاف معانٍ موجبةٍ اختلافَ أحكامٍ. وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الأخبارُ عن جماعة من السَّلَف والخلف. 48- حدثني أبو السائب سَلْمُ بن جُنادة السُّوَائي، قال: حدثنا أبو معاوية - وحدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا ابن أبي عديّ عن شعبة - جميعًا عن الأعمش، عن شقيق، قال: قال عبد الله: إني قد سمعت إلى القَرَأةِ، فوجدتُهم متقاربين فاقرأوا كما عُلِّمتم، وإياكم والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال (3) .   (1) يقول: "لم يكن منكرًا عند أحد منهم.. فيخاصم غيره". فأطال الفصل. (2) الحديث 47- مضى الحديث بهذا الإسناد، رقم: 40. فتلك إشارته بقوله هنا: "وذلك الخبر الذي ذكرنا أن أبا كريب حدثنا"، إلخ. (3) الحديث 48- أبو السائب سلم بن جنادة السوائي الكوفي، شيخ الطبري: ثقة حجة لا شك فيه، روى عنه البخاري في غير كتاب (الجامع الصحيح) ، والترمذي وابن ماجة وأبو حاتم، وهو قديم الولاد، ولد سنة 174، ومات سنة 254. وله ترجمة في تاريخ بغداد 9: 147-148، والتهذيب 4: 128-129، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2\ 1\ 269. و "سلم" بفتح السين وسكون اللام، ووقع في نسخ الطبري "سالم"، وهو تحريف. و "جنادة": بضم الجيم وتخفيف النون. و "السوائي": بضم السين وتخفيف الواو وبعد الألف همزة، نسبة إلى "بني سواءة بن عامر بن صعصعة". وأبو معاوية: هو محمد بن خازم الضرير، ولد سنة 113، ومات سنة 195. فهذا الإسناد الأول عال جدًا. وذلك أن الطبري روى أثر ابن مسعود هذا بإسنادين: رواه عن سلم بن جنادة عن أبي معاوية عن الأعمش. ثم رواه عن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي عن شعبة عن الأعمش. وهذا الأثر عن ابن مسعود لم نجده في غير هذا الكتاب، إلا ما ذكره صاحب اللسان بغير إسناد، كما سنشير إليه بعد، إن شاء الله. وقوله "قد سمعت إلى القرأة فوجدتهم متقاربين"، في المطبوعة "قد سمعت القراء". و "القراء": جمع "قارئ"، كما هو واضح، ولكن الذي في المخطوطة "إلى القرأة"، بزيادة "إلى" وبلفظ "القرأة"، بفتح الراء والهمزة ثم الهاء في آخره، وهو جمع "قارئ" أيضًا، ففي اللسان "رجل قارئ، من قوم قراء، وقرأة، وقارئين". وهذا الجمع قياسي، مثل "كاتب وكتبة". وانظر همع الهوامع للسيوطي 2: 177، 178. وهذا الأثر ذكره صاحب اللسان 1: 124، قال: "وروى عن ابن مسعود: تسمعت للقرأة، فإذا هم متقارئون. حكاه اللحياني ولم يفسره. قال ابن سيدة: وعندي أن الجن كانوا يرومون القراءة"! وهكذا وقع الخطأ لهم قديمًا، جعلوها "متقارئون" بالهمزة، ثم فسرها ابن سيدة هذا التفسير العجيب. وهي واضحة في الطبري "متقاربين" بالباء. والسياق نفسه لا يدل إلا على صحة هذا وخطأ ما وقع في اللسان. وكلمة "القرأة" ستأتي في مخطوطة الطبري كثيرا بهذا الرسم، ثم يغيرها مصححو المطبوعة "القراء"، دون حاجة إلى هذا التغيير! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 49- وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عمن سمع ابنَ مسعود يقول: من قرأ منكم على حرف فلا يتحوَّلَنَّ، ولو أعلمُ أحدًا أعلمَ مني بكتاب الله لأتيتُه (1) . 50- وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن عابس، عن رجل من أصحاب عبد الله، عن   (1) الحديث 49- أبو داود: هو الطيالسي. وأبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني التابعي المعروف، واسمه "عمرو بن عبد الله"، وهذا الإسناد ضعيف، لإبهام شيخ أبي إسحاق الذي حدثه عن ابن مسعود. وقد مضى نحو معناه ضمن حديث متصل، عن ابن مسعود، رقم: 18. وانظر الإسناد التالي لهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 عبد الله بن مسعود، قال: من قرأ على حرف فلا يتحوّلنّ منه إلى غيره (1) . فمعلوم أنّ عبد الله لمَ يعْن بقوله هذا: من قرأ ما في القرآن من الأمر والنهي فلا يتحولنّ منه إلى قراءة ما فيه من الوعد والوعيد، ومن قرأ ما فيه من الوعد والوعيد فلا يتحولنَّ منه إلى قراءة ما فيه من القَصص والمثَل. وإنما عنى رحمة الله عليه أنّ من قرأ بحَرْفه - وحرْفُه: قراءته، وكذلك تقول العرب لقراءة رجل: حرفُ فلان، وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطَّعة: حرف، كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر: كلمة فلان- فلا يتحولنّ عنه إلى غيره رغبة عنه. ومن قرأ بحرف أبيّ، أو بحرف زيد، أو بحرف بعض من قرأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الأحرف السبعة - فلا يتحولنّ عنه إلى غيره رغبة عنه، فإن الكفرَ ببعضه كفرٌ بجميعه، والكفرُ بحرف من ذلك كفرٌ بجميعه يعني بالحرف ما وصفنا من قراءة بعض من قرأ ببعض الأحرف السبعة. 51- وقد حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، قال: قرأ أنس هذه الآية: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [سورة المزمل: 6] فقال له بعض القوم: يا أبا حَمزة، إنما هي "وأقْوَمُ" فقال: أقْوَمُ وأصْوَبُ وأهَيأ، واحدٌ (2) .   (1) الحديث 50- عبد الرحمن بن عابس: تابعي أيضًا. وقد أبهم الرجل الذي حدثه عن ابن مسعود، فكان الإسناد ضعيفًا. وهذا الأثر رواه أحمد في المسند رقم: 3845 ضمن حديث طويل، عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الرحمن بن عابس، قال: "حدثنا رجل من همدان، من أصحاب عبد الله، وما سماه لنا" إلخ. (2) الحديث 51- أبو أسامة: هو حماد بن أسامة الكوفي الحافظ. وهذا الأثر سيأتي بهذا الإسناد، وبإسناد آخر، في تفسير سورة "المزمل: 29: 82". ونقله السيوطي في الدر المنثور 6: 278، ونسبه أيضًا لأبي يعلى ومحمد بن نصر وابن الأنباري في المصاحف. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 156، ونسبه للبزار وأبي يعلى، وقال: "ولم يقل الأعمش: سمعت أنسًا. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، ورجال البزار ثقات". وقوله "وأهيأ" بدله في مطبوعة الطبري "وأهدى"، والظاهر أنه من تصرف المصححين، لأن ما أثبتنا هو الثابت في المخطوطة وفي رواية الطبري الآتية بالإسناد نفسه وفي الدر المنثور ومجمع الزوائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 52- حدثني محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: أنه كان يقرأ القرآنَ على خمسة أحرُفٍ. 53- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن سالم: أن سعيدَ بن جُبَيرٍ كان يقرأ القرآن على حرفين. 54- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مُغِيرة، قال: كان يزيدُ بن الوليد يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف (1) . أفترى الزاعمَ أن تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآنُ على سبعة أحرف"، إنما هو أنه أنزل على الأوجه السبعة التي ذكرنا، من الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل - كان يرى أنّ مجاهدًا وسعيدَ ابن جبير لم يقرآ من القرآن إلا ما كان من وجهيه أو وجوهه الخمسة دون سائر معانيه؟ لئن كانَ ظن ذلك بهما، لقد ظنَ بهما غير الذي يُعرفان به من منازلهما من القرآن، ومعرفتهما بآي الفرقان! 55- وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُليَّة، قال حدثنا أيوب، عن محمد، قال: نُبئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبرائيل: اقرإ القرآن على حرفين. فقال له ميكائيل: استزده. فقال: اقرإ القرآن على ثلاثة أحرف. فقال له ميكائيل: استزده. قال: حتى بلغ سبعة أحرف، قال محمد: لا تختلفُ في حلال ولا حرام، ولا أمرٍ ولا نهي،   (1) الأثر 54- يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، أمير المؤمنين، عرف باسم "يزيد الناقص"، وكان رجلا صالحًا. وهو الذي قيل في المثل: "الأشج والناقص أعدلا بني مروان"، فهو الناقص، لنقصه الناس من أعطياتهم ما كان زاده سلفه في أعطياتهم، والأشج: هو عمر بن عبد العزيز. ويزيد هذا هو الذي قتل ابن عمه الفاسق المستهتر: الوليد بن يزيد بن عبد الملك، سنة 126، وولى الخلافة بعده. انظر ترجمته في تاريخ ابن كثير 10: 16-17، والتاريخ الكبير للبخاري 4\ 2\ 366-367. ومغيرة، راوي هذا عن يزيد: هو مغيرة بن مقسم، بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين، الضبي. وهو ثقة معروف كثير الحديث، مات سنة 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 هو كقولك: تعال وهلم وأقبل، قال: وفي قراءتنا {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [سورة يس: 29، 53] ، في قراءة ابن مسعود (إن كانت إلا زقية واحدة) (1) . 56- وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن عُلية، قال: حدثنا شُعيب - يعني ابن الحَبْحَاب - قال: كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل: "ليس كما يقرأ" وإنما يقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: أرى صاحبك قد سمع: "أنّ من كفَر بحرفٍ منه فقدْ كفر به كله". 57- حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيّب: أن الذي ذكر الله تعالى ذكره [أنه قال] {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [سورة النحل:103] إنما افتُتِن أنه كان يكتب الوحيَ، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميعٌ عليمٌ، أو عزيزٌ حكيمٌ، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عَلى الوحي، فيستفهمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أعزيز حكيمٌ، أو سميعٌ عليم أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ ذلك كتبت فهو كذلك. ففتنه ذلك، فقال: إن محمدًا وكَلَ ذلك إليّ، فأكتبُ ما شئتُ. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة (2) .   (1) الحديث 55- محمد: هو ابن سيرين التابعي، فالحديث مرسل. ثم هو لم يدرك ابن مسعود، فحكايته عنه قراءته منقطعة. (2) الحديث 57- هذا الحديث ذكره الطبري مرة أخرى بهذا اللفظ نفسه في تفسير سورة النحل: 103، بغير هذه الزيادة التي وضعناها بين القوسين. وهو بغير هذه الزيادة يوهم أن الذي نزل فيه "إنما يعلمه بشر"، هو كاتب الوحي الذي افتتن. مع أنه أراد إن الذي قال "إنما يعلمه بشر" هو كاتب الوحي الذي افتتن: وصدر كلام الطبري في تفسير سورة النحل يقطع بذلك قال: "وقيل إن الذي قال ذلك رجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عن الإسلام. ذكر من قال ذلك.." ثم روى هذا الخبر، فنفى ما قدمه هذا الوهم الذي يشكل على قارئه في هذا المكان. وكاتب الوحي الذي ارتد هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي، وهو ليس بأعجمي، وإنما قالوا إنه هو الذي ذكره الله تعالى في قوله. "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله" [سورة الأنعام: 93] وأما المعنى بقوله "إنما يعلمه بشر" فقد اختلفوا في تحقيقه، قالوا: قين بمكة نصراني يقال له بلعام، أو يعيش غلام لبني المغيرة، أو جبر النصراني غلام بني بياضة. وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور 4: 131 وقال في صدره: "إن الذي ذكر الله في كتابه أنه قال: إنما يعلمه ... "، فأثبتنا الزيادة منه لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 58- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: من كفر بحرف من القرآن، أو بآية منه، فقد كفر به كله (1) . قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإذْ كان تأويلُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" عندك، ما وصفت، بما عليه استشهدتَ، فأوْجِدنا حرفًا في كتاب الله مقروءًا بسبع لغات، فنحقق بذلك قولك. وإلا فإن لم تجد ذلك كذلك: كانَ معلومًا بِعَدَ مِكَهُ (2) - صحةُ قول من زعم أن تأويل ذلك: أنه نزل بسبعة معان، وهو الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل- وفسادُ قولك. أو تقولَ في ذلك: إن الأحرف السبعة لغاتٌ في القرآن سبعٌ، متفرقة في جميعه، من لغات أحياءٍ من قبائل العرب مختلفة الألسن- كما كان يقوله بعض من لم يُنعم النظرَ في ذلك (3) . فتصير بذلك إلى القول بما لا يجهل فسادَه ذُو عقل، ولا يلتبس خَطؤه على ذي لُب. وذلك أنّ الأخبار التي بها احتججتَ لتصحيح مقالتك في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن على سبعة أحرف"، هي الأخبار التي رويتها عن عُمرَ بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، رحمة الله عليهم، وعمن رويتَ ذلك عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأنهم تماروْا في تلاوة   (1) الخبر 58- مثله في حديث المسند رقم: 3845، وما مر آنفًا برقم: 18. (2) العدم: فقدان الشيء وذهابه، وعدم الشيء: فقده فلم يعثر عليه. (3) في المطبوعة "لم يمعن"، غيرها المصححون هنا وفي مواضع ستأتي!! وأنعم النظر: بالغ فيه وأدقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 بعض القرآن، فاختلفوا في قراءتهُ دون تأويله، وأنكر بعضٌ قراءةَ بعض، مع دعوى كل قارئ منهم قراءةً منها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه ما قرأ بالصفة التي قرأ. ثم احتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فكان من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، أن صوَّب قراءة كل قارئ منهم، على خلافها قراءةَ أصحابه الذين نازعوه فيها، وأمرَ كل امرئ منهم أن يقرأ كما عُلِّم، حتى خالط قلبَ بعضهم الشكُّ في الإسلام، لما رأى من تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءةَ كل قارئ منهم على اختلافها. ثم جَلاهُ الله عنه ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له: أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فإن كانت الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، عندك -كما قال هذا القائل- متفرقةً في القرآن، مثبتةً اليوم في مصاحف أهل الإسلام، فقد بطلت معاني الأخبار التي رويتها عمن رويتها عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم اختلفوا في قراءة سورة من القرآن، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر كلا أن يقرأ كما عُلم. لأن الأحرف السبعة إذا كانت لغات متفرقة في جميع القرآن، فغير مُوجب حرفٌ من ذلك اختلافًا بين تاليه (2) لأن كل تالٍ فإنما يتلو ذلك الحرفَ تلاوةً واحدةً على ما هو به في المصحف، وعلى ما أنزل. وإذْ كان ذلك كذلك، بطل وجه اختلاف الذين رُوى عنهم أنهم اختلفوا في قراءة سورة، وفسد معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم كلَّ قارئ منهم أن يقرأه على ما عُلم. إذْ كان لا معنى هنالك يُوجب اختلافًا في لفظ، ولا افتراقًا في معنى. وكيف يجوز أن يكون هنالك اختلافٌ بين القوم، والمعلِّم واحدٌ، والعلم واحدٌ غير ذي أوجه؟ وفي صحة الخبر عن الذين رُوى عنهم الاختلافُ في حروف القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأنهم اختلفوا وتحاكموا إلى   (1) في المخطوطة: "ثم اختلفوا إلى رسول الله"، وهما سواء. (2) هي "تالين" جمع "تال"، مضافة إلى الضمير، فحذفت النون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، على ما تقدم وَصْفُنَاهُ- أبينُ الدلالة على فساد القول بأن الأحرُف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن، لا أنها لغاتٌ مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني. مع أن المتدبر إذا تدبر قول هذا القائل - في تأويله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، وادّعائه أنّ معنى ذلك أنها سبعُ لغات متفرقة في جميع القرآن، ثم جَمع بين قِيله ذلك، واعتلالِه لقيلِه ذلك بالأخبار التي رويت عمن رُوِيَ ذلك عنه من الصحابة والتابعين أنه قال: هو بمنزلة قولك تعالَ وهلم وأقبل؛ وأن بعضهم قال: هو بمنزلة قراءة عبد الله "إلازقيةً"، وهي في قراءتنا "إلا صَيْحَة" وما أشبه ذلك من حُججه - (1) علم أن حججه مفسدةٌ في ذلك مقالتَه، وأن مقالته فيه مُضادةٌ حججه. لأن الذي نزل به القرآن عندَه إحدى القراءتين -: إما "صيحة"، وإما "زَقية" وإما "تعالَ" أو "أقبل" أو "هلم" - لا جميع ذلك. لأن كلّ لغة من اللغات السبع عنده في كلمة أو حرف من القرآن، غيرُ الكلمة أو الحرف الذي فيه اللغة الأخرى. وإذْ كان ذلك كذلك، بطل اعتلاله لقوله بقول من قال: ذلك بمنزله "هلم" و "تعال" و "أقبل"، لأنّ هذه الكلمات هي ألفاظ مختلفة، يجمعها في التأويل معنى واحد. وقد أبطل قائل هذا القول الذي حكينا قوله، اجتماعَ اللغات السبع في حرف واحد من القرآن. فقد تبين بذلك إفسادُ حجته لقوله بقوله، وإفساد قوله لحجته (2) . قيل له: ليس القولُ في ذلك بواحد من الوجهين اللذين وصفتَ. بل الأحرف السبعة التي أنزل الله بها القرآن، هنّ لغات سبع، في حرف واحد، وكلمة واحدة،   (1) جواب قوله: ".. إذا تدبر قول هذا القائل.. علم.." (2) انتهى اعتراض المعترض الذي بدأ في ص: 55، ويليه جواب الطبري فيما اعترض به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، وقصدي، ونحوي، وقربي، ونحو ذلك، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني، وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذي رَوَينا آنفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قولك: "هلمّ وتعالَ وأقبل"، وقوله "ما ينظرون إلا زَقيةً"، و "إلا صيحة". فإن قال: ففي أيّ كتاب الله نجدُ حرفًا واحدًا مقروءًا بلغات سبع مختلفات الألفاظ، متفقات المعنى، فنسلم لك صحةَ ما ادّعيت من التأويل في ذلك؟ قيل: إنا لم ندع أن ذلك موجود اليوم، وإنما أخبرنا أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم ذكرناها. وهو ما وصفنا، دون ما ادعاه مخالفونا في ذلك، للعلل التي قد بَيَّنا. فإن قال: فما بال الأحرف الأخَرِ الستة غير موجودة، إن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ، وقد أقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأمر بالقراءة بهنّ، وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ أنسخت فرُفعت، فما الدلالة على نسخها ورَفعها؟ أم نسيتهن الأمة، فذلك تضييعُ ما قد أمروا بحفظه؟ أم ما القصةُ في ذلك؟ قيل له: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة وهي مأمورة بحفظها. ولكنّ الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت. كما أمرت، إذا هي حَنثتْ في يمين وهي مُوسرة، أن تكفر بأيِّ الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة. فلو أجمعَ جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حَظرها التكفيرَ بأي الثلاث شاءَ المكفِّر، كانت مُصيبةً حكمَ الله، مؤديةً في ذلك الواجبَ عليها من حق الله. فكذلك الأمة، أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخُيِّرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت: فرأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 - لعلة من العلل أوجبتْ عليها الثباتَ على حرف واحد- قراءتَهُ بحرف واحدٍ، ورفْضَ القراءة بالأحرف الستة الباقية، ولم تحْظُرْ قراءته بجميع حروفه على قارئه، بما أذن له في قراءته به. فإن قال: وما العلة التي أوجبت عليها الثباتَ على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية؟ 59- قيل: حدثنا أحمد بن عَبْدةَ الضَّبي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدّرَاوَرْدي، عن عُمارة بن غزِيَّة، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد ابن ثابت، عن أبيه زيد، قال: لما قُتل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة، دخل عمرُ بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال: إنّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة تهافتوا تهافتَ الفَراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يُقتَلوا - وهمْ حملةُ القرآن- فيضيعَ القرآن ويُنسَى. فلو جمعتَه وكتبتَه! فنفر منها أبو بكر وقال: أفعل ما لم يفعلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم! فتراجعا في ذلك. ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، قال زيد: فدخلت عليه وعُمر مُحْزَئِلٌ (1) فقال أبو بكر: إن هذا قد دَعاني إلى أمر فأبيتُ عليه، وأنت كاتبُ الوحي. فإنْ تكن معه اتبعتكما، وإن توافِقْني لا أفعل. قال: فاقتصَّ أبو بكر قولَ عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعلُ ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلى أن قال عمر كلمة: "وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ " قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله! ما علينا في ذلك شيء! قال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطَع الأدَم وكِسَرِ الأكتاف والعُسُب (2) .   (1) احزأل الرجل: اجتمع وتحفز ورفع صدره كالمتهيء لأمر، فهو محزئل: منضم بعضه إلى بعض، جالس جلسة المستوفز. (2) الأدم جمع أديم: وهو الجلد المدبوغ، كانوا يكتبون فيه. والكسر جمع كسرة (بكسر فسكون) : وهي القطعة المكسورة من الشيء. والأكتاف جمع كتف: وهو عظم عريض في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب، كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم يومئذ. والعسب جمع عسيب وهو: جريد النخل إذا نحى عنه خوصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فلما هلك أبو بكر وكانَ عُمر (1) كتبَ ذلك في صحيفة واحدةٍ، فكانت عنده. فلما هلك، كانت الصحيفةُ عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن حذيفة بن اليمان قدِم من غزوة كان غزاها بِمَرْج أرْمينِية (2) فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال: "يا أمير المؤمنين: أدرِكِ الناس! فقال عثمان: "وما ذاك؟ " قال غزوت مَرْج أرمينية، فحضرها أهلُ العراق وأهلُ الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبيّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهلُ العراق، فتكفرهم أهلُ العراق. وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فتكفِّرهم أهلُ الشام. قال زيد: فأمرني عثمان بن عفان أكتبُ له مُصْحفًا، وقال: إنّي مدخلٌ معك رجلا لبيبًا فصيحًا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ. فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص، قال: فلما بلغنا {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [سورة البقرة: 248] قال: زيد فقلت: "التابوه" وقال أبان بن سعيد: "التابوت"، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: "التابوت" قال: فلما فرغتُ عرضته عَرْضةً، فلم أجد فيه هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [سورة الأحزاب: 23] قال: فاستعرضتُ المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدْها عند أحد منهم، ثم استعرضتُ الأنصارَ أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم،، حتى وجدُتها عند خُزيمة بن ثابت، فكتبتها، ثم عرَضته عَرضَةً أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ   (1) قوله "وكان عمر"، أي ولي الأمر من بعده. وقال ابن حجر في فتح الباري 9: 13 وذكر جمع القرآن في الورق والصحف على عهد أبي بكر، ثم قال: "هذا كله أصح مما وقع في رواية عمارة بن غزية.." (2) في المطبوعة "في فرج أرمينية"، وكذلك التي تليها. والمرج: أرض واسعة كثيرة النبت تمرج فيها الدواب، أي تذهب وتجيء. وقد أضيف "مرج" إلى كثير من المواضع والبلاد. وأرض أرمينية واسعة خصيبة. وذكر ابن حجر في الفتح 9: 14 رواية "فتح أرمينية" و "فرج.." ولم يذكر "مرج"، وذكرها أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع": 4 قال: "وكانوا يقاتلون على مرج أرمينية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة: 128، 129] فاستعرضت المهاجرين، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصارَ أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رَجل آخر يدعى خُزيمة أيضًا، فأثبتها في آخر "براءة"، ولو تمَتْ ثلاثَ آيات لجعلتها سورة على حِدَةٍ. ثم عرضته عرضةً أخرى، فلم أجد فيه شيئًا، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء. فردَّها إليها، وطابت نفسه، وأمرَ الناس أن يكتبوا مصاحفَ. فلما ماتت حفصةُ أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها فغسلتْ غسلا (1) . 60- وحدثني أيضًا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عُمارة بن غَزِية، عن ابن شهاب، عن خارجة ابن زيد، عن أبيه زيد بن ثابت، بنحوه سواء. 61- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة، قال: لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلِّم يعلِّم قراءة   (1) الحديث 59، 60- قال ابن حجر في فتح الباري 9: 9-19، وذكر رواية الطبري مفرقة في شرح الباب في أول "باب جمع القرآن"، في شرح حديث جمع القرآن الذي رواه البخاري من طريق ابن شهاب عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت: "هذا هو الصحيح عن الزهري، أن قصة زيد ابن ثابت مع أبي بكر وعمر، عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت، وقصة حذيفة مع عثمان عن أنس ابن مالك، وقصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق عن خارجة بن زيد ابن ثابت عن أبيه. وقد رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن الزهري، فأدرج قصة آية سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق"، ثم قال عن هذا الخبر الذي رواه الطبري: "وأغرب عمارة بن غزية فرواه عن الزهري فقال: عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وساق القصص الثلاث بطولها: قصة زيد مع أبي بكر وعمر، ثم قصة حذيفة مع عثمان أيضًا، ثم قصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب. أخرجه الطبري. وبين الخطيب في "المدرج" أن ذلك وهم منه، وأنه أدرج بعض الأسانيد على بعض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الرجل، والمعلم يعلم قراءةَ الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين - قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال-: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض. فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبًا فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا. اجتمعوا يا أصحابَ محمد، فاكتبوا للناس إمامًا". قال أبو قلابة، فحدثني أنس بن مالك قال: كنت فيمن يملى عليهم، قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلهُ أن يكون غائبًا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويَدعون موضعها، حتى يجيءَ أو يُرْسَلَ إليه. فلما فرغ من المصحف، كتب عثمان إلى أهل الأمصار: "إني قد صَنعتُ كذا وكذا، ومحوتُ ما عندي، فامحوا عندكم" (1) . 62- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك الأنصاري: أنه اجتمع في غزوة أذربيجان وأرمينيةَ أهلُ الشام وأهل العراق، فتذاكرُوا القرآن، واختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة. فركبَ حُذيفةُ بن اليمان - لما رأى اختلافهم في القرآن - إلى عثمان، فقال: "إنّ الناس قد اختلفوا في القرآن، حتى إني والله لأخشى أن يصيبهم مثلُ ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف". قال: ففزع لذلك فزعًا شديدًا، فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدًا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق (2) .   (1) الخبر 61- ذكر ابن حجر في الفتح 9: 15 أن ابن أبي داود أخرجه في المصاحف من طريق أبي قلابة، وذكر صدر الخبر، ثم ذكر سائره في ص: 18. وفي المخطوطة مكان "ويدعون موضعها" و "يتركون موضعها". وهو في كتاب المصاحف ص 21-22، رواه عن زياد بن أيوب عن إسماعيل، يعني ابن علية، بهذا الإسناد. وفيه "ويدعون موضعها". (2) الخبر 62- خرج ابن حجر في الفتح 9: 14 وما بعدها رواية يونس عن ابن شهاب عن أنس. وقال: "أخرجها ابن أبي داود.. مطولة". وهي في كتاب المصاحف ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 63- حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب (1) . 64- حدثنا سعيد بن الربيع قال: حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن صعصعة أنّ أبا بكر أوَلُ من وَرَّث الكلالةَ وجمعَ المصحف (2) . قال أبو جعفر: وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب جميعها الكتابُ، والآثار الدالة على أن إمامَ المسلمين وأميرَ المؤمنين عثمانَ بن عفان رحمة الله عليه، جمع المسلمين - نظرًا منه لهم، وإشفاقًا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حِذارَ الردّةِ من بعضهم بعدَ الإسلامَ، والدّخولِ في الكفر بعد الإيمان، إذ ظهر من بعضهم بمحضَره وفي عصره التكذيبُ ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النهيَ عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أنّ المِراء فيها كفر- فحملهم رحمةُ الله عليه، إذْ رأى ذلك ظاهرًا بينهم في عصره، ولحَدَاثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بما أمِنَ عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن - على حرف واحد (3) . وجمعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وخَرَّق ما عدا المصحف الذي   (1) الحديث 63- ذكر ابن حجر في الفتح 9: 9 رواية سفيان عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت، وأتمها في ص: 11 باختلاف في اللفظ. والكرانيف جمع كرنافة: وهي أصول السعف الغلاظ العراض التي إذا يبست صارت أمثال الأكتاف. وكانوا يكتبون فيها قبل الورق. (2) الخبر 64- صعصعة: هو ابن صوحان، بضم الصاد. وهو تابعي قديم، كان مسلمًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره. وهذا الخبر لم نجده في موضع آخر. وأما "الكلالة"، فقد اختلف في تفسيرها، والجمهور على أنه: من مات وليس له ولد ولا والد. كما قال الحافظ في الفتح 12: 21. وهو الذي اختاره الطبري، فيما سيأتي في تفسير الآية 12 من سورة النساء، 176 منها ج 4 ص 191 - 194، وج 6 ص 28-31 من طبعة بولاق. (3) قوله "على حرف واحد"، متعلق بقوله آنفًا: "فحملهم رحمة الله عليه" وقوله "فحملهم" معطوف على قوله أولا: "جمع المسلمين" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 جمعهم عليه. وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه، أن يخرقه (1) . فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة (2) ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامُها العادلُ في تركها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها من سائر أهل ملتها، حتى دَرَست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيلَ لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعُفُوِّ آثارها، وتتابعِ المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها (3) ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها. فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيقُ الناصحُ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية. فإن قال بعضُ من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم تَركُ قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمرَه إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمرَ إباحة ورخصة. لأنّ القراءة بها لو كانت فرضًا عليهم، لوجب أن يكونَ العلمُ بكل حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبرهُ العذر، ويزيل الشك من قَرَأةٍ الأمة (4) . وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجبُ بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة.   (1) في الموضعين من المطبوعة "وحرق" بالحاء المهملة و "يحرقه" وقال ابن حجر في الفتح 9: 18 في شرح حديث البخاري: "في رواية الأكثر "أن يخرق" بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة، ورواه الأصيلي بالوجهين، والمعجمة أثبت". وخرق الكتاب أو الثوب: شققة ومزقه. (2) في المطبوع والمخطوط "فاستوثقت". ونقله ابن كثير في الفضائل: 70 "فاستوسقت" وهو الصواب. واستوسق القوم: اجتمعوا وانضموا. وفي حديث النجاشي: "واستوسق عليه أمر الحبش" أي اجتمعوا على طاعته. واستوسق لفلان الأمر: إذا أمكنه واجتمع له. (3) قوله "من غير جحود منها"، أي من الأمة، وكذلك الضمائر فيما بعدها. (4) في المطبوع: "من قراءة الأمة"، والقرأة: جمع قارئ، وانظر ما مضى: 51 في التعليق وما سيأتي: 109 تعليق: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وإذْ كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقلَ جميع القراآت السبع، تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا. إذْ كانَ الذي فعلوا من ذلك، كان هو النَّظرَ للإسلام وأهله. فكان القيامُ بفعل الواجب عليهم، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة، من ذلك (1) . وأما ما كانَ من اختلاف القراءة في رفع حرفٍ وجرِّه ونصبه، وتسكين حرفٍ وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتّفاق الصورة، فمن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف" - بمعزل (2) . لأنه معلوم أنه لا حرفَ من حروف القرآن - مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى- يوجب المراء به كفرَ الممارى به في قول أحد من علماء الأمة. وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراءِ فيه الكفر، من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه، وتظاهرتْ عنه بذلك الرواية (3) على ما قد قدمنا ذكرها في أول هذا الباب (4) . فإن قال لنا قائل: فهل لك من علم بالألسن السبعة التي نزل بها القرآن؟ وأي الألسن هي من ألسن العرب؟   (1) قوله "من ذلك"، أي من الجناية على الإسلام. (2) أي "فمن معنى قول النبي.. بمعزل". (3) قوله "وتظاهرت" هي في المخطوطة مهملة ولا تكاد تقرأ على وجه مرضي. (4) نقل ابن حجر في الفتح 9: 27 عن الإمام الحافظ أبي شامة قال: "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل". وقال ابن عمار أيضًا: "لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص على السبعة أو زاد ليزيل الشبهة". وقال الإمام ابن الجزري في النشر 1: 33: "أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب: أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئًا مع هؤلاء السبعة وتوفى سنة 224" ... ثم قال في ص 34: "وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط وتوفي سنة 324". ثم قال في ص 35: "وإنما أطلنا في هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، وأن الأحرف السبعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قلنا: أما الألسن الستة التي قد نزلت القراءة بها، فلا حاجة بنا إلى معرفتها، لأنا لو عرفناها لم نقرأ اليومَ بها مع الأسباب التي قدمنا ذكرها. وقد قيل إن خمسة منها لعَجُر هوَازن، واثنين منها لقريش وخزاعة. رُوي جميعُ ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله. وذلك أن الذي رَوَى عنه: "أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن"، الكلبي عن أبي صالح، وأنّ الذي روى عنه: "أن اللسانين الآخرين لسانُ قريش وخزاعة"، قتادة، وقتادة لم يلقَه ولم يسمع منه (1) . 65- حدثني بذلك بعض أصحابنا، قال: حدثنا صالح بن نصر الخزاعي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن ابن عباس، قال: نزل القرآنُ بلسانُ قريش ولسان خزاعة، وذلك أن الدار واحدةٌ. 66- وحدثني بعض أصحابنا، قال: حدثنا صالح بن نصر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الأسود الدُّثَلي، قال: نزل القرآن بلسان الكَعبين: كعب بن عمرو وكعب بن لؤيّ. فقال خالد بن سلمة لسعد بن إبراهيم: ألا تعجبُ من هذا الأعمى! يَزعم أنّ القرآن نزل بلسان الكعبين؛ وإنما أنزل بلسان قريش! (2)   (1) انظر ما استوعبه ابن حجر في شرح هذا الباب كله في فتح الباري 9: 30، وابن الجزري في النشر 1: 19-53، وفضائل القرآن لابن كثير: 54 - 80. (2) الأثر 66- وهذا الأثر منقطع أيضًا، فإن قتادة ولد سنة 61. وأبو الأسود الدئلي مات سنة 69. وروى الخطيب في تاريخ بغداد 5: 173-174، نحو هذا مرفوعًا، بإسناده، من طريق "أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثني أبي عن سهل بن شعيب عن ابن سفيان الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل القرآن على لغة الكعبين: كعب بن لؤي، وهو أبو قريش، وكعب بن عمرو، وهو أبو خزاعة". وهذا إسناد مظلم!! أحمد بن عبد الجبار: ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1\1: 62، وقال: "كتبت عنه، وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه"، ثم روى عن أبيه أبي حاتم قال: "ليس بقوي". وأما عبد الجبار، والد أحمد هذا، فلم أجد له ترجمة قط. وأما سهل ابن شعيب، فترجمه ابن أبي حاتم أيضًا ج 2\1: 199، وذكر أنه يروى "عن الشعبي وعبيد الله ابن عبد الله الكندي"، ولم يذكره بجرح ولا تعديل. ولم أجد له ترجمة غيرها. وأما "ابن سفيان الأسلمي"، فما عرفت من هو؟ وما أظنه من طبقة الصحابة، إذ لم يدرك ذلك سهل بن شعيب، وإن كان منهم كان الإسناد منقطعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قال أبو جعفر: والعجز من هوازن: سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر ابن معاوية، وثقيف (1) . وأما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ ذكرَ نزول القرآن على سبعة أحرفٍ: إن كلها شافٍ كافٍ - فإنه كما قال جل ثناؤه في صفة القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس: 57] ، جعله الله للمؤمنين شفاءً، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وَساوس الشيطان وَخطراته، فيَكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته.   (1) في الأصل "وخيثم بن بكر"، وكذلك في فضائل القرآن: 67 وهو خطأ. قال ابن كثير في عقب هذا "وهم عليا هوازن الذين قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفل تميم، يعني بني دارم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 القول في البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنزل القرآنمن سبعةِ أبوابِ الجنة"، وذكر الأخبار الواردة بذلك (1) قال أبو جعفر: اختلفت النقلة في ألفاظ الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 67- فروى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف: زاجرٌ وآمرٌ (2) وحلالٌ وحرامٌ، ومحكم ومتشابه، وأمثال، فأحِلُّوا حلاله وحَرِّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نُهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنّا به كلٌّ من عند ربنا. حدثني بذلك يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني حَيوَة بن شريح، عن عقيل بن خالد، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) .   (1) في المطبوعة: "المروية بذلك". (2) في المطبوعة "زجر وأمر"، والصواب من المخطوطة وفضائل القرآن 66، وفتح الباري 9: 26. (3) الحديث 67- قال ابن حجر في الفتح 9: 26 وذكر الخبر السالف بهذا الإسناد فقال: "قال ابن عبد البر هذا حديث لا يثبت، لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، ولم يلق ابن مسعود"، ثم قال: "وصحح الحديث المذكور ابن حبان والحاكم، وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهري مرسلا، وقال: هذا مرسل جيد". وانظر فضائل القرآن 66. وانظر مسند أحمد في الحديث: 4252 عن فلفلة الجعفي عن ابن مسعود: "إن القرآن نزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من سبعة أبواب على سبعة أحرف -أو قال: حروف- وإن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ورُوي عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مُرْسَلا غيرُ ذلك: 68- حدثنا محمد بن بشار، قال حدثنا عباد بن زكريا، عن عوف، عن أبي قِلابة، قال: بلغَني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآنُ على سبعة أحرفٍ، أمرٍ وزجرٍ وترغيبٍ وترهيب وجدل وقصص ومثل (1) . 69- وروى عن أبيّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ما حدثني به أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن جده، عن أبيّ بن كعب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرفٍ واحدٍ، فقلت: ربّ خففْ عن أمَّتي. قال: اقرأهُ على حرفين. فقلت: رب خفف عن أمتي. فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سَبْعة أبواب من الجنة، كلها شافٍ كافٍ (2) . وروى عن ابن مسعود من قِيلِه خلافُ ذلك كله. 70- وهو ما حدثنا به أبو كرُيب، قال: حدثنا المحاربي، عن الأحوص بن حكيم، عن ضَمْرة بن حبيب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود، قال: إنّ الله أنزلَ القرآن على خمسة أحرف: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال. فأحِلَّ الحلال، وحَرِّمِ الحرام، واعملْ بالمحكم، وآمن بالمتشابه، واعتبر بالأمثال (3) .   (1) الحديث 68- هذا حديث مرسل، فلا تقوم به حجة. (2) الحديث 69- هذا إسناد صحيح. وهو أحد روايات الحديث رقم: 31 الماضي، وقد أشار الحافظ إلى هذه الرواية، في الفتح 9: 21. ووقع في الإسناد في نسخ الطبري هنا "عبيد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، وهو خطأ، صوابه "عبد الله"، كما في الرواية الماضية. وليس في الرواة الذين رأينا تراجمهم "عبيد الله بن عيسى ... ". ثم هنا أيضًا "عن أبيه عن جده"، وأخشى أن يكون خطأ أيضًا، إذ الحديث رواه عبد الله بن عيسى عن جده مباشرة، كما مضى، وكما في رواية مسلم في صحيحه 1: 225 لذلك الحديث. (3) الخبر 70- هذا موقوف على ابن مسعود، من كلامه، كما صرح بذلك الطبري هنا بقوله "وروى عن ابن مسعود من قيله". وذكره ابن كثير في الفضائل: 66 بعد الحديث 67 الماضي، جعله رواية أخرى له، قال: "ثم رواه عن أبي كريب ... عن ابن مسعود، من كلامه. وهو أشبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وكل هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، متقاربة المعاني، لأن قول القائل: فلان مقيم على باب من أبواب هذا الأمر، وفلان مقيم على وَجْه من وجوه هذا الأمر، وفلان مُقيمٌ على حرفٍ من هذا الأمر - سواءٌ. ألا ترى أن الله جَلّ ثناؤه وصف قوماٌ عَبدوه على وجه من وجُوه العبادات، فأخبر عنهم أنهم عبدوه على حرف فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [سورة الحج: 11] ، يعني أنهم عبدوه على وجه الشك، لا على اليقين والتسليم لأمره. فكذلك روايةُ من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نزل القرآن من سبعة أبواب" و "نزل على سبعة أحرف" سواءٌ، معناهما مؤتلف، وتأويلهما غير مُختلف في هذا الوجه. ومعنى ذلك كله، الخبرُ منه صلى الله عليه وسلم عما خصه الله به وأمتَه، من الفضيلة والكرامة التي لم يؤتها أحدًا في تنزيله. وذلك أنّ كل كتاب تقدَّم كتابَنا نزولُه على نبيّ من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حُوِّل إلى غير اللسان الذي نزل به، كان ذلك له ترجمة وتفسيرًا (1) لا تلاوةً له على ما أنزلهُ الله. وأنزل كتابنا بألسُن سبعة، بأيِّ تلك الألسن السَّبعة تلاه التالي، كان لهُ تاليًا على ما أنزله الله لا مترجِمًا ولا مفِّسرًا، حتى يحوِّله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصيرَ فاعلُ ذلك حينئذٍ -إذا أصاب معناه- مُترجمًا له. كما كان التالي   (1) يستعمل الطبري "الترجمة" وما يشتق منها بمعنى البيان والتفسير والشرح، لا بمعنى نقل الكلام من لسان إلى لسان يباينه. والترجمة التي يشير إليها هنا هي ما مضى في خبر الأحرف التي نزل بها القرآن من مثل قولك "هلم. وأقبل" فإذا كان الكتاب الأول قد نزل وفيه، "هلم" كان القارئ إذا قرأ "أقبل"، وهي بمعناها، مفسرًا للكتاب لا تاليًا له. انظر ما سيأتي: 32، 57، 67، 75 من مطبوعة بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 لبعض الكتب التي أنزلها الله بلسان واحد -إذا تلاه بغير اللسان الذي نزل به- له مُترجِمًا، لا تاليًا على ما أنزله الله به. فذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: كانَ الكتابُ الأول، نزل على حَرفٍ واحدٍ، ونزل القرآن على سبعة أحرف. وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الكتاب الأول نزل من باب واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب"، فإنه صلى الله عليه وسلم عنى بقوله: "نزل الكتاب الأول من باب واحد"، والله أعلم، ما نزل من كتب الله على من أنزله من أنبيائه، خاليًا من الحدود والأحكام والحلال والحرام، كزبور داود، الذي إنما هو تذكير ومواعظ، وإنجيل عيسى، الذي هو تمجيدٌ ومحامد وحضٌّ على الصفح والإعراض -دون غيرها من الأحكام والشرائع- وما أشبه ذلك من الكتب التي نزلت ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعَها كتابُنا، الذي خَصَّ الله به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّته. فلم يكن المتعبَّدون بإقامته يجدون لِرضَى الله تعالى ذكره مطلبًا ينالون به الجنة، ويستوجبون به منه القُرْبَة، إلا من الوجه الواحد الذي أنزل به كتابهُم، وذلك هو الباب الواحد من أبواب الجنة الذي نزل منه ذلك الكتاب. وخص الله نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه، بأن أنزل عليهم كتابَه على أوجه سبعةٍ من الوجوه التي ينالون بها رضوان الله، ويدركون بها الفوز بالجنة، إذا أقاموها (1) فكُلّ وجه من أوجُهه السبعة بابٌ من أبواب الجنة التي نزل منها القرآن. لأن العامل بكل وجه من أوجُهه السبعة، عاملٌ في باب من أبواب الجنة، وطالب من قِبَله الفوز بها. والعملُ بما أمر الله جل ذكره في كتابه، بابٌ من أبواب الجنة، وتركُ ما نهى الله عنه فيه؛ بابٌ آخر ثانٍ من أبوابها؛ وتحليلُ ما أحلّ الله فيه، بابٌ ثالث من أبوابها؛ وتحريمُ ما حرَّم الله فيه، باب رابعٌ من أبوابها؛   (1) في المطبوعة: "فلكل وجه من أوجهه السبعة باب من أبواب الجنة الذي نزل منه القرآن". وهو تغيير لا جدوى فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 والإيمانُ بمحكمه المبين، باب خامسٌ من أبوابها؛ والتسليمُ لمتشابهه الذي استأثر الله بعلمه وحَجَب علمه عن خلقه والإقرارُ بأن كل ذلك من عند رّبه، باب سادسٌ من أبوابها؛ والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بعظاته، باب سابعٌ من أبوابها. فجميع ما في القرآن -من حروفه السبعة، وأبوابه السبعة التي نزل منها- جعله الله لعباده إلى رضوانه هاديًا، ولهم إلى الجنة قائدًا. فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن من سبعة أبواب الجنة". وأما قوله صلى الله عليه وسلم في القرآن: "إن لكلّ حرف منه حدًّا"، يعني (1) لكل وجه من أوجهه السبعة حد حدّه الله جل ثناؤه، لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن لكل حرف منها ظَهرًا وبطنًا"، فظهره: الظاهر في التلاوة، وبطنه: ما بطن من تأويله (2) . وقوله: "وإن لكلّ حدٍّ من ذلكُ مطَّلَعًا"، فإنه يعني أنّ لكل حدٍّ من حدود الله التي حدَّها فيه -من حلالٍ وحرامٍ، وسائر شرائعه- مقدارًا من ثواب الله وعقابه، يُعاينه في الآخرة، ويَطَّلع عليه ويلاقيه في القيامة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو أنّ لي ما في الأرض من صفراءَ وبيضاءَ لافتديتُ به من هَوْلِ المطَّلَع"، يعني بذلك ما يطَّلع عليه ويهجُم عليه من أمر الله بعد وفاته.   (1) انظر ما مضى في خبر عبد الله بن مسعود. الحديث رقم: 10 والتعليق عليه. (2) الظاهر: هو ما تعرفه العرب من كلامها، وما لا يعذر أحد بجهالته من حلال وحرام. والباطن: هو التفسير الذي يعلمه العلماء بالاستنباط والفقه. ولم يرد الطبري ما تفعله طائفة الصوفية وأشباههم في التلعب بكتاب الله وسنة رسوله، والعبث بدلالات ألفاظ القرآن، وادعائهم أن لألفاظه "ظاهرًا" هو الذي يعلمه علماء المسلمين، و "باطنًا" يعلمه أهل الحقيقة، فيما يزعمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 (القول في الوجوه التي من قبلها يُوصَل إلى معرفة تأويل القرآن) قال أبو جعفر: قد قلنا في الدلالة على أن القرآن كله عربي، وأنه نزل بألسُن بعض العرب دونَ ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم -ومصاحفَهم التي هي بين أظهرهم- ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها. وقلنا -في البيان عمّا يحويه القرآنُ من النور والبرهان، والحكمة والتِّبْيان (1) التي أودعها الله إياه: من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ووعده ووعيده، ومحكمه ومتشابهه، ولطائف حُكمه- ما فيه الكفاية لمن وُفِّق لفهمه. ونحن قائلون في البيان عن وُجوه مطالب تأويله: قال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل: 44] ، وقال أيضًا جل ذكره: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل: 64] ، وقال: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ} [سورة آل عمران: 7] . فقد تبين ببيان الله جلّ ذكره:   (1) في المطبوعة: "والبيان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أنّ مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما لا يُوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك تأويل جميع ما فيه: من وجوه أمره -واجبه ونَدْبِه وإرْشاده-، وصنوفِ نَهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعضَ خَلْقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آية، التي لم يُدرَك علمُها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَّته. وهذا وجهٌ لا يجوز لأحد القول فيه، إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأويلَه (1) بنصٍّ منه عليه، أو بدلالة قد نصَبها، دالَّةٍ أمَّتَه على تأويله. وأنّ منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار. وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك: فإن تلك أوقاتٌ لا يعلم أحدٌ حدودَها، ولا يعرف أحدٌ من تأويلها إلا الخبرَ بأشراطها، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه. وبذلك أنزل ربُّنا محكم كتابه (2) فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 187] . وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئًا من ذلك، لم يدلّ عليه إلا بأشراطه دون تحديده بوقته كالذي روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه، إذ ذكر الدجّال: إنْْ يخرجْ وأنا فيكُم، فأنا حَجِيجُه، وإن يخرجْ بعدي، فالله خليفتي عليكم" (3) وما أشبه   (1) في المطبوعة: "له بتأويله". (2) في المطبوعة: "وكذلك أنزل ربنا في محكم كتابه"، وهو تغيير وزيادة لغير فائدة. (3) قال ابن حجر في الفتح 13: 84 في شرح حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري، وذكر الدجال فقال: "وما من نبي إلا أنذره قومه"، قال: "في بعض طرقه: إن يخرج فيكم فأنا حجيجه". وهو إشارة إلى حديث النواس بن سمعان، مطولا، في صحيح مسلم 2: 376، وفيه: "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم". وانظر أيضًا مجمع الزوائد 7: 347-348، 350-351. وقوله "حجيجه" أي محاجه ومغالبه بإظهار الحجة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ذلك من الأخبار -التي يطُول باستيعابها الكتاب- الدالّةِ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده علمُ أوقاتِ شيء منه بمقادير السِّنين والأيام، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرَّفه مجيئه بأشراطه، ووقَّته بأدلته. وأن منه ما يعلم تأويلَه كلُّ ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن. وذلك: إقامةُ إعرابه، ومعرفةُ المسمَّيات بأسمائها اللازمة غيرِ المشترَك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإنّ ذلك لاَ يجهله أحدٌ منهم. وذلك كسامعٍ منهم لو سمع تاليًا يتلو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 11، 12] ، لم يجهلْ أنّ معنى الإفساد هو ما ينبغي تركهُ مما هو مضرَّة، وأن الإصلاحَ هو ما ينبغي فِعله مما فعلهُ منفعةٌ، وإنْ جَهِل المعانيَ التي جعلها الله إفسادًا، والمعانيَ التي جَعلها الله إصْلاحًا. فالذي يعلمه ذو اللسان -الذي بلسانه نزل القرآنُ- من تأويل القرآن، هو ما وصفتُ: مِنْ معرفة أعيان المسمَّيات بأسمائها اللازمة غيرِ المشترَك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة، دون الواجب من أحكامها وصفاتها وهيآتها التي خص الله بعلمها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يُدرَك علمُهُ إلا ببيانِه، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه. وبمثل ما قُلنا من ذلك رُوي الخبر عن ابن عباس: 71- حدثنا محمد بن بشّار، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، قال: قال ابن عباس: التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ: وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها، وتفسير لاَ يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لاَ يعلمه إلا الله تعالى ذكره. قال أبو جعفر: وهذا الوجهُ الرابع الذي ذكره ابن عباس: مِنْ أنّ أحدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 لاَ يُعذر بجهالته، معنى غيرُ الإبانة عن وُجوه مَطالب تأويله. وإنما هو خبرٌ عن أنّ من تأويله ما لاَ يجوز لأحد الجهل به. وقد روى بنحو ما قلنا في ذلك أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسناده نظر. 72- حدثني يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت عمرو بن الحارث يحدث، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، مولى أمّ هانئ، عن عبد الله بن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآن على أربعة أحرفٍ: حلالٌ وحرامٌ لاَ يُعذَر أحدٌ بالجهالة به، وتفسيرٌ تفسِّره العرب، وتفسيرٌ تفسِّره العلماء، ومتشابهٌ لاَ يعلمه إلا الله تعالى ذكره، ومن ادَّعى علمه سوى الله تعالى ذكره فهو كاذب (1) .   (1) الحديث 72- إنما قال الطبري "فيه نظر"-: لأن الذي رواه هو الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وقد رد الطبري آنفًا خبرًا روى بمثل هذا الإسناد فقال: إنه ليس من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله. انظر ص: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ذكر بعض الأخبار التي رُويت بالنهي عن القولِ في تأويل القرآن بالرَّأي 73- حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا شَريك، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: أن النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 صلى الله عليه وسلم قال: من قالَ في القرآن برأيه فليتبوأ مقعدَه من النار (1) . 74- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عبد الأعلى - هو ابن عامر الثعلبي-، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من قال في القرآن برأيه - أو بما لا يعلم - فليتبوأ مقعدَه من النار. 75- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن بشر، وَقبِيصة، عن سفيان، عن عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعدَه من النار. 76- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بَشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس المُلائي، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعدَه من النار. 77- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من تكلَّم في القرآن برأيه فليتبوأ مقعدَه من النار. 78- وحدثني أبو السائب سَلْم بن جُنادة السُّوَائي، قال: حدثنا حفص ابن غياث، عن الحسن بن عُبيد الله، عن إبراهيم، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أيُّ أرْضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني، إذا قلتُ في القرآن ما لا أعلم (2) ! 79- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: أيُّ أرضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماءٍ تظلّني، إذا قلتُ في القرآن برأيي - أو: بما لا أعلم. قال أبو جعفر: وهذه الأخبار شاهدةٌ لنا على صحة ما قُلنا: من أنّ ما كان مِن تأويل آيِ القرآن الذي لا يُدرَك علمه إلا بنَصِّ بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بنَصْبه الدلالة عليه - فغير جائز لأحد القِيلُ فيه برأيه. بل القائلُ في ذلك برأيه - وإن أصاب الحق فيه - فمخطئ فيما كانَ من فِعله، بقيله فيه برأيه، لأن إصابته ليستْ إصابة مُوقن أنه محقٌّ، وإنما هو إصابة خارصٍ وظانً. والقائل   (1) الأحاديث 73- 76- تدور هذه الأحاديث كلها على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وقد تكلموا فيه. "قال أحمد: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، ربما رفع الحديث وربما وقفه. وقال ابن عدي: يحدث بأشياء لا يتابع عليها، وقد حدث عنه الثقات. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه لين وهو ثقة. وقال الدارقطني: يعتبر به. وحسن له الترمذي، وصحح له الحاكم، وهو من تساهله. وصحح الطبري حديثه في الكسوف". تهذيب التهذيب 6: 94- 95. وقد روى أحمد هذا الحديث من طريق سفيان الثوري عن عبد الأعلى: 2069، ورواه أيضًا من طريق أبي عوانة عن عبد الأعلى رقم: 3025، بلفظ: "من كذب على القرآن بغير علم". وقلنا في شرح المسند: "إسناده ضعيف لضعف عبد الأعلى الثعلبي" ورواه أحمد أيضًا من أوجه أخر، كلها من رواية عبد الأعلى. وقال ابن كثير في التفسير 1: 11: "هكذا أخرجه الترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري، به. ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الأعلى، به، مرفوعًا وقال الترمذي: هذا حديث حسن". وأخشى أن يكون قول ابن جرير بعد: "وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا ... "، دالا على أنه يصحح حديثه هذا كما صحح حديثه في الكسوف. (2) الخبر 78- في المخطوطة والمطبوعة: "سالم بن جنادة"، وهو خطأ. وفي المخطوطة "أبي نعم" مكان "أبي معمر"، وهو خطأ. وأبو معمر هو: عبد الله بن سخبرة الأزدي، تابعي ثقة، أرسل الحديث عن أبي بكر. وإبراهيم الذي حدث عنه هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي. وقوله "تقلني": أي تحملني. أقل الشيء واستقله: رفعه وحمله. وانظر طرق هذا الخبر في تفسير ابن كثير 1: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 في دين الله بالظنّ، قائلٌ على الله ما لم يعلم. وقد حرَّم الله جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 33] . فالقائل في تأويل كتاب الله، الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعل الله إليه بيانه -قائلٌ بما لا يعلمُ وإن وافق قيله ذلك في تأويله، ما أراد الله به من معناه. لأن القائل فيه بغير علم، قائلٌ على الله ما لا علم له به. وهذا هو معنى الخبر الذي:- 80- حدثنا به العباس بن عبد العظيم العبري، قال: حدثنا حبَّان بن هلال، قال: حدثنا سهيل أخو حزم، قال: حدثنا أبو عمران الجونيّ (1) عن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ (2) . يعني صلى الله عليه وسلم أنه أخطأ في فعله، بقيله فيه برأيه، وإن وافق قِيلُه ذلك عينَ الصَّواب عند الله. لأن قِيله فيه برأيه، ليس بقيل عالم أنّ الذي قال فيه من قول حقٌّ وصوابٌ. فهو قائل على الله ما لا يعلم، آثم بفعله ما قد نُهىَ عنه وحُظِر عليه.   (1) في المطبوعة "سهيل بن أبي حزم"، وهو نفسه "سهيل أخو حزم". وإنما قيل "سهيل أخو حزم" تعريفًا له بأخيه "حزم بن أبي حزم القطعي"، إذ كان أوثق منه وأشهر. و "سهيل" هذا قال البخاري في التاريخ الكبير 2\ 2: 107: "ليس بالقوي عندهم"، وروى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2\ 1: 247-248 عن أبيه، قال: "سهيل بن أبي حزم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، وحزم أخوه أتقن منه". وفي المطبوعة أيضًا "أبو عمران الجويني"، وهو خطأ، وأبو عمران هو: عبد الملك بن حبيب الأزدي البصري. (2) الحديث 80- قال ابن كثير في التفسير 1: 11-12، ونقل الخبر عن الطبري: "وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القطعي. وقال الترمذي: غريب. وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ذكر الأخبار التي رُويت في الحضّ على العلم بتفسير القرآن، ومن كان يفسِّره من الصَّحابة 81- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي، قال سمعت أبي يقول: حدثنا الحسين بن واقد، قال: حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ (1) . 82- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جَرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن، قال: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا: أنهم كانوا يستقرِئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلَّموا عَشْر آيات لم يخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلَّمنا القرآن والعمل جميعًا (2) . 83- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: حدثنا الأعمش، عن مُسْلم، عن مَسْروق، قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره، ما نزلتْ آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلتْ؟ وأينَ أنزلت؟ ولو أعلم مكانَ أحدٍ أعلمَ بكتاب الله مِنّى تنالُه المطايا لأتيته (3) .   (1) الحديث 81- هذا إسناد صحيح. وهو موقوف على ابن مسعود، ولكنه مرفوع معنى، لأن ابن مسعود إنما تعلم القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو يحكي ما كان في ذلك العهد النبوي المنير. (2) الحديث 82- هذا إسناد صحيح متصل. أبو عبد الرحمن: هو السلمي، واسمه عبد الله بن حبيب، وهو من كبار التابعين. وقد صرح بأنه حدثه الذين كانوا يقرئونه، وأنهم "كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم"، فهم الصحابة. وإبهام الصحابي لا يضر، بل يكون حديثه مسندًا متصلا. (3) الحديث 83- أخرجه البخاري، انظر فتح الباري 9: 45-46، ولفظه "تبلغه الإبل لركبت إليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 84- وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: كان عبدُ الله يقرأ علينا السُّورة، ثم يحدِّثنا فيها ويفسِّرها عامَّةَ النهار (1) . 85- حدثني أبو السائب سلم بن جُنادة (2) قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، قال: استعمل عليٌّ ابنَ عباسٍ على الحج، قال: فخطب الناسَ خطبة لو سمعها الترك والرُّوم لأسلموا، ثم قرأ عليهم سُورة النور، فجعل يفسرها. 86- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: قرأ ابنُ عباسٍ سورة البقرة، فجعل يُفسِّرها، فقال رجل: لو سمعتْ هذا الديلمُ لأسلمتْ (3) . 87- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو يمَان: عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر، عن سعيد بنُ جبير، قال: من قرأ القرآنَ ثم لم يُفسِّره، كان كالأعمى أو كالأعرابي (4) .   (1) الحديث 84- شيخ الطبري: هو يحيى بن إبراهيم بن محمد بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. مترجم في التهذيب. وجده "محمد"، وجد أبيه "أبو عبيدة" واسمه "عبد الملك بن معن" - مترجمان فيه أيضًا. ولم نجد ترجمة لأبيه "إبراهيم بن محمد". (2) في المخطوط والمطبوع "سالم"، وانظر ما سلف ص: 87 رقم: 1 (3) الخبران 85-86- ذكرهما الحافظ ابن حجر في الإصابة 4: 93: فذكر أولهما "في رواية أبي العباس السراج من طريق أبي معاوية عن الأعمش". وذكر ثانيهما من رواية "يعقوب بن سفيان عن قبيصة عن سفيان"، وهو الثوري. (4) الأثر 87- أشعث بن إسحاق بن سعد بن مالك بن عامر القمي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وله ترجمة في الكبير للبخاري 1\1: 428، وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1\1: 269. وشيخه "جعفر": هو جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي. وأما الراوي عن أشعث، فقد ذكر هنا باسم "أبو يمان"، و "أبو اليمان" هو الحكم بن نافع، وهو من هذه الطبقة، ولكن لم يذكر أنه يروى عن "أشعث". والراجح عندنا أن صوابه "حدثنا ابن يمان". وابن يمان: هو يحيى بن يمان العجلي الكوفي، وقد ذكر في الرواة عن أشعث، وترجمه البخاري في الكبير 4\2: 313 وقال: "سمع سفيان الثوري وأشعث القمي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 88- وحدثنا أبو كُريب، قال: ذكر أبو بكر بن عياش: الأعمش، قال: قال أبو وائل: وَلى ابنُ عباس الموسمَ؛ فخطبهم، فقرأ على المنبر سُورة النور، والله لو سَمعها الترك لأسلموا. فقيل له: حدِّثنا به عن عاصم؟ فسكت (1) . 89- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعتُ الأعمش، عن شقيق، قال: شهدت ابن عباس وَولىَ الموسم، فقرأ سورة النور على المنبر، وفسرها، لو سمعت الروم لأسلمت (2) ! قال أبو جعفر: وفي حَثِّ الله عز وجلّ عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات (3) - بقوله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [سورة ص: 29] وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سورة الزمر: 27، 28] وما أشبه ذلك من آي القرآن، التي أمر الله عبادَه وحثهم فيها على الاعتبار بأمثال آي القرآن، والاتِّعاظ بمواعظه- ما يدلّ على أنَّ عليهم معرفةَ تأويل ما لم يُحجب عنهم تأويله من آيه. لأنه محالٌ أن يُقال لمن لا يفهمُ ما يُقال له ولا يعقِل تأويلَه: "اعتبرْ بما لا فَهْم لك به ولا معرفةَ من القِيل والبيان والكلام"- إلا على معنى الأمر بأن يفهمَه ويفقَهَه، ثم يتدبَّره ويعتبرَ به. فأما قبلَ ذلك، فمستحيلٌ أمرُه بتدبره وهو بمعناه جاهل. كما محالٌ أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلامَ العرب ولا يفهمونه،   (1) الخبر 88- يريد: أن أبا بكر بن عياش قال: "الأعمش"، ولم يقل: "حدثنا الأعمش" ولم يذكر من الذي حدثه عنه. ففهم السامعون أنه دلس شيخه الذي رواه عنه عن الأعمش، وظنوا أنه عاصم بن أبي النجود، فقالوا له "حدثنا به عن عاصم"، فأبى وسكت. فلعله سمعه من شيخ آخر ضعيف. (2) الخبر 89- ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي. (3) في المطبوعة "المواعظ والتبيان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لو أنشِد قصيدة شعرٍ من أشعار بعض العرب ذاتَ أمثالٍ ومواعظ وحِكم: "اعتبر بما فيها من الأمثال، وادّكر بما فيها من المواعظ"- إلا بمعنى الأمر لها بفهم كلامِ العرب ومعرفتِه، ثم الاعتبار بما نبهها عليه ما فيها من الحكم (1) . فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق، فمحالٌ أمرُها بما دلَّت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعِبَر. بل سواء أمرُها بذلك وأمرُ بعض البهائم به، إلا بعدَ العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها. فكذلك ما في آي كتاب الله من العبر والحِكم والأمثال والمواعظ، لا يجوز أن يقال: "اعتبرْ بها" إلا لمن كان بمعاني بيانه عالمًا، وبكلام العرب عارفًا؛ وإلا بمعنى الأمر -لمن كان بذلك منهُ جاهلا- أنْ يعلم معاني كلام العرب، ثم يتدبَّره بعدُ، ويتعظ بحِكمَه وصُنوف عِبَرِه. فإذْ كان ذلك كذلك -وكان الله جل ثناؤه قد أمر عباده بتدبُّره وحثهم على الاعتبار بأمثاله- كان معلومًا أنه لم يأمر بذلك من كان بما يدُلُّ عليه آيُه جاهلا. وإذْ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهُمْ بما يدلهم عليه عالمون، صحَّ أنهم -بتأويل ما لم يُحجَبْ عنهم علمه من آيه الذي استأثر الله بعلمه منه دون خلقه، الذي قد قدّمنا صفَته آنفًا- عارفون. وإذْ صَحَّ ذلك فسَدَ قول من أنكر تفسيرَ المفسرين -من كتاب الله وتنزيلِه- ما لم يحجب عن خَلقه تأويله.   (1) في المخطوط والمطبوع: "نبهه عليه"، وهو لا يستقيم لاضطراب الضمائر. وقد أعاد الطبري ضمائر هذه الجملة مرة على "بعض" من قوله "بعض أصناف الأمم" فذكر وأفرد. وذلك قوله "أنشد.. واعتبر.. وادكر". ثم أعاد الضمير في سائر الجمل على "أصناف الأمم.." فأنث وجمع، وذلك قوله "نبهها.. وهي جاهلة.. فمحال أمرها..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ذكر الأخبار التي غلِطَ في تأويلها منكر والقول في تأويل القرآن فإن قال لنا قائل: فما أنت قائلٌ فيما:- 90- حدثكم به العباس بن عبد العظيم، قال: حدثنا محمد بن خالد ابن عَثْمة، قال: حدثني جعفر بن محمد الزبيري، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفسِّر شيئًا منَ القرآن إلا آيًا بعَددٍ، علَّمهنّ إياه جبريلُ. 91- حدثنا أبو بكر محمد بن يزيد الطرسوسي، قال: أخبرنا مَعْن، عن جعفر بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفسر شيئًا من القرآن، إلا آيًا بعَددٍ، علمهنّ إياه جبريل عليه السلام (1) .   (1) الحديث 90، 91- هو بإسنادين، ونقلهما ابن كثير في التفسير 1: 14-15 عن الطبري، وقال: "حديث منكر غريب. وجعفر هذا: هو ابن محمد بن خالد بن الزبير العوام القرشي الزبيري، قال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 303، وقال: "رواه أبو يعلى، والبزار بنحوه. وفيه راو لم يتحرر اسمه عند واحد منهما، وبقية رجاله رجال الصحيح. أما البزار فقال: عن حفص أظنه ابن عبد الله عن هشام بن عروة. وقال أبو يعلى: عن فلان بن محمد بن خالد عن هشام". أما ما ذكر عن البزار، فإنه لم يقع له الراوي بنسبه، ووقع له باسم "حفص" فظنه "ابن عبد الله"، ولعله تصحف عليه في نسخته عن "جعفر" أو تصحف من الناسخين، فظنه "جعفر بن عبد الله بن زيد بن أسلم". و "جعفر بن عبد الله" هذا: مترجم في التهذيب، وذكر أنه وقع اسمه في بعض نسخ مسند مالك للنسائي "حفص بن عبد الله". وأيا ما كان فقد بان خطأ البزار في ظنه، وأن الراوي هو "جعفر بن محمد بن خالد الزبيري". و"جعفر الزبيري"، راوي هذا الحديث: ذكر في الإسناد الثاني منسوبًا إلى جده، وهو جعفر بن محمد بن خالد، كما بينه ابن كثير، وكما ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1\1: 487-488، وابن حجر في لسان الميزان 2: 124. وترجمه البخاري في الكبير 1\2: 189 منسوبًا لجده، ثم قال: "قال لي خالد بن مخلد: حدثنا جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام ... وقال معن: عن جعفر بن خالد". والراجح عندي أنه "جعفر بن محمد بن خالد"، لما ذكرنا، ولأن ابن سعد ترجم لجده "خالد بن الزبير" 5: 137، وذكر أولاده، وفيهم "محمد الأكبر" و "محمد الأصغر"، ولم يذكر أن له ولدًا اسمه "جعفر". وسيأتي أن يعل الطبري نفسه هذين الإسنادين بأن جعفرًا راويهما "ممن لا يعرف في أهل الآثار". ص: 89 وقد نقل ابن كثير أن البخاري قال فيه: "لا يتابع في حديثه"، وكذلك نقل الذهبي عنه في الميزان، وتبعه ابن حجر في لسان الميزان. ولكن البخاري ترجم له في التاريخ الكبير، فلم يقل شيئًا من هذا ولم يذكر فيه جرحًا، وكذلك ابن أبي حاتم لم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء. ونقل ابن حجر أن ابن حبان ذكره في الثقات. وأن يذكره البخاري في التاريخ دون جرح أمارة توثيقه عنده. وهذان كافيان في الاحتجاج بروايته. ولئن لم يعرفه الطبري في أهل الآثار لقد عرفه غيره. وفي الإسناد الأول من هذين "محمد بن خالد ابن عثمة"، وقد ترجمه البخاري في الكبير 1\1: 73-74، وقال: "محمد بن خالد، ويقال: ابن عثمة، وعثمة أمه"، ونحو ذلك في الجرح والتعديل 3\2: 243، فينبغي أن ترسم "ابن" بالألف، وهي مرفوعة تبعًا لرفع "محمد" وأمه "عثمة" بفتح العين المهملة وسكون الثاء المثلثة. ومحمد بن خالد هذا: ثقة. وقوله في الروايتين "إلا آيًا بعدد" غيره مصححو المطبوعة "آيا تعد". وفعلوا ذلك في حيث كرر لفظ الحديث بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 92- وحدثنا أحمد بن عَبدة الضبي، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا عُبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير (1) منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيَّب، ونافع. 93- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا بشر بن عمر، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيب عن آيةٍ من القرآن، فقال: لا أقول في القرآن شيئًا. 94- حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئًا.   (1) في المطبوعة: "ليعظمون القول"، وهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 95- حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت الليث يحدث، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيَّب: أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن (1) . 96- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عَبِيدة السلماني عن آيةٍ، قال: عليك بالسَّداد، فقد ذهب الذين علمُوا فيمَ أنزل القرآن. 97- حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابنُ عليَة، عن أيوب وابن عون، عن محمد، قال: سألت عَبِيدة عن آية من القرآن فقال: ذهبَ الذين كانوا يعلَمون فيمَ أنزل القرآن، اتّق الله وعليك بالسَّداد. 98- حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة: أنّ ابن عباس سُئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها. 99- حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاءَ طلْق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله، فسأله عن آية من القرآن، فقال له: أحَرِّج عليك إن كنت مُسلمًا، لمَّا قمت عنى - أو قال: أن تجالسني. 100- حدثني عباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا عبد الله ابن شَوْذَب، قال: حدثني يزيد بن أبي يزيد، قال: كنا نسأل سعيدَ بن المسيَّب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سَكَتَ كأن لم يسمع. 101- وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة، عن عمرو بنُ مرة، قال: سأل رجلٌ سعيد بن المسيب عن آية من القرآن،   (1) في المخطوطة: "إلا في المعلوم من التفسير"، والمعنى قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فقال: لا تسألني عن القرآن، وسَل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه- يعني عكرمة. 102- وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السَّفَر، قال: قال الشعبي: والله مَا مِن آية إلا قد سألتُ عنها، ولكنها الروايةُ عن الله (1) . 103- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن صالح -يعني ابن مسلم- قال: حدثني رجل، عن الشعبي، قال: ثلاثٌ لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي (2) . وما أشبه ذلك من الأخبار؟ (3) . قيل له: أما الخبر الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يفسِّر من القرآن شيئًا إلا آيًا بعَددٍ، فإن ذلك مصحِّح ما قلنا من القول في الباب الماضي قَبْل، وهو: أنّ من تأويل القرآن ما لا يُدرك علمُه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك تفصيل جُمَلِ ما في آيه من أمر الله ونَهْيه (4) وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمَلٌ في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة - لا يدرَك علمُ تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك مما تحويه آيُ القرآن، من سائر حُكْمه الذي جعلَ الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يعلم أحدٌ من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله   (1) الأخبار السالفة جميعًا نقلها ابن كثير عن الطبري في تفسيره 1: 13-14. (2) الأثر 103- صالح بن مسلم: هو البكري، وهو ثقة من الطبقة العليا، كما قال يحيى بن سعيد القطان، فيما نقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2\1: 413. وترجمه البخاري في الكبير أيضًا 2\2: 291. وهو من الرواة عن الشعبي، ولكنه روى عنه هنا بالواسطة، وستأتي رواية له عن الشعبي رقم 114. (3) هذا آخر السؤال الذي بدأ منذ ص: 84. (4) في المطبوعة "وذلك يفصل". والإشارة في قوله "وذلك" إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 صلى الله عليه وسلم إلا بتعليم الله إيَّاه ذلك بوحْيه إليه، إما مع جبريل، أو مع من شاء من رُسله إليه. فذلك هو الآيُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسِّرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه، وهنَّ لا شك آيٌ ذوات عَددٍ. ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثرَ بعلم تأويله، فلم يُطلعْ على علمه مَلَكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلا ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله. فأما ما لا بُدَّ للعباد من علم تأويله، فقد بيّن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل. وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم فقال له جل ذكره: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل: 44] . ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه كان لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 يفسر من القرآن شيئًا إلا آيًا بعَددٍ- هو ما يسبقُ إليه أوهامُ أهل الغياء، من أنه لم يكن يفسّر من القرآن إلا القليل من آيه واليسير من حروفه، كان إنما أُنزلَ إليه صلى الله عليه وسلم الذكرُ ليَترك للناس بيانَ ما أنزل إليهم، لا ليبين لهم ما أُنزل إليهم. وفي أمر الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ببلاغ ما أنزل إليه، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم، وقيامِ الحجة على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ وأدّى ما أمره الله ببلاغه وأدائِه على ما أمره به، وصحةِ الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله (1) : كان الرجل منا إذا تعلم عشرَ آيات لم يجاوزهُن حتى يعلم معانيهنّ والعملَ بهنّ - (2) ما ينبئ عن جهل من ظنَّ أو توهَّم أنّ معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيًا بعَددٍ، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه. هذا مع ما في الخبر الذي رُوي عن عائشة من العلَّة التي في إسناده، التي لا يجوز معها الاحتجاجُ به لأحدٍ ممن علم صحيحَ سَند الآثار وفاسدَها في الدين. لأنّ راويه ممن لا يُعْرف في أهل الآثار، وهو: جعفر بن محمد الزبيري. وأما الأخبار التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من التابعين، بإحجامه عن التأويل، فإنّ فِعلَ من فعل ذلك منهم، كفعل من أحجم منهم عن الفُتيا في النَّوازل والحوادث، مع إقراره بأنّ الله جل ثناؤه لم يقبض نبيه إليه، إلا بعد إكمال الدين به لعباده، وعلمه بأن لله في كل نازلة وحادثة حُكمًا موجودًا بنصٍّ أو دلالة. فلم يكن إحجامُه عن القول في ذلك إحجامَ جاحدٍ أن يكون لله فيه حكم موجود بين أظهُرِ عباده، ولكن إحجامَ خائفٍ أن لا يبلغَ في اجتهاده ما كلَّف الله العلماء من عباده فيه. فكذلك معنى إحجام مَن أحجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من العلماء السَّلف، إنما كان إحجامه عنه حِذارًا أن لا يبلغ أداءَ ما كلِّف من إصابة صوابِ القول فيه، لا على أن تأويل ذلك محجوبٌ عن علماء الأمة، غير موجود بين أظهرهم.   (1) في المطبوعة "قد بلغ فأدى.." و "لقيله". (2) سياق عبارته من أول هذه الفقرة هو: "وفي أمر الله جل ثناؤه.. وفي قيام الحجة..، وفي صحة الخبر.. ما ينبئ.." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 {ذكر الأخبار} {عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودًا علمه بالتفسير} {ومن كان منهم مذمومًا علمه به} 104- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سليمان، عن مسلم، قال: قال عبد الله: نعم تَرْجمانُ القرآن ابنُ عباس. 105- حدثني يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: نعم تَرْجمانُ القرآن ابنُ عباس. 106- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق عن عبد الله، بنحوه. 107- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا طَلق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مُليكة قال: رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحُه، فيقول له ابن عباس: "اكتب"، قال: حتى سأله عن التفسير كلِّه (1) . 108- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحَاربي، ويونس بن بُكير قالا حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضتُ المصحفَ على ابن عباس ثلاث عَرْضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقِفه عند كل آية منه وأسألُه عنها.   (1) الخبر 107- في المطبوعة: "ومع الواحد" وهو تصحيف. وقد نقله ابن كثير في التفسير 1: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 109- وحدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيْريّ، عن أبي بكر الحنفي، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهدٍ فحسبُكَ به. 110- وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا سليمان أبو داود، عن شعبة، عن عبد الملك بن مَيْسَرة، قال: لم يلق الضحّاكُ ابنَ عباس، وإنما لقي سعيدَ ابن جبير بالرّيّ، وأخذ عنه التفسير. 111- حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن مُشَاش، قال: قلت للضحاك: سمعتَ من ابن عباس شيئًا؟ قال: لا 112- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال حدثنا زكريا، قال: كان الشعبي يمرّ بأبي صالح باذان، فيأخُذ بأذنه فيعرُكُها ويقول: تُفسِّر القرآنَ وأنتَ لا تقرأ القرآن! (1) 113- حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبُّويه، قال: حدثنا علي بن الحسين ابن واقد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثني سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [سورة غافر: 20] قال: قادر على أن يجزىَ بالحسنة الحسنة (2) وبالسيئة السيئة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة غافر: 20] ، قال الحسين: فقلت للأعمش: حدَّثني به الكلبي، إلا أنه قال: إنّ الله قادرٌ أن يجزىَ بالسيئة السيئة وبالحسنة عَشْرًا، فقال الأعمش: لو أن الذي عند الكلبي عندي ما خرج مني إلا بخفير (3) .   (1) الأثر 112- أبو صالح باذان، ويقال "باذام": هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب، وهو تابعي ثقة، ومن تكلم فيه فإنما تكلم لكثرة كلامه في التفسير، وفي رواية الكلبي عنه. انظر شرح المسند في الحديث 2030، وهذا الخبر الذي هنا نقله ابن حجر في التهذيب في ترجمته 1: 417 عن زكريا، وهو ابن أبي زائدة. وعرك الأديم والأذن: أخذهما بين يديه أو إصبعيه ودلكهما دلكًا شديدًا. (2) في المخطوطة: "قادر على أن لا يجزى" وهو خطأ. (3) الخبر 113- يأتي هذا الخبر في تفسير سورة غافر: 20. ونصه هناك: "ما خرج مني إلا بحقير"، والذي كان هنا في المطبوعة "ما خرج مني بحقير"، والصواب ما أثبتناه. و "الخفير": مجير القوم الذي يكونون في ضمانه ما داموا في بلاده. وراوى هذا الخبر - علي بن الحسين بن واقد: ضعفه أبو حاتم، وقال البخاري: "كنت أمر عليه طرفى النهار، ولم أكتب عنه". وأبوه حسين بن واقد: ثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 114- حدثني سليمان عبد الجبار، قال: حدثنا علي بن حَكيم الأوْديّ، قال: حدثنا عبد الله بن بُكَير، عن صالح بن مسلم، قال: مرّ الشعبي على السُّدِّي وهو يفسر، فقال: لأن يُضرب على استِك بالطبل، خيرٌ لك من مجلسك هذا (1) . 115- حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدَثني علي بن حَكيم، قال: حدثنا شَريك، عن مسلم بن عبد الرحمن النخعي، قال: كنت مع إبراهيم، فرأى السُّدِّي، فقال: أمَا إنه يُفسِّر تَفسير القوم. 116- حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعتُ سعيد بن بَشِير، يقول عن قتادة، قال: ما أرى أحدًا يجري مع الكلبيّ في التفسير في عِنَان. قال أبو جعفر: قد قلنا فيما مَضى من كتابنا هذا في وُجوه تأويل القرآن، وأن تأويل جميع القرآن على أوجهٍ ثلاثة: أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحَجبَ علمه عن جميع خلقه، وهو أوقاتُ ما كانَ من آجال الأمور الحادثة، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل: وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى بن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك. والوجه الثاني: ما خصَّ الله بعلم تأويله نبيَّه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى   (1) الأثر 114- صالح بن مسلم: مضت ترجمته في الحديث 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 علم تأويله الحاجةُ، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويلَه. والثالث منها: ما كان علمهُ عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، لا يُوصَل إلى علم ذلك إلا من قِبَلهم. فإذ كان ذلك كذلك، فأحقُّ المفسرين بإصابة الحق -في تأويلِ القرآنِ الذي إلى عِلم تَأويله للعباد السبيلُ- أوضحُهم حُجة فيما تأوّل وفسَّر، مما كان تأويله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته (1) من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه: إمَّا من جهة النقل المستفيض، فيما وُجِد فيه من ذلك عنه النقلُ المستفيض، وإمَّا من جهة نقل العدول الأثبات، فيما لم يكن فيه عنه النَّقلُ المستفيض، أو من جهة (2) الدلالة المنصوبة على صحته؛ وأصحُّهم برهانًا (3) -فيما ترجَم وبيّن من ذلك- ممَا كان مُدركًا علمُه من جهة اللسان: (4) إمّا بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإمّا من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائنًا من كان ذلك المتأوِّل والمفسِّر، بعد أن لا يكون خارجًا تأويلُه وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة.   (1) سياق عبارته "أوضحهم حجة.. من أخبار رسول الله.." وما بينهما فصل. (2) كل ما جاء في هذه العبارة من قوله "جهة"، فمكانه في المطبوعة "وجه". (3) في المطبوعة: "وأوضحهم برهانا"، وليست بشيء. وقوله: "وأصحهم برهانًا" معطوف على قوله آنفًا "أوضحهم حجة". (4) ترجم: فسر وبين، كما مضى آنفًا في ص: 70 رقم: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 القول في تأويل أسماء القرآن وسُوَره وآيهِ قال أبو جعفر: إنّ الله تعالى ذكرهُ سمَّى تنزيله الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة: منهن: "القرآن"، فقال في تسميته إياه بذلك في تَنزيله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف: 3] ، وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة النمل: 76] . ومنهنّ: "الفرقان"، قال جل ثناؤه في وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يُسمِّيه بذلك: {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [سورة الفرقان: 1] . ومنهن: "الكتاب": قال تباركَ اسمهُ في تسميته إياه به: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [سورة الكهف: 1] . ومنهنّ: "الذكر"، قال تعالى ذكره في تسميته إياه به: {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9] . ولكلّ اسم من أسمائه الأربعة في كلام العرب، معنى ووجهٌ غيرُ معنى الآخر ووجهه. فأما "القرآن"، فإن المفسرين اختلفوا في تأويله. والواجبُ أن يكون تأويله على قول ابن عباس: من التلاوة والقراءة، وأن يكون مصدرًا من قول القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قرأت، كقولك "الخُسران" من "خَسِرت"، و "الغُفْران" من "غفر الله لك"، و "الكُفران" من "كفرتُك"، "والفرقان" من "فَرَق الله بين الحق والباطل". 117- وذلك أن يحيى بن عثمان بن صالح السهمي حدثني، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: بيَّناه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سورة القيامة: 18] يقول: اعمل به (1) . ومعنى قول ابن عباس هذا: فإذا بيَّناه بالقراءة، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة. ومما يوضح صحة ما قلنا في تأويل حديث ابن عباس هذا، ما:- 118- حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة: 17] قال: أن نُقرئك فلا تنسى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} عليك {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} يقول: إذا تُلي عليك فاتَّبعْ ما فيه (2) . قال أبو جعفر: فقد صرَّح هذا الخبرُ عن ابن عباس: أنّ معنى "القرآن" عنده القراءة، فإنه مصدر من قول القائل: قَرأتُ، على ما بيَّناه. وأما على قول قتادة، فإن الواجب أن يكون مصدرًا، من قول القائل: قرأتُ الشيء، إذا جمعتَهُ وضممتَ بعضه إلى بعض، كقولك: "ما قرأتْ هذه الناقةُ سَلًى قطُّ" (3) تريد بذلك أنها لم تضمُمْ رحمًا على ولد، كما قال عَمرو بن كلثوم التغلبيّ:   (1) الأثر 117- سيأتي في تفسير سورة القيامة: 17-18، وفي إسناده هناك خطأ، ذلك أنه قال: "حدثنا علي قال حدثنا أبو صالح.." وصوابه: "حدثنا يحيى قال حدثنا أبو صالح". وأبو صالح هو: عبد الله بن صالح المبين في إسنادنا هذا. (2) الأثر 118- سيأتي أيضا في تفسير هذه الآية من سورة القيامة. (3) السلى: الجلدة الرقيقة التي يكون الولد في بطن أمه ملفوفًا فيها، وهو في الدواب والإبل: السلى، وفي الناس: المشيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تُرِيكَ -إذَا دَخَلْتَ على خَلاء، ... وَقَدْ أمِنَت عُيُونَ الكاشِحِينا- (1) ذِرَاعَىْ عَيْطَلٍ، أدْماءَ، بِكْرٍ، ... هِجَانِ الّلوْن، لَمْ تَقْرَأ جَنِينا (2) يعني بقوله: "لم تقرأ جنينًا"، لم تضمُمْ رحمًا على ولد. 119- وذلك أن بشر بن مُعاذ العَقَديّ حدثنا قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع قال: حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادةَ في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} يقول: حفظه وتأليفه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} اتَّبع حلاله، واجتنب حرامه. 120- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: حدثنا معمر، عن قتادة بمثله. (3) فرأى قتادة أن تأويلَ "القرآن": التأليفُ. قال أبو جعفر: ولكلا القولين -أعنى قولَ ابن عباس وقول قتادة- اللذين حكيناهما، وجهٌ صحيح في كلام العرب. غيرَ أنّ أولى قولَيْهما بتأويل قول الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قول ابن عباس. لأن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه في غير آيةٍ من تنزيله باتباع ما أوحى إليه، ولم يرخِّص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقتِ تأليفِه القرآنَ له. فكذلك قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} نظير سائر ما في آي القرآن التي أمره الله فيها باتباع ما أوحى إليه في تنزيله.   (1) من معلقته المشهورة. والضمير في قوله: "تريك" إلى أم عمرو صاحبته. والكاشح: العدو المضمر العداوة، المعرض عنك بكشحه. وقوله: "على خلاء"، أي على غرة وهي خالية متبذلة. (2) العيطل: الناقة الطويلة العنق في حسن منظر وسمن. والأدماء: البيضاء مع سواد المقلتين، وخير الإبل الأدم، والعرب تقول: "قريش الإبل أدمها وصهبها"، يعنون أنها في الإبل كقريش في الناس فضلا. ووصفها بأنها بكر، لأن ذلك أحسن لها، وهي في عهدها ذلك ألين وأسمن. وهجان اللون: بيضاء كريمة. وسيأتي هذا البيت الثاني في تفسير الطبري 29: 118 "بولاق". (3) الأثر 119، 120- سيأتي بإسناديه في تفسير سورة القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ولو وَجب أنْ يكون معنى قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فإذا ألَّفناه فاتبع ما ألَّفنا لك فيه - لوجب أن لا يكون كان لزِمه فرضُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ولا فرضُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر: 1، 2] قبل أن يؤلَّف إلى ذلك غيرُه من القرآن. وذلك، إنْ قاله قائل، خروجٌ من قول أهل المِلَّة. وإذ صَحَّ أن حكم كلّ آية من آي القرآن كانَ لازمًا النبيَّ صلى الله عليه وسلم اتباعُه والعملُ به، مؤلَّفة كانت إلى غيرها أو غيرَ مؤلَّفة -صحّ ما قال ابن عباس في تأويل قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أنه يعني به: فإذا بيَّناه لك بقراءتنا، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا- دون قول من قال: معناه، فإذا ألَّفناه فاتَّبع ما ألفناه. وقد قيل إن قول الشاعر: ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوانُ السُّجُودِ بِه ... يُقَطِّع الَّليلَ تَسْبِيحًا وقُرْآنَا (1) يعني به قائله: تسبيحًا وقراءةٌ. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يسمى "قرآنًا" بمعنى القراءة، وإنما هو مقروء؟ قيل: كما جاز أن يسمى المكتوب "كتابًا"، بمعنى: كتاب الكاتب، كما قال الشاعر في صفة كتاب طَلاقٍ كتبه لامرأته: تُؤَمِّل رَجْعةً مِنّى، وفيها ... كِتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِرَاءُ (2)   (1) البيت لحسان بن ثابت، ديوانه: 410، وضحى: ذبح شاته ضحى النحر، وهي الأضحية. واستعاره حسان لمقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35، رضي الله عنهما. والعنوان: الأثر الذي يظهر فتستدل به على الشيء. (2) لم أجد هذا البيت في شيء من المراجع التي بين يدي. وتنصب "مثل" على أنه بيان لحال المفعول المطلق المحذوف، وتقديره: "كتاب لاصق لصوقًا مثل ما لصق الغراء" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يريد: طلاقًا مكتوبًا، فجعل "المكتوب" كتابًا. وأما تأويل اسمه الذي هو "فُرْقان"، فإن تفسيرَ أهل التفسير جاء في ذلك بألفاظ مختلفة، هي في المعاني مؤتلفة. 121- فقال عكرمة، فيما حدثنا به ابن حُميد، قال: حدثنا حَكَّام بن سَلْم، عن عَنْبسة، عن جابر، عن عكرمة: أنه كان يقول: هو النَّجاة. وكذلك كان السُّدِّيّ يتأوَّلهُ. 122- حدثنا بذلك محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المُفَضَّل، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّي - وهو قول جماعة غيرهما. وكان ابن عباس يقول: "الفرقان": المخرَجُ. 123- حدثني بذلك يحيى بن عثمان بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وكذلك كان مجاهد يقول في تأويله بذلك. 124- حدثنا بذلك ابن حُميد، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد (1) . وكان مجاهد يقول في قول الله عز وجل: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [سورة الأنفال: 41] يومٌ فَرَقَ الله فيه بين الحقّ والباطل. 125- حدثني بذلك محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثني أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (2) . وكل هذه التأويلات في معنى "الفرقان" -على اختلاف ألفاظها- متقاربات المعاني. وذلك أنّ من جُعِل له مخرجٌ من أمر كان فيه، فقد جُعل   (1) الآثار السالفة كلها مروية في تفسير آية الأنفال: 29. (2) الأثر 125- يأتي في تفسير آية الأنفال: 41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 له ذلك المخرجُ منه نجاةٌ. وكذلك إذا نُجِّي منه، فقد نُصِر على من بَغَاه فيه سُوءًا، وفُرِق بينه وبين باغيه السُّوءَ. فجميع ما روينا -عمن روينا عنه- في معنى "الفرقان"، قولٌ صحيح المعاني، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك. وأصل "الفُرْقان" عندنا: الفرقُ بين الشيئين والفصل بينهما. وقد يكون ذلك بقضاءٍ، واستنقاذٍ، وإظهار حُجَّة، ونَصْرٍ (1) وغير ذلك من المعاني المفرِّقة بين المحقّ والمبطِل. فقد تبين بذلك أنّ القرآن سُمّي "فرقانًا"، لفصله -بحججه وأدلَّته وحدود فرائضه وسائر معاني حُكمه- بين المحق والمبطل. وفرقانُه بينهما: بنصره المحقّ، وتخذيله المبطل، حُكمًا وقضاءً. وأما تأويل اسمه الذي هو "كتابٌ": فهو مصدر من قولك "كتبت كتابًا" كما تقولُ: قمت قيامًا، وحسبت الشيء حسابًا. والكتابُ: هو خطُّ الكاتب حروفَ المعجم مجموعةً ومفترقة. وسُمي "كتابًا"، وإنما هو مكتوب، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به: وفيها كِتابٌ مثلَ ما لَصِقَ الغِراءُ يعني به مكتوبًا. وأما تأويل اسمه الذي هو "ذِكْرٌ"، فإنه محتمل معنيين: أحدهما: أنه ذكرٌ من الله جل ذكره، ذكَّر به عباده، فعرَّفهم فيه حدوده وفرائضه، وسائرَ ما أودعه من حُكمه. والآخر: أنه ذكرٌ وشرف وفخرٌ لمن آمن به وصدَّق بما فيه، كما قال جل ثناؤه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [سورة الزخرف: 44] ، يعني به أنه شرفٌ له ولقومه.   (1) في المطبوعة: "وتصرف" مكان "ونصر"، وهو خطأ محض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ثم لسوَر القرآن أسماءٌ سمّاها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: 126- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا أبو العوَّام -وحدثني محمد بن خلف العَسْقلاني، قال: حدثنا رَوَّاد بن الجرّاح، قال: حدثنا سعيد بن بَشير، جميعًا- عن قتادة، عن أبي المَليح، عن واثلة بن الأسْقَع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطِيتُ مكان التوراةِ السبعَ الطُّوَل، وأعطيت مكان الزَّبور المِئِين، وأعطيتُ مكان الإنجيل المَثَاني، وفُضِّلت بالمفصَّل (1) . 127- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلية، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قِلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطِيتُ السبعَ الطُّوَل مكان التوراة، وأعطيت المثانِيَ مكانَ الزَّبور، وأعطيت المئين مكانَ الإنجيل، وفُضِّلت بالمفصَّل (2) . قال خالد: كانوا يسمُّون المفصَّل: العربيَّ. قال خالد: قال بعضهم: ليس في العربيّ سجدةٌ.   (1) الحديث 126- رواه الطبري هنا بإسنادين، أحدهما صحيح، والآخر ضعيف: فرواه من طريق أبي داود الطيالسي عن أبي العوام، وهذا إسناد صحيح. ورواه من طريق رواد بن الجراح عن سعيد بن بشير، وهذا إسناد ضعيف- كلاهما عن قتادة. أما طريق الطيالسي، فإنه في مسنده رقم 1012، ورواه أحمد في المسند رقم 17049 (4: 107 طبعة الحلبي) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 158، ونسبه أيضًا للطبراني "بنحوه". وأبو العوام، في الإسناد الأول: هو "عمران بن داور" بفتح الدال وبعد الألف واو مفتوحة وآخره راء- "القطان"، وهو ثقة. وأما الطريق الثاني، ففي إسناده "رواد بن الجراح العسقلاني"، وهو صدوق، إلا أنه تغير حفظه في آخر عمره، كما قال أبو حاتم، فيما نقله عنه ابنه في الجرح والتعديل 1\2: 524، وقال البخاري في الكبير 2\1: 307: "كان قد اختلط، لا يكاد أن يقوم حديثه". و" رواد" بفتح الراء وتشديد الواو وآخره دال. ووقع في الأصول هنا "داود"، وهو خطأ. وفي إسناده أيضًا "سعيد بن بشير"، وهو صدوق يتكلمون في حفظه. ولكن لم ينفرد "رواد" بروايته عن سعيد، فقد ذكره ابن كثير في التفسير 1: 64 من كتاب أبي عبيد: عن هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير، وقال ابن كثير: "هذا حديث غريب، وسعيد بن بشير: فيه لين"، وهو تعليل غير محرر! فإن سعيد بن بشير لم ينفرد به -كما هو ظاهر- بل تأيدت روايته برواية الطيالسي عن أبي العوام عمران بن داور، وهو إسناد صحيح، كما قلنا. وسيأتي بإسناد ثالث، رقم 129. (2) الحديث 127- هذا خبر مرسل عن أبي قلابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 128- وحدثنا محمد بن حميد، قال حدثنا حَكَّام بن سَلْم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن المسيَّب، عن ابن مسعود قال: الطُّوَل كالتوراة، والمئون كالإنجيل، والمثاني كالزَّبور، وسائر القرآن بعدُ فَضْلٌ على الكتب (1) . 129- حدثني أبو عُبيد الوَصَّابي، قال: حدثنا محمد بن حفص، قال: أنبأنا أبو حميد، حدثنا الفزاري، عن ليث بن أبي سُلَيم، عن أبي بُرْدة، عن أبي المَلِيح، عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال أعطاني ربيّ مكانَ التوراة السبعَ الطول، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزَّبور المئين، وفضّلني ربي بالمفصَّل (2) . قال أبو جعفر: والسبع الطُّوَل: البقرةُ، وآل عِمْران، والنساء، والمائدة،   (1) الخبر 128- لم نجد خبر ابن مسعود هذا. و "عاصم": هو ابن أبي النجود، بفتح النون، وهو عاصم بن بهدلة. و "المسيب": هو ابن رافع الأسدي، وهو تابعي ثقة، ولكنه لم يلق ابن مسعود، إنما يروى عن مجاهد ونحوه، كما قال أبو حاتم. انظر التهذيب 10: 153، والمراسيل لابن أبي حاتم: 76، وشرح المسند، في الحديث: 3676. (2) الحديث 129- هذا إسناد آخر للحديث الماضي 126، وهو إسناد مشكل، لم تستبن لنا حقيقته: فأوله "أبو عبيد الوصابي حدثنا محمد بن حفص"! كذا وقع في الأصول. وأخشى أن يكون خطأ، بل لعله الراجح عندي، فإن أبا عبيد الوصابي: هو محمد بن حفص نفسه، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3\2: 237، قال: "محمد بن حفص الوصابي الحمصي أبو عبيد، روى عن محمد بن حمير وأبي حيوة شريح بن يزيد. أدركته وأردت قصده والسماع منه، فقال لي بعض أهل حمص: ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير، فتركته". وترجمه الحافظ في لسان الميزان 5: 146 بنحو هذا، وزاد أن ابن مندة ضعفه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات. وكذلك ذكره الدولابي في الكنى 2: 75، 76 باسمه وكنيته، وروى حديثًا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبيد هذا. ثم "أبو حميد" الراوي عنه محمد بن حفص: لم أستطع أن أعرف من هو؟ وكذلك "الفزاري" شيخ أبي حميد، وقد يكون هو أبا إسحاق الفزاري. وأما أبو بردة: فهو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو يروي في هذا الإسناد عن أبي المليح بن أسامة الهذلي، وكلاهما تابعي، إلا أن أبا بردة أكبر من أبي المليح، فيكون من رواية الأكابر عن الأصاغر. وفي مجمع الزوائد 7: 158 حديث نحو هذا من حديث أبي أمامة، قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه ليث بن أبي سليم، وقد ضعفه جماعة، ويعتبر بحديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 والأنعام، والأعراف، ويونس،، في قول سعيد بن جبير (1) . 130- حدثني بذلك يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم، عن أبي بِشر، عن سعيد بن جبير. وقد روي عن ابن عباس قولٌ يدلّ على موافقته قولَ سعيد هذا. 131- وذلك ما حدثنا به محمد بن بَشَّار، قال: حدثنا ابن أبي عَديّ، ويحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، وسهل بن يوسف، قالوا: حدثنا عَوْف، قال: حدثني يزيد الفارسيّ، قال: حدثني ابن عباس: قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عَمَدْتُم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطرًا: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتموهما في السبع الطُّوَل؟ ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا يأتي عليه الزمانُ وهو تُنزل عليه السُّورُ ذواتُ العَدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا ببعض من كان يكتبُ فيقول: ضَعُوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءةُ من آخر القرآن نزولا وكانت قِصَّتُها شبيهةً بقصتها، فظننت أنها منها. فقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنتُ بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتهما في السبَّع الطُّوَل" (2) . فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رحمة الله عليه، أنه لم يكن تَبيَّن له أنَّ   (1) انظر تفسير ابن كثير في أول سورة البقرة 1: 64. و "الطول"، بضم الطاء وفتح اللام: جمع "الطولى"، مثل "الكبر" و "الكبرى". (2) الخبر 131 - رواه أحمد بن حنبل في المسند عن يحيى بن سعيد، وعن إسماعيل بن إبراهيم، وعن محمد بن جعفر، كلهم عن عوف الأعرابي، بهذا الإسناد، مطولا، برقمي: 399، 499 وهو حديث ضعيف جدًا، فصلت طرقه، ووجه ضعفه، في شرح المسند: 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الأنفال وبراءةَ من السبع الطُّوَل، ويصرِّح عن ابن عباس انه لم يكن يَرى ذلك منها. وإنما سميت هذه السور السبعَ الطُّوَل، لطولها على سائر سُوَر القرآن. وأما "المئون: فهي ما كان من سور القرآن عددُ آية مئة آية، أو تزيد عليها شيئا أو تنقص منها شيئا يسيًرا. وأما "المثاني: فإنها ما ثَنيَّ المئين فتلاها، وكان المئون لها أوائلَ، وكان المثاني لها ثواني. وقد قيل: إن المثاني سميت مثاني، لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثالَ والخبرَ والعبرَ، وهو قول ابن عباس. 132- حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وروى عن سعيد بن جبير، أنه كان يقول: إنما سميت مثاني لأنها ثنيت فيها الفرائضُ والحدود. 133- حدثنا بذلك محمد بن بَشَّار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير. وقد قال جماعة يكثر تعدادهم: القرآن كله مَثانٍ. وقال جماعة أخرى: بل المثاني فاتحة الكتاب، لأنها تُثْنَى قراءتُها في كل صلاة. وسنذكر أسماء قائلي ذلك وعللَهم، والصوابَ من القول فيما اختلفوا فيه من ذلك، إذا انتهينا إلى تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر: 87] إن شاء الله ذلك. وبمثل ما جاءتْ به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء سور القرآن التي ذُكرَتْ، جاء شعرُ الشعراء. فقال بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 حَلفتُ بالسَّبع اللّواتي طُوِّلتْ ... وبِمِئينَ بعدَها قد أُمْئِيَت (1) وبمَثَانٍ ثُنِّيتْ فكُرِّرتْ ... وبالطَّواسِينِ التي قد ثُلِّثَتْ (2) وبالحَوامِيم اللَّوَاتِي سُبِّعتْ ... وبالمفصَّلِ اللَّواتِي فُصِّلتْ (3) قال أبو جعفر رحمة الله عليه: وهذه الأبيات تدل على صحّة التأويل الذي تأوَّلناه في هذه الأسماء. وأما "المفصَّل": فغنها سميت مفصَّلا لكثرة الفصول التي بين سورَها ب "بسم الله الرحمن الرحيم". قال أبو جعفر: ثم تسمى كل سورة من سور القرآن "سورة"، وتجمع سُوَرًا"، على تقدير "خُطبة وخُطب"، "وغُرفة وغُرَف". والسورة، بغير همز: المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سُور المدينة، سمي بذلك الحائطُ الذي يحويها، لارتفاعه على ما يحويه. غير أن السُّورة من سُور المدينة لم يسمع في جمعها "سُوَر"، كما سمع في جمع سورة من القرآن "سور". قال العجاج في جمع السُّورة من البناء: فرُبَّ ذِي سُرَادِقٍ مَحْجُورِ ... سُرْتُ إليه في أعالي السُّورِ (4) فخرَج تقدير جمعها على تقدير جَمع بُرَّة وبُسْرة، لأن ذلك يجمع بُرًّا وبُسرًا. وكذلك لم يسمع في جمع سورة من القرآن سُوْرٌ، ولو جمعت كذلك لم يكن خطأ في القياس، إذا أريد به جميعُ القرآن. وإنما تركوا -فيما نرى- جمعه كذلك، لأن كل جمع كان بلفظ الواحد المذكَّر مثل: بُرّ وشعير وقَصَب وما أشبه ذلك، فإن   (1) الأبيات في مجاز القرآن لأبي عبيدة: 7. أمأيت لك الشيء: أكملت لك عدته حتى بلغ المئة. (2) الطواسين التي ثلثت، يعني طسم الشعراء، وطس النمل، وطسم القصص. (3) الحواميم التي سبعت: سبع سور من سورة غافر إلى سورة الأحقاف. (4) ديوانه: 27. والسرادق: كل ما أحاط بالشيء واشتمل عليه، من مضرب أو خباء أو بناء. ويعني حريم الملك. ومحجور: محرم ممنوع لا يوطأ إلا بإذن. وسار الحائط يسوره وتسوره: علاه وتسلقه. "سرتُ إليه": تسلقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 جِماعَه يجري مجرى الواحد من الأشياء غيره (1) . لأن حكم الواحد منه منفردًا قَلَمَّا يُصاب، فجرى جماعه مجرى من الأشياء غيره (2) ثم جُعلت الواحدة منه كالقطعة من جميعه، فقيل: بُرَّة وشعيرة وقصبة، يراد به قطعة منه (3) . ولم تكن سور القرآن موجودةً مجتمعةً اجتماعَ البرّ والشعير وسور المدينة، بل كلّ سورة منها موجودةٌ منفردة بنفسها، انفرادَ كل غُرْفة من الغُرف وخُطبة من الخطب، فجُعِل جمعُها جمع الغُرَف والخطب، المبنيِّ جمعها من واحدها. ومن الدلالة على أنّ معنى السورة: المنزلةُ من الارتفاع، قول نابغة بني ذُبيان: أَلَمْ تَرَ أنَّ الله أعطاكَ سُورَةً ... تَرَى كلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ (4) يعني بذلك: أنّ الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصَّرت عنها منازلُ الملوك. وقد همز بعضهم السورةَ من القرآن. وتأويلُها، في لغة من هَمَزها، القطعةُ التي قد أفضِلت من القرآن عما سواها وأبقيت. وذلك أن سؤر كل شيء: البقية منه تَبقى بعدَ الذي يُؤخذ منه، ولذلك سميت الفضْلة من شراب الرجل -يشرَبُه ثم يُفضلها فيبقيها في الإناء- سُؤْرًا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، يصف امرأةً فارقته فأبقت في قلبه من وجْدِها بقية: فبَانَتْ، وقد أَسْأَرتْ في الفُؤادِ ... صَدْعًا، على نَأيِهَا، مُسْتَطِيَرا (5)   (1) في المطبوعة: "فإن جماعه كالواحد". وفي المخطوطة "فإن جماعه مجرى الواحد"، سقط من الناسخ قوله "يجري ... ". (2) في المطبوعة "مفردا" مكان "منفردا". (3) يعني أنه اسم جنس، سبق الجمع الواحد. لأنه لم يوضع للآحاد، وإنما وضع لجملته مجتمعًا، وهو الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء. (4) ديوانة: 57، ويأتي في تفسير الطبري: 215 (بولاق) . يتذبذب: يضطرب ويحار. والذبذبة: تردد الشيء المعلق في الهواء يمنة ويسرة. يقول: أعطاك الله من المنزلة الرفيعة، ما لو رامه ملك وتسامى إليه، بقى معلقًا دونها حائرًا يضطرب ويتردد، لا يطيق أن يبلغها. (5) ديوانه: 67، ويأتي في تفسير للطبري 29: 129 (بولاق) . استطار الصدع في الزجاجة وغيرها: تبين فيها من أولها إلى آخرها، وفشا وامتد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقال الأعشى في مثل ذلك: بَانَتْ، وقد أَسْأَرْت في النَّفس حَاجتَهَا، ... بعدَ ائتِلاف; وخيرُ الوُدِّ ما نَفَعَا (1) وأما الآية من آي القرآن، فإنها تحتمل وجهين في كلام العرب: أحدهُما: أن تكون سمِّيت آية، لأنها علامةٌ يُعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالةً على الشيء يُستدلْ بها عليه، كقول الشاعر: ألِكْنى إليها، عَمْرَك اللهُ يا فَتى، ... بآيةِ ما جَاءتْ إلينا تَهَادِيَا (2) يعني: بعلامة ذلك (3) . ومنه قوله جل ذكرُه: {رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ} [سورة المائدة: 114] أي علامةً منك لإجابتك دُعاءنا وإعطائك إيَّانا سُؤلَنا. والآخر منهما: القصةُ، كما قال كعب بن زهير بن أبي سُلمى: ألا أبْلغا هذا المُعَرِّض آيَةً: ... أَيْقَظانَ قالَ القولَ إذْ قَالَ، أمْ حَلَم (4) يعني بقوله "آية": رسالةً منّي وخبرًا عني. فيكون معنى الآيات: القصص، قصةٌ تتلو قصةً، بفُصُول ووُصُول.   (1) ديوانه: 73. "بعد ائتلاف": أي بعد ما كنا فيه من جمّاع وألفة. (2) الشعر لسحيم عبد بني الحسحاس، ديوانه: 19، ويأتي في تفسير الطبري 1: 156 (بولاق) ألكنى إليها: أبلغها رسالة مني، والرسالة: الألوك والمألكة. وتهادى في مشيه: تمايل دلالا أو ضعفًا. (3) في المخطوطة: "بعلامة دلت"، وهو خطأ. (4) ديوانه: 64، وروايته: "أنه أيقظان". وقد استظهرت في شرح كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 89، أن الصواب "آية"، كما جاء في مخطوطة الطبقات، وشرح الطبري دال على صواب ما استظهرت. وأهملت كتب اللغة تفسير هذا الحرف على وجهه، مع مجيئه في شعر كعب وغيره، كقول حجل بن نضلة: أبلغْ معاويةَ الممزَّق آيَةً ... عنِّي، فلستُ كبَعض من يتَقَوَّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 { القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب } قال أبو جعفر: صَحَّ الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:- 134- حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هي أمّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني (1) . فهذه أسماءُ فاتحة الكتاب. وسمّيت "فاتحة الكتاب"، لأنها يُفتتح بكتابتها المصاحف، ويُقرأ بها في الصلوات، فهي فَواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة. وسمّيت "أم القرآن" لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخُّر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة. وذلك من معناها شبيهٌ بمعنى فاتحة الكتاب. وإنما قيل لها -بكونها كذلك- أمَّ القرآن، لتسمية العرب كل جامع أمرًا -أو مقدِّمٍ لأمر إذا كانت له توابعُ تتبعه، هو لها إمام جامع- "أمًّا". فتقول للجلدة التي تجمع الدُّماغ: "أم الرأس" (2) . وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش - "أمًّا". ومن ذلك قول ذي الرُّمة، يصف رايةً معقودة على قناة يجتمع تحتها هو وصحبُه:   (1) الحديث 134 -رواه أحمد في المسند: 9787 (3: 448 طبعة الحلبي) . والبخاري 8: 289 فتح الباري- كلاهما من طريق ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد. ولفظ أحمد: "قال في أم القرآن: هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم". ولفظ البخاري: "أم القرآن: هي السبع المثاني، والقرآن العظيم". وذكره ابن كثير في التفسير 1: 21، من روايتي المسند والطبري. وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 3، ونسبه أيضًا للدارمي وأبي داود والترمذي وابن المنذر وغيرهم. وسيذكره الطبري مرة أخرى، في تفسير الآية 87 من سورة الحجر (14: 40- 41 من طبعة بولاق) ، بهذا الإسناد. (2) في المخطوطة: "تلي للدماغ"، وهذه أجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَأَسَمْرَ، قَوَّامٍ إذَا نَام صُحْبَتِي، ... خَفِيفِ الثِّيابِ لا تُوَارِي لَهُ أَزْرَا (1) عَلَى رَأْسِه أمٌّ لنا نَقْتَدِي بِهَا، ... جِماعُ أمورٍ لا نُعاصِي لَهَا أمْرَا (2) إذَا نزلتْ قِيلَ: انزلُوا، وإذا غدَتْ ... غَدَتْ ذاتَ بِرْزيقٍ نَنَال بِهَا فَخْرَا (3) يعني بقوله: "على رأسه أمٌّ لنا"، أي على رأس الرمح رايةٌ يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدوّ. وقد قيل إن مكة سميت "أمّ القُرى"، لتقدُّمها أمامَ جميعِها، وجَمْعِها ما سواها. وقيل: إنما سُميت بذلك، لأن الأرض دُحِيَتْ منها فصارت لجميعها أمًّا. ومن ذلك قولُ حُميد بن ثَوْر الهلاليّ: إذا كانتِ الخمسُونَ أُمَّكَ، لَم يكنْ ... لِدَائك، إلا أَنْ تَمُوت، طَبِيبُ (4) لأن الخمسين جامعةٌ ما دونها من العدد، فسماها أمًّا للذي قد بلغها.   (1) ديوانه: 183، مع اختلاف في بعض الرواية، ورواية الطبري أجودهما. أسمر: يعني رمحًا أسمر القناة. قوام: يظل الليل قائمًا ساهرًا. خفيف الثياب: يعني اللواء. والأزر: الظهر. يقول: رمح أسمر عاري الثياب، لا يواري اللواء ظهره كما يواري الثوب ظهر اللابس. (2) في الديوان: "يهتدي"، والصواب "نهتدي". وأمه التي ذكر، هي اللواء، ويقال للواء وما لف على الرمح منه: أم الرمح. وجماع أمور: أي تجمعها فتجتمع عليها، وفي الحديث: "حدثني بكلمة تكون جماعًا. قال: اتق الله فيما تعلم". والأمور جمع أمر: يعني شئونًا عظامًا. وأما قوله: لا نعاصي لها أمرًا. فهو من الأمر نقيض النهي. (3) "نزلت" يعني الراية. و "غدت": سارت غدوة. وفي المطبوعة "ذات تزريق" وهو خطأ. والبزريق: الموكب الضخم فيه جماعات الناس. وقوله: "ننال بها فخرًا" أي نغزو في ظلالها، فنظهر على عدونا ونظفر ونغنم، وذلك هو الفخر. وفي الديوان: "تخال بها فخرًا" وفي المخطوطة: "تخال لها"، كأنه من صفة الراية نفسها، تهتز وتميل فخرًا وتيهًا لكثرة أتباعها من الغزاة والفرسان. (4) الشعر ليس لحميد بن ثور، ولا هو في ديوانه، بل هو لأبي محمد التيمي عبد الله بن أيوب، مولى بني تيم ثم من بني سليم، من أهل الكوفة، من شعراء الدولة العباسية. أحد الخلعاء المجان الوصافين للخمر، كان صديقا لإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، ونديمًا لهما. ثم اتصل بالبرامكة ومدحهم، واتصل بيزيد بن مزيد، فلم يزل منقطعًا إليه حتى مات يزيد. الأغاني 18: 115. وهذا البيت من قصيدة له، روى بعض أبياتها الجاحظ في البيان 3: 195، وابن قتيبة في عيون الأخبار 2: 322، والراغب في محاضرات الأدباء 2: 198، ومجموعة المعاني: 124، والشعر فيها جميعًا منسوب لأبي محمد التيمي، وهو: إذا كانت السبعون سنّك، لم يكُن ... لدائِك، إلا أن تَموتَ، طبيبُ وإن امرأً قد س ... إلى مَنْهلٍ، مِن وِرْدِه لقريبُ إذا ما خلوتَ الدَّ ... خلوتُ، ولكن قلْ عليَّ رقيبُ إذا مَا انقَضَى القَرْن ... وخُلِّفْت في قرنٍ فأنت غريبُ وللبيت الثاني قصة في أمالي القالي 3: 1، وانظر زهر الآداب 3: 221، وذكر البيت الثاني والرابع وقال: "قال دعبل: وتزعم الرواة أنه لأعرابي من بني أسد". واختلفوا في رواية قوله: "السبعون سنك"، ففيها "الخمسون"، و "الستون". ولم أجد روايته "أمك" مكان "سنك" إلا في كتاب الطبري وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأما تأويل اسمها أنها "السَّبْعُ"، فإنها سبعُ آيات، لا خلاف بين الجميع من القرَّاء والعلماء في ذلك. وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات. فقال عُظْمُ أهل الكوفة: صارت سبع آيات ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ورُوي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين. وقال آخرون: هي سبع آيات، وليس منهن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولكن السابعة "أنعمت عليهم". وذلك قول عُظْم قَرَأةِ أهل المدينة ومُتْقنيهم (1) . قال أبو جعفر: وقد بيَّنا الصواب من القول عندنا في ذلك في كتابنا: (اللطيف في أحكام شرائع الإسلام) بوجيز من القول، ونستقصي بيان ذلك بحكاية أقوال المختلفين فيه من الصحابة والتابعين والمتقدمين والمتأخرين في كتابنا: (الأكبر في أحكام شرائع الإسلام) إن شاء الله ذلك. وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم آياتها السبعَ بأنهن مَثان، فلأنها تُثْنَى قراءتها في كل صلاة وتطوُّع ومكتوبة. وكذلك كان الحسن البصري يتأوّل ذلك. 135- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُليَة، عن أبي رَجاء، قال سألت الحسن عن قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}   (1) في المطبوعة: "أعظم أهل الكوفة ... " ثم "أعظم قراء أهل المدينة". وهو تغيير. وعظم الشيء أو الناس: معظمهم وأكثرهم. و "قرأة" جمع قارئ. وانظر ما سلف: 51- 52 التعليق رقم: 3 وص 64 تعليق رقم: 4. وفي المطبوعة "ومتفقهيهم"، غيروه أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 [سورة الحجر: 87] قال: هي فاتحة الكتاب. ثم سئل عنها وأنا أسمع فقرأها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتى على آخرها، فقال: تُثْنَى في كل قراءة - أو قال - في كل صلاة. الشك من أبي جعفر الطبري (1) . والمعنى الذي قلنا في ذلك قصد أبو النجم العجلي بقوله: الحمدُ لله الذي عَافَانِي ... وكلَّ خَيْر بعدَهُ أَعْطانِي مِنَ القُرَآن ومِنَ المَثَاني (2) وكذلك قول الراجز الآخر: نَشَدْتُكم بِمُنزل الفُرقانِ ... أمِّ الكِتَاب السَّبع من مَثَانِي (3) ثُنِّينَ مِنْ آيٍ من القُرْآنِ ... والسَّبعِ سبعِ الطُّوَل الدَّوانِي (4) وليس في وجوب اسم "السبع المثاني" لفاتحة الكتاب، ما يدفع صحة وجوب اسم "المثاني" للقرآن كله، ولما ثَنَّىالمئين من السور (5) . لأن لكلٍّ وجهًا ومعنًى مفهومًا، لا يَفْسُد - بتسميته بعضَ ذلك بالمثاني - تسميةُ غيره بها. فأما وجه تسمية ما ثَنَّى المئينَ من سور القرآن بالمثاني، فقد بينا صحته، وسندُلّ على صحة وجه تسمية جميع القرآن به عند انتهائنا إليه في سورة الزُّمَر، إن شاء الله.   (1) الأثر 135- سيأتي في تفسير الآية: 87 سورة الحجر 14: 38 - 39 (بولاق) ، بهذا الإسناد، بلفظ "في كل قراءة"، ولم يشك الطبري هناك. و "أبو رجاء"، في هذا الإسناد: هو "محمد بن سيف الأزدي الحداني البصري"، وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي وغيرهم. (2) اللسان (ثنى) : ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 7. وقوله "بعده" الضمير عائد بالتذكير إلى معنى العافية في البيت السالف. ورواية اللسان وأبي عبيدة "وكل خير صالح"، ثم روى الأخير: "رب مثاني الآي والقرآن" (3) مجاز القرآن لأبي عبيدة: 7 "أم الكتاب" بدل من "الفرقان". (4) في المطبوعة "تبين" ولا معنى لها، ومكان هذه الكلمة بياض في المخطوطة. و "ثنين": كررن مرة بعد مرة. وقوله "الدواني" مكانها بياض في المخطوطة. وكأنه أراد جمع دانية، ووصفها بأنها "دواني"، أي قطوفها دانية. (5) في المطبوعة: "وجود" مكان "وجوب" في الموضعين السالفين. وفي المطبوعة "ولما يثنى من السور"، وهي في المخطوطة: "ولما هي المئين ... " وكلتاهما خطأ. وقد سلف في ص: 103 قوله: "وأما المثاني، فإنها ما ثنى المئين فتلاها، وكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثواني" وثنى: أتى ثانيًا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 القول في تأويل الاستعاذة تأويل قوله: {أَعُوذُ} . قال أبو جعفر: والاستعاذة: الاستجارة. وتأويل قول القائل: {أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أستجيرُ بالله - دون غيره من سائر خلقه - من الشيطان أن يضرَّني في ديني، أو يصدَّني عن حق يلزَمُني لرَبي. تأويل قوله: {مِنَ الشَّيْطَانِ} قال أبو جعفر: والشيطان، في كلام العرب: كل متمرِّد من الجن والإنس والدوابِّ وكل شيء. وكذلك قال ربّنا جل ثناؤه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ} [سورة الأنعام: 112] ، فجعل من الإنس شياطينَ، مثلَ الذي جعل من الجنّ. وقال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه، وركب بِرذَوْنًا فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا، فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطانٍ! ما نزلت عنهُ حتى أنكرت نَفسي. 136- حدثنا بذلك يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر (1) . قال أبو جعفر: وإنما سُمي المتمرِّد من كل شيء شيطانًا، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاقَ سائر جنسه وأفعاله، وبُعدِه من الخير. وقد قيل: إنه أخذ من   (1) الأثر: 136 نقله ابن كثير في التفسير 1: 32 من رواية ابن وهب، بهذا الإسناد. وقال "إسناده صحيح". وذكر الطبري في التاريخ 4: 160 نحو معناه بسياق آخر، بدون إسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قول القائل: شَطَنَتْ دَاري من دارك - يريد بذلك: بَعُدت. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان: نأتْ بِسُعَادَ عَنْك نَوًى شَطُونُ ... فبانَت، والفؤادُ بها رَهِينُ (1) والنوى: الوجه الذي نَوَتْه وقصَدتْه. والشَّطونُ: البعيد. فكأن الشيطان - على هذا التأويل - فَيعَال من شَطَن. ومما يدلّ على أن ذلك كذلك، قولُ أميّة ابن أبي الصّلت: أَيُّمَا شاطِن عَصَاه عَكاهُ ... ثُم يُلْقَى في السِّجْن والأكْبَالِ (2) ولو كان فَعلان، من شاطَ يشيط، لقال أيُّما شائط، ولكنه قال: أيما شاطنٍ، لأنه من "شَطَن يَشْطُنُ، فهو شاطن". تأويل قوله: (الرَّجِيمِ) . وأما الرجيم فهو: فَعيل بمعنى مفعول، كقول القائل: كفٌّ خضيبٌ، ولحيةٌ دهين، ورجل لَعينٌ، يريد بذلك: مخضوبة ومدهونة وملعون. وتأويل الرجيم: الملعون المشتوم. وكل مشتوم بقولٍ رديء أو سبٍّ فهو مَرْجُوم. وأصل الرجم الرَّميُ، بقول كان أو بفعل. ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لإبراهيم صلوات الله عليه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ} [سورة مريم: 46] . وقد يجوز أن يكون قِيل للشيطان رجيمٌ، لأن الله جل ثناؤه طرَده من سَمواته، ورجمه بالشُّهب الثَّواقِب (3)   (1) زيادات ديوانه: 20. (2) ديوانه: 51، واللسان (شطن) و (عكا) . وعكاه في الحديد والوثاق: شده شدًّا وثيقًا. والأكبال جمع كبل: وهو القيد من الحديد. وأظنه أراد هنا البيت في السجن المضبب بالحديد، من قولهم: كبله كبلا: حبسه في سجن. هذا ما أستظهره من سياق الشعر. (3) الشهب، جمع شهاب: وهو الشعلة من النار، ثم استعير للكوكب الذي ينقض بالليل. والثواقب، جمع ثاقب: وهو المضيء المشتعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقد رُوي عن ابن عباس، أن أول ما نزل جبريلُ على النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمه الاستعاذة. 137- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سَعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أول ما نزل جبريلُ على محمد قال: "يا محمد استعذ، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم"، ثم قال: قل: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها الله على محمد بلسان جبريل (1) . فأمره أن يتعوذ بالله دون خلقه.   (1) الحديث 137- نقله ابن كثير في التفسير 1: 30 عن هذا الموضع من الطبري، وقال: "وهذا الأثر غريب! وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا". وسيرويه الطبري بعد ذلك، برقمي 138، 139، بهذا الإسناد نفسه، بأطول مما هنا. وسنذكر الضعف الذي أشار إليه ابن كثير: وقوله "استعذ" ليست في المطبوعة. أما عثمان بن سعيد، فهو الزيات الأحول، مترجم في التهذيب، وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3\ 1\ 152، وروى عن أبيه أنه قال: "لا بأس به". وأما بشر بن عمارة، فهو الخثعمي الكوفي، وهو ضعيف، قال البخاري في التاريخ الكبير 1\ 2\ 81 "تعرف وتنكر"، وقال النسائي في الضعفاء: ص 6 "ضعيف"، وقال الدارقطني: "متروك"، وقال ابن حبان في كتاب المجروحين: ص 125 رقم 132: "كان يخطئ حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، ولم يكن يعلم الحديث ولا صناعته"، وأما شيخه أبو روق - بفتح الراء وسكون الواو - فهو عطية بن الحارث الهمداني، وهو ثقة، وقال أحمد والنسائي: "لا بأس به". وأما الانقطاع الذي أشار إليه ابن كثير، فمن أجل اختلافهم في سماع الضحاك بن مزاحم الهلالي من ابن عباس. وقد رجحنا في شرح المسند: 2262 سماعه منه. وكفى ببشر بن عمارة ضعفًا في الإسناد، إلى نكارة السياق الذي رواه وغرابته!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 القول في تأويل (بسم الله الرحمن الرحيم) القول في تأويل قوله: {بِسْمِ} . قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه أدّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدَّم إليه في وَصفه بها قبل جميع مُهمَّاته (1) ، وجعل ما أدّبه به من ذلك وعلَّمه إياه، منه لجميع خلقه سُنَّةً يستَنُّون بها (2) ، وسبيلا يتَّبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم (3) ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: "بسم الله"، على من بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء من "بسم الله" مقتضية فعلا يكون لها جالبًا، ولا فعلَ معها ظاهرٌ، فأغنت سامعَ القائل "بسم الله" معرفتُه بمراد قائله، عن إظهار قائل ذلك مُرادَه قولا إذْ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرًا، قد أحضرَ منطقُه به -إمّا معه، وإمّا قبله بلا فصْلٍ- ما قد أغنى سامِعَه عن دلالةٍ شاهدةٍ على الذي من أجله افتتح قِيلَه به (4) . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظيرَ استغنائه - إذا سمع قائلا قيل له: ما أكلت اليوم؟ فقال: "طعامًا" - عن أن يكرّر المسئُولُ مع قوله "طعامًا"، أكلت، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه (5) ، بتقدُّم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذًا أنّ قول   (1) تقدم إليه بشيء: أمره بفعله أو إتيانه. (2) يقول: جعل الله ذلك سنة منه لجميع خلقه يستنون بها. فقدم قوله "منه لجميع خلقه". (3) في المطبوعة: "في افتتاح. . . " والضمير في "فبه" عائد إلى "ما أدبه به". (4) في المطبوعة: "من إظهار"، "من دلالة شاهدة". (5) معناه: أي ما يعنيه ويقصده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 القائل إذا قال: "بسم الله الرحمن الرحيم" ثم افتتح تاليًا سورةً، أن إتباعه "بسم الله الرحمن الرحيم" تلاوةَ السورة، يُنبئ عن معنى قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" ومفهومٌ به أنه مريد بذلك: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: "بسم الله" عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبئ عن معنى مراده بقوله "بسم الله"، وأنه أراد بقِيلِه "بسم الله"، أقوم باسم الله، وأقعد باسم الله. وكذلك سائر الأفعال. وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس الذي:- 138 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشرُ بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: إنَّ أول ما نزل به جبريلُ على محمد، قال: "يا محمد، قُل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم" ثم قال: "قل بسم الله الرحمن الرحيم". قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله. (1) قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويلُ قوله "بسم الله" ما وصفتَ، والجالبُ الباءَ في "بسم الله" ما ذكرتَ، فكيف قيل "بسم الله"، بمعنى أقرأ باسم الله"، أو أقوم أو أقعد باسم الله؟ وقد علمتَ أن كلَّ قارئٍ كتابَ الله، فبعَوْن الله وتوفيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعلٍ فعلا فبالله قيامُه وقعودُه وفعلُه. وهَلا - إذْ كان ذلك كذلك - قيل "بسم الله الرحمن الرحيم" ولم يَقُل "بسم الله"؟ فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله - أوضحُ معنى لسامعه من قوله "بسم الله"، إذ كان قوله أقوم "أقوم أو أقعد باسم الله"، يوهم سامعَه أن قيامه وقعوده بمعنى غيرِ الله. قيل له، وبالله التوفيق: إن المقصودَ إليه من معنى ذلك غيرُ ما توهَّمته في نفسك. وإنما معنى قوله "بسم الله": أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء،   (1) الحديث 138- مضى مختصرًا، بهذا الإسناد 137. وفصلنا القول فيه هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أو أقرأ بتسميتي اللهَ، أو أقوم وأقعد بتسميتي اللهَ وذكرِه - لا أنه يعني بقِيلِه "بسم الله": أقوم بالله، أو أقرأ بالله، فيكونَ قولُ القائل: أقرأ بالله، أو أقوم أو أقعد بالله - أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله "بسم الله". فإن قال: فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ، فكيف قيل: "بسم الله" وقد علمتَ أنّ الاسم اسمٌ، وأن التسمية مصدرٌ من قولك سَمَّيت؟ قيل: إن العربَ قد تخرج المصادرَ مبهمةً على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمتُ فلانًا كرامةً، وإنما بناءُ مصدر "أفعلتُ" - إذا أخرج على فعله - "الإفعالُ". وكقولهم: أهنت فلانًا هَوانًا، وكلّمته كلامًا. وبناء مصدر: "فعَّلت" التفعيل. ومن ذلك قول الشاعر: أَكُفْرًا بعد رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وبعد عَطَائِكَ المِئَةَ الرِّتَاعَا (1) يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر: وَإن كانَ هذا البُخْلُ منْك سَجيةً ... لقد كُنْتُ في طَولِي رَجَاءكَ أَشْعَبَا (2) يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر: أَظُلَيْمُ إن مُصَابَكم رَجُلا ... أَهْدَى السّلامَ تحيَّةً ظُلْمُ (3) يريد: إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثُرُ، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وُفِّق لفهمه.   (1) الشعر للقطامي ديوانه: 41، ويأتي في تفسير آية سورة يوسف: 12 (ج 12 ص 94 بولاق) . يقول لزفر بن الحارث الكلابي، وكان أسره في حرب، فمن عليه وأعطاه مئة من الإبل، ورد عليه ماله. يقول: أأكفر بما وليتني، وقد أعطيت ما أعطيت. والعطاء بمعنى الإعطاء، ولذلك نصب به "المئة". والرتاع جمع راتع: يعني الإبل ترتع في مرعى خصيب تذهب فيه وتجيء. (2) لم أجد البيت. وأشعب: الطماع الذي يضرب به المثل في الطمع المستعر. (3) الشعر للحارث بن خالد المخزومي، الأغاني 9: 225- 226، وهذا البيت الذي من أجله أشخص الواثق إليه أبا عثمان المازني النحوي، وله قصة. انظر الأغاني 9: 234 وغيره، وفي المطبوعة: "أظلوم"، والصواب من المخطوطة، والأغاني وأمالي الشجري 1: 107 وغيرها. وهذه الشواهد السالفة استشهاد من الطبري على أن الأسماء تقوم مقام المصادر فتعمل عملها في النصب. وظليم: هي أم عمران، زوجة عبد الله بن مطيع، وكان الحارث ينسب بها، فلما مات زوجها تزوجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فإذْ كان الأمر - على ما وصفنا، من إخراج العرب مصادرَ الأفعال على غير بناء أفعالها - كثيرًا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودًا فاشيًا (1) ، فبيِّنٌ بذلك صوابُ ما قلنا من التأويل في قول القائل "بسم الله"، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلي، أو قبل قولي. وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: "بسم الله الرحمن الرحيم"، إنما معناه: أقرأ مبتدئًا بتسمية الله، أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله. فجُعِل "الاسمُ" مكان التسمية، كما جُعل الكلامُ مكان التكليم، والعطاءُ مكان الإعطاء. وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، رُوِي الخبر عن عبد الله بن عباس. 139 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أوّل ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: "يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم"، ثم قال: "قل: بسم الله الرحمن الرحيم". قال ابن عباس: "بسم الله"، يقول له جبريلُ: يا محمد، اقرأ بذكر الله ربِّك، وقم واقعد بذكر الله. (2) وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا - من أنه يراد بقول القائل مفتتحًا قراءته: "بسم الله الرحمن الرحيم": أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى - ويوضح فسادَ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم أوّلِ كلِّ شيء (3) ، مع أن العباد   (1) أراد بقوله: "تصديرها": أي جعلها مصادر تصدر عنها صوادر الأفعال، وذلك كقولك: ذهب ذهابًا، فذهب صدرت عن قولك "ذهاب"، ويعمل عندئذ عمل الفعل. وعنى أنهم يخرجون المصدر على وزن الاسم فيعمل عمله، كقولك "الكلام" هو اسم ما تتكلم به، ولكنهم قالوا: كلمته كلامًا، فوضعوه موضع التكليم، وأخرجوا من "كلم" مصدرًا على وزن اسم ما تتكلم به، وهو الكلام، فكان المصدر: "كلامًا". (2) الحديث 139- مضى هذا الخبر وتخريجه، برقم 137. (3) قوله: "يوضح" ساقطة من المطبوعة. وفيها مكان: "أول كل. . . "، "في كل. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 إنما أُمِروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورِهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمِروا به من التسمية على الذبائح والصَّيد، وعند المَطعم والمَشرب، وسائر أفعالهم. وكذلك الذي أمِروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله، وصدور رسائلهم وكتبهم. ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام (1) "بالله"، ولم يقل "بسم الله"، أنه مخالف - بتركه قِيلَ: "بسم الله" ما سُنَّ له عند التذكية من القول. وقد عُلم بذلك أنه لم يُرِدْ بقوله "بسم الله" "بالله"، كما قال الزاعم أن اسمَ الله في قول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم" هو الله. لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحتَه "بالله"، قائلا ما سُنَّ له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أنّ قائلَ ذلك تارك ما سُنَّ له من القول على ذبيحته - إذْ لم يقل "بسم الله" - دليلٌ واضح على فساد ما ادَّعى من التأويل في قول القائل: "بسم الله"، أنه مراد به "بالله"، وأن اسم الله هو الله. وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهُوَ المسمى، أمْ غيرُه، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله: أهو اسمٌ، أم مصدر بمعنى التسمية (2) ؟   (1) التذكية: النحر والذبح. ذكيت الشاة تذكية: ذبحتها. (2) استجاد أبو جعفر رضي الله عنه خير الرأي لحجته. والذي كتبه قبل، وما يأتي بعد، من أقوم ما قيل في شرح هذا الموضع الذي لجت فيه العقول والأقلام. وبيان ما قال أبو جعفر: إن قولك "اسم" في "بسم الله"، إنما هو اسم مصدر (أو اسم حدث) ، أي هو في الأصل اسم لما تفعل من تسميتك الشيء، مثل "الكلام" اسم حدث لما تفعل من التكليم، ومثل "العطاء" اسم حدث لما تفعل من الإعطاء، ومثل "الغسل"، اسم حدث لما تفعل من الاغتسال. وكأن أصله من قولك "سموت الشيء سموا"، فأماتوا فعله الثلاثي وبقي مصدره، "سمو"، فحذفوا واوه المتطرفة، فصار "سم" فأعاضوه منها ألفًا في أوله، فصار "اسم"، كما كان قولك: "كلام" من فعل ثلاثي هو "كلم كلامًا"، على مثال "ذهب ذهابًا"، فأماتوا الفعل الثلاثي وبقي مصدره "كلام"، فجعلوه اسم حدث لما تفعل من التكليم، ثم أخرجوا مصدر الرباعي على مخرج اسم هذا الحدث، فقالوا: "كلم يكلم كلامًا"، بمعنى "كلم يكلم تكليمًا". فكذلك فعلوا في قولهم "سمى يسمى تسمية": أخرجوا لهذا الرباعي مصدرًا على مخرج اسم الحدث وهو "اسم"، فقالوا: "سمى يسمى اسمًا"؛ بمعنى "سمى يسمى تسمية". فقولك "كلام" بمعنى "تكليم" وقولك "اسم" بمعنى "تسمية" صُدِّرا على مخارج أسماء الأحداث. وإذن فالمضاف إلى اسمه تعالى في قولك "بسم الله" وأشباهها، إنما هو مصدر صدر على مخرج اسم الحدث، وهو اسم، من فعل رباعي هو "سمى يسمي"، فكان بمعنى مصدره وهو "تسمية". وهو في هذا المكان وأمثاله بمعنى المصدر "تسمية"، لا بمعنى اسم الحدث لما تفعل من التسمية. (انظر: 123- 124، كلام الطبري في "أله") . وهذا الذي قاله أبو جعفر رضي الله عنه أبرع ما قيل في شرح هذا الحرف من كلام العرب. وقد أحسن النظر وأدقه، حتى خفي على جلة العلماء الذين تكلموا في شرح معنى "اسم" في "بسم الله" وأشباهها، فأغفلوه إغفالا لخفائه ووعورة مأتاه، وإلفهم للكلام في الذي افتتحوه من القول في "الاسم"، أهو المسمى أم غيره، أم هو صفة له، وما رسمه وما حده؟ وهذا باب غير الذي نحن فيه، فخلطوا فيه خلطًا، فجاء الطبري فمحص الحق تمحيصًا، وهو أرجح الآراء عندنا وأولاها بالتقديم، لمن وفق لفهمه، كما يقول أبو جعفر غفر الله له. وسيذكر بعد من الحجة ما يزيد المعنى وضوحًا وبيانًا. ولولا خوف الإطالة، لأتيت بالشواهد على ترجيح قول الطبري الذي أغفلوه، على كل رأي سبقه أو أتى بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في بيت لبيد بن ربيعة: إلَى الحَوْلِ، ثم اسْمُ السَّلام عليكُمَا، ... ومن يَبْكِ حَوْلا كاملا فَقَد اعتَذَرْ (1) فقد تأوله مُقدَّم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسمَ السلام هو السلام؟ (2) قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأوّل، لجاز أن يقال: رأيتُ اسم زيد، وأكلتُ اسمَ الطعام، وشربتُ اسمَ الشراب؛ وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: "ثمّ اسم السلام   (1) ديوانه، القصيدة رقم: 21، والخزانة 2: 217، ثم يأتي في تفسير آية سورة التوبة: 90 (10: 144 بولاق) ، وآية سورة الرعد: 35 (13: 109) والشعر يقوله لابنتيه، إذ قال: تَمَنَّى ابنتَايَ أن يعيشَ أبُوهما ... وهَلْ أنا إلاَّ من ربيعة أو مُضَرْ! ثم أمرهما بأمره فقال قبل بيت الشاهد: فقُومَا فقولاَ بالذي قد علمتُما ... ولا تَخْمِشا وجْهًا ولا تَحْلِقا شَعَرْ وقولاَ: هو المرءُ الّذي لا خليلَه ... أَضاعَ، ولا خانَ الصديقَ، ولا غَدَرْ فقوله "إلى الحول. . " أي افعلا ذلك إلى أن يحول الحول. والحول: السنة كاملة بأسرها. وقوله "اعتذر" هنا بمعنى أعذر: أي بلغ أقصى الغاية في العذر. (2) هذا المقدم في العلم بلغة العرب، هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، في كتابه مجاز القرآن: 16. وقد وقع بين ماضغى أسد! وهذا الذي يأتي كله تقريع مرير من أبي جعفر لأبي عبيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 عليكما"، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادِّعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافتَه إلى السلام إنما جاز، إذْ كان اسم المسمَّى هو المسمَّى بعينه. ويُسأل القائلون قولَ من حكينا قولَه هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال: "أكلتُ اسمَ العسل"، يعني بذلك: أكلت العسل، كما جاز عندكم: اسم السلام عليك، وأنتم تريدون: السلامُ عليك؟ فإن قالوا: نعم! خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطِّئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا: لا سئلوا الفرقَ بينهما: فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا أُلزموا في الآخر مثله. فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك؟ قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله. أحدُهما: أن "السلام" اسمٌ من أسماء الله، فجائز أن يكون لبيد عنَى بقوله: "ثم اسم السلام عليكما"، ثم الزما اسمَ الله وذكرَه بعد ذلك، وَدَعَا ذكري والبكاءَ عليّ؛ على وجه الإغراء. فرفعَ الاسم، إذْ أخّر الحرفَ الذي يأتي بمعنى الإغراء. (1) وقد تفعَلُ العرب ذلك، إذا أخّرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به، وإن كانت قد تنصبُ به وهو مؤخَّر. ومن ذلك قول الشاعر: يَا أَيُّها المائحُ دَلوِي دُونَكا! ... إني رأيتُ النَّاس يَحْمدُونَكا! (2) فأغرَى ب "دونك"، وهي مؤخرة، وإنما معناه: دونَك دلوي. فذلك قول لبيد: * إلى الحوْلِ، ثمَّ اسمُ السَّلامُ عَلَيْكُمَا * يعني: عليكما اسمَ السلام، أي: الزما ذكر الله ودعا ذكري والوجدَ بي، لأن من بكى حَوْلا على امرئ ميّت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه.   (1) في المطبوعة: "إذا وأخر". وقوله "فرفع الاسم"، يعني ما في قول لبيد "ثم اسم"، وكان حقه أن ينصب على الإغراء لو قال: "ثم عليكما اسم السلام" بتقديم الإغراء. (2) هذا رجز في خبر طويل، الخزانة 3: 17 قيل هزءًا برجل ألقوه في بئر ثم رجزوا به. والمائح: هو الرجل الذي ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها، فيلقي الدلاء فيملؤها بيده ويميح لأصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 والوجه الآخر منهما: ثم تسميتي اللهَ عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: "اسم الله عليك" يعوِّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسمُ الله عليكما من السوء، وكأنّ الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد. (1) ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أنّ معناه: ثم السلام عليكما، أترَى ما قلنا - من هذين الوجهين - جائزًا، أو أحدهما، أو غيرَ ما قلتَ فيه؟ فإن قال: لا! أبان مقدارَه من العلم بتصاريف وُجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته. وإن قال: بَلَى! قيل له: فما برهانك على صحة ما ادَّعيت من التأويل أنه الصوابُ، دون الذي ذكرتَ أنه محتملُه - من الوجه الذي يلزمنا تسلميه لك؟ ولا سبيل إلى ذلك. وأما الخبر الذي:- 140 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك [وهو يلقب بزبريق] قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومِسْعَرِ بن كِدَام، عن عطية، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّه إلى الكتَّاب ليعلِّمه، فقال له المعلم: اكتب "بسم" فقال له عيسى: وما "بسم"؟ فقال له المعلم: ما أدري! فقال عيسى: الباء بهاءُ الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته. (2)   (1) الأول بغير شك أولى الأقوال بالصواب. فإنه كان قد أمر ابنتيه - كما قدمنا في أبياته السالفة، أن تقوما لتنوحا عليه بما أمرهما من ندبه وتأبينه ورثائه، وأن تفعلا ذلك منذ يموت إلى أن يحول عليه الحول، فلا معنى بعد أن يلقي السلام عليهما، أي تحية المفارق، بعد الحول، فقد فارقهما منذ حول كامل. وأولى به أن يدعو لهما، أو يستكفهما عما أمرهما به، إذ قضتا ما أمرهما على الوجه الذي أحب، "ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر"، كأنه قال: كفا عندئذ عما أمرتكما، فإن من بكى حولا فقد بلغ أقصى ما يسعه العذر. فسياق الشعر يقطع بترجيح ما ذهب إليه الطبري عامة، وإلى الجزم بأن معنى "ثم اسم السلام عليكما" هو: الزما ذكر الله، ودعا ذكرى، والبكاء علي، والوجد بي. (2) الحديث 140- هذا حديث موضوع، لا أصل له. وهو أطول من هذا، وسيأتي بعضه برقمي 145، 147، فصل الطبري كل قسم منه في موضعه، وفيه زيادة أخرى، في تفسير كلمات "أبجد هوز". إلخ. رواه بطوله ابن حبان الحافظ، في كتاب المجروحين، في ترجمة إسماعيل بن يحيى بن عبد الله التيمي، رقم: 44 ص85، وقال في إسماعيل هذا: "كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات، وما لا أصل له عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه، ولا الاحتجاج به بحال". ثم ضرب مثلا من أكاذيبه، فروى الحديث بطوله، عن محمد بن يحيى بن رزين العطار عن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، بالإسناد الثاني الذي هنا، من حديث أبي سعيد الخدري. وذكره ابن كثير في التفسير 1: 35 نقلا عن ابن مردويه، من حديث أبي سعيد وحده، جمع فيه الأقسام الثلاثة التي فرقت هنا. ثم أشار إلى رواية الطبري إياه. ثم قال: "وهذا غريب جدا، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات"! وما أدري كيف فات الحافظ ابن كثير أن في إسناده هذا الكذاب، فتسقط روايته بمرة، ولا يحتاج إلى هذا التردد. وأما السيوطي، فقد ذكره في الدر المنثور 1: 8، ونسبه لابن جرير وابن عدي في الكامل وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق والثعلبي، ولم يغفل عن علته؛ فذكر أنه "بسند ضعيف جدا". وترجم الذهبي في الميزان 1: 117، وتبعه ابن حجر في لسان الميزان 1: 441- 442 لإسماعيل بن يحيى هذا، وفي ترجمته: "قال صالح بن محمد جزرة: كان يضع الحديث. وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب، لا تحل الرواية عنه. . . وقال أبو علي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: كذاب". وقال ابن حجر: "مجمع على تركه". وذكر هو والذهبي هذا الحديث مثالا من أكاذيبه. ثم إن إسناده الأول، الذي رواه إسماعيل بن يحيى عن أبي مليكة، فيه أيضًا راو مجهول، وهو "من حدثه عن ابن مسعود". وإسناده الثاني، الذي رواه إسماعيل هذا عن مسعر بن كدام، فيه أيضًا "عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، وهو ضعيف، ضعفه أحمد وأبو حاتم وغيرهما. والزيادة بين قوسين، في لقب إبراهيم بن العلاء من المخطوطة. و "زبريق": بكسر الزاي والراء بينهما ياء موحدة ساكنة. وهو لقب إبراهيم، فيما قيل. والصحيح أنه لقب أبيه، فقد قال البخاري في ترجمته في الكبير 1 / 1 / 307: "زعم إبراهيم أن أباه كان يدعى زبريق". وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 121: "إبراهيم بن العلاء. . . يعرف بابن الزبريق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فأخشى أنْ يكون غلطًا من المحدِّث، وأن يكون أراد [ب س م] ، على سبيل ما يعلَّم المبتدئ من الصبيان في الكتّاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك، فوصَله، فقال: "بسم"، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي "بسم الله الرحمن الرحيم"، على ما يتلوه القارئ في كتاب الله، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حُمِل تأويله على ذلك. القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {اللَّهِ} . قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله تعالى ذكره "الله"، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس-: هو الذي يَألَهه كل شيء، ويعبده كل خلْقٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 141 - وذلك أنّ أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: "الله" ذو الألوهية والمَعْبودية على خلقه أجمعين. (1) فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في "فعل ويفعل" أصل كان منه بناءُ هذا الاسم؟ قيل: أمّا سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالا. فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في "فعل ويفعل". قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل (2) - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: "تألَّه فلان" - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: للهِ دَرُّ الغانِيات المُدَّهِ (3) سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي. ولا شك أنّ "التألُّه"، التفعُّل من: "ألَه يأله"، وأن معنى "أله" - إذا نُطق به:- عَبَدَ اللهَ. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب "فعل يفعل" يغير زيادة. 142 - وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عُمر، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ (وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ) [سورة الأعراف: 127] قال: عبادتَك، ويقال: إنه كان يُعبَد ولا يَعبُد.   (1) الحديث 141- إسناد هذا الخبر ضعيف، كما فصلنا القول فيه، في إسناد الخبر 137. وهذا الذي هنا نقله السيوطي في الدر المنثور 1: 8 مع باقيه الآتي برقم 148 بالإسناد نفسه. ونسبه السيوطي لابن جرير (وكتب فيه: ابن جريج، خطأ مطبعيا) ، وابن أبي حاتم. (2) قوله "لا تمانع"، أي لا اختلاف بينهم، يدعو بعضهم إلى دفع ما يقوله الآخر. وسيأتي مثله في ص: 126. (3) ديوانه: 165. المده: جمع ماده. ومده فلانًا يمدهه مدهًا: نعت هيئته وجماله وأثنى عليه ومدحه. و "استرجعن": قلن" إنا لله وإنا إليه راجعون. يقلنها حسرة عليه كيف تنسك وهجر الدنيا، بعد الذي كان من شبابه وجماله وصبوته! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 143 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك) ، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد (1) وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد. 144 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله "ويذرَكَ وإلاهتك" قال: وعبادتَك (2) ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل: ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عَبَد الله فلانٌ عبادةً، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أنّ "أله" عَبد، وأن "الإلاهة" مصدرُه. فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبد الله: ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْده؟   (1) الخبران 142، 143- إسنادهما ضعيفان، من أجل "سفيان بن وكيع بن الجراح"، شيخ الطبري فيهما، وسفيان هذا: ضعيف، كان أبوه إمامًا حجة، وكان هو رجلا صالحًا، ولكن وراقه أفسد عليه حديثه، وأدخل عليه ما ليس من روايته. ونصحه العلماء أن يدعه فلم يفعل، فمن أجل ذلك تركوه. قال ابن حبان في كتاب المجروحين، رقم 470 ص238- 239: "فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك". وهذان الخبران، سيذكرهما الطبري في تفسير آية سورة الأعراف: 127 (9: 18 بولاق) ، وهناك شيء من التحريف في أحدهما. ونقل معناهما السيوطي في الدر المنثور 3: 107. والقراءة الصحيحة المعروفة: {ويذرك وآلهتك} . وأما هذه القراءة "وإلاهتك"، فقد نقلها صاحب إتحاف البشر: 229 عن ابن محيصن والحسن. ونقلها ابن خالويه في كتاب القراءات الشاذة: 45 عن علي وابن مسعود وابن عباس. وذكرها أبو حيان في البحر 4: 367 عن هؤلاء الثلاثة "وأنس وجماعة غيرهم". (2) الخبر 144- الحسين بن داود: اسمه "الحسين" ولقبه "سنيد"، بضم السين المهملة وفتح النون. واشتهر بهذا اللقب، وترجم به في التهذيب 4: 244- 245، وفي الجرح والتعديل 3 / 1 / 326. وحجاج: هو ابن محمد المصيصي، من شيوخ الإمام أحمد. وهذا الأثر عن مجاهد، سيرويه الطبري في تفسير آية الأعراف (9: 18 بولاق) - بإسناد آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قيل: أما الروايةُ فلا رواية فيه عندنا، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:- 145 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومِسْعَر بن كِدَام، عن عطية العَوْفي، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عيسى أسلمَتْه أمه إلى الكتّاب ليعلّمه فقال له المعلم اكتب "الله" فقال له عيسى: "أتدري ما الله؟ الله إلهُ الآلهة (1) ". - أن يقال (2) ، الله جل جلاله ألَهَ العبدَ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل "الله" - من كلام العرب أصله "الإله". فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟ قيل: كما جاز أن يكون قوله: (لكِنَّ هُوَ اللهُ رَبِّي) [سورة الكهف: 38] أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر: وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْف، أَيْ أَنتَ مُذْنبٌ ... وتَقْلينَني، لكِنَّ إياكِ لا أَقْلِي (3) يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذَف الهمزة من "أنا" فالتقت نون "أنا" "ونون "لكنْ" وهي ساكنة، فأدغمت في نون "أنا" فصارتا نونًا مشددة. فكذلك "الله" أصله "الإله"، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في   (1) الحديث 145- هو حديث لا أصل له. وهو جزء من الحديث الموضوع الذي روى الطبري بعضه فيما مضى 140، بهذا الإسناد. وفصلنا القول فيه هناك. (2) قوله: "أن يقال" من تمام قوله في السطر الثالث "ولكن الواجب-" خبر لكن. (3) الأضداد لابن الأنباري: 163، والخزانة 4: 490، وقال: "لم أقف على تتمته وقائله، مع أنه مشهور، قلما خلا منه كتاب نحوي، والله أعلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة، كما وصفنا من قول الله (لكنَّ هوَ الله رَبي) . القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . قال أبو جعفر: وأما "الرحمن"، فهو فَعلان، من رَحم، و "الرحيم" فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبني الأسماء من "فَعِل يفْعَل" على "فعلان"، كقولهم من غَضِب: غَضبان، ومن سَكر: سكران، ومن عَطش: عطشان. فكذلك قولهم "رَحمن" من رَحِمَ، لأن "فعِلَ" منه: رَحم يرْحم. وقيل "رحيم"، وإن كانت عَين "فعِل" منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء - إذا كان فيها مدح أو ذم - على "فعيل"، وإن كانت عين "فعل" منها مكسورةً أو مفتوحةً، كما قالوا من "علم" عالم وعليم، ومن "قدَر" قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها، لأن البناء من "فَعِل يفْعَل" و "فعَل يفعِل" فاعلٌ. فلو كان "الرحمن والرحيم" خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما "الراحم". فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجهُ تكرير ذلك، وأحدهما مؤدٍّ عن معنى الآخر؟ قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها. فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟ قيل: أما من جهة العربية، فلا تَمانُع (1) بين أهل المعرفة بلغات العرب، أنّ قول القائل: "الرحمن" - عن أبنية الأسماء   (1) لا تمانع: أي لا اختلاف بينهم، يدعو بعضهم إلى دفع ما يقوله الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 من "فَعِل يفعَل" - أشدُّ عدولا من قوله "الرّحيم". ولا خلاف مع ذلك بينهم، أنّ كل اسم كان له أصل في "فَعِلَ يفعَل" - ثم كان عن أصله من "فَعِل يفعَلُ" أشد عدولا - أنّ الموصوف به مفضَّل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من "فَعِل يفعَل"، إذا كانت التسمية به مدحًا أو ذمًّا. فهذا ما في قول القائل "الرحمن"، من زيادة المعنى على قوله "الرحيم" في اللغة. وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف:- 146 - فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العَرْزَمي يقول: "الرحمن الرحيم"، قال: الرحمن بجميع الخلق، الرّحيم، قال: بالمؤمنين. (1) 147 - حدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام، عن عطية العَوفي، عن أبي سعيد - يعني الخدريّ - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ عيسى ابن مريم قال: الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا، والرحيم رحيمُ الآخرة". (2) فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو "رحمن"، وتسميته باسمه الذي هو "رحيم"، واختلاف معنى الكلمتين - وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدلّ أحدهما على أنّ ذلك في الدنيا، ودلّ الآخر على أنه في الآخرة. فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟   (1) الأثر 146- نقله ابن كثير في التفسير 1: 40 عن هذا الموضع. و "السري بن يحيى ابن السري التميمي الكوفي"، شيخ الطبري، لم نجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 285، وقال: "لم يقض لنا السماع منه، وكتب إلينا بشيء من حديثه، وكان صدوقًا". و "العرزمي" المرويُّ عنه هذا الكلام هنا: ضعيف جدا، قال الإمام أحمد في المسند 6938: "لا يساوي حديثه شيئًا". وهو "محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي". وأما عمه "عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي"، فإنه تابعي ثقة، ولكنه قديم، مات سنة 145، فلم يدركه "عثمان بن زفر" المتوفى سنة 218. و "العرزمي" بفتح العين المهملة وسكون الراء وبعدها زاي، نسبة إلى "عرزم". ووقع هنا في الطبري وابن كثير "العرزمي"، بتقديم الزاي على الراء، وهو تصحيف. (2) الحديث 147- هذا إسناد ضعيف، بل إسنادان ضعيفان، كما فصلنا فيما مضى: 140، 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيُّهما أولى بالصحة؟ وذلك أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال. فلا شك - إذا كان ذلك كذلك - أنّ ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا. فإذا كان صحيحًا ما قلنا من ذلك - وكان الله جل ثناؤه قد خصّ عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم من توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه، مما خُذِل عنه من أشرك به، وكفر وخالف ما أمره به، وركب معاصيَه؛ وكان مع ذلك قد جعلَ، جَلَّ ثناؤه، ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين، لمن آمن به، وصدّق رسله، وعمل بطاعته، خالصًا، دون من أشرك وكفر به - (1) كان بيِّنًا إن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمَّهم به والكفارَ في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم، في البَسْط في الرزق، وتسخير السحاب بالغَيْثِ، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تُحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون. فربُّنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته فكان رَحمانًا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا) [سورة إبراهيم: 34، وسورة النحل: 18] . وأما في الآخرة، فالذي عمّ جميعهم به فيها من رحمته، فكان لهم رحمانًا، تسويته   (1) جواب قوله "فإذ كان صحيحًا. . . " وما بينهما فصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بين جميعهم جل ذكرُه في عَدله وقضائه، فلا يظلم أحدًا منهم مِثْقال ذَرّة، وإن تَكُ حسنةً يُضاعفها ويُؤتِ من لَدُنْهُ أجرًا عظيما، وتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعَهم برحمته، الذي كان به رحمانًا في الآخرة. وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته، الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال جل ذكره: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [سورة الأحزاب: 43] فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصّهم به، دونَ من خذَله من أهل الكفر به. وأمَّا ما خصّهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين، فما وصفنا آنفًا مما أعدَّ لهم دون غيرهم من النعيم، والكرامة التي تقصرُ عنها الأمانيّ. وأما القول الآخر في تأويله فهو ما:- 148 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن، الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرّحمن الرحيم: الرقيقُ الرفيقُ بمن أحبَّ أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنُف عليه. (1) وكذلك أسماؤه كلها. وهذا التأويل من ابن عباس، يدل على أن الذي به ربُّنا رحمن، هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله "الرحمن" من المعنى، ما ليس لقوله "الرحيم". لأنه جعل معنى "الرحمن" بمعنى الرقيق على من رقَّ عليه، ومعنى "الرحيم" بمعنى الرفيق بمن رفق به. والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرْزَمي (2) ، أشبه بتأويله من هذا القول الذي رويناه عن ابن عباس. وإن   (1) الحديث 148- نقله ابن كثير في التفسير 1: 41 عن هذا الموضع، وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، وبيان ضعفه: 137، 141. والذي في الدر المنثور 1: 8- 9 "على من أحب أن يضعف عليه العذاب"، والظاهر أنه تصرف من ناسخ أو طابع. (2) إشارة إلى ما مضى: 146، ووقع في الأصول هنا "العرزمي" أيضًا، بتقديم الزاي، وهو خطأ، كما بينا من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 كان هذا القول موافقًا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلا غيرَ تأويل الرحمن. والقول الثالث في تأويل ذلك ما:- 149 - حدثني به عمران بن بَكَّار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللَّخمي من أهلِ فلَسْطين، قال: سمعت عطاء الخراساني يقول: كان الرحمن، فلما اختزلَ الرحمن من اسمه كان الرحمنَ الرحيمَ. (1) والذي أراد، إن شاء الله، عطاءٌ بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمَّى بها أحد من خَلْقِه، فلما تسمَّى به الكذابُ مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه "الرحمنُ الرحيمُ" ليفصِل بذلك لعباده اسمَهُ من اسم من قد تسمَّى بأسمائه، إذ كان لا يسمَّى أحد "الرحمن الرحيم"، فيجمع له هذان الاسمان، غيره جلّ ذكره. وإنما يتسمَّى بعضُ خَلْقه إما رحيما، أو يتسمَّى رَحمن. فأما "رحمن رحيم"، فلم يجتمعا قطّ لأحد سواهُ، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأنّ معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فَصَل بتكرير الرحيم على الرحمن، بين اسمه واسم غيره من خلقِه، اختلف معناهما أو اتفقا. والذي قال عطاءٌ من ذلك غيرُ فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جلّ ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معًا مجتمعين، إبانةً لها من خلقه، ليعرف عبادُه بذكرهما مجموعينِ أنه المقصود بذكرهما دون مَنْ سواه من خلقه، مع مَا في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.   (1) الأثر 149- نقله السيوطي في الدر المنثور 1: 9 ونسبه للطبري وحده. وعطاء الخراساني هو عطاء بن أبي مسلم، وهو ثقة، وضعفه بعض الأئمة. وهو كثير الرواية عن التابعين، وكثير الإرسال عن الصحابة، في سماعه منهم خلاف. وأما الراوي عنه "أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي"، فإني لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع، إلا قول الدولابي في الكنى والأسماء 1: 110: "أبو الأزهر الفلسطيني نصر بن عمرو اللخمي، روى عنه يحيى بن صالح الوحاظي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وقد زعم بعضُ أهل الغَباء أنّ العرب كانت لا تعرف "الرحمن"، ولم يكن ذلك في لغتها (1) ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) [سورة الفرقان: 60] ، إنكارًا منهم لهذا الاسم، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أوْ: لا وكأنه لم يتْلُ من كتاب الله قول الله (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) - يعني محمدًا - (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [سورة البقرة: 146] وهم مع ذلك به مكذِّبون، ولنبوته جاحدون! فيَعلمَ بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقةَ ما قد ثبت عندهم صحتُه، واستحكمتْ لديهم معرفتُه. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء: أَلا ضربَتْ تلكَ الفتاةُ هَجِينَهَا ... أَلا قَضَبَ الرحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا (2) وقال سلامة بن جَندلٍ السَّعْدي: (3) عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ ... وَمَا يَشَإ الرحْمَنُ يَعْقِدْ وَيُطْلِقِ (4)   (1) لا يزال أهل الغباء في عصرنا يكتبونه، ويتبجحون بذكره في محاضراتهم وكتبهم، نقلا عن الذين يتتبعون ما سقط من الأقوال، وهم الأعاجم الذين يؤلفون فيما لا يحسنون باسم الاستشراق. ورد الطبري مفحم لمن كان له عن الجهل والخطأ رده تنهاه عن المكابرة. (2) لم أجد قائل البيت. واستشهد به ابن سيده في المخصص 17: 152، وعلق على البيت محمد محمود التركزي الشنقيطي، وادعى أن البيت مصنوع، وأن "بعض الرجال الذين يحبون إيجاد الشواهد المعدومة لدعاويهم المجردة، صنعه ولفقه، وأن الوضع والصنعة ظاهران فيه ظهور شمس الضحى، وركاكته تنادي جهارًا بصحة وضعه وصنعته، والصواب وهو الحق المجمع عليه، أن الشاعر الجاهلي المشار إليه، هو الشنفرى الأزدي، وهذا البيت ليس في شعره"، وأنه ملفق من قول الشنفرى: أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي، والتَلهُّفُ ضَلَّةٌ ... بما ضَرَبَتْ كَفُّ الفَتَاةِ هَجِينَهَا والشنقيطي رحمه الله كان كثير الاستطالة، سريعًا إلى المباهاة بعلمه وروايته. والذي قاله من ادعاء الصنعة لا يقوم. وكفى بالبيت الذي يليه دليلا على فساد زعمه أن الدافع لصنعته: إيجاد الشواهد المعدومة، لدعاوى مجردة. وليس في البيت ركاكة ولا صنعة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "الطهوي" مكان السعدي، وهو خطأ. ليس سلامة طهويا. (4) ديوانه: 19، وقد جاء في طبقات فحول الشعراء: 131 في نسب الشاعر: سلامة بن جندل بن عبد الرحمن"، وهذه رواية ابن سلام، وغيره يقول: "ابن عبد"، فإن صحت رواية ابن سلام، فهي دليل آخر قوي على فساد دعوى الشنقيطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقد زعم أيضًا بعضُ من ضعُفت معرفتُه بتأويل أهل التأويل، وقلَّت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أنّ "الرحمن" مجازه: ذو الرحمة، و "الرحيم" مجازه: الرّاحم (1) ، ثم قال: قد يقدِّرون اللفظين من لفظٍ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا: ندمان ونَديم، ثم استشهد ببيتِ بُرْج بن مُسْهِر الطائي: وَنَدْمَانٍ يزيدُ الكأسَ طِيبًا، ... سَقَيْتُ وَقَدْ تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ (2) واستشهد بأبياتٍ نظائره في النَّديم والنَّدمان، ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم، وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيَيْهما على صحته. ثم مثّل ذلك باللَّفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ. ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثَبت أن له الرحمة، وصحَّ أنها له صفة؛ وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه. ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة، إذا وُصِف بأنه ذو الرحمة. فأين معنى "الرحمن الرحيم" على تأويله، من معنى الكلمتين يأتيان مقدَّرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه، كان واضحًا عوارُه. وإن قال لنا قائل: ولم قدّم اسمَ الله الذي هو "الله"، على اسمه الذي هو "الرحمن"، واسمه الذي هو "الرحمن"، على اسمه الذي هو "الرحيم"؟ قيل: لأن من شأن العرب، إذا أرادوا الخبر عن مُخبَر عنه، أن يقدِّموا اسمه، ثم يتبعوه صفاتِه ونعوتَه. وهذا هو الواجب في الحُكم: أن يكون الاسم مقدَّمًا قبل نعته وصِفَته، ليعلم السامع الخبرَ، عمَّن الخبرُ. فإذا كان ذلك كذلك -   (1) الذي عناه الطبري، هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه "مجاز القرآن": 21، وقد نقل أكثر كلامه الآتي بنصه. (2) حماسة أبي تمام 3: 135، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وكانَ لله جلَّ ذكره أسماءٌ قد حرَّم على خلقه أن يتسمَّوا بها، خَصَّ بها نفسه دونهم، وذلك مثلُ "الله" و "الرحمن" و "الخالق"؛ وأسماءٌ أباحَ لهم أن يُسمِّيَ بعضهم بعضًا بها، وذلك: كالرحيم والسميع والبصير والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء - كان الواجب أن تقدَّم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامعُ ذلك مَنْ تَوجَّه إليه الحمد والتمجيدُ، ثم يُتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجَّه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو "الله"، لأن الألوهية ليست لغيره جلّ ثناؤه من وجهٍ من الوجوه، لا من جهة التسمِّي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينَّا أن معنى "الله" تعالى ذكره المعبود (1) ، ولا معبودَ غيرُه جل جلاله، وأن التسمِّي به قد حرّمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقي، وبحسَنٍ وهو قبيح. أوَلا تَرى أنّ الله جلّ جلاله قال في غير آية من كتابه: (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) فاستكبر ذلك من المقرِّ به، وقال تعالى في خُصوصه نَفسَه بالله وبالرحمن: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [سورة الإسراء: 110] . ثم ثنَّى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد مَنع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه. وذلك أنه قد يجوز وصْف كثير ممّن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو "الله". وأما اسمه الذي هو"الرحيم" فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان - إذ كان الأمرُ على ما وصفنا - واقعًا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هنّ توابعُها، بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو "الله"، على اسمه الذي هو "الرحمن"، واسمه الذي هو "الرحمن" على اسمه الذي هو "الرحيم". (2) وقد كان الحسنُ البصريّ يقول في "الرحمن" مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي مَنَعَ التسميَ بها العبادَ. (3) 150 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: "الرحمن" اسمٌ ممنوع. (4) مع أن في إجماع الأمة من منع التسمِّي به جميعَ الناس، ما يُغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.   (1) في المطبوعة: "أن معنى الله هو المعبود". (2) هذا الاحتجاج من أجود ما قيل، ودقته تدل على حسن نظر أبي جعفر فيما يعرض له. وتفسيره كله شاهد على ذلك. رحمة الله عليه. (3) غيروه في المطبوعة: "لعباده". (4) الأثر 150- نقله ابن كثير في التفسير 1: 41- 42 عن هذا الموضع. والسيوطي في الدر المنثور 1: 9، ونسبه للطبري وحده. و "عوف" الراويه عن الحسن: هو عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف بابن الأعرابي، وهو ثقة ثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 (القول في تأويل فاتحة الكتاب) {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : قال أبو جعفر: ومعنى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الشكر خالصًا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كلِّ ما برَأَ من خلقه (1) ، بما أنعم على عباده من النِّعم التي لا يُحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلَّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وَغذَاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبَّههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدِّية إلى دوام الخلود في دار المُقام في النعيم المقيم. فلربِّنا الحمدُ على ذلك كله أولا وآخرًا. وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جلّ ذكره وتقدَّست أسماؤه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، جاء الخبرُ عن ابن عباس وغيره:- 151 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليهما: قل يا محمد "الحمد لله " قال ابن عباس: "الحمد لله": هو الشكر لله، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك. (2)   (1) في المطبوعة: "ما يرى"، والصواب من المخطوطة وابن كثير 1: 42. (2) الحديث 151- هذا الإسناد سبق بيان ضعفه في 137. و "محمد بن العلاء" شيخ الطبري: هو "أبو كريب" نفسه في الإسناد السابق، مرة يسميه ومرة يكنيه. وهذا الحديث نقله ابن كثير في التفسير 1: 43، والسيوطي في الدر المنثور 1: 11، والشوكاني في تفسيره الذي سماه فتح القدير 1: 10، ونسبوه أيضًا لابن أبي حاتم في تفسيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 152 - وحدثني سعيد بن عمرو السَّكُوني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حَبيب، عن الحكم بن عُمَير - وكانت له صحبة - قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا قلت "الحمد لله ربِّ العالمين"، فقد شكرت الله، فزادك. (1)   (1) الحديث 152- نقله ابن كثير 1: 43 بإسناد الطبري هذا، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 11 ونسبه للطبري والحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي "بسند ضعيف". وإسناده ضعيف حقًا، بل هو إسناد لا تقوم له قائمة، كما سنذكر: أما بقية بن الوليد، فالحق أنه ثقة، وإنما نعوا عليه التدليس، ولا موضع له هنا، فإنه صرح بالتحديث. ولكن عيسى بن إبراهيم، وهو القرشي الهاشمي، كل البلاء منه في هذا الحديث، وفي أحاديث من نحوه، رواها بهذا الإسناد. وقد قال فيه البخاري في الضعفاء: 27: "منكر الحديث"، وكذلك النسائي: 22. وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 271 - 272، وروى عن أبيه قال: "متروك الحديث"، وعن ابن معين: "ليس بشيء"، وقال ابن حبان في الضعفاء، الورقة 163: "لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". وترجمته في الميزان ولسان الميزان فيها العجب. وشيخه "موسى بن أبي حبيب" مثله: ضعيف تالف، وقال الذهبي في الميزان: "ضعفه أبو حاتم، وخبره ساقط. وله عن الحكم بن عمير، رجل قيل: له صحبة. والذي أراه أنه لم يلقه. وموسى -مع ضعفه- فمتأخر عن لقي صحابي كبير". فالبلاء من هذين أو من أحدهما. حتى لقد شك بعض الحفاظ في وجود الصحابي نفسه "الحكم بن عمير"، من أجلهما! فترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 2 / 125، قال: "الحكم بن عمير: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يذكر السماع ولا لقاء، أحاديث منكرة، من رواية ابن أخيه موسى بن أبي حبيب، وهو شيخ ضعيف الحديث، ويروي عن موسى بن أبي حبيب عيسى بن إبراهيم، وهو ذاهب الحديث، سمعت أبي يقول ذلك". وحتى إن الذهبي أنكر صحبته وترجم له في الميزان، وأخطأ في النقل فيه عن أبي حاتم، ذكر أنه ضعف الحكم! وكلام أبي حاتم -كما ترى- غير ذلك. وتعقبه الحافظ في لسان الميزان 2: 337 وأثبت أنه صحابي، بما ذكره ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم والترمذي وغيرهم، وأن الدارقطني قال: "كان بدريًا". وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات (ص 54) في طبقة الصحابة، وقال: "يقال إن له صحبة". ونقل الحافظ هذا في اللسان عن ابن حبان، ولكن سها فزعم أنه ذكره "في ثقات التابعين". وترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب، رقم 476: باسم "الحكم بن عمرو الثمالي، وثمالة في الأزد، شهد بدرًا، ورويت عنه أحاديث مناكير من أحاديث أهل الشأم، لا تصح". وتسمية أبيه باسم "عمرو" خطأ قديم في نسخ الاستيعاب، لأن ابن الأثير تبعه في أسد الغابة 1: 26، وأشار إلى الغلط فيه، ثم ترجمه على الصواب: "الحكم بن عمير الثمالي، من الأزد، وكان يسكن حمص". وحقق الحافظ ترجمته في الإصابة 2: 30 تحقيقًا جيدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قال: وقد قيل: إنّ قول القائل "الحمد لله"، ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحُسنى، وقوله: "الشكر لله"، ثناء عليه بنعمه وأياديه. وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال: "الحمد لله"، ثناءٌ على الله. ولم يبيّن في الرواية عنه، من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك. 153 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أخبرني السلولي، عن كعب، قال: من قال "الحمد لله"، فذلك ثناء على الله. (1) 154 - حدثني علي بن الحسن الخرّاز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجَرْمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القُرْقُساني، عن مُبارك بن فَضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيءٌ أحبَّ إليه الحمد، من الله تعالى، ولذلك أثنى على نَفسه فقال: "الحمد لله" (2) .   (1) الخبر 153- هذا الإسناد صحيح، وسواء صح أم ضعف، فلا قيمة له، إذ منتهاه إلى كعب الأحبار. وما كان كلام كعب حجة قط، في التفسير وغيره. و "الصدفي": بفتح الصاد والدال المهملتين، نسبة إلى "الصدف" بفتح الصاد وكسر الدال، وهي قبيلة من حمير، نزلت مصر. و "السلولي"، هو: عبد الله بن ضمرة السلولي، تابعي ثقة. وهذا الخبر -عن كعب- ذكره ابن كثير 1: 43 دون إسناد ولا نسبة. وذكر السيوطي 1: 11 ونسبه للطبري وابن أبي حاتم. (2) الحديث 154 - إسناده صحيح. علي بن الحسن بن عبدويه أبو الحسن الخراز، شيخ الطبري: ثقة، مترجم في تاريخ بغداد 11: 374 - 375. و "الخراز": ثبت في الطبري بالخاء والراء وآخره زاي. وفي تاريخ بغداد "الخزاز" بزاءين، ولم نستطع الترجيح بينهما. مسلم بن عبد الرحمن الجرمي: مترجم في لسان الميزان 6: 32 باسم "مسلم بن أبي مسلم" فلم يذكر اسم أبيه، وهو هو. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 13: 100، قال: "مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وهو مسلم بن عبد الرحمن"، وقال: "كان ثقة، نزل طرسوس، وبها كانت وفاته". و "الجرمي": رسمت في أصول الطبري ولسان الميزان "الحرمي" بدون نقط. ولكنهم لم ينصوا على ضبطه. وعادتهم في مثل هذا أن ينصوا على ضبط القليل والشاذ، وأن يدعوا الكثير الذي يأتي على الجادة في الضبط، والجادة في هذا الرسم "الجرمي" بالجيم، وبذلك رسم في تاريخ بغداد، فعن هذا أو ذاك رجحناه. و "محمد بن مصعب القرقساني"، و "مبارك بن فضالة": مختلف فيهما. وقد رجحنا توثيقهما في شرح المسند: الأول في 3048، والثاني في 521. و "الحسن": هو البصري، وقد أثبتنا في شرح صحيح ابن حبان، في الحديث 132 أنه سمع من الأسود بن سريع. وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1: 12 عن تفسير الطبري. ورواه أحمد في المسند بمعناه مختصرًا 15650 (3: 435 حلبي) عن روح بن عبادة عن عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن الأسود بن سريع، قال: "قلت: يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي؟ قال: أما إن ربك يحب الحمد". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات أثبات. وذكره ابن كثير في التفسير 1: 43 عن المسند. وكذلك ذكره السيوطي، ونسبه أيضًا للنسائي والحاكم وغيرهما. ورواه أحمد أيضًا 15654، والبخاري في الأدب المفرد: 51، بنحوه، في قصة مطولة، من رواية عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأسود بن سريع. ومعناه ثابت صحيح، من حديث ابن مسعود، في المسند 4153: "لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه". ورواه أيضًا البخاري ومسلم وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قال أبو جعفر: ولا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحُكْم (1) ، لقول القائل: "الحمد لله شكرًا" - بالصحة. فقد تبيّن - إذْ كان ذلك عند جميعهم صحيحًا - أنّ الحمد لله قد يُنطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضعَ الحمد. لأن ذلك لو لم يكن كذلك، لما جاز أن يُقال "الحمد لله شكرًا"، فيُخْرِج من قول القائل "الحمد لله" مُصَدَّرَ: "أشكُرُ"، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد، كان خطأ أن يُصَدَّرَ من الحمد غيرُ معناه وغير لفظه. (2) فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد؟ وهلا قيل: حمدًا لله رب العالمين؟ قيل: إن لدخول الألف واللام في الحمد، معنى لا يؤديه قول القائل "حَمْدًا"، بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولهما في الحمد مُنْبِئٌ عن أن معناه (3) : جميعُ المحامد والشكرُ الكامل لله. ولو أسقطتا منه لما دَلّ إلا على أنّ حَمْدَ قائلِ ذلك لله، دون المحامد كلها. إذْ كان معنى قول القائل: "حمدًا لله" أو "حمدٌ لله":   (1) انظر ما كتبناه آنفًا: 126 عن معنى "لا تمانع". (2) تكلم العلماء في نقض ما ذهب إليه أبو جعفر من أن "الحمد والشكر" بمعنى، وأن أحدهما يوضع موضع الآخر، وهو ما ذهب إليه المبرد أيضًا. انظر القرطبي 1: 116، وابن كثير 1: 42، وأخطأ النقل عن القرطبي، فظنه استدل لصحة قول الطبري، وهو وهم. والذي قاله الطبري أقوى حجة وأعرق عربية من الذين ناقضوه. وقوله "مصدر أشكر"، وقوله "أن يصدر من الحمد"، يعني به المفعول المطلق. وانظر ما مضى: 117، تعليق: 1. (3) في المطبوعة: "مبني على أن معناه"، أدخلوا عليه التبديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أحمد الله حمدًا، وليس التأويل في قول القائل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، تاليًا سورةَ أم القرآن: أحمدُ الله، بل التأويلُ في ذلك ما وصفنا قبلُ، من أنّ جميع المحامد لله بألوهيّته وإنعامه على خلقه بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كِفاء لها في الدين والدنيا، والعاجل والآجل. ولذلك من المعنى، تتابعتْ قراءة القرّاء وعلماء الأمة على رَفع الحمد من (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) دون نصبها، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك: أحمد الله حمدًا. ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب، لكان عندي مُحيلا معناه، ومستحقًّا العقوبةَ على قراءته إياه كذلك، إذا تعمَّد قراءتَه كذلك، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله. فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله "الحمد لله"؟ أحَمِد الله نفسه جلّ ثناؤه فأثنى عليها، ثم علَّمنَاه لنقول ذلك كما قال ووصَف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذًا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهو عزّ ذكرُه معبودٌ لا عابدٌ؟ أم ذلك من قِيلِ جبريلَ أو محمدٍ رَسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد بَطل أن يكون ذلك لله كلامًا. قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه، ولكنه جلّ ذكره حَمِد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهلٌ، ثم علَّم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته، اختبارًا منه لهم وابتلاءً، فقال لهم قولوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وقولوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . فقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) مما علمهم جلّ ذكره أن يقولوه ويَدينُوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا. فإن قال: وأين قوله: "قولوا"، فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ؟ قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها - إذا عرفتْ مكان الكلمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ولم تَشكَّك أنّ سامعها يعرف، بما أظهرت من منطقها، ما حذفت - (1) حذفُ ما كفى منه الظاهرُ من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حُذفت، قولا أو تأويلَ قولٍ، كما قال الشاعر: وأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا ... إذَا سَارَ النَّوَاعِجُ لا يَسِيرُ (2) فَقَالَ السّائلون لِمَنْ حَفَرْتُمْ? ... فَقَالَ المُخْبِرُون لَهُمْ: وزيرُ (3) قال أبو جعفر: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميِّتُ وزيرٌ، فأسقَط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما دلّ على ذلك. وكذلك قول الآخر: وَرأَيتِ زَوْجَكِ في الوغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (4) وقد علم أنّ الرمح لا يُتَقَلَّد، وإنما أراد: وحاملا رمحًا، ولكن لما كان معلومًا معناه، اكتفى بما قد ظَهر من كلامه، عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودَّعوه: "مُصاحَبًا مُعافًى"، يحذفون "سر، واخرج"، إذ كان معلومًا معناه، وإن أسقط ذكره. فكذلك ما حُذف من قول الله تعالى ذكره: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، لمَّا عُلم بقوله جل وعزّ: (إيّاكَ نَعبُد) ما أراد بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ،   (1) سياق الكلام: "أن العرب من شأنها. . . حذف" وما بينهما فصل. (2) تأتي في تفسير آية سورة المؤمنون: 87 (18: 27 بولاق) .، ونسبهما لبعض بني عامر، وكذلك في معاني القرآن للفراء 1: 170 وهما في البيان والتبيين 3: 184 منسوبان للوزيري، ولم أعرفه، وفيها اختلاف في الرواية. الرمس: القبر المسوى عليه التراب. يقول: أصبح قبرا يزار أو يناح عليه. ورواه الجاحظ: "سأصير ميتًا"، وهي لا شيء. والنواعج جمع ناعجة: وهي الإبل السراع، نعجت في سيرها، أي سارت في كل وجه من نشاطها. وفي البيان ومعاني الفراء "النواجع"، وليست بشيء. (3) رواية الجاحظ: "فقال السائلون: من المسجى". وفي المعاني "السائرون". (4) يأتي في تفسير آيات سورة البقرة: 7 / وسورة آل عمران: 49 / وسورة المائدة: 53 / وسورة الأنعام: 99 / وسورة الأنفال: 14 / وسورة يونس: 71 / وسورة الرحمن: 22. وهو بيت مستشهد به في كل كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 من معنى أمره عبادَه، أغنتْ دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف. وقد روينا الخبرَ الذي قدمنا ذكره مبتَدأ في تأويل قول الله: (1) (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، عن ابن عباس، وأنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: "الحمد لله رب العالمين"، وبيّنا أن جبريل إنما علّم محمدًا ما أُمِر بتعليمه إياه (2) . وهذا الخبر يُنبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {رَبِّ} . قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو "الله"، في "بسم الله"، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع. وأما تأويل قوله (رَبِّ) ، فإن الرّب في كلام العرب منصرفٌ على معان: فالسيد المطاع فيها يدعَى ربًّا، ومن ذلك قول لَبِيد بن ربيعة: وأَهْلكْنَ يومًا ربَّ كِنْدَة وابنَه ... ورَبَّ مَعدٍّ، بين خَبْتٍ وعَرْعَرِ (3) يعني بربِّ كندة: سيِّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذُبيان: تَخُبُّ إلى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنالَهُ ... فِدًى لكَ من رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي (4) والرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا، ومنه قول الفرزدق بن غالب:   (1) في المطبوعة: "في تنزيل قول الله". (2) انظر ما مضى آنفًا لحديث رقم: 151. (3) ديوانه القصيدة: 15 / 32. وسيد كندة هو حجر أبو امرئ القيس. ورب معد: حذيفة بن بدر، كما يقول شارح ديوانه، وأنا في شك منه، فإن حذيفة بن بدر قتل بالهباءة. ولبيد يذكر خبتًا وعرعرًا، وهما موضعان غيره. (4) ديوانه: 89، والمخصص 7: 154. الطريف والطارف: المال المستحدث، خلاف التليد والتالد: وهو العتيق الذي ولد عندك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 كانُوا كَسَالِئَةٍ حَمْقَاءَ إذْ حَقَنتْ ... سِلاءَها فِي أدِيم غَيْرِ مَرْبُوبِ (1) يعني بذلك: في أديم غير مُصلَحٍ. ومن ذلك قيل: إن فلانًا يَرُبُّ صنيعته عند فلان؛ إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها، ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدة: فكُنْتَ امرَأً أَفْضَتْ إليك رِبَابَتي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ رُبُوبُ (2) يعنى بقوله: "أفضتْ إليك" أي وصلتْ إليك رِبَابتي، فصرتَ أنت الذي ترُبُّ أمري فتصلحه، لمّا خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ (3) ، فضيَّعوا أمري وتركوا تفقُّده - وهم الرُّبوب: واحدهم ربٌّ. والمالك للشيء يدعى رَبَّه. وقد يتصرف أيضًا معنى "الربّ" في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة. فربّنا جلّ ثناؤه: السيد الذي لا شِبْه لهُ، ولا مثل في سُؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جلّ ثناؤه (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، جاءت الرواية عن ابن عباس:- 155 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا   (1) ديوانه: 25. سلأ السمن يسلؤه: طبخه وعالجه فأذاب زبده. والسلاء، بكسر السين: السمن. وحقن اللبن في الوطب، والماء في السقاء: حبسه فيه وعبأه. رب نحى السمن يربه: دهنه بالرب، وهو دبس كل ثمرة، وكانوا يدهنون أديم النحى بالرب حتى يمتنوه ويصلحوه، فتطيب رائحته، ويمنع السمن أن يرشح، من غير أن يفسد طعمه أو ريحه. وإذا لم يفعلوا ذلك بالنحى فسد السمن. وأديم مربوب: جدا قد أصلح بالرب. يقول: فعلوا فعل هذه الحمقاء، ففسد ما جهدوا في تدبيره وعمله. (2) ديوانه: 29، ويأتي في تفسير آية سورة آل عمران: 79، (3: 233 بولاق) والمخصص 17: 154، والشعر يقوله للحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، وهو الحارث الأعرج المشهور. قال ابن سيده: "ربوب: جمع رب، أي الملوك الذين كانوا قبلك ضيعوا أمري، وقد صارت الآن ربابتي إليك - أي تدبير أمري وإصلاحه - فهذا رب بمعنى مالك، كأنه قال: الذين كانوا يملكون أمري قبلك ضيعوه". وقال الطبري فيما سيأتي: "يعني بقوله: ربتني: ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعت". والربابة: المملكة، وهي أيضًا الميثاق والعهد. وبها فسر هذا البيت، وأيدوه برواية من روى بدل"ربابتي"، "أمانتي". والأول أجود. (3) في المطبوعة: "من الملوك الذين كانوا"، غيروه ليوافق ما ألفوا من العبارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: "يا محمد قل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) "، قال ابن عباس: يقول: قل الحمد لله الذي له الخلق كله - السمواتُ كلهن ومن فيهنّ، والأَرَضُون كلُّهنّ ومن فيهنّ وما بينهن، مما يُعلم ومما لا يُعلم. يقول: اعلم يا محمد أن ربَّك هذا لا يشبهه شيء. (1) * * * القول في تأويل قوله: {الْعَالَمِينَ} . قاله أبو جعفر: والعالَمون جمع عالَم، والعالَم: جمعٌ لا واحدَ له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه. والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج: * فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ * (2) فجعلهم عالمَ زمانه. وهذا القول الذي قلناه، قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامّة المفسرين.   (1) الحديث 155- سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد، برقم 137. وهذا الحديث في ابن كثير 1: 44، والدر المنثور 1: 13، والشوكاني 1: 11. ونسبه الأخيران أيضًا لابن أبي حاتم. وفي المطبوع وابن كثير "والأرض ومن فيهن". (2) ديوانه: 60، وطبقات فحول الشعراء: 64، وخندف: أم بني إلياس بن مضر، مدركة وطابخة، وتشعبت منهم قواعد العرب الكبرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 156 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، الحمد لله الذي له الخلق كله: السموات والأرضون ومَن فيهنّ، وما بينهن، مما يُعلم ولا يعلم. (1) 157 - وحدثني محمد بن سنان القَزَّاز، قال حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: (رب العالمين) : الجن والإنس. (2) 158 - حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قول الله جل وعزّ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: ربِّ الجن والإنس. (3) 159 - حدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: الجنّ والإنس. (4)   (1) الحديث 156- هو مختصر مما قبله: 155. (2) الخبر 157- إسناد صحيح. محمد بن سنان القزاز، شيخ الطبري: تكلموا فيه من أجل حديث واحد. والحق أنه لا بأس به، كما قال الدارقطني. وهو مترجم في التهذيب، وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 5: 343- 346. أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد، الحافظ الحجة. شبيب: هو ابن بشر البجلي، ووقع في التهذيب 4: 306 "الحلبي" وهو خطأ مطبعي، صوابه في التاريخ الكبير للبخاري 2 / 2 / 232 / 233 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 357- 358 والتقريب وغيرها، وهو ثقة، وثقه ابن معين. (3) الخبر 158- إسناده حسن على الأقل، لأن عطاء بن السائب تغير حفظه في آخر عمره، وقيس بن الربيع قديم، لعله سمع منه قبل الاختلاط، ولكن لم نتبين ذلك بدليل صريح. ووقع في هذا الإسناد خطأ في المطبوع "حدثنا مصعب"، وصوابه من المخطوطة "حدثنا محمد بن مصعب"، وهو القرقساني، كما مضى في الإسناد 154. (4) الخبر 159- إسناده حسن كالذي قبله. وأبو أحمد الزبيري: هو محمد بن عبد الله ابن الزبير الأسدي، من الثقات الكبار، من شيوخ أحمد بن حنبل وغيره من الحفاظ. وقيس: هو ابن الربيع. وهذه الأخبار الثلاثة 157- 159، ولفظها واحد، ذكرها ابن كثير 1: 44 خبرًا واحدًا دون إسناد. وذكرها السيوطي في الدر المنثور 1: 13 خبرًا واحدًا ونسبه إلى "الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وصححه، عن ابن عباس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 160 - حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرْقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لَهِيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: ابن آدم، والجن والإنس، كل أمة منهم عالمٌ على حِدَته. (1) 161 - حدثني محمد بن حُميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: الإنس والجن. (2) 162 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله. (3) 163 - حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: كلّ صنف عالم. (4)   (1) الأثر 160 - أحمد بن عبد الرحيم البرقي: اشتهر بهذا، منسوبًا إلى جده، وكذلك أخوه "محمد" وهو: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم. وقد مضت رواية الطبري عنه أيضًا برقم 22 باسم "ابن البرقي". ابن أبي مريم: هو سعيد. ابن لهيعة هو عبد الله. عطاء بن دينار المصري: ثقة، وثقه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما وروى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 332 وفي المراسيل: 58 عن أحمد بن صالح، قال: " عطاء بن دينار، هو من ثقات أهل مصر، وتفسيره - فيما يروى عن سعيد بن جبير -: صحيفة، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير ". وروى في الجرح عن أبيه أبي حاتم، قال: " هو صالح الحديث، إلا أن التفسير أخذه من الديوان، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير إليه، فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير". (2) الأثر 161 - إسناده إلى مجاهد ضعيف. لأن سفيان، وهو الثوري، لم يسمع من مجاهد؛ لأن الثوري ولد سنة 97، ومجاهد مات سنة 100 أو بعدها بقليل، والظاهر عندي أن هذه الرواية من أغلاط مهران بن أبي عمر، راويها عن الثوري، فإن رواياته عن الثوري فيها اضطراب كما بينا في الحديث الماضي 11. وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 44 دون نسبة ولا إسناد. وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 13، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد. (3) الأثر 162 - إسناده ضعيف، لإبهام الرجل راويه عن مجاهد. وهو يدل على غلط مهران في الإسناد قبله، إذ جعله عن الثوري عن مجاهد مباشرة، دون واسطة. (4) الأثر 163 - سعيد: هو ابن أبي عروبة، وقد مضى أثر آخر عن قتادة بهذا الإسناد. 119 وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 13، وفي نسبته هناك خطأ مطبعي: " ابن جريج " بدل " ابن جرير ". وكلام ابن جريج سيأتي 165 مرويًا عنه لا راويًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 164 - حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: الإنس عالَمٌ، والجنّ عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ، خلقهم لعبادته. (1) 165 - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، في قوله: (رَبِّ الَعَالَمِينَ) قال: الجن والإنس. (2) * * * القول في تأويل قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . قال أبو جعفر: قد مضى البيانُ عن تأويل قوله (الرحمن الرحيم) ، في تأويل (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. ولم نَحْتَجْ إلى الإبانة عن وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، إذْ كنا لا نرى أن   (1) الأثر 164 - أبو جعفر: هو الرازي التميمي، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم، وقال ابن عبد البر: "هو عندهم ثقة، عالم بتفسير القرآن". وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 11: 143 - 147. وهذا الأثر عن أبي العالية ذكره ابن كثير 1: 45 والسيوطي 1: 13 بأطول مما هنا قليلا، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، وقال ابن كثير: "وهذا كلام غريب، يحتاج مثله إلى دليل صحيح". وهذا حق. (2) الأثر 165 - سبق الكلام على هذا الإسناد 144. وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 44 دون نسبة ولا إسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 "بسم الله الرحمن الرحيم" من فاتحة الكتاب - آيةٌ، فيكونَ علينا لسائلٍ مسألةٌ بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، وقد مضى وصفُ الله عزّ وجلّ به نفسه في قوله " بسم الله الرحمن الرحيم "، مع قرب مكان إحدى الآيتين من الأخرى، ومجاورتها صَاحِبتها؟ بل ذلك لنا حُجة على خطأ دعوى من ادَّعى أن "بسم الله الرحمن الرحيم" من فاتحة الكتاب آية. إذ لو كان ذلك كذلك، لكان ذلك إعادةَ آية بمعنى واحد ولفظ واحدٍ مرتين من غير فَصْل يَفصِل بينهما. وغيرُ موجودٍ في شيء من كتاب الله آيتان مُتجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد، لا فصلَ بينهما من كلام يُخالف معناه معناهما. وإنما يُؤتى بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة، مع فُصولٍ تفصِل بين ذلك، وكلامٍ يُعترضُ به معنى الآيات المكررات أو غير ألفاظها، ولا فاصِلَ بين قول الله تبارك وتعالى اسمه " الرحمن الرحيم " من " بسم الله الرحمن الرحيم "، وقولِ الله: " الرحمن الرحيم "، من " الحمدُ لله ربّ العالمين ". فإن قال: فإن " الحمدُ لِله رَبِّ العالَمين " فاصل من ذلك. (1) قيل: قد أنكر ذلك جماعة من أهل التأويل، وقالوا: إن ذلك من المؤخَّر الذي معناه التقديم، وإنما هو: الحمد لله الرحمن الرحيم رَبّ العالمين مَلِك يوم الدين. واستشهدوا على صحة ما ادعوا من ذلك بقوله: "مَلِك يوم الدين"، فقالوا: إن قوله "ملِكِ يوم الدين" تعليم من الله عبدَه أنْ يصفَه بالمُلْك في قراءة من قرأ ملِك، وبالمِلْك في قراءة من قرأ " مالك ". قالوا: فالذي هو أولى أن يكونَ مجاورَ وصفه بالمُلْك أو المِلْك، ما كان نظيرَ ذلك من الوصف؛ وذلك هو قوله: "ربّ العالمين"، الذي هو خبر عن مِلْكه جميع أجناس الخلق؛ وأن يكون مجاورَ وصفه بالعظمة والألُوهة ما كان له نظيرًا في المعنى من الثناء عليه، وذلك قوله: (الرحمن الرحيم) . فزعموا أنّ ذلك لهم دليلٌ على أن قوله " الرحمن الرحيم " بمعنى التقديم قبل " رب العالمين "، وإن كان في الظاهر مؤخرًا. وقالوا: نظائرُ ذلك - من التقديم الذي هو بمعنى التأخير، والمؤخَّر الذي هو بمعنى التقديم - في كلام العرب أفشى، وفي منطقها أكثر، من أن يُحصى. من ذلك قول جرير بن عطية:   (1) في المطبوعة: "فاصل بين ذلك"، والذي في المخطوطة عربية جيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 طَافَ الخَيَالُ - وأَيْنَ مِنْكَ? - لِمَامَا ... فَارْجِعْ لزَوْرِكَ بالسَّلام سَلاما (1) بمعنى طاف الخيال لمامًا، وأين هو منك؟ وكما قال جل ثناؤه في كتابه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) [سورة الكهف: 1] بمعنى (2) : الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيِّمًا ولم يجعل له عوجًا، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهدٌ على صحة قول من أنكر أن تكون - (بسم الله الرحمن الرحيم) من فاتحة الكتاب - آيةً (3) * * * القول في تأويل قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . قال أبو جعفر: القرَّاء مختلفون في تلاوة (ملك يَوْمِ الدِّينِ) . فبعضهم يتلوه " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ "، وبعضهم يتلوه (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وبعضهم يتلوه (مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) بنصب الكاف. وقد استقصينا حكاية الرواية عمن رُوي عنه في ذلك قراءةٌ في " كتاب القراآت "، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحّة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قَصَدْنا له، في كتابنا هذا، البيانَ عن وجوه تأويل آي القرآن، دون وجوه قراءتها. ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن المَلِك من "المُلْك"   (1) ديوانه: 541، والنقائض: 38. طاف الخيال: ألم بك في الليل، واللمام: اللقاء اليسير. والزور: الزائر، يقال للواحد والمثنى والجمع: زور. "فارجع لزورك"، يقول: رد عليه السلام كما سلم عليك. (2) في المطبوعة: "المعنى: الحمد لله. . . " (3) وهكذا ذهب أبو جعفر رحمه الله إلى أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست آية من الفاتحة، واحتج لقوله بما ترى. وليس هذا موضع بسط الخلاف فيه، والدلالة على خلاف ما قال ابن جرير. وقد حققت هذه المسألة، أقمت الدلائل الصحاح -في نظري وفقهي- على أنها آية من الفاتحة -: في شرحي لسنن الترمذي 2: 16 - 25. وفي الإشارة إليه غنية هنا. أحمد محمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 مشتق، وأن المالك من "المِلْك" مأخوذٌ. فتأويل قراءةِ من قرأ ذلك: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، أن لله المُلْك يوم الدين خالصًا دون جميع خلقه، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفرادَ بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية (1) . فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصَّغَرة الأذِلّة (2) ، وأنّ له - من دُونهم، ودون غيرهم - المُلك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال جلّ ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [سورة غافر: 16] . فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالمُلك دون ملوك الدنيا، الذين صارُوا يوم الدّين منْ مُلكهم إلى ذِلّة وصَغار، ومن دُنياهم في المعاد إلى خسار. وأما تأويلُ قراءة من قرأ: (مالك يوم الدين) ، فما:- 166 - حدثنا به أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معهُ حكمًا كمِلْكِهم في الدنيا. ثم قال: (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [سورة النبأ: 38] وقال: (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) [سورة طه: 108] . وقال: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) (3) [سورة الأنبياء: 28] . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، وأصحُّ القراءتين في التلاوة عندي،   (1) الجبرية والجبروت واحد، وهو من صفات الله العلي. الجبار: القاهر فوق عباده، يقهرهم على ما أراد من أمر ونهي، سبحانه وتعالى. (2) الصغرة جمع صاغر: وهو الراضي بالذل المقر به. والأذلة جمع ذليل. (3) الخبر 166 - سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد 137. وهذا الخبر، مع باقيه الآتي 167 نقله ابن كثير 1: 46 دون إسناد ولا نسبة، ونقله السيوطي 1: 14 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. وقال ابن كثير: " وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف. وهو ظاهر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 التأويلُ الأول، وهي قراءةُ من قرأ "مَلِكِ" بمعنى "المُلك". لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك، إيجابًا لانفراده بالمِلْك، وفضيلة زيادة المِلك على المالك (1) ، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا. وبعدُ، فإن الله جلّ ذكره، قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله (ملِكِ يوم الدين) أنه مالكُ جميع العالمين وسيَّدهم، ومُصلحُهم، والناظرُ لهم، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة، بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه   (1) في المخطوطة: "الملك على الملك"، وهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إيَّاهم كذلك بقوله: (ربِّ العالمين) ، فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله (ربِّ العالمين الرَّحمن الرحيم) ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه (مالِكِ يوم الدين) ، إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله (ربِّ العالمين) ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله: (مالك يوم الدين) ، المعنى الذي في قوله: (مَلِك يوم الدين) ، وهو وصْفه بأنه الملِك. فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحقّ التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ (مالك يوم الدين) الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء، متفرِّدًا به دون سائر خلقه. فإن ظنّ ظانّ أن قوله (رَبّ العَالمين) نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة، يوجبُ وصْلَ ذلك بالنبأ عن نفسه أنه: مَنْ مَلَكهم في الآخرة على نحو مِلْكه إياهم في الدنيا بقوله (مالك يوم الدين) - فَقد أغفلَ وظنَّ خطأ (1) . وذلك أنه لو جاز لِظانّ أنْ يظنّ أن قوله (ربّ العالمين) محصورٌ معناه على الخبر عن ربوبِيَّة عالم الدنيا دُونَ عالم الآخرة، مع عدم الدلالة على أن مَعنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل، أو في خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقولٍ، أو بحجّة موجودة في المعقول - لجاز لآخر أن يظنّ أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله (رب العالمين) ، دون سائر ما يحدث بعدَه في الأزمنة الحادثة من العالمين. إذْ كان صحيحًا بما قد قدّمنا من البيان، أنّ عالمَ كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده. فإن غَبِيَ - عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا - ذو غباء، فإنّ في قول الله جل ثناؤه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة الجاثية: 16] دلالةً واضحةً على أنّ عالم كلّ زمان، غيرُ عالم الزمان الذي كان قَبله، وعالم الزمان الذي بعدَه، إذْ كان الله جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية [سورة آل عمران: 110] . فمعلومٌ بذلك أن بَني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا -مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم- أفضلَ العالمين، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتَّبِعون منهاجهُ، دون من سِواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه. وإذْ كان بيِّنًا فساد تأويل متأوِّلٍ لو تأوّل قوله (ربّ العالمين) أنه معنيٌّ به   (1) قوله "أغفل"، فعل لازم غير متعد. ومعناه: دخل في الغفلة والنسيان ووقع فيهما، وهي عربية معرقة، وإن لم توجد في المعاجم، وهي كقولهم: أنجد، دخل نجدًا، وأشباهها. وحسبك بها عربية أنها لغة الشافعي، أكثر من استعمالها في الرسالة والأم. من ذلك قوله في الرسالة: 42 رقم: 136: "وبالتقليد أغفل من أغفل منهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أن الله ربُّ عَالمي زَمن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي سائر الأزمنة غيره - كان واضحًا فساد قول من زعم أنّ تأويلَهُ: ربُّ عالَمِ الدنيا دُون عالَمِ الآخرة، وأنّ "مالك يوم الدين" استحقَّ الوصلَ به ليُعلَم أنه في الآخرة من مِلْكِهم ورُبُوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا. ويُسْأل زاعم ذلك، الفرقَ بينه وبين متحكم مثله - في تأويل قوله (رب العالمين) ، تحكَّم فقال: إنه إنما عنى بذلك أنه ربّ عالمي زمان محمّد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله، والحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول: أنه عَنى به عالمي الدنيا دُون عالمي الآخرة - من أصل أو دلالة (1) . فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله. وأما الزاعم أن تأويل قوله (مالك يوم الدين) أنه الذي يملكُ إقامة يَوم الدين، فإن الذي ألزمْنا قَائلَ هذا القول الذي قبله - له لازمٌ. إذْ كانت إقامةُ القيامة، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك، في الدار التي أعَدّ الله لهم فيها ما أعدّ. وُهمُ العالَمون الذين قد أخبر جلّ ذكره عنهم أنه ربُّهم في قوله (ربّ العالمين) . وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ (مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) ، فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصَبه بنيّة النداء والدعاء، كما قال جلّ ثناؤه: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [سورة يوسف: 29] بتأويل: يا يوسف أعرضْ عن هذا، وكما قال الشاعر من بني أسد، وهو شعر -فيما يقال- جاهلي: إنْ كُنْتَ أَزْنَنْتَني بِهَا كَذِبًا ... جَزْءُ، فلاقَيْتَ مِثْلَهَا عَجِلا (2)   (1) سياق العبارة: "ويسأل زاعم ذلك، الفرق. . . من أصل أو دلالة "، وما بينهما فصل. (2) الشعر لجاهلي مخضرم هو حضرمي بن عامر الأسدي، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من بني أسد فأسلموا جميعًا. وسبب قوله هذا الشعر: أن إخوته كانوا تسعة، فجلسوا على بئر فانخسفت بهم، فورثهم، فحسده ابن عمه جزء بن مالك بن مجمع، وقال له: من مثلك؟ مات إخوتك فورثتهم، فأصبحت ناعمًا جذلا. وما كاد، حتى جلس جزء وإخوة له تسعة على بئر فانخسفت بإخوته ونجا هو، فبلغ ذلك حضرميًا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلمة وافقت قدرًا وأبقت حقدًا. يعني قوله لجزء: "فلاقيت مثلها عجلا". وأزننته بشيء: اتهمته به. انظر أمالي القالي 1: 67، والكامل 1: 41 - 42 وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 يريد: يا جزءُ، وكما قال الآخر: كَذَبْتُمْ وبيتِ الله لا تَنْكِحُونَهَا، ... بَني شَاب قَرْنَاها تَصُرُّ وتَحْلبُ (1) يريد: يا بني شابَ قرْناها. وإنما أوْرطه في قراءة ذلك - بنصب الكاف من "مالك"، على المعنى الذي وصفتُ - حيرتهُ في توجيه قَوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وِجْهَته، مع جر (مالك يوم الدين) وخفضِه. فظنّ أنّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرِّه (مالك يوم الدين) ، فنصب: "مالكَ يوم الدين" ليكون (إياك نعبد) له خطابًا. كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نَستعين. ولو كان عَلم تأويل أول السورة، وأن "الحمدُ لله رَبّ العالمين" أمرٌ من الله عبدَه بقيلِ ذلك - كما ذكرنا قبلُ من الخبر عن ابن عباس: أن جبريلَ قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره: قل يا محمد، (الحمدُ لله رب العالمين الرحمن الرحيم مَالكِ يوم الدين) ، وقل أيضًا يا محمد: (إياك نَعبد وإياك نَستعين) (2) - وكان عَقَل (3) عن العرب أنَّ من شأنها إذا حكَت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القولَ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبرَ عن الغائب ثم تعودَ إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلتُ لأخيك: لو قمتَ لقمتُ، وقد قلتُ لأخيك: لو قام لقمتُ (4) - لسَهُل عليه مخرجُ ما استصعب عليه وجْهتُه من جر "مالك يوم الدين".   (1) نسبه في اللسان (قرن) ومجاز القرآن: 100 إلى رجل من بني أسد والبيت في سيبويه 1: 295 / 2: 7، 65، وهو شاهد مشهور. "وبني شاب قرناها" يعني قومًا، يقول: بني التي يقال لها: شاب قرناها، أي يا بني العجوز الراعية، لا هم لها إلا أن تصر، أي تشد الصرار على الضرع حتى تجتمع الدرة، ثم تحلب. وذلك ذم لها. والقرن: الضفيرة. (2) انظر: 151، 155. (3) عطف على قوله: " ولو كان علم. . . ". (4) جواب " لو كان علم. . . وكان عقل ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومن نظير "مالك يوم الدين" مجرورًا، ثم عَوْده إلى الخطاب بـ "إياك نعبد "، لما ذكرنا قبل - البيتُ السائرُ من شعر أبي كبير الهُذَلي: يَا لَهْفَ نَفْسي كان جِدَّةُ خَالِدٍ ... وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للتُّرابِ الأَعْفَرِ (1) فرجعَ إلى الخطاب بقوله: " وبياضُ وَجْهك "، بعد ما قد مضى الخبرُ عن خالد على معنى الخبر عن الغائب. ومنه قول لبيد بن ربيعة: بَاتَتْ تَشَكَّى إليّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً ... وقد حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا (2) فرجع إلى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب. ومنه قول الله، وهو أصدق قيلٍ وأثبتُ حجةٍ: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس: 22] ، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: وَجرَين بكم. والشواهدُ من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تُحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه. فقراءة: " مالكَ يوم الدين " محظورة غير جائزة، لإجماع جميع الحجة من القرّاء وعلماء الأمة على رَفض القراءة بها. * * *   (1) ديوان الهذليين 2: 101. في المطبوعة: "جلدة" وهو خطأ وقوله "جدة" يعني شبابه الجديد. والجدة: نقيض البلى. والتراب الأعفر: الأبيض، قل أن يطأه الناس لجدبه. وخالد: صديق له من قومه، يرثيه. (2) القسم الثاني من ديوانه: 46، وقال ابن سلام في طبقات فحول الشعراء: ص 50 وذكر البيت وبيتًا معه، أنهما قد رويا عن الشعبي (ابن سعد 6: 178) ، وهما يحملان على لبيد، ثم قال: "ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث، ويستعان به على السهر عند الملوك والملوك لا تستقصي". أجهش بالبكاء: تهيأ له وخنقه بكاؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يَوْمِ الدِّينِ} . قال أبو جعفر: والدين في هذا الموضع، بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال، كما قال كعب بن جُعَيْل: إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُم ... ودِنَّاهُمُ مِثْلَ ما يُقْرِضُونَا (1) وكما قال الآخر: وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أنَّ مُلْككَ زائلٌ ... واعلمْ بأَنَّكَ مَا تدِينُ تُدَانُ (2) يعني: ما تَجْزِي تُجازى. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه (كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) - يعني: بالجزاء - (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) [سورة الانفطار: 9، 10] يُحصون ما تعملون من الأعمال، وقوله تعالى (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) [سورة الواقعة: 86] ، يعني غير مجزيِّين بأعمالكم ولا مُحاسَبين. وللدين معانٍ في كلام العرب، غير معنى الحساب والجزاء، سنذكرها في أماكنها إن شاء الله.   (1) الكامل للمبرد 1: 191، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم 1: 52، المخصص 17: 155. (2) الكامل للمبرد 1: 192 منسوبًا إلى يزيد بن أبي الصعق الكلابي، وكذلك في جمهرة الأمثال للعسكري: 196، والمخصص 17: 155، وفي اللسان (زنأ) و (دان) منسوبين إلى خويلد بن نوفل الكلابي، وفي الخزانة 4: 230 إلى بعض الكلابيين. يقولون: إن الحارث بن أبي شمر الغساني كان إذا أعجبته امرأة من قيس عيلان بعث إليها واغتصبها، فأخذ بنت يزيد بن الصعق الكلابي، وكان أبوها غائبًا، فلما قدم أخبر. فوفد إليه فوقف بين يديه وقال: يَا أَيُّهَا المَلِكُ المُقِيتُ! أمَا تَرى ... لَيْلاً وصُبْحًا كَيْف يَخْتَلِفَانِ ? هَلْ تَسْتَطِيعُ الشَّمْسَ أن تَأتِي بها ... لَيْلاً ? وهل لَكَ بِالْمَلِيك يَدَانِ? يَا حَارِ، أيْقِنْ أنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وبما قُلنا في تأويل قوله (يوم الدين) جاءت الآثار عن السلف من المفسِّرين، مع تصحيح الشواهد تأويلَهم الذي تأوّلوه في ذلك. 167 - حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: (يَوْمِ الدِّينِ) ، قال: يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إلا من عَفا عنه، فالأمرُ أمرُه. ثم قال: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [سورة الأعراف: 54] . (1) 168 - وحدثني موسى بن هارون الهَمْدَاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القَنَّاد، قال: حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، هو يوم الحساب. (2) 169 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا   (1) الخبر 167 - سبق تخريجه في الخبر 166. (2) الخبر 168 - هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري، إن لم يكن أكثرها، فلا يكاد يخلو تفسير آية من رواية بهذا الإسناد. وقد عرض الطبري نفسه في (ص 121 بولاق، سطر: 28 وما بعده) ، فقال، وقد ذكر الخبر عن ابن مسعود وابن عباس بهذا الإسناد: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كان بإسناده مرتابًا. . . . ". ولم يبين علة ارتيابه في إسناده، وهو مع ارتيابه قد أكثر من الرواية به. ولكنه لم يجعلها حجة قط. بيد أني أراه إسنادا يحتاج إلى بحث دقيق. ولأئمة الحديث كلام فيه وفي بعض رجاله. وقد تتبعت ما قالوا وما يدعو إليه بحثه، ما استطعت، وبدا لي فيه رأي، أرجو أن يكون صوابًا، إن شاء الله. وما توفيقي إلا بالله: أما شيخ الطبري، وهو "موسى بن هارون الهمداني": فما وجدت له ترجمة، ولا ذكرًا في شيء مما بين يدي من المراجع، إلا ما يرويه عنه الطبري أيضًا في تاريخه، وهو أكثر من خمسين موضعًا في الجزئين الأول والثاني منه. وما بنا حاجة إلى ترجمته من جهة الجرح والتعديل، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد، معروف عند أهل العلم بالحديث. وما هو إلا رواية كتاب، لا رواية حديث بعينه. "وعمرو بن حماد": هو عمرو بن حماد بن طلحة القناد، وقد ينسب إلى جده، فيقال عمرو بن طلحة، وهو ثقة، روى عنه مسلم في صحيحه، وترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 285، وقال: "وكان ثقة إن شاء الله" مات سنة 222. وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 228، وروى عن أبيه ويحيى بن معين أنهما قالا فيه: "صدوق". أسباط بن نصر الهمداني: مختلف فيه، وضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات: 410، ةترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 53 فلم يذكر فيه جرحًا، وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 332، وروى عن يحيى بن معين قال: "أسباط بن نصر ثقة". وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند، في الحديث 1286. إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي: هو السدي الكبير، قرشي بالولاء، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة، من بني عبد مناف، كما نص على ذلك البخاري في تاريخيه: الصغير: 141 - 142، والكبير 1 / 1 / 361، وهو تابعي، سمع أنسًا، كما نص على ذلك البخاري أيضًا، وروى عن غيره من الصحابة، وعن كثير من التابعين. وهو ثقة. أخرج له مسلم في صحيحه، وثقه أحمد بن حنبل، فيما روى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 184، وروى أيضًا عن أحمد، قال: "قال لي يحيى بن معين يومًا عند عبد الرحمن بن مهدي: السدي ضعيف، فغضب عبد الرحمن، وكره ما قال": وفي الميزان والتهذيب "أن الشعبي قيل له: إن السدي قد أعطي حظًا من علم القرآن، فقال: قد أعطي حظًا من جهل بالقرآن! ". وعندي أن هذه الكلمة من الشعبي قد تكون أساسا لقول كل من تكلم في السدي بغير حق. ولذلك لم يعبأ البخاري بهذا القول من الشعبي، ولم يروه، بل روى في الكبير عن مسدد عن يحيى قال: " سمعت ابن أبي خالد يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي". وروى في تاريخيه عن ابن المديني عن يحيى، وهو القطان، قال: "ما رأيت أحدًا يذكر السدي إلا بخير، وما تركه أحد". وفي التهذيب: "قال العجلي: ثقة عالم بالتفسير راوية له". وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند 807. وتوفي السدي سنة 127. و"السدي": بضم السين وتشديد الدال المهملتين، نسبة إلى "السدة"، وهي الباب، لأنه كان يجلس إلى سدة الجامع بالكوفة، ويبيع بها المقانع. أبو مالك: هو الغفاري، واسمه غزوان. وهو تابعي كوفي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 108، وابن سعد في الطبقات 6: 206، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 2 / 55، وروى توثيقه يحيى بن معين. أبو صالح: هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب، واسمه باذام، ويقال باذان. وهو تابعي ثقة، رجحنا توثيقه في شرح المسند 2030، وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 144، وروى عن محمد بن بشار، قال: "ترك ابن مهدي حديث أبي صالح". وكذلك روى ابن أبي حاتم في ترجمته في الجرح والتعديل 1 / 1 / 431 - 432 عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي. ولكنه أيضًا عن يحيى بن سعيد القطان، قال: " لم أرَ أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان". وروى أيضًا عن يحيى بن معين، قال: " أبو صالح مولى أم هانئ ليس به بأس، فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه، ومرة عن أبي صالح، ومرة عن أبي صالح عن ابن عباس". يعني بهذا أن الطعن فيما يروي عنه هو في رواية الكلبي، كما هو ظاهر. هذا عن القسم الأول من هذا الإسناد. فإنه في حقيقته إسنادان أو ثلاثة. أولهما هذا المتصل بابن عباس. والقسم الثاني، أو الإسناد الثاني: "وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود". والذي يروي عن مرة الهمداني: هو السدي نفسه. ومرة: هو ابن شراحيل الهمداني الكوفي، وهو تابعي ثقة، من كبار التابعين، ليس فيه خلاف بينهم. والقسم الثالث، أو الإسناد الثالث: "وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". وهذا أيضًا من رواية السدي نفسه عن ناس من الصحابة. فالسدي يروي هذه التفاسير لآيات من القرآن: عن اثنين من التابعين عن ابن عباس، وعن تابعي واحد عن ابن مسعود، ومن رواية نفسه عن ناس من الصحابة. وللعلماء الأئمة الأقدمين كلام في هذا التفسير، بهذه الأسانيد، قد يوهم أنه من تأليف من دون السدي من الرواة عنه، إلا أني استيقنت بعدُ، أنه كتاب ألفه السدي. فمن ذلك قول ابن سعد في ترجمة "عمرو بن حماد القناد" 6: 285: "صاحب تفسير أسباط بن نصر عن السدي". وقال في ترجمة "أسباط بن نصر" 6: 261: "وكان راوية السدي، روى عنه التفسير". وقال قبل ذلك في ترجمة "السدي" 6: 225: "إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، صاحب التفسير". وقال قبل ذلك أيضًا، في ترجمة "أبي مالك الغفاري" 6: 206: "أبو مالك الغفاري صاحب التفسير، وكان قليل الحديث". ولكن الذي يرجح أنه كتاب ألفه السدي، جمع فيه التفسير، بهذه الطرق الثلاث، قول أحمد بن حنبل في التهذيب 1: 314، في ترجمة السدي: "إنه ليحسن الحديث، إلا أن هذا التفسير الذي يجئ به، قد جعل له إسنادًا، واستكلفه". وقول الحافظ في التهذيب أيضًا 1: 315: "قد أخرج الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما، في تفاسيرهم، تفسير السدي، مفرقًا في السور، من طريق أسباط بن نصر عنه". وقول السيوطي في الإتقان 2: 224 فيما نقل عن الخليل في الإرشاد: "وتفسير إسماعيل السدي، يورده بأسانيد إلى ابن مسعود وابن عباس. وروى عن السدي الأئمة، مثل الثوري وشعبة. ولكن التفسير الذي جمعه، رواه أسباط بن نصر. وأسباط لم يتفقوا عليه. غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي". ثم قال السيوطي: "وتفسير السدي، [الذي] أشار إليه، يورد منه ابن جرير كثيرًا، من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، و [عن] ناس من الصحابة. هكذا. ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا، لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد. والحاكم يخرج منه في مستدركه أشياء، ويصححه، لكن من طريق مرة عن ابن مسعود وناس، فقط، دون الطريق الأول، وقد قال ابن كثير: إن هذا الإسناد يروي به السدي أشياء فيها غرابة". وأول ما نشير إليه في هذه الأقوال: التناقض بين قولي الحافظ ابن حجر والسيوطي، في أن ابن أبي حاتم أخرج تفسير السدي مفرقًا في تفسيره، كما صنع الطبري، في نقل الحافظ، وأنه أعرض عنه، في نقل السيوطي. ولست أستطيع الجزم في ذلك بشيء، إذ لم أرَ تفسير ابن أبي حاتم. ولكني أميل إلى ترجيح نقل ابن حجر، بأنه أكثر تثبتًا ودقة في النقل من السيوطي. ثم قد صدق السيوطي فيما نقل عن الحاكم. فإنه يروي بعض هذا التفسير في المستدرك، بإسناده، إلى أحمد بن نصر: "حدثنا عمرو بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". ثم يصححه على شرط مسلم، ويوافقه الذهبي في تلخيصه. من ذلك في المستدرك 2: 258، 260، 273، 321. والحاكم في ذلك على صواب، فإن مسلمًا أخرج لجميع رجال هذا الإسناد. من عمرو بن حماد بن طلحة القناد إلى مرة الهمداني. ولم يخرج لأبي صالح باذام ولا لأبي مالك الغفاري، في القسم الأول من الإسناد الذي روى به السدي تفاسيره. أما كلمة الإمام أحمد بن حنبل في السدي "إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به، قد جعل له إسنادًا واستكلفه" فإنه لا يريد ما قد يفهم من ظاهرها: أنه اصطنع إسنادا لا أصل له؛ إذ لو كان ذلك، لكان -عنده- كذابًا وضاعًا للرواية. ولكنه يريد -فيما أرى، والله أعلم- أنه جمع هذه التفاسير، من روايته عن هؤلاء الناس: عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، ثم ساقها كلها مفصلة، على الآيات التي ورد فيها شيء من التفسير، عن هذا أو ذاك أو أولئك، وجعل لها كلها هذا الإسناد، وتكلف أن يسوقها به مساقًا واحدًا. أعني: أنه جمع مفرق هذه التفاسير في كتاب واحد، جعل له في أوله هذه الأسانيد. يريد بها أن ما رواه من التفاسير في هذا الكتاب، لا يخرج عن هذه الأسانيد. ولا أكاد أعقل أنه يروي كل حرف من هذه التفاسير عنهم جميعا. فهو كتاب مؤلف في التفسير، مرجع فيه إلى الرواية عن هؤلاء، في الجملة، لا في التفصيل. إنما الذي أوقع الناس في هذه الشبهة، تفريق هذه التفاسير في مواضعها، مثل صنيع الطبري بين أيدينا، ومثل صنيع ابن أبي حاتم، فيما نقل الحافظ ابن حجر، ومثل صنيع الحاكم في المستدرك. فأنا أكاد أجزم أن هذا التفريق خطأ منهم، لأنه يوهم القارئ أن كل حرف من هذه التفاسير مروي بهذه الأسانيد كلها، لأنهم يسوقونها كاملة عند كل إسناد، والحاكم يختار منها إسنادًا واحدًا يذكره عند كل تفسير منها يريد روايته. وقد يكون ما رواه الحاكم -مثلا- بالإسناد إلى ابن مسعود، ليس مما روى السدي عن ابن مسعود نصًا. بل لعله مما رواه من تفسير ابن عباس، او مما رواه ناس من الصحابة، روى عن كل واحد منهم شيئًا، فأسند الجملة، ولم يسند التفاصيل. ولم يكن السدي ببدع في ذلك، ولا يكون هذا جرحًا فيه ولا قدحًا. إنما يريد إسناد هذه التفاسير إلى الصحابة، بعضها عن ابن عباس، وبعضها عن ابن مسعود، وبعضها عن غيرهما منهم. وقد صنع غيره من حفاظ الحديث وأئمته نحوًا مما صنع، فما كان ذلك بمطعن فيهم، بل تقبلها الحفاظ بعدهم، وأخرجوها في دواوينهم. ويحضرني الآن من ذلك صنيع معاصره: ابن شهاب الزهري الإمام. فقد روى قصة حديث الإفك، فقال: "أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضا "، إلخ. فذكر الحديث بطوله. وهو في صحيح مسلم 2: 333 - 335. وسيأتي في تفسير الطبري (18: 71 - 74 بولاق) . ورواه الإمام أحمد والبخاري في صحيحه، كما في تفسير ابن كثير 6: 68 - 73. ثم قال ابن كثير: " وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري كذلك، قال: " وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة، وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة ". وإسناد ابن إسحاق الأخير في الطبري أيضًا. والإسنادان كلاهما رواهما ابن إسحاق عن الزهري، في السيرة (ص 731 من سيرة ابن هشام) . والمثل على ذلك كثيرة، يعسر الآن تتبعها. وقد أفادنا هذا البحث أن تفسير السدي من أوائل الكتب التي ألفت في رواية الأحاديث والآثار. وهو من طبقة عالية، من طبقة شيوخ مالك من التابعين. وبعد: فأما هذا الخبر بعينه، فقد رواه الحاكم في المستدرك 2: 258، بالإسناد الذي أشرنا إليه، من رواية السدي عن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". وافقه الذهبي. ونقله السيوطي في الدر المنثور 1: 14 عن ابن جرير والحاكم، وصححه، عن ابن مسعود وناس من الصحابة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 مَعمر، عن قتادة في قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال: يوم يَدينُ الله العبادَ بأعمالهم. (1) 170 - وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، (مالك يوم الدين) قال: يوم يُدان الناس بالحساب. (2) * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . قال أبو جعفر: وتأويل قوله (إيَّاكَ نعبُدُ) : لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك. 171 - كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريلُ لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، إياكَ نُوحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك (3) .   (1) الأثر 169 - نقله السيوطي 1: 14 ونسبه لعبد الرزاق وعبد بن حميد. وهو ظاهر في رواية الطبري هذه - أنه من مصنف عبد الرزاق. ونسبه الشوكاني 1: 12 لهما وللطبري. (2) الأثر 170 - مضى الكلام على هذا الإسناد: 144. وأما لفظه فلم يذكره أحد منهم. (3) الخبر 171 - إسناده ضعيف، بيناه في: 137. وهذا الخبر والذي بعده 172 جمعهما السيوطي 1: 14، ونسبهما أيضًا لابن أبي حاتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نَخشع ونذلّ ونستكينُ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونَخاف- وإن كان الرّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة- لأنّ العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبَّدًا. ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد: تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت ... وَظِيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ (1) يعني بالموْر: الطريق. وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء (2) . ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد. ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه. والشواهد على ذلك -من أشعار العرب وكلامها- أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفّق لفهمه إن شاء الله تعالى. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قال أبو جعفر: ومعنى قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : وإياك رَبنا نستعين على عبادتنا إيّاك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها -لا أحدًا سواك، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أمورِه معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة. 172 - كالذي حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد،   (1) ديوان الستة الجاهليين: 31. يصف ناقته. تباري: تجاريها وتسابقها. والعتاق جمع عتيق: وهو الكريم المعرق في كرم الأصل. وناجيات: مسرعات في السير، من النجاء، وهو سرعة السير. والوظيف: من رسغي البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه. وعنى بالوظيف هنا: الخف. (2) في المخطوطة: "الموطن"، وهو قريب المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قال: حدثني بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال: إياك نستَعِينُ على طاعتك وعلى أمورنا كلها (1) . فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عبادَه بأن يسألوه المعونةَ على طاعته؟ أوَ جائزٌ، وقد أمرهم بطاعته، أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك مُعانٌ، وذلك هو الطاعة. فما وجهُ مسألة العبد ربَّه ما قد أعطاه إياه؟ قيل: إن تأويلَ ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما الداعي ربَّه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عُمره على ما كلّفه من طاعته، دون ما قد تَقضَّى ومَضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره. وجازت مسألةُ العبد ربَّه ذلك، لأن إعطاء الله عبدَه ذلك -مع تمكينه جوارحَه لأداء ما كلَّفه من طاعته، وافترض عليه من فرائضه، فضلٌ منه جل ثناؤه تفضّل به عليه، ولُطْف منه لَطَف له فيه. وليس في تَركه التفضُّلَ على بعض عبيده بالتوفيق -مع اشتغال عبده بمعصيته، وانصرافه عن مَحبته، ولا في بَسطه فضلَه على بعضهم، مع إجهاد العبد نفسه في مَحبته، ومسارعته إلى طاعته -فسادٌ في تدبير، ولا جَور في حكم، فيجوز أن يجهلَ جاهل موضع حُكم الله في أمرِه عبدَه بمسألته عَونَه على طاعته (2) . وفي أمر الله جل ثناؤه عبادَه أن يقولوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، بمعنى مسألتهم إياه المعونةَ على العبادة، أدلُّ الدليل على فساد قول القائلين بالتَّفويض من أهل القدر (3) ، الذين أحالوا أن يأمُرَ الله أحدًا من عبيده بأمرٍ، أو يكلّفه   (1) الخبر 172 - هو بالإسناد الضعيف قبله. وأشرنا إليه هناك. (2) في المطبوعة: "حكم الله وأمره عبده"، وفي المخطوطة: "حكم الله امره" بغير واو. والذي أثبتناه أصوب. والحكم: الحكمة، كما مر مرارًا (3) أهل القدر: هم نفاة القدر لا مثبتوه. والقائلون بالتفويض هم القدرية والمعتزلة والإمامية. يزعمون أن الأمر فوض إلى الإنسان (أي رد إليه) ، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان أو معصية، وهو خالق لأفعاله، والاختيار بيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فرضَ عمل، إلا بعدَ إعطائه المعونة على فعلِه وعلى تركِه. ولو كانَ الذي قالوا من ذلك كما قالوا، لبطلت الرَّغبة إلى الله في المعونة على طاعته. إذ كان -على قولهم، مع وجود الأمر والنهي والتكليف- حقًّا واجبًا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبدُه أو تركَ مسألة ذلك. بل تَرك إعطائه ذلك عندهم منه جَورٌ. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا، لكان القائل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، إنما يسأل رَبَّه أن لا يجور. وفي إجماع أهل الإسلام جميعًا -على تصويب قول القائل: "اللهم إنا نستعينك"، وتخطئَتِهم قول القائل: "اللهم لا تَجُرْ علينا"- دليل واضحٌ على خطأ ما قال الذين وصفتُ قولهم. إذْ كان تأويلُ قول القائل عندهم: "اللهم إنّا نستعينك- اللهم لا تترك مَعونتنا التي تركُكَها جَوْرٌ منك. فإن قال قائل: وكيف قيل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، فقُدِّم الخبرُ عن العِبادة، وأخِّرتْ مسألةُ المعونة عليها بعدَها؟ وإنما تكون العِبادة بالمعونة، فمسألةُ المعونة كانت أحقَّّ بالتقديم قبلَ المُعَان عليه من العمل والعبادةُ بها. قيل: لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه. كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها: "قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ "، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي"، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله: اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قال أبو جعفر: وقد ظنّ بعض أهل الغفلة أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرؤ القيس: ولَوْ أَنّ مَا أسْعَى لأَدْنَى مَعِيشةٍ ... كَفاني، ولم أطلُبْ، قليلٌ من المالِ (1) يريد بذلك: كفاني قليلٌ من المال ولم أطلب كثيرًا. وذلك -من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرئ القيس- بمعْزِل. من أجل أنّه قد يكفيه القليلُ من المال ويطلُب الكثيرَ، فليس وُجودُ ما يكفيه منه بموجبٍ له تركَ طلب الكثير، فيكونَ نظيرَ العبادة التي بوجُودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وُجُودها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالا على الآخر، فيعتدلَ في صحة الكلام تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبه، أن يكونَ موضوعًا في درجته ومرتَّبًا في مرتَبتِه. فإن قال: فما وجْه تكراره: "إياك" مع قوله: "نستعين"، وقد تقدَّم ذلك قَبْل "نعبد"؟ وهلا قيل: "إياك نعبُدُ ونستعين"، إذ كان المخبَرُ عنه أنه المعبودُ، هو المخبر عنه أنه المستعانُ؟ قيل له: إن الكاف التي مع " إيَّا "، هي الكاف التي كانت تصل بالفعل -أعني بقوله: "نعبد" -لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعل. وهي كنايةُ اسم المخاطبِ المنصوب بالفعل، فكُثِّرت بـ "إيّا " متقدِّمةً، إذْ كان الأسماء إذا انفردتْ بأنفسِها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد. فلمّا كانت الكاف من " إياكَ " هي كنايةَ اسم المخاطَب التي كانت تكون كافًا وحدها متصلةً بالفعل إذا كانتْ بعد الفعل، ثم كان حظُّها أن تعادَ مع كلّ فعل اتصلتْ به، فيقال: "اللهم إنا نعبدكَ ونستعينكَ ونحمدكَ ونشكرك"، وكان ذلك أفصحَ في كلام العرب من أن يقال: "اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد"- كان كذلك، إذا قدِّمت كنايةُ اسم المخاطب قبل الفعل موصولةً بـ "إيّا "، كان الأفصح إعادَتها مع كل فعل. كما كان الفصيحُ من الكلام إعادَتها مع   (1) ديوانه 1: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلةً به، وإن كان تركُ إعادتها جائزًا. وقد ظنّ بعضُ من لم يُنعم النظرَ (1) أنّ إعادة " إياك " مع " نستعين "، بعد تقدّمها في قوله: "إياك نستعين"، بمعنى قول عدي بن زيد العِبَاديّ: وجَاعِل الشَّمس مِصْرًا لا خَفَاءَ بِه ... بَيْن النَّهارِ وَبيْنَ اللَّيل قد فَصَلا (2) وكقول أعشى هَمْدان: بَيْنَ الأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ باذخٌ ... بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وللمَولُودِ (3) وذلك من قائله جهل، من أجل أن حظ "إيّاك" أن تكون مكررة مع كل فعل، لما وصفنا آنفًا من العلة، وليس ذلك حُكم " بين " لأنها لا تكون -إذ اقتضت اثنين- إلا تكريرًا إذا أعيدت، إذْ كانت لا تنفَرد بالواحد. وأنها لو أفْرِدت بأحد الاسمين، في حال اقتضائها اثنين، كان الكلام كالمستحيل. وذلك أنّ قائلا لو قال: "الشمس قد فَصَلت بين النهار"، لكان من الكلام خَلْفًا (4) لنُقصان الكلام عما به الحاجة إليه، من تمامه الذي يقتضيه " بين ". ولو قال قائل: " اللهمّ إياك نعبد "، لكان ذلك كلامًا تامًّا. فكان معلومًا بذلك أنّ حاجةَ كلِّ كلمةٍ -كانت نظيرةَ " إياك نعبد " - إلى " إياك " كحاجة   (1) في المطبوعة: "لم يمعن النظر"، بدلوها، كما فعلوا في ص: 55، تعليق: 3. (2) في اللسان (مصر) منسوبًا إلى أمية بن أبي الصلت. واستدركه ابن بري ونسبه لعدي بن زيد. والمصر: الحاجز والحد بين الشيئين. يقول: جعل الشمس حدا وعلامة بين الليل والنهار. (3) ديوان الأعشين: 323، والأغاني 6: 46، 61. وأعشى همدان هو عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أبو مصبح، كان أحد الفقهاء القراء، ثم ترك ذلك وقال الشعر. يمدح عبد الحمن بن الأشعث بن قيس الكندي، وكان خرج على الحجاج، فخرج معه الفقهاء والقراء، فلما أسر الحجاج الأعشى، قال له: ألست القائل: وأنشده البيت - والله لا تبخبخ بعدها أبدًا! وقتله. الأشج: هو الأشعث والد عبد الحمن، وقيس جده. وبخ بخ: كلمة للتعظيم والتفخيم. وهذا البيت والذي سبقه شاهدان على صحة تكرار "بين"، مع غير الضمير المتصل، ومثلهما كثير. وأهل عصرنا يخطئون من يقوله، وهم في شرك الخطأ. (4) الخلف (بفتح فسكون) : الرديء من القول. يقال هذا خلف من القول، أي رديء. وفي المثل: "سكت ألفًا ونطق خلفًا"، يقال للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ. أي سكت دهرًا طويلًا، ثم تكلم بخطأ. كنى بالألف عن الزمن الطويل، ألف ساعة مثلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 " نُعْبد " إليها (1) وأنّ الصواب أن تكونَ معها " إياك "، إذْ كانت كل كلمة منها جملةَ خبرِ مبتدأ، وبيّنًا حُكم مخالفة ذلك حُكم " بين " فيما وَفّق بينهما الذي وصفنا قوله. * * * القول في تأويل قوله: {اهْدِنَا} . قال أبو جعفر: ومعنى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، في هذا الموضع عندنا: وَفِّقْنا للثبات عليه، كما رُوي ذلك عن ابن عباس:- 173 - حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه: " قل، يا محمد، اهدنا الصراط المستقيمَ ". يقول: ألهمنا الطريق الهادي (2) . وإلهامه إياه ذلك، هو توفيقه له، كالذي قلنا في تأويله. ومعناه نظيرُ معنى قوله: " إياك نستعين "، في أنه مَسألةُ العبد ربَّه التوفيقَ للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمَره به ونهاه عنه، فيما يَستَقبِلُ من عُمُره، دون ما قد مضى من أعماله، وتقضَّى فيما سَلف من عُمُره. كما في قوله: "إياك نستعين"، مسألةٌ منه ربَّه المعونةَ على أداء ما قد كلَّفه من طاعته، فيما بقي من عُمُره. فكانَ معنى الكلام: اللهمّ إياك نعبدُ وحدَك لا شريك لك، مخلصين لك العبادةَ دونَ ما سِواك من الآلهة والأوثان، فأعِنَّا على عبادتك، ووفِّقنا لما   (1) يعني أن حاجة الأولى منهما كحاجة الثانية، فلذلك وجب تكرارها. سياق العبارة: "فكان معلومًا أن حاجة كل كلمة. . . وكان معلومًا أم الصواب أن تكون معها. . . وكان بينًا. . . " إلى آخر الفقرة. (2) يأتي بتمامه وتخريجه برقم 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وفَّقت له مَن أنعمتَ عليه من أنبيائك وأهل طاعتك، من السبيل والمنهاج. فإن قال قائل: وأنَّى وَجدتَ الهدايةَ في كلام العرب بمعنى التَّوفيق؟ قيل له: ذلك في كلامها أكثرُ وأظهر من أن يُحصى عددُ ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد. فمن ذلك قول الشاعر: لا تَحْرِمَنِّي هَدَاكَ الله مَسْألتِي ... وَلا أكُونَنْ كمن أوْدَى به السَّفَرُ (1) يعنى به: وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر: ولا تُعْجِلَنِّي هدَاَك المليكُ ... فإنّ لكلِّ مَقامٍ مَقَالا (2) فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري. ومنه قول الله جل ثناؤه: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) في غير آيه من تنزيله. وقد عُلم بذلك، أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه؟ ولكنه عَنى جلّ وعزّ أنه لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم. وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله: (اهدِنا) : زدْنا هدايةٍ. وليس يخلُو هذا القولُ من أحد أمرين: إما أن يكون ظنَّ قائلُه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بمسألة الزيادة في البيان، أو الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيان، فذلك ما لا وجه له؛ لأن الله جلّ ثناؤه لا يكلِّف عبدًا فرضًا من فرائضه، إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان مَعنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ، لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه، وذلك من الدعاء خَلفٌ (3) ، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبيَّنًا   (1) لم أعرف نسبة البيت، وأخشى أن يكون من أبيات ودقة الأسدي يقولها لمعن بن زائدة. أمالي المرتضى 1: 160. (2) نسبه المفضل بن سلمة في الفاخر: 253، وقال: "أول من قال ذلك طرفة بن العبد، في شعر يعتذر فيه إلى عمرو بن هند"، وليس في ديوانه، وانظر أمثال الميداني 2: 125. (3) أي رديء من القول. انظر ما سلف ص 165 رقم: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 لمن فرضَه عليه. أو يكون أمِر أن يدعوَ ربَّه أن يفرض عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها. وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك، ما يوضِّح عن أن معنى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، غير معنى: بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك. أو يكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدُث. وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تقضَّى من عمله (1) ، ما يُعلِمُ أنّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث من عمله. وإذْ كانَ ذلك كذلك، صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك: من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه، فيما يَستقبل من عُمُره. وفي صحة ذلك، فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنّ كل مأمور بأمرٍ أو مكلَّف فرضًا، فقد أعطي من المعونة عليه، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه (2) . لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك، لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . وفي صحة معنى ذلك، على ما بيَّنا، فسادُ قولهم. وقد زعم بعضُهم أنّ معنى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) : أسْلِكنا طريق الجنة في المعاد، أيْ قدِّمنا له وامض بنا إليه، كما قال جلّ ثناؤه: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [سورة الصافات: 23] ، أي أدخلوهم النار، كما تُهْدَى المرأة إلى زوجها، يُعني بذلك أنها تُدخَل إليه، وكما تُهدَى الهديَّة إلى الرجل، وكما تَهدِي الساقَ القدمُ، نظير قَول طَرفة بن العبد:   (1) ارتفع الأمر: زال وذهب، كأنه كان موضوعا حاضرا ثم ارتفع. ومنه: ارتفع الخلاف بينهما. (2) انظر ص: 162 التعليق رقم 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 لَعبتْ بَعْدِي السُّيُولُ بهِ ... وجَرَى في رَوْنَقٍ رِهمُهْ (1) لِلفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ ... حَيْثُ تَهْدِي سَاقَه قَدَمُهْ (2) أي تَرِدُ به الموارد. وفي قول الله جل ثناؤه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل، مع شهادة الحجة من المفسِّرين على تخطئته. وذلك أنّ جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمِعُون على أنّ معنى " الصراط " في هذا الموضع، غيرُ المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله: " إياك نستعينُ" مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادته. فكذلك قوله " اهْدِنا " إنما هو مسألةُ الثباتِ على الهدى فيما بقي من عُمُره. والعربُ تقول: هديتُ فلانًا الطريقَ، وهَديتُه للطريق، وهديتُه إلى الطريق، إذا أرشدتَه إليه وسدَّدته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال الله جلّ ثناؤه: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) [سورة الأعراف: 43] ، وقال في موضع آخر: (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة النحل: 121] ، وقال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . وكل ذلك فاش في منطقها، موجودٌ في كلامها، من ذلك قول الشاعر: أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ، ... رَبَّ العِباد، إليهِ الوَجْهُ والعَمَلُ (3)   (1) ديوان الستة الجاهليين: 234، 237، والبيت الأول في فاتحة الشعر، والأخير خاتمته. والضمير في قوله: "لعبت" للربع، في أبيات سلفت. ورونق السيف والشباب والنبات: صفاؤه وحسنه وماؤه. ويروى: "في ريق". وريق الشباب: أوله والتماعه ونضرته. وعنى نباتًا نضيرًا كأنه يقول: في ذي رنق، أو في ذي ريق. والرهم -بكسر الراء- جمع رهمة: وهي المطرة الضعيفة المتتابعة، وهي مكرمة للنبات. يقول: أعشبت الأرض، وجرى ماء السماء في النبت يترقرق. والضمير في "رهمه" عائد على الغيث، غائب كمذكور. (2) يقول: حيث سار الفتى عاش بعقله وتدبيره واجتهاده. (3) يأتي في تفسير آية سورة آل عمران: 121، وآية سورة القصص: 88. وسيبويه 1: 17، والخزانة 1: 486، وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. قال الشنتمري: "أراد من ذنب، فحذف الجار وأوصل الفعل فنصب" والذنب هنا اسم جنس بمعنى الجمع. فلذلك قال: "لست محصيه". والوجه: القصد والمراد، وهو بمعنى التوجه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 يريد: أستغفر الله لذنْب، كما قال جل ثناؤه: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [سورة غافر: 55] . ومنه قول نابغة بني ذُبْيان: فَيَصِيدُنَا العَيْرَ المُدِلَّ بِحُضْرِهِ ... قَبْلَ الوَنَى وَالأَشْعَبَ النَبَّاحَا (1) يريد: فيصيدُ لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية. * * * القول في تأويل قوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال أبو جعفر: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن "الصراط المستقيم"، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي: أميرُ المؤمنين عَلَى صِرَاطٍ ... إذا اعوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقيمِ (2) يريد على طريق الحق. ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب: صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بالخَيْلِ حَتّى ... تركْنَاها أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ (3)   (1) البيت ليس في ديوانه. ومن القصيدة أبيات فيه: 23، (مطبوعة محمد جمال) ، والمجتنى لابن دريد: 23، يصف فرسًا. والعير: حمار الوحش. والحضر: العدو الشديد، وحمار الوحش شديد العدو. والونى: التعب والفترة في العدو أو العمل. والأشعب: الظبي تفرق قرناه فانشعبا وتباينا بينونة شديدة. ونبح الكلب والظبي والتيس ينبح نباحًا، فهو نباح، إذا كثر صياحه، من المرح والنشاط. والظبي إذا أسن ونبتت لقرونه شعب، نبح (الحيوان 1: 349) . يصف فرسه بشدة العدو، يلحق العير المدل بحضره، والظبي المستحكم السريع، فيصيدها قبل أن يناله تعب. (2) ديوانه: 507، يمدح هشام بن عبد الملك. والموارد جمع موردة: وهي الطرق إلى الماء. يريد الطرق التي يسلكها الناس إلى أغراضهم وحاجاتهم، كما يسلكون الموارد إلى الماء. (3) ليس في ديوانه، ونسبه القرطبي في تفسيره 1: 128 لعامر بن الطفيل، وليس في ديوانه، فإن يكن هذليا، فلعله من شعر المتنخل، وله قصيدة في ديوان الهذليين 2: 18 - 28، على هذه القافية. ولعمرو بن معد يكرب أبيات مثلها رواها القالي في النوادر 3: 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومنه قول الراجز: * فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّراطِ القَاصدِ (1) * والشواهد على ذلك أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرنا غنًى عما تركنا. ثم تستعيرُ العرب "الصراط" فتستعمله في كل قولٍ وعمل وُصِف باستقامة أو اعوجاج، فتصفُ المستقيمَ باستقامته، والمعوجَّ باعوجاجه. والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، أن يكونا معنيًّا به: وَفّقنا للثبات على ما ارتضيتَه ووَفّقتَ له مَنْ أنعمتَ عليه من عبادِك، من قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصِّراط المستقيم. لأن من وُفّق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيِّين والصديقين والشهداء، فقد وُفّق للإسلام، وتصديقِ الرسلِ، والتمسكِ بالكتاب، والعملِ بما أمر الله به، والانزجار عمّا زَجره عنه، واتّباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وكلِّ عبدٍ لله صالحٍ، وكل ذلك من الصراط المستقيم. وقد اختلفتْ تراجمةُ القرآن في المعنيِّ بالصراط المستقيم (2) . يشمل معاني جميعهم في ذلك، ما اخترنا من التأويل فيه. ومما قالته في ذلك، ما رُوي عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال، وذكر القرآن، فقال: هو الصراط المستقيم. 174 - حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا حسين الجُعْفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) .   (1) رواه القرطبي في تفسيره 1: 128 "الصراط الواضح". (2) تراجمة القرآن: جمع ترجمان: وأراد المفسرين، وانظر ما مضى: 70 تعليق: 1 (3) الحديث 174 - إسناده ضعيف جدًا. موسى بن عبد الرحمن المسروقي: ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، وغيرهم. مات سنة 258، مترجم في التهذيب. حسين الجعفي: هو حسين بن علي بن الوليد، ثقة معروف، روى عنه أحمد، وابن معين، وغيرهم، بل روى عنه ابن عيينة وهو أكبر منه. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. حمزة الزيات: هو حمزة بن حبيب، القارئ المعروف. وتكلم في رواية بعضهم، والحق أنه ثقة، وأخرج له مسلم في صحيحه. أبو المختار الطائي: قيل اسمه: سعد، وهو مجهول، جهله المديني وأبو زرعة. ابن أخي الحارث الأعور: أشد جهالة من ذلك، لم يسم هو ولا أبوه. عمه الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني، وهو ضعيف جدا. وقد اختلف فيه العلماء اختلافا كثيرا، حتى وصفه الشعبي وغيره بأنه "كان كذابًا"، وقد رجحت في شرح الحديث 565 وغيره من المسند أنه ضعيف جدا. وأما متن الحديث: فقد رواه -بمعناه- ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة عن يحيى بن يمان عن حمزة الزيات، بهذا الإسناد، فيما نقل ابن كثير 1: 50 ووقع فيه تحريف الإسناد هناك. وهو جزء من حديث طويل، في فضل القرآن - رواه الترمذي (4: 51 - 52 من تحفة الأحوذي) ، عن عبد بن حميد عن حسين الجعفي، بهذا الإسناد. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال". كذلك رواه الدارمي في سننه 2: 435 عن محمد بن يزيد الرفاعي عن حسين الجعفي. ونقله السيوطي 1: 15 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في شعب الإيمان. وأشار إليه الذهبي في الميزان 3: 380 في ترجمة أبي المختار الطائي، قال: "حديثه في فضائل القرآن منكر". ونقله ابن كثير في الفضائل: 14 - 15 عن الترمذي، ونقل تضعيفه إياه، ثم قال: "لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور. فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث، فإنه إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث - فلا. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح ". وسيأتي 175، 176 بإسنادين آخرين، موقوفًا، من كلام علي رضي الله عنه. ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها ابن كثير- هي حديث أحمد في المسند: 565. عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق. وقد ضعفنا إسناده هناك، بالحارث الأعور، وبانقطاعه بين ابن إسحاق ومحمد بن كعب. وليس فيه الحرف الذي هنا، في تفسير "الصراط المستقيم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 175 - وحُدِّثْتُ عن إسماعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سَلمة، عن أبي سِنان، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي البَخْتريّ، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله (1) .   (1) الحديث 175 - هو الحديث السابق بإسناد آخر. وهذا الإسناد جيد إلى الحارث الأعور، ثم يضعف به الحديث جدا، كما قلنا من قبل. ومحمد بن سلمة: هو الباهلي الحراني، وهو ثقة، روى عنه أحمد بن حنبل وغيره، وأخرج له مسلم في صحيحه، مات سنة 191. وشيخه أبو سنان: وهو سعيد بن سنان الشيباني، وهو ثقة، ومن تكلم فيه إنما يكون من جهة خطئه بعض الخطأ، وقال أبو داود: "ثقة من رفعاء الناس"، وأخرج له مسلم في الصحيح. وعمرو بن مرة: هو المرادي الجملي، ثقة مأمون بلا خلاف، قال مسعر: "عمرو من معادن الصدق ". وأبو البختري - بفتح الباء الموحدة والتاء المثناة بينهما خاء معجمة ساكنة: هو سعيد بن فيروز الطائي الكوفي، تابعي ثقة معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 176 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن أبن أخي الحارث الأعور، عن الحارث، عن عليّ، قال: " الصِّراطُ المستقيم: كتاب الله تعالى ذكره (1) ". 177 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان -ح- وحدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال. حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن منصور عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: " الصِّراطُ المستقيم" كتابُ الله (2) ". 178 - حدثني محمود بن خِدَاشِ الطالَقاني، قال: حدثنا حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسِي، قال: حدثنا علي والحسن ابنا صالح، جميعًا، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد الله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: الإسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والأرض (3) .   (1) الخبر 176 - هو الحديث السابق بالإسنادين قبله، بمعناه. ولكنه هنا موقوف على ابن أبي طالب. والإسناد إليه منهار انهيار الإسناد 174، من أجل الحارث الأعور وابن أخيه. أما من دونهما، فأبو المختار الطائي وحمزة مضيا في 174، وأبو أحمد الزبيري وأحمد بن إسحاق مضيا في 159. (2) الخبر 177 - هذا موقوف من كلام عبد الله بن مسعود. وقد رواه الطبري بإسنادين إلى سفيان، وهو الثوري. أما أولهما: أحمد بن إسحاق عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري - فإسناده صحيح، لا كلام فيه. وأما ثانيهما: محمد بن حميد الرازي عن مهران، وهو ابن أبي عمر العطار - فقد بينا في الإسناد 11 أن في رواية مهران عن الثوري اضطرابًا، ولكنه هنا تابعه عن روايته حافظ ثقة، هو أبو أحمد الزبيري. وقد رواه الثوري عن منصور، وهو ابن المعتمر الكوفي، وهو ثقة ثبت حجة، لا يختلف فيه أحد. وأبو وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي، من كبار التابعين الثقات، قال ابن معين: "ثقة لا يسأل عن مثله". وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك 2: 258 من طريق عمر بن سعد أبي داود الحضري عن الثوري، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13. (3) الخبر 178 - وهذا موقوف على جابر بن عبد الله. وإسناده صحيح: محمود بن خداش بكسر الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وآخره شين معجمة - الطالقاني: ثقة من أهل الصدق، مات يوم الأربعاء 14 شعبان سنة 250، كما في التاريخ الصغير للبخاري: 247. وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي: ثقة ثبت عاقل، روى عنه أحمد وغيره من الحفاظ. والحسن وعلي ابنا صالح بن صالح بن حي: ثقتان، وهما أخوان توأم. ومن تكلم في الحسن تكلم بغير حجة، وقد وثقناه في المسند: 2403. وأخاه فيه: 220. وعبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وأمه زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب: تابعي ثقة، ولا حجة لمن تكلم فيه. والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 258 - 259، من طريق أبي نعيم عن الحسن بن صالح -وحده- بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 1: 50، والسيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 179 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يقول: ألهمنا الطريقَ الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له (1) . 180 - حدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفُرَات بن السائب، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: ذلك الإسلام (2) . 181 - حدثني محمود بن خِدَاش، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكِلابي، عن إسماعيل الأزرق، عن أبي عُمر البزّار، عن ابن الحنفية، في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العِباد غيرَه (3) . 182 - حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدّثنا عَمرو بن طلحة القنَّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السدِّي -في خبر ذكره- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود -وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: هو الإسلام (4) 183 - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: الطريق (5) . 184 - حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآمُلي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية، في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباه من بعدِه أبو بكر وعمر. قال: فذكرتُ ذلك للحسن، فقال: صدَق أبو العالية ونصح (6)   (1) الحديث 179 - إسناده ضعيف، سبق بيان ضعفه: 137. وهذا اللفظ نقله ابن كثير 1: 50 دون إسناد ولا نسبة. ونقله السيوطي 1: 14 مختصرًا، ونسبه للطبري فقط. (2) الخبر 180 - إسناده ضعيف جدا، على ما فيه من جهلنا بحال بعض رجاله: فموسى بن سهل الرازي، شيخ الطبري: لم نجزم بأي الرجال هو؟ ولعله " موسى بن سهل بن قادم، ويقال ابن موسى أبو عمر الرملي، نسائي الأصل ". فهو شيخ للطبري مترجم في التهذيب 10: 347، ولكنه لم ينسب "رازيا". وكتب في المخطوطة: "سهل بن موسى"! ولم نجد هذه الترجمة أيضًا، ونرجح أنه خطأ من الناسخ. . ويحيى بن عوف: لم نجد ترجمة بهذا الاسم قط فيما لدينا من مراجع. واما علة الإسناد، فهو "الفرات بن السائب الجزري"، وهو ضعيف جدا، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 130: "تركوه، منكر الحديث"، وكذلك قال الأئمة فيه، وقال ابن حبان في المجروحين (في الورقة 187) : كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، ويأتي بالمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه، ولا كتبة الحديث إلا على سبيل الاختبار". وأما ميمون بن مهران فتابعي ثقة معروف، فقيه حجة. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 50 مجهلا بلفظ "وقيل: هو الإسلام". ونقله السيوطي 1: 15 منسوبا لابن جريج فقط، على خطأ مطبعي فيه "ابن جريج"! (3) الأثر 181 - ابن الحنفية: هو محمد بن علي بن أبي طالب، والحنفية أمه، وهي خولة بنت جعفر من بني حنيفة، عرف بالنسبة إليها. وهذا الإسناد إليه ضعيف: محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي: ثقة من شيوخ أحمد وابن معين. وإسماعيل الأزرق: هو إسماعيل بن سلمان، وهو ضعيف، قال ابن معين: "ليس حديثه بشيء"، وقال ابن نمير والنسائي: "متروك"، وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص 78 رقم 35) : "ينفرد بمناكير يرويها عن المشاهير". وأبو عمر البزار: هو دينار بن عمر الأسدي الكوفي الأعمى، وهو ثقة. والأثر ذكره ابن كثير 1: 51 دون نسبة ولا إسناد. (4) الخبر 182 - هذا من تفسير السدي، وقد سبق شرح إسناده 168. وقد نقله ابن كثير 1: 50 والسويطي 1: 15. (5) الخبر 183 - نقله السيوطي 1: 14 منسوبا للطبري وابن المنذر. وقد سبق أول هذا الإسناد: 144، وهو هنا منقطع، لأن ابن جريج لم يدرك ابن عباس، إنما يروي عن الرواة عنه. (6) الأثر 184 - عبد الله بن كثير أبو صديف الآملي، شيخ الطبري: لم أعرف من هو، ولم أجد له ذكرًا، وأخشى أن يكون فيه تحريف. هاشم بن القاسم: هو ابو النضر - بالنون والصاد المعجمة - الحافظ الخراساني الإمام، شيخ الأئمة: أحمد وابن راهويه وابن المديني وابن معين وغيرهم. حمزة بن المغيرة بن نشيط - بفتح النون وكسر الشين المعجمة - الكوفي العابد: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 2 / 1 / 44، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 214 - 215، وذكره ابن حبان في الثقات 443، قال: "حمزة بن المغيرة العابد، من أهل الكوفة. يروي عن عاصم الأحول عن أبي العالية (اهدنا الصراط المستقيم) ، قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه. روى عنه أبو النضر هاشم بن القاسم". ووقع هنا: في الأصول "حمزة بن أبي المغيرة". وهو خطأ من الناسخين. عاصم: هو ابن سليمان الأحول، تابعي ثقة ثبت. أبو العالية: هو الرياحي - بكسر الراء وتخفيف الياء، واسمه: رفيع -بالتصغير- ابن مهران، من كبار التابعين الثقات، مجمع على توثيقه. وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 51 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. والسيوطي 1: 15 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن عدي وابن عساكر. وأبو العالية لم يقله من قبل نفسه: فقد رواه الحاكم في المستدرك 2: 259 من طريق أبي النضر بهذا الإسناد إلى "أبي العالية عن ابن عباس". وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. واختصره السيوطي ونسبه للحاكم فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 185- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: " اهدنا الصراط المستقي"، قال: الإسلام (1) . 186- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، أنّ عبد الرحمن بن جُبير، حدّثه عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا ". والصِّراط: الإسلامُ. 187 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله (2) .   (1) الأثر 185 - هذا من كلام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد نقله ابن كثير 1: 51 دون نسبة. وعبد الرحمن بن زيد: متأخر، من أتباع التابعين، مات سنة 182. وهو ضعيف جدا، بينت ضعفه في حديث المسند: 5723، ويكفي منه قول ابن خزيمة: "ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، لسوء خفظه، وهو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس من أحلاس الحديث". (2) الحديث 186، 187 - رواه الطبري عن شيخه "المثنى" بإسنادين، أولهما أعلى من الثاني درجة: بين المثنى وبين معاوية بن صالح في أولهما شيخ واحد، وفي ثانيهما شيخان. أما المثنى شيخ الطبري: فهو المثنى بن إبراهيم الآملي، يروي عنه الطبري كثيرا في التفسير والتاريخ. وأبو صالح، في الإسناد الأول: هو عبد الله بن صالح المصري، كاتب الليث بن سعد، صحبه عشرين سنة. وهو ثقة، ومن تكلم فيه، في بعض حديثه عن الليث، تكلم بغير حجة. وله ترجمة في التهذيب جيدة، وكذلك في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 2 / 86 - 87، وتذكرة الحفاظ 1: 351 - 353. ولد عبد الله بن صالح سنة 137 ومات سنة 222. ووقع تاريخ مولده في التهذيب (173) وهو خطأ مطبعي، صوابه في تذكرة الحفاظ. وآدم العسقلاني، في الإسناد الثاني: هو آدم بن أبي إياس، وهو ثقة مأمون متعبد، من خيار عباد الله، كما قال أبو حاتم. الليث: هو ابن سعد، إمام أهل مصر. معاوية بن صالح، في الإسنادين: هو الحمصي، أحد الأعلام وقاضي الأندلس، ثقة، من تكلم فيه أخطأ. عبد الرحمن بن جبير بن نفير - بالتصغير فيهما - الحضرمي الحمصي: تابعي ثقة. وأبوه: من كبار التابعين، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو ثقة مشهور بالعلم، وقد ذكره الطبري في طبقات الفقهاء. النواس -بفتح النون وتشديد الواو- بن سمعان الكلابي: صحابي معروف. وهذا الحديث مختصر من حديث طويل، رواه احمد في المسند: 17711 (ج 4 ص 182 حلبي) عن الحسن بن سوار عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح، به. ونقله ابن كثير 1: 51 من رواية المسند، قال: "وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد، به. ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن علي بن حجر بن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان، به. وهو إسناد حسن صحيح". ونسبه السيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13 أيضًا للحاكم "وصححه"، ولغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 قال أبو جعفر: وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء، أنه سمّاه مستقيمًا، لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويلٌ لتأويل جميع أهل التفسير خلافٌ، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه. * * * القول في تأويل قوله:: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . وقوله (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، إبانةٌ عن الصراط المستقيم، أيُّ الصراط هو؟ إذْ كان كلّ طريق من طرُق الحق صراطًا مستقيمًا. فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، بطاعتك وعبادتك، من مَلائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنزيله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء: 66-69] . قال أبو جعفر: فالذي أمِر محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمّتُه أن يسألوا ربَّهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وَصف الله جلّ ثناؤه صفتَه. وذلك الطريق، هو طريق الذي وَصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سَلكه فاستقام فيه طائعًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد. وبنحو ما قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس وغيره. 188 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "صراطَ الذين أنعمت عليهم" يقول: طَريقَ من أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبَدُوك (1) . 189 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عن ربيع: "صراط الذين أنعمتَ عليهم"، قال: النبيّون (2) . 190 - حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: "أنعمت عليهم " قال: المؤمنين (3) . 191- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع: "أنعمت عليهم"، المسلمين (4) .   (1) الخبر 188 - ضعف هذا الإسناد مفصل في: 137. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 52. وانظر أيضًا: 179. (2) الأثر 189 - ربيع: هو ابن أنس البكري. وسبق شرح هذا الإسناد إليه: 164. والأثر نقله ابن كثير 1: 53، والسيوطي 1: 16. (3) الخبر 190 - هذا كالخبر 183 منقطع بين ابن جريج وابن عباس. وقد نقله ابن كثير 1: 53، والسيوطي 1: 16، ولكن وقع فيه "ابن حميد" بدل "ابن جرير". (4) الأثر 191 - وهذا نقله ابن كثير أيضًا 1: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 192- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله " صراط الذين أنعمت عليهم "، قال: النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه (1) . قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليلٌ واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: "صراط الذين أنعمت عليهم"، فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟ فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر؟ وقد علمتَ أنّ قول القائل لآخر: "أنعمت عليك"، مقتضٍ الخبرَ عمَّا أنعمَ به عليه، فأين ذلك الخبرُ في قوله: "صراط الذين أنعمت عليهم"؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟ قيل له: قد قدّمنا البيان -فيما مضى من كتابنا هذا- عن إجراء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض، إذا كان البعضُ الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيًا منه. فقوله: "صراط الذين أنعمتَ عليهم" من ذلك. لأن أمرَ الله جل ثناؤه عبادَه بمسألته المعونةَ، وطلبهم منه الهدايةَ للصراط المستقيم، لما كان متقدّمًا قولَه: "صراطَ الذين أنعمت عليهم"، الذي هو إبانةٌ عن الصراط المستقيم وإبدالٌ منه -كان معلومًا أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمَرنا بمسألته الهدايةَ لطريقهم، هو المنهاجُ القويمُ والصراطُ المستقيم، الذي قد قدّمنا البيان عن تأويله آنفًا، فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين- مغنيًا عن تكراره. كما قال نابغة بني ذبيان: كأَنَّك مِنْ جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بشَنِّ (2)   (1) الأثر 192 - مضى هذا الإسناد: 185. وأما نص الأثر، فهو عند ابن كثير 1: 53. وقال بعد هذه الروايات: "والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل". يعني الخبر 188. (2) ديوانه: 58، سيبويه 1: 375، مجاز القرآن: 101 الخزانة 2: 314، وهذا الشعر يقوله النابغة لعيينة بن حصن الفزاري. بنو أقيش: هم بنو أقيش بن عبيد. وقيل: فخذ من أشجع. وقيل: حي من اليمن في إبلهم نفار شديد. وقيل: هم حي من الجن يزعمون. وقعقع حرك شيئا يابسا فتسمع له صوت. والشن: القربة البالية. يصف عيينة بالجبن والخور وشدة الفزع، كأنه جمل شديد النفار، إذا سمع صوت شن يقعقع به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 يريد: كأنك من جمال بني أقيش، جملٌ يُقعقع خلف رجليه بشنّ، فاكتفى بما ظهر من ذكر "الجمال" الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب: تَرَى أَرْباقَهُمْ مُتَقَلِّدِيها ... إِذا صَدِئَ الحديدُ عَلَى الكُمَاةِ (1) يريد: متقلديها هم، فحذف "هم "، إذ كان الظاهرُ من قوله أرباقَهُم، دالا عليها. والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله: "صراط الذين أنعمت عليهم". * * * القول في تأويل قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} . قال أبو جعفر: والقرَأةُ مجمعةٌ على قراءة " غير " بجر الراء منها (2) . والخفضُ يأتيها من وجهين: أحدهما: أن يكون "غير" صفة لِ"الذين" ونعتًا لهم فتخفضها. إذ كان " الذين " خفضًا، وهي لهم نعتٌ وصفةٌ. وإنما جاز أن يكون " غير " نعتًا لِـ " الذين "، و " الذين " معرفة و"غير" نكرة، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء   (1) ديوانه: 131 والنقائض: 773، ويأتي في تفسير آية سورة الشعراء: 4 (19: 38 بولاق) ، وهو هناك "على الكتاب"، وهو خطأ. يهجو جريرا وقومه بني كليب بن يربوع. الأرباق: جمع ربق، والربق جمع ربقة: وهو الحبل تشد به الغنم الصغار لئلا ترضع. وتقالد السيف: وضع نجاده على منكبه. والكماة، جمع كمى: وهو البطل الشديد البأس. يصف بني كليب بأنهم رعاء أخساء بخلاء، لا هم لهم إلا رعية الغنم، والأبطال في الحرب يصلون حرها الأيام الطوال حتى يصدأ حديد الدروع على أبدانهم من العرق. (2) في المطبوعة "والقراء مجمعة"، والقَرَأَة: جمع قارئ. انظر ما مضى: 51 في التعليق، و 64 تعليق: 4 و: 109 تعليق: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 التي هي أماراتٌ بين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك (1) ؛ وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك. فلما كان " الذين " كذلك صفتُها، وكانت "غير" مضافةً إلى مجهول من الأسماء، نظيرَ " الذين "، في أنه معرفة غير موقتة، كما " الذين " معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون "غير المغضوب عليهم" نعتًا لِ "الذين أنعمت عليهم" كما يقال: " لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل"، يراد: لا أجلس إلا إلى مَن يعلم، لا إلى مَن يجهل. ولو كان "الذين أنعمت عليهم" مَعرفة موقتة. كان غير جائز أن يكون "غير المغضوب عليهم" لها نعتًا. وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقَّتة بنكرة- أن تُلْزِم نَعتها النكرةَ إعرابَ المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعربَ المنعوتَ بها. خطأ في كلامهم أن يقال: "مررت بعبد الله غير العالم"، فتخفض " غير "، إلا على نية تكرير الباء التي أعرَبتْ عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مَرَرتُ بعبد الله، مررت بغيرِ العالم. فهذا أحد وجهي الخفض في: "غير المغضوب عليهم". والوجهُ الآخر من وجهي الخفض فيها: أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت "غير" مخفوضةً بنية تكرير "الصراط" الذي خُفِض "الذين" عليها، فكأنك قلت: صراطَ الذين أنعمت عليهم، صراطَ غير المغضوب عليهم. وهذان التأويلان في "غير المغضوب عليهم"، وإن اختلفا باختلاف مُعرِبَيْهما، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أنَّ من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق، فقد سلم من غضب رَبه ونجا من الضلال في دينه. فسواءٌ - إذ كان سَبب قوله: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت   (1) يعني بقوله: "المعرفة المؤقتة" المعرفة المحددة، وهو العلم الشخصي الذي يعين مسماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد. فقولك "زيد" يعين تعيينًا مطلقًا أو محددًا. والمعرف بالألف واللام إنما يعين مسماه ما دامت فيه "ال"، فإذا فارقته فارقه التعيين. وانظر معاني الفراء 1: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 عليهم" غيرَ جائزٍ أن يرتاب، مع سماعه ذلك من تاليه، في أن الذين أنْعم الله عليهم بالهداية للصِّراط غيرُ غاضب ربُّهم عليهم، مع النعمة التي قد عظمت مِنَّته بها عليهم في دينهم؛ ولا أن يكونوا ضُلالا وقد هداهم الحقَّ ربُّهم. إذْ كان مستحيلا في فِطَرِهم اجتماعُ الرضَى من الله جلّ ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة، واجتماعُ الهدى والضلال له في وقت واحد - أوُصِف (1) القوم؛ معَ وَصْف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم، وإنعامه عَليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم، بأنهم غيرُ مغضوب عليهم ولا هم ضَالُّون؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصِّفة الظاهرة التي وُصفوا بها، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يصرِّح وصفَهُم به. هذا، إذا وجَّهنا " غير " إلى أنها مخفوضة على نية تكرير "الصراطِ" الخافضِ "الذين"، ولم نجعل "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" من صفة "الذين أنعمت عليهم"، بل إذا حملناهم غيرَهم. وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَمًا عليهما في أدْيانهم. فأمّا إذا وجهنا "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" إلى أنها من نَعت، "الذين أنعمت عليهم". فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال، إذْ كان الصريحُ من معناه قد أغنى عن الدليل. وقد يجوز نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم"، وإن كنتُ للقراءة بها كارهًا لشذوذها عن قراءة القُرّاء. وإنَّ ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرًا مستفيضًا، فرأيٌ للحق مخالف. وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين مُتجانفٌ. وإن كان له - لو كانت جائزًا القراءةُ به (2) - في الصواب مخرجٌ.   (1) سياق العبارة: "سواء. . . أوصف القوم. . . أم لم يوصفوا"، وما بين هذين فصل طويل كدأب أبي جعفر في بيانه. (2) في المطبوعة: "لو كانت القراءة جائزة به "، بدلوه ليوافق عبارتهم، دون عبارة الطبري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ: أن يوجَّه إلى أن يكون صفةً للهاء والميم اللتين في " عليهم " العائدة على " الذين ". لأنها وإن كانت مخفوضة بِ " على "، فهي في محل نصب يقوله: " أنعمت ". فكأن تأويل الكلام -إذا نصبت " غير " التي مع " المغضوب عليهم"-: صراطَ الذين هَدَيتهم إنعامًا منك عليهم، غيرَ مغَضوبٍ عليهم، أي لا مغضوبًا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ، كالنصب في " غير " في قولك: مررت بعبد الله غيرَ الكريم ولا الرشيدِ، فتقطع "غيرَ الكريم" من "عبد الله"، إذْ كان "عبدُ الله" معرفة مؤقتة، و"غير الكريم" نكرة مجهولة. وقد كان بعضُ نحويِّي البصريين يزعم أنّ قراءة مَنْ نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم"، على وَجه استثناءِ "غير المغضوب عليهم" من معاني صفة "الذين أنعمت عليهم"، كأنه كان يرى أنّ معنى الذين قرأوا ذلك نصبًا: اهدنا الصراط المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، إلا المغضوبَ عَليهم -الذين لم تُنعم عليهم في أديانهم ولم تَهْدهم للحق- فلا تجعلنا منهم. كما قال نابغة بني ذبيان: وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلالا أُسَائِلُها ... عَيَّت جَوابًا، ومَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ (1) إلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُهُا ... والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ (2)   (1) ديوانه: 23، ويأتي في تفسير آية البقرة: 35 (1: 186 بولاق) ، وآية النساء: 114 (5: 178) ، وآية يونس: 98 (11: 117) وآية سورة الليل: 20 (30: 146) . يقال: لقيته أصيلالا وأصيلانًا، إذا لقيته بالعشي. وذلك أن الأصيل هو العشي، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأصلان (بضم فسكون) ، ثم صغروا الجمع فقالوا: أصيلان، ثم أبدلوا من النون لامًا. فعلوا ذلك اقتدارا على عربيتهم، ولكثرة استعمالهم له حتى قل من يجهل أصله ومعناه. وعى في منطقه: عجز عن الكلام. (2) أواري جمع آري (مشدد الياء) : وهو محبس الدابة ومأواها ومربطها، من قولهم: تأرى بالمكان أقام وتحبس. ولأيا: بعد جهد ومشقة وإبطاء. والنؤى: حفرة حول الخباء تعلى جوانبها بالتراب، فتحجز الماء لا يدخل الخباء، والمظلومة: يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم، وليس بموضع تحويض لبعدها عن مواطئ السابلة. فلذلك سماها مظلومة، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. والجلد: الأرض الصلبة، يعني أنها لا تنبت شيئًا فلا يرعاها أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 والأواريُّ معلومٌ أنها ليست من عِدَاد "أحد" في شيء. فكذلك عنده، استثنى "غير المغضوب عليهم" من "الذين أنعمت عليهم"، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء. وأما نحِويُّو الكوفيين، فأنكروا هذا التأويل واستخفُّوه (1) ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة، لكان خطأ أن يقال: "ولا الضالين". لأن " لا " نفي وجحد، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا: لم نجد في شيء من كلام العرب استثناءً يُعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء، وبالجحد على الجحد، فيقولون في الاستثناء: قام القومُ إلا أخاك وإلا أباك. وفي الجحد: ما قام أخوك ولا أبوك. وأما: قام القومُ إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا: فلما كان ذلك معدومًا في كلام العرب، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزولُه، علمنا -إذ كان قولُه"ولا الضالين" معطوفًا على قوله"غير المغضوب عليهم" -أن " غير " بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجَّهها إلى الاستثناء خطأ. فهذه أوجه تأويل "غير المغضوب عليهم"، باختلاف أوجه إعراب ذلك. وإنما اعترضْنا بما اعترضنا في ذلك من بَيان وُجوه إعرابه- وإن كان قصدُنا في هذا الكتاب الكشفَ عن تأويل آي القرآن- لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله. فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وُجوه تأويله، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته. والصَّوابُ من القول في تأويله وقراءته عندنا، القول الأول، وهو قراءةُ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بخفض الراء من " غير ". بتأويل أنها صفة لِ "الذين أنعمت عليهم" ونعتٌ لهم -لما قد قدمنا من البيان- إن شئتَ، وإن شئت فبتأويلِ تكرار " صراط ". كلُّ ذلك صوابٌ حَسنٌ.   (1) في المطبوعة: "واستخطئوه"، واستخفوه: رأوه خفيفا لا وزن له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فإن قال لنا قائل: فمنْ هؤلاء المغضوبُ عليهم، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم؟ قيل: هم الذين وصفهم الله جَلّ ثناؤه في تنزيله فقال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة: 60] . فأعلمنا جلّ ذكره ثَمَّة (1) ، ما أحَلَّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا، منّهً منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة من أن يَحِلَّ بنا مثل الذي حَلّ بهم من المَثُلات، ورأفة منه بنا (2) . فإن قيل: وما الدليلُ على أنهم أولاء الذين وصفَهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت؟ قيل: 193 - حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: المغضوبُ عليهم، اليهود (3) . 194- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عباد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المغضوبَ عليهم اليهود (4) .   (1) بدلوها في المطبوعة إلى "بمنه"؛ وثم وثمة (بفتح الثاء) : إشارة للبعيد بمنزلة "هنا" للقريب. (2) المثلات جمع مثلة (بفتح فضم ففتح) : وهي العقوبة والتنكيل. (3) الحديث 193 - هذا إسناد صحيح، وسيأتي بعض هذا الحديث أيضًا بهذا الإسناد 207. وتخريجه سيأتي في 195. (4) الحديث 194 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. عباد بن حبيش، بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة ولآخره شين معجمة، الكوفي، ذكره ابن حبان في الثقات، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 78. وبعض الحديث سيأتي أيضًا 208 بهذا الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 195- حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرِّي بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جلّ وعزّ "غير المغضوب عليهم" قال: هم اليهود (1) . 196 - حدثنا حُميد بن مَسْعَدة السّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجُرَيْري، عن عبد الله بن شَقِيق: أنّ رُجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى، فقال: مَنْ هؤلاء الذين تحاصرُ يا رسول الله؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم، اليهود (2) .   (1) الحديث 195 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. مري بن قطري الكوفي: ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 57، وقال: "سمع عدي بن حاتم، روى عنه سماك بن حرب، يعد في الكوفيين". و "مري": بضم الميم وتشديد الراء المكسورة مع تشديد الياء. و "قطري" بفتح القاف والطاء وبعد الراء ياء مشددة. وبعضه سيأتي أيضًا بالإسناد نفسه 209. وهذا الحديث عن عدي بن حاتم: أصله قصة مطولة في إسلامه. فرواه -بطوله- أحمد في المسند 4: 378 - 379 عن محمد بن جعفر عن شعبة، بالإسناد السابق 194. . ورواه الترمذي 4: 67 من طريق عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عباد بن حبيش عن عدي. وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب. وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عباد بن حبيش عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث بطوله". وروى بعضه الطيالسي في مسنده: 1040 عن عمرو بن ثابت "عمن سمع عدي بن حاتم". وقد تبين لنا من روايات الطبري هنا أن سماك بن حرب سمعه من عباد بن حبيش ومن مري بن قطري، كلاهما عن عدي، وأن سماك بن حرب لم ينفرد بروايته أيضًا، إذ رواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي. وأن لم يعرفه الترمذي إلا من حديث سماك - لا ينفي أن يعرفه غيره من وجه آخر. وذكره ابن كثير 1: 54 من رواية أحمد في المسند، وأشار إلى رواية الترمذي، وإلى روايات الطبري هنا، ثم قال: "وقد روى حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها ". وذكره الحافظ في الإصابة، في ترجمة عدي 2: 229 من رواية أحمد والترمذي. وذكر السيوطي منه 1: 16 تفسير الحرفين، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه. وكذلك صنع الشوكاني 1: 15. (2) الحديث 196 - حميد بن مسعدة السامي، شيخ الطبري: هو "السامي" بالسين المهملة، نص على ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب. وهو نسبة إلى "سامة بن لؤي بن غالب". ووقع في نسخ الطبري -هنا وفيما يأتي 210- "الشامي" بالمعجمة، وهو تصحيف. و "الجريري"، بضم الجيم: هو سعيد بن إياس البصري. و "عبد الله بن شقيق العقيلي"، بضم العين وفتح القاف: تابعي كبير ثقة. وهذا الإسناد مرسل، لقول عبد الله بن شقيق: "أن رجلا". وسيأتي مرسلا أيضًا 197، 199 ولكنه سيأتي موصولا 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 197- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، عن سعيد الجُرَيْري، عن عروة، عن عبد الله بن شَقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. 198- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شَقيق: أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم -وهو بوادي القُرَى، وهو عَلى فَرسه، وسأله رجل من بني القَين فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ - قال: المغضوبُ عليهم. وأشار إلى اليهود (1) . 199- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحَذَّاء، عن عبد الله بن شقيق، أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه 200 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "غير المغضوب عليهم"، يعني اليهودَ الذين غَضب الله عليهم (2) .   (1) الحديث 198 - بديل، بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة: هو ابن ميسرة العقيلي، وهو تابعي ثقة. وهذه الرواية متصلة بإسناد صحيح. لأن عبد الله بن شقيق صرح فيها بانه أخبره "من سمع النبي صلى الله عليه وسلم "، وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معروف. والوصل بذكر الصحابي المبهم - زيادة من الثقة، فهي مقبولة. وقد ذكر ابن كثير 1: 54 - 55 هذه الرواية الموصولة، ثم أشار إلى الروايات الثلاث المرسلة، ثم قال: " ووقع في رواية عروة تسمية: عبد الله بن عمرو، فالله أعلم". ولكنه لم يذكر من خرج رواية عروة التي يشير إليها. ثم قال ابن كثير: "وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم، قال: اليهود، قلت: الضالين؟ قال: النصارى". وأشار الحافظ في الفتح 8: 122 إلى رواية ابن مردويه هذه عن أبي ذر "بإسناد حسن". وذكر أيضًا أن رواية عبد الله بن شقيق الموصولة " أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم" - رواها أحمد. وهذه الروايات أيضًا عند السيوطي 1: 16، والشوكاني 1: 14 - 15. وسيأتي تفسير (الضالين) بهذه الأسانيد 210، 211، 212، 213. وسيأتي في 211 بيان من عروة الذي في الإسناد 197. (2) الأثر 200 - أثر الضحاك عن ابن عباس لم يخرجوه. وسيأتي باقيه 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 201- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "غير المغضوب عليهم"، هم اليهود (1) . 202- حدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال: "غير المغضوب عليهم"، قال: هم اليهود. 203- حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر، عن ربيع: "غير المغضوب عليهم"، قال: اليهود. 204- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: "غير المغضوب عليهم" قال: اليهود. 205- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: "غير المغضوب عليهم"، اليهود. 206- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد، عن أبيه، قال: "المغضوب عليهم"، اليهود (2) . قال أبو جعفر: واختُلِف في صفة الغضب من الله جلّ ذكره: فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الزخرف: 55] . وكما قال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ   (1) الخبر 201 - ابن كثير 1: 55، والدر المنثور 1: 16، والشوكاني 1: 15. وسيأتي باقيه: 217. (2) الآثار 202 - 206: في ابن كثير، والدر المنثور، الشوكاني، كالذي مضى. وسيأتي باقيها: 214، 216، 218، 219، 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) [سورة المائدة: 60] . وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول. وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه -وإن كان كذلك من جهة الإثبات (1) - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم. لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها (2) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلا الضَّالِّينَ} . قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام، والمعنى إلغاؤها، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج:   (1) الإثبات: مذهب أهل السنة في إثبات الصفات لله تعالى كما وصف نفسه، وإثبات القدر بلا تأويل، خلافا لأهل القدر، وهم نفاته، وللجهمية والمعطلة للصفات. (2) بعد هذا الموضع من نسخة دار الكتب المصرية رقم: 100 تفسير، ما نصه: "وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا. -على الأصل المنقول منه- سمعت وأحمد ومحمد والحسن بني عبد الله بن أحمد الفرغاني في يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وثلثمائة. ومحمد بن محمد الطوسي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فِي بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ (1) ويتأوله بمعنى: في بئر حور سرى، أي في بئر هلكة، وأن " لا " بمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم: فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لا تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَا (2) وهو يريد: فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص: وَيَلْحَيْنَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لا أُحِبَّه ... وَللَّهْوُ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ (3) يريد: وَيلحينني في اللهو أن أحبه، وبقوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ) [سورة الأعراف: 12] ، يريد أن تسجد. وحُكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول " غير " التي " مع "المغضوب عليهم "، أنها بمعنى " سوى (4) . فكأنّ معنى الكلام كانَ عنده: اهدنا الصراط المستقيمَ، صراط الذين أنعمتَ عليهم، الذين همُ سوى المغضوب والضالين. وكان بعضُ نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله (5) ، ويزعمُ أن " غير "   (1) ديوانه: 16، ومعاني القرآن للفراء 1: 8، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 25 والخزانة 2: 95، وأمالي الشجري 2: 231، والأضداد لابن الأنباري: 186. والقائل بأنها زائدة من البصريين هو أبو عبيدة. (2) نسبه شارح القاموس عن الصاغاني لأبي النجم وقال: روايته: "إذا رأت ذا الشيبة القفندرا" وضبطوا "الشمط" بفتح الميم، أي الشيب، وجائز أن يكون أبو النجم قاله "الشمط" بكسر الميم على أنه فرح، طرح ألف "أشمط"، كما فعلوا في أشعث وشعث. وأحدب وحدب، وأتعس وتعس، وأحول وحول، في الصفات المشبهة من العيوب الظاهرة والحلي. وانظر الفائق للزمخشري 2: 326 فقد عدد ألفاظًا غيرها. وكأن الصاغاني أبى من رواية "الشمط" بفتحتين، لأن القفندر: هو الصغير الرأس القبيح المنظر. والبيت برواية البري في مجاز القرآن لأبي عبيدة: 26، والأضداد لابن الأنباري: 185، واللسان (قفندر) ، ثم انظر أمالي الشجري 2: 231، وغيرها. (3) الكامل 1: 49، والأضداد لابن الأنباري: 186، ولحاه يلحاه لحيًا: عذله ولامه. (4) هو أبو عبيدة كما أسلفنا في أول هذه الفقرة. وأشار إليه الفراء في معاني القرآن: 8 بقوله: "وقد قال بعض من لا يعرف العربية. . . "، وكذلك فعل الطبري من قبل في مواضع. وانظر اللسان (غير) . (5) يعني الفراء الكوفي في كتابه معاني القرآن: 8، أو غيره من كتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 التي " مع المغضوب عليهم "، لو كانت بمعنى سوى، لكان خطأ أن يعطف عليها بـ " لا "، إذْ كانت " لا " لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها. كما كان خطأ قول القائل: "عندي سِوَى أخيك ولا أبيك"، لأن سِوَى ليست من حروف النفي والجحود. ويقول: لما كان ذلك خطأ في كلام العرب، وكان القرآن بأفصحِ اللغات من لغات العرب، كان معلومًا أن الذي زَعمه القائل: أن "غير" مع "المغضوب عليهم" بمعنى: سوى المغضوب عليهم، خطأ. إذ كان قد كرّ عليه الكلامَ بـ " لا ". وكان يزعم أن " غير " هنالك إنما هي بمعنى الجحد. إذْ كان صحيحًا في كلام العرب، وفاشيًا ظاهرًا في منطقها توجيه " غير " إلى معنى النفي ومستعملا فيهم: "أخوك غير مُحسِن ولا مُجْمِل"، يراد بذلك أخوك لا محسن، ولا مجمل، ويَستنكرُ أن تأتي " لا " بمعنى الحذف في الكلام مُبتدأً، ولمَّا يتقدمها جحد. ويقول: لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مُبتدأ، قبل دلالة تدلّ ذلك من جحد سابق، لصحَّ قول قائل قال: "أردْتُ أن لا أكرم أخاك"، بمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك، دلالةٌ واضحة على أنَّ " لا " تأتي مبتدأة بمعنى الحذف، ولَمَّا يتقدَّمها جحد. وكان يتأوّل في " لا " التي في بيت العجاج، الذي ذكرنا أن البصْريّ استشهد به، بقوله: إنها جَحْدٌ صحيح، وأنّ معنى البيت: سَرَى في بئر لا تُحيرُ عليه خيرًا، ولا يتبيَّن له فيها أثرُ عملٍ، وهو لا يشعُر بذلك ولا يدري به (1) . من قولهم: "طحنت الطَّاحنة فما أحارت شيئًا"، أي لم يتبيَّن لها أثرُ عملٍ. ويقول في سائر الأبيات الأخر، أعني مثل بَيت أبي النجم:: فما ألُوم البيضَ أن لا تسخَرَا إنما جاز أن تكون " لا " بمعنى الحذف، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام، فكان الكلام الآخر مُواصِلا للأول، كما قال الشاعر:   (1) عبارة الفراء في معاني القرآن: "كأنك قلت: إلى غير رشد توجه وما درى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمُ ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (1) فجازَ ذلك، إذْ كان قد تقدَّم الجحدُ في أوّل الكلام. قال أبو جعفر: وهذا القولُ الآخر أولى بالصواب من الأول، إذ كان غيرَ موجودٍ في كلام العرب ابتداءُ الكلام من غير جحد تقدَّمه بـ " لا " التي معناها الحذف، ولا جائزٍ العطفُ بها على " سوى "، ولا على حرف الاستثناء. وإنما لِـ " غير " في كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والآخر الجحد، والثالث سوى. فإذا ثبت خطأ " لا " أن يكون بمعنى الإلغاء مُبتدأ (2) ، وفسدَ أن يكون عطفًا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم "، لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء، ولم يَجز أيضًا أن يكون عطفًا عليها لو كانت بمعنى " سوى "، وكانت " لا " موجودة عطفًا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قَبلها -صحَّ (3) وثبت أن لا وجهَ لـ " غير "، التي مع " المغضوب عليهم "، يجوز توجيهها إليه على صحَّة إلا بمعنى الجحد والنفي، وأن لا وَجه لقوله: " ولا الضالين "، إلا العطف على " غير المغضوب عليهم ". فتأويلُ الكلام إذًا - إذْ كان صحيحًا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا- اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، لا المغضوب عليهم ولا الضالين. فإن قال لنا قائل: ومَن هؤلاء الضَّالُّون الذين أمرنا اللهُ بالاستعاذة بالله أن يَسْلُكَ بنا سبيلهم، أو نَضِلَّ ضلالهم؟ قيل: هم الذين وصَفهم الله في تنزيله فقال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا   (1) الشعر لجرير يهجو الأخطل، ديوانه 263، ونقائض جرير والأخطل: 174، وأضداد ابن الأنباري: 186، ثم تفسير آية سورة البقرة: 158. (2) في المخطوطة: "فإذا ثبت خط أن لا يكون بمعنى الإلغاء" غير منقوطة، ولم يحسن طابعو المطبوعة قراءتها فجعلوها: "فإذا بطل حظ لا أن تكون بمعنى الإلغاء". وقد صححنا ما في المخطوطة من تقديم "لا" على "يكون". (3) جواب قوله "فإذا ثبت خطأ. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة: 77] . فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟ قيل: 207- حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشَّعبي، عن عدي بن أبي حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا الضالين" قال: النصارى (1) . 208- حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة، عن سِمَاك، قال: سمعت عبّاد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الضَّالين: النَّصارى ". 209 - حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مُصْعَب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرّيّ بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: "ولا الضالين"، قال: النصارى هم الضالون. 210- حدثنا حُميد بن مَسعدة السَّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضّالون: النصارى. 211 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابنُ عُلَيَّة، عن سعيد الجُرَيري، عن عروة، يعني ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه (2) .   (1) هذه الأحاديث والأخبار والآثار 207 - 220، في تفسير (الضالين) ، سبقت أوائلها في تفسير (المغضوب عليهم) ، مع تخريجها، في الأرقام 193 - 206، مع شيء من التقديم والتأخير. (2) الحديث 211 - سبق هذا الإسناد 197 ولم ينسب فيه "عروة" هذا، وفي التعليق على الحديث 198 إشارة ابن كثير إلى رواية "عروة"، ولم يذكر نسبه أيضًا. وقد بين الطبري هنا أنه "عروة بن عبد الله بن قيس". وأنا أرجح أن كلمة "قيس" محرفة من الناسخين عن كلمة "قشير". فإني لم أجد في التراجم قط من يسمى "عروة بن عبد الله بن قيس"، ويبعد جدا أن لا يذكروه، وهو يروي عن رجل من كبار التابعين. والذي في هذه الطبقة، هو "عروة بن عبد الله بن قشير أبو مهل الكوفي"، مترجم في التهذيب 7: 186، والتاريخ الكبير للبخاري 4 / 1 / 34، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3 / 1 / 397، والثقات لابن حبان: 574، والكنى للدولابي 2: 135. وذكر الأخيران قولا آخر في اسم جده، أنه "بشير". و "أبو مهل": بفتح الميم والهاء، كما ذكره الذهبي في المشتبه: 508. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 212 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العُقَيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سَمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القَين، فقال: يا رسولَ الله، من هؤلاء؟ - قال: هؤلاء الضَّالون "، يعني النصارى. 213 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محاصرٌ وادي القُرى وهو على فرس: من هؤلاء؟ قال: الضالّون. يعني النصارى. 214- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: "ولا الضالين" قال: النصارى. 215- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "ولا الضالين" قال: وَغير طريقِ النَّصارى الذين أضلَّهم الله بِفرْيَتهمْ عليه. قال: يقول: فألهِمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، حتى لا تغضَبَ علينا كما غضبتَ على اليهود، ولا تضلَّنا كما أضللتَ النصارى فتعذّبنا بما تعذِّبهم به. يقول امنعْنا من ذلك برفْقِك ورَحمتك وقدرتك. 216- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الضالين النصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 217- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا الضالين"، هم النصارى. 218- حدثني أحمد بن حازم الغِفاري، قال: أخبرنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع: "ولا الضالين"، النصارى. 219- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: "ولا الضالين"، النصارى. 220- حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه. قال: الضالين، النصارى. * * * قال أبو جعفر: فكلّ حائدٍ عن قَصْد السبيل، وسالكٍ غيرَ المنهج القويم، فضَالٌّ عند العرب، لإضلاله وَجهَ الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارَى ضُلالا لخطئهم في الحقِّ مَنهجَ السبيل، وأخذهم من الدِّين في غير الطريق المستقيم. فإن قال قائل: أوَ ليس ذلك أيضًا من صفة اليهود؟ قيل: بلى! فإن قال: كيف خَصّ النصارَى بهذه الصفة، وَخصّ اليهودَ بما وصفَهم به من أنهم مغضوب عليهم؟ قيل: كلا الفريقين ضُلال مغضوبٌ عليهم، غيرَ أن الله جلّ ثناؤه وَسم كل فريق منهم من صِفَته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسمِّ واحدًا من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفاتِ الذمّ زياداتٌ عليه. فيظنُّ بعض أهل الغباء من القدريّة أن في وصف الله جلّ ثناؤه النصارى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بالضّلال، بقوله: "ولا الضالين"، وإضافته الضَّلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضلَّلون، كالذي وَصف به اليهود أنهم المغضوبُ عليهم -دلالةً على صحة ما قاله إخوانُه من جهلة القدرية، جهلا منه بسَعَة كلام العرب وتصاريف وُجوهه. ولو كان الأمر على ما ظَنّه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكونَ شأنُ كلِّ موصوفٍ بصفةٍ أو مضافٍ إليه فعلٌ، لا يجوزُ أن يكون فيه سببٌ لغيره، وأنْ يكون كلُّ ما كان فيه من ذلك لغيره سببٌ، فالحقُّ فيه أن يكون مضافًا إلى مُسبِّبه، ولو وَجب ذلك، لوجبَ أن يكون خطأ قولُ القائل: " تحركت الشجرةُ "، إذْ حرَّكتها الرياح؛ و " اضطربت الأرض "، إذْ حرَّكتها الزلزلة، وما أشبهَ ذلك من الكلام الذي يطولُ بإحصائه الكتاب. وفي قول الله جلّ ثناؤه: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [سورة يونس: 22]-بإضافته الجريَ إلى الفلك، وإن كان جريها بإجراء غيرِها إيَّاها- ما دلّ على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: "ولا الضالين"، وادّعائه أنّ في نسبة الله جلّ ثناؤه الضلالةَ إلى من نَسبها إليه من النصارى، تصحيحًا لما ادَّعى المنكرون: أن يكون لله جلّ ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم، مع إبانة الله عزّ ذكره نصًّا في آيٍ كثيرة من تنزيله، أنه المضلُّ الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية: 23] . فأنبأ جلّ ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره. ولكنّ القرآن نزلَ بلسان العرب، على ما قدَّمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه -وإن كان مسبِّبُه غيرَ الذي وُجِد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 منه- أحيانًا، وأحيانًا إلى مسبِّبه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويُوجِده الله جلّ ثناؤه عَيْنًا مُنْشَأةً؟ بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبِه؛ كسبًا له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له -وَإلى الله جلّ ثناؤه، بإيجاد عينِه وإنشائها تدبيرًا. (مسألة يَسأل عنها أهل الإلحاد الطَّاعنون في القرآن) إن سألَنا منهم سائل فقال: إنك قد قدَّمتَ في أول كتابك هذا في وصْف البيان: بأنّ أعلاه درجة وأشرفَه مرتبة، أبلغُه في الإبانة عن حاجة المُبين به عن نفسه، وأبينُه عن مُراد قائله، وأقربُه من فهم سامعه. وقلتَ، مع ذلك: إنّ أوْلى البيان بأن يكون كذلك، كلامُ الله جل ثناؤه، لِفَضْله على سائر الكلام وبارتفاع دَرَجته على أعلى درجات البيان (1) ، فما الوجه -إذ كان الأمر على ما وصفت- في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله: (مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين) ، إذْ كان لا شك أنّ من عَرف: مَلك يوم الدين، فقد عَرَفه بأسمائه الحسنى وصفاته المُثْلى. وأنّ من كان لله مطيعًا، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه مُتَّبع، وعن سبيل من غَضِب عليه وضَلَّ مُنْعَدِل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية، من الحكمة التي لم تَحْوِها الآيتان اللتان ذكرنا؟ قيل له: إنّ الله تعالى ذكرُه جَمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته -بما أنزل إليه من كتابه- معانيَ لم يجمعْهُنّ بكتاب أنزله إلى نبيّ قبله، ولا لأمَّة من الأمم قبلهم. وذلك أنّ كُلّ كتاب أنزله جلّ ذكرُه على نبيّ من أنبيائه قبله، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعَها كتابُه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كالتَّوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزَّبُور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير -لا مُعجزةَ في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتابُ الذي أنزل على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرًا من المعاني التي سائرُ الكتب غيرِه منها خالٍ.   (1) انظر ما مضى: 9 - 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وقد قدَّمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب (1) . ومن أشرفِ تلك المعاني التي فَضَل بها كتابُنا سائرَ الكتب قبله، نظْمُه العجيبُ ورصْفُه الغريب (2) وتأليفُه البديع؛ الذي عجزتْ عن نظم مثْلِ أصغرِ سورة منه الخطباء، وكلَّت عن وَصْف شكل بعضه البلغاء، وتحيَّرت في تأليفه الشُّعراء، وتبلَّدت -قصورًا عن أن تأتيَ بمثله- لديه أفهامُ الفُهماء، فلم يجدوا له إلا التسليمَ والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوي، مَع ذلك، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمرٌ وزجرٌ، وقَصَص وجَدَل ومَثَل، وما أشبهَ ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء. فمهما يكن فيه من إطالة، على نحو مَا في أمِّ القرآن (3) ، فلِما وصفتُ قبلُ من أن الله جل ذكره أرادَ أن يجمعَ - برَصْفه العجيب ونظْمِه الغريب، المنعدِلِ عن أوزان الأشعار، وسجْع الكُهَّان وخطب الخطباء ورَسائل البلغاء، العاجز عن رَصْف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد - الدلالةَ (4) على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه، تنبيهَ (5) العباد على عَظمته وسلطانه وقدرته وعِظم مَملكته، ليذكرُوه بآلائه، ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيدَ، ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل؛ وبما فيه من نَعْتِ من أنعم عليه بمعرفته، وتفضَّل عليه بتوفيقه لطاعته، تعريفَ (6) عباده أن كل ما بهم من نعمة، في دينهم ودنياهم، فمنه، ليصرفوا رَغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دُون ما سواهُ من الآلهة والأنداد، وبما فيه من ذكره ما أحلّ بمن عَصَاه منْ مَثُلاته، وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته -ترهيبَ (7) عباده عن ركوب   (1) انظر ما مضى: 71 (2) في المطبوعة "ووصفه". ورصف الشيء ضم بعضه إلى بعض ونظمه حتى يكون مستويا محكما منضدا. (3) في المخطوطة: "آية القرآن" غير منقوطة. (4) "الدلالة" مفعول "أن يجمع. . . "، ثم عطف عليها بعد، ما سننبه له. (5) هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا. (6) هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا. (7) هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 معاصيه، والتعرُّضِ لما لا قِبَل لهم به من سَخَطه، فيسلكَ بهم في النكال والنَّقِمات سبيلَ من ركب ذلك من الهُلاك. فذلك وَجْه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيرًا لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة. * * * 221- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي السائب مولى زُهْرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال العبد: "الحمد لله ربّ العالمين"، قال الله: "حمدني عبدي". وإذا قال: "الرحمن الرحيم"، قال: "أثنى عليّ عبدي". وإذا قال: "مالكِ يوم الدين"، قال: "مجَّدني عبدي. فهذا لي". وإذا قَال: "إيّاك نَعبُد وإيّاكَ نستعين" إلى أن يختم السورة، قال: "فذاكَ لهُ (1) . 222 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: إذا قال العبد: "الحمد لله"، فذكر نحوه، ولم يرفعه (2) . 223 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرَقَة، عن أبي السائب، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله (3) . 224- حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: حدثنا زيد بن الحُبَاب،   (1) الحديث 221 - المحاربي: هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد، وهو ثقة، أخرج له الجماعة. محمد بن إسحاق: هو ابن يسار، صاحب السيرة، ثقة معروف، تكلم فيه بعضهم بغير حجة وبغير وجه. العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة -بضم الحاء وفتح الراء-: تابعي ثقة. أبو السائب مولى زهرة: تابعي ثقة، قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة مقبول النقل". والحديث رواه الطبري بعد هذا موقوفًا بإسنادين. وسنذكر تخريجه في آخرهما: 223. (2) الحديث 222 - عبدة: هو ابن سليمان الكلابي، من شيوخ أحمد وإسحاق، قال أحمد: "ثقة ثقة وزيادة، مع صلاح في بدنه". (3) الحديث 223 - أبو أسامة: هو حماد بن أسامة. الوليد بن كثير المخزومي: ثقة ثبت أخرج له الجماعة. وهذا الحديث -بإسناديه الموقوفين- مرفوع حكمًا، وإن كان في هاتين الروايتين موقوفًا لفظًا. فإن هذا مما لا يعلم بالرأي، ولا يدخل فيه مناط الاجتهاد. ثم إن الرفع زيادة من الثقة، وهي مقبولة. وفوق هذا كله، فإنه لم ينفرد برفعه راويه في الإسناد الأول، وهو المحاربي، بل ورد بأسانيد أخر مرفوعًا. وهو قطعة من حديث طويل، رواه مالك في الموطأ: 84 - 85 عن العلاء بن عبد الرحمن، بهذا الإسناد مرفوعًا. وكفى بمالك حجة في التوثق من رفعه لفظا فوق رفعه حكمًا. وكذلك رواه مسلم 1: 166 (4: 101 - 104 من شرح النووي) ، من طريق مالك، ومن طريق سفيان بن عيينة، ومن طريق ابن جريج، ومن طريق أبي أويس -كلهم عن العلاء عن أبي السائب، به مرفوعًا. وزاد أبو أويس عن العلاء قال: "سمعت من أبي ومن أبي السائب، وكانا جليسي أبي هريرة. . . "، فذكره مرفوعا. ونسبه السيوطي 1: 6 لسفيان بن عيينة في تفسيره، وأبي عبيدة في فضائله، وابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة، وابن حبان، وغيرهم. وذكر ابن كثير 1: 24 - 25 بعض طرقه مفصلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قال: حدثنا عَنْبسة بن سعيد، عن مُطَرِّف بن طَرِيف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجلّ: "قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفين، وله ما سَأل". فإذا قال العبد: "الحمدُ لله ربّ العالمين" قال الله: "حمدَني عَبدي"، وإذا قال: "الرحمن الرحيم"، قال: "أثنى عليّ عَبدي"، وإذا قال: "مالكِ يَومِ الدين" قال: "مجَّدني عَبدي" قال: "هذا لي، وما بقي" (1) . "آخرُ تفسيرِ سُورَةِ فَاتِحةُ الكتابِ".   (1) الحديث 224 - هذا إسناد جيد صحيح. صالح بن مسمار السلمي المروزي: ثقة، روى عنه مسلم في صحيحه، وقال أبو حاتم: "صدوق"، كما في كتاب ابنه 2 / 1 / 415، وذكره ابن حبان في الثقات. عنبسة بن سعيد الضريس الرازي قاضي الري: ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو داود وغيرهم، وصرح البخاري في الكبير 4 / 1 / 35 بأنه يروي عن مطرف. و "الضريس": بضم الضاد المعجمة وآخره سين مهملة، كما ضبطه الحافظ في التقريب. مطرف بن طريف: ثقة ثبت، أخرج له الجماعة. سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: ثقة لا يختلف فيه، كما قال ابن عبد البر، وهو من شيوخ مالك. وروايته عن جابر متصلة، لأنه يروي عن أبيه "إسحاق بن كعب" يوم الحرة سنة 63، وقد عاش جابر بعدها أكثر من عشر سنين. والحديث ذكره السيوطي 1: 6 ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما. وذكره ابن كثير 1: 25 عن هذا الموضع من الطبري - ووقع في إسناده غلط مطبعي - وقال: "وهذا غريب من هذا الوجه" ّ ولعله يريد أنه لم يروه أحد من حديث جابر إلا بهذا الإسناد. وليس من ذلك باس، وقد ثبت معناه من حديث أبي هريرة، فهو شاهد قوي لصحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 تفسير سورة البقرة بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ أعنْ (القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة) القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {الم} . قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره (1) "ألم" فقالَ بعضُهم: هو اسم من أسماء القرآن. * ذكرُ من قال ذلك: 225- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ألم"، قال: اسم من أسماء القرآن. 226- حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"ألم"، اسم من أسماء القرآن. 227- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال:"ألم"، اسم من أسماء القرآن. وقال بعضُهم: هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن. * ذكر من قال ذلك: 187 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال:"ألم"، فواتح يفتح الله بها القرآن.   (1) تراجمة القرآن: مفسروه، كما مر آنفًا: 170، تعليق: 4 وما قبلها 70، تعليق: 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 229- حدثنا أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، قال:"ألم"، فواتح. 230- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"ألم"، و"حم"، و"ألمص"، و"ص"، فواتحُ افتتح الله بها (1) . 231- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثلَ حديث هارون بن إدريس. وقال آخرون: هو اسم للسورة. * ذكرُ من قال ذلك: 232- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا عبد الله بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن قول الله:"ألم ذلك الكتاب" و"ألم تَنزيل"، و"ألمر تلك"، فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السُّوَر. وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم. * ذكر من قال ذلك: 233- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت السُّدِّي عن"حم" و"طسم" و"ألم"، فقال: قال ابن عباس: هو اسْم الله الأعظم. 234- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل السُّدِّي، عن مُرّة الهمداني، قال: قال عبدُ الله فذكر نحوه. 235- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عُبيد الله بن موسى، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: فواتح السور من أسماء الله. وقال بعضهم: هو قسمٌ أقسمَ الله به، وهو من أسمائه. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر 230 - إسحاق بن الحجاج: هو الطاحوني المقرئ، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/1/ 217، وقال: "سمعت أبا زرعة يقول: كتب عبد الرحمن الدشتكي تفسير عبد الرزاق عن إسحاق بن الحجاج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 236 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: هو قَسَم أقسمَ الله به، وهو من أسماء الله. 237- حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، قال: حدثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال:"ألم"، قسم (1) .   (1) الأثر 237 - يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح: هو الدورقي الحافظ البغدادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقال بعضهم: هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ، كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر. * ذكر من قال ذلك: 238- حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس:"ألم" قال: أنا الله أعلم (1) . 239- حُدِّثتُ عن أبي عُبيد، قال: حدثنا أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: قوله:"ألم"، قال: أنا الله أعلم. 240- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القنَّاد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدِّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ألم" قال: أما"ألم" فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه. 241- حدثنا محمد بن معْمَر، قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ألم" و"حم" و"ن"، قال: اسم مُقطَّع (2) . وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ. * ذكر من قال ذلك: 242- حُدِّثتُ عن منصور بن أبي نُويرة، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدِّب، عن خُصَيْف، عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها"ق" و"ص" و"حم" و"طسم" و"ألر" وغير ذلك، هجاء موضوع. وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة. * ذكر من قال ذلك: 243- حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي، قال: حدثني أبي، عن الربيع بن أنس، في قول الله تعالى ذكره:"ألم"، قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفًا، دارت فيها الألسُن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مِفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبَلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدّةِ قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم:"وعجيب ينطقون في أسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون؟ ". قال: الألف: مفتاح اسمه:"الله"، واللام: مفتاح اسمه:"لطيف"، والميم: مفتاح اسمه:"مجيد". والألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم: مجده. الألف سنةٌ، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة. 244- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بنحوه (3) . وقال بعضُهم: هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه، إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. وقد مَضت الروايةُ بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس (4) .   (1) الخبر 238 - رواه الطبري عن شيخين عن وكيع: عن أبي كريب، وعن سفيان بن وكيع، كلاهما عن وكيع عن شريك، وهو ابن عبد الله النخعي القاضي. وجاء الإسناد الثاني منهما في مطبوعة بولاق محرفا: "سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن أبي شريك". وصحح من المخطوطة. (2) الخبر 241- محمد بن معمر بن ربعي، شيخ الطبري: هو المعروف بالبحراني، وهو ثقة، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين، وهو متأخر الوفاة، مات في العام الذي مات فيه البخاري سنة 256، كما ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ 2: 129، وأما شيخه"عباس بن زياد الباهلي" فلم أجد له ترجمة قط. (3) الأخبار 225 - 244: ذكرها ابن كثير 1: 65 - 66، بعضها بالإسناد، وبعضها دون إسناد، وسردها السيوطي 1: 22 - 23 مع غيرها من الروايات. ونقل الشوكاني بعضها 1: 21. (4) يشير إلى الروايتين السابقتين: 243، 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وقال بعضهم: لكل كتاب سرٌّ، وسرُّ القرآن فواتحه. * * * وأمَّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: هي حروف من حُرُوف المعجم، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر"أب ت ث"، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين: قال. ولذلك رُفع (ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، لأنّ معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذلك الكتابُ الذي أنزلته إليك مجموعًا لا ريب فيه. فإن قال قائل: فإن"أب ت ث"، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء، كما كان"الحمدُ" اسما لفاتحة الكتاب. قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في"ط ظ"، وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ"أب ت ث" ليس لها باسْم، وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها (1) . قال: وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور، فذُكِرت في أوائلها مختلفةً، وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي"أب ت ث"، مؤتلفةً، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد -بذكر ما ذكر منها مختلفًا- الدلالةُ على الكلام المتصل؛ وإذا أريد -بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا- الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل: ابني في"ط ظ" وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم، وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله: ابني في"أب ت ث" - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد: لَمَّا رَأيْتُ أمرَهَا في حُطِّي ... وفَنَكَتْ في كَذِب ولَطِّ ... أَخذْتُ منها بقُرُونٍ   (1) في المطبوعة: "يؤثر في الذكر". وآثر: يؤثره الناس ويقدمونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 شُمْطٍ ... فلم يَزَلْ صَوْبِي بها ومَعْطِي ... حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي (1) فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في"أبي جاد"، فأقام قوله:"لما رأيت أمرها في حُطِّي" مقامَ خبرِه عنها أنها في"أبي جاد"، إذْ كان ذاك من قوله، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله: لما رأيت أمرَها في"أبي جاد". وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه. وقال بعضهم: الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه. فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟ قيل (2) : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما، وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول: بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها (3) ويقول: لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا (4) و"بل" ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر.   (1) أولها في اللسان (فنك) . فنك في الكذب: مضى فيه ولج ومحك. ولط الحق: جحده ومنعه وخاصم فأحمى الخصومة. والقرون، جمع قرن: وهو الضفيرة. وشمط، جمع أشمط: وهو الذي اشتعل رأسه شيبا. صاب يصوب صوبًا: انحدر من علو إلى سفل. وفي المطبوعة: "ضربى". والمعط: المد والجذب، وعنى بذلك إصعاده بها وهو يجذب ضفائرها، وذلك في انحداره بها وصعوده. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟ فإن معنى هذا. . . "، وهو كلام مضطرب، والصواب ما أثبتناه. (3) اللسان (أهل) غير منسوب، وكأنه لأبي النجم فيما أذكر. (4) هو للعجاج، ديوانه: 7، ويأتي بعد قليل في: 212 أيضًا و: 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجهٌ معروفٌ. فأما الذين قالوا:"ألم"، اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان: أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن"ألم" اسم للقرآن، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويل قوله (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتابُ لا ريب فيه. والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها، فيَفهم السامع من القائل يقول:- قرأت اليوم"ألمص" و"ن"-، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن (1) ، كما يفهم عنه - إذا قال: لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا، وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس. وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وَنظائر"ألم""ألر" في القرآن جماعةٌ من السُّور؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات. قيل: إن الأسماء - وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها (2) . فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن، احتاج المخبر عن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أي السورة التي قرأها. . ". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "بين المسمى بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو"ألم": قرأتُ"ألم البقرة"، وفي آل عمران: قرأت"ألم آل عمران"، و"ألم ذلك الكتاب"، و"ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم". كما لو أراد الخبر عن رَجلين، اسم كل واحد منهما"عمرو"، غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ، إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور. وأما الذين قالوا: ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما، كما جعلت"بل" في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة، قالوا: بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا و"بل" ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه، ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر. وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل، وبعضُها من صفاته، ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر: قُلْنَا لها: قِفِي لنا، قالت: قافْ ... لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينا الإيجاف (1)   (1) الرجز للوليد بن عقبة. الأغاني 5: 131، شرح شواهد الشافية: 271، ومشكل القرآن: 238. الإيجاف: حيث الدابة على سرعة السير، وهو الوجيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يعني بقوله:"قالت قاف"، قالت: قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من"وقفت"، على مرادها من تمام الكلمة التي هي"وقفت". فصرفوا قوله:"ألم" وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف"أنا"، واللام لام"الله"، والميم ميم"أعلم"، وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة،"أنا" الله أعلم". قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من"حارثٍ" الثاءَ، فيقولون: يا حارِ، ومن"مالك" الكافَ، فيقولون: يا مالِ، وأما أشبه ذلك، وكقول راجزهم: مَا لِلظليم عَالَ? كَيْفَ لا يَا ... يَنْقَذُّ عنه جِلْدُه إذا يَا (1) كأنه أراد أن يقول: إذا يَفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من"يفعل"، وكما قال آخر منهم: بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا يريد: فشرًّا. ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا (2) . يريد: إلا أن تَشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا، من سائر حروفهما، وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه.   (1) شرح شواهد الشافية: 267. عال: دعاء عليه، من قولهم"عال عوله" أي ثكلته أمه، فاختصر. و"يا" في البيت الأول كأنه أراد أن يقول"ينقد عنه. . . " فوقف، ثم عاد يقول: "ينقد"، و"يا" في الآخر: أي إذا يعدو هذا العدو. (2) سيبويه 2: 62، الكامل 1: 240، والموشح: 120، وشرح شواهد الشافية: 262، ونسبه في 264 للقيم بن أوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 245- وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُليَّة، عن أيوب، وابن عون، عن محمد، قال: لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة: إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بَيده تحت خدِّه الأيمن، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه (1) . قال أبو جعفر: يعني بـ "تا" تضطجع، فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام (2) على النحو الذي وصفت: أقُول إِذْ خَرَّتْ على الكَلكالِ ... يَا ناقَتِي ما جُلْتِ من مَجَالِ (3) يريد: الكَلْكل، وكما قال الآخر: إنّ شَكْلِي وَإن شَكْلَك شَتَّى ... فَالزْمي الخُصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي (4) . فزاد ضادًا، وليست في الكلمة. قالوا: فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف"ألم" ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها. وأما الذين قالوا: كل حرف من"ألم" ونظائرها، دالُّ على معان شتى -   (1) الأثر 245- محمد: هو ابن سيرين. وعبدة: لم أوقن من هو ولم أرجح. بل أكاد أوقن أن هذا تحريف، صوابه"عبيدة" بفتح العين وكسر الباء الموحدة وآخرها هاء. وهو عبيدة بن عمرو -أو ابن قيس- السلماني، من كبار التابعين، من طبقة الصحابة، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه. وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه. وهو مترجم في التهذيب، وفي ابن سعد 6: 62 - 64، وعند ابن أبي حاتم 3/1/ 91. وأما يزيد: فهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، مات سنة 64. وقوله: "قال أيوب. . . "، أي أشار. (2) في المطبوعة: "في الكلام". (3) اللسان (كلل) ، ومشكل القرآن: 235. والكلكل: الصدر من البعير وغيره. (4) اللسان (بيض) (خفض) ، ومشكل القرآن: 234. يقوله لامرأته. والخص: البيت من قصب. وقوله"اخفضى" من الخفض: وهو الدعة ولين العيش. يقول لها: نحن مختلفان، فالزمى بيتك وعيشي في دعة وخفض، يزدك لين العيش بياضًا ونعمة. أما أنا فالرحلة دأبى، تشقيني وتلوحني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال: هو بتأويل"أنا الله أعلم"، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من"ألم" من كلمات شتى، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذْ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني، ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به، وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة. قالوا: فالألف من"ألم" مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً، منها تمامُ اسم الربّ الذي هو"الله"، وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة، إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف، وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد، وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام -في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء، وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم، وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء، كما افتتح ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ) ، [سورة الأنعام: 1] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا) [سورة الإسراء: 1] ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه، ومفاتحَ بعضها تمجيدَها، ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم، وأحيانًا بالعدل والإنصاف، وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار، ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك. وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضُها ببعض، دون قوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، ويكون"ذلك الكتاب" خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى"ألم". وكذلك"ذلك" في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوعٌ بعضه ببعض، وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول. وأما الذين قالوا: هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني، فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل، وسوى تَهَجِّي قول القائل:"ألم". وقالوا: غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله"ألم" لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحدُ وَجهيه، وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي"ألم" - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني، وهو حساب الجُمَّل؛ لأن قول القائل:"ألم" لا يجوز أن يليَه من الكلام"ذلك الكتاب"، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول، إنْ وَلي"ألم""ذلك الكتاب". واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما:- 246- حدثنا به محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مرَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أبو ياسر بن أخْطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال: تعلمون والله (1) ، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك"ألم ذلك الكتاب"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! فقالوا: أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله؟ (2) قال: نعم! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! (3) فقال: حُييّ بن أخطب، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة (4) ؟ قال: ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيرُه؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألمص) . قال: هذه أثقلُ وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألر) . قال: هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيرُه يا محمد؟ قال: نعم، (ألمر) ، قال: فهذه والله أثقل وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد، حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نزلت فيهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (5) . قالوا: فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه. والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض -فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد، كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها. والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني   (1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "تعلمون"، ونص محمد بن إسحاق، سيرة ابن هشام 2: 194. "تعلموا" بتشديد اللام، أي اعلموا. وهي كثيرة الورود في سيرة ابن هشام وغيره. (2) الذي في سيرة ابن هشام: "أجاءك بها جبريل من عند الله". (3) في المطبوعة، وفي سائر الكتب التي خرجت الخبر عن الطبري: "ما أجل". (4) في المطبوعة"قال، فقال لهم: أتدخلون. . . " و"أجل أمته" والتصحيح من المخطوطة وابن هشام. والأكل (بضم فسكون) : الرزق. يقال: هو عظيم الأكل في الدنيا، أي واسع الرزق، وهو الحظ من الدنيا، كأنه يؤكل. ويراد به: مدة العمر التي يعيشها الناس في الدنيا يأكلون مما رزقهم الله. فيقال للميت: انقطع أكله، بمعنى: انقضى عمره. (5) الحديث 246- هذا حديث ضعيف الإسناد، رواه محمد بن إسحاق بهذا الإسناد الضعيف، وبأسانيد أخر ضعاف: فرواه في السيرة، التي هذبها عبد الملك بن هشام النحوي البصري، ورواها عن زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق، وعرفت واشتهرت بأنها"سيرة ابن هشام". وابن هشام هذا: ثقة، وثقه ابن يونس وغيره، مات سنة 218. وشيخه زياد البكائي: ثقة، من شيوخ أحمد. و"البكائي"، بفتح الباء وتشديد الكاف: نسبة إلى"البكاء"، وهو: ربيعة بن عامر بن صعصعة. فقال ابن هشام 2: 194 - 195 (2: 35 - 37 من الروض الأنف شرح السيرة) : قال ابن إسحاق: وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود، الذين كانوا يسألونه ويتعنتونه، ليلبسوا الحق بالباطل، فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله بن رئاب: أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". فهذا إسناد ضعيف، جهله ابن إسحاق، فجاء به معلقًا بصيغة التمريض. وفيه أن الرواية عن ابن عباس وجابر، معًا. ورواه البخاري في التاريخ الكبير، في ترجمة"جابر بن عبد الله بن رئاب" 1/2/ 207 - 208 بثلاثة أسانيد، بعادته الدقيقة المتقنة، في الإيجاز والإشارة إلى الأسانيد وعللها: وأولها: "حدثني عمرو بن زرارة، قال: حدثنا زياد: قال ابن إسحاق: حدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله: أن أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو (ألم. ذلك الكتاب) ". فهذه هي إشارة البخاري إلى الإسناد الأول من الثلاثة الأسانيد. و"زياد" في هذا الإسناد: هو البكائي. فهذا إسناد صحيح إلى ابن إسحاق. ولكن فيه الضعف بجهالة أحد رواته"مولى لزيد بن ثابت". وهو كإسناد السيرة: عن ابن عباس وجابر معًا. ولعل عمرو ابن زرارة -شيخ البخاري- روى السيرة عن البكائي، كما رواها عنه ابن هشام. وثانيها: "وقال سلمة: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد، عن ابن عباس: (ألم. ذلك الكتاب) - بطوله". وهذه إشارة البخاري إلى الإسناد الثاني. يريد أنه رواه سلمة -وهو ابن الفضل الذي في إسناد الطبري هنا- عن ابن إسحاق. ولم يذكر لفظ الحديث، اكتفاء بهذه الإشارة إليه. وابن إسحاق -في هذا الإسناد- يرويه عن"محمد بن أبي محمد"، وهو الأنصاري المدني، مولى زيد بن ثابت. زعم الذهبي في الميزان أنه"لا يعرف"! وهو معروف، ترجمه البخاري في الكبير 1/1/225 فلم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات. وكفى بذلك معرفة وتوثيقًا. ولعله هو"مولى زيد بن ثابت" الذي أبهم في الإسناد الأول. ولكن اضطرب هذا الإسناد على ابن إسحاق، أو على سلمة بن الفضل - فكانت الرواية فيه: عن عكرمة، أو سعيد، يعني ابن جبير، على الشك. ثم كانت عن ابن عباس، دون ذكر"جابر بن عبد الله بن رئاب". ثالثها: "وعن ابن إسحاق: كان مما نزل فيه القرآن من الأحبار، فيما حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب: مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو (ألم) ، بطوله - في الحساب". وهذه الرواية الثالثة، بالإسناد الذي عند الطبري هنا. تابعة للرواية الثانية، عن سلمة بن الفضل، عطفها عليها بقوله"وعن ابن إسحاق"، ليست تعليقًا جديدًا. وأشار البخاري -بصنيعه هذا- إلى اضطراب الرواية على سلمة بن الفضل، بين هذا وذاك. ولذلك ذهب إلى جرح"سلمة" بهذا الاضطراب، فقال عقب ذلك: "قال علي [يريد به شيخه علي بن المديني، إمام الجرح والتعديل] : ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديث سلمة". وقال في ترجمة سلمة 2/2/85: "سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري، سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن محمد الجعفي. عنده مناكير. يقال: مولاهم. مات بعد التسعين. وهنه علي"، يعني شيخه ابن المديني. ويعني أن سلمة مات بعد سنة 190. وقال في التاريخ الصغير ص 217: "مات سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري بعد تسعين ومائة. قال علي [يعني ابن المديني] : رمينا بحديثه قبل أن نخرج من الري. وضعفه إسحاق بن إبراهيم". وقال في ترجمته أيضًا، في كتاب الضعفاء (ص 16) : "سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن عمر بن أبان ومحمد بن حميد. ولكن عنده مناكير. وفيه نظر". وأنا أذهب إلى توثيق سلمة بن الفضل، فقد وثقه ابن معين، فيما رواه ابن أبي حاتم في كتابه، وله عنده ترجمة جيدة وافية 2/1/168 - 169. وروى أيضًا عن جرير، قال: "ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق - من سلمة بن الفضل". وقد رجحت توثيقه أيضًا في شرح المسند: 886. وعندي أن هذا الاضطراب إنما هو من ابن إسحاق، أو لعله رواه بهذه الأسانيد كما سمعه. وكلها ضعيف مضطرب. وأشدها ضعفًا الرواية التي هنا، والتي أشار إليها البخاري: من رواية الكلبي عن أبي صالح. ولله در الحافظ ابن كثير، فقد وضع الحق موضعه، حين قال في التفسير 1: 69 - 70: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفن والملاحم - فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطارد! وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته". ثم نقل هذا الحديث من هذا الموضع من الطبري -ثم قال: "فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك- إن كان صحيحًا: أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها. وذلك يبلغ منه جملة كثيرة. وإن حسبت مع التكرار، فأطم وأعظم!! ". ومحمد بن السائب الكلبي: ضعيف جدا، رمى بالكذب، بل روى ابن أبي حاتم في الجرح 3/1/270 - 271 في ترجمته، عن أبي عاصم النبيل، قال: "زعم لي سفيان الثوري قال: قال لنا الكلبي: ما حدثت عنى عن أبي صالح عن ابن عباس، فهو كذب، فلا تروه". وقال أبو حاتم: "الناس مجتمعون على ترك حديثه، لا يشتغل به، هو ذاهب الحديث". والطبري نفسه قد ضعفه جدا، فيما مضى: 66 إذ أشار إلى رواية عن ابن عباس: "روى جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله"، ثم ذكر أن الذي روى ذلك"الكلبي عن أبي صالح". ووصف الحديث: 72 الذي رواه من طريقه، بأنه"خبر في إسناده نظر". فكان عجبًا منه بعد هذا، أن يحتج بهذه الروايات المتهافتة، ويرضى هذا التأويل المستنكر، بحساب الجمل! إذ يختار فيما سيأتي (هذه الصفحة سطر: 8 وما بعدها) ، أن هذه الأحرف تحوي سائر المعاني التي حكاها إلا قولا واحدًا غير هذا المعنى المنكر. بل هو يصرح بعد ذلك ص: 222 سطر: 8 أن من المعاني التي ارتضاها: أنهن"من حروف حساب الجمل"!! وقد نقل السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1: 22، و 2: 4 - 5، ووصفه في الموضع الأول بالضعف. وكذلك نقله الشوكاني 1: 20، وضعفه. وقوله في آخره: "ويزعمون أن هؤلاء الآيات. . " - هو من تتمة الرواية. وهو من كلام ابن إسحاق حكاية عمن روى عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف، ذلك الكتاب، مجموعة، لا ريب فيه - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل (1) . فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع"ذلك الكتاب" - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله"لا ريب فيه" ومرة بقوله"هدى للمتقين". وذلك تركٌ منه لقوله: إن"ألم" رافعةٌ"ذلك الكتاب"، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل"ألم ذلك الكتاب"، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب. فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟ قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة، وللحين من الزمان: أمَّة، وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة، وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه:"ألم" و"ألر"، و"ألمص" وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى، شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك.   (1) الخالفين جمع خالف. خلف قوم بعد قوم يخلفون خلفًا فهم خالفون: جاءوا بعدهم وتبعوهم على آثارهم. تقول: أنا خاِلفه وخاِلفته: أي جئت بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها، وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها، فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها. فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها، ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك (1) ، دون سائر المعاني غيره، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانةَ ذلك -أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد. ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك -على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "مما لا يحتمله ذلك"، وهو محيل لمعناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك، ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل، أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ"بل" في قول المنشد شعرًا: بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا وأنه لا معنى له، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى (1) أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ "بل" - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ "ألم" و"ألر" و"ألمص"، بمعنى ابتدائها ذلك بـ "بل". وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن، فقال تعالى ذكره: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين (2) ، في قول قائل هذه المقالة، ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة، وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به   (1) انظر ما مضى: 210. (2) في المطبوعة: "ما لا يعقله ولا يفقهه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه. والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره. والوجهُ الثالث من خطئه: أن"بل" في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها، وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بني ثعلبة: وَلأشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وثَمَانِيًا ... وثَلاثَ عَشْرَةَ واثْنَتَينِ وأَرْبَعَا (1) ومضى في كلمته حتى بلغ قوله: بالجُلَّسَانِ، وطَيِّبٌ أرْدَانُهُ ... بِالوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الإصْبَعَا (2) ثم قال: بَلْ عَدِّ هذا، فِي قَريضٍ غَيْرِهِ ... وَاذكُرْ فَتًى سَمْحَ الخَلِيقةِ أَرْوَعَا فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ "بل" إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف (3) ، من غير أن يدلّ على معنى، فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرتُ قوله، فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها -لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟ * * *   (1) ديوان الأعشى، زيادات: 248، باختلاف في الرواية. وانظر مراجعه هناك. (2) الجلسان: قبة أو بيت ينثر فيه الورد والريحان للشرب. وقوله: "وطيب أردانه" يعني قينة تغنيهم وتعزف لهم، طيبة الريح، تضمخت وتزينت. والأردان جمع ردن (بضم فسكون) : وهو مقدم كم القميص. والون: صنج يضرب بالأصابع. وقوله"يكر" أي يرد إصبعه مرة بعد مرة في ضربه بالصنج، وأراد به سرعة حركة أصابعها بالصنج. وفي المطبوعة"يكد" بالدال، وهو خطأ. (3) انظر ما مضى: 18 تعليق: 2، وعنى بالتطول: الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى (ذلك الكتاب) : هذا الكتاب. * ذكر من قال ذلك: 247- حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"ذلك الكتاب" قال: هو هذا الكتاب. 248- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب. 249- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا الحَكَم بن ظُهَير، عن السُّدِّي، في قوله"ذلك الكتاب" قال: هذا الكتاب (1) . 250- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب (2) . فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون"ذلك" بمعنى"هذا"؟ و"هذا" لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن، و"ذلك" إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟   (1) الأثر 249- الحكم بن ظهير -بضم الظاء المعجمة- الفزاري، أبو محمد بن أبي ليلى الكوفي: ضعيف جدًا، رمى بوضع الحديث. قال البخاري في الكبير 1/2/ 342 - 343: "تركوه منكر الحديث". وقال ابن أبي حاتم في الجرح 1/2/ 118 - 119 عن أبي زرعة: "واهي الحديث". وقال ابن حبان في كتاب المجروحين، رقم 239: "كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يروى عن الثقات الأشياء الموضوعات". (2) هذه الآثار جميعًا 247 - 250 ذكرها ابن كثير في تفسيره 1: 70، والدر المنثور 1: 24، والشوكاني 1: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار (1) ، فهو -وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع:"إن ذلك والله لكما قلت"، و"هذا والله كما قلت"، و"هو والله كما ذكرت"، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك"ذلك" في قوله (ذلك الكتاب) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ"ذلك الكتاب""ألم"، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع"ذلك" في مكان"هذا"، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله"ألم" من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ "ألم"، فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه، فأخبر به بـ "ذلك" لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون (2) : أنه بمعنى"هذا"، لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ "هذا"، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم، وكما قال جل ذكره: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ) [سورة ص: 48، 49] فهذا ما في"ذلك" إذا عنى بها"هذا". وقد يحتمل قوله جل ذكره (ذلك الكتاب) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون (3) بأن معنى"ذلك""هذا الكتاب"،   (1) في المطبوعة"وقرب تقضيه". يريد: أن ذكر ما انقضى، وانقضاؤه قريب من إخبارك عنه. (2) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى 70 تعليق 1/93: 4/ ومواضع أخر. (3) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى 70 تعليق 1/93: 4/ ومواضع أخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إذْ كانت تلك السُّور التي نزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في"ذلك". وقد وَجَّه معنى"ذلك" بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ: فَإن تَكُ خَيْلي قد أُصِيبَ صَمِيمُها ... فَعَمْدًا على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا (1) أقولُ له، والرُّمحُ يأطِرُ مَتْنَهُ: ... تأمَّل خُفاَفًا، إنني أنا ذلِكَا (2) كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا"، نظيرُه (3) . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر"ذلك" بمعنى الخبر عن الغائب (4) ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد. والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل. وقد قال بعضهم: (ذلك الكتاب) ، يعني به التوراة والإنجيل، وإذا وُجّه   (1) الأغاني 2: 329/ 13: 134، 135/16: 134، والخزانة 2: 470، وغيرهما، ويأتي في الطبري 1: 314، 437. يقول الشعر في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو أخى الخنساء. ومالك، هو مالك بن حِمَار الشمخي الفزاري. والخيل هنا: هم فرسان الغارة، وكان معاوية وخفاف غزوَا بني مرة وفزارة. والصميم: الخالص المحض من كل شيء. وأراد معاوية ومقتله يومئذ. ويقال: "فعلت هذا الأمر عمد عين، وعمدًا على عين"، إذا تعمدته مواجهة بجد ويقين. وتيمم: قصد وأمَّ. (2) "أقول له"، يعني لمالك بن حِمَار. وأطر الشيء يأطره أطرًا: هو أن تقبض على أحد طرفي الشيء ثم تعوجه وتعطفه وتثنيه. وأراد أن حر الطعنة جعله يتثنى من ألمها، ثم ينحني ليهوى صريعًا إذ أصاب الرمح مقتله. وأرى أن الإشارة في هذا البيت إلى معنى غائب، كأنه قال: "أنا ذلك الذي سمعت به وببأسه". وهذا المعنى يخرج البيت عن أن يكون شاهدًا على ما أراد الطبري. (3) في المطبوعة: "كأنه أراد: تأملني أنا ذلك، فرأى أن"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا" نظير ما أظهر خفاف من اسمه. . . "، وهو تغيير لا خبر فيه. (4) في المطبوعة: "فلذلك أظهر ذلك. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 تأويل"ذلك" إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن"ذلك" يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة. * * * القول في تأويل قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} . وتأويل قوله:"لا ريب فيه""لا شك فيه". كما:- 251- حدثني هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج، عن مجاهد: لا ريب فيه، قال: لا شك فيه. 252- حدثني سَلام بن سالم الخزاعي، قال: حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عطاء،"لا ريب فيه": قال: لا شك فيه (1) . 253- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا الحَكم بن ظُهَير، عن السُّدِّيّ، قال:"لا ريب فيه"، لا شك فيه. 254- حدثني موسى بن هارون الهَمْداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ريب فيه"، لا شك فيه. 255- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير،   (1) الأثر 252 - سلام، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة إلا في تاريخ بغداد 9: 198 قال: "سلام بن سالم أبو مالك الخزاعي الضرير: حدث عن يزيد بن هارون، وعمر بن سعيد التنوخي، وموسى بن إبراهيم المروزي، والفضل بن جبير الوراق. روى عنه الحسين بن إسماعيل المحاملي". ليس غير. وأما شيخ سلام في هذا الإسناد"خلف بن ياسين الكوفي": فلم أجد إلا ترجمة في الميزان 1: 211 ولسان الميزان 2: 405 لراو اسمه"خلف بن ياسين بن معاذ الزيات"، وهو رجل سخيف كذاب، لا يشتغل به. لا أدري أهو هذا أم غيره؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 عن ابن عباس:"لا ريبَ فيه"، قال: لا شكّ فيه. 256- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه. 257- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه. 258- حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه (1) . وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ: فقالوا: تَرَكْنَا الحَيَّ قد حَصِرُوا به، ... فلا رَيْبَ أنْ قد كان ثَمَّ لَحِيمُ (2) ويروى:"حَصَرُوا" و"حَصِرُوا" والفتحُ أكثر، والكسر جائز. يعني بقوله"حصروا به": أطافوا به. ويعني بقوله"لا ريب". لا شك فيه. وبقوله"أن قد كان ثَمَّ لَحِيم"، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل. والهاء التي في"فيه" عائدة على الكتاب، كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {هُدًى} 259- حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا   (1) هذه الآثار جميعًا 251 - 258 ساقها ابن كثير 1: 71، وبعضها في الدر المنثور 1: 24، والشوكاني 1: 22. وقال ابن كثير بعد سياقتها: "قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا". (2) ديوان الهذليين 1: 232، واللسان (حصر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 سفيان، عن بَيَان، عن الشعبي،"هُدًى" قال: هُدًى من الضلالة (1) . 260- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدّي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"هدى للمتقين"، يقول: نور للمتقين (2) . والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق -إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه، وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية. فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى، بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، وَوَقْرٌ في آذان المكذبين، وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ، والكافر به محجوجٌ (3) . وقوله"هدى" يحتمل أوجهًا من المعاني: أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة (4) . فيكون التأويل حينئذ: ألم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و"ذلك" مرفوع بـ "ألم"، و"ألم" به، والكتابُ نعت لـ "ذلك". وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في   (1) الأثر 59 - بيان، بفتح الباء الموحدة والياء التحتية المخففة: هو ابن بشر الأحمسي، ثقة من الثقات، كما قال أحمد. وسفيان، الراوي عنه: هو الثوري. وهذا الأثر نقله السيوطي 1: 24، ونسبه لوكيع والطبري. (2) الخبر 260 - نقله ابن كثير 1: 71، ونقله السيوطي 1: 24، والشوكاني 1: 22 مع الخبر الآتي 263، جعلاه خبرًا واحدًا، وذكراه عن ابن مسعود فقط. (3) حجه يحجه فهو محجوج: غلبه بالحجة فهو مغلوب. (4) يريد بقوله"لمعنى القطع"، أن يقطع عن نعت الكتاب، ويصير حالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 "فيه"، فيكونُ معنى ذلك حينئذ: ألم الذي لا ريب فيه هاديًا. وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء التي في"فيه"، ومن"الكتاب"، على أن"ألم" كلام تام، كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون"ذلك الكتاب" خبرًا مستأنفًا، فيرفع حينئذ"الكتاب" بـ "ذلك"، و"ذلك" بـ "الكتاب"، ويكون"هُدًى" قطعًا من"الكتاب"، وعلى أن يرفع"ذلك" بالهاء العائدة عليه التي في"فيه"، و"الكتاب" نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في" فيه". وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون"ذلك الكتاب" إلا خبرًا مستأنفًا، و"ألم" كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ"هُدًى" بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: (ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ) [سورة لقمان: 1-3] في قراءة من قرأ"رحمةٌ". بالرفع، على المدح للآيات. والرفع في"هدى" حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ" ذلك"، و"الكتاب" نعتٌ"لذلك". والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، ويكون"ذلك الكتاب" مرفوعًا بالعائد في"فيه". فيكون كما قال تعالى ذكره: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) [سورة الأنعام: 92] . وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ"ألم" مرافعُ"ذلك الكتاب" بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك (1) . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه، وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه، فزعم أن الرفع في"هُدًى" من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون"الكتابُ" نعتًا لِـ "ذلك" و"الهدى" في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ "ذلك".   (1) يعني بصاحب هذا القول، الفراء في كتابه معاني القرآن 1: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه (1) . قال: وإن جعلتَ"لا ريب فيه" خبرَه، رفعتَ أيضًا"هدى"، بجعله تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) ، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ "ذلك"، وتنصبَ"هدى" على القطع، لأن"هدى" نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها (2) لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت"هدى" على القطع من الهاء التي في"فيه" كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا (3) . قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصَّله في"ألم" وأنها مرفوعة بـ "ذلك الكتاب"، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في"هدى" بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ، وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر"لذلك"، أو على وجه الإتباع لموضع"لا ريب فيه"، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن"ألم" إذا رافعت"ذلك الكتاب"، فلا شك أن"هدى" غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا"لذلك"، بمعنى المرافع له، أو تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه -بمخالفته إيّاه- عنه. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {لِلْمُتَّقِينَ (2) } 261- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قوله:"للمتقين" قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.   (1) في المطبوعة والمخطوطة"ذلك لا شك فيه"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء 1: 11. (2) في المطبوعة"فتنصبها"، والتصحيح من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 11 - 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 262- حدثنا محمد بن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"للمتقين"، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى، ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به. 263- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هدًى للمتقين"، قال: هم المؤمنون. 264- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: سألني الأعمش عن"المتقين"، قال: فأجبتُه، فقال لي: سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه، فقال: الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال: فرجَعْت إلى الأعمش، فقال: نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره. 265- حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة:"هدى للمتقين"، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم، فقال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) . 266- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، عن أبي رَوق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"للمتقين" قال: المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي، ويعملون بطاعتي (1) . وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه (هدى للمتقين) ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا   (1) الآثار 261 - 266 ساقها جميعًا ابن كثير في تفسيره 1: 71 - 72، وبعضها في الدر المنثور 1: 24، والشوكاني 1: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض (1) . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم -لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى. فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون -عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون -وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل"للمتقين". * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} 267- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"الذين يؤمنون"، قال: يصدِّقون. 268- حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي، قال: حدثنا أبو صالح،   (1) في المطبوعة: "وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم"، ولا فائدة من زيادة"إنما". ثم جاء في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض"؛ وهو كلام مختلط، وصوابه ما أثبته، وهو معنى الكلام كما ترى بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يؤمنون": يصدِّقون (1) . 269- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يؤمنون": يخشَوْنَ. 270- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، قال: قال الزهري: الإيمانُ العملُ (2) . 271- حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان: التَّصْديق (3) . ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به، ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف: 17] ، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه، وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ. * * *   (1) الأثر 267- سيأتي باقيه بهذا الإسناد: 272. ونقلهما ابن كثير 1: 73 مفرقين. ونقل 268 مع أولهما. ونقل السيوطي 1: 25 الثلاثة مجتمعة. (2) الأثران 269 - 270: ذكرهما ابن كثير 1: 73 (3) الخبر 271- عبد الله: هو ابن مسعود. وقد نقل ابن كثير هذا الخبر وحده 1: 73، ثم نقل الخبر الآتي 273 وحده. وفصل إسناد كل واحد منهما. أما السيوطي 1: 25 فقد جمع اللفظين دون بيان، وأدخل معهما لفظ الخبر 277! وهو تصرف غير سديد، لاختلاف الإسنادين أولا، ولأن 273، 277 ليسا عن ابن مسعود وحده، كما ترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {بِالْغَيْبِ} 272- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"بالغيب"، قال: بما جاء منه، يعني: من الله جل ثناؤه. 273- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"بالغيب": أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك -يعني المؤمنين من العرب- من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم. 274- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرٍّ، قال: الغيبُ القرآن (1) . 275- حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله"الذين يُؤمنون بالغيب"، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة، وكلُّ هذا غيبٌ (2) . 276- حُدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر،   (1) الأثر 274- سفيان: هو الثوري، عاصم: هو ابن أبي النجود -بفتح النون- القارئ. زر، بكسر الزاي وتشديد الراء: هو ابن حبيش، بضم الحاء. وهو تابعي كبير إمام. وهذا الأثر عند ابن كثير 1: 73 - 74. (2) الأثر 275- ذكره ابن كثير والسيوطي أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 عن أبيه، عن الربيع بن أنس،"الذين يؤمنون بالغيب": آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ (1) . وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا. وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم، وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه. فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب. واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) . قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله -بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر، وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله (2) .   (1) الأثر 276- ذكره ابن كثير 1: 73 هكذا: "قال أبو جعفر الرازي عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية. . . ". وذكره السيوطي 1: 25 هكذا: "وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية. . ". فأخشى أن يكون ذكر"عن أبي العالية" سقط من الإسناد من نسخ الطبري، لثبوته عند هذين الناقلين عنه. (2) في المخطوطة: "والآخر منهما على من قبله رسول الله"، والظاهر أن صوابها: "على من قبل رسول الله"، كما أثبتناها. وأما المطبوعة ففيها: "على من قبله من رسل الله تعالى ذكره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث، والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها، مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم. * ذكر من قال ذلك: 277- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، فهم المؤمنون من العرب، (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (1) . وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله، أنه من عند الله جل وعز، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.   (1) الخبر 277- سبق أوله بهذا الإسناد: 273. ولم يذكره ابن كثير بهذا اللفظ المطول. وقد مضى في شرح 271 أن السيوطي جمع الألفاظ الثلاثة: 271، 273، 277 في سياقة واحدة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم (1) . وإنما هذه صفة صنف من الناس، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، هو المؤمن بالغيب. قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب. قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ) غير موجود في قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم، فيكونوا به -إن وفقهم له ربهم-[مؤمنين] (2) . * ذكر من قال ذلك: 278- حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين،   (1) في المطبوعة والمخطوطة"وأهل الكتابين سواهم"، والصواب أن يقال"وسواهم". فقد ذكر الطبري ثلاثة أقوال: أما الأول: فهو أن المعنى به العرب خاصة، والثاني: أن المعنى به أهل الكتاب خاصة، فيكون الثالث: أن يعني به الصنفين جميعا وسواهم من الناس. (2) هذه الزيادة بين القوسين واجبة لتمام المعنى. وليست في المطبوعة ولا المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين (1) . 279- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، بمثله (2) . 280- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله (3) . 281- حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة -يعني سورة البقرة- في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب. وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب، القولُ الأول، وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب، وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن (4) ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزِل على محمد والذي أنزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك. ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف، وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار -   (1) الأثر 278- أبو عاصم: هو النبيل، الحافظ الكبير. عيسى بن ميمون المكي: هو المعروف بابن داية، قال ابن عيينة: "كان قارئًا للقرآن. قرأ على ابن كثير". وثقه أبو حاتم وغيره. (2) الأثر 279- هذا إسناد ضعيف، بضعف سفيان بن وكيع، ولإبهام الرجل الذي روى عنه سفيان الثوري. ولكن الأثر موصول بالإسنادين اللذين قبله وبعده. (3) الأثر 280- موسى بن مسعود: هو أبو حذيفة النهدي، وهو ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، ووثقه ابن سعد والعجلي. وترجمه البخاري في الكبير 4/1/ 295. شبل: هو ابن عباد المكي القارئ، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وهذا الأثر، بأسانيده الثلاثة، ذكره ابن كثير 1: 80 دون تفصيلها، قال: "والظاهر قول مجاهد - فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، أنه قال. . . ". (4) الأولة: الأولى، وليست خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 جنْسَيْن (1) فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه (2) والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر، ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب، وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَيُقِيمُونَ} وإقامتها: أداؤها -بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم، إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها، وكما قال الشاعر: أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الـ ... ـضِّرَاب فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا (3) 282- وكما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة"، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها. 283- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة" قال: إقامة   (1) سياقه: "جنَّس. . . جنسين"، وما بينهما فصل، وجنس الشيء: جعله أجناسًا، كصنفه أصنافًا. (2) في المطبوعة: "إيمانه"، وهي صحيحة المعنى أيضًا. والإياب: الرجوع إلى الله بالتوبة والطاعة. ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (3) في المطبوعة"فحاسوا"، وفي المخطوطة"مجآمرا". وخام في الحرب عن قرنه بخيم خيمًا: جبن ونكص وانكسر. ولم أعرف قائل البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الصَّلاةَ} 284- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يقيمون الصلاة": يعني الصلاة المفروضة (2) . وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى: لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا (3) يعني بذلك: دعا لها، وكقول الأعشى أيضًا (4) . وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا ... وصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ   (1) الخبران 282، 283- في تفسير ابن كثير 1: 77، والدر المنثور 1: 27، والشوكاني 1: 25. (2) الأثر 284- إسناده ضعيف جدًّا. يحيى بن أبي طالب جعفر بن الزبرقان: قال الذهبي: "محدث مشهور. . . وثقه الدارقطني وغيره. . . والدارقطني من أخبر الناس به". مات سنة 275 عن 95 سنة. يزيد: هو ابن هارون، أحد الحفاظ الأعلام المشاهير، من شيوخ الأئمة أحمد وابن معين وابن راهويه وابن المديني. جويبر - بالتصغير: هو ابن سعيد الأزدي البلخي، ضعيف جدًّا، ضعفه يحيى القطان، فيما روى عنه البخاري في الكبير 1/2/ 256، والصغير: 176، وقال النسائي في الضعفاء: 8"متروك الحديث"، وفي التهذيب 2: 124"قال أبو قدامة السرخسي: قال يحيى القطان: تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث. ثم ذكر الضحاك وجويبرًا ومحمد بن السائب. وقال: هؤلاء لا يحتمل حديثهم، ويكتب التفسير عنهم". (3) ديوانه: 200، يذكر الخمر في دنها. وزمزم العلج من الفرس: إذا تكلف الكلام عند الأكل وهو مطبق فمه بصوت خفي لا يكاد يفهم. وفعلهم ذلك هو الزمزمة. "ذبحت" أي بزلت وأزيل ختمها. وعندئذ يدعو مخافة أن تكون فاسدة، فيخسر. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "وكقول الآخر أيضًا"، والصواب أنه الأعشى، وسبق قلم الناسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 (1) وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت"صلاة"، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) } اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:- 285- حدثنا به ابن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها. 286- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: زكاةَ أموالهم (2) . 287- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك،"ومما رزقناهم يُنفقون"، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم، حتى نَزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة، مما يذكر فيهنّ الصدقات، هنّ المُثْبَتات الناسخات (3) . وقال بعضهم بما:- 288- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذَكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب   (1) ديوان الأعشى: 29. وقوله"وقابلها الريح" أي جعلها قبالة مهب الريح، وذلك عند بزلها وإزالة ختمها. ويروى: "فأقبلها الريح" وهو مثله. وارتسم الرجل: كبر ودعا وتعوذ، مخافة أن يجدها قد فسدت، فتبور تجارته. (2) الخبر 286- في المخطوطة"ابن المثنى"، وهو خطأ. والخبر ذكره ابن كثير 1: 77. (3) الأثر 287- ذكره ابن كثير 1: 77، والسيوطي 1: 27، والشوكاني 1: 25. وقوله"المثبتات": بفتح الباء، أي التي أثبت حكمها ولم ينسخ، ويجوز كسرها، بمعنى أنها أثبتت الفريضة بعد نسخها ما سبقها في النزول. وبدلها عند السيوطي والشوكاني"الناسخات المبينات". وليس بشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 النبي صلى الله عليه وسلم،"ومما رَزقناهم ينفقون": هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنزِل الزكاة (1) . وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم، مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ} قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت، وأي أجناس الناس هم (2) . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ: 289- فحدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"والذين يؤمنون بما أنزِل إليك وما أنزل من قبلك": أي يصدِّقونك   (1) الخبر 288- نقله ابن كثير أيضًا. ونقله السيوطي مختصرًا، وجعله من كلام ابن مسعود وحده. وقلده الشوكاني دون بحث. (2) انظر 237 - 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم (1) . 290- حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،"والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون": هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (2) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) } قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار، كما قال جل ثناؤه (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت: 64] . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل:"أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة"، وإنما صارت آخرة للأولى، لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها، فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق، كما سميت الدنيا"دنيا" لِدُنُوِّها من الخلق.   (1) الخبر 289- ذكره ابن كثير 1: 79 مع باقيه الآتي: 291. وذكره السيوطي 1: 27، والشوكاني 1: 25 بزيادة أخرى على الروايتين، منسوبًا لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم. (2) الخبر 290- وهذا ذكره ابن كثير أيضًا، لكن بالإشارة إليه دون سياقة لفظه. وقلده الشوكاني. وعلى الأصل المخطوط بعد هذا ما نصه سمع أحمد ومحمد والحسن، بنو عبد الله بن أحمد الفرغاني جميعه. سمع محمد بن محمد الطرسوسي والحسن بنو محمد بن عبدان، والحسن بن إبراهيم الحناس جميعه. والحمد لله كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما:- 291- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك (1) . وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون، ولما جاء به من التنزيل جاحدون، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) . وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة، دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل   (1) الخبر 291- هو تتمة الخبر السابق 289 وقد أشرنا إليه هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله:"أولئك على هدى من ربهم": فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون. * ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: 292- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما "الذين يؤمنون بالغيب"، فهم المؤمنون من العرب،"والذين يؤمنون بما أنزل إليك"، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال:"أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" (1) . وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون   (1) الخبر 292- نقله ابن كثير 1: 81، والشوكاني 1: 26. ونقله السيوطي 1: 25 مطولا، جمع معه الأخبار الماضية: 273، 277، 281، جعلها سياقا واحدا، عن ابن مسعود وحده، ونسبه للطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 بما أنزل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب. وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في محل خفض، ومحل رفع. فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في"يؤمنون بالغيب" من ذكر"الذين"، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ، أو يكون"أولئك على هدى من ربهم"، مرافعها. وأما الخفض فعلى العطف على"المتقين"، وإذا كانت معطوفة على"الذين" اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و"الذين" الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد"ألم"، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون"الذين" الثانية معطوفة في الإعراب على"المتقين" بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله"ألم"، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين. وقد يحتمل أن تكون"الذين" الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف (1) ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين. فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه، والخفض من وجهين. وأولى التأويلات عندي بقوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس، وأن تكون"أولئك" إشارة إلى الفريقين، أعني:   (1) في المطبوعة: "الاستئناف" في هذا الموضع والذي يليه. وهما بمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 المتقين، والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وتكون"أولئك" مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله"على هدى من ربهم"؛ وأن تكون"الذين" الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه. وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء. وأما معنى قوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم. كما:- 293- حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"أولئك على هدى من ربهم": أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } وتأويل قوله:"وأولئك هم المفلحون" أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:- 294- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا. ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة: اعْقِلِي، إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي، ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ (2) يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا، ومنه قول الراجز: عَدِمتُ أُمًّا ولَدتْ رِياحَا ... جَاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحًا فِرْكَاحَا (3) تَحْسِبُ أَنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجَاحَا! ... أَشْهَدُ لا يَزِيدُهَا فَلاحَا يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك: أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا: البقاءُ، ومنه قول لبيد: نَحُلُّ بِلادًا، كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ... وَنَرْجُو الْفَلاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ (4) يريد البقاء، ومنه أيضًا قول عَبيد: أَفْلِحَ بِمَا شِئْتَ، فَقَدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ... ـعْفِ، وَقَدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ (5) يريد: عش وابقَ بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان: وَكُلُّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ ... وَإِنْ أَثْرَى، وَإِنْ لاقَى فَلاحًا (6) أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً. * * *   (1) الخبر 293- ذكره ابن كثير 1: 81 مع تتمته الآتية: 294. (2) ديوانه 2: 12، والخطاب في البيت لصاحبته. (3) البيت الثاني في اللسان (فركح) . والفركحة: تباعد ما بين الأليتين. والفركاح والمفركح منه، يعني به الذم وأنه لا يطيق حمل ما يحمَّل في حرب أو مأثرة تبقى. (4) ديوانه القصيدة رقم: 14، يرثى من هلك من قومه. (5) ديوانه: 7، وفي المطبوعة والديوان"فقد يبلغ"، وهما روايتان مشهورتان. (6) من قصيدة ليست في زيادات ديوانه منها إلا أبيات ثلاثة، ليس هذا أحدها. وشعوب: اسم للمنية والموت، غير مصروف، لأنها تشعب الناس، أي تصدعهم وتفرقهم. وشعبته شعوب: أي حطمته من ألافه فذهبت به وهلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) } اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية، وفيمن نزلَتْ. فكان ابن عباس يقول، كما:- 295- حدثنا به محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن الذين كفروا"، أي بما أنزِل إليك من ربِّك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك (1) . وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبِهم به، مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة. 296- وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم (2) .   (1) الخبر 295- ذكره ابن كثير 1: 82 مع باقيه الآتي: 299. وساقه السيوطي 1: 29 بأطول من ذلك، زاد فيه ما يأتي: 307، 311، ونسبه أيضًا لابن إسحاق وابن أبي حاتم، وكذلك نسبه الشوكاني 1: 28 دون الزيادة الأخيرة. (2) الخبر 296- ذكره ابن كثير 1: 86 بنحوه، من رواية ابن إسحاق. ونقله السيوطي 1: 29 بلفظ الطبري، عنه وعن ابن إسحاق. ونقله الشوكاني موجزًا 1: 29. ومن الواضح أن قوله"كرهنا تطويل الكتاب. . " من كلام الطبري نفسه. وانظر ما يأتي: 312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:- 297- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول (1) . وقال آخرون بما:- 298- حُدِّثت به عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [سورة إبراهيم: 28، 29] ، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر (2) . وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.   (1) الخبر 297- هو في ابن كثير 1: 82، والسيوطي 1: 28 - 29، والشوكاني 1: 28، ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي. (2) الأثر 298- هكذا هو في الطبري، من قول الربيع بن أنس. وذكره ابن كثير 1: 82 - 83 مختصرًا من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية، ولم يذكر من خرجه. ونقله السيوطي 1: 29، والشوكاني 1: 28، بأطول مما هنا بذكر الأثر: 309 معه، من قول أبي العالية أيضًا، ونسباه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. فالظاهر أن الطبري قصر بإسناده أو قصر به شيخه المبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم، ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة (1) - لم يَجُز أن تكون الآية نزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية. وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك، فهي أنّ قول الله جل ثناؤه (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم (2) ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم -وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل. وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم (3) - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد   (1) سياق عبارته"فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم. . . لم يجز. . . " (2) الأسباب جمع سبب: وأراد بها الطرق والوسائل. (3) عظم اليهود: معظمهم وأكثرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ، وأنّ ما جاء به فمن عند الله (1) . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ، ولا يحسُب، فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب (2) فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة (3) - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم، ومَصُون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ، وإنّ صدقَه لبَيِّن. ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة: 40 وما بعدها] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ، إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه، فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.   (1) في المطبوعة: "من عند الله". (2) يعني بالحساب هنا: حساب سير الكواكب وبروجها، وبها يعرف المنجم أخبار ما يدّعى من علم الغيب. (3) في المطبوعة: "وانبعث على أحبار"، كأنه معطوف على كلام سابق. وليس صحيحًا، بل هو استئناف كلام جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وأما معنى الكفر في قوله"إن الذين كفروا" فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره، وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء، ولذلك سمَّوا الليل"كافرًا"، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه، كما قال الشاعر: فَتَذَكَّرَا ثَقَلا رًثِيدًا، بَعْدَ مَا ... أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ (1) وقال لبيدُ بن ربيعة: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا (2) يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) [سورة البقرة: 159] ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) . * * *   (1) الشعر لثعلبة بن صعير المازني، شرح المفضليات: 257. والضمير في قوله"فتذكرا" للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون، والعرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثقل. ورثد المتاع وغيره فهو مرثود ورثيد: وضع بعضه فوق بعض ونضده. وعنى بيض النعام، والنعام تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس. (2) معلقته المشهورة، ويأتي في تفسير آية سورة المائدة: 12 (6: 98 بولاق) . ويروى "ظلامها". وصدره: " يَعْلُو طَريقةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرَا" يعني البقرة الوحشية، قد ولجت كناسها في أصل شجرة، والرمل يتساقط على ظهرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) } وتأويل"سواءٌ": معتدل. مأخوذ من التَّساوي، كقولك:"مُتَساوٍ هذان الأمران عندي"، و"هما عِندي سَواءٌ"، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) [سورة الأنفال: 58] ، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله"سَواءٌ عليهم": معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون (1) ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات: تُغِذُّ بيَ الشّهبَاءُ نَحْوَ ابن جَعْفٍر ... سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا ونَهَارُهَا (2) يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ، لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر (3) وَلَيْلٍ يَقُولُ المَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِه ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته. وأما قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع"أيّ" كما تقول:"لا نُبالي أقمتَ أم   (1) في المطبوعة"كانوا لا يؤمنون". (2) ديوانه: 163، والكامل للمبرد 1: 398، 399. يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. أغذ السير وأغذ فيه: أسرع. ورواية ديوانه، والكامل"تقدت". وتقدى به بعيره: أسرع على سنن الطريق. والشهباء: فرسه، للونها الأشهب، وهو أن يشق سوادها أو كمتتها شعرات بيض حتى تكاد تغلب السواد أو الكمتة. (3) الشعر لمضرس بن ربعي الفقعسي. حماسة ابن الشجري: 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 قعدت"، وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع"أي". وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله:"سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ:"أفعلتَ أم لم تفعل". وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع"سواء"، وليس باستفهام، لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال:"أزيد عندك أم عمرو؟ " مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله:"سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم" بمعنى التسوية، أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك. فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما:- 299- حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ (1) . * * *   (1) الخبر 299- سبق تخريجه مع الخبر 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} قال أبو جعفر: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ، إذا طبَعْتَه. فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ، وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف (1) ؟ قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور (2) . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات، ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف. فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم: 300- فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرَّمْلي، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا (3) - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال   (1) الغلف جمع غلاف: وهو الصوان الذي يشتمل على ما أوعيت فيه. (2) في المخطوطة: "من المعارف بالعلوم". (3) قال بإصبعه: أشار بإصبعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ (1) . 301- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: القلبُ مثلُ الكفّ، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان (2) . 302- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ، والطبعُ: الختم. قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع (3) . 303- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع، والطَّبع أيسر من الأقْفَال، والأقفال أشدُّ ذلك كله (4) .   (1) الأثر 300- عيسى بن عثمان بن عيسى بن عبد الرحمن، التميمي النهشلي: قال النسائي: "صالح". وهو من شيوخ الترمذي وابن مندة وغيرهما، مات سنة 251، وروى عنه البخاري أيضًا في التاريخ الصغير: 224 في ترجمة عمه. وعمه"يحيى بن عيسى". وثقه أحمد والعجلي وغيرهما، وترجمه البخاري في الصغير، قال: "حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى، قال: مات يحيى بن عيسى أبو زكريا التميمي سنة 201 أو نحوها. كوفي الأصل، وإنما قيل: الرملي، لأنه حدث بالرملة ومات فيها"، وترجمه في الكبير أيضًا 4/2: 296"يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي، سمع الأعمش، وهو التميمي أبو زكريا الكوفي، سكن الرملة. . . ". ولم يذكر فيه جرحًا. وهذا الأثر، سيأتي بهذا الإسناد في تفسير آية سورة المطففين: 14 (30: 63 بولاق) . وذكره ابن كثير 1: 82، والسيوطي 6: 326. (2) الأثر 301- سيأتي أيضًا (30: 63 بولاق) . وأشار إليه ابن كثير 1: 83 دون أن يذكر لفظه. وكذلك السيوطي 6: 325. (3) الأثر 302- هذا من رواية ابن جريج عن مجاهد، والظاهر أنه منقطع، لأن ابن جريج يروي عن مجاهد بالواسطة، كما سيأتي في الأثر بعده. وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 83، ولكنه محرف فيه من الناسخ أو الطابع. (4) الأثر 303- عبد الله بن كثير: هو الداري المكي، أحد القراء السبعة المشهورين، وهو ثقة. وقد قرأ القرآن على مجاهد. وقد خلط ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2: 144 بينه وبين"عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي". ويظهر من كلام الحافظ في التهذيب 5: 368 أن هذا الوهم كان من البخاري نفسه، فلعل ابن أبي حاتم تبعه في وهمه دون تحقيق. وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 83، وكذلك السيوطي 6: 326، وزاد نسبته إلى البيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وقال بعضهم: إنما معنى قوله"ختم الله على قُلوبهم" إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق، كما يقال:"إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام"، إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا. قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:- 304- حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا ابن عَجْلان، عن القَعْقَاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب وَنزع واستغفر، صَقَلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك"الرَّانُ" الذي قال الله جل ثناؤه: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (1) [سورة المطففين: 14] .   (1) الحديث 304- سيأتي في الطبري بهذا الإسناد 30: 62 بولاق. ورواه هناك بإسناد آخر قبله، وبإسنادين آخرين بعده: كلها من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع. محمد بن بشار: هو الحافظ البصري، عرف بلقب"بندار" بضم الباء وسكون النون. روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم من الأئمة. ووقع في المطبوعة هنا"محمد بن يسار"، وهو خطأ. ابن عجلان، بفتح العين وسكون الجيم: هو محمد بن عجلان المدني، أحد العلماء العاملين الثقات. القعقاع بن حكيم الكناني المدني: تابعي ثقة. أبو صالح: هو السمان، واسمه"ذكوان". تابعي ثقة، قال أحمد: "ثقة ثقة، من أجل الناس وأوثقهم". والحديث رواه أحمد في المسند 7939 (2: 297 حلبي) عن صفوان بن عيسى، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم 2: 517 من طريق بكار بن قتيبة القاضي عن صفوان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه الترمذي 4: 210، وابن ماجه 2: 291، من طريق محمد بن عجلان. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وذكره ابن كثير 1: 84 من رواية الطبري هذه، ثم قال: هذا الحديث من هذا الوجه، قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد ابن مسلم - ثلاثتهم عن محمد بن عجلان، به. وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ثم ذكره مرة أخرى 9: 143 من رواية هؤلاء ومن رواية أحمد في المسند. وذكره السيوطي 6: 325، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. وفي متن الحديث هنا، في المطبوعة"كان نكتة. . . صقل قلبه. . . حتى يغلف قلبه". وهو في رواية الطبري الآتية، كما في المخطوطة، إلا قوله"حتى تغلق قلبه"، فهي هناك"حتى تعلو قلبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع (1) ، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) ، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها. ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم، أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟ فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم -وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به -وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه، وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟ فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه، فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم، وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه (2) .   (1) في المطبوعة: "أغلفتها" في الموضعين، والتصحيح من المخطوطة وابن كثير. (2) في المطبوعة: "وذلك دخول فيما أنكروه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم، ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} قال أبو جعفر: وقوله (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن"غِشاوةٌ" مرفوعة بقوله"وعلى أبصارهم"، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ، وأن قوله"ختم الله على قلوبهم"، قد تناهى عند قوله"وعلى سمْعهم". وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين: أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها، وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها. والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) ، ثم قال: (وَجَعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: 23] ، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت، وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية. وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ، رُوي الخبر عن ابن عباس: 305- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، والغشاوة على أبصارهم (1) .   (1) الخبر 305- هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري، وقد مضى أول مرة 118، ولم أكن قد اهتديت إلى شرحه. وهو إسناد مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة، إن صح هذا التعبير! وهو معروف عند العلماء بـ "تفسير العوفي"، لأن التابعي -في أعلاه- الذي يرويه عن ابن عباس، هو"عطية العوفي"، كما سنذكر. قال السيوطي في الإتقان 2: 224: "وطريق العوفي عن ابن عباس، أخرج منها ابن جرير، وابن أبي حاتم، كثيرًا. والعوفي ضعيف، ليس بواه، وربما حسن له الترمذي". وسنشرحه هنا مفصلا، إن شاء الله: محمد بن سعد، الذي يروى عنه الطبري: هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي، من"بني عوف بن سعد" فخذ من"بني عمرو بن عياذ بن يشكر بن بكر بن وائل". وهو لين في الحديث، كما قال الخطيب. وقال الدارقطني: "لا بأس به". مات في آخر ربيع الآخر سنة 276. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 5: 322 - 323. والحافظ في لسان الميزان 5: 174. وهو غير"محمد بن سعد بن منيع" كاتب الواقدي، وصاحب كتاب الطبقات الكبير، فهذا أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، قديم الوفاة، مات في جمادي الآخرة سنة 230. أبوه"سعد بن محمد بن الحسن العوفي": ضعيف جدًّا، سئل عنه الإمام أحمد، فقال: "ذاك جهمي"، ثم لم يره موضعًا للرواية ولو لم يكن، فقال: "لو لم يكن هذا أيضًا لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذاك". وترجمته عند الخطيب 9: 136 - 127، ولسان الميزان 3: 18 - 19. عن عمه: أي عم سعد، وهو"الحسين بن الحسن بن عطية العوفي". كان على قضاء بغداد، قال ابن معين: "كان ضعيفًا في القضاء. ضعيفًا في الحديث". وقال ابن سعد في الطبقات: "وقد سمع سماعًا كثيرًا، وكان ضعيفًا في الحديث". وضعفه أيضًا أبو حاتم والنسائي. وقال ابن حبان في المجروحين: "منكر الحديث. . ولا يجوز الاحتجاج بخبره". وكان طويل اللحية جدا، روى الخطيب من أخبارها طرائف، مات سنة 201. مترجم في الطبقات 7/2/ 74، والجرح والتعديل 1/2/ 48، وكتاب المجروحين لابن حبان، رقم 228 ص 167، وتاريخ بغداد 8: 29 - 32، ولسان الميزان 2: 278. عن أبيه: وهو"الحسن بن عطية بن سعد العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، قال البخاري في الكبير: "ليس بذاك"، وقال أبو حاتم: " ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "يروى عن أبيه، روى عنه ابنه محمد بن الحسن، منكر الحديث، فلا أدري: البلية في أحاديثه منه، أو من أبيه، أو منهما معًا؟ لأن أباه ليس بشيء في الحديث، وأكثر روايته عن أبيه، فمن هنا اشتبه أمره، ووجب تركه". مترجم في التاريخ الكبير 1/2/ 299، وابن أبي حاتم 1/2/ 26، والمجروحين لابن حبان، رقم 210 ص 158، والتهذيب. عن جده: وهو"عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، ولكنه مختلف فيه، فقال ابن سعد: "كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة. ومن الناس من لا يحتج به"، وقال أحمد: "هو ضعيف الحديث. بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير. وكان الثوري وهشيم يضعفان حديث عطية". قال: صالح". وقد رجحنا ضعفه في شرح حديث المسند: 3010، وشرح حديث الترمذي: 551، وإنما حسن الترمذي ذاك الحديث لمتابعات، ليس من أجل عطية. وقد ضعفه النسائي أيضًا في الضعفاء: 24. وضعفه ابن حبان جدًّا، في كتاب المجروحين، قال: ". . فلا يحل كتبة حديثه إلا على وجه التعجب"، الورقة: 178. وانظر أيضًا: ابن سعد 6: 212 - 213 والكبير البخاري 4/1/ 8 - 9. والصغير 126. وابن أبي حاتم 3/1/ 382 - 383. والتهذيب. والخبر نقله ابن كثير 1: 85، والسيوطي في الدر المنثور 1: 29، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. وكذلك صنع الشوكاني 1: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟ قيل له: أن تنصبها بإضمار"جعل" (1) ، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط"جعل"، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا، وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على"غشاوة"، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا، كما قال تعالى ذكره: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) ، ثم قال: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) ، [سورة الواقعة: 17-22] ، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه: عَلَفْتُهَا تِبْنًا ومَاء بارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا (2)   (1) في المطبوعة: "إن نصبها. . ". (2) لا يعرف قائله، وأنشده الفراء في معاني القرآن 1: 14 وقال: "أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه"، وفي الخزانة 1: 499: "رأيت في حاشية صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده". وسيأتي في تفسير آية سورة المائدة: 109 (7: 81 بولاق) . وقوله"شتت" من شتا بالمكان: أقام فيه زمن الشتاء، وهو زمن الجدب، وهمالة: تهمل دمعها أي تسكبه وتصبه من شدة البرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به، ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر: ورأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحَا (1) وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله"وعلى سَمْعهم"، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه، ويتأوّل فيه من كتاب الله (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) [سورة الشورى: 24] . 306- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع، والغشاوة على البَصَر، قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) (2) ، وقال: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: 23] . والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص: تَبِعْتُكَ إذْ عَيْني عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا (3) ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:   (1) مضى تخريج هذا البيت في ص 140. (2) الأثر 306- ساقه ابن كثير في تفسيره 1: 85، والشوكاني 1: 28. (3) الشاعر هو الحارث بن خالد المخزومي، ويأتي البيت في تفسير آية سورة الأعراف: 18 (8: 103 بولاق) ، وروايته هناك: "صحبتك إذ عيني. . أذيمها"، شاهدًا على"الذام"، وهو أبلغ في العيب من الذم، ثم قال أبو جعفر: "وأكثر الرواة على إنشاده: ألومها"، وخبر البيت: أن عبد الملك بن مروان لما ولى الخلافة حج البيت، فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهرًا لا يصل إليه، فانصرف عنه وقال البيت الشاهد وبعده: وما بِيَ إن أقصَيتنِي من ضَرَاعةٍ ... وَلاَ افْتَقَرَتْ نَفْسِي إلى مَنْ يَضِيمُها (انظر الأغاني 3: 317) ، وبلغ عبد الملك شعره، فأرسل إليه من رده إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 هَلا سَأَلْتِ بَنِي ذُبيَان مَا حَسَبي ... إذَا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشمَط البَرَمَا (1) يعني بذلك: تجلّله وَخالطه. وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود، أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه، وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته، فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى. وبنحو ما قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل: 307- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ، أيْ عن الهدى أن يُصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربِّك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك (2) . 308- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول   (1) ديوانه: 52. والأشمط: الذي شاب رأسه من الكبر، والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير 410، 1238: "وإنما خص الأشمط، لأنه قد كبر وضعف، فهو يأتي مواضع اللحم". (2) الخبر 307- ذكره السيوطي 1: 29 متصلا بما مضى: 295، 299 وبما يأتي: 311. ساقها سياقًا واحدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الله صلى الله عليه وسلم:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" يقول: فلا يعقلون ولا يَسْمعون. ويقول:"وجَعل على أبصارهم غشاوة" يقول: على أعينهم فلا يُبصرون (1) . وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر. 309- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هاتان الآيتان إلى (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هم (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [سورة إبراهيم: 28] ، وهمُ الذين قُتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حَرْب، والحَكَم بن أبي العاص (2) . 310- وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن الحسن، قال: أما القادةُ فليس فيهم مُجيبٌ ولا ناجٍ ولا مُهْتَدٍ. وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) } وتأويلُ ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوّله:   (1) الخبر 308- ساقه ابن كثير 1: 85. وذكره السيوطي 1: 29، والشوكاني 1: 28 عن ابن مسعود فقط. (2) الأثر 309- هو تتمة الأثر الماضي: 298، كما ساقه السيوطي 1: 29، والشوكاني 1: 28. وقد أشرنا إليه هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 311- حدثنا ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) } قال أبو جعفر: أما قوله:"ومن الناس"، فإن في"الناس" وجهين: أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه، وإنما واحدهم"إنسانٌ"، وواحدتهم"إنسانة" (2) . والوجه الآخر: أن يكون أصله"أُناس" أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان، فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون، كما قيل في (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) [سورة الكهف: 38] ، على ما قد بينا في"اسم الله" الذي هو الله (3) . وقد زعم بعضهم أن"الناس" لغة غير"أناس"، وأنه سمع العرب تصغرهُ"نُوَيْس" من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أُنَيس، فرُدَّ إلى أصله. وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهلِ النِّفاق، وأن هذه الصِّفة صِفتُهم.   (1) الخبر 311- هو تتمة الأخبار: 295، 299، 307، ساقها السيوطي 1: 29 مساقًا واحدًا، كما أشرنا من قبل. ولكنه حذف من آخره ما بعد قوله"فهذا في الأحبار من يهود". لعله ظنه من كلام الطبري. والسياق واضح أنه من تتمة الخبر. (2) في المطبوعة: "واحده إنسان، وواحدته إنسانة". (3) انظر ما مضى ص 125 - 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 * ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم: 312- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم. وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم (1) . 313- حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، حتى بلغ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) قال: هذه في المنافقين (2) . 314- حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نَعت المنافقين. 315- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله. 316 حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.   (1) الخبر 312- مضى نحو معناه: 296، وأشرنا إلى هذا هناك. وأسماء المنافقين، من الأوس والخزرج، الذين كره الطبري إطالة الكتاب بذكرهم - حفظها علينا ابن هشام، في اختصاره سيرة ابن إسحاق، بتفصيل واف: 355 - 361 (طبعة أوربة) ، 2: 166 - 174 (طبعة الحلبي) ، 2: 26 - 29 (الروض الأنف) . (2) الأثر 313- الحسن بن يحيى، شيخ الطبري؛ وقع في الأصول هنا"الحسين"، وهو خطأ. وقد مضى مثل هذا الإسناد على الصواب، رقم: 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 317- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليهِ وسلم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) هم المنافقون. 318- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: (ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) إلى (فزادهم الله مَرَضًا ولهم عذاب أليم) ، قال: هؤلاء أهلُ النفاق. 319- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) قال: هذا المنافقُ، يخالِفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه (1) . وتأويل ذلك: أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمرَهُ في دار هجرته، واستَقرَّ بها قرارُه، وأظهرَ الله بها كلمتَه، وفشا في دور أهلها الإسلام، وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضَّغائن، وأبدوا له العداوة والشنآنَ، حسدًا وَبغيًا (2) ، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا، كما قال جل ثناؤه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [سورة البقرة: 109] ، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه   (1) الروايات 314 - 319: ساق بعضها ابن كثير 1: 86 بين نص وإشارة. وساق بعضها أيضًا السيوطي 1: 29. والشوكاني 1: 29. (2) في: المخطوطة"العداوة والشنار"، وهو خطأ. والشنآن والشناءة: البغض يكشف عنه الغيظ الشديد. شنئ الشيء يشنؤه: أبغضه بغضًا شديدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَبغْيِهم الغوائِل، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَصَروه (1) - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم (2) قد سُمُّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ، حذارَ القتل على أنفسهم، والسِّباءِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم -حِذارًا على أنفسهم-: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث، وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فخلَوْا بهم قَالُوا: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) . فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنّا بالله-: وصدّقنا بالله (3) . وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا (4) . وقوله: (وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) ، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سُمّى يومُ القيامة"اليومَ الآخر"، لأنه آخر يوم، لا يومَ بعده سواه. فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء، ولا زوال؟   (1) الغوائل جمع غائلة: وهي: النائبة التي تغول وتهلك. وأراهط جمع رهط، والرهط: عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة، لا يكون فيهم امرأة. وعنى بهم العدد القليل من بطون الأنصار. (2) في المطبوعة: "عتوا في جاهليتهم" وكلتاهما صواب. عسا الشيء يعسو: اشتد وصلب وغلظ من تقادم العهد عليه، وعسا الرجل: كبر. والعاسي: هو الجافي، ومثله العاتي. وعتا يعتو، في معناه. وانظر ما مضى ص: 36، تعليق. (3) في المطبوعة"وصدقنا بالله"، وزيادة الواو خطأ. (4) انظر ما مضى ص: 234 - 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قيل: إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه"اليوم الآخر"، ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده (1) . وأما تأويل قوله:"وما هم بمؤمنين"، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان، وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، وإعلامٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم، وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم. وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم:"آمنا بالله وباليوم الآخر"، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك. وقوله"وما هم بمؤمنين"، يعني بمصدِّقين" فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون. * * * القول في تأويل جل ثناؤه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} قال أبو جعفر: وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه   (1) وذلك قول ربنا سبحانه في سورة الحج: 55: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله. فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟ قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها، وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها، ومجَرِّعها به كأس عَذابها، ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به (1) . فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه:"وما يخدَعُون إلا أنفسهم ومَا يشعُرُون"، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون. وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول. 320- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى   (1) في المطبوعة: "ومذيقها من غضب الله"، وفي المخطوطة: "ومربدها. . . "، وفي تفسير ابن كثير 1: 87"ومز برها. . . "، والصواب ما أثبتناه، وأزاره: حمله على الزيارة. وفي حديث طلحة: ". . . حتى أزرته شعوب"، وشعوب هي المنية، أي أوردته المنية فزارها. وجعلها زيارة، وهي هلاك. سخرية بهم واستهزاء، لقبح غرورهم بربهم، وفرحهم بما مد لهم من العمر والمال والمتاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 آخر الآية، قال: هؤلاء المنافِقُون، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا (1) . وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون، وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مُصِرُّون. فإن قال لنا قائل: قد علمت أن"المُفاعلة" لا تكون إلا من فاعلَيْن، كقولك: ضاربتُ أخاك، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك، فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟ قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب (2) : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني"يُخَادِع" بصورة"يُفَاعل"، وهو بمعنى"يَفْعَل"، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب، نظيرَ قولهم: قاتَلك الله، بمعنى قَتَلك الله. وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من"التفاعل" الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى"يفاعل ومُفاعل" في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم   (1) الأثر 320- في الدر المنثور 1: 30، والشوكاني 1: 30 بتمامه، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية برقم: 321. (2) يعني أبا عبيدة في كتابه"مجاز القرآن": 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه، كالذي أخبر في قوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [سورة آل عمران: 178] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [سورة الحديد: 13] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ "يُفاعِل ومُفاعل". وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل:"يُخادِعون الله" عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا، فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم:"وما يخدعون" يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها (1) . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن   (1) يعني بقوله"بالتخلية بها"، أي بالانفراد بها وإخفاء ما يبطنون من الكفر. كأن أراد أن يجعل اشتقاق"يخدعون" من المخدع، وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير، وأراد الستر الشديد لما يبطنون. وأخلى بفلان يخلى به إخلاء: انفرد به في مكان خال. واستعمل"التخلية" بمعنى أنه حمل على الخلوة، كأنه حمل نفسه على الخلوة بها والانفراد، ليخفى ما فيها. وهذا الذي ذكره شرح لبقية الآية الذي سيأتي بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟ قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين (1) . كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا، أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين، ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه، فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه، وتنفي عنه قتلَه صاحبَه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول:"خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه"، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم، لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم، ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة، والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه، والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه = غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ، بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها (2) ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه، ولا عارف باطِّلاعه على ضميره، وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه (3) ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه،   (1) في المطبوعة: "جاءت لهم على المؤمنين"، وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "التي هو بها موقع"، وعنى: العقوبة التي هو موقعها به. . . (3) في المطبوعة: "وأن إمهال مستدرجه، وتركه إياه معاقبته على جرمه"، وهو خطأ مفسد للمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ (1) = فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه، إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه. وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) دون (وما يخادعون) لأن لفظ"المخادع" غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة، ولفظ"خادع" موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه، فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) . ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: (وَمَا يَخْدَعُونَ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: (وما يخادعون) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضادٌّ في المعنى، وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ. القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {وَمَا يَشْعُرُونَ (9) } يعني بقوله جل ثناؤه"وما يَشعرون"، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر، وهو لا يشعر به -إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:   (1) سياق هذه العبارة: "ليبلغ المخاتل المخادع. . . أقصى غاية"، وسياق الذي يليها من صدر الجملة: "فأما والمخادع عارف. . . فإنما هو خادع نفسه. . . "، وما بينهما فصل طويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عَقَّوْا بِسَهمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَدٌ ... ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا: حَبَّذَا الوَضَحُ (1) يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعةٌ، ولها في الآجل مَضرة. كالذي-: 321- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، قال: ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) ، قال: هم المنافقون حتى بلغ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) [سورة المجادلة: 18] ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم (2) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال أبو جعفر: وأصل المرَض: السَّقم، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره   (1) الشعر للمتنخل الهذلي، ديوان الهذليين 2: 31، وأمالي القالي 1: 248، وسمط اللآلئ 563. عقى بالسهم: رمى به في السماء لا يريد به شيئًا، وأصله في الثأر والدية، وذلك أنهم كانوا يجتمعون إلى أولياء المقتول بدية مكملة، ويسألونهم قبول الدية. فإن كانوا أقوياء أبوا ذلك، وإلا أخذوا سهمًا ورموا به في السماء، فإن عاد مضرجًا بدم، فقد زعموا أن ربهم نهاهم عن أخذ الدية. وإن رجع كما صعد، فقد زعموا أن ربهم أمرهم بالعفو وأخذ الدية. وكل ذلك أبطل الإسلام. وفاء واستفاء: رجع. والوضح: اللبن. يهجوهم بالذلة والدناءة، فأهدروا دم قتيلهم، ورموا بالسهم الذي يزعمونه يأمرهم وينهاهم، ورجعوا عن طلب الترة إلى قبول الدية، وآثروا إبل الدية وألبانها على دم قاتل صاحبهم، وقالوا في أنفسهم: اللبن أحب إلينا من القود وأنفع. (2) الأثر 321- هو تمام الأثر الذي سلف: 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد = ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد -استغنى بالخبَر عن القلب بذلك = والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم (1) كما قال عُمر بن لَجَأ: وَسَبَّحَتِ الْمَدِينَةُ، لا تَلُمْهَا، ... رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمُ نَهَارَا (2) يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي: هَلا سَأَلتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ? ... إنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي (3) يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم:"يا خَيْلَ الله اركبي"، يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه. فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم. والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه، فلا هم به موقنون إيقان إيمان، ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (4) كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر،   (1) في المطبوعة: "والكناية عن تصريح الخبر. . . "، وقوله: "والكفاية عن تصريح الخبر. . . " معطوف على قوله"الخبر عن مرض ما في قلوبهم. . . " (2) يأتي البيت في تفسير آية البقرة: 110 (1: 391 بولاق) . (3) في معلقته المشهورة. (4) تضمين آية سورة النساء: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه. وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين. * ذكر من قال ذلك: 322- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"في قلوبهم مرضٌ"، أي شكٌّ. 323- وحدِّثت عن المِنْجَاب، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: المرض: النفاق. 324- حُدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"في قلوبهم مرضٌ" يقول: في قلوبهم شكّ. 325- حُدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"في قلوبهم مَرَضٌ"، قال: هذا مرض في الدِّين، وليس مَرَضًا في الأجساد، قال: وهم المنافقون. 326- حدثني المثنَّى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة، في قوله"في قلوبهم مَرَض" قال: في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه. 327- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"في قلوبهم مَرَضٌ" قال: هؤلاء أهلُ النفاق، والمرضُ الذي في قلوبهم: الشك في أمر الله تعالى ذكره. 328- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) حتى بلغ (فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال: المرض: الشكّ الذي دخلهم في الإسلام (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون. فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - (2) إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي   (1) الأخبار: 322 - 328، نقلها ابن كثير 1: 88، والسيوطي 1: 30، والشوكاني 1: 30 - مع تتمتها الآتية في تفسير بقية الآية، بالأرقام: 329، 336، 330، 332، 331، 333 - على هذا التوالي. ولكن 336 لم يذكر فيه"عن ابن عباس". و"المنجاب" في 323، 336: هو ابن الحارث بن عبد الرحمن التميمي، من شيوخ مسلم، روى عنه في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم وآخره باء موحدة. (2) سياق العبارة: "فزادهم الله بما أحدث من حدوده. . . من الشك والحيرة. . . إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [سورة التوبة: 124، 125] . فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه. ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل: 329- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: شكًّا. 330- حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فزادَهُم الله مَرَضًا"، يقول: فزادهم الله رِيبَة وشكًّا. 331- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرتا ابن المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة:"فزادهم الله مرضًا"، يقول: فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله. 332- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:"في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم رِجْسًا، وقرأ قول الله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) قال: شرًّا إلى شرِّهم، وضلالةً إلى ضلالتهم. 333- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم الله شكًّا (1) . * * *   (1) الأخبار: 329 - 333: هي تمام الآثار السالفة: 322 - 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ"مؤلم" إلى"أليم" (1) ، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع، والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقنُي وأَصْحَابِي هُجُوعُ (2) بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة: وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاتٍ ... يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجُ أَلِيمُ (3) ويروى"يَصُكُّ"، وإنما الأليم صفةٌ للعذاب، كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم، والألم: الوَجَعُ. كما-: 334- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الأليم، المُوجع. 335- حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هُشيم، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك قال: الأليمُ، الموجع (4) .   (1) في المطبوعة: "فصرف مؤلم. . ". (2) الأصمعيات: 43، ويأتي في تفسير آية سورة يونس: 1 (11: 58 بولاق) . وريحانة: هي بنت معديكرب، أخت عمرو بن معديكرب، وهي أم دريد بن الصمة، وكان أبوه الصمة، سباها وتزوجها. (الأغاني 10: 4) . (3) ديوانه: 592. وقوله"ونرفع من صدور. . " أي نستحثها في السير، والإبل إذا أسرعت رفعت من صدورها. وشمردلات جمع شمردلة: وهي الناقة الحسنة الجميلة الخلق الفتية السريعة. وقوله"يصد وجوهها" أي يستقبل وجوهها ويضربها وهج أليم، فتصد وجوهها أي تلويها كالمعرضة عن لذعته. ورواية ديوانه: "يصك"، وصكة صكة: ضربة ضربة شديدة. والوهج: حرارة الشمس، أو حرارة النار من بعيد. (4) الأثر 335- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. هشيم - بضم الهاء: هو ابن بشير، بفتح الباء وكسر الشين المعجمة، بن القاسم، أبو معاوية الواسطي، إمام حافظ كبير، روى عنه الأئمة: أحمد وابن المديني وغيرهما، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري". ومعنى هذا الأثر مضمن في الذي بعده: 336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 336- وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك في قوله"أليم"، قال: هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) } اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك (2) فقرأه بعضهم: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء، وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون:"يُكَذِّبُونَ" بضم الياء وتشديد الذال، وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة (3) . وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب، فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين، فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)   (1) الأثر 336- ذكره السيوطي 1: 30. وأشار إليه الشوكاني 1: 30. (2) في المطبوعة: "اختلفت القراء"، والقَرَأَة: جمع قارئ، وانظر ما مضى، 51 تعليق، وص 64 تعليق: 4، وص 109 تعليق: 1. (3) في المطبوعة: "قراءة معظم أهل الكوفة"، و"قراءة معظم أهل المدينة. . . "، وعظم الناس: معظمهم وأكثرهم. وانظر التعليق السالف، ثم ص 109 تعليق: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة، (وَمَا يَخْدَعُونَ) بصنيعهم ذلك (إِلا أَنْفُسَهُمْ) دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ (وَمَا يَشْعُرُونَ) بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، (فِي قُلُوبِهِمْ) شك النفاق وريبَتُه (1) والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنزيله بذلك نزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم، ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم. فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا (2) ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب، وذلك قولُ الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة المنافقون: 1، 2] . والآية   (1) في المطبوعة: "في قلوبهم شك، أي نفاق وريبة". والذي في المخطوطة أصح. (2) في المطبوعة: "فهذا مع دلالة الآية الأخرى. . "، ولم يأت في الجملة خبر قوله"فهذا"، والذي في المخطوطة هو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الأخرى في المجادلة: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [سورة المجادلة: 16] . فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة:"ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون" لكانت القراءةُ في السورة الأخرى:"والله يشهدُ إن المنافقين" لمكذِّبون، ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله:"والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون" بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة:"بما كانوا يَكْذِبون" بمعنى الكذِب، وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً. وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن"ما" من قول الله تبارك اسمه"بما كانوا يكذبون"، اسم للمصدر، كما أنّ"أنْ" و"الفعل" اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تَأتيني، وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال: وأدخل"كان" ليخبر أنه كان فيما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبدُ الله، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه، وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه، ويقول: إنما ألغِيَت"كان" في التعجُّب، لأن الفعل قد تقدَّمها، فكأنه قال:"حَسَنًا كان زيد" و"حَسَن كان زَيْدٌ" يُبْطِلُ"كان"، ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء، إذا جاءت قبل"كان"، ووقعت"كان" بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ "فعل" و"يفعل" اللتين لا يظهرُ عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 "كان" فيهما. ألا ترى أنك تقول:"يقوم كان زيد"، ولا يظهر عمل"كان" في"يقوم"، وكذلك"قام كان زيد". فلذلك أبطل عملها مع"فاعل" تمثيلا بـ "فعل" و"يفعل"، وأعملت مع"فاعل" أحيانًا لأنه اسم، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت"كان" الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها، فخطأ عنده أن تكون"كان" مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه، وتأوّل قول الله عز وجل"بما كانوا يكذبون" أنه بمعنى: الذي يكذبونه. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ} اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية: فروُي عن سَلْمان الفارسيّ أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعدُ. 337- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عَثَّامُ بن علي، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت المِنْهال بن عَمرو يُحدِّث، عن عَبَّاد بن عبد الله، عن سَلْمان، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ، الَّذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (1) .   (1) الخبر 337- عثام -بفتح العين المهملة وتشديد الثاء المثلثة- بن علي العامري: ثقة، وثقه أبو زرعة وابن سعد وغيرهما. ترجمه ابن سعد 6: 273، والبخاري في الكبير 4/1/ 93، وابن أبي حاتم 3/2/44. المنهال بن عمرو الأسدي: ثقة، رجحنا توثيقه في المسند: 714، وقد جزم البخاري في الكبير 4/2/ 12 أن شعبة روى عنه، ورواية شعبة عنه ثابتة في المسند: 3133. عباد بن عبد الله: هو الأسدي الكوفي، قال البخاري: "فيه نظر"، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن المديني، وذكر ابن أبي حاتم 3/1/82 أنه"سمع عليًّا". وقد بينت في شرح المسند: 883 أن حديثه حسن. وسلمان: هو سلمان الخير الفارسي الصحابي، رضي الله عنه. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 91، والسيوطي 1: 30، ونسبه أيضًا لوكيع وابن أبي حاتم، وذكره الشوكاني 1: 31 ونسبه لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، ولم أجد نسبته لابن إسحاق عند غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 338- حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَرِيك، قال: حدثني أبي، قال: حدثني الأعمش، عن زيد بن وَهب وغيره، عن سَلْمان، أنه قال في هذه الآية: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ (1) . وقال آخرون بما-: 339- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد، قال: حدثنا أسْباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، هم المنافقون. أما"لا تفسدوا في الأرض"، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية. 340- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الرَّبيع: (وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض) يقول: لا تعْصُوا في الأرض (قالوا إنما نحن مصلحون) ، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه، لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض، لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة (2) .   (1) الخبر 338- أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي: ثقة، وثقه النسائي والبزار وغيرهما، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين، وهو من الشيوخ القلائل الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء، فإنه مات سنة 260 أو 261، والبخاري مات سنة 256. عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: "واهى الحديث". وإسناده عندي حسن، وقد مضى قبله بإسناد آخر حسن. فكل منهما يقوي الآخر، وقد نقله ابن كثير 1: 91 عن الطبري بهذا الإسناد. (2) الأثر 340- قوله: "قالوا إنما نحن مصلحون"، من المخطوطة، وليس في المطبوعة، وفي المطبوعة والمخطوطة: "فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله. . . "، و"على أنفسهم" كأنها زيادة من الناسخ، وليست فيما نقله ابن كثير عن الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة. وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية:"ما جاء هؤلاء بعدُ"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ (1) ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ. وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا، لإجماع الحجّة من أهل التأويل على أنّ ذلك صفةُ من كان بين ظَهرَانْي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين، وأنّ هذه الآيات فيهم نَزَلَتْ. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير. والإفساد في الأرض، العمل فيها بما نهى الله جلّ ثناؤه عنه، وتضييعُ ما أمر الله بحفظه، فذلك جملة الإفساد، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرًا عن قِيلِ ملائكته: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [سورة البقرة: 30] ، يعنون بذلك: أتجعل في الأرض من يَعْصِيكَ ويُخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفاق: مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم، وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه، وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته (2) ، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم   (1) في المطبوعة: "عمن جاء منهم بعدهم"، وهو محيل للمعنى، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "بحقيقه"، والصواب من المخطوطة وابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبتَه، ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابه لأهل معصيته - بحُسبانهم أنهم فيما أتَوْا من معاصي الله مصلحون - بل أوجبَ لهم الدَّرْكَ الأسفل من ناره، والأليمَ من عذابه، والعارَ العاجلَ بسَبِّ الله إياهم وشَتْمِه لهم، فقال تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم، أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قولَ القائلين: إن عقوباتِ الله لا يستحقها إلا المعاند ربَّه فيما لزمه من حُقُوقه وفروضه، بعد علمه وثُبوت الحجّة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إيّاه. * * * القول في تأويل قوله ثناؤه: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) } وتأويل ذلك كالذي قالهُ ابن عباس، الذي-: 341- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، أي قالوا: إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وخالفه في ذلك غيره. 342- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجّاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) ، قال: إذا رَكِبُوا معصيةَ الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون (1) .   (1) الخبران 341، 342- ساقهما ابن كثير 1: 91، والسيوطي 1: 30 والشوكاني 1: 30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 قال أبو جعفر: وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك، أعني في دعواهم أنهم مُصْلحون، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواءٌ بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاحَ، أو في أديانهم، وفيما ركبوا من معصية الله، وكذِبهم المؤمنينَ فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهرُوا مُستبْطِنون؛ لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين، وهم عند الله مُسيئون، ولأمر الله مخالفون. لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين. فكان لقاؤهم اليهودَ - على وجه الولاية منهم لهم، وشكُّهم في نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظمَ الفساد، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحًا وهُدًى: في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود، فقال جل ثناؤه فيهم: (ألا إنهم هم المفسدون) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض، (ولكن لا يشعرون) * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) } وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيبٌ للمنافقين في دعواهم. إذا أمِروا بطاعة الله فيما أمرَهم الله به، ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه، قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رُشْدٍ وهُدًى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالُّون. فكذَّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلِهم فقال: ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمرَ الله عز وجل، المتعدُّون حُدُودَه، الراكبون معصيتَه، التاركُون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يَدرُون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وينهَوْنَهُم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين. * * * القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وَصَفهم الله ونعتَهم بأنهم يقولون: (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) : صَدِّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله، كما صدق به الناس. ويعني بِ "الناس": المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما-: 343- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) ، يقول: وإذا قيل لهم صدِّقوا كما صدَّق أصحاب محمد، قولوا: إنَّه نبيٌّ ورسول، وإنّ ما أنزل عليه حقّ، وصدِّقوا بالآخرة، وأنَّكم مبعوثون من بعد الموت (1) . وإنما أدخِلت الألف واللام في"الناس"، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم، وإنما معناه: آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه، كما أدخِلَتا في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ   (1) الخبر 343- نقله السيوطي 1: 30، والشوكاني 1: 31، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية، برقمي: 347، 348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فَاخْشَوْهُمْ) [سورة آل عمران: 173] ، لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سَفِيه، كما العلماء جمع عليم (1) ، والحكماء جمعُ حكيم. والسفيه: الجاهل، الضعيفُ الرأي، القليلُ المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ. ولذلك سمى الله عز وجل النِّساء والصبيانَ سفهاء، فقال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [سورة النساء: 5] ، فقال عامة أهل التأويل: هم النساء والصبيان، لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارِّ التي تصرف إليها الأموال. وإنما عَنَى المنافقون بقيلهم: أنؤمن كما آمَن السُّفهاء - إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، والإقرار بالبعث فقيل لهم: آمنوا كما آمن [الناس] (2) - أصحابَ محمدٍ وأتباعَه من المؤمنين المصدِّقين به، من أهل الإيمان واليقين، والتصديقِ بالله، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه، وباليوم الآخر. فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمَن أهل الجهل، ونصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهام؟ كالذي-: 344- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن   (1) في المطبوعة: "كالعلماء. . . ". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال لهم آمنوا كما آمن أصحاب محمد. . . "، وهو كلام مضطرب والصواب ما أثبتناه. وقوله: "أصحاب محمد" مفعول قوله: "وإنما عنى المنافقون بقيلهم. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) ، يعنون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم. 345- حدثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. 346- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:"قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء"، قال: هذا قول المنافقين، يريدون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم. 347- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) يقولون: أنقول كما تقولُ السفهاء؟ يعنون أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم، لخِلافهم لدينهم (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) } قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعتُه لهم، ووصفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنَّهم هُم الجُهَّال في أديانهم،   (1) الأخبار 344 - 347: أشار إليها ابن كثير 1: 92 والسيوطي 1: 30 والشوكاني 1: 31 والأخير منها من تتمة الخبر: 343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريْب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته، وفيما جاء به من عند الله، وأمر البعث، لإساءَتهم إلى أنفسهم بما أتَوْا من ذلك وهم يحسبون أنَّهم إليها يُحْسِنون. وذلك هو عَيْنُ السَّفه، لأن السفيه إنما يُفسد من حيث يرى أنه يُصلحُ، ويُضيع من حيث يَرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق: يَعصي رَبَّه من حيث يرى أنه يطيعُه، ويكفرُ به من حيث يرى أنه يُؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يُحسن إليها، كما وصفهم به ربنا جلّ ذكره، فقال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) ، وقال: (ألا إنهم هم السفهاء) - دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه، وبرسوله وثوابه وعقابه - (ولكن لا يعلمون) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية. 348- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) ، يقول: الجهال، (ولكن لا يعلمون) ، يقول: ولكن لا يعقلون (1) . وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في"السُّفهاء"، فشبيه بوجه دخولهما في"الناس" في قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) ، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك، والعلةُ في دخولهما في"السفهاء" نظيرتها في دخولهما في"الناس" هنالك، سواء. والدلالةُ التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبةَ من الله لا يستحقّها إلا المعاند ربَّه، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظيرُ دلالة الآيات الأخَر التي قد تقدم ذكرنا تأويلَها في قوله"ولكن لا يشعرون"، ونظائر ذلك (2) . * * *   (1) الخبر 348- هو تتمة الخبرين: 343، 347. (2) في المطبوعة: "مع علمه بصحة ما عاند فيه"، وفيها أيضًا: ". . . ونظير ذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} قال أبو جعفر: وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسولَه والمؤمنين، فقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) . ثم أكْذَبهم تعالى ذكره بقوله: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، وأنهم بقيلهم ذلك يخُادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون -للمؤمنين المصدِّقين بالله وكتابه ورسوله- بألسنتهم: آمنا وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله، خِداعًا عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم، ودرءًا لهم عنها، وأنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم وأهل العُتُوّ والشر والخُبث منهم ومن سائر أهل الشرك (1) الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكُفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطينَ كل شيء مَرَدَتُه - قالوا لهم:"إنا معكم"، أي إنا معكم على دينكم، وظُهراؤكم على من خالفكُم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،"إنما نحن مستهزِئون" بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه، كالذي-: 349- حدثنا محمد بن العلاء (2) قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بِشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) ، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، قالوا: إنا على دينكم. وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم، قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون.   (1) في المخطوطة: "وأنهم إذا خلوا إلى أهل مودتهم"، والذي في المطبوعة أصح في سياق تفسيره. (2) "محمد بن العلاء"، هو"أبو كريب"، الذي أكثر الرواية عنه فيما مضى وفيما يستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 350- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول (قالوا إنا معكم) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه (إنما نحن مستهزئون) . 351- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، أما شياطينهم، فهم رءوسهم في الكُفر. 352- حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي (1) قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) أي رؤسائهم في الشرّ (قالوا إنما نحنُ مستهزئون) . 353- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: المشركون. 354- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفّار. 355- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، عن شِبْل بن عبّاد، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: أصحابِهم من المنافقين والمشركين. 356- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي   (1) بشر بن معاذ العقدي: ثقة معروف، روى عنه الترمذي: والنسائي وابن ماجه وغيرهم. و"العقدي": بالعين المهملة والقاف المفتوحين، نسبة إلى"العقد": بطن من بجيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: إخوانهم من المشركين، (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) . 357- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين. 358- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: وقال مجاهد: شياطينُهم: أصحابُهم من المنافقين والمشركين (1) . فإن قال لنا قائل: أرأيتَ قولَه (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ؟ فكيف قيل: (خلوا إلى شياطينهم) ، ولم يقل خَلَوْا بشياطينهم؟ فقد علمتَ أنّ الجاريَ بين الناس في كلامهم:"خلوتُ بفلان" أكثر وأفشَى من:"خلوتُ إلى فلان"؛ ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان! قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب. فكان بعض نحويِّي البصرة يقول: يقال"خلوتُ إلى فلان" إذا أريدَ به: خلوتُ إليه في حاجة خاصة. لا يحتَمِل -إذا قيل كذلك- إلا الخلاءَ إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل:"خلوت به" احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة، والآخَر في السخرية به. فعلى هذا القول، (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) ، لا شكّ أفصحُ منه لو قيل"وإذا خلوا بشياطينهم"، لما في قول القائل:"إذا خلوا بشياطينهم" من التباس المعنى على سامعيه، الذي هو مُنتفٍ عن قوله:"وإذا خلوا إلى شياطينهم". فهذا أحد الأقوال. والقول الآخر: فأن تُوَجِّه معنى (2) قوله (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ،"وإذا   (1) هذه الآثار السالفة: 349 - 358: ذكر أكثرها ابن كثير في تفسيره 1: 93، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33. (2) في المطبوعة: "والقول الآخر: أن توجيه معنى قوله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 خلوا مع شياطينهم"، إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا (1) ، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) [سورة الصف: 14] ، يريد: مع الله. وكما توضع"على" في موضع"من"، و" في" و"عن" و"الباء"، كما قال الشاعر: إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا (2) بمعنى عَنِّي. وأما بعض نحويي أهل الكوفة، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى: وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ "إلى"، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ: من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم، لا قوله"خَلَوْا". وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع"إلى" غيرُها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها. وهذا القول عندي أولى بالصواب، لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره (3) فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ "إلى" في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها. * * *   (1) حروف الصفات: هي حرف الجر، وسميت حروف الجر، لأنها تجر ما بعدها، وسميت حروف الصفات، لأنها تحدث في الاسم صفة حادثة، كقولك: "جلست في الدار"، دلت على أن الدار وعاء للجلوس. وقيل: سميت بذلك، لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات. ويسميها الكوفيون أيضًا: حروف الإضافة، لأنها تضيف الاسم إلى الفعل، أي توصله إليه وتربطه به. (همع الهوامع 2: 19) وتسمى أيضًا حروف المعاني، كما سيأتي بعد قليل. والمعاقبة: أن يستعمل أحدهما مكان الآخر بمثل معناه. (2) الشعر للعقيف العقيلي، يمدح حكيم بن المسيب القشيري. نوادر أبي زيد: 176، خزانة الأدب 4: 247، وغيرهما كثير. (3) حروف المعاني، هي حروف الصفات، وحروف الجر، كما مضى آنفًا، تعليق: 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) } أجمع أهل التأويل جميعًا -لا خلاف بينهم- على أن معنى قوله: (إنما نحن مستهزئون) : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذًا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مَرَدتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومعاداتِه ومعاداة أتباعه، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بقيلنا لهم إذا لقيناهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر (1) كما-: 359- حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. 360- حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إنما نحن مستهزئون) ، أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم. 361- حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة: (إنما نحن مستهزئون) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونَسخَر بهم. 362- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (إنما نحن مستهزئون) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2) . * * *   (1) في المطبوعة: "في قيلنا لهم إذا لقيناهم". (2) هذه الآثار تتمة الآثار السالفة في تفسير أول الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وَصَف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى) [سورة الحديد: 13، 14] . الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [سورة آل عمران: 178] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال:"إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه"، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم (1) ، كما قال عَبِيد بن الأبرص: سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَامِ، إذْ ... ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ (2)   (1) الضمير لله سبحانه وتعالى، وهو معطوف على قوله"توبيخه إياهم. . ". (2) ديوانه: 16، وأمالي المرتضى 1: 41، وحجر، أبو امرئ القيس، وكانت قتلته بنو أسد رهط عبيد بن الأبرص. وأم قطام، هي أم حجر ملك كندة. والنواهل جمع ناهل وناهلة: والناهل: العطشان، توصف به الرماح، كأنها تعطش إلى الدم، فإذا شرعت في الدم رويت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فزعموا أن السُّمر -وهي القَنَا- لا لعب منها، ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به. قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية. وقال آخرون قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (1) [سورة النساء: 142] على الجواب، كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به:"أنا الذي خدعتُك"، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة آل عمران: 54] ، و"الله يستهزئ بهم"، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم. وقال آخرون: قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، وقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [سورة النساء: 142] ، وقوله: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: 79] ، (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة: 67] ، وما أشبه ذلك، إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [سورة الشورى: 40] ، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم"، وهي آية سورة البقرة: 9، ولم يرد الطبري إلا آية سورة النساء، كما يدل عليه سياق كلامه، وكما ستأتي الآية بعد أسطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 للعاصي على المعصية، فهما -وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة: 194] ، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاءٌ لا ظلم، بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول. وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ، وما أشبه ذلك. وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه"يستهزئ بهم"، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم. والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه (1) ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا (2) . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر. فإذا كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام (3) ، وإن كانوا لغير ذلك   (1) في المطبوعة: "ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا". (2) في المخطوطة: "مورطه مساءة باطنًا". (3) في المطبوعة: "المدخل لهم في عداد. . "، وقوله: "المدخلهم" نعت لقوله: "من الإقرار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 مستبطنين - (1) أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون (2) ، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقِه بينهم وبينهم - (3) معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل = (4) كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له -كان بهم- بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء، وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين -إلى أن ميَّز بينهم وبينهم- مستهزئًا، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا (5) . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره. وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس: 363- حدثنا أبو كُريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، قال: يسخر بهم للنقمة منهم (6) . وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم، ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم، وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله. فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ. قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء، أفلست   (1) في المطبوعة: "من أحكام المسلمين. . . "، وهي زيادة خطأ، وقوله"أحكام" منصوب بقوله"قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام". . . "أحكام"، وما بينهما فصل. (2) في المطبوعة: "أنهم مصدقون". (3) سياق العبارة: "والله جل جلاله. . معد لهم. . ". (4) قوله: "كان معلومًا أنه جواب قوله "فإذا كان ذلك كذلك. . . "، في أول هذه الفقرة. (5) أكثر الطبري الفصل بين الكلام في هذه الفقرة، وسياق العبارة هو كما يلي: ". . . كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم. . . كان بهم. . مستهزئًا، وبهم ساخرًا. . . "، وما بين الكلام في هذين الموضعين فصل للبيان. (6) الخبر 363- ساقه ابن كثير في تفسيره 1: 94، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 تقول:"الله يستهزئ بهم"، و"سَخِر الله منهم" و"مكر الله بهم"، وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية؟ فإن قال:"لا"، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام. وإن قال:"بلى"، قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت:"الله يستهزئ بهم" و"سخر الله منهم" -"يلعب الله بهم" و"يعبث" - ولا لعبَ من الله ولا عبث؟ فإن قال:"نعم"! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه. وإن قال: لا أقول:"يلعب الله بهم" ولا"يعبث"، وقد أقول"يستهزئ بهم" و"يسخر منهم". قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر. وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَيَمُدُّهُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ويمدهم) ، فقال بعضهم بما-: 364- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يَمُدُّهُمْ"، يملي لهم. وقال آخرون بما-: 365- حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً عن مجاهد:"يمدّهم"، قال: يزيدُهم (1) . وكان بعضُ نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لَهُم، ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب: الغلامُ يلعَب الكِعَابَ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون:"قد مَددت له وأمددتُ له" في غير هذا المعنى، وهو قول الله تعالى ذكره: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ) [سورة الطور: 22] ، وهذا من:"مددناهم" (2) . قال: ويقال: قد"مَدَّ البحر فهو مادٌّ" و"أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ". وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو"مدَدْت"، وما كان من الخير فهو"أمْدَدت". ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهو"مَدَدت له"، وإذا أردت أنك أعطيته قلت:"أمْددت". وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو"مَدَدت" بغير ألف، كما تقول:"مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر غيره"، إذا اتصل به فصار منه، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف، كقولك:"أمدَّ الجرحُ"، لأن المدّة من غير الجرح، وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ. وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: "وَيَمُدُّهُمْ": أن يكون بمعنى يزيدهم، على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم، كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله   (1) الخبران 364، 365- ساقهما ابن كثير 1: 31، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وهذا من أمددناهم"، ولعل الصواب ما أثبتناه. وعنى أن قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم) من"مددت له" التي هي مثل"أمددت له"، بعد طرح حرف الجر، كما مثل في قول العرب"الغلام يلعب الكعاب" أي"يلعب بالكعاب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الأنعام: 110] ، يعني نذرُهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم. ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى"يَمُدُّ لهم"، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها (1) أن يستجيزوا قول القائل:"مدَّ النهرَ نهرٌ آخر"، بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل - من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه: مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) * * * القول في تأويل قوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ} قال أبو جعفر: و"الطُّغيان""الفُعْلان"، من قولك:"طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا". إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [سورة العلق: 6، 7] ، أي يتجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت: وَدَعَا اللهَ دَعْوَةً لاتَ هَنَّا ... بَعْدَ طُغْيَانِه، فَظَلَّ مُشِيرَا (2) وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) ،   (1) في المخطوطة: "لأنه لا تتدافع العرب"، وهما سواء في المعنى. (2) ديوانه: 34 مع اختلاف في الرواية. والضمير في قوله"ودعا الله" إلى فرعون حين أدركه الغرق. والهاء في قوله"طغيانه" إلى فرعون، أو إلى الماء لما طغا وأطبق عليه. وقوله"لات هنا"، كلمة تدور في كلامهم يريدون بها: "ليس هذا حين ذلك"، والتاء في قولهم"لات" صلة وصلت بها"لا"، أصلها"لا هنا" أي ليس هنا ما أردت، أي مضى حين ذلك. و"هنا" مفتوحة الهاء مشددة النون، مثل"هنا" مضمومة الهاء مخففة النون. وقوله: "مشيرًا"، أي مشيرًا بيده في دعاء ربه أن ينجيه من الغرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أنه يُملي لهم، ويَذَرُهم يَبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما-: 366- حُدِّثت عن المِنْجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، قال: في كفرهم يترددون. 367- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"في طُغيانهم"، في كفرهم. 368- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، أي في ضلالتهم يعمهون. 369- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"في طغيانهم"، في ضلالتهم. 370- وحدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله"في طغيانهم"، قال: طغيانهم، كفرهم وضلالتهم (1) . * * * القول في تأويل قوله: {يَعْمَهُونَ (15) } قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسُه: الضَّلال. يقال منه: عَمِه فلان يَعْمه عَمَهانًا وعُمُوهًا، إذا ضل (2) . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلَّة من المهامه: وَمَخْفَقِ مِن لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ ... مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَهِ ...   (1) الأخبار 366 - 370: ساقها ابن كثير 1: 95، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33. (2) في ابن كثير 1: 95"عمها وعموها"، والذي في الطبري صحيح: "عمها وعموها وعموهة وعمهانًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أَعْمَى الهُدَى بِالجاهلين العُمَّهِ (1) و"العُمَّه" جمع عامِهٍ، وهم الذين يضلّون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذًا: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسُه، وعلاهم رِجْسُه، يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدا ولا يهتدون سبيلا. وبنحو ما قلنا في"العَمَه" جاء تأويل المتأولين. 371- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يَعْمَهُون"، يتمادَوْن في كفرهم. 372- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يَعْمَهُونَ"، قال: يتمادَوْن. 373- حدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"يَعْمَهُونَ"، قال: يتردَّدون. 374- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس:"يَعْمَهُونَ": المتلدِّد (2) .   (1) ديوانه: 166. والمخفق: الأرض الواسعة المستوية التي يخفق فيها السراب، أي يضطرب. ولهله: أرض واسعة يضطرب فيها السراب، والجمع لهاله. والمهمه: الفلاة المقفرة ليس بها ماء ولا أنيس. وجاب المفازة واجتابها: قطعها سيرًا. وقوله"في مهمه": أي يقطعنه ويدخلن في مهمه آخر موغلين في الصحراء. (2) تلدد للرجل فهو متلدد: إذا لبث في مكانه حائرًا متبلدًا يتلفت يمينًا وشمالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 375- حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، قال: يترددون. 376- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله. 377- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. 378- حدثني المثنى، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، عن مجاهد، مثله. 379- حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"يَعْمَهُونَ"، قال: يترددون (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم: اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عِوَضًا منه، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، لم يكونوا قط على هُدًى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟   (1) الأخبار: 372 - 379: ساقها السيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33، وخرجا أثر مجاهد في تفسير الآية: "أي يلعبون ويترددون في الضلالة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 قيل: قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فيه، ثم نبين الصحيحَ من التأويل في ذلك إن شاء الله: 380- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، أي الكفرَ بالإيمان. 381- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، يقول: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. 382- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، استحبوا الضلالة على الهدى. 383- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، آمنوا ثم كفروا. 384- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حُذَيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد مثله (1) . قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك:"أخذوا الضلالة وتركوا الهدى" - وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترَى مكانَ الثمن المشترَى به، فقالوا: كذلك المنافق والكافر، قد أخذَا مكان الإيمان الكفرَ، فكان ذلك منهما شراءً   (1) الأخبار: 380 - 384: ساقها ابن كثير في تفسيره 1: 95، 96، والسيوطي 1: 31، 32، والشوكاني 1: 33، 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها. وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله"اشْتَرَوْا":"استحبُّوا"، فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى، فقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [سورة فصلت: 17] ، صرفوا قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) إلى ذلك. وقالوا: قد تدخل"الباء" مكان"على"، و"على" مكان"الباء"، كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [سورة آل عمران: 75] ، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه"اشْتَرَوا" إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا، واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه. ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة (1) فَقَدْ أُخْرِجُ الكَاعِبَ الْمُسْتَرَا ... ةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعَ الْقِمَارَ (2) يعني بالمستراة: المختارة. وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار: يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا ... جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ (3) . يعني بالشَّراة: المختارة.   (1) في المطبوعة"الاشتراء" بالشين المعجمة، وهو خطأ، صوابه بالسين المهملة. (2) ديوانه: 35، وطبقات فحول الشعراء: 36، واللسان (سرا) . وفي المطبوعة: "المشتراة" في الموضعين، والصواب ما أثبتناه. والكاعب: التي كعب ثديها، أي نهد، يعني أنها غريرة منعمة محجوبة. وخدر الجارية: سترها الذي يمد لها لتلزمه بعد البلوغ، وأشاع المال بين القوم: فرقه فيهم. وأراد بالقمار: لعب الميسر، وعنى نصيب الفائز في الميسر من لحم الجزور، يفرقه في الناس من كرمه. (3) ديوانه: 62. والضمير في قوله"يذب" لفحل الإبل. ويذب: يدفع ويطرد. والقصايا، جمع قصية: وهي من الإبل رذالتها، ضعفت فتخلفت. وجماهير، جمع جمهور: وهو رملة مشرفة على ما حولها، تراكم رملها وتعقد. والمدجنات، من قولهم"سحابة داجنة ومدجنة"، وهي: المطبقة الكثيفة المطر. والهواضب: التي دام مطرها وعظم قطرها. شبه الإبل في جلالة خلقها وضخامتها بجماهير الرمل المتلبدة في رأي العين من بعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقال آخر في مثل ذلك: إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الأَمْوَالِ ... وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ (1) قال أبو جعفر: وهذا، وإن كان وجهًا من التأويل، فلستُ له بمختار. لأن الله جل ثناؤه قال: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ   (1) البيت الثاني في اللسان (حزر) . وروقة الناس: خيارهم وأبهاهم منظرًا. ويقال: هذا الشيء حزرة نفسي وقلبي: أي خير ما عندي، وما يتعلق به القلب لنفاسته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذِ عِوَض على عوض. وأما الذين قالوا: إنّ القوم كانوا مؤمنين وكفروا، فإنه لا مؤونة عليهم، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم. لأن الأمر إذا كان كذلك، فقد تركوا الإيمان، واستبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع، ولكن دلائل أوّل الآيات في نعوتهم إلى آخرها، دالّةٌ على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان، ولا دخلوا في ملّة الإسلام، أوَما تسمعُ الله جل ثناؤه من لَدُنِ ابتدأ في نعتهم، إلى أن أتى على صفتهم، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم: بدعواهم التصديق بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم، واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون. يقول الله جل جلاله (1) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ؟ فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا؟ فإن كان قائل هذه المقالة ظن أنّ قوله:"أولئك الذين اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى" هو الدليل على أنّ القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر، فلذلك قيل لهم "اشتروا" - فإن ذلك تأويل غير مسلَّم له، إذْ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذَ شيء بتركِ آخرَ غيره، وقد يكون بمعنى الاختيار، وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوهًا، لم يكن لأحد صرفُ معناها إلى بعضٍ وجوهها دون بعضٍ، إلا بحجة يجب التسليم لها. قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [سورة البقرة: 108] ؟ وذلك هو معنى الشراء، لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق، فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين -بشرائهم الضلالةَ بالهدى- خسروا ولم يربحوا، لأن الرابح من التجّار: المستبدِلُ من سلعته المملوكة عليه   (1) في المطبوعة: "لقول الله. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بدلا هو أنفسَ من سلعته المملوكة أو أفضلَ من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدِلُ من سلعته بدلا دُونها ودونَ الثمن الذي ابتاعها به (1) ، فهو الخاسر في تجارته لا شكّ. فكذلك الكافر والمنافق، لأنهما اختارَا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى، والخوفَ والرعبَ على الحفظ والأمن، واستبدلا في العاجل: بالرَّشاد الحيرة، وبالهُدى الضلالةَ، وبالحفظ الخوفَ، وبالأمن الرعبَ - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب، فخابا وخَسِرا، ذلك هو الخسران المبين. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول. 385- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، (فَمَا رَبِحَتْ   (1) في المطبوعة: "يبتاعها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفُرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السُّنة إلى البدعة (1) . قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس، فيقال: رَبِحت أو وُضِعَت (2) ؟ قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم (3) . فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيُك، ونام ليلُك، وخسِر بيعُك، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام، فقال: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك، عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم، وإنْ كان ذلك معناه، كما قال الشاعر: وشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ ... كَهُلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهُ (4) يعني بذلك: وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك، عن إظهار ما ترك إظهارَه، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج: حَارِثُ! قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي ... فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي (5) فوَصف بالنوم الليل، ومعناه أنه هو الذي نام، وكما قال جرير بن الخَطَفَى: وَأَعْوَرَ من نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ ... فَأَعْمَى، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ (6) فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار، ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) } يعني بقوله جل ثناؤه (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى، واستبدالهم الكفرَ بالإيمان، واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار. * * *   (1) الأثر 385- في ابن كثير 1: 96، والسيوطي 1: 32، والشوكاني 1: 34. (2) وضع في تجارته يوضع وضيعة: غبن فيها وخسر، ومثله: وكس. (3) في المخطوطة: "المستعلم بينهم"، ولعلها سبق قلم. (4) هو للحطيئة، من أبيات ليست في ديوانه، بل في طبقات فحول الشعراء: 95، وسيبويه 1: 109 وأمالي الشريف المرتضى 1: 38، مع اختلاف في بعض الرواية، ورواية الطبقات أجودهن. "أيقظ الحي"، يعني أيقظ الحي حاضر الموت، فقامت البواكي ترن وتندب، وكأن رواية من روى"أسلم الحي"، تعني أسلمهم للبكاء. (5) ديوانه: 142، يمدح الحارث بن سليم، من آل عمرو بن سعد بن زيد مناة. (6) ديوانه: 206، والنقائض: 35، والمؤتلف والمختلف: 39، 161، ومعجم الشعراء 253، من شعر في هجاء الأعور النبهاني، وكان هجا جريرًا، فأكله جرير. قال أبو عبيدة: "أي هو أعور النهار عن الخيرات، بصير الليل بالسوءات، يسرق ويزني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 القول في تأويل قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) } قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، وقد علمتَ أن"الهاء والميم" من قوله"مثلهم" كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و"الذي" دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء، أو كأنّ أجسامَ هؤلاء، نخلةٌ؟ قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ، وفي نظائره (1) كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [سورة الأحزاب: 19] ، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [سورة لقمان: 28] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة. وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل، فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما. فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد، فإنما جاز، لأن المرادَ من   (1) "وفي نظائره"، أي هو في نظائره جائز حسن أيضًا. ومثلها ما يأتي بعد أسطر في قوله"ولا في نظائره"، حذف فيهما جميعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة، وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص. وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا، كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم، كما قال نابغةُ بني جَعْدَة: وَكَيْفَ تُوَاصِل من أَصْبَحَتْ ... خِلالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ (1) يريد: كخلالة أبي مَرْحب، فأسقط "خلالة"، إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى. وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد، لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين. ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد،   (1) الشعر للنابغة الجعدي. اللسان (رحب) و (خلل) . والخلة والخلالة: الصداقة المختصة التي ليس في علاقتها خلل. وأبو مرحب: كنية الظل، يريد أنها تزول كما يزول الظل، لا تبقى به مودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب، ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب، - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب، وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام. وأما قوله: (اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر: وَدَاعٍ دَعَا: يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (1) يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم (2) مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله، يعني: ما حول المستوقِدِ. وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن"الذي" في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا" بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة الزمر: 33] ، وكما قال الشاعر: فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ (3) قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل   (1) الشعر لكعب بن سعد الغنوي. الأصمعيات: 14، وأمالي القالي 2: 151، وهي من حسان قصائد الرثاء. (2) سياق عبارته: "مثل استضاءة هؤلاء. . . فيما الله فاعل بهم، مثل استضاءة. . ". (3) الشعر للأشهب بن رميلة. الخزانة 2: 507 - 508، والبيان 4: 55، وسيبويه 1: 96، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 33، وذكر البغدادي أن أبا تمام أنشد البيت في أبيات لحريث بن محفض، في كتابه"مختار أشعار القبائل". وروايته: "وإن الألى". ولا شاهد فيه. وهم يقولون إن النون حذفت من"الذين"، فصارت"الذي" لطول الكلام وللتخفيف، وهي بمعنى الجمع لا المفرد. وفلج: واد بين البصرة وحمى ضرية، كانت فيه هذه الوقعة التي ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ذلك فرقَ ما بين"الذي" في الآيتين وفي البيت. لأن"الذي" في قوله:"والذي جاء بالصدق"، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع، وهو قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، وكذلك "الذي" في البيت، وهو قوله "دماؤهم". وليست هذه الدلالة في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا". فذلك فَرْق ما بين"الذي" في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا"، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى"الذي" في قوله:"كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا" بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها. ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال: أحدها- ما: 386- حدثنا به محمد بن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي يُبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما: 387- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) يقول: في عذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 والثالث: ما- 388- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي، فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام، والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما- 389- حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد (1) قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى"فهم لا يرجعون"، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك. وقال آخرون: بما- 390- حدثني به بِشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) ، وإن المنافقَ تكلم   (1) في المطبوعة"محمد بن سعيد"، "سعيد بن محمد". وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومن مراجع التراجم. وانظر شرح هذا السند مفصلا: 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين (1) ، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه. 391- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله" هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون. 392- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو تُميلة، عن عبيد بن سليمان (2) ، عن الضحاك بن مزاحم، قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله"، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم. وقال آخرون بما:- 393- حدثني به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله"، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.   (1) في المطبوعة: "وعاد بها المسلمين"، والصواب من المخطوطة وابن كثير في تفسيره، والدر المنثور، كما سيأتي في التخريج. (2) أبو تميلة، بضم التاء المثناة وفتح الميم: هو يحيى بن واضح الأنصاري المروزي الحافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد وأبو حاتم وغيرهم، ووهم أبو حاتم، إذ نسب إلى البخاري أنه ذكره في الضعفاء. وما كان ذلك، والبخاري ترجمه في الكبير 4/2/ 309، فلم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره في كتاب الضعفاء الصغير. وقال الذهبي في الميزان 3: 305 حين ذكر كلام أبي حاتم: "فلم أر ذلك، ولا كان ذلك. فإن البخاري قد احتج به". ووقع في مطبوعة الطبري هنا"أبو نميلة" بالنون، وهو خطأ مطبعي. و"عبيد بن سليمان": هو الباهلي الكوفي أبو الحارث، ذكره ابن حبان في الثقات، وذكر ابن أبي حاتم 2/2/408 أنه سأل عنه أباه، فقال: "لا بأس به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 394- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، عن شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله"، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة. 395- حدثني القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله. 396- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا"، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها، فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له، فإذا شك وقع في الظلمة. 397- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا" إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون (1) . وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله:"ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هُمْ بمؤمنين" - لا المعلنين بالكفر المجاهرين   (1) الأخبار 386 - 397: هذه الآثار السالفة جميعًا، وما سيأتي إلى قوله تعالى (فهم لا يرجعون) بالأرقام 398 - 404 ساقها ابن كثير 1: 97 - 99، والدر المنثور 1: 32 - 33، وفتح القدير 1: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بالشرْك (1) . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: (كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ، وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن (2) . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان (3) : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر طاهر، فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين. وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه. فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتى حُكم لهم بذلك   (1) في المطبوعة: "أي، لا المعلنين"، وفي المخطوطة: "المعالنين بالكفر"، وسياق عبارته"إنما ضرب الله هذا المثل للمنافقين. . لا المعلنين بالكفر". (2) السياق: "ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا. . لم يكن هنالك من القوم. . " (3) في المطبوعة: "فإن كان القوم. . . "، وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء، وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ، حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة، خَمدت النارُ وانطفأت، (1) فذهب نورُه، وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة. وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ، حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [سورة المجادلة: 18] ، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا (2) : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله. . . حتى خمدت النار"، وهي عبارة مختلة، صوابها ما أثبتناه. (2) في المطبوعة: "كان به نجاتهم من القتل"، وهما سواء في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة الحديد: 13-15] . فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله": خَمدتْ وانطفأتْ، وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟ قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي: عَصَيْتُ إليهَا الْقَلْبَ، إِنِّي لأمرِهَا ... سَمِيعٌ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابها! (1) يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ، فحذف ذكر"أم غيٌّ"، إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير: فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أو حِينَ، نصَّبتْ ... لَهُ مِن خَذَا آذَانِهَا وَهْو جَانح (2)   (1) ديوان الهذليين 1: 71، وسيأتي في تفسير آية آل عمران: 113 (4: 34 بولاق) ورواية الطبري للبيت في الموضعين لا يستقيم بها معنى، ورواية ديوانه: عَصَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ ويروى"دعاني إليها. . "، وهما روايتان صحيحتان. وتمام معنى البيت في الذي يليه: فَقُلْتُ لِقَلْبِي: يَا لَكَ الْخَيْرُ! إِنَّمَا ... يُدَلِّيكَ لِلْمَوْتِ الْجَدِيدِ حِبَابُهَا فهو يؤامر قلبه، ولكنه أطاعه. (2) ديوانه: 108 وسيأتي في تفسير آية يونس: 77 (11: 101 بولاق) ، وآية سورة النبأ: 10 (30: 3 بولاق) . يصف عانة حمر، وقفت ترقب مغيب الشمس، حتى إذا غربت انطلقت مسرعة إلى مورد الماء الذي تنوى إليه. وقوله: "لبسن الليل" يعني الحمر، حين غشيهن الليل وهن مترقبات مغيب الشمس. ونصبت: رفعت وأقامت آذانها. وخذيت الأذن خذًّا: استرخت من أصلها مقبلة على الخدين، وذلك يصيب الحمر في الصيف من حر الشمس والظمأ. ونصبت خذا آذانها، استعدادًا للعدو إلى الماء. وجنح الليل فهو جانح: أقبل، وهو من جنح الطائر: إذا كسر من جناحيه ثم أقبل كالواقع اللاجئ إلى موضع. وهو وصف جيد لإقبال الظلام من جانب الأفق. وأراد الطبري أن ذا الرمة أراد أن يقول: أو حين أقبل الليل، نصبت له من خذا آذانها، وهو جانح. ولا ضرورة توجب ما قال به من الحذف في هذا البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله"، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله:"ذهب الله بنورهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وتركهم في ظلمات لا يبصرون" دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز. وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه، نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر. و"الهاء والميم" في قوله"ذهب الله بنورهم"، عائدة على"الهاء والميم" في قوله "مَثَلهم". * * * القول في تأويل قول الله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) } قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه:"ذهبَ الله بنورهم وتَركهم في ظلمات لا يبصرون"، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون، وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه:"صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون" من المؤخّر الذي معناه التقديم، وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون، أو كمثل صَيِّب من السماء. وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله:"صُمٌّ بكمٌ عُميٌ"، يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين: فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم، فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة، كما قال الشاعر: لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ ... سَمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ (1) النَّازِلِينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ (2) فيروي:"النازلون" و"النازلين"، وكذلك"الطيِّبون" و"الطيِّبين"، على ما وصفتُ من المدح.   (1) الشعر للخرنق بنت بدر بن هفان، أخت طرفة لأمه، أمهما وردة، ديوانها: 10، ترثى زوجها بشر بن عمرو بن مرثد. وسيأتي في تفسير آية سورة غافر: 3 (24: 27 بولاق) ، وفي سيبويه 1: 104، 246، 249، وخزانة الأدب 2: 301. وقولها"لا يبعدن قومى": أي لا يهلكن قومي، تدعو لهم. وفعله: بعد يبعد بعدًا (من باب فرح) : هلك. والعداة جمع عاد، وهو العدو. والجزر جمع جزور: وهي الناقة التي تنحر. وآفة الجزر: علة هلاكها، لا يبقون على أموالهم من الكرم. (2) المعترك: موضع القتال حيث يعتركون، يطحن بعضهم بعضًا. وإذا ضاق المعترك نزل الفرسان، وتطاعنوا واقتربوا حتى يعتنق بعضهم بعضًا إذا حمس القتال. والأزر جمع إزار: وهو ما ستر النصف الأسفل، والرداء: ما ستر الأعلى. ومعاقد الأزر: حيث يعقد لئلا تسقط. وكنت بذلك عن عفتهم وطهارتهم، لا يقربون فاحشة فيحلون معاقد الأزر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 والوجهُ الآخر: على نية التكرير من"أولئك"، فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون. وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في"مهتدين" من ذكر"أولئك" (1) ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة، والصم نكرة. والآخر: أن يكون قطعا من"الذين"، لأن"الذين" معرفة و"الصم" نكرة (2) . وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا. فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف. وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم، والآخرُ: القطع من"الهاء والميم" اللتين في"تركهم"، أو من ذكرهم في"لا يبصرون". وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب (3) . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين، بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم، بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ، وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون. وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل: 398- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق،   (1) قطعا: أي حالا، وانظر ما سلف: 230 تعليق: 4. (2) قطعا: أي حالا، وانظر ما سلف: 230 تعليق: 4. (3) في المطبوعة: "والقراءة التي هي قراءة الرفع. . "، وهو خطأ محض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"صمٌّ بكم عُميٌ"، عن الخير. 399- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"صم بكم عُمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه. 400- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"بكم"، هم الخُرس. 401- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، قوله"صم بكْم عُمْي": صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه، عمي عن الحق فلا يبصرونه، بُكم عن الحق فلا ينطقون به (1) . * * * القول في تأويل قوله: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) } قال أبو جعفر: وقوله"فهم لا يرجعون"، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى، وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق، وَبكمَهم عن القيل بهما، وعَماهم عن إبصارهما - (2) أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا، أو يقولوا حقًّا، أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب   (1) هذه الأخبار 398 - 401: تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية، بالأرقام: 386، 387، 388، 390. (2) سياقه: "إخبار من الله عز وجل. . أنهم لا يرجعون. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم. وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 402- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة:"فهم لا يَرجعون"، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون. 403- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فهم لا يَرْجعون": فهم لا يرجعون إلى الإسلام. وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:- 404- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فهم لا يَرْجعون"، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير، فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه (1) . وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون -عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت (2) وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت (3) وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع   (1) هذه الأخبار 402 - 404: تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية. بالأرقام: 401، 400، 398. (2) في المطبوعة: "إلى وقت دون وقت"، وهو خطأ. (3) في المطبوعة: "ينبئ عن أن. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة (1) ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} قال أبو جعفر: والصّيِّب الفَيْعِل من قولك: صَاب المطر يَصوب صَوبًا، إذا انحدَر وَنزَل، كما قال الشاعر: فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (2) وكما قال علقمة بن عَبَدَة: كَأَنَّهمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ (3)   (1) في المخطوطة"دعوى ناظر"، وصوابها"دعوى باطل" بالإضافة. (2) ينسب هذا البيت لعلقمة بن عبدة، وليس له، ولا هو في ديوانه. وسيأتي في تفسير آية سورة البقرة 30 (1: 155 بولاق) ، وبغير هذه الرواية، وهو من أبيات سيبويه 1: 379 وشرح شواهد الشافية: 287، واللسان (ألك) وغيرها، غير منسوب. ويقال إنه لرجل من عبد القيس جاهلي يمدح النعمان. وحكى السيرافي أنه لأبي وجزة السعدي، يمدح عبد الله بن الزبير. وجاء في المخطوطة"ولكن ملأكًا". وقبل البيت: تعاليتَ أن تُعْزَى إلى الإنْس خَلَّةً، ... وَلِلإِنْسِ من يعزُوك، فهو كذوبُ (3) ديوانه: البيت الأول: 34، والثاني قبله: 19، وشرح المفضليات: 784، 769، يمدح بها الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني، وكان أسر أخاه شأسًا، فرحل إليه يطلب فكه. ويذكر في هذا البيت يوم عين أباغ، وفيه غزا الحارث الغساني، المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فالتقوا بعين أباغ، فهزم جيش المنذر، وقتل المنذر يومئذ. وقوله"كأنهم" يعني جيش المنذر. وصاب المطر: انحدر وانصب. وكان وصف الجيش المنهزم في البيت الذي قبله، بين ساقط قد صرع، وبين قتيل قد هلك. فشبههم بطير أصابها المطر الغزير وأخذتها الصواعق، ففزعت، ولم تستطع أن تنهض فتطير، فهي تدب تطلب النجاة. والضمير في قوله: "لطيرهن" للصواعق، أي لطير الصواعق، وأراد الطير التي أفزعتها الصواعق، ولبدها المطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فَلا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبين مُغَمَّرٍ، ... سُقِيتِ رَوَايَا الْمُزْنِ حين تَصُوبُ (1) يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل"صَيْوِب"، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً، كما قيل: سيِّد، من ساد يسود، وجيِّد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً. وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 405- حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي، قال: حدثنا محمد بن عُبيد، قال: حدثنا هارون بن عَنترة، عن أبيه (2) ، عن ابن عباس في قوله"أو كصيِّب من السماء"، قال: القطر. 406- حدثني عباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال لي عطاء: الصيّب، المطرُ. 407- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال: الصيّب، المطرُ. 408- حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن   (1) هذا البيت في صدر القصيدة. يخاطب صاحبته، وفي المطبوعة"معمر" وهو خطأ. والمغمر والغمر: الجاهل الذي لم يجرب الأمور، كأن الجهل غمره وطغا عليه. والشطر الثاني دعاء لها بالخصب والنعمة. والروايا جمع راوية: وهي الدابة التي تحمل مزاد الماء. والمزن: السحاب الأبيض، شبهه بالروايا حاملات الماء. ورواية ديوانه والمفضليات"سقتك". (2) الإسناد 405- محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي - شيخ الطبري: ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. له ترجمة في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 3/2/ 190. محمد بن عبيد: هو الطنافسي الأحدب، وهو ثقة معروف، روى عنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وغيرهم. هارون بن عنترة بن عبد الرحمن: ثقة، وثقه أحمد وابن سعد وغيرهما. وترجمه البخاري في الكبير 4/2/ 221، فلم يذكر فيه جرحًا، وابن سعد 6: 243. أبوه: هو عنترة بن عبد الرحمن، وكنيته"أبو وكيع"، وهو تابعي، قال البخاري في الكبير 4/1/84"رأى: عليًّا، روى عنه ابنه هارون، وأبو سنان"، وترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 163، وابن أبي حاتم 3/2/35، وذكر أنه روى عن عثمان، وعلي، وابن عباس، وأن أبا زرعة سأل عنه فقال: "كوفي ثقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الصيّب، المطرُ. 409- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي سعدٌ، قال: حدثني عمِّي الحسين، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، مثله. 410- وحدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"أو كصيِّب"، يقول: المطر. 411- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعمر، عن قتادة، مثله. 412- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، وعمرو بن علي، قالا حدّثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: الصيِّب، الربيعُ (1) . 413- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: الصيِّب، المطرُ. 414- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: الصيِّبُ، المطرُ. 415- حُدِّثت عن المِنجَاب، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الصيِّبُ، المطر. 416- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد:"أو كصيِّب من السماء" قال: أو كغَيْثٍ من السماء. 417- حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري، قال: قال سفيان: الصَّيِّب، الذي فيه المطر.   (1) في المطبوعة: "الصيب: المطر". والربيع: المطر في أول الربيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 418- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء، في قوله:"أو كصيِّب من السماء"، قال: المطر (1) . قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر، مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء (2) ، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه. فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثَلين: أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين، فكيف قيل:"أو كصيِّب"، و"أو" تأتي بمعنى الشك في الكلام، ولم يقل"وكصيب" بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الآخر بِـ "أو"؟ وقد علمت أنّ "أو" إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه، كقول القائل:"لقيني أخوك أو أبوك" وإنما لقيه أحدُهما، ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما، مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء، أو عُزُوب عِلم شيء عنه، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه. قيل له: إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و"أو" - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها، وإما بما يأتي بعدها، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر: وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا (3)   (1) الأخبار 405 - 418: ساقها مختصرة ابن كثير 1: 99، والدر المنثور 1: 33. (2) الودق: المطر يخرج من خلل السحاب مسترخيًا. (3) من قصيدة له، أمالي القالي 1: 88، 131، وأمالي الشريف المرتضى 3: 146، وأمالي الشجري 2: 317، والأضداد لابن الأنباري: 243، وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال، ولكن لمّا كانت"أو" في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه"الواو" لو كانت مكانها، وضَعها موضعَها، وكذلك قولُ جرير: نَالَ الْخِلافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا، ... كَمَا أَتَى رَبَّه مُوسَى عَلَى قَدَرِ (1) وكما قال الآخر: فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا ... بَكَيْتُ عَلَى بُجَيْرٍ أَوْ عِفَاقِ (2) عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيا جَمِيعًا ... لِشَأْنِهما، بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاقِ (3) فقد دلّ بقوله"على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا" أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر، بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه "أو كصيِّب من السماء". لمّا كان معلومًا أن"أو" دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه"الواو" لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب"أو" أو ب"الواو". وكذلك وجه حذف"المثل" من قوله"أو كصيب". لما كان قوله:   (1) ديوانه: 275، وسيأتي في تفسيره آية البقرة: 74 (1: 287 بولاق) ، وآية طه: 40 (16: 128 بولاق) ، وأمالي الشجري 1: 317، يقولها في أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. وروايته"إذ كانت"، وفي المطبوعة: "جاء الخلافة"، وهي رواية سقيمة. (2) البيتان لمتمم بن نويرة اليربوعي. اللسان (عفق) ، أمالي الشجري، 2: 318، أمالي المرتضى 3: 147، الأضداد لابن الأنباري: 243. وفي المطبوعة والمخطوطة"على جبير"، وهو خطأ محض، وفي المطبوعة: "عناق"، وهو خطأ أيضًا. وهذا الشعر يقوله متمم بن نويرة في رثاء بجير بن عبد الله بن الحارث اليربوعي، وهو بجير بن أبي مليل، وأخوه عفاق بن أبي مليل. قتل أولهما يوم قشاوة، قتله لقيم بن أوس (النقائض: 20) ، وقتل عفاق يوم العظالى، قتله الدعاء، وقيل قتله الفريس بن مسلمة (النقائض: 583) . (3) يروى"بحزن واحتراق" و"بشجو واشتياق". وقوله: "مضيا لشأنهما" أي، هلكا ولقيا ما يلقى كل حي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 "كمثل الذي استوقد نارًا" دالا على أن معناه: كمثل صيب، حَذفَ"المثَل"، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا" على أن معناه: أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ، طَلبَ الإيجاز والاختصار. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمعٌ، واحدها ظُلمة. أما الرَّعد، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم: هو مَلك يَزجُر السحابَ. * ذكر من قال ذلك: 419- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شُعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: الرعد، مَلك يَزجُر السحاب بصوته. 420- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عَديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. 421- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض، عن ليث، عن مجاهد، مثله (1) . 422- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، قال: الرَّعد، مَلك من الملائكة يُسبِّح (2) .   (1) الإسناد 421- يحيى بن طلحة اليربوعي: روى عنه الترمذي وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات. وضعفه النسائي، فقال في الضعفاء: 32: "ليس بشيء". (2) الإسناد 422- إسماعيل بن سالم الأسدي: ثقة، روى عنه الثوري وأبو عوانة، قال ابن سعد 7/2/67: "كان ثقة ثبتًا". وأبو صالح: هو السمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 423- حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا محمد بن يَعْلَى، عن أبي الخطاب البصري، عن شَهر بن حَوشب، قال: الرّعد، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه، كما يسوق الحادي الإبل، يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها، فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه، فهي الصواعقُ التي رأيتم (1) . 424- حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرَّعد، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته. 425- حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السُّدّيّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: الرعد، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير (2) . 426- وحدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جُريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: الرعد اسم مَلَك، وصوتهُ هذا تسبيحه، فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه. 427- حدثنا الحسن، قال: حدثنا عفان. قال: حدثنا أبو عَوَانة، عن   (1) الإسناد 423- نصر بن عبد الرحمن بن بكار التاجي، شيخ الطبري: ثقة، روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، مترجم في التهذيب، وقال"ويقال: الأزدي"، فكذلك نسب هنا، وكذلك روى عنه الطبري في التاريخ 2: 128، ونسبه"الأزدي"، ووقع في المطبوعة"الأودي" بالواو بدل الزاي، وهو تصحيف. محمد بن يعلى: هو السلمي الكوفي، ولقبه"زنبور"، وهو ضعيف، وقال البخاري"يتكلمون فيه". أبو الخطاب البصري: لم أعرف من هو؟ ولكن ذكر الدولابي في الكنى 1: 167"أبو الخطاب عبد الله"، ثم قال: "وروى محمد بن عبد الله بن عمار عن المعافى بن عمران عن عبد الله أبي الخطاب عن شهر بن حوشب" فذكر حديثًا. ولم يبين أكثر من ذلك، ولم أجد ترجمته. (2) الإسناد 425- عبد الملك بن حسين: هو أبو مالك النخعي الواسطي، اشتهر بكنيته وبها ترجم في التهذيب 12: 219، وترجمه ابن أبي حاتم باسمه 2/2/347. وهو ضعيف ليس بشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 موسى البزار، عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس، قال: الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحُداته. 428- حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن عَبَّاد، وشَبابة، قالا حدثنا شعبة، عن الحكَم، عن مجاهد، قال: الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب. 429- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا عتَّاب بن زياد، عن عكرمة، قال: الرعد مَلك في السحاب، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل. 430- وحدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز. 431- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن عكرمة، قال: إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه، فذلك الصوت تسبيحه. 432 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، قال: الرعد مَلك. 433- وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: مَلك. 434- حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد، فقال: الرعد مَلك (1) .   (1) الخبر 434- هذا إسناد منقطع: موسى بن سالم أبو جهضم: ثقة، ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة. "أبو الجلد": بفتح الجيم وسكون اللام وآخره دال مهملة، ووقع في الأصول هنا، وفي الروايات التالية"أبو الخلد" بالخاء بدل الجيم، وهو تصحيف. وأبو الجلد: هو جيلان -بكسر الجيم- بن أبي فروة، ويقال: ابن فروة الأسدي البصري، كما ذكر البخاري في ترجمته في الكبير 1/2/250. وقال ابن أبي حاتم 1/1/547: "صاحب كتب التوراة ونحوها". ثم روى عن أحمد بن حنبل أنه وثقه. وترجمه ابن سعد 7/1/161، وقال: "أبو الجلد الجوني، حي من الأزد، واسمه: جيلان بن فروة، وكان ثقة". وذكره ابن حبان في الثقات: 157، والدولابي في الكنى 1: 139، والزبيدي في شرح القاموس (جلد) و (جيل) . وذكره الحافظ في لسان الميزان في الأسماء 2: 144، ووعد بترجمته في الكنى"أبو الجلد"، ثم لم يفعل، وروى عنه الطبري أثرًا في التاريخ 2: 203. وسيأتي في الخبر: 445 أنه"رجل من أهل هجر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 435- حدثنا المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي، عن عكرمة، قال: الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل (1) . 436- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكَم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد، قال: سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه (2) . وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد، فيكون منه ذلك الصوت. * ذكر من قال ذلك: 437- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل، عن أبي كثير، قال: كنت عند أبي الجَلد، إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه:"كتبتَ تَسألني عن الرّعد، فالرعد الريح (3) . 438- حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عِمْران بن مَيسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفُرات، عن أبيه (4) قال: كتب ابن عباس   (1) عمر بن الوليد الشني أبو سلمة العبدي: ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما، وقال أبو حاتم: "ما أرى بحديثه بأسًا". وهو مترجم في التعجيل: 304، وابن أبي حاتم 3/1/ 139. "الشني": بفتح الشين المعجمة، كما في المشتبه: 279. ووقع في المطبوعة بالمهملة، وهو تصحيف. (2) الإسناد 436- سعد بن عبد الله بن عبد الحكم: لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم 2/1/ 92، وقال: "سمعت منه بمكة وبمصر، وهو صدوق". (3) الإسناد 437- هو إسناد مشكل. ما وجدت ترجمة"بشر بن إسماعيل"، وما عرفت من هو. ثم لم أعرف من"أبو كثير" الراوي عن أبي الجلد. وسيأتي هذا الإسناد مرة أخرى: 443. (4) الإسناد 438- عمران بن ميسرة المنقري: ثقة، من شيوخ البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم. ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي: ثقة مأمون حجة. الحسن بن الفرات: ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. أبوه: فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز التميمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة، إنما هو يروى عن التابعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد ريح (1) . قال أبو جعفر: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد، فمعنى الآية: أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب، فغير كائن في الصيِّب، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع، فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد (2) . لأنه قد قيل: إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا، فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه"الرعد"، لو كان مع الصيِّب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم -إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس- أنّ معنى الآية: أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد، فلا شيء في قوله"فيه ظلماتٌ ورَعدٌ" متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته. وأما البَرْق، فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:- 439- حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي، قال: حدثنا أبو عاصم، -ح- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، -ح- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري، عن سَلمة بن كُهيل، عن سعيد بن أشْوَعَ، عن ربيعة   (1) الأخبار 419 - 438 جميعًا: لم يذكرها ابن كثير ولا السيوطي في الدر المنثور، وذكر البغوي في تفسيره 1: 99 - 100، بعضها، والقرطبي 1: 187 وما بعدها. (2) في المطبوعة: "على أنه لو كان فيه يمر، لم يكن له صوت مسموع، فلم يكن هناك رعب" وهو من تبديل النساخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 بن الأبيض، عن علي، قال: البرق: مخاريقُ الملائكة (1) . 440- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين، عن أبي مالك، عن السُّدّيّ، عن ابن عباس: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزْجرون بها السحاب. 441- وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرَّعد الملَك، والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد. وقال آخرون: هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ. * ذكر من قال ذلك: 442- حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، بذلك. وقال آخرون: هو ماء. * ذكر من قال ذلك: 443- حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل، عن أبي كثِير، قال: كنت عند أبي الجَلْد، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه:"كتبت إليّ تسألني عن البرق، فالبرق الماء". 444- حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عمران بن مَيسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق، فقال: البرق ماء. 445- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن رجل، من أهل البصرة من قُرَّائهم، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد -رجل من أهل هَجَر- يسأله عن البرق، فكتب إليه:"كتبت إليّ تسألني عن البرق، وإنه من الماءِ". وقال آخرون: هو مَصْع مَلَك (2) . 446- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: البرق، مَصْع مَلك (3) . 447- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام، عن محمد بن مُسلم الطائفي، قال: بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه، وجهُ إنسان، ووجه ثَور، ووجه نَسر، ووجه أسد، فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق (4) . 448- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن وهب بن سليمان، عن شُعيب الجَبَائي قال: في كتاب الله: الملائكة حَمَلة العرش، لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق   (1) الإسناد 439- سلمة بن كهيل الحضرمي: ثقة معروف، سعيد بن أشوع: هو سعيد ابن عمرو بن أشوع الكوفي القاضي، نسب إلى جده. وهو ثقة، أخرج له الشيخان في الصحيحين، ربيعة بن الأبيض -الذي روى عن علي- لم أجد له ترجمة إلا في كتاب الثقات لابن حبان: 184. قال: "ربيعة بن الأبيض، يروى عن علي بن أبي طالب، روى عنه ابن أشوع". المخاريق جمع مخراق: وهو منديل أو نحوه يلوى فيضرب به، ويلف فيفزع به، وهو من لعب الصبيان، ومنه سمى السيف مخراقًا. (2) المصع: الضرب بالسيف أو السوط أو غيرهما. والمصاع: المجالدة بالسيف. يعني أن الملك يضرب السحاب بمخراقه. (3) الإسناد 446- عثمان بن الأسود بن موسى المكي: ثقة ثبت كثير الحديث، يروى عن مجاهد، ويروى عنه سفيان الثوري. (4) الإسناد 447- محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي: وثقه ابن معين، وقال ابن مهدي: "كتبه صحاح"، وضعفه أحمد بن حنبل، وأخرج له مسلم في صحيحه حديثًا واحدًا متابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 (1) . وقال أميةُ بن أبي الصلت: رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنَّسْرُ لِلأُخْرَى، وَلَيْثٌ مُرْصِدُ (2) 449- حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جُريج، عن مجاهد، عن ابن عباس: البرق ملك. 450- وقد حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق، يُصيب منه من يشاء (3) . قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب، كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه (4) . وذلك أن المِصَاعَ عند العرب، أصله: المجالَدَةُ بالسيوف، ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب، كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به (5) .   (1) الأثر 448- وهب بن سليمان الجندي -بفتح الجيم والنون- اليماني، قال البخاري في الكبير 4/2/ 169 - 170: "عن شعيب الجبائي، قوله، روى عنه ابن جريج". ولم أجد له ترجمة عند غيره. شعيب الجبائي: بفتح الجيم والباء الموحدة مخففة، نسبة إلى"جبأ"، بوزن"جبل"، وهو جبل في اليمن قرب الجند، كما قال ياقوت وغيره. وشعيب هذا ترجمه البخاري في الكبير 2/2/ 219. وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/ 353، قال: "شعيب الجبائي: يماني، يروى عن الكتب [يريد الكتب المنسوبة لأهل الكتاب من الأساطير] ، روى عنه سلمة بن وهرام"، ثم جزم ابن أبي حاتم بأنه"شعيب بن الأسود"، ثم روى بإسناده عن زمعة، عن شعيب بن الأسود، قال: أجد في كتاب الله". وله ترجمة في لسان الميزان 3: 150 وقال: "أخباري متروك". ثم ذكر شيئًا مما لا يقبله العقل من كلامه، وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان قد قرأ الكتب". (2) ديوانه: 25، وسيأتي في تفسير آية الرعد: 35 (13: 109 بولاق) . ورواية ديوانه: "تحت يمنى رجله، والنسر لليسرى". قال الطبري في الموضع الآخر: "كأنه قال: تحت رجله، أو تحت رجله اليمنى". والضمير في قوله: "رجله"، يعنى به إسرافيل، وذكره في شعره قبل. وفي ديوانه، وفي الموضع الآخر من الطبري: "زحل"، كأنه يعني البروج، ولكن استدلال الطبري هنا واضح، دال على أن روايته"رجل". (3) الأخبار 439 - 450: لم تذكر في ابن كثير، ولا في الدر المنثور. وانظر البغوي 1: 99 - 100، والقرطبي 1: 188. (4) في المطبوعة: "إزجاء الملك السحاب، مصعه إياه بها". (5) المجالدة: المضاربة بالسيوف وغيرها في المصارعة والقتال، من الجلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 إِذَا هُنَّ نَازَلْنَ أَقَرَانَهُنَّ ... وَكَانَ الْمِصَاعُ بِمَا فِي الْجُوَنْ (1) يقال منه: ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال:"مَصْعُ ملك"، إذْ كان السحاب لا يماصع الملك، وإنما الرعد هو المماصع له، فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصِْعًا. وقد ذكرنا ما في معنى"الصاعقة" - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى. وأما تأويل الآية، فإن أهل التأويل مُختلفون فيه: فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما- 451- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت": أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم -أي لشدة ضوء الحق- كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين (2) . والآخر: ما- 452- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق" إلى"إنّ الله عَلى كل شيء قدير"، أما الصيب فالمطر (3) . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ، فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه (4) ، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان (5) ، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن يَنزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان (6) ، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا (7) . فكانوا إذا هلكت أموالهم، ووُلد لهم الجواري، وأصابهم البلاء (8) ، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما (9) . والثالث: ما- 453- حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء"، كمطر،"فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ" إلى آخر الآية، هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل، مُراءَاةً للناس، فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ، وأما البرقُ فالإيمان، وهم أهل الكتاب.   (1) ديوانه: 15، وزعم الطبري كما ترى أنه أراد جواري يلعبن بحليهن ويجالدن بها. وقد أخطأ المعنى. وإنما أراد الأعشى ما هو أبلغ. وذلك أن الأقران جمع قرن: وهو الذي يقارنك في القوة والشجاعة، وأراد به الرجال، وينازلن: أراد ما يكون منهن من المداعبة والممارسة إرادة الغلبة على عقول الرجال وعزائمهم. والجون، جمع جونة: وهي سلة صغيرة مستديرة مغشاة بالأدم يكون فيها الطيب. ويقال أيضًا: "جؤنة وجؤن" بالهمز. وذكر الأعشى المعركة القديمة الدائرة بين الرجال والنساء، يتخذن الزينة والطيب سلاحًا، فيتصدين للرجال ابتغاء الظفر والغلبة، والفتنة التي تصرع الألباب والعزائم، فيقع الرجال أسرى في أيديهن. (2) الخبر 451- ذكره السيوطي في الدر المنثور بتمامه 1: 32 - 33، ونسبه أيضًا لابن إسحاق، وابن أبي حاتم. وفيه وفي المخطوطة"من الخلاف والتخويف منكم" ونقل ابن كثير بعضه 1: 100. (3) في المطبوعة: "وأما الصيب والمطر"، وهو خطأ. (4) في الأصول: "مشوا"، وصححناه من الدر المنثور والشوكاني. (5) في الأصول: "قاما مكانهما" بغير واو، وفي إحدى النسخ المخطوطة: "فقاما مكانهما"، واتفقت سائر الأصول وما نقل في الدر المنثور والشوكاني على حذف الفاء، والجملة لا تستقيم، فجعلناها"وقاما"، وهو صواب العبارة. (6) في الدر المنثور: "وولدهم، وأصابوا. . "، وفي الشوكاني: "وأولادهم وأصابوا. . " (7) في المخطوطة: "إذا أضاء لهما مشيا، وإذا أظلم عليهما قاما". وفي الدر المنثور: "يمشيان إذا أضاء بهما البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا"، وفي الشوكاني: "يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا"، وأجودهن ما في المخطوطة، وما في المطبوعة. (8) في الدر المنثور والشوكاني: "إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء". (9) الحديث 452- نقل في الدر المنثور 1: 32، والشوكاني 1: 36 - 37، وسيأتي في ص 354 قول الطبري عن هذا الحديث وعن إسناده: "ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. " وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد محمد شاكر في هذا الإسناد فيما مضى في الخبر رقم: 168. ويقول أحمد محمد شاكر عفا الله عنه: وحق لأبي جعفر رحمه الله أن يرتاب في إسناده. فإن هذا الإسناد فيه تساهل كثير، من جهة جمع مفرق التفاسير عن الصحابة في سياق واحد، تجمعه هذه الأسانيد، كما بينا آنفًا. فإذا كان الأمر في تفسير معنى آية، كان سهلا ميسورًا قبوله، إذ يكون رأيًا أو آراء لبعض الصحابة في معنى الآية، وما في ذلك بأس. أما إذا ارتفع الخبر إلى درجة الحديث، بالإخبار عن واقعة معينة أو وقائع، كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أسباب لنزول بعض الآيات، أو نحو ذلك، مما يلحق بالحديث المرفوع لفظًا أو حكمًا -كان قبول هذا الإسناد- إسناد تفسير السدي- محل نظر وارتياب. إذ هو رواية غير معروف مصدرها معرفة محددة: أي هؤلاء الذي قال هذا؟ وأيهم الذي عبر عنه باللفظ الذي جاء به؟ نعم، إن ظاهره أنه عن الصحابة: إما ابن عباس، وإما ابن مسعود، وإما"ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" - فقد يقول قائل: إن مرجع الرواية فيه إلى الصحابة، وسواء أعرف الصحابي الراوي أم أبهم اسمه، فإن ذلك لا يخرجه عن رواية الصحابة، وجهالة الصحابي لا تضر؟ ولكن سياق هذه الروايات المطولة المفصلة، في التفسير وفي الحوادث المتعلقة بأسباب النزول، مثل الرواية التي هنا في هذا الموضع، مع إعراض أئمة الحديث، الذين خرجوا الروايات الصحيحة، والروايات المقبولة مما هو دون الصحيح - عن إخراج هذه الرواية ونحوها، وإعراض مؤرخي السيرة عن روايتها أيضًا، كل أولئك يوجب الريبة في اتصال مثل هذه الرواية، وفي الجزم بنسبتها إلى الصحابة. إذ لعلها مما أدرج في الرواية أثناء الحديث بها. والاحتياط في نسبة الحديث المرفوع وما في حكمه واجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وإذا أظلم عليهم، فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه (1) . والرابع: ما- 454- حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء"، وهو المطر، ضرب مَثله في القرآن يقول:"فيه ظلمات"، يقول: ابتلاء،"ورعد" يقول فيه تخويف،"وبرق"،"يكاد البرق يخطف أبصارهم" (2) ، يقول: يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين،"كلما أضاء لهم مَشوا فيه". يقول: كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا، وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر (3) يقول:"وإذا أظلم عَليهم قاموا"، كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [سورة الحج: 11] (4) . ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف: 455- فحدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: إضاءة البرق وإظلامُه، على نحو ذلك المثَل. 456- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثلَه.   (1) الخبر 453- في الدر المنثور 1: 32، والشوكاني 1: 37، مع اختلاف يسير في اللفظ. (2) في الدر المنثور والشوكاني: "رعد وبرق - تخويف". (3) في المطبوعة: "قالوا رجعوا إلى الكفر"، وهو خطأ محض. (4) الخبر 454- في الدر المنثور 1: 32، والشوكاني 1: 36، وبعضه في تفسير ابن كثير 1: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 457- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله. 458- وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، في قول الله:"فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ" إلى قوله"وإذا أظلم عليهم قاموا"، فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش، قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها، فانقُطعَ به، فلم يصبر على بلائها، ولم يَحتسب أجرَها، ولم يَرْجُ عاقبتها (1) . 459- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة:"فيه ظلمات ورعد وبرق"، يقول: أجبنُ قوم (2) لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت، والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال:"يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه"، يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ."وإذا أظلم عليهم قاموا" يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصَابهم البلاءُ، قاموا متحيرين (3) . 460- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فيه ظلمات ورعد وبرق"، قال: مَثَلُهم   (1) الأثر 458- في الدر المنثور 1: 33، وهو جزء من أثر قتادة بتمامه، ونصه هناك: "فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة عيش، قالوا: إنا معكم ومنكم. وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء، فقحقح عند الشدة، فلا يصبر لبلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها". وقوله في الدر المنثور"قحقح"، أظنه خطأ، وإنما هو حقحق كما في أصول الطبري. والحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر. يريد أنه يسرع إسراعًا في حيرته حتى يهلكه التعب، وذلك أن المنافق لا يصبر على البلوى صبر المؤمن الراضي بما شاء الله وقدر. وقوله"فانقطع به" بالبناء للمجهول يقال للدابة وللرجل"قطع به وانقطع به" بالبناء للمجهول، إذا عجز فلم ينهض، وأتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه، وانقطع رجاؤه. وفي المخطوطة"فتقطع به" وليست بشيء. وفي المطبوعة: "وإذا أصابته شدة". (2) في المطبوعة: "أخبر عن قوم"، وهو كلام بلا معنى. (3) الأثر 459- لم أجده بلفظه، وأثر قتادة في الدر المنثور 1: 33 شبيه به في المعنى دون اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة، فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة، فكذلك قوله:"كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا"، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس،"ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم". قال أبو جعفر: 461- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان الباهلي، عن الضحاك بن مُزَاحم،"فيه ظلمات"، قال: أما الظلمات فالضلالة، والبرق الإيمان (1) . 462- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله:"فيه ظلمات ورَعد وبرق"، فقرأ حتى بلغ:"إنّ الله على كل شيء قدير"، قال: هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق. 463- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جُريج: ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له -والمنافق أكرهُ خلق الله للموت- كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرُّوا من الصواعق (2) . 464- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء في قوله:"أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق"، قال: مثَل ضُرِبَ للكافر (3) .   (1) الأثر 461- في الأصول"أبو نميلة" بالنون، وهو خطأ، والصواب"أبو تميلة" بالتاء مصغرًا، وهو يحيى بن واضح، كما مضى في: 392. (2) في المخطوطة: "كما إذ كانوا بالبر في المطر. . "، وهو شبيه بالصواب. والبراز: الفضاء من الأرض البعيد الواسع، ليس به شجر ولا غيره مما يستتر به. (3) الآثار 460 - 464: لم أجدها في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه، فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته، وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه (1) ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته (2) ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه؛ وقيامَه في الظلام، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه (3) . فتأويل الآية إذًا -إذْ كان الأمر على ما وصفنا- أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين، وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر، مكذِّبون، ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون، على عمًى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلالة، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [فيه] الهداية (4) ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلون، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء   (1) في المخطوطة: "بضلالته. . . بنور إيمانه". (2) في المطبوعة: "وتحير فؤاده". والنخب: الجبن وضعف القلب. ورجل نخب ونخيب ومنخوب الفؤاد: جبان لا خير فيه، كأنه منتزع الفؤاد، فلا فؤاد له. (3) في المطبوعة: "باستقامته. . بحيرته في ضلالته. . " (4) في المخطوطة: "سرعا" غير واضحة ولا منقوطة. ولعل الصواب"شرعا" من قولهم شرعت الإبل الماء: أي دخلته وخاضت فيه لتشرب منه. والمنافق يخوض في الإيمان بلسانه وفي الكفر بقلبه. وزدت ما بين القوسين ليستقيم المعنى. وفي المطبوعة بعد: "الهداية في الكفر الذي كانوا عليه"، بغير ألف الاستفهام، وهو خطأ لا يستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وليلة مظلمة (1) يحدوها رعدٌ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه (2) ، كثير خَطرانه (3) ، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعقُ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق. فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق، والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه، إما في العاجل وإما في الآجل، أنْ يحلّ بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ - مثلٌ (4) . فهم من وَجلهم، أن يَكون ذلك حَقًّا، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونزول النَّقِمَات (5) . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت"، يعني بذلك: يتقون وَعيدَ الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حَذَرًا على نفسه منها. وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم   (1) في المطبوعة: "وليل مظلمة"، وهو خطأ بين. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يحذوها" بالذال المعجمة، وهو خطأ. وإنما هو من حداء السائق بإبله: وهو غناؤه لها وزجره إياها، وهو يسوقها. جعل صوت الرعد حداء للسحاب. واستطار البرق: سطع وشق السحاب وانتشر في جوانب الغمام. (3) في المخطوطة: "خطواته" غير منقوطة، وهو تحريف. من قولهم خطر بسيفه أو سوطه يخطر خطرانًا: إذا رفعه مرة ووضعه أخرى، شبه شقائق البرق بالسوط يلمع مرة ويخفى أخرى. (4) قوله"مثل" خبر مبتدأ محذوف، فسياق الجملة كما ترى: أما الرعد والصواعق، فمثل لما هم عليه من الوجل. . (5) النقمات: جمع نقمة مثل كلمات وكلمة، وهي العقوبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول (1) . وإن يكن غيرَ صحيح، فأولى بتأويل الآية ما قلنا، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم (2) ، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية. وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله"حَذَرَ الموت"، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم (3) كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه، حَذَرَ العطب والموت على نفسه، أنْ تَزهق من شدتها. وإنما نصَب قوله"حَذَرَ الموت" على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك:"زُرْتك تَكرمةً لك"، تريد بذلك: من أجل تكرمتك، وكما قال جلّ ثناؤه، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) [سورة الأنبياء: 90] على التفسير للفعل (4) . وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله:"حَذَرَ الموت"، حذرًا من الموت.   (1) انظر الحديث رقم: 452 والتعليق عليه. (2) في المطبوعة: "قصصهم"، ولا بأس بها. وبعد ذلك في المخطوطة: "أنهم عارفون يخادعون الله. . "، ولا معنى لإقحام قوله: "عارفون". (3) في المطبوعة: "العقاب المهلك. . " بدلوا لفظ الطبري، ليوافق ما اعتادوه من الكلام. (4) قوله"على التفسير للفعل"، أي أنه مفعول لأجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 465- حدثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر، عنه. وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به (1) ، حَذَرًا من الموت، وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم. وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت"، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت، ويتأولان في ذلك قوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [سورة المنافقون: 4] . وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته، كقُزْمان، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد، أو دونه (2) . وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركُهم مُعاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقين، فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين، إلا بالتخذيل عنه (3) . ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم، إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ   (1) في المطبوعة"مراد به"، وهما سواء. (2) هذه الجملة في المخطوطة هكذا: "كقزمان الذي لم يقم مقامه من المؤمنين كثير أحد ودونه" وهي عبارة مبهمة. وقد أثبت ما في المطبوعة، وجعلت"ودونه"، "أو دونه" ليستقيم المعنى. ويدل على ذلك أن عدة الذين قتلوا يوم أحد من المشركين اثنان وعشرون رجلا، قتل قزمان وحده منهم عشرة، وقتل علي بن أبي طالب أربعة، وقتل حمزة بن عبد المطلب ثلاثة، وقتل عاصم ابن ثابت بن الأقلح رجلين، وقتل سعد بن أبي وقاص رجلا واحدًا. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل رجلا صبرًا، وقتل آخر بيده صلى الله عليه وسلم. وقزمان حليف بني ظفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لمن أهل النار. فلما أبلى يوم أحد، قيل له: أبشر! قال: بماذا أبشر؟ فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي! ولولا ذلك ما قاتلت. ولما اشتدت به جراحته وآذته، أخذ سهمًا من كنانته فقتل به نفسه. (3) التخذيل: حمل الرجل على خذلان صاحبه، وتثبيطه عن نصرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف، وإن اتقوْا عقابه، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم (1) ، وحُلوله بِساحتهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة، للذي في قلوبهم من مَرَضها، والشكّ في اعتقادها، فقال:"والله مُحيطٌ بالكافرين"، بمعنى جَامِعُهم، فمُحلٌّ بهم عُقوبته. وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما:- 466- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"والله مُحيط بالكافرين"، قال: جامعهم في جهنم (2) . وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:- 467- حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"والله مُحيط بالكافرين"، يقول: الله منزلٌ ذلك بهم من النِّقمة (3) . 468- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، في قوله:"والله محيط بالكافرين"، قال: جامِعُهم. ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم، فقال:"يكاد البرق"، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.   (1) في المطبوعة: "بعقوبتهم"، وفي بعض المخطوطات: "بعقولهم"، وكلتاهما خطأ محض. والعقوة: ساحة الدار، وما كان حولها وقريبًا منها. (2) الأثر 466- من تمام أثر في الدر المنثور 1: 33. (3) الخبر 467- من تمام خبر في الدر المنثور 1: 32 - 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 "يَخطفُ أبصَارهم"، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه. 469- كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"يكاد البرقُ يخطف أبصارهم"، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل (1) . قال أبو جعفر: والخطف السلب، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة (2) . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان: خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ متينةٍ ... تَمُدُّ بها أَيدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ (3)   (1) الخبر 469- لم أجده. والتمع البصر أو غيره: اختلسه واختطفه وذهب به. ومنه الحديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة، فلا يرفع بصره إلى السماء يلتمع بصره"، أي يختلس. (2) الذي ذكره ابن الأثير في النهاية أن الخطفة: ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية، لأن كل ما أبين من حي فهو ميت، وذلك أن النهي عن الخطفة كان لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، رأى الناس يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم ويأكلونها. قال: والخطفة المرة الواحدة من الخطف، فسمى بها العضو المختطف، وأما النهبة والنهبى، فاسم لما ينهب، وجاء بيانها في حديث سنن أبي داود 3: 88"فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها، فقام عبد الرحمن بن سمرة خطيبًا، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبى". وفي الباب نفسه من سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلى إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة". (3) ديوانه: 41، وقبله البيت المشهور: فَإِنَّكَ كَالليلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ خطاطيف: جمع خطاف. وحجن: جمع أحجن، وهو المعوج الذي في رأسه عقافة. وقال"تمد بها" ولم يقل: تمدها، لأنه لم يرد مد الحبال ذوات الخطاطيف، وإنما أراد اليد التي تمتد بها وفيها الخطاطيف، لأن اليد هي الذي تتبع الشيء حيث ذهب (انظر ما سيأتي من إدخال الباء على مثل هذا الفعل ص 360 س: 6 - 9) وقوله"إليك" متعلق بقوله"نوازع". ونوازع جمع نازع ونازعة، من قولهم نزع الدلو من البئر ينزعها: جذبها وأخرجها. أي أن هذه الأيدي تجذب ما تشاء إليك، وترده عليك. والبيت متصل بالذي قبله، وبيان لقوله"فإنك كالليل الذي هو مدركى"، أراد تهويل الليل وما يرى فيه، تتبعه حيث ذهب خطاطيف حجن لا مهرب له منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره، مثلا. ثم قال تعالى ذكره:"كلما أضاء لهم"، يعني أن البرق كلما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء، وإصابةِ الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، ومنافعها، والثراء في الأموال، والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك، ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم، وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) [سورة الحج: 11] . ويعني بقوله"مشوا فيه"، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه، إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها. "وإذا أظلم"، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم. ويعني بقوله"عليهم"، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم (1) ، أو إدبارٍ من   (1) في المطبوعة"وإنالة عدوهم"، وهو خطأ. والإدالة: الغلبة، وهي من الدولة في الحرب، وهو أن يهزم الجيش مرة، ويهزمه الجيش الآخر تارة أخرى. يقال: اللهم أدلنا من عدونا! أي اللهم اجعل لنا الدولة عليه وانصرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم (1) ، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره (2) إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق، فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ   (1) في المطبوعة: "قاموا على نفاقهم". وهذه أجود. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "كما قام السائرون في الصيب"، وهو خطأ، صوابه من مخطوطة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} قال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم (1) - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين، أعني قوله:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق"، وقوله:"يكادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم كلما أضاء لهم مَشَوْا فيه"، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم، وعيدًا من الله لهم، كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: "والله مُحيط بالكافرين"، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم، لإحلال سَخَطه بهم، وإنزال نِقْمته عليهم، ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته، ومخوِّفَهم به عقوبته، ليتقوا بأسَه، ويُسارعوا إليه بالتوبة. 470- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن حبير، عن ابن عباس:"ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم"، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته (2) . 471- وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ثم قال -يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس:"ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم" (3) . قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله:"لذهب بسمعهم وأبصارهم"، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره، وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: (آتِنَا غَدَاءَنَا) [سورة الكهف: 62] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا (4) . قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:" لذهب بسمعهم" فوحَّد، وقال:"وأبصارهم" فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة (5) ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟ (6) قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق، وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة (7) . ويحتج في ذلك بقول الله: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [سورة إبراهيم: 43] ، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم، وبقوله: (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [سورة القمر: 45] ،   (1) في المخطوطة: "دون سائر أجسامهم". (2) الخبر 470- من تمام الخبر الذي ساقه في الدر المنثور 1: 32 - 33، وقد مضى صدره آنفًا: 451، 467. (3) الأثر 471- هو من الأثر السالف رقم: 460. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 19. وانظر ما مضى ص 357 تعليق: 3 (5) في المخطوطة: "أن الخبر بالسمع"، وهذه أجود، وأجودهن"الخبر عن السمع" كما سيأتي في الذي يلي. (6) في المطبوعة: "كما الخبر في الأبصار"، والذي في المخطوطة أجود. (7) في المخطوطة: "لمعنى جماعة"، وهي صواب جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع، فكان في دلالته على المراد منه، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه (1) . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار -من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَنَا زَمَنٌ خَمِيصُ (2) فوحّد البطن، والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) } قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى"قدير" قادر، كما معنى"عليم" عالم، على ما وصفتُ فيما   (1) في المطبوعة: "فكان فيه دلالة على المراد منه، وأدى معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مغنيًا عن جماعة"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: ". . على المراد منه واوا معنى الواحد. . "، وقد صححت قراءتها كما ترى. وقوله" مغنيًا عن جماعه" أي عن جمعه، والطبري يكثر استعمال"جماع" مكان جمع، كما مضى وكما سيأتي. (2) البيت من أبيات سيبويه التي لا يعلم قائلها، سيبويه 1: 108، والخزانة 3: 379 - 381، وانظر أمالي ابن الشجري 1: 311، 2: 35، 38، 343، وروايته: "في نصف بطنكم". وفي المخطوطة: "تعيشوا"، مكان"تعفوا"، وهي رواية ذكرها صاحب الخزانة. وروايتهم جميعًا "فإن زمانكم. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم (1) . * * * القول في تأويل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون (2) ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم (3) ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر، مع استبطانه خلافَ ذلك، ومرض قلبه، وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ (4) . وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه، غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى"اعبُدوا ربكم": وحِّدوا ربكم. وقد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة،   (1) انظر تفسير قوله تعالى: "الرحيم"، فيما مضى: ص 126. (2) في المخطوطة: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، وهما سواء في المعنى. (3) في المطبوعة: ". . وعلى سمعهم وأبصارهم"، والصواب حذف"وأبصارهم"، لأنها غير داخلة في معنى الطبع، كما مضى في تفسير الآية. (4) في المخطوطة: "على ضرر ولا نفع"، وهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 والتذلل له بالاستكانة (1) . والذي أراد ابن عباس -إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله:"اعبدوا ربكم" وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه (2) . 472- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله:"يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم"، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم (3) . 473- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم" يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم (4) . قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون. * * *   (1) مضى في تفسير قوله تعالى"إياك نعبد" ص: 160. (2) في المخطوطة"وحدوه له أفردوا. . "، وليس لها معنى. (3) الخبر 472- في الدر المنثور 1: 33، وابن كثير 1: 105، والشوكاني 1: 38. وفي الدر والشوكاني: "من الكفار والمؤمنين"، ووافق ابن كثير أصول الطبري. (4) الخبر 473- في الدر المنثور 1: 33، ولم ينسب إخراجه لابن جرير. وفي المخطوطة: "خلقكم والذين. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 القول في تأويل قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم، وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكُم له العبادة (1) لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم، وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم. وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله:"لعلكم تتقون": تُطيعون. 474- حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله:"لعلكم تتقون"، قال: لعلكم تطيعون (2) . قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه:"لعلكم تتقون"؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه، حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟ قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ، وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة (3) ، كما قال الشاعر: وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ، لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ! وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ (4) فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الْفَلا مُتَأَلِّقِ (5)   (1) في المطبوعة: "له بالعبادة" وهو خطأ. (2) الأثر 474- في الدر المنثور 1: 34. (3) يريد الطبري أن العرب تستعمل"لعل" مجردة من الشك، بمعنى لام كي، كما قال ابن الشجري في أماليه 1: 51. (4) لم أعرف قائلهما، ورواهما ابن الشجري نقلا عن الطبري، فيما أرجح، في أماليه 1: 51. (5) رواية ابن الشجري"في الملا". والفلا جمع فلاة: وهي الأرض المستوية ليس فيها شيء والصحراء الواسعة. والملا: الصحراء والمتسع من الأرض - فهما سواء في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن"لعل" في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا} وقوله:"الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا" مردود على"الذي" الأولى في قوله"اعبدُوا ربكم الذي خَلقَكم"، وهما جميعًا من نَعت"ربكم"، فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم، والخالقَ الذين من قبلكم، الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً (1) وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره -بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم (2) ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته -تعطُّفًا منه بذلك عليهم، ورأفةً منه بهم، ورحمةً لهم، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم، ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون. 475- كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة (3) ، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"الذي جعل لكم الأرض فراشًا" فهي فراشٌ يُمشى عليها، وهي المهاد والقرار (4) . 476- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة:"الذي جَعل لكم الأرض فراشًا"، قال: مهادًا لكم.   (1) في المطبوعة: "مهادًا وموطئًا"، وفي المخطوطة"مهادًا توتطا"، وكأن الصواب ما أثبتناه. والموطأ: المهيأ الملين الممهد. وسيأتي أن الفراش هو المهاد. (2) في المطبوعة"زيادة نعمه عندهم، وآلائه لديهم"، والصواب ما في المخطوطة. وقوله"عباده" مفعول: "يذكر ربنا. . ". (3) قوله"وعن مرة"، ساقطة من المطبوعة، وهذا هو الصواب. (4) الخبر 475- في الدر المنثور 1: 34، والشوكاني 1: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 477- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"الذي جعل لكم الأرض فراشًا"، أي مهادًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ (1) ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه، كما قال الفرزدق: سَمَوْنَا لِنَجْرَانَ الْيَمَانِي وَأَهْلِهِ ... وَنَجْرَانُ أَرْضٌ لَمْ تُدَيَّثْ مَقَاوِلُهْ (2) وكما قال نابغة بني ذُبيانَ: سَمَتْ لِي نَظْرَةٌ، فَرَأيتُ مِنْهَا ... تُحَيْتَ الْخِدْرِ وَاضِعَةَ الْقِرَامِ (3) يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت، فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.   (1) في المطبوعة"سماؤه"، وكلتاهما صواب، سماء البيت، وسماوته: سقفه. (2) ديوانه: 735، والنقائض: 600. ونجران: أرض في مخاليف اليمن من ناحية مكة. وذكر نجران، على لفظه وأصل معناه، والنجران في كلام العرب: الخشبة التي يدور عليها رتاج الباب. وديث البعير: ذلله بعض الذل حتى تذهب صعوبته. والمقاول: جمع مقول. والمقول والقيل: الملك من ملوك حمير. يقول: هي أرض عز عزيز، لم يلق ملوكها ضيما يذلهم ويحني هاماتهم. (3) ديوانه: 86، وروايته: "صفحت بنظرة". وقوله"صفحت"، أي تصفحت الوجوه بنظرة، أو رميت بنظرة متصفحًا. والقرام: ستر رقيق فيه رقم ونقوش. والخدر: خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب، وهو الهودج. ووضع الشيء: ألقاه. وتحيت: تصغير"تحت"، وصغر"تحت"، لأنه أراد أن ستر الخدر بعد وضع القرام لا يبدى منها إلا قليلا، وهذا البيت متعلق بما قبله وما بعده. وقبله: فَلَوْ كَانَتْ غَدَاةَ الْبَيْنِ مَنَّتْ ... وَقَدْ رَفَعُوا الْخُدُورَ عَلَى الْخِيَامِ صَفَحْتُ بنظرةٍ. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَرَائِبَ يستضئُ الحليُ فيها ... كَجمْرِ النارِ بُذِّرَ فِي الظَّلامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 478- كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"والسّماء بناء"، فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض. (1) 479- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قول الله:"والسماءَ بناءً"، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ. وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع. * * * القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنزل من السماء مطرًا، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات (2) - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه، وذكَّرهم به آلاءَه لديهم، وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة.   (1) الخبر 478- في الدر المنثور 1: 34، جمعه مع الخبر: 475 خبرًا واحدًا. (2) في المخطوطة: "زرعهم وغروسهم"، وهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم، وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل، ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ، والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل، كما قال حسان بن ثابت: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ? ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ (1) يعني بقوله:"ولستَ له بند"، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند (2) . 480- كما حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، أي عُدَلاء (3) . 481- حدثني المثنى، قال: حدثني أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبل، عن ابن أبي نَحيح، عن مجاهد:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، أي عُدَلاء (4) . 482- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله (5) .   (1) ديوانه: 8، روايته"بكفء"، وكذلك في رواية الطبري الآتية (18: 69 - 70 بولاق) وقصيدة حسان هذه، يهاجى بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، قبل إسلامه، وكان هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) في المطبوعة: "كان نظيرًا لشيء وشبيهًا". (3) الأثر 481- في الدر المنثور 1: 35، والعدلاء: جمع عديل، وهو النظير والمثيل، كالعدل. (4) الأثر- 481- في الدر المنثور 1: 35، والعدلاء: جمع عديل، وهو النظير والمثيل، كالعدل. (5) الخبر 482- في الدر المنثور 1: 34 - 35، والشوكاني 1: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 483- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (1) في قول الله:"فلا تَجعلوا لله أندادًا"، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. 484- حُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بِشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، قال: أشباهًا (2) . 485- حدثني محمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ، لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك (3) . فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه، أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونعمي التي أنعمتها عليكم (4) - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة،   (1) في المطبوعة: "ابن يزيد"، وهو خطأ. (2) الخبر 484- في الدر المنثور 1: 34، والشوكاني 1: 39. (3) الأثر 485- جاء مثله في خبر عن ابن عباس في ابن كثير 1: 105، والشوكاني 1: 39. وفي المطبوعة: "أي تقولوا: لولا كلبنا. . "، وليست بشيء. وفي المخطوطة"ونحو هذا" مكان"ونحو ذلك". والخبر الذي في ابن كثير، ساقه مطولا بالإسناد من تفسير ابن أبي حاتم، من طريق الضحاك بن مخلد، وهو أبو عاصم النبيل الذي في هذا الإسناد، عن شبيب، وهو ابن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، ولعل الطبري قصر بهذا الإسناد، لأنه يروي مثل هذه الروايات، بهذا الإسناد إلى عكرمة، عن ابن عباس، كما مضى برقم: 157. وعن ذلك إعراض ابن كثير عن نقل رواية الطبري، واختياره رواية ابن أبي حاتم. وسياق رواية ابن أبي حاتم -عن ابن عباس- فيها فوائد جمة. ولفظها: "قال: الأنداد، هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها"فلان". هذا كله به شرك". ثم قال ابن كثير: "وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت! قال: أجعلتني لله ندًّا؟! ". والحديث الذي يشير إليه ابن كثير، رواه أحمد في المسند بأسانيد صحاح، عن ابن عباس: 1839، 1964، 2561، 3247. وكذلك رواه البخاري في الأدب المفرد ص: 116 ونسبه الحافظ ابن حجر في الفتح 11: 470 للنسائي وابن ماجه. (4) في المطبوعة: "ونعمتي" بالإفراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وأخلصُوا ليَ العبادة، ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي (1) . * * * القول في تأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية: فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب. وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل (2) . ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين: 486- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نَزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله:"فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون"، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه (3) . 487- حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وأنتمْ تعلمون" أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض، ثم تجعلون له أندادًا (4) .   (1) في المطبوعة: ". . كل نعمة عليكم مني". وهذه أجود. (2) في المطبوعة: "أهل الكتابين التوراة والإنجيل". (3) الخبر 486- مضى صدره في رقم: 472، وتمامه في ابن كثير 1: 105، والدر المنثور 1: 34، والشوكاني 1: 39. (4) الأثر 487- في الدر المنثور 1: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين: 488- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:"فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون"، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل. 489- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا قَبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله (1) . 490- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"وأنتم تعلمون"، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل (2) . قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته، غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها، فقال جل ثناؤه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [سورة الزخرف: 87] ، وقال: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [سورة يونس: 31] .   (1) الإسناد 489- قبيصة، بفتح القاف: هو ابن عقبة بن محمد السوائي الكوفي، وهو ثقة معروف، من شيوخ البخاري، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، تكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري، بأنه يخطئ في بعض روايته، بأنه سمع من الثوري صغيرًا، ولكن لم يجرحه البخاري في الكبير 4/1/177، وقال ابن سعد في الطبقات 6: 281: "كان ثقة صدوقًا، كثير الحديث عن سفيان الثوري". وسأل ابن أبي حاتم (الجرح 3/2/126) أباه عن قبيصة وأبي حذيفة، فقال: "قبيصة أجل عندي، وهو صدوق. لم أر أحدًا من المحدثين يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره، سوى قبيصة بن عقبة، وعلي بن الجعد، وأبي نعيم - في الثوري". (2) الأثر 490- ذكره ابن كثير 1: 105، والدر المنثور 1: 35، بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 فالذي هو أولى بتأويل قوله:"وأنتم تعلمون" - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله، وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم، نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ثناؤه عني بقوله:"وأنتم تعلمون" أحدَ الحزبين، بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم، لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله:"يا أيها الناس اعبدُوا ربكم" - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله (1) ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه، كائنًا من كان من الناس، عربيًّا كان أو أعجميًّا، كاتبًا أو أميًّا، وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه:"إنّ الذين كفروا سَواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، وإياهم يخاطب بهذه الآيات، وضُرباءَهم يَعني بها (2) ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ -وهو الريب- مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي، وأنّي الذي أنزلته إليه، فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته (3) ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك -وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة (4) - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه، لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه، أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فأتوا بسورَة من مثله". 491- فحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"فأتوا بسورة من مثله"، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب. 492- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا   (1) في المخطوطة: "من أنه معنى بذلك. . "، وهما سواء. (2) في المطبوعة: "وأخبر بأهم نعوتها"، وهي في المخطوطة"+وحرناهم تعنى بها" غير منقوطة ولا بينة، فاختار المصححون لها قراءة لا تحمل معنى! والضرباء: جمع ضريب؛ فلان ضريب فلان: نظيره أو مثله. (3) في المطبوعة: "وبرهانه على نبوته". (4) في المطبوعة: "والدارية"، ولا معنى لها هنا، وستأتي بعد أسطر على الصواب. والذرابة: الحدة في كل شيء، وحدة اللسان وفصاحته ولدده. ذرب الرجل يذرب ذربًا وذرابة: فصح وصار حديد اللسان، فهو ذرب اللسان (بفتح الذال وكسر الراء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مَعمر، عن قتادة في قوله:"فأتوا بسورة من مثله"، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن (1) . 493- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد:"فأتوا بسورة من مثله"، مثلِ القرآن. 494- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله. 495- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"فأتوا بسورة مِنْ مثله"، قال:"مثله" مثلِ القرآن (2) . فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما (3) : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم. وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله:"فأتُوا بسورة من مثله"، من مثل محمد من البشر، لأن محمدًا بشر مثلكم (4) . قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [سورة يونس: 38] ، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه، فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد. فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله (5) "، فأتوا بسورة من مثله"،   (1) الأثر 492- في الدر المنثور 1: 35، والشوكاني 1: 40. (2) الآثار 493 - 495 في الدر المنثور 1: 35، والشوكاني 1: 40، وابن كثير 1: 108. (3) في المطبوعة: "اللذين ذكرنا عنهما". (4) يعني فأتوا بسورة من عند بشر مثل محمد. (5) في المطبوعة: "إنك ذكرت"، بغير فاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 من مثل هذا القرآن، فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟ قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه، وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنزله الله بلسان عربيّ، فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين، فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه. وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن (1) ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان، إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم، وكلامًا نزل بلسانهم، فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية، إذْ كنتم عربًا، وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم، وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نزل به القرآن، فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به، وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به، فليس لك علينا بهذا حجة (2) . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله (3) - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله، لأن مثله من الألسن ألسنكم (4) ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه، إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم -   (1) في المطبوعة: "بما احتج له عليهم"، أسقط"به". (2) في المطبوعة: "حجة بهذا" على التأخير. (3) في المطبوعة: "لسنا بأهله". (4) في المطبوعة: "ألسنتكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم (1) ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا -وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ (2) ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) } فقال ابن عباس بما: 496- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس:"وادعوا شُهداءكم من دون الله"، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، إن كنتم صادقين. 497- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"وادعوا شُهداءكم"، ناس يَشهدون. 498- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله. 499- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قال: قوم يشهدون لكم.   (1) يقول: "وأنتم. . . أقدر على اختلاقه. . "، مبتدأ وخبر، وما بينهما فصل. وفي المطبوعة مكان"ورصفه"، "ووضعه". والرصف: ضم الشيء بعضه إلى بعض ونظمه وإحكامه حتى يستوي. ومنه: كلام رصيف: أي محكم لا اختلاف فيه. (2) في المطبوعة"وهو وحده"، وهذه أجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 500- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"وادعوا شهداءكم"، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج:"شهداءكم" عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن (1) . وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله"فادعوا"، يعني: استنصروا واستغيثوا (2) ، كما قال الشاعر: فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ ... دَعَوْا: يَا لَكَعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ (3) يعني بقوله:"دعوْا يالكعب"، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم (4) . وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد، كما الشركاء جمع شريك (5) ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان -يعني به مُجالسَه، ونديمه - يعني به مُنادِمَه، وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه. فإذا كانت"الشهداء" محتملةً أن تكون جمعَ"الشهيد" الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء، لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من   (1) الآثار 496 - 500: في ابن كثير 1: 108 بعضها، والدر المنثور 1: 35، والشوكاني 1: 40، وفي المخطوطة في بعض المواضع: "أناس" مكان"ناس"، وهما سواء. (2) في المطبوعة: "واستعينوا"، وهما متقاربتان، والأولى أجود، وهي كذلك في معاني القرآن للفراء 1: 19. (3) البيت للراعي النميري، اللسان (عزا) . واعتزى: انتسب، ودعا في الحرب بمثل قوله: يا لفلان، أو يا للمهاجرين، أو يا للأنصار، والاسم العزاء والعزوة، وهي دعوى المستغيث. (4) في المطبوعة: "واستعانوا"، كما سلف في أختها قبل. (5) في المطبوعة: "كالشركاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟ وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة، ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين (1) . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم (2) ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن (3) ؟ ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [سورة الإسراء: 88] ، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى:"وإنْ كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين". يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة   (1) قوله"من المؤمنين" متعلق بقوله آنفًا "أن لهم شهداء. . "، يعني شهداء من المؤمنين. ثم فصل، لأن قوله"على حقيقة ما كانوا يأتون به. . " متعلق أيضًا، بشهداء. (2) في المطبوعة: "لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم". وتترع إلى الشيء: تسرع إليه، يقال في التسرع إلى الشر وما لا ينبغي. وما في المخطوطة"تتارعوا" صحيح في اشتقاق العربية، وإن لم تذكره المعاجم، وهو مثل تسرع وتسارع، سواء. (3) في المطبوعة"فمن أي الفرق. . "، وكلام الطبري استفهام واستنكار. لأن من المحال أن يشهد المؤمنون على هذا الباطل، والكفار وأهل النفاق يتسرعون إلى الشهادة بالباطل لإبطال الحق، فكان محالا أن يكون معنى"الشهداء" هنا: الذين يشهدون لهم، أن ما جاءوا به نظير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى. وصار حتما أن يكون معنى"الشهداء": الذين يظاهرونهم ويعاونونهم، كما جاء في الآية التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 من مثله، وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ، ويَصحَّ عندكم أنه تنزيلي وَوحيي إلى عبدي. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن لم تفعلوا"، إن لم تأتوا بسورة من مثله، فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم (1) ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه، وعلمتم أنه من عندي، ثم أقمتم على التكذيب به. وقوله:"ولن تفعلوا"، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا. 501- كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا"، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه (2) . 502- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا"، فقد بَين لكم الحق (3) . * * *   (1) في المطبوعة: "وقد تظاهرتم"، وما في المخطوطة أجود، وسيأتي بعد قليل بيان ذلك. (2) الأثر 501- ذكره السيوطي 1: 35 بنحوه، ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير. وكتب فيه خطأ مطبعيًّا"ابن جريج". (3) الأثران 501، 502- في الدر المنثور 1: 35، والشوكاني 1: 40. ولفظ الطبري في تفسير هذه الآية وفي التي تليها، وما استدل به من الأثر الأخير، يدل على أنه يرى أن جواب الشرط محذوف، لأنه معلوم قد دل عليه السياق؛ وجواب الشرط"فقد بين لكم الحق، وأقمتم على التكذيب به وبرسولي"، ثم قال مستأنفًا: "فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي، أنه جاءكم بوحيي وتنزيلي، بعد أن تبين لكم أنه كتابي ومن عندي". ولم أجد من تنبه لهذا غير الزمخشري، فإنه قال في تفسير الآية من كتابه"الكشاف" ما نصه: "فإن قلت: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار، انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت: إنهم إذا لم يأتوا بها، وتبين عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صح عندهم صدقه، ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا، استوجبوا العقاب بالنار. فقيل لهم: إن استبنتم العجز فاتركوا العناد. فوضع"فاتقوا النار" موضعه، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث إنه من نتائجه. لأن من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: "إن أردتم الكرامة عندي، فاحذروا سخطي". يريد: فأطيعوني واتبعوا أمري، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته: الإيجاز، الذي هو حلية القرآن، وتهويل شأن العناد، بإنابة اتقاء النار منابه، وإبرازه في صورته، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها". فقد تبين بهذا مراد الطبري، وأنه أراد أن يبين أن اتقاء النار غير داخل في الشرط، ولا هو من جوابه، ليخرج بذلك من أن يكون معنى الكلام: قصر اتقائهم النار، على عجزهم عن الإتيان بمثله. وتفسير الآتي دال على هذا المعنى تمام الدلالة. وهو من دقيق نظر الطبري رحمه الله وغفر للزمخشري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 القول في تأويل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله"فاتقوا النار"، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي، بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله. ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها، وأن الحجارة وَقُودها، فقال:"التي وَقودها الناس والحجارة"، يعني بقوله:"وَقُودُها" حَطبها، والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنزلة الحطب. فإذا ضَمت الواو من"الوقود" كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا، يراد بذلك أنها التهبتْ. فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 قيل: إنها حجارةُ الكبريت، وهي أشد الحجارة -فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت. 503- كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن مسعر، عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد، عن عبد الرحمن بن سَابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله:"وقُودها الناس والحجارة"، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين. 504- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا ابن عُيينة، عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود في قوله:"وقودها الناسُ والحجارة"، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء (1) .   (1) الخبر 503، 504- مسعر، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين: هو ابن كدام - بكسر الكاف وتخفيف الدال، وهو ثقة معروف، أحد الأعلام. عبد الملك بن مَيسرة الهلالي الكوفي الزراد، نسبة إلى عمل الزرود: ثقة كثير الحديث، من صغار التابعين. عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي: تابعي ثقة. عمرو بن ميمون الأودي: من كبار التابعين المخضرمين، كان مسلمًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يره. وهذا الخبر رواه الطبري بهذين الإسنادين وبالإسناد الآتي: 507. وفي الأول والثالث أن عبد الملك ابن ميسرة يرويه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون، وفي الثاني: 504"عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون" مباشرة، بحذف"عبد الرحمن بن سابط". ولو كان هذا الإسناد وحده لحمل على الاتصال، لوجود المعاصرة، فإن عبد الملك الزراد يروي عن ابن عمر المتوفى سنة 74، وعمرو بن ميمون مات سنة 74 أو 75. ولكن هذين الإسنادين: 503، 504 دلا على أنه إنما رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون. والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 261، من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود. فهذه طريق ثالثة تؤيد الطريقين اللذين فيهما زيادة عبد الرحمن في الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 1: 1101 - 111 من رواية الطبري، ونسبه لابن أبي حاتم والحاكم، ونقل تصحيحه إياه ولم يتعقبه. وذكره السيوطي 1: 36 وزاد نسبته إلى: عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والفريابي، وهناد بن السري في كتاب الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 505- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة"، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار (1) . 506- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج في قوله:"وقودها الناس والحجارة"، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم (2) . 507- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن مسعر، عن عبد الملك بن مَيسرة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء (3) . * * * القول في تأويل قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) } قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن"الكافر" في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء (4) ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نَعماءَه قِبَله. فمعنى قوله إذًا:"أعدت للكافرين"، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم، الذي جَعل لهم الأرض فراشًا، والسماء   (1) الخبر 505- ذكره ابن كثير 1: 111 دون أن ينسبه، والسيوطي 1: 36، ونسبه لابن جرير وحده. (2) الأثر 506- في ابن كثير 1: 111 دون نسبة. (3) الخبر 507- سبق تفصيل إخراجه مع 503، 504. (4) انظر ما مضى: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 بناءً، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة (1) ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق (2) . 508- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس:"أعدت للكافرين"، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر (3) . * * *   (1) قوله"المشركين" من صفة قوله آنفًا: "للجاحدين". (2) في المخطوطة: "بالأشياء"، وهو خطأ. (3) الخبر 508- في ابن كثير 1: 111، والدر المنثور 1: 36، والشوكاني 1: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 القول في تأويل قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} قال أبو جعفر: أما قوله تعالى:"وبشِّر"، فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ، إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه. وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه، وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة، فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي، وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً، دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك (1) ، ودون من أظهر تصديقك (2) ، وأقرّ   (1) في المطبوعة: "ما جئت به من الهدى". (2) في المخطوطة: "دون من أظهر. . " بحذف الواو، وهو قريب في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة، والجنة: البستان. وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره (1) ": تجري من تحتها الأنهار". لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض، فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد. 509- كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي عُبيدة، عن مسروق، قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها، وثمرها أمثالُ القِلال، كلما نُزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى، وماؤها يَجري في غير أخدود (2) . 510- حدثنا مجاهد [بن موسى] ، (3) قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا مِسعر بن كدام، عن عمرو بن مرة، عن أبي عُبيدة، بنحوه. 511- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عبيدة -فذكر مثله- قال: فقلت لأبي عُبيدة: من حدّثك؟ فغضب، وقال: مسروق.   (1) في المطبوعة: "فلذلك قال. . "، وما في المخطوطة أجود. (2) الأثر 509- في الدر المنثور 1: 38. وقال ابن كثير في تفسيره 1: 113: "وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود"، ولم يبين، وانظر ما سيأتي رقم: 517. (3) الإسناد 510- الزيادة بين القوسين من المخطوطة، وهو مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي، أبو علي الختلي (بضم ففتح) ، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 4/1/413، والصغير: 245، والخطيب في تاريخ بغداد 13: 265 - 266 وابن الأثير في اللباب 1: 345. مات مجاهد هذا في رمضان سنة 244. وشيخه يزيد: هو يزيد بن هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد، فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها، إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها، على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها. وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده، كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه، والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته (1) . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"كلما رُزقوا منها": من الجنات، والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل. ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله:"هذا الذي رُزقنا من قَبل". فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا. * ذكر من قال ذلك: 512- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا   (1) في المخطوطة: "والتفريق لعقوبته"، ولا معنى لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا:"هذا الذي رُزقنا من قبل"، قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا (1) إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. 513- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة:"قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل"، أي في الدنيا. 514- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"قالوا هذا الذي رزقنا من قبل"، يقولون: ما أشبهه به. 515- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله. 516- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل"، في الدنيا، قال:"وأتوا به مُتشابهًا"، يعرفونه (2) . قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله. 517- كما حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عُبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرُها مثل القلال، كلما نُزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى (3) .   (1) في الدر المنثور: "فينظروا"، وفي الشوكاني: "فنظروا"، وكذلك في المخطوطة. (2) الآثار 512 - 516: في تفسير ابن كثير 1: 113 - 114، والدر المنثور 1: 38، والشوكاني 1: 42. (3) انظر الآثار السالفة رقم: 509 - 511. وفي المخطوطة: "أمثال القلال" كما مر آنفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة، لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه:"وأتوا به متشابهًا"، لاشتباه جميعه في كل معانيه. وقال بعضهم: بل قالوا:"هذا الذي رزقنا من قبل"، لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم. * ذكر من قال ذلك: 518- حدثنا القاسم بن الحسين، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا شيخ من المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك: كُلْ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف (1) . وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال:"كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا"، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها، الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله، كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه (2) - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار   (1) الأثر 518- في ابن كثير 1: 114، والدر المنثور 1: 38. (2) في المطبوعة: "في وسطه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه (1) ، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها، فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله:"كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا"، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال. فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا (2) . فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟ قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه، لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه. بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله:"قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل"، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل، ومن جنسه   (1) في المطبوعة مكان قوله: "ذو غية"، "ذو غرة"، وفي المخطوطة: "ذو عته". والعته: نقص العقل، أو الجنون، وأجودهن ما أثبته عن كتاب حادي الأرواح لابن قيم الجوزية 1: 268، حيث نقل نص الطبري. (2) هذا التفصيل الذي ذكره الطبري من جيد النظر في معاني الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 في السِّمَات والألوان (1) - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا (2) . * * * القول في تأويل قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قال أبو جعفر: والهاء في قوله:"وأتُوا به مُتشابهًا" عائدة على الرزق، فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا. وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل"المتشابه" في ذلك: فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه. * ذكر من قال ذلك: 519- حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شُميل، قال: أخبرنا أبو عامر، عن الحسن في قوله:"متشابهًا" قال: خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها. 520- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رَجاء: قرأ الحسنُ آيات من البقرة، فأتى على هذه الآية:"وأتُوا به مُتشابهًا" قال: ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل. 521- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعمر، قال: قال الحسن:"وأتوا به متشابهًا" قال: يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل (3) . 522- حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"وأتوا به   (1) في المطبوعة: "في التسميات والألوان"، وهو خطأ. (2) يعني بذلك الذي تقدم، معنى قوله: "وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه"، وقد مضى ذكر ذلك في ص 388. هذا، وقد وقع في المطبوعة خطأ بين، فقد وضع في هذا المكان ما نقلناه إلى حق موضعه في ص 394 من أول قوله: "وقد زعم بعض أهل العربية. . " إلى قوله: "بخروجه عن قول جميع أهل العلم، دلالة على خطئه". (3) في المطبوعة: "ليس فيه مرذول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 متشابهًا"، أي خيارًا لا رَذلَ فيه، وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها، وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَل منه شيء. 523- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج. قال: ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نَقاوَةٌ، وثمرُ الجنة نقاوة كله، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول (1) . * * * وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم. * ذكر من قال ذلك: 524- حدثني موسى، قال حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"وأتوا به متشابهًا" في اللَّوْن والمرْأى، وليس يُشبه الطعمَ. 525- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأتوا به متشابهًا" مِثلَ الخيار. 526- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه، مثلَ الخيار من القثّاء. 527- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"وأتوا به متشابهًا"، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم. 528- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"متشابهًا"، قال: مشتبهًا في اللون، ومختلفًا في الطعم.   (1) الآثار: 519 - 523 بعضها في الدر المنثور 1: 38، وبعضها في الشوكاني 1: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 529- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"وأتوا به متشابهًا"، مثل الخيار (1) . * * * وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم. * ذكر من قال ذلك: 530- حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قوله:"متشابهًا" قال: اللونُ والطعمُ. 531- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزّاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ويحيى بن سعيد:"متشابهًا" قالا في اللون والطعم. * * * وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما. * ذكر من قال ذلك: 532- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"وأتوا به متشابهًا" قال: يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب. 533- حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: قال حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"وأتوا به متشابهًا"، قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيبُ. * * * وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. * ذكر من قال ذلك: 534- حدثني أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعيّ -ح- وحدثنا محمد   (1) الآثار: 524 - 529 بعضها في ابن كثير 1: 114 - 115، والدر المنثور 1: 38، والشوكاني 1: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 بن بشار، قال، حدثنا مؤمَّل، قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيَان، عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي -: لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. 535- حدثنا عباس بن محمد، قال: حدثنا محمد بن عُبيد، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء. 536- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"وأتوا به متشابهًا"، قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا، التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان، قالوا في الجنة:"هذا الذي رزقنا من قبل" في الدنيا،"وأتوا به متشابهًا" يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم (1) . قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر، والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله:"كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل" وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا. وقد دللنا   (1) الآثار: 530 - 536 بعضها في الدر المنثور 1: 38، والشوكاني 1: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله:"قالوا هذا الذي رزقنا من قبل"، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض (1) . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله:"وأتوا به متشابهًا"، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم:"هذا الذي رُزقنا من قبل" بقوله:"وأتوا به متشابهًا". ويُسأل من أنكر ذلك (2) ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه، فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟ فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله، لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك. وإن قال: ذلك جائز، بل هو كذلك. قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه (3) ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله. وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما: 537- حدثني به ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب، ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري، قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة، وعلّمه صَنعةَ كل شيء، فثمارُكم هذه من ثمار الجنة، غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ (4) .   (1) انظر ما مضى ص 387 وما بعدها. (2) في المطبوعة: "وسأل من أنكر. . "، وهو خطأ بين. (3) في المطبوعة: "نظائر ألوان". (4) الحديث 537- هذا إسناد صحيح. وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس. والأشعري: هو أبو موسى، ولم يكن ممن يحكى عن الكتب القديمة. عوف: هو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة. قسامة - بفتح القاف وتخفيف السين المهملة: هو ابن زهير المازني التميمي البصري، وهو ثقة تابعي قديم، بل ذكره بعضهم في الصحابة فأخطأ. وله ترجمة في الإصابة 5: 276 وابن سعد 7/1/110، وقال: "كان ثقة إن شاء الله، وتوفي في ولاية الحجاج على العراق"، وابن أبي حاتم 3/2/147، وروى توثيقه عن ابن معين. والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 1: 80، من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عوف، بهذا الإسناد. وذكره ابن القيم في حادي الأرواح 1: 273 (ص 125 من الطبعة الثانية، طبعة محمود ربيع سنة 1357) من رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن عقبة بن مكرم العمى الحافظ، عن ربعى بن إبراهيم بن علية عن عوف، بهذا الإسناد، مرفوعًا صراحة: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 197 - 198"عن أبي موسى رفعه"، وقال: "رواه البزار، والطبراني، ورجاله ثقات". وذكره ابن القيم في حادي الأرواح قبل ذلك (ص 30 - 31) ، من رواية"هوذة بن خليفة عن عوف" بهذا الإسناد، موقوفًا لفظًا. ورواية هوذة بن خليفة: رواها الحاكم في المستدرك 2: 543، ولكن إسنادها عندي أنه مغلوط، والظاهر أنه غلط من الناسخين. لأن الذي فيه: "هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: إن الله لما أخرج آدم" إلخ. ثم قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي! ولا يمكن -فيما أعرف وأعتقد- أن يصحح الحاكم هذا الإسناد، ثم يوافقه الذهبي، إن كان على هذا الوجه، لأن أبا بكر بن أبي موسى الأشعري تابعي ثقة، فلو كان الإسناد هكذا كان الحديث مرسلا لا حجة فيه، سواء أرفعه أم قاله من قبل نفسه، فالظاهر أن الناسخين القدماء للمستدرك أخطئوا في زيادة"أبي بكر بن"، وأن صوابه: "عن أبي موسى الأشعري"، كما تبين من نقل ابن القيم رواية هوذة، وكما تبين من الروايات الأخر التي سقناها. والحمد لله على التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 (1) وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله:"وأتوا به متشابهًا"، أنه متشابهٌ في الفضل، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه، مثلُ الذي للآخر في نحوه. قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه. * * *   (1) هذه الفقرة كلها من أول قوله: "وقد زعم بعض أهل العربية. . " كانت في المطبوعة في الموضع الذي أشرنا إليه آنفًا ص 389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 القول في تأويل قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في"لهم" عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والألف اللتان في"فيها" عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة. والأزواج جمع زَوْج، وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته. وأما قوله:"مطهَّرة" فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ، مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره. 538- كما حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما أزواجٌ مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن. 539- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"أزْواج مطهرة". يقول: مطهرة من القذَر والأذى. 540- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى القطان (1) ، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولهم فيها أزواجٌ مطهرة" قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين. 541- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه - إلا أنه زَاد فيه: ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.   (1) في المخطوطة: "يحيى العطار"، وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 542- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره:"ولهم فيها أزواج مطهرة" قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد. 543- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابنُ المبارك، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله. 544- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ. 545- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوَ حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. 546- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة:"ولهم فيها أزواج مطهرة"، إي والله من الإثم والأذى. 547- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولهم فيها أزواجٌ مطهرة"، قال: طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر، ومن كل مأثم. 548- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى. 549- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد، قال: المطهرة من الحيض والحبَل. 550- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد:"ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة" قال: المطهَّرة التي لا تحيض. قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة، ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ؟ قال ابن زيد: وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ، فلما عصَتْ قال الله: إني خلقتك مطهَّرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (1) . 551- حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن الحسن في قوله:"ولهم فيها أزواج مطهرة"، قال يقول: مطهَّرة من الحيض. 552- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا خالد بن يزيد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن في قوله:"ولهم فيها أزواجٌ مطهرة"، قال: من الحيض. 553- حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء قوله:"ولهم فيها أزواج مطهرة"، قال: من الولد والحيض والغائط والبول، وذكر أشياءَ من هذا النحو (2) . * * * القول في تأويل قوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله"وهم"، عائدة على الذين آمنوا وعملوا   (1) في المخطوطة: "كما دميت" بتشديد الميم، وهما سواء، ويعني بذلك دم الحيض. وهذا الأثر نقله ابن كثير 1: 115 عن هذا الموضع، وفيه"أدميت"، كما في المطبوعة هنا. وقال ابن كثير بعد سياقه: "وهذا غريب". (2) الآثار 538 - 553: بعضها في ابن كثير 1: 115، والدر المنثور 1: 39، والشوكاني 1: 42 وكرهنا الإطالة بتفصيل مراجعها واحدًا واحدًا. ونقل ابن كثير 1: 115 - 116 حديثًا مرفوعًا بهذا المعنى: يعني مطهرة"من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق"، من تفسير ابن مردويه بإسناده - من طريق محمد بن عبيد الكندي عن عبد الرزاق بن عمر البزيعي عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد، مرفوعًا. وقال: "هذا حديث غريب". ثم نقل عن الحاكم أنه رواه في المستدرك، من هذا الوجه، وأنه صححه على شرط الشيخين. ثم قال: "وهذا الذي ادعاه فيه نظر، فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا - قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به. قلت: والأظهر أن هذا من كلام قتادة، كما تقدم". وهو كما قال ابن كثير. انظر الميزان 2: 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الصالحات. والهاء والألف في"فيها" على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم (1) . * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ   (1) في الدر المنثور 1: 41، والشوكاني 1: 42، أن ابن جرير أخرج عن ابن عباس في قوله"وهم فيها خالدون" -"أي خالدون أبدًا، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له". وهذا الخبر سيأتي عند تفسير الآية: 82 من هذه السورة (1: 307 بولاق) . فنقله السيوطي إلى هذا الموضع، وتبعه الشوكاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها. فقال بعضهم بما: 554- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا" وقوله:"أو كصيِّب من السماء"، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله:"إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً" إلى قوله:"أولئك همُ الخاسرُون". وقال آخرون بما: 555- حدثني به أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، في قوله تعالى:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها". قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعتْ، فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: 44] (1) . 556- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم (2) ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: 44] . وقال آخرون بما: 557- حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة، قوله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها"، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر (3) . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله:   (1) الأثر 555-"قراد" بضم القاف وفتح الراء مخففة: لقب له، واسمه"عبد الرحمن بن غزوان بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي، الخزاعي"، وهو ثقة، وقال أحمد: "كان عاقلا من الرجال". وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2/274. (2) في المطبوعة: "خلى آجالهم"، وفي المخطوطة"خلا"، والصواب ما أثبته. وخلا العمر يخلو خلوا: مضى وانقضى. (3) في المخطوطة: "شيئًا قل منه أو كثر" بحذف"ما"، وفي ابن كثير"مما قل أو كثر" وكلها متقاربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها". 558- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" (1) . وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس. وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما" - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور. فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا (2) .   (1) الآثار: 554 - 558 أكثرها في ابن كثير 1: 117، وبعضها في الدر المنثور 1: 41، والشوكاني 1: 45. (2) في المطبوعة: "أن يضرب مثلا ما"، وليست بشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها"، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به، إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين. 559- كما حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"مثلا ما بعوضة"، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها، يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به. 560- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله. 561- حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله (1) . قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق - 562- كما حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله. 563- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، بنحوه (2) .   (1) الآثار: 559 - 561، وهي واحد كلها، في الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 45، وسيأتي برقم: 566. (2) الأثر: 562 في الدر المنثور 1: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 - (1) خصها الله بالذكر في القِلة، فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما. فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه، فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره (2) ": فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا". وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما (3) ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء (4) ، على ما وصف من ذلك قبل قوله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا" - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك، وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه، وأنه ضلال وفسوق، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه. وأما تأويل قوله:"إن الله لا يستحيي"، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى"إن الله لا يستحيي": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) [سورة الأحزاب: 37] ، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء (5) .   (1) قوله: "خصها. . " جواب قوله آنفًا: ". . لما كانت أضعف الخلق". (2) في المطبوعة: "الدلالة على ذلك بينها جل ذكره في قوله". (3) قوله: "فيهما" متعلق بقوله"مثل"، أي: اللتين مثل فيهما -ما عليه المنافقون مقيمون- بموقد النار. . (4) في المطبوعة: "وبالصيب من السماء". (5) لم أعرف قائل هذا القول من المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب، ولكني رأيت أبا حيان يقول في تفسيره 1: 121، يزعم أن هذا المعنى هو الذي رجحه الطبري، ومن البين أنه أخطأ فيما توهمه، فإن لفظ الطبري دال على أنه لم يحقق معناه، ولم يرضه، ولم ينصره. هذا على أني أظن أن مجاز اللفظ يجيز مثل هذا الذي قاله المنسوب إلى المعرفة بلغة العرب، وإن كنت أكره أن أحمل هذه الآية على هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وأما معنى قوله:"أن يضرب مثلا"، فهو أن يبيِّن ويصف، كما قال جل ثناؤه: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [سورة الروم: 28] ، بمعنى وصف لكم، وكما قال الكُمَيْت: وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرِيدَتْ ... لأَسْدَاسٍ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا (1) بمعنى: وصف أخماس. والمثَل: الشبه، يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله، كما يقال: شبَهُه وشِبْهه، ومنه قول كعب بن زهير: كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلا الأَبَاطِيلُ (2) يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا": إن   (1) هذا بيت استرقه الكميت استراقًا، على أنه مثل اجتلبه. وأصله: أن شيخًا كان في إبله، ومعه أولاده رحالا يرعونها، قد طالت غربتهم عن أهلهم. فقال لهم ذات يوم: "ارعوا إبلكم ربعا" (بكسر فسكون: وهو أن تحبس عن الماء ثلاثًا، وترد في اليوم الرابع) ، فرعوا ربعًا نحو طريق أهلهم. فقالوا: لو رعيناها خمسًا! (بكسر فسكون: أن تحبس أربعًا وترد في الخامس) فزادوا يومًا قبل أهلهم. فقالوا: لو رعيناها سدسًا! (أن تحبس خمسًا وترد في السادس) . ففطن الشيخ لما يريدون، فقال: ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس، ما همتكم رعيها، إنما همتكم أهلكم! وأنشأ يقول: وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرَاهُ، ... لأَسْدَاسٍ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا فصار قولهم: "ضرب أخماس لأسداس" مثلا مضروبًا للذي يراوغ ويظهر أمرًا وهو يريد غيره. وحقيقة قوله"ضرب: بمعنى وصف"، أنه من ضرب البعير أو الدابة ليصرف وجهها إلى الوجه الذي يريد، يسوقها إليه لتسلكه. فقولهم: ضرب له مثلا، أي ساقه إليه، وهو يشعر بمعنى الإبانة بالمثل المسوق. وهذا بين. (2) ديوانه: 8، وفي المخطوطة: "وما مواعيده"، وعرقوب -فيما يزعمون-: هو عرقوب ابن نصر، رجل من العمالقة، نزل المدينة قبل أن تنزلها يهود بعد عيسى ابن مريم عليه السلام. وكان يحتال في إخلاف المواعيد بالمماطلة، كما هو معروف في قصته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به (1) . وأما "ما" التي مع "مثل"، فإنها بمعنى "الذي"، لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا. فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت (2) ، فما وجه نصب البعوضة، وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت (3) : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟ قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن"ما" لما كانت في محل نصْب بقوله"يضرب"، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها (4) فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت: وَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا ... حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا (5) فعُرِّبت"غيرُ" بإعراب"من". والعرب تفعل ذلك خاصة في"من" و"ما" (6) ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.   (1) هذا بقية تفسير الكلمة على مذهب من قال إن الاستحياء بمعنى الخشية، لا ما أخذ به الطبري، وتفسير الطبري صريح بين في آخر تفسير الآية. (2) في المطبوعة: "كما قلت". (3) في المطبوعة: "على ما تأولت"، وليست بجيدة. (4) في المطبوعة"أعربت بتعريبها". وقوله"عربت": أي أجريت مجراها في الإعراب، وهذا هو معنى"التعريب" في اصطلاح قدماء النحاة، وستمر بك كثيرًا فاحفظها، وهي أوجز مما اصطلح عليه المحدثون منهم. (5) ليس في ديوانه، ويأتي في الطبري 4: 99 غير منسوب، وفي الخزانة: 2: 545 - 546 أنه لكعب بن مالك، ونسب إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في شعره. ونسب لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ونسب أيضًا لعبد الله بن رواحة. وذكره السيوطي في شرح شواهد المغني: 116، 252، وأثبت بيتا قبله: نَصَرُوا نَبِيَّهُمُ بِنَصْرِ وَلِيِّهِ ... فالله، عَزَّ، بِنَصْرِهِ سَمَّانَا قال: يعني أن الله عز وجل سماهم"الأنصار"، لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن والاه. والباء في"بنصر وليه"، بمعنى"مع". (6) في المطبوعة: "فالعرب تفعل. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وأما الوجه الآخر، فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، ثم حذف ذكر"بين" و"إلى"، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في"ما" الثانية، دلالة عليهما، كما قالت العرب:"مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة" و"له عشرون ما ناقة فجملا"، و"هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا"، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها (1) . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول:"ما بين كذا إلى كذا"، ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام (2) . فكذلك ذلك في قوله:"ما بعوضة فما فوقها" (3) . وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ "ما" التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل (4) وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون"بعوضةً" منصوبةً بـ "يضرب"، وأن تكون"ما" الثانية التي في"فما فوقها" معطوفة على البعوضة لا على"ما". وأما تأويل قوله"فما فوقها": فما هو أعظم منها (5) -عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى   (1) في المخطوطة: "يعنون بذلك من قرنها. . ". (2) في المخطوطة: "ليدل النصب في الأسماء على المحذوف. . . "، وهما سواء (3) أكثر هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 21 - 22، وذكر الوجهين السالفين جميعًا، وكلامه أبسط من كلام الطبري وأبين. (4) قد مضى قديمًا شرح معنى التطول (انظر: 18، 224 وما يأتي ص: 406، 154 من بولاق) ، وهو الزيادة في الكلام. وهذا الذي قال عنه: "زعم بعض أهل العربية"، هو الفراء نفسه، فقد ذكر هذا أول وجه من ثلاثة وجوه في الآية في معاني القرآن 1: 21، وقال: "أولها: أن توقع الضرب على البعوضة، وتجعل ما صلة، كقوله: "عما قليل ليصبحن نادمين"، يريد: عن قليل. المعنى -والله أعلم-: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا". والذي يسميه الطبري البغدادي المذهب في النحو"تطولا"، يسميه الفراء الكوفي المذهب في النحو"صلة"، وهي الزيادة في الكلام. (5) في المخطوطة: "فهو ما قد عظم منها"، وهو خطأ بلا معنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 -على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة. وقيل في تأويل قوله"فما فوقها"، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ، فيقول السامع:"نعم، وفوقَ ذاك"، يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم (1) ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن. فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة. فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في"ما"، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول (2) . * * * القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فأما الذين آمنوا"، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله:"فيعلمون أنه الحق من ربهم". يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل. 564- كما حدثني به المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فأما الذين آمنوا   (1) في المطبوعة: "فوق الذي وصف". وهذا التأويل الذي ذكره الطبري، قد اقترحه الفراء في معاني القرآن 1: 20 - 21 وأبان عنه، وقال: "ولو جعلت في مثله من الكلام"فما فوقها"، تريد أصغر منها، لجاز ذلك. ولست أستحبه"، يعني: أنه لا يستحبه في هذا الموضع من تفسير كتاب الله. (2) قد شرحنا معنى"صلة" و"تطول" فيما مضى ص: 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فيعلمون أنه الحق من ربهم"، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده (1) . 565- وكما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله"فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم"، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله (2) . "وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا". قال أبو جعفر: وقوله"وأما الذين كفرُوا"، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين، وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية، فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:- 566- حدثنا به محمد عن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم" الآية، قال: يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (3) . وتأويل قوله:"ماذا أراد الله بهذا مثلا"، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا."فذا"، الذي مع"ما"، في معنى"الذي"، وأراد صلته، وهذا إشارةٌ إلى المثل (4) . * * *   (1) الأثر: 564- هو عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، كما مر كثيرًا، وكذلك جاء في الدر المنثور 1: 43. (2) الأثر 565- في ابن كثير 1: 118. (3) الأثر 566- قد مضى برقم: 559. (4) في المطبوعة: "فذا مع ما في معنى. . " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز:"يضلّ به كثيرًا"، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في"به" من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ، ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:- 567- كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يضلّ به كثيرًا" يعني المنافقين،"ويهدي به كثيرًا"، يعني المؤمنين (1) . - فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و"يهدي به"، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به. وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين، كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله:"وما يضل به إلا الفاسقين". وفيما في سورة المدثر - من قول الله:"وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء" - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله:"يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا". * * *   (1) الخبر: 567- في ابن كثير 1: 119، والدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 45، وهو فيها تام متصل، وتمامه الأثر الذي يليه: 568. ولكن ابن كثير أخطأ، فوصل هذا الخير بكلام الطبري الذي يليه، كأنه كله من تفسير ابن عباس وابن مسعود، وهو خطأ محض. فقول الطبري بعد"فيزيد هؤلاء ضلالا. . " هو من تمام قوله قبل هذا"أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) } وتأويل ذلك ما:- 568- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"وما يُضلّ به إلا الفاسقين"، هم المنافقون (1) . 569- وحدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"وما يُضِلّ به إلا الفاسقين"، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم (2) . 570- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"وما يضل به إلا الفاسقين"، هم أهل النفاق (3) . قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة، لخروجها عن جُحرها (4) ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: (إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف: 50] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره. 571- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق،   (1) الخبر 568- تمام الأثر السالف، وقد ذكرنا موضعه. (2) الأثر: 569- في ابن كثير 1: 119، وفي الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 45، وفيهما مكان"على فسقهم"، "بفسقهم". (3) الأثر: 570- في ابن كثير 1: 119. (4) انظر الطبري 15: 170 (بولاق) . وقوله: "يحكى عن العرب سماعًا: فسقت الرطبة من قشرها، إذا خرجت. وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها"، وسائر ما قال هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 عن داود بن الحُصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس في قوله: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة البقرة: 59] ، أي بما بعُدوا عن أمري (1) . فمعنى قوله:"وما يُضلّ به إلا الفاسقين"، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم، فقال: وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه. ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:- فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به. وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله:"إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم"، وبقوله:"ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر". فكل ما في هذه الآيات، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا: فعهدُ الله الذي   (1) الخبر: 571- لم أجده في مكانه من تفسير آية البقرة، ولا في أية آية ذكر فيها هذا الحرف. ولم يخرجه أحد ممن اعتمدنا ذكره. وفي المخطوطة: "من أمري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 نقضوه بعدَ ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ (1) ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا. وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب، مع علمهم أن ما أتوا به حقّ. وقال آخرون: العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره، هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم، الذي وصفه في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [سورة الأعراف: 172-173] . ونقضُهم ذلك، تركهم الوفاء به. وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال: إن هذه الآيات نزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم،   (1) في المطبوعة: "عن الناس"، و"الناس" منصوب، مفعول ثان، للمصدر"كتمانهم". والفعل"كتم" يتعدى إلى مفعول ومفعولين، تقول: كتمت فلانًا سرى، وكتمت عن فلان سرى، وهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل، ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا. وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه:"إنّ الذين كفروا سواء عليهم"، وقوله:"ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر"، فيهم أنزِلت، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نزلتْ، فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً، جميعُ المنافقين (1) ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم. وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم، ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم، أعني: فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله، وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك، كما قال الله جل ذكره: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) [سورة آل عمران: 187] ، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه، وتركُهم العمل به. وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها، لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة (2) - فيهم نزلتْ، إلى تمام قصصهم.   (1) سياق العبارة: "ومعنى جميع المنافقين، بما وافق منها صفة المنافقين" وعبارة الطبري أعرب. (2) في المطبوعة: "من ابتداء الآيات"، وكأنه تغيير من المصححين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله (1) . (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [سورة البقرة: 40] . وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر (2) - ما يدل على أن قوله:"الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه" مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي. فمعنى الآية إذًا: وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس، وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه، وترك كتمان ذلك لهم (3) . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ) . [سورة الأعراف: 169] .   (1) في المطبوعة"عن خلق آدم وأبنائه في قوله"، وهو خطأ محض. وقوله"وبيانه"، مجرور معطوف على قوله: "وفي الآية التي بعد الخبر. . " أي، "وفي بيانه في قوله:. . ". (2) قوله: "وخطابه" مجرور معطوف على قوله: "وفي الآية. . " و"وبيانه. . " كما أسلفنا في التعليق قبله. وفي المطبوعة: "في ذلك خاصة". ولست بشيء. (3) هكذا في الأصول، ولعل الأجود أن يقول: وترك كتمان ذلك عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وأما قوله:"من بعد ميثاقه"، فإنه يعني: من بعد توَثُّق الله فيه (1) ، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك (2) . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان تَوَثُّقًا، والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله. وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض. 572- كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه"، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله (3) . 573- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون"، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظَّهَرَة، (4) أظهرُوا هذه الخلال الست   (1) في المطبوعة: "منه" مكان"فيه". (2) في المطبوعة والمخطوطة"بما عهد إليه"، وهو خطأ بين. (3) الأثر: 572- في الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 45. وقوله"من ثمرة قلبه"، أي خالص قلبه، مأخوذ من ثمرة الشجرة، لأنها خلاصتها وأطيب ما فيها. وفي حديث المبايعة: "فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه"، أي خالص عهده وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، في المسند: 6501، 6503، 6793. ويقال: خصني فلان بثمرة قلبه: أي خالص مودته. (4) الظهرة (بثلاث فتحات) : الكثرة، وأراد بها ظهور الأمر والغلبة. ولو أسكنت الهاء، كان صوابًا، من قولهم: ظهرت على فلان: إذا علوته وغلبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 جميعًا: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وَعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل، وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قال أبو جعفر: والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [سورة محمد: 22] . وإنما عَنى بالرّحم، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها: أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها، والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها. "وأن" التي مع"يوصل" في محل خفض، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في"به": فكان معنى الكلام (2) : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في"به"، هي كناية عن ذكر"أن يوصل". وبما قلنا في تأويل قوله:"ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"، وأنه الرّحم، كان قتادة يقول:   (1) الأثر: 573- في ابن كثير 1: 120 - 121 عن أبي العالية، ثم قال: "وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا". هذا، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور، والشوكاني خبرًا خرجوه عن ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال: "الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، قال: إياكم ونقض هذا الميثاق. وكان يسميهم: الفاسقين" الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 45. أما ابن كثير فقد رواه في تفسيره 1: 119 نقلا عن ابن أبي حاتم؛ بإسناده، ولم ينسبه إلى الطبري. وأخشى أن يكون وهمًا من السيوطي والشوكاني. (2) في المطبوعة: "وكان معنى الكلام" بالواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 574- حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل"، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة (1) . وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية، وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض (2) . قال أبو جعفر: وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه، فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك، غير أنها -وإن كانت كذلك- فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله، رَحمًا كانتْ أو غيرَها. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} قال أبو جعفر: وفسادُهم في الأرض: هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم، وكفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وجحدهم نبوته، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده. * * *   (1) الأثر: 574- في الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 46 مختصرًا، ونصه هناك: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، قال: الرحم والقرابة". (2) في المخطوطة: "واستشهد على ذلك عموم ظاهر الآية، ولا دلالة. . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) } قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر (1) ، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها -بمعصيتهم الله- من رحمته، كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه (2) . فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا، كما قال جرير بن عطية: إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهُ ... أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ (3) يعني بقوله:"في الخسار"، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى"أولئك هم الخاسرون": أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه. وقال بعضهم في ذلك بما: 575- حُدِّثت به عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل"خاسر"، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب. * * *   (1) في المطبوعة: "جمع الخاسر"، وليست بشيء. (2) وضع في البيع يوضع (مبني للمجهول) وضيعة: إذا خسر خسارة من رأس المال. (3) ديوانه: 598، والنقائض: 4، واللسان (قنن) ، وروايته: "أبناء قوم". وسليط: بطن من بني يربوع قوم جرير، واسم سليط: كعب بن الحارث بن يربوع. وكان غسان ابن ذهيل السليطي هجا بني الخطفي، فهجاه جرير بهذا الرجز. وأقنة جمع قن (بكسر القاف) ، والقن: العبد الذي ملك هو وأبواه. والأنثى، قن أيضًا بغير هاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 القول في تأويل قول الله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا} اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم بما: 576- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم"، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة. 577- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [سورة غافر: 11] ، قال: هي كالتي في البقرة:"كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم". 578- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا عَبْثَر، قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا، ثم أمَتَّنَا، ثم أَحْيَيْتَنَا. 579- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم، عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله، ثم أماتهم، ثم أحياهم (1) .   (1) الأثر: 579-"حصين". بضم الحاء المهملة: هو ابن عبد الرحمن السلمي. و"أبو مالك": هو الغفاري الكوفي، واسمه"غزوان". سبقت ترجمته في: 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 580- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد في قوله:"كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم"، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم، ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ، ثم يحييكم. وقوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، مثلها. 581- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: هو قوله:"أمتَّنا اثنين وأحييتنا اثنين". 582- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية، في قول الله:"كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"، يقول: حين لم يكونوا شيئًا، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رَجعوا إليه بعد الحياة. 583- حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون". وقال آخرون بما: 584- حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السُّدّيّ، عن أبي صالح:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون"، قال: يحييكم في القبر، ثم يميتكم. وقال آخرون بما: 585- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 عن قتادة، قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم (1) ، فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان (2) . وقال بعضهم بما: 586- حدثني به يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى:"ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين". قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ، حتى بلغ: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [سورة الأعراف: 172-173] . قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى (3) فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا) [سورة النساء: 1] ، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا (4) ، وقرأ: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [سورة الزمر: 6] ، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) ،   (1) في المخطوطة: "في أصلبة"، والصواب"صلبة" (بكسر الصاد وفتح اللام) أو"أصلب" (بسكون الصاد وضم اللام) . وكلها جمع صلب (بضم فسكون) : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلى عجب الذنب. (2) الآثار: 575 - 585: بعضها في ابن كثير 1: 122 مجملة، وبعضها في الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 46، وكرهنا الإطالة بتفصيلها. (3) القصيري، بالتصغير: هي الضلع التي تلي الشاكلة أسفل الأضلاع، وهي أقصرهن. (4) في المطبوعة: "وبث فيهما بعد ذلك. . "، وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وقرأ قول الله: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [سورة الأحزاب: 7] . قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (1) [سورة المائدة: 7] . قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل. * * * فأما وجه تأويل من تأول قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، أي لم تكونوا شيئًا، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ، وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ، وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ: فَأَحْيَيْتَ لِي ذكْري، وَمَا كُنْتُ خَامِلا ... وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (2) يريد بقوله:"فأحييتَ لي ذكري"، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله:"وكنتم أمواتًا" لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم، وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم، وتعفِّي آثاركم، وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها،   (1) الأثر: 586- في ابن كثير 1: 122، والشوكاني 1: 47، مختصرًا جدًا. (2) الأغاني 18: 140، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 193، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته، كما قال أبو الفرج، ويقال اسمه: يعمر بن حزن بن زائدة، من بني سعد بن زيد مناة، وكان الأغلب عليه الرجز، وله قصيد قليل، وكان عاقًّا بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه. والبيت من أبيات، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم (1) . * * * وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله"وكنتم أمواتًا"، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ (2) . وقوله جل ذكره:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة، ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة. * * * وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود. * * * وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك، وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب (3) ، والمصير في البرزخ إلى اليوم   (1) في المطبوعة: "لتعارفوا"، وهي قريبة في المعنى. (2) الاستعتاب: الاستقالة من الذنب، والرجوع إلى ما يجلب الرضا، أي أن يستقيلوا وبهم ويستغفروه، ويرجعوا عن إساءتهم ويطلبوا رضاه. واستعتبه: طلب إليه الرجوع إلى ما يرضى. والاسترجاع: طلب الرجوع. واسترجعه: رده الله إلى الطاعة. (3) في المخطوطة: "للعودة إلى التراب"، وهي قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 البعث، وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة. وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه -عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا:"ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات، وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف -فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية، وقوله:"ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث، فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد. * * * وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه (1) ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ   (1) في المخطوطة: "فيرد في جسمه"، وهي قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه، والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (1) ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ، كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً، نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم. * * * وأولى ما ذكرنا -من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم" الآية، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله:"وكنتم أمواتًا" أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك، كما قال:"ثم إليه تُرجعون"، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال جل ذكره: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [سورة المعارج: 43] وقال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [سورة يس: 51] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل. وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين:"آمنَّا بالله وباليوم الآخر"، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن   (1) في المطبوعة: "وأبينت"، وهذه أجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه -بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم] (1) وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم. ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله:"إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرْهم لا يؤمنون" - (2) نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية، محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم، ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم، ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه، وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب (3) . فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه، وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه، وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل، وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة، منبهًا لهم على حكمه   (1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة. (2) قوله"نعمه" مفعول قوله"ثم عدد ربنا. . "، وما بينهما فصل. (3) في المطبوعة"يحذرهم بذلك. . . ويخوفهم. . . أحل بأوائلهم، ويعرفهم"، وانظر ما سيأتي في ص: 154 بولاق. وفي المخطوطة والمطبوعة: "من الخلاص. . " بغير واو، هو لا يستقيم، فلذلك زدناها. وقوله: "حلول مثلاته" جمع مثلة (بفتح الميم وضم الثاء) : وهي العقوبة والعذاب والنكال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 في المنيبين إليه بالتوبة، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة، إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان -بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (1) ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك، أنه لله رسولٌ مبعوث، وأن ما جاءهم به فمن عنده، إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم، ومصون ما في كتبهم، وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم. * * * وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا، ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا، فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به، وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 29] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه. فلذلك قال جل ذكره:"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا".   (1) سياق هذه العبارة: "وخاصًّا أهل الكتاب. . بالاحتجاج عليهم. . لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم". وما بين هذه الأحرف المتعلقة بمراجعها، فصل متتابع، كعادة الطبري في كتابته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وقوله:"هو" مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله:"كيف تكفرون بالله". ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و"ما" بمعنى"الذي". فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً، ثم يميتكم، ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب، وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم. و"كيف" بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام، كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله، كما قال: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [سورة التكوير: 26] . وحل قوله:"وكنتم أمواتًا فأحياكم" محلّ الحال. وفيه ضميرُ"قد" (1) ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن"فعل" إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية"قد"، كما قال ثناؤه: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [سورة النساء: 90] ، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك، تريد: قد كثرت ماشيتك. وبنحو الذي قلنا في قوله:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا"، كان قتادة يقول: 587- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا"، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (2) . * * *   (1) في المطبوعة"وفيه إضمار قد"، ولم يرد بالضمير ما اصطلح عليه النحويون، وإنما أراد المضمر الذي أخفى وستر. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 23 - 25. (2) الأثر: 587- في الدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 48، وفيهما زيادة على الذي في أصول الطبري، وهي: ". . ما في الأرض جميعًا، كرامةً من الله ونعمةً لابن آدم متاعًا، وبُلْغةً ومنفعة إلى أجل". هذا وقد زادا معًا أثرًا آخر قالا أخرجه ابن جرير عن مجاهد، هذا هو: "في قوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا، قال: سخّر لكم ما في الأرض جميعًا". وإسناد هذا الأثر، هو الذي يأتي برقم: 591، لأنه من تمامه، كما هو بين فيما نقله السيوطي والشوكاني. ويوشك أن يكون في نسخ الطبري التي بين أيدينا حذف ألجأ النساخ إليه طول الكتاب، فقد مضى آنفًا مثل هذا النقص، ومثل هذه الزيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله:"ثم استوى إلى السَّماء". فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر: أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى ... سَوَامِدَ، وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ (1) فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع، وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله:"واستوين من الضجوع"، استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه. وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد:   (1) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم: 795، 857) ، وروايته"ثواني" مكان"سوامد". وشرورى: جبل بين بني أسد وبني عامر، في طريق مكة إلى الكوفة. والضجوع -بفتح الضاد المعجمة-: موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم. وقوله: "سوامد" جمع سامد. سمدت الإبل في سيرها: جدت وسارت سيرًا دائمًا، ولم تعرف الإعياء. وسوامد: دوائب لا يلحقهن كلال. والنون في"قطعن" للإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 تحوّل فِعله. [وقال بعضهم: قوله:"ثم استوى إلى السماء" يعني به: استوت] (1) . كما قال الشاعر: أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ ... عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ (2) وقال بعضهم:"ثم استوى إلى السماء"، عمدَ لها (3) . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه. وقال بعضهم: الاستواء هو العلو، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. 588- حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"ثم استوى إلى السماء". يقول: ارتفع إلى السماء (4) . ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (5) . قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته، فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم: طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْ ... وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه (6)   (1) هذه الجملة بين القوسين، ليست في المخطوطة، وكأنها مقحمة. (2) لم أجد هذا البيت. وفي المطبوعة: "قبل الرأس مصعب"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة: "في ثراته"، ولا معنى لها، ولعلها"في تراثه". وأنا في شك من كل ذلك. بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير. (3) في المطبوعة: "عمد إليها". (4) الأثر: 588- في الدر المنثور 1: 43، والأثر التالي: 589، من تمامه. (5) في المطبوعة: "العالى إليها". (6) ديوانه: 110، واللسان (سوى) قال: "وهذا البيت مختلف الوزن، فالمصراع الأول من المنسرح، والثاني من الخفيف". والرسم: آثار الديار اللاصقة بالأرض. ومهدد اسم امرأة. والأبد: الدهر الطويل، والهاء في"أبده" راجع إلى الرسم. وعفا: درس وذهب أثره. والبلد: الأثر يقول: انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (1) ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه. وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه:"ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن"، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات. والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله:"ثم استوى إلى السماء"، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله"استوى" أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى. قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل (2) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟ قيل: بعده، وقبل أن يسويهن سبعَ سموات، كما قال جل ثناؤه:   (1) في المخطوطة: "الاستيلاء والاحتواء". (2) في المطبوعة: "وإن قال. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) [سورة فصلت: 11] . والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا، وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات. وقال بعضهم: إنما قال:"استوى إلى السّماء"، ولا سماء، كقول الرجل لآخر:"اعمل هذا الثوب"، وإنما معه غزلٌ. وأما قوله"فسواهن" فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهنّ على إرادته، وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (1) . 589- كما: حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فسوَّاهن سبع سموات" يقول: سوّى خلقهن،" وهو بكل شيء عليم (2) . وقال جل ذكره:"فسواهن"، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (3) ، وقد قال قبلُ:"ثم استوى إلى السماء" فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ، وذُكِّرت أخرى (4) فقيل: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [سورة المزمل: 18] ،   (1) في المطبوعة: "بعد إرتاقهن" وليست بشيء، وفي المخطوطة: "بعد أن تتاقهن"، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه. وارتتق الشيء: التأم والتحم حتى ليس به صدع. وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء: 30 من قول الله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} والفتق: الشق. (2) الأثر: 589- في الدر المنثور 1: 43، وهو من تمام الأثر السالف: 588. (3) المكني: هو الضمير، فيما اصطلح عليه النحويون، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره. وفي المطبوعة: "الجمع" مكان"الجميع" حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة. (4) في المطبوعة: "أنث السماء. . . وذكر" بطرح التاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها، فيقال: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل، وما أشبه ذلك. وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة، غير أنها تدلّ على السموات، فقيل:"فسواهن"، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (1) . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة، فيقال:"السماء منفطر به"، كما يذكر المؤنث (2) ، وكما قال الشاعر: فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقَالَهَا (3) وكما قال أعشى بني ثعلبة: فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا (4)   (1) "بعض أهل العربية" هو الفراء، وإن لم يكن اللفظ لفظه، في كتابه معاني القرآن 1: 25، ولكنه ذهب هذا المذهب، في كتابه أيضًا ص: 126 - 131. (2) هكذا في الأصول"كما يذكر المؤنث"، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة: "كما تذكر الأرض، كما قال الشاعر:. . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال: ". . فإن السماء في معنى جمع فقال: (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات. وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: (رب السموات والأرض) ثم قال: (وما بينهما) ، ولم يقل: بينهن. فهذا دليل على ما قلت لك". معاني القرآن. 1: 25، وانظر أيضًا ص: 126 - 131. (3) البيت من شعر عامر بن جوين الطائي، في سيبويه 1: 240، ومعاني القرآن 1: 127 والخزانة 1: 21 - 26، وشرح شواهد المغني: 319، والكامل 1: 406، 2: 68، وقبله، يصف جيشًا: وَجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُو ... كِ قَعْقَعْتُ بِالْخَيْلِ خَلْخَالَهَا كَكِرْ فِئَةِ الْغَيْثِ ذَاتِ الصَّبِيرِ ... تَرْمِي السَّحَابَ وَيَرْمِي لَهَا تَوَاعَدْتُهَا بَعْدَ مَرِّ النُّجُومِ، ... كَلْفَاءَ تُكْثِرُ تَهْطَالَهَا فلا مزنة. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (4) أعشى بني ثعلبة، وأعشى بني قيس، والأعشى، كلها واحد، ديوانه 1: 120، وفي سيبويه 1: 239، ومعاني القرآن للفراء 1: 128، والخزانة 4: 578، ورواية الديوان: فَإِنْ تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَلْوَى بِهَا ورواية سيبويه كما في الطبري، إلا أنه روى"أودى بها". وألوى به: ذهب به وأهلكه. وأودى به: أهلكه، أيضًا. وأما"أزرى بها": أي حقرها وأنزل بها الهوان، من الزرارية وهي التحقير. وكلها جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض، فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت، ثم تكون تلك الواحدة جماعًا، كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ، وبُرْمة أعشار، للمتكسرة، وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق (1) . فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات، ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها، فكيف زعمت أنها جِماع؟ قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات، فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:- 590- حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ، ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا، ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (2) . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها، فجرى فيها الليل والنهار، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال، وقدر فيها الأقوات، وبث فيها ما أراد من الخلق، ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان -كما قال- فحبكهن، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها، وأوحى في كل سماء أمرها، فأكمل   (1) أخلاق، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي. وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي. وبرمة أجبار، ضد قولهم برمة أكسار، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا، كما لم يقولوا برمة كسر، مفردًا. وأصله من جبر العظم، وهو لأمه بعد كسره. (2) في المخطوطة: "ولم يحبكن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته، ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما، فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا، قالتا: أتينا طائعين (1) . فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (2) وما فيها - وهن سبع من دخان، فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (3) ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (4) ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها:"ثم استوى إلى السماء" بمعنى الجميع (5) ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه:"فسوَّاهن"، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله"فسواهن"، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها، أم بمعنى غير ذلك (6) ؟ قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق، ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (7) .   (1) الأثر: 590- هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات 9 - 12 من سورة فصلت. ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (24: 60 - 65 طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني- في هذا الموضع، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت. وهو من كلام ابن إسحاق، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه. وقد صرح الطبري -بعد- أنه إنما ذكره استشهادًا، لا استدلالا، إذ وجده أوضح بيانا، وأحسن شرحًا. (2) في المطبوعة: "بعد خلقه الأرض". (3) في المطبوعة: "عن خبر السموات". (4) في المطبوعة: "بتسويتها"، وسياق كلامه: "أوضح بيانًا. . . من غيره"، وما بينهما فصل. (5) في المطبوعة"بمعنى الجمع"، وفي التي تليها، وقد مضى مثل ذلك آنفًا. (6) في المطبوعة: "أم بمعنى"، وهذه أجود. (7) في المطبوعة: "ونزيد ذلك توكيدًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 591- فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن:"ن والقلم"، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاةُ على ظهر ملَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فالجبال تخر على الأرض، فذلك قوله: (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (1) [سورة النحل: 15] . وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا) يقول: أنبت شجرها (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) يقول: أقواتها لأهلها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر (2) (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [سورة فصلت: 9-11] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها   (1) في الأصول: "وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح، والآية كما ذكرتها في سورة النحل، ومثلها في سورة لقمان: 10 (2) في المخطوطة: "يقول: من سأل، فهكذا الأمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض -"وأوحى في كل سماء أمْرها" قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [سورة الأعراف: 54] . ويقول: (كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) (1) [سورة الأنبياء: 30] . 592- وحدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء". قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان، فذلك حين يقول:"ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: بعضُهن فوق بعض، وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض (2) .   (1) الخبر: 591- في ابن كثير 1: 123، والدر المنثور 1: 42 - 43، والشوكاني 1: 48. وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر: 168) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم: 465 ص: 353: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. . ". وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده. فلئن سألت: فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده؟ وجواب ذلك: أنه لم يسقه ليحتج بما فيه، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فحبكهن سبعًا، وأوحى في كل سماء أمرها. وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه. وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه. وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال. (2) الأثر: 592- في ابن كثير 1: 124، والدر المنثور 1: 42، والشوكاني 1: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 593- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فسواهنّ سبعَ سموات" قال: بعضُهن فوق بعض، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام. 594- حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء -"ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات"، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) [سورة النازعات: 30] . 595- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين، وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم، ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسوَّاهنَّ وحبَكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (1) . * * *   (1) الآثار: 593 - 595، لم نجدها في شيء من تلك المراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 القول في تأويل قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } يعني بقوله جل جلاله:"وهو" نفسَه، وبقوله:"بكل شيء عليم" أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا، وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (1) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم -ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (2) ، إني بكل شيء عليم. وقوله:"عليم" بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه. 596- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه (3) . * * *   (1) في المخطوطة: "وأهل الكتاب" عطفًا. (2) في المطبوعة: "بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم. . ". (3) الخبر: 596- ليس في مراجعنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة (1) : أن تأويل قوله:"وإذ قال ربك"، وقال ربك؛ وأن"إذ" من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر: فَإِذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِب صَالِحًا بِفَسَادِ (2)   (1) هو أبو عبيدة (انظر تفسير ابن كثير 1: 125) ، وكما مضى آنفًا في مواضع من كلام الطبري. ويؤيد ذلك أن البغدادي نقل في شرح بيت عبد مناف بن ربعى، (الخزانة 3: 171) ، عن ابن السيد: "وقال أبو عبيدة: إذا، زائدة، فلذلك لم يؤت لها بجواب". هذا والشاهدان الآتيان في زيادة"إذا" لا في زيادة"إذ"، وهو من جرأة أبي عبيدة وخطئه، وأيا ما كان قائله، فهو جريء مخطئ. (2) المفضليات، القصيدة رقم: 44، وليس البيت في رواية ابن الأنباري شارح المفضليات. وقوله"لامهاه"، يقال: ليس لعيشنا مهه (بفتحتين) ومهاه: أي ليس له حسن أو نضارة. وقد زعموا أن الواو في قوله"فإذا وذلك. . " زائدة مقحمة، كأنه قال: فإذا ذلك. . .، وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى: "حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" ج 24 ص 24: "واختلف أهل العربية في موضع جواب"إذا" التي في قوله: (حتى إذا جاءوها) ، فقال بعض نحويي البصرة، يقال إن قوله: (وقال لهم خزنتها) في معنى: قال لهم. كأنه يلغى الواو. وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة، كما قال الشاعر: فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلا تَوَهُّمَ حَالِمٍ بِخَيَالِ فيشبه أن يكون يريد: فإذا ذلك لم يكن". وقال أبو سعيد السكري في شرح أشعار الهذليين 2: 100، في شرح بيت أبي كبير الهذلي: فَإِذَا وَذَلِكَ لَيْسَ إِلا حِينَهُ ... وَإِذَا مَضَى شَيْءٌ كَأَنْ لَمْ يُفْعَلِ قال أبو سعيد: "الواو زائدة. قال: قلت لأبي عمرو: يقول الرجل: ربنا ولك الحمد. فقال: يقول الرجل: قد أخذت هذا بكذا وكذا. فيقول: وهو لك". وقال ابن الشجري في أماليه 1: 358: "قيل في الآية إن الواو مقحمة، وليس ذلك بشيء، لأن زيادة الواو لم تثبت في شيء من الكلام الفصيح". والذي ذهب إليه ابن الشجري هو الصواب، ولكل شاهد مما استشهدوا به وجه في البيان، ليس هذا موضع تفصيله. وكفى برد الطبري في هذا الموضع ما زعمه أبو عبيدة من زيادة"إذ" كما سيأتي: "وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام" إلى آخر ما قال. وهو من سديد الفهم. وشرحه للبيت بعد، يدل على أنه لا يرى زيادة الواو، وذلك قوله في شرحه: "فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ: حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا (1) وقال: معناه، حتى أسلكوهم. قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن"إذ" حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل: هو بمعنى التطوُّل، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به: وهو بمعنى التطوُّل (2) .   (1) ديوان الهذليين 2: 42، ويأتي في تفسير الطبري 14: 8، 18: 13، 24: 25 (طبعة بولاق) والخزانة 3: 170 - 174، وأمالى ابن الشجري 1: 358، 2: 289، وكثير غيرها. وسلك الرجل الطريق، وسلكه غيره فيه، وأسلكه الطريق: أدخله فيه أو اضطره إليه. وقتائدة: جبل بين المنصرف والروحاء، أي في الطريق بين مكة والمدينة. وشل السائق الإبل: طردها أمامه طردًا. ومر فلان يشل العدو بالسيف: يطردهم طردًا يفرون أمامه. والجمالة: أصحاب الجمال. وشرد البعير فهو شارد وشرود: نفر وذهب في الأرض، وجمع شارد شرد (بفتحتين) مثل خادم وخدم. وجمع شرود شرد (بضمتين) . ويذكر عبد مناف قومًا أغاروا على عدو لهم، فأزعجوهم عن منازلهم، واضطروهم إلى"قتائدة" يطردونهم بالسيوف والرماح والنبال، كما تطرد الإبل الشوارد. وجواب"إذا" تقديره: شلوهم شلا، فعل محذوف دل عليه المصدر، كما سيأتي في كلام الطبري بعد. (2) في المخطوطة: "هو بمعنى التطول في الكلام". وهو خطأ. والتطول، في اصطلاح الطبري وغيره: الزيادة في الكلام بمعنى الإلغاء، كما مضى آنفًا في ص 140 من بولاق، وأراد الطبري أن ينفي ما لج فيه بعض النحاة من ادعاء اللغو والزيادة في الكلام، فهو يقول: إذا كان للحرف أو الكلمة معنى مفهوم في الكلام، ثم ادعيت أنه زيادة ملغاة، فجائز لغيرك أن يدعي أن جملة كاملة مفهومة المعنى، أو كلامًا كاملا مفهوم المعنى - إنما هي زيادة ملغاة أيضًا. وبذلك يبطل كل معنى لكل كلام، إذ يجوز لمدع أن يبطل منه ما يشاء بما يهوى من الجرأة والادعاء. وهذا تأييد لمذهبنا الذي ارتضيناه في التعليق السالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله (1) - في بيت الأسود بن يعفر: أن"إذا" بمعنى التطوّل - وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله: فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله"ذلك" إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه -"لامهاه لذكره" يعني لا طعمَ له ولا فضلَ، لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ: حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلا ................. لو أسقط منه"إذا" بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله."أسلكوهم شلا" على معنى المحذوف، فاستغنى عن ذكره بدلالة"إذا" عليه، فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا (2) - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب: فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا ... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أَيْنَما (3) وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب:"أتيتك من قبلُ ومن بعدُ". تريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في"إذا" كما يقول القائل:   (1) في المطبوعة"وليس لمدعي الذي. . " وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل. . . "، وفي المخطوطة: "كما قال. قد ذكرنا فيما مضى. . "، وكلاهما خطأ، الأول من تغيير المصححين، والثاني تصحيف في"قال"، فهي"دل"، والنقطة السوداء، بياض كان في الأصل المنقول عنه، أو"ما" ضاعت ألفها وبقيت"م" مطموسة، فظنها ظان علامة فصل. هذا وقد أشار الطبري إلى ما مضى في كتابه هذا ص: 114، ص: 327 فانظره. (3) من قصيدة محكمة في مختارات ابن الشجري 1: 16، والخزانة 4: 438، وشرح شواهد المغني: 65، وبعده: وإنْ تتخطّاكَ أسْبابُها ... فإن قُصَاراكَ أنْ تهرمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 "إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه، وإذا لا فلا". يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الآخر: فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ ... فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ (1) نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه:"وإذ قالَ ربك للملائكة"، لو أبْطِلت"إذ" وحُذِفت من الكلام، لاستحال عن معناه الذي هو به (2) ، وفيه"إذ". فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ "إذ"، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه (3) ؟ قيل له: قد ذكرنا فيما مضى (4) : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، بهذه الآيات والتي بعدها، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؛ ومذكِّرَهم -بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم- بأسَه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته (5) ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، وسخّر لهم ما في السموات من شمسها   (1) لم أعرف صاحبه. وفي المطبوعة: "في يوم أثل نائلا أو أنكدا" وهو خطأ عريق. وفي المطبوعة: "أسل نائلا"، وهي أقرب إلى الصواب. الضر: سوء الحال من فقر أو شدة أو بلاء أو حزن. والنائل: ما تناله وتصيبه من معروف إنسان. ونكده ما سأله: قلل له العطاء، أو لم يعطه البتة، يقول القائل: وأعْطِ ما أعطيتَهُ طَيِّبًا ... لا خيرَ في المنكودِ والنَّاكِدِ (2) قوله: "الذي هو به"، أي: الذي هو به كلام قائم مفهوم. (3) في المطبوعة: "فإن قال قائل"، بحذف: "لنا". (4) انظر ما سلف في ص: 424 وما بعدها. (5) في المطبوعة: "من أسلافهم في معصية الله"، وفي المخطوطة: "سلافهم" مضبوطة بالقلم بضم السين وتشديد اللام، وفي المواضع السالفة: "أسلاف". والأسلاف والسلاف جمع سلف وسالف: وهم آباؤنا الذين مضوا وتقدمونا إلى لقائه سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون"، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله:"وإذ قال رَبُّك للملائكة" على المعنى المقتضَى بقوله:"كيف تكفرون بالله"، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً (1) . فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم، أكثرُ من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر: أجِدَّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... وَلا بَيْدَانَ نَاجِيةَ ذَمُولا (2) وَلا مُتَدَاركٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشغ الوَادي حُمُولا (3) فقال:"ولا متداركٍ"، ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه (4) ، ولا حرف   (1) هذا الذي قاله أبو جعفر تغمده الله بمغفرته، من أجود النظر في تأويل كتاب الله، ومن حسن بصره بالعربية وأسرار إيجازها، واعتمادها على الاكتفاء بالقليل من اللفظ الدال على الكثير من المعنى، واتخاذها الحروف روابط للمعاني الجامعة، لا لرد حرف على حرف سبق. (2) هو للمرار بن سعيد الفقعسي، معاني القرآن للفراء 1: 171، مجالس ثعلب: 159، اللسان (بيد) (طفل) (نشغ) ، ومعجم البلدان (ثعيلبات) . وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية: الناقة السريعة، من النجاء: وهو سرعة السير. والذمول: الناقة التي تسير سيرًا سريعًا لينًا ذملت ذميلا وذملانًا. (3) يروى"ولا متلافيًا" بالنصب. وتدارك القوم (متعديًا) ، بمعنى أدركهم، أو حاول اللحاق بهم. وتلافاه: تداركه أيضًا. والشمس طفل: يعني هنا: عند شروقها -لا عند غروبها- أخذت من الطفل الصغير. ونواشغ الوادي جمع ناشغة: وهي مجرى الماء إلى الوادي. الحمول: هي الهوادج التي فيها النساء تحملها الإبل. وسميت الإبل وما عليها حمولا، لأنهم يحملون عليها الهوادج للرحلة. يقول: لن تدركهم، فقد بكروا بالرحيل. (4) في المطبوعة: "يعطف عليه". وفي المخطوطة"يعطف به"، وقوله"به" ملصقة إلصاقًا في الفاء من "يعطف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 مُعرَب إعرابَه، فيردّ "متدارك" عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدّمه فعل مجحود بـ "لن" يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف (1) ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حُذِف، وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا (2) . لأن قوله: أجدّك لن تَرَى بِثُعَيْلِبَات بمعنى:"أجدّك لستَ بِرَاءٍ"، فردّ "متداركًا" على موضع"ترى"، كأنْ "لست" و"الباء" موجودتان في الكلام. فكذلك قوله:"وإذ قالَ رَبُّك"، لمّا سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه، وكانَ قوله: "وإذ قال ربك للملائكة" مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها - رَدّ "إذْ" على موضع" وكنتم أمواتًا فأحياكم". لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية"إذ"، عطف بـ "إذ" على موضعها في الأولى (3) ، كما وصفنا من قول الشاعر في"ولا متدارك". * * * القول في تأويل قوله: {لِلْمَلائِكَةِ} قال أبو جعفر: والملائكة جمع مَلأكٍ (4) ، غيرَ أن أحدَهم (5) ، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز، وذلك أنهم يقولون في واحدهم: مَلَك من   (1) في المطبوعة: "في الكلام، وعلى المحذوف"، لعله من تغيير المصححين. وأراد الطبري أن الفعل المجحود، يدل على المعنى المطلوب من المحذوف. وهذا بين. (2) في المخطوطة: "إذ لو كان ما هو محذوف منه ظاهر"، وهو خطأ. (3) في المطبوعة: "عطف"وإذ" على موضعها في الأولى"، وليس بشيء. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "جمع ملك"، وظاهر كلام الطبري يدل على صواب ما أثبتناه. (5) في المطبوعة: "غير أن واحدهم"، وهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو هُمز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها: فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة. وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال، وبهمزها في أخرى، كقولهم:"رأيت فلانا" فجرى كلامهم بهمز"رأيت" ثم قالوا:"نرى وترى ويرى"، فجرى كلامهم في"يفعل" ونظائرها بترك الهمز، حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في"ملك وملائكة"، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزًا، كما قال الشاعر: فلَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (1) وقد يقال في واحدهم، مألك، فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب، وشأمَل وشمأل، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم "مألك" أن يجمع إذا جمع على ذلك"مآلك"، ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا، ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة، ومِسْمع: مَسامع ومَسامِعة، قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك: وَفِيهِمَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمٌ ... مَلائِك ذُلِّلوا وهُمُ صِعَابُ (2) وأصل الملأك: الرسالة، كما قال عدي بن زيد العِبَادِيّ:   (1) سلف الكلام على هذا البيت في ص: 333، ورواية المخطوطة في هذا الموضع: "ولستَ لجنّيّ ولكنّ مَلأكًا" (2) ديوانه: 19. "ذللوا" من الذل (بكسر الذال) وذلله: راضه حتى يذل ويلين ويطيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَلأَكًا ... إِنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي (1) وقد ينشد: مألَكًا، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكًا فهو مَفْعل، من لأك إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة مَلأكة (2) ؛ ومن قال: مَألَكًا فهو مَفْعَل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألَكة وألُوكًا (3) ، كما قال لبيد بن ربيعة (4) : وَغُلامٍ أَرْسَلَتْه أُمُّه ... بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ (5) فهذا من"ألكت"، ومنه قول نابغة بني ذبيان: أَلِكْنِي يَا عُيَيْنَ إِلَيْكَ قَوْلا ... سَأَهْدِيه، إِلَيْكَ إِلَيْكَ عَنِّي (6)   (1) الأغاني 2: 14، والعقد الفريد 5: 261، وفي المطبوعة"وانتظار"، وهي إحدى قصائد عدي، التي كان يكتبها إلى النعمان، لما حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. وبعده البيت المشهور، وهو من تمامه: لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شرِقٌ ... كُنْت كالغَصَّانِ بالماء اعتصارِي (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يلئك"، وهذا الثلاثي: "لأك يلأك" لم أجده منصوصًا عليه في كتب اللغة، بل الذي نصوا عليه هو الرباعي: "ألكني إلى فلان: أبلغه عني. أصله ألئكني، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها"، ولكنهم نصوا على أنه مقلوب، فإذا صح ذلك، صح أيضًا أن تكون"لأك" مقلوب"ألك" الثلاثي، وهو مما نصوا عليه. (3) كلام الطبري يشعر بأنه أراد وزن"مفعل" بفتح العين، فهي مألك، بفتح اللام، والأشهر الأفصح: والمألك والمألكة (بفتح الميم وضم اللام فيهما) . (4) في المطبوعة: "لبيد بن أبي ربيعة"، وهو خطأ. (5) ديوانه القصيدة رقم: 37، البيت: 16، وقوله"وغلام" مجرور بواو"رب". أرسلت الغلام أمه تلتمس من معروف لبيد، فأعطاها ما سألت. (6) في المطبوعة: "ستهديه الرواة إليك. . "، وأثبتنا نص المخطوطة، والديوان: 85 وغيرهما. ويضبطونه"سأهديك" بضم الهمزة، من الهدية، أي سأهديه إليك، ولست أرتضيه، والشعر يختل بذلك معناه. وإنما هو عندي بفتح الهمزة، من"هديته الطريق" إذا عرفته الطريق وبينته له. ومنه أخذوا قولهم: هاداني فلان الشعر وهاديته: أي هاجاني وهاجيته. وقوله: "إليك إليك" أي خذها، كما قال القطامي: إذا التَّيَّازُ ذُو الْعَضَلاتِ قُلْنَا: ... إِلَيْكَ إِلَيْكَ! ضَاقَ بِهَا ذِرَاعَا وقوله: "عني" أي مني، كما في قولهم: "عنك جاء هذا" أي منك، أو من قبلك. وكذلك هو في قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) ، أي من عباده، وقوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) ، أي نتقبل منهم. وليس قول النابغة من قولهم"إليك عني"، أي كف وأمسك - في شيء. والشعر الذي يليه دال على ذلك، والبيت الذي يلي هذا فيه الكلمة المنصوبة بقوله"إليك إليك": قَوَافِيَ كَالسِّلامِ إِذَا اسْتَمَرَّتْ ... فَلَيْسَ يرُدّ مَذْهَبَهَا التَّظَنِّي أي خذها قوافي كالسلام، وهي الحجارة. وقوله: "عيين" يعني عيينة بن حصن الفزاري، وكان أعان بني عبس على بني أسد حلفاء بني ذبيان" رهط النابغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وقال عبدُ بني الحَسْحَاس: أَلِكْنِي إِلَيْهَا عَمْرَكَ اللَّهُ يَا فَتًى ... بِآيَةِ ما جاءتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا (1) يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة، لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ} اختلف أهل التأويل في قوله:"إني جاعل"، فقال بعضهم: إني فاعل. * ذكر من قال ذلك: 597- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن، وأبي بكر -يعني الهذلي- عن الحسن، وقتادة، قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" (2) قال لهم: إني فاعل (3) .   (1) سلف القول في هذا البيت: 106 آنفًا. (2) في المطبوعة: "قال الله للملائكة إني. . ". وهو موافق لما نقله ابن كثير. (3) الأثر: 597- نقله ابن كثير 1: 127 عن الطبري. ووقع في إسناده هناك سقط، والظاهر أنه خطأ مطبعي. وذكره السيوطي 1: 44 مختصرًا. وسيأتي مرة أخرى: 611 مطولا، بهذا الإسناد نصًّا. وهو هنا بإسنادين بل ثلاثة: رواه الحجاج -وهو ابن المنهال- عن جرير ابن حازم، وعن المبارك -وهو ابن فضالة- ثم رواه عن أبي بكر الهذلي، ثلاثتهم عن الحسن البصري، والإسنادان الأولان جيدان، والثالث ضعيف، بضعف أبي بكر الهذلي، ضعفه ابن المديني جدًّا، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وترجمه البخاري في الكبير 2/2/199 باسم"سلمى أبو بكر الهذلي البصري"، وقال: "ليس بالحافظ عندهم. قال عمرو بن علي: عدلت عن أبي بكر الهذلي عمدًا". وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/ 313 - 314، وأبان عن ضعفه. و"سلمى": بضم السين وسكون اللام مع إمالة الألف المقصورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وقال آخرون: إني خالق. * ذكر من قال ذلك: 598- حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، قال: كل شيء في القرآن"جَعَل"، فهو خلق (1) . قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة": أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا (2) . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة. وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي"مكة". * ذكر من قال ذلك: 599- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دُحِيت الأرضُ من مكة، وكانت الملائكة تطوفُ بالبيت، فهي أوّل من طاف به، وهي"الأرضُ" التي قال الله:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، وكان النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا. فإنّ قَبر نُوحٍ وهودٍ وصَالحٍ وشعَيْب، بين زَمزَم والرُّكن والمَقَام (3) . * * *   (1) الأثر: 598- نقله السيوطي 1: 44 عن الطبري، ولكنه جعله من كلام الضحاك. وأبو روق يكثر رواية التفسير عن الضحاك. فلعل ذكر"الضحاك" سقط من الناسخين في بعض نسخ الطبري. وأيًّا ما كان فهذا الإسناد ضعيف. سبق بيان ضعفه: 137. ويزيده ضعفًا هنا جهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري عن المنجاب، في قوله"حدثت"، بتجهيل من حدثه. (2) في المخطوطة: "خلقًا"، بالقاف. (3) الحديث: 599- نقل ابن كثير في التفسير 1: 127 معناه من تفسير ابن أبي حاتم: "حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن ابن سابط"، فذكره مرفوعا بنحوه مختصرًا. وقال ابن كثير: "وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم - فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك". أما إرساله: فإن"عبد الرحمن بن سابط": تابعي، وهو ثقة، ولكنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل لم يدرك كبار الصحابة، كعمر وسعد ومعاذ وغيرهم. ويقال إنه"عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط". واختلف في ذلك جدًّا، فلذلك ترجمه الحافظ لأبيه في الموضعين: "سابط"، أو"عبد الله بن سابط"، وفي الإصابة 3: 51 - 52، 4: 73. ونقله السيوطي 1: 46، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم وابن عساكر، مطولا كرواية الطبري، ونقله الشوكاني 1: 50 مختصرًا، كرواية ابن أبي حاتم، ونقل تعليل ابن كثير إياه. وفي المطبوعة"أتى هو ومن معه". وفي المخطوطة"فيعبدوا الله بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 القول في تأويل قوله: {خَلِيفَةً} والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [سورة يونس: 14] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلَفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلُف خِلافة وخِلِّيفَى (1) . وكان ابن إسحاق يقول بما: 600- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني جاعل في الأرض خليفة"، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم (2) . وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وخليفًا"، والصواب ما أثبتناه. في حديث عمر: "لولا الخليفى لأذنت" (بكسر الخاء وتشديد اللام المكسورة، بعدها ياء، ثم فاء مفتوحة) قالوا: وهو وأمثاله من الأبنية كالرمي والدليلي، مصدر يدل على معنى الكثرة. يريد عمر: كثرة اجتهاده في ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنتها. (2) الأثر: 600- في ابن كثير 1: 127 وفي المطبوعة هنا، وفي: 615"خلقا ليس منكم" بالقاف، وهو خطأ، والصواب في ابن كثير 1: 127. وقوله"خلفًا": أي بدلا ممن مضى، وهو سكان الأرض قبل أبينا آدم عليه السلام، كما يأتي في الخبر التام: 615. وقوله: "ليس منكم"، كلام مستأنف، أي ليس منكم أيتها الملائكة. أما المخطوطة ففيها: "ليس خلفًا منكم" وهو خطأ محض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها - ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ. فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا (1) وفيها منه خلَفًا؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك. 601- فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال:"إني جاعل في الأرض خليفة" (2) . فعلى هذا القول:"إني جاعل في الأرض خليفة"، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها. 602- وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم   (1) في المطبوعة: "بدلا منه" بالتقديم. (2) الخبر: 601- في ابن كثير 1: 127. وقد روى الحاكم في المستدرك 2: 261 خبرًا يشبهه في بعض المعنى ويخالفه في اللفظ قال: "أخبرنا عبد الله بن موسى الصيدلاني، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس:. . . " وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأما إسناد الطبري هنا فضعيف، كما بينا فيما سبق: 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض (1) . وقال آخرون في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري. ونظيرٌ له ما:- 603- حدثني به محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم. 604- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أنْ أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفةً. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق (2) . وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابنُ زيد أنَّ الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفةً له يحكم فيها بين خلقه بحكمه، نظيرَ ما:- 605- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي   (1) الأثر: 602- رواه الطبري في التاريخ 1: 43، بهذا الإسناد. سيأتي أيضًا بهذا الإسناد بأطول منه: 612. ونقله ابن كثير 1: 128، والسيوطي 1: 45 بالرواية المطولة، ولكنهما جعلاه من كلام أبي العالية. فهو من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية. وزاد السيوطي في نسبته أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة. (2) الأثران: 603، 604 - في ابن كثير 1: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 صلى الله عليه وسلم: أنّ الله جل ثناؤه قال للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذُرّيةٌ يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا (1) . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله -لأنهما أخبرَا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته- إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟ =: إنه خليفة يكون له ذُرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته. وهذا التأويل، وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرْفُ متأوِّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم (2) بمعنى استخلاف الله إياه فيها. وإضافة الحسن الخلافةَ إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضًا، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة. والذي دعا المتأوِّلين قولَه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" -في التأويل الذي ذُكر عن الحسن- إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها- إذ قال لهم ربهم:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"-:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبرَ الله جل ثناؤه أنه   (1) الأثر: 605 - في ابن كثير 1: 127. (2) في المطبوعة: "فإضافتهم"، والصواب ما في المخطوطة، ويعني بهما ابن مسعود وابن عباس كما مضى آنفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 جاعله في الأرض لا عنْ غيره (1) . لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنهُ جرتْ. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك -وكان الله قد بَرّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهَّره من ذلك- عُلم أن الذي عنى به غيرَه من ذرّيته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غيرُ آدم، وأنهم وَلدُه الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرَها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنًا غيرَهم لما وصفنا. وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأوّلو الآية هذا التأويل، سبيلَ التأويل. وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربها:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، لم تُضف الإفساد وسفك الدماء في جَوابها ربَّها إلى خليفته في أرضه، بل قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها"؟ وغير مُنْكَر أن يكون ربُّها أعلمها أنه يكون لخليفتِه ذلك ذرّيةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا"أتجعل فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء". كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل (2) . * * *   (1) في المطبوعة"لا غيره" بإسقاط"عن". (2) في الأصل المخطوط بعد هذا الموضع ما نصه: - [بلغتُ من أوّله بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب ابن عبد الله الخصيبيّ، عن أبي محمد الفَرْغانيّ، عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي علي بن أحمد بن عيسى، ونصر بن الحسن الطبري. وسمع أبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري، من موضع سماعه. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعمئة] * * * "تذكرة" تبين لي مما راجعته من كلام الطبري، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة. فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى"الخليفة"، و"الخلافة"، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى"الخليفة". وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بين في الفقرة التالية للأثر رقم: 605، إذ ذكر ما روي عن ابن مسعود وابن عباس، وما روي عن الحسن في بيان معنى"الخليفة"، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر: 465 عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص: 353"فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. . "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضًا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين، ولا في التفسير التام لآي كتاب الله. فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها. فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا. ولما لم يكن مستنكرًا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم. وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شيء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر. ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولا وآخرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل (1) : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، ولم يكن آدمُ بعد مخلوقًا ولا ذُرّيته، فيعلموا ما يفعلونَ عيانًا؟ أعلمتِ الغيبَ فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادة منها بالظنّ وقولٌ بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أمْ ما وجه قيلها ذلك لربها؟ (2)   (1) في المطبوعة: "إن قال قائل". (2) في المطبوعة: "فما وجه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثم مخبرون بأصحِّها برهانًا وأوضحها حُجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما: 606- حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم"الحِنّ"، خُلقوا من نار السَّمُوم من بين الملائكة (1) قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخُلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخُلق الإنسان من طين. فأوّل من سكن الأرضَ الجنُّ. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحِن (2) - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه. وقال:"قد صنعتُ شيئًا لم يصنعه أحد"! قال: فاطَّلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة". فقالت الملائكة مجيبين له:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفِك الدماء"، كما   (1) في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان 7: 177، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء) ، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في 1: 291-292، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك: إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ ... من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ ... مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان 6: 193، أيضًا، واللسان (جنن) ، وغيرهما. (2) في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان 7: 177، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء) ، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في 1: 291-292، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك: إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ ... من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ ... مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان 6: 193، أيضًا، واللسان (جنن) ، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل -أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [سورة الرحمن: 14] . يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت (1) . قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره، ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا! -للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهضَ فلم يقدرْ، فهو قول الله: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) [سورة الإسراء: 11] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال:"الحمد لله ربّ العالمين" بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين -يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله (2) ، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة -يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض (3) . قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم - أيها الملائكة خاصة - إني أعلم غيبَ السموات والأرض، ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تبدون - يقول: ما تُظهرون - وما كنتم تكتمون - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (4) . قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه:"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرص خليفة"، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع، وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم، وأنّ كرامته   (1) المصمت: الذي لا جوف له، وكل ذي جوف إذ قرع صوت، أما المصمت فهو صامت لا صوت له. فمن الصمت أخذوه. (2) في المطبوعة: "وآيسه الله. . . ". (3) في المطبوعة: "أنكم تعلمون أني أجعل في الأرض خليفة"، وقوله"لم أجعل. . " سقط"لم" من المخطوطة أيضًا. والصواب من الدر المنثور، والشوكاني، حيث يأتي تخريجه. وسيأتي على الصواب أيضًا في رقم: 671 ص: 490، وهو مختصر من هذا الأثر. (4) الخبر: 606 - خرجه السيوطي في الدر المنثور مفرقًا 1: 44-45، 49، 50. والشوكاني 1: 52 بعضه مفرقًا. وروى الطبري قطعة منه، بهذا الإسناد، في تاريخه 1: 42-43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 لا تنال بقوَى الأبدان وشدّة الأجسام، كما ظنه إبليس عدوّ الله. ومُصَرِّح بأن قيلهم لربِّهم (1) : "أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب؛ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقَفَهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رَجْم الغيْب بالظُّنون، وتبرَّأوا إليه أن يعلم الغيب غيرُه، وأظهرَ لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبْر الذي قد كان عنهم مستخفيًا (2) . وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية، وهو ما:- 607- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"لما فرَغ الله من خلق ما أحبّ، استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ (3) - وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيّة لي - هكذا قال موسى بن هارون، وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة (4) - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه،   (1) في المطبوعة: "ويصرح"، وسياق الكلام: "تنبئ عن أن قول الله. . . خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع،. . ومصرح بأن قيلهم"، عطفًا على خبر "أن". (2) هذا التعقيب على خبر ابن عباس، دليل على ما ذهبنا إليه في بيان طريقة الطبري في الاستدلال بالأخبار والآثار انظر ص: 453-454. فهو لم يروه لاعتماد صحته، بل رواه لبيان أن قول الله سبحانه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، إنما هو خطاب فيه لفظ العموم"الملائكة"، ويراد به الخصوص لبعض الملائكة، كما هو معروف في لسان العرب. وأن قول هؤلاء الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها. . . "، لم يكن عن علم عرفوه من علم الغيب، بل كان ظنًّا ظنوه. وسيأتي بعد ما يوضح مذهب الطبري في الاستدلال، كما سأشير إليه في موضعه. (3) في المخطوطة: "الحن" بالحاء، وتفسيرها التالي يدل على أنها بالجيم. وانظر ما كتبناه آنفًا في ص: 455 التعليق: 1. (4) غيره، الذي أبهمه الطبري هنا، بينه في التاريخ 1: 43، قال: "وحدثنى به أحمد بن أبي خيثمة، عن عمرو بن حماد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا،"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبِّح بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون". يعني من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقُص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعذْتُها. فبعث الله ميكائيل، فعاذَت منه، فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث مَلَك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تُرْبة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصَعِد به، فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا -واللازبُ: هو الذي يلتزق بعضه ببعض- ثم ترك حتى أنتن وتغير (1) . وذلك حين يقول: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [سورة الحجر: 28] . قال: منتن - ثم قال للملائكة: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [سورة ص: 71-72] . فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيديّ، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة: فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوّت الجسدُ كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [سورة الرحمن: 14] ويقول لأمر ما خُلقت! ودخل من فيه فخرج من دُبُره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإنّ ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف (2) . لئن سُلطت عليه لأهلكنّه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من رُوحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الرّوح فدخل الروح في رأسه عَطَس، فقالت له الملائكة: قل الحمدُ لله. فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربُّك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعامَ، فوَثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عَجْلانَ إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [سورة الأنبياء: 37] . فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين -أي استكبرَ (3) - وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لِما خلقتُ بيديّ؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجدَ لبشر خلقته من طين. قال الله له: أخرج منها فما يكون لك -يعني ما ينبغي لك- أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين - والصَّغار: هو الذل -. قال: وعلَّم آدم الأسماء كلها، ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنّ بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنتَ العليم الحكيم. قال الله: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. قال قولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فهذا الذي أبدَوْا،"وأعلم ما كنتم تكتمون"، يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر (4) . قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل، وموافقٌ معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوّله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إني جاعلٌ في الأرض خليفة. فأجابها أنه تكون له ذُرّية يُفسدون في الأرض وَيتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قولُ الملائكة ما قالت من ذلك لرَبِّها، بعد إعلام الله إياها أنّ ذلك كائن من ذُرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه. وأما موافقته إياه في آخره، فهو قولهم في تأويل قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين": أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك، تبرِّيًا من علم الغيب -:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم". وهذا إذا تدبّره ذو الفهم، علم أن أوّله يفسد آخرَه، وأن آخره يُبطل معنى أوّله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء، فقالت الملائكة لربها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربُّها، فيجوزَ أن يقالَ لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به، فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خُلفٌ من التأويل، ودعوَى على   (1) في المطبوعة"حين أنتن"، وصحته"حتى أنتن"، كما في تاريخ الطبري، وتفسير ابن كثير - فيما تبين في تخريجه. (2) الصمد هنا: هو الذي لا جوف له، والمصمد والمصمت واحد. وانظر ما سلف ص: 456 تعليق: 1. (3) في المطبوعة: "أبى واستكبر"، وهو تحريف. (4) الخبر: 607- روى الطبري قطعة منه في تاريخه 10: 41-42، بهذا الإسناد. وقطعة أخرى أيضًا 1: 43. وثالثة 1: 45-46. ورابعة 1: 47. وخامسة 1: 47-48. وسادسة 1: 50. وبعضه عن السيوطي 1: 45-47، والشوكاني 1: 50. وقد مضى تعليل هذا الإسناد، في: 168، ورأى الطبري نفسه فيه: 452، وأنه فيه مرتاب. وقد ساقه ابن كثير بطوله 1: 137-138، ثم قال: "فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة. فلعل بعضها مدرج، ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه، بهذا الإسناد بعينه، أشياء، ويقول: على شرط البخاري! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الله ما لا يجور أن يكون له صفة (1) . وأخشى أن يكون بعض نَقَلة هذا الخبر هو الذي غَلِط على من رواه عنه من الصحابة، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العِلم بخبَري إياكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم:"إنه يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء"، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرّية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء، فقد كانَ طوَى عنهم الخبرَ عما يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحهم في أرْضه، وحقن الدماء، ورفعِه منزلتَهم، وكرامتِهم عليه، فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، على ظنٍّ منها -على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرتُ وظاهرِهما- أنّ جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يُفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم -إذ علّم آدم الأسماء كلها -: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم - إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم، وهو من صفة خاصِّ ذرّية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفةٌ منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية (2) . ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم، ما:- 608- حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي (3) قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، قال: يعنون الناس (4) . وقال آخرون في ذلك بما:- 609- حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً"، فاستشار الملائكة في خلق آدمَ، فقالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض -"ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم -وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (5) [سورة فصلت: 11] . وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظنّ، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من   (1) نقد الطبري دال أيضًا على ما ذهبنا إليه من الاستدلال بالآثار كاستدلال المستدل بالشعر. وأنت تراه ينقض هذا الخبر نقضًا، ويبين الخطأ في سياقه، وتناقضه في معناه. وهذا بين إن شاء الله. (2) وهذا أيضًا دليل واضح على أن استدلال الطبري بالأخبار والآثار، ليس معناه أنه ارتضاها، بل معناه أنه أتى بها ليستدل على سياق تفسير الآية مرة، وعلى بيان فساد الأخبار أنفسها مرة أخرى. وقد أخطأ كثير ممن نقل عن الطبري في فهم مراده، وتحامل عليه آخرون لم يعرفوا مذهبه في هذا التفسير. (3) في المطبوعة. "ابن أحمد بن إسحاق الأهوازي"، وزيادة"ابن" خطأ. (4) الأثر: 608- لم أجده. (5) الأثر: 609- في ابن كثير 1: 129، وبعضه في الدر المنثور مفرقًا 1: 45، 46، 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 قيلها، وردّ عليها ما رأت بقوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله. وقد رُوي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويل، وهو ما:- 610- حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"أتجعل فيها من يُفسد فيها" قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها" (1) . وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل، منهم الحسن البصري: 611- حدثنا القاسم: قال حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة- قالا قال الله لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرص خليفة" - قال لهم: إني فاعلٌ - فعرضُوا برأيهم، فعلّمهم علمًا وطوَى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد كانت الملائكة علمتْ من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء -"ونحن نسبّح بحمدك ونُقدس لكَ. قال إني أعلم ما لا تعلمون". فلما أخذ في خلق آدم، هَمست الملائكة فيما بينها، فقالوا: ليخلق رَبنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرَهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضّله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلمُ منه، لأنا كنا قَبله، وخُلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ "علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمَاء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القومُ إلى التوبة -وإليها يفزع كل مؤمن- فقالوا:"سبحانك لا علم لنا إلا   (1) الأثر: 610- لم أجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال: يا آدم أنبئهم بأسمَائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم إني أعلمُ غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدُون وما كنتم تكتمون" - لقولهم:"ليخلقْ ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرمَ عليه منا ولا أعلم منا". قال: علمه اسم كل شيء، هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه كل أمة، فقال:"ألم أقل لكم إني أعلم غَيبَ السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: أما ما أبدَوْا فقولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وأمَّا ما كتموا فقول بعضهم لبعض:"نحن خير منه وأعلم" (1) . 612- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفةً" الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماءُ، وكان الفسادُ في الأرض. فمن ثمّ قالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية (2) . 613- [حدثنا محمد بن جرير، قال] : حدثت عن عمار بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن أَبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله-:"ثم عَرَضهم   (1) الأثر: 611- سبق بعضه بهذا الإسناد نصًّا. وشرحنا جودة بعضه وضعف بعضه. ونقل السيوطي 1: 49، بعضه عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وذكر ابن كثير 1: 128 قسما منه، من تفسير ابن أبي حاتم: عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد بن سليمان، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن - وهو البصري. وهذا إسناد صحيح إلى الحسن البصري: فإن"الحسن بن محمد بن الصباح": هو الزعفراني الثقة المأمون، تلميذ الشافعي وراوية كتبه بالعراق. وسعيد بن سليمان: هو سعدويه الضبي الواسطي، وهو ثقة مأمون من شيوخ البخاري ومن أقران الإمام أحمد. ومبارك بن فضالة: ثقة، من أخص الناس بالحسن البصري، جالسه 13 أو 14 سنة. (2) الأثر: 612- مضى صدره برقم: 602، وأشرنا إلى هذا هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين". إلى قوله:"إنك أنتَ العليم الحكيم". قال: وذلك حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرمَ. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدَم. وَعلم آدم الأسماء كلها، فقال للملائكة:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، إلى قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، وكان الذي أبدَوْا حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وكان الذي كتموا بينهم قولهم:"لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم"، فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم (1) . وقال ابن زيد بما:- 614- حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: لما خلق الله النارَ ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا، وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خُلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [سورة الإنسان: 1] . قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين (2) . ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! -لا يرَوْن له خلقًا غيرهم- قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا   (1) الأثر: 613- هو رواية أخرى للأثر السالف. ولم أجده في المراجع السالفة. (2) كلمة عمر رضي الله عنه: "ليت ذلك الحين"، يعني ليت الإنسان بقي شيئًا غير مذكور، طينًا لازبًا. يقولها من مخافة عذابه ربه يوم القيامة. وفي الدر المنثور 6: 297: "أخرج ابن المبارك، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب: أنه سمع رجلا يقرأ: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا) ، فقال عمر: ليتها تمت". فهذا في معنى كلمة عمر هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وأجعل فيها خليفةً، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال:"إني أعلمُ ما لا تعلمون"."يا آدم أنبئهم بأسمائهم". فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيث إبليس أن يقرَّ له، قال:"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". قال:"فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" (1) . وقال ابن إسحاق بما:- 615- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه -وكان أوّل بلاء ابتُليت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحبّ وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم- جمع الملائكة من سكان السموات والأرض، ثم قال:"إني جاعل في الأرض خليفة"- ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرُها - خَلَفًا، ليس منكم (2) . ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"   (1) الأثر: 614- سيأتي بعض معناه بهذا الإسناد: (ص 176 بولاق) . وأما هذا النص، فقد ذكر السيوطي بعضه 1: 45 ونسبه لابن جرير فقط. ولم يذكر فيه كلمة عمر بن الخطاب. وقد أشرنا إلى ورود معناها من وجه آخر، في الهامشة قبل هذه. وكلمة عمر هنا سيقت مساق الحديث المرفوع، إذ قال: "يا رسول الله، ليت ذلك الحين". فتكون حديثًا مرفوعًا مرسلا، بل منقطعًا، لأن ابن زيد -وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- لم يدرك إلا بعض التابعين. هذا إلى أنه ضعيف جدًّا، كما سبق في: 185. (2) في المطبوعة: "عامر وساكن يسكنها ويعمرها خلقًا ليس منكم"، وانظر ما مضى، رقم: 600، وانظر تخريجه بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال:"إني أعلم ما لا تعلمون" - قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يُبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم، مما يكون في الأرض، مما ذكرتُ في بني آدم. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص: 69-72] . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان منْ ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالقٌ بشرًا من صلصال من حمإٍ مسنون بيدي -تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفا له- حفظت الملائكة عهده وَوَعوْا قوله، وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدوّ الله إبليس، فإنه صمتَ على ما كان في نفسه من الحسد والبغْيِ والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدَمة الأرض، من طين لازب من حَمَإٍ مسنون، بيديه، تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار، ولم تمسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عَطس فقال: الحمد لله! فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبليس من بينهم فلم يَسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له: (يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) إِلَى (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص: 75-85] . قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال:"يا آدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" - أي، إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدمُ من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة (1) . وقال ابن جُريج بما:- 616- حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت -على التعجب منها-: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون، يعني: أن ذلك كائن منهم -وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه (2) . وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها" على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم، وإنما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يُعصَى الله، لأن الجن قد كانت أمرتْ قبل ذلك فعصتْ. وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا:"يا رب خبرنا"، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ. قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس   (1) الأثر: 615- مضى صدره برقم: 600. (2) الأثر: 616- لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 لك"، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك - لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه. وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلكَ فسألته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وجه التعجب، فدعْوَى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطعُ العذرَ. وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة. وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت -في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة - من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها"، على ما وصفت من الاستخبار. فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟ قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض -قبل آدم- من الجنّ، فقالت لربها:"أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون"؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه. وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو (1) . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد. فأولى التأويلات -إذ كان الأمر كذلك- بالآية، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالةٌ، مما يصح مخرجُه في المفهوم. فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟ قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر: فَلا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ، وَلَكِن خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ (2) فحذف قوله"دعوني للتي يقال لها عند صَيدها": خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله:"قالوا   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يمتنع منه. . . ويستحيل منه"، وليست بشيء. وفي المخطوطة مكان"التشاغب": "الساعر" غير مبينة. (2) البيت للشنفري الأزدي في قصة. شرح الحماسة 2: 24-26، والأغاني 21: 89 وغيرهما. ويروى: "لا تقبروني إن قبري"، "ولكن أبشري". وقوله"خامري": أي استتري، وأصله من الخمرة (بكسر فسكون) وهو الاستخفاء. يريدون بذلك دنو الضبع مستخفية ملازمة لمكانها حتى تخالط القتيل فتصيب منه. وأم عامر: كنية الضبع. وذلك مما يقوله لها الصائد حين يريد صيدها، يغرها بذلك حتى يتمكن منها، فيقول لها: "أبشري أم عامر بشياه هزلى، وجراد عظلى، +وكسر رجال قتلى"، فتميل الضبع إليه فيصيدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 أتجعل فيها من يفسد فيها"، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله:"إنّي جاعل في الأرض خليفة"، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله:"قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال أبو جعفر: أما قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك" فإنه يعني: إنا نعظِّمك بالحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [سورة النصر: 3] ، وكما قال: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [سورة الشورى: 5] ، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيحٌ وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيتُ سُبْحَتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاةُ الملائكة. 617- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي، فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين، فقال له: النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وأنت جالس! فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظنّ إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمرّ عليه عمر بن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي صلى الله عليه وسلم يصَلِّي وأنت جالس! فقال له مثلها، فقال: هذا من عَملي. فوثب عليه فضربَه حتى انتهى، ثم دخل المسجدَ فصلّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر فقال: يا نبيَّ الله مررت آنفًا على فلان وأنت تُصلي، فقلت له: النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلّي وأنت جالس! فقال: سرْ إلى عملك إن كان لكَ عمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ضربْتَ عُنقه. فقام عمر مسرعًا. فقال: يا عُمر ارجع فإن غضبك عِزّ ورضاك حُكْم، إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنًى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله، وما صَلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئًا، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عُمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم. فقال: اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي الملك والملكوت"، وأهل السماء الثانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي العزة والجبروت"، وأهل السماء الثالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان الحي الذي لا يموت" (1) . 618- قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وسهل بن موسى الرازي، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة، قال: أخبرنا الجُرَيْرِي، عن أبي عبد الله الجَسْري، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَادَه -أو أن أبا ذَرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بأبي أنتَ، أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته:"سبحان رَبي وبحمده، سبحان ربي وبحمده" (2) .   (1) الحديث: 617 هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي. وإسناده إليه إسناد جيد. يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي أبو الحسن: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 4/2/391، فلم يذكر فيه جرحًا. وفي التهذيب: "قال محمد بن حميد الرازي [وهو شيخ الطبري هنا] : دخلت بغداد، فاستقبلني أحمد وابن معين، فسألاني عن أحاديث يعقوب القمي". جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي: ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 1/2/200، وابن أبي حاتم في الجرح 1/1/490-491، فلم يذكرا فيه مطعنًا. وفي التهذيب أن ابن حبان نقل في الثقات توثيقه عن أحمد بن حنبل. وهذا الحديث بطوله، رواه أبو نعيم في الحلية 4: 277-278، من طريق محمد بن حميد -شيخ الطبري- بهذا الإسناد. وذكر السيوطي في الدر المنثور 1: 46 آخره، من أول سؤال عمر عن صلاة الملائكة، ولم ينسبه لغير الطبري وأبي نعيم. (2) الحديث: 618 - في الدر المنثور ولم ينسبه لابن جرير، وقال: "أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر. . . " 5: 161، 176. وهو في المسند 5: 148 ومسلم 2: 319، 8: 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 - في أشكال لما ذكرنا من الأخبار (1) ، كرهنا إطالةَ الكتاب باستقصائها. وأصلُ التسبيح لله عند العرب: التنزيهُ له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة: أَقُولُ -لمَّا جَاءَنِي فَخْرُه-: ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ (2) يريد: سُبحان الله من فَخر علقمة، أي تنزيهًا لله مما أتى علقمة من الافتخار، على وجه النكير منه لذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم:"نسبح بحمدك": نصلي لك. * ذكر من قال ذلك: 619- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك"، قال: يقولون: نصلّي لك. وقال آخرون:"نُسبّح بحمدك" (3) التسبيح المعلوم. * ذكر من قال ذلك: 620- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك"، قال: التسبيحَ التسبيحَ (4) . * * *   (1) في المطبوعة: "في كل أشكال لما ذكرنا. . . "، و"كل" مقحمة هنا بلا شك. (2) ديوانه: 106، من قصيدته المشهورة، التي قالها في هجاء علقمة بن علاثة، في خبر منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل (الأغاني 15: 50-56) . وذكر ابن الشجري في أماليه 1: 348 عن أبي الخطاب الأخفش، قال: "وإنما ترك التنوين في"سبحان" وترك صرفه، لأنه صار عندهم معرفة". وقال في 2: 250: "لم يصرفه، لأن فيه الألف والنون زائدين، وأنه علم للتسبيح، فإن نكرته صرفته". وانظر ص: 495 وتعليق رقم: 3. (3) في الأصول: "نسبح لك"، والصواب ما أثبتناه، وهو نص الآية. (4) الأثران: 619، 620- في ابن كثير 1: 129، والدر المنثور 1: 46، والشوكاني 1: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 القول في تأويل قوله تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم:"سُبُّوح قُدُّوس"، يعني بقولهم:"سُبوح"، تنزيهٌ لله، وبقولهم:"قُدوسٌ"، طهارةٌ له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض:"أرض مُقدسة"، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا:"ونحن نسبِّح بحمدك"، ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك، ونصلي لك."ونقدس لك"، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صَلاتها له. كما:- 621- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديسُ: الصلاة (1) . وقال بعضهم:"نقدس لك": نعظمك ونمجدك. * ذكر من قال ذلك: 622- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدّب، قال: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله:"ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك"، قال: نعظمك ونمجِّدك (2) . 623- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"ونقدس لك"، قال نعظّمك ونكبِّرك (3) .   (1) الأثر: 621- في ابن كثير 1: 129، والدر المنثور 1: 46، والشوكاني 1: 50. (2) الأثر: 622- في الدر المنثور 1: 46. (3) الأثر: 623- في ابن كثير 1: 129، والدر المنثور 1: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 624- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق:"ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"، لا نَعْصي ولا نأتي شيئًا تكرهُه (1) . 625- وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديس: التطهير (2) . وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أنّ صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكانَ:"ونقدِّس لك" و"نقدِّسك"، كان فصيحا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدِّسه، ويسبح لله ويقدِّس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن، قال الله جل ثناؤه: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) [سورة طه: 33-34] ، وقال في موضع آخر: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [سورة الجمعة: 1] * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله:"أعلم ما لا تعلمون"، مما اطلع عليه من إبليس، وإضماره المعصيةَ لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته. * ذكر من قال ذلك: 626- حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"إني أعلم   (1) الأثر: 624- في ابن كثير 1: 129. (2) الأثر: 625- في ابن كثير 1: 129، وفي الدر المنثور 1: 46: "وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: التقديس: التطهير"، ولم ينسبه للضحاك، ولا لابن جرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره (1) . 627- وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يعني من شأن إبليس. 628- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد -وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. 629- وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد، بمثله (2) . 630- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عَن مجاهد مثله (3) . 631- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (4) .   (1) الخبر: 626- لم يذكر في المصادر السالفة. و"بشر بن عمارة": مضت ترجمته في: 137، وتكرر مرارًا، ولكن مصححو طبعة بولاق قالوا في هذا الموضع: "كذا في النسخ بالتاء، وتكرر بها فيها كلها. وهو في الخلاصة بدون تاء"!! وهو"عمارة" بالتاء في جميع الكتب والدواوين. والذي في الخلاصة خطأ مطبعي فقط!! (2) الأثر: 629-"علي بن بذيمة"، بفتح الباء الموحدة وكسر الذال المعجمة، وهو ثقة. (3) الأثر: 630-"ابن يمان"، بفتح الياء وتخفيف الميم: هو يحيى بن يمان العجلي الكوفي، وهو صدوق من شيوخ أحمد بن حنبل. و"سفيان" في هذا والذي قبله - هو الثوري. (4) الأثر: 631-"القاسم بن أبي بزة"، بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاي: ثقة مكي، قال ابن حبان: "لم يسمع التفسير من مجاهد -أحد غير القاسم، وكل من يروي عن مجاهد التفسير- فإنما أخذه من كتاب القاسم". وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/2/122: "هو القاسم بن نافع بن أبي بزة، واسم أبي بزة: يسار". و"محمد بن عبد الرحمن" الراوي عنه هنا: هو ابن أبي ليلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 632- وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري، قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس كتمانه الكِبْر أن لا يسجُد لآدم. 633- وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قول الله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية. 634- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. 635- وحدثني المثنى، قال: حدثنا سُويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: قال مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (1) . وقال مرَّة آدم. 636- وحدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقَه لها (2) .   (1) الأثر: 635- ذكره السيوطي 1: 46. والشوكاني 1: 50. ولكن سقط اسم"مجاهد"، من الدر المنثور، خطأ مطبعيًّا. (2) الأثر: 636 - أما"مجاهد بن جبر"، فهو التابعي الكبير، الثقة الفقيه المفسر. ولكن ابنه"عبد الوهاب بن مجاهد": ضعيف جدًّا، قال أحمد بن حنبل: "لم يسمع من أبيه، ليس بشيء، ضعيف الحديث". وضعفه أيضًا ابن معين وأبو حاتم. ومر عبد الوهاب بسفيان الثوري، في مسجد الحرام، فقال سفيان: "هذا كذاب". وأما هذا الأثر، بزيادة: "وعلم من آدم الطاعة -. . . "- فلم نجده في موضع آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 637- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، والثوري، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (1) . 638- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني أعلم ما لا تعلمون". أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدِها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء. وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهلُ الطاعة والولايةِ لله. * ذكر من قال ذلك: 639- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورُسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة (2) . وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم:"إني أعلم ما لا تعلمون". يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك   (1) الأثر: 637- هو في معنى الآثار السالفة: 633-635. (2) الأثر: 639- في ابن كثير 1: 130، والدر المنثور 1: 46، والشوكاني 1: 50. وفي ابن كثير: "في تلك الخليقة" وفي الدر المنثور"من تلك الخليقة" وفي الشوكاني: "سيكون من الخليقة": وجميعها بالقاف، وهو خطأ، والصواب ما في نص الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ -ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه- فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَعَلَّمَ آدَمَ} 640- حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: بعث ربُّ العزة مَلكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها، فخلق منه آدم. ومن ثَمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض (1) . 641- وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: إن آدم خُلق من أديم الأرض، فيه الطيّب والصالح والرديء، فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء (2) .   (1) الخبر: 640- هذا إسناد صحيح. ورواه الطبري في التاريخ أيضًا 1: 46، بهذا الإسناد، بزيادة في آخره. ولكن فيه: "بعث رب العزة إبليس" بدل"ملك الموت". وهذا هو الصواب الموافق لسائر الروايات، فلعل ما هنا تحريف قديم من الناسخين. وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات 1/1/6، عن حسين بن حسن الأشقر، عن يعقوب بن عبد الله القمي، بهذا الإسناد. وكذلك نقله السيوطي 1: 47، مطولا، عن ابن سعد، والطبري، وابن أبي حاتم، وابن عساكر. (2) الخبر: 641- رواه الطبري في التاريخ 1: 46، بهذا الإسناد. وذكره السيوطي 1: 47، منسوبًا للطبري وحده، ولم أجده عند غيره. وإسناده ضعيف جدًّا. عمرو بن ثابت: هو ابن أبي المقدام الحداد، ضعيف جدًّا، قال ابن معين: "ليس بثقة ولا مأمون". وأما أبوه"ثابت بن هرمز أبو المقدام"، فإنه ثقة. ويزيد هذا الإسناد ضعفًا وإشكالا - قوله فيه: "عن جده"! فإن ترجمة ثابت في المراجع كلها ليس فيها أنه يروي عن أبيه"هرمز". ثم لا نجد لهرمز هذا ذكرا ولا ترجمة، فما أدرى مم هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 642- وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مِسعر، عن أبي حَصين، عن سعيد بن جُبير، قال: خُلق آدم من أديم الأرض، فسمِّي آدم. 643- وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض (1) . 644- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربةَ آدم، أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاءَ وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم، لأنه أخذ من أديم الأرض (2) . وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم. وذلك ما-: 645- حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عوف -وحدثنا محمد بن بشار، وعمر بن شَبة- قالا حدثنا يحيى بن سعيد -قال: حدثنا عوف- وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف -وحدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا عنبسة- عن عوف الأعرابي، عن قَسامَة بن زُهير، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض، فجاء   (1) الأثران: 642، 643- رواهما الطبري في التاريخ أيضًا 1: 46، بهذين الإسنادين. وذكره بنحوه السيوطي 1: 49، والشوكاني 1: 52. و"أبو حصين"، فيهما بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، وهو: عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، ثقة ثبت صاحب سنة. (2) الخبر: 644- مضى ضمن خبر مطول، بهذا الإسناد: 607. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب (1) . فعلى التأويل الذي تأول"آدم" من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض، يجب أن يكون أصْل"آدم" فعلا سُمي به أبو البشر، كما سمي"أحمد" بالفعل من الإحماد، و"أسعد" من الإسعاد، فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ، يعني به بلغ أدمتها -وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين، كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا، لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس ما-: 646- حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: علم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة، وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. (2) .   (1) الحديث: 645- هو حديث صحيح. ورواه أحمد في المسند 4: 400، 406 (حلبى) ، وابن سعد في الطبقات 1/1/5-6، وأبو داود: 4693، والترمذي 4: 67-68، والحاكم 2: 261-262، كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن قسامة بن زهير، به. قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي 1: 46، ونسبه لهؤلاء، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وغيرهم. ورواه أيضًا الطبري في التاريخ 1: 46، بهذه الأسانيد التي هنا، بزيادة في آخره. (2) الخبر: 646- في ابن كثير 1: 132، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1: 52 وقد مضى برقم: 606، مطولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 647- وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء. 648- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خُصيف، عن مجاهد:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء (1) . 649- وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم الجَرمي، عن محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن خُصيف، عن مجاهد، قال: علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء (2) . 650- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شَريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: علمه اسمَ كل شيء، حتى البعير والبقرة والشاة (3) . 651- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شَريك، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس، قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة (4) . 652- وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك،   (1) الأثران: 647، 648- في الدر المنثور 1: 49، وكأنهما اختصار لما بعدهما. (2) الأثر: 649- لم أجده بنصه ولعله مطول الذي قبله، وانظر ما سيأتي رقم: 666. و"مسلم الجرمي": ثبت في الأصول بالحاء. وقد مضى في: 154 ترجيحنا أنه بالجيم. (3) الأثر: 650- في الدر المنثور 1: 49. (4) الخبر: 651- سعيد بن معبد: تابعي، يروي عن ابن عباس، لم أجد له ترجمة إلا في التاريخ الكبير للبخاري 2/1/468، والجرح لابن أبي حاتم 2/1/63. وكلاهما ذكر أنه يروي عن ابن عباس، ويروي عنه: القاسم بن أبي بزة. فجاءنا الطبري بفائدة زائدة، في هذا الإسناد، وفي الإسناد: 653: أنه يروي عنه أيضًا عاصم بن كليب. وهذا الخبر ذكره بنحوه: ابن كثير 1: 132، والسيوطي 1: 49. ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم. وهذا الخبر والثلاثة بعده، متقاربة المعنى، هي روايات لخبر واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 عن عاصم بن كليب، عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: حتى الفسوة والفُسيَّة. 653- حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعب، عن قيس، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس في قول الله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة. 654- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم بن كليب، قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القُصيعة، والفسوة من الفسية (1) . 655- وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها" حتى بلغ:"إنك أنتَ العليمُ الحكيم" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم"، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه (2) . 656- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، لكل شيء، ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (3) . 657- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم -ومبارك، عن الحسن- وأبي بكر عن الحسن وقتادة،   (1) الخبر: 654- عاصم بن كليب الجرمي: ثقة يحتج به. ولكنه إنما يروي عن التابعين، فروايته عن ابن عباس هنا منقطعة. وقد دلتنا الأسانيد الثلاثة الماضية على أنه إنما روى هذا المعنى عن سعيد بن معبد، وعن الحسن بن سعد، عن ابن عباس. (2) الأثر: 655- في الدر المنثور 1: 49، بغير هذا اللفظ. وانظر رقم: 697. (3) الأثر: 656- في ابن كثير 1: 133 مختصرًا، وفي الدر المنثور 1: 49 مطولا وفي ابن كثير: "ثم عرض تلك الأسماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 قالا علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه. (1) 658 - وحُدِّثت عن عمّار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شيء. (2) وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة. * ذكر من قال ذلك: 659 - حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وعلم آدمَ الأسماء كلها"، قال: أسماء الملائكة. (3) وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها. * ذكر من قال ذلك: 660 - حدثني محمد بن جرير، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: أسماء ذريته أجمعين. (4) وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها" إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال:"ثمّ عرَضهم على الملائكة"، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت:"عرضهن" أو"عرضها"، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف   (1) الأثر: 657- في ابن كثير 1: 133 بغير هذا اللفظ مختصرًا، وفي الدر المنثور 1: 49، وسيأتي كما جاء فيهما برقم: 667. (2) الأثر: 658- لم أجده. (3) الأثر: 659- في ابن كثير 1: 132، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1: 52. (4) الأثر: 660- في ابن كثير 1: 132، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف. وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك (1) بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) [سورة النور: 45] ، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون. فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة، وإن كان ما قال ابن عباس جائزًا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله:"والله خَلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بَطنه" الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود:"ثم عَرضهن"، وأنها في حرف أبَيّ:"ثم عَرضَها". (2) ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسيَّة، على قراءة أبيّ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ. وتأويل ابن عباس - على ما حُكي عن أبيّ من قراءته - غيرُ مستنكر، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب، على نحو ما تقدم وصفي ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية، على قراءتنا ورَسم مُصْحفنا، وأن قوله:"ثم عَرَضهم"، بالدلالة على بني آدم والملائكة،   (1) في المطبوعة: "إذ كان. . . " وهو خطأ. (2) انظر تفسير ابن كثير 1: 132 في التعقيب على كلام الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غيرَ فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم، للعلل التي وصفنا. ويعني جل ثناؤه بقوله:"ثم عَرضَهم"، ثم عرَض أهل الأسماء على الملائكة. وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله:"ثم عَرضَهم على الملائكة" نحو اختلافهم في قوله:"وعلم آدمَ الأسماء كلها". وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ. 661 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"ثم عَرضهم على الملائكة"، ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق. (1) 662 - وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ثم عرضهم"، ثم عرض الخلقَ على الملائكة (2) . 663 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة (3) . 664 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ثم عرضهم"، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة (4) .   (1) الخبر: 661- هو من تمام الآثار السالفة قريبًا. (2) الخبر: 662- مختصر من الخبر الطويل الماضي قريبًا، وفي ابن كثير 1: 132. (3) الأثر: 663- في الدر المنثور 1: 49. (4) الأثر: 664- مختصر أثر سلف بإسناده هذا، وفي ابن كثير 1: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 665 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"ثم عرضهم"، عرض أصحاب الأسماء على الملائكة (1) 666 - وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس، عن خُصَيف، عن مجاهد:"ثم عرضهم على الملائكة"، يعني عرض الأسماء، الحمامةَ والغراب (2) . 667 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علّمه اسم كل شيء: هذه الخيلَ، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعُرضت عليه أمة أمة (3) . * * * القول في تأويل قوله: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"أنبئوني": أخبروني، كما:- 668 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"أنبئوني"، يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء (4) . ومنه قول نابغة بني ذُبيان:   (1) الأثر: 665- في ابن كثير: 1: 133، والدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1: 52. (2) الأثر: 666- في ابن كثير 1: 134، وانظر ما مضى قريبًا بإسناده. (3) الأثر: 667- انظر ما مضى رقم: 657 وابن كثير 1: 133، والدر المنثور 1: 49. (4) الخبر: 668- مختصر من الخبر رقم: 606. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وَأَنْبَأَهُ الْمُنَبِّئُ أَنَّ حَيًّا ... حُلُولٌ مِنْ حَرَامٍ أَوْ جُذَامِ (1) يعني بقوله:"أنبأه": أخبره وأعلمه. * * * القول في تأويل قوله جل ذكره: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} قال أبو جعفر: 669 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله:"بأسماء هؤلاء"، قال: بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدمَ. 670- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" يقول: بأسماء هؤلاء التي حَدّثت بها آدم. (2) * * *   (1) ديوانه: 87 من قصيدة له، في عمرو بن هند، وكان غزا الشام بعد قتل المنذر أبيه. وقال أبو عبيدة: هذه القصيدة لعمرو بن الحارث الغساني في غزوة العراق. ورواية الديوان: "أن حيًّا حلولا" بالنصب، صفة "حيًّا" وهي الرواية الجيدة. وخبر"أن" محذوف، كأنه يقول: قد تألبوا يترصدون لك. وحذفه للتهويل في شأن اجتماعهم وترصدهم. والبيت الذي يليه دال على ذلك، وهو قوله: وَأَنَّ الْقَوْمَ نَصْرُهُمُ جَمِيعٌ ... فِئَامٌ مُجْلِبُونَ إِلَى فِئَامِ ورواية الرفع، لا بأس بها، وإن كنت لا أستجيدها. وقوله: "حرام" كأنه يعني بني حرام ابن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد هذيم. أو كأنه يعني بني حرام بن جذام بن عدي بن الحارث ابن مرة بن أدد بن زيد. ودار جذام جبال حسمى، وأرضها بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة، وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نهيل (معجم البلدان: حسمى) . فمن أجل أن بنى عذرة هذه ديارهم قريبة من جذام، شككت فيمن عني النابغة ببني حرام في هذا البيت. (2) الأثران: 669، 670- لم أجدهما في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك. 671 - فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"إن كنتم صادقين"، إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. (1) 672 - وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"إن كنتم صادقين" أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. (2) 673 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (3) . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويلُ ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة - القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك   (1) الخبر: 671- مختصر من الخبر السالف رقم 606، وانظر التعليق، هناك على هذه الفقرة. وانظر الشوكاني 1: 52. (2) الخبر: 672- مختصر من الخبر السالف رقم 607، وابن كثير 1: 133، والدر المنثور 1: 50، والشوكاني 1: 52. (3) الأثر: 673- مختصر من الأثر السالف رقم 611، وابن كثير 1: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم = بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم = أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي. وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [سورة هود: 45]-: لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (1) . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره:"إني أعلم ما لا تعلمون". يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، - فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ - بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم:"أنبئوني   (1) في المطبوعة: "وأنت أحكم الحاكمين فلا تسألن"، وهو خطأ فاحش، فإن الآية التي تلي قوله: "وأنت أحكم الحاكمين": "قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم. . . "، ولم يرد الطبري أن يسوق الآيتين، بل ساق قول الله سبحانه لنبيه حين قال ما قال. والصواب ما في المخطوطة كما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح - حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم (1) -: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [سورة هود: 47] . وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له - سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته. وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك وفضله، فقال:"أنبئوني إن كنتم صادقين" - كما يقول الرجل للرجل:"أنبئني بهذا إن كنت تعلم". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهلٌ. وهذا قول إذا تدبره متدبر، علم أن بعضَه مُفسدٌ بعضًا. وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة - إذ عرَض عليهم أهل الأسماء -: أنبئوني بأسماء هؤلاء، وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يُوبَّخوا بهذا القول. وزعم أن قوله:"إن كنتم صادقين" نظير قول الرجل للرجل:"أنبئني بهذا إن كنت تعلم". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل. ولا شك أن معنى قوله:"إن كنتم صادقين" إنما هو: إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإما في فعلكم. لأن الصّدق في كلام العرب، إنما هو صدق في الخبر لا في   (1) في المطبوعة هنا أيضًا: "فلا تسألن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 العلم. وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال: صدَق الرجل بمعنى علم. فإذْ كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة - على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية-:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" وهو يعلم أنهم غيرُ صادقين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأنه زعم أن الملائكة لم تدَّع شيئًا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتم صَادقين، فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير. وقد حُكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله:"إن كنتم صادقين" بمعنى: إذْ كنتم صادقين. ولو كانت"إن" بمعنى"إذ" في هذا الموضع، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لأن"إذ" إذا تقدّمها فعل مُستقبل صارت علة للفعل وسببًا له. وذلك كقول القائل:"أقوم إذ قمت". فمعناه أقوم من أجل أنّك قمت. والأمرُ بمعنى الاستقبال، فمعنى الكلام - لو كانت"إن" بمعنى"إذ" -: أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وُضعت "إن" مكان ذلك قيل: أنبئوني بأسماء هؤلاء أنْ كنتم صَادقين، مفتوحةَ الألف. وفي إجماع جميع قُرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من"إنْ"، دليل واضح على خطأ تأويل من تأول"إن" بمعنى"إذ" في هذا الموضع. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبرِّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبرَ، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيد، عمّا أودع الله جل ثناؤه آيَ هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن. وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظَهْرَانَيْه من يَهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلعَ عليها من خلقه إلا خاصًّا، ولم يكن مُدرَكًا علمه إلا بالإنباء والإخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فيها على أنّ كل مخبر خبرًا عما قد كان - أو عما هو كائن مما لم يكنْ، ولم يأته به خبر، ولم يُوضَع له على صحّته برهان، - فمتقوّلٌ ما يستوجبُ به من ربه العقوبة. ألا ترى أنّ الله جل ذكره ردّ على ملائكته قِيلَهم:"أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويَسفكُ الدماءَ ونَحنُ نُسبح بحمدك ونقدسُ لك" قال:"إني أعلمُ ما لا تعلمونَ"، وعرفهم أن قِيلَ ذلك لم يكن جائزًا لهم، بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتمْ صادقين". فلم يكن لهم مَفزَعٌ إلا الإقرارُ بالعجز، والتبرِّي إليه أن يعلموا إلا ما علّمهم، بقولهم:"سبحانك لا عِلْمَ لنا إلا ما علّمتنا". فكان في ذلك أوضحُ الدلالة وأبينُ الحجة، على كذب مقالة كلّ من ادعى شيئًا من علوم الغيب من الحُزاة والكهنة والعافَةِ والمنجِّمة (1) . وذكَّر بها الذين   (1) الحزاة جمع حاز: وهو كالكاهن، يحرز الأشياء ويقدرها بظنه. ويقال للذي ينظر في النجوم ويتكهن حاز وحزاء، وفي حديث هرقل أنه"كان حزاء"، وفي الحديث: "كان لفرعون حاز"، أي كاهن. والكهنة جمع كاهن: وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعى معرفة الأسرار. وفي المطبوعة"والقافة" مكان"والعافة"، وهو خطأ بين، فالقيافة ليست مما أراد الطبري في شيء، وهي حق، لا باطل كباطل التحزي والكهانة والتنجيم. والعافة جمع عائف: وهو الذي يعيف الطير فيزجرها ويتفاءل أو يتشاءم بأسمائها وأصواتها وممرها. واسم حرفته: العيافة، وفي الحديث: "العيافة والطرق من الجبت". وهو ضرب من الكهانة. والمنجم والمتنجم: الذي ينظر في النجوم يحسب مواقيتها وسيرها، ثم يربط بين ذلك وبين أحوال الدنيا والناس، فيقول بالظن في غيب أمورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وَصَفنا أمرَهم من أهل الكتاب - سوالفَ نعمه على آبائهم، وأياديَه عند أسلافهم، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته، مُستعطفَهم بذلك إلى الرشاد، ومُستعتِبَهم به إلى النجاة. وحذَّرهم - بالإصرار والتمادي في البغي والضلال - حلولَ العقاب بهم، نظيرَ ما أحلّ بعدوِّه إبليس، إذ تمادَى في الغيّ والخَسَار (1) قال: وأما تأويل قوله:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فهو كما:- 674 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"قالوا سبحانك" تنزيهًا لله من أن يكون أحدٌ يعلم الغيبَ غيرُه، تُبنا إليك"لا علم لنا إلا ما عَلَّمتنا"، تبرِّيًا منهم من علم الغيب،"إلا ما علَّمتنا" كما علمت آدم (2) . وسُبحان مصدر لا تصرُّف له (3) . ومعناه: نسبِّحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننزهك تنزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يَا ربنا العليمُ من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنّهم نَفَوْا عن أنفسهم بقولهم:"لا علمٌ لنا إلا ما علَّمتنا"، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نَفَوْا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم:"إنك أنتَ العليم"،   (1) في المطبوعة: "في البغي والخسار"، والصواب ما في المخطوطة. (2) الخبر: 674- مختصر من الخبر رقم: 606. وفي المطبوعة هنا"تبرؤًا منهم". (3) انظر ما مضى: ص 474 التعليق رقم: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 يعنون بذلك العالم من غير تعليم، إذ كان مَنْ سوَاك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما:- 675 - حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"العليم" الذي قد كمل في علمه، و"الحكيم" الذي قد كمل في حُكمه (1) . وقد قيل، إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أنّ العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} قال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عَرّف ملائكته - الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض، ووصَفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره، دونَ غيرهم الذين يُفسدون فيها ويسفكون الدماء - أنهم، من الجهل بمواقع تدبيره ومحلّ قَضَائه، قَبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عَرَضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علَّمهم إياه ربهم، وأنّه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق، ويمنعه منهم من شاء، كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة، ومنعهم علمها إلا بعد تعليمه إياهم. فأما تأويل قوله:"قال يا آدم أنبئهم"، يقول: أخبر الملائكةَ، والهاء والميم في قوله:"أنبئهم" عائدتان على الملائكة. وقوله:"بأسمائهم" يعني بأسماء الذين عَرَضهم على الملائكة، والهاء والميم اللتان في"أسمائهم" كناية عن ذكر   (1) الخبر: 675 في الدر المنثور 1: 49، والشوكاني 1: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 "هؤلاء" التي في قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء"."فلما أنبأهم" يقول: فلما أخبر آدمُ الملائكةَ بأسماء الذين عرضهم عليهم، فلم يَعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خَطأ قيلهم: "أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفك الدماءَ ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"، وأنهم قَد هَفوْا في ذلك وقالوا ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك لو وقع، على ما نطقوا به، - قال لهم ربهم:"ألم أقلْ لكُم إنّي أعلمُ غَيبَ السموات والأرض". والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه؛ توبيخًا من الله جل ثناؤه لهم بذلك، على ما سلف من قيلهم، وَفرَط منهم من خطأ مَسألتهم. كما:- 676 - حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"قال يا آدمُ أنبئهم بأسمائهم"، يقول: أخبرهم بأسمائهم -"فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم" أيها الملائكة خَاصة"إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض" ولا يعلمه غيري (1) . 677 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمتُه، فكذلك أخفيتُ عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يُطيعني، قال: وَسبقَ من الله: (لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة هود: 119، وسورة السجدة: 13] ، قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوْا ما أعطى الله آدمَ من العلم أقروا لآدم بالفضل (2) . * * *   (1) الخبر: 676- مختصر من الخبر السالف رقم: 606. (2) الأثر: 677- في ابن كثير 1: 135. في المخطوطة: "علم بما أردت. . . هذا عبدي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فرُوي عن ابن عباس في ذلك ما:- 678 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وأعلم ما تبدون" يقول: ما تظهرون،"وما كنتم تكتمون" يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (1) . 679 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"وأعلمُ ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: قولهم:"أتجعل فيها من يُفسد فيها"، فهذا الذي أبدوْا،"وما كنتم تكتمون"، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر (2) . 680 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه (3) .   (1) الخبر: 678- في ابن كثير 1: 135، والدر المنثور 1: 50، والشوكاني 1: 52. (2) الخبر: 679- في ابن كثير 1: 135، والدر المنثور 1: 50 والشوكاني 1: 52، وهو مختصر الخبر السالف رقم: 606. (3) الأثر: 680- لم أجده في مكان. وقد مضى في: 641 ترجمة"عمرو بن ثابت" وأبيه. وبينا ما في ذلك من شبهة الخطأ في قوله"عن جده". وهذا الإسناد هنا صواب، لأن"ثابت ابن هرمز" معروف بالرواية عن سعيد بن جبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 681 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان في قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر ألا يسجد لآدم (1) . 682 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحجاج الأنماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: سمعت الحسن بن دينار، قال للحسن - ونحن جُلوس عنده في منزله-: يا أبا سَعيد، أرأيتَ قول الله للملائكة:"وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، ما الذي كتمت الملائكة؟ فقال الحسن: إن الله لمّا خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا، فكأنهم دَخلهم من ذلك شيء، فأقبل بعضهم إلى بعض، وأسرّوا ذلك بينهم، فقالوا: وما يُهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خَلقا إلا كنا أكرمَ عليه منه (2) . 683 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عَبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله"وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: أسرّوا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاءُ أن يخلُق، فلن يخلُق خلقًا إلا ونحن أكرم عليه منه (3) . 684 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي   (1) الأثر: 681- لم أجده في مكان. (2) الأثر: 682- في الدر المنثور 1: 50. و"الحجاج الأنماطي": هو الحجاج ابن المنهال، وهو ثقة من شيوخ البخاري والدارمي وغيرهما. و"مهدي بن ميمون": ثقة معروف، روى عن الحسن البصري، وابن سيرين وغيرهما. وهو في هذا الإسناد يصرح بأنه سمع جواب الحسن البصري، حين سأله الحسن بن دينار. وقد نبهت على هذا، خشية أن يظن أنه من رواية مهدي عن الحسن بن دينار. والحسن بن دينار: كذاب لا يوثق به. وله ترجمة حافلة بالمنكرات والموضوعات - في كتاب المجروحين لابن حبان، رقم: 208، والميزان، ولسان الميزان، والتهذيب، وترجم له البخاري في الكبير 1/2/290 - 291، والصغير: 185، وابن أبي حاتم 1/2/11 - 12، وابن سعد 7/2/37. (3) الأثر: 683- في الدر المنثور 1: 50، بلفظ آخر، منسوبًا للطبري"عن قتادة والحسن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، فكان الذي أبدَوْا حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم (1) . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى قوله:"وأعلم ما تُبدون"، وأعلم - مع علمي غيبَ السموات والأرض - ما تُظهرون بألسنتكم،"وما كنتم تكتمون"، وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء، سواءٌ عندي سرائركم وعلانيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"؛ والذي كانوا يكتمونه، ما كان منطويًا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره، والتكبُّر عن طاعته. لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غيرُ خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا، والآخرُ ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة، ومن قال إن معنى ذلك كتمانُ الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقًا إلا كنا أكرم عليه منه. فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت، ثم كان أحدهُما غيرَ موجودةٍ على صحته الدّلالةُ من الوجه الذي يجب التسليم له - صح الوجهُ الآخر. فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك، غيرُ موجودةٍ الدلالةُ على صحته من الكتاب، ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبرُ الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه، إذْ دعاه إلى السجود لآدم فأبى واستكبر، وإظهارُه لسائر الملائكة من معصيته وكبره، ما كان له كاتمًا قبل ذلك. فإن ظن ظانٌّ أنّ الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه، لمّا كان   (1) الأثر: 684- في ابن كثير 1: 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 خارجًا مخرج الخبر عن الجميع، كان غيرَ جائز أن يكون ما رُوي في تأويل ذلك عن ابن عباس - ومن قال بقوله: من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبْرَ والمعصية - صحيحًا، فقد ظن غير الصواب. وذلك أنّ من شأن العرب، إذا أخبرتْ خبرًا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه، أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم:"قُتل الجيش وهُزموا"، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض. فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال جل ثناؤه: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحجرات: 4] ، ذُكر أن الذي نادَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية فيه - كان رجلا من جماعة بني تميم، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرج الخبر عنه مُخرج الخبر عن الجماعة. فكذلك قوله:"وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، أخرج الخبر مُخرج الخبر عن الجميع، والمراد به الواحد منهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } قال أبو جعفر: أمّا قوله:"وإذ قلنا" فمعطوف على قوله:"وإذ قال ربّك للملائكة"، كأنه قال جل ذكره لليهود - الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، معددًا عليهم نعَمه، ومذكِّرهم آلاءه، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل-: اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرمت أباكم آدمَ بما آتيته من عِلمي وفضْلي وكرَامتي، وإذْ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدلّ باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمِر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: (إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: 11-12] ، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمرَه من الملائكة بالسجود لآدمَ. ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدمَ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم. ثم اختلف أهل التأويل فيه: هل هو من الملائكة، أم هو من غيرها؟ فقال بعضهم بما:- 685 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم"الحِن"، خلقوا من نار السَّموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نورٍ غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت (1) . 686 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصيةَ من الملائكة اسمه"عزازيل"، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة   (1) الخبر: 685- مضى بتمامه في الخبر السالف رقم: 606، وفي ابن كثير 1: 136، وفيهما معًا "إذا ألهبت". وأعاده ابن كثير 5: 296. وفيه كما هنا"التهبت". وفيه"الجن" بالجيم، وانظر ما مضى ص: 455 تعليق: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمون جنا (1) . 687 - وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكًا من الملائكة اسمه"عزازيل"، وكان من سكان الأرض وعُمَّارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون"الجنَّ" من بين الملائكة (2) . 688 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم"الجنّ"، وإنما سُمُّوا الجن لأنهم خُزَّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنًا (3) . 689 - وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطانُ سماء الدنيا، وكان له سلطانُ الأرض. قال: قال ابن عباس: وقوله: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) [سورة الكهف: 50] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل مكي ومدَنيّ وكوفيّ وبصريّ. (4) . قال ابن جُريج، وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قَبيلِه، فكان اسم قبيلته الجن.   (1) الخبر: 686 في ابن كثير 1: 139 و 5: 296، والدر المنثور 1: 150، والشوكاني 1: 53. وخلاد: هو ابن عبد الرحمن الصنعاني، وهو ثقة، ويروى عن طاوس ومجاهد مباشرة، ولكنه روى عنهما، هنا وفي الخبر التالي، بواسطة عطاء. (2) الخبر: 687- في ابن كثير 1: 139 عقب الذي قبله. (3) الخبر: 688- مختصر من الأثر السالف رقم: 607. (4) الخبر: 689- في ابن كثير 1: 139 و 5: 296، والدر المنثور 1: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 690 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن صالح مولى التَّوْأمة، وشريك بن أبي نَمِر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلةً من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض (1) . 691 - وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عُبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مُزَاحم يقولُ في قوله: (فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) [سورة الكهف: 50] ، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. ثم ذكر مثل حديث ابن جُريج الأول سواء (2) . 692 - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيسَ ملائكة سماء الدنيا (3) . 693 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) [سورة الكهف: 50] ، كان من قبيل من الملائكة يقال لهم"الجن"،   (1) الخبر: 690- في ابن كثير 5: 296- 297، وفيه زيادة هناك. وسيأتي بإسناد آخر مطولا: 700. (2) الخبر: 691- الحسن بن الفرج: لم أعرف من هو؟ وأبو معاذ الفضل بن خالد: هو النحوي المروزي، وهو ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه ابن أبي حاتم 3/2/61، وياقوت في الأدباء 6: 140، والسيوطي في البغية: 373. وقال ياقوت: "روى عنه الأزهري في كتاب التهذيب، فأكثر". وليس يريد بذلك رواية السماع، بل يريد أنه روى آراءه أو نقله في اللغة. أما رواية السماع فلا. لأن الفضل هذا مات سنة 211، والأزهري ولد سنة 282. فهذا كلام موهم؛ ولم يكن يجدر بالسيوطي - وهو محدث - أن يتبعه دون تأمل! (3) الأثر: 692- في ابن كثير 1: 139. شيبان: هو ابن فروخ، وهو ثقة. سلام بن مسكين الأزدي: ثقة، أخرج له الشيخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان على خِزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه (1) . 694 - وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"إلا إبليسَ كان من الجن" قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن (2) . 695 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجنّ إلا كل من اجتَنَّ فلم يُرَ. وأما قوله:"إلا إبليس من كان من الجن" أي كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنُّوا فلم يُرَوْا. وقد قال الله جل ثناؤه: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [سورة الصافات: 158] ، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بناتُ الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبًا. قال: وقد قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمانَ بن داود وما أعطاه الله: وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ خَالِدًا أَوْ مُعَمَّرا ... لَكَانَ سُلَيْمَانُ الْبَرِيءُ مِنَ الدَّهْرِ (3)   (1) الأثر: 693- لم نجده في مكان آخر. (2) الأثر: 694- لم نجده أيضًا. وقال الحافظ ابن كثير 5: 297- بعد أن نقل كثيرًا من الآثار في مثل هذه المعاني: "وقد روى في هذا آثار كثيرة عن السلف. وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه، لمخالفته للحق الذي بأيدينا. وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المثقدمة، لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة. وليس لهم من الحفاظ المتقنين، الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين- كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد. الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه، من حسنه، من ضعيفه، من منكره وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه. وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، +وغير ذلك من أصناف الرجال. كل ذلك صيانة للجناب النبوي، والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيد البشر، صلى الله عليه وسلم-: أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس منه. فرضى الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم. وقد فعل". (3) ملحق ديوان الأعشى: 243، والأضداد لابن الأنباري: 293. ولم يعن بالدهر هاهنا الأمد الممدود، بل عني مصائب الدهر ونكباته، كما قال عدى بن زيد، وجعل مصائب الدهر هي الدهر نفسه: أَيُّهَا الشَّامِتُ المُعَيِّر بِالدَّ ... هْرِ أَأَنْتَ المبرَّأُ المَوْفُورُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 بَرَاهُ إِلَهِي وَاصْطَفَاهُ عِبَادَهُ ... وَمَلَّكَهُ مَا بَيْنَ ثُرْيَا إِلَى مِصْرَ (1) وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلائِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أَجْرِ قال: فأبت العربُ في لغتها إلا أنّ "الجن" كل ما اجتنَّ. يقول: ما سمَّى الله الجن إلا أنهم اجتنُّوا فلم يُرَوا، وما سمّي بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا. فما ظهر فهو إنس، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ (2) . وقال آخرون بما:- 696 - حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليسُ من الملائكة طرفةَ عين قطّ، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم أصل الإنس (3) . 697 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله:"إلا إبليس كانَ من الجن" ألجأه إلى نسبه (4) فقال الله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) [سورة الكهف: 50] ، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم (5) . 698 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا   (1) ثريا: هكذا ضبط في ملحق ديوان الأعشى، ولم أعرف الموضع ولم أجده. ولم أهتد إلى تحريفه إن كان محرفًا. وفي الأضداد: "توفى". (2) الأثر: 695- رواه مختصرًا صاحب الأضداد: 293، ولم أجده في مكان آخر. (3) الأثر: 696- في ابن كثير 1: 139 و 5: 296. وقال: "وهذا إسناد صحيح عن الحسن". (4) في المطبوعة: "إلجاء إلى نسبه"، وألجأه إلى نسبه: رده إليه. وانظر رقم: 655. (5) الأثر: 697- لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 أبو سعيد اليحمَديّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سَوار بن الجعد اليحمَديّ، عن شَهر بن حَوْشب، قوله:"من الجنّ"، قال: كان إبليس من الجن الذين طرَدتهم الملائكة، فأسرَه بعض الملائكة فذهب به إلى السماء (1) . 699 - وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال حدثنا هشيم، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نُمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجنّ، فسُبِي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة فتعبَّد معها، فلما أمِروا بالسجود لآدم سجدوا. فأبى إبليس. فلذلك قال الله:"إلا إبليس كان من الجن" (2) . 700 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن منَ الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض، فعصَى، فمسخه الله شيطانًا رجيما. (3) 701 - قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الإنس (4) . وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبرَ في كتابه أنه خلق إبليس من نار السَّموم، ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خَلقها من شيء من ذلك، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجنّ - فقالوا: فغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولإبليس نسلٌ وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.   (1) الأثر: 698- في ابن كثير 1: 139. (2) الأثر: 699- في ابن كير 1: 139. (3) الخبر: 700- هو في ابن كثير 1: 139. وقد مضى نحوه مختصرًا، بإسناد آخر: 690. (4) الأثر: 701- لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 702 - حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقًا، فقال: اسجدوا لآدم: فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا تُحرقهم، ثم خلق خلقًا آخر، فقال: إني خالقٌ بشرًا من طين، اسجدوا لآدم. فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: نعم. وكان إبليسُ من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم (1) . قال أبو جعفر: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غيرُ مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى. فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته (2) ، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم. إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد الله به من المعصية. وأما خبرُ الله عن أنه"من الجن"، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.   (1) الأثر: 702- في ابن كثير 1: 139، والدر المنثور 1: 50 وقال ابن كثير في إسناده: "وهذا غريب، ولا يكاد يصح إسناده، فإن فيه رجلا مبهمًا، ومثله لا يحتج به، والله أعلم". (2) في المطبوعة: "وليس فيما نزل الله جل ثناؤه. . . "، وهو خطأ صرف. وقوله بعد: "وإخباره عما خلق منه إبليس" معطوف على قوله: "وفي ترك. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 القول في معنى {إِبْلِيسَ} قال أبو جعفر: وإبليس"إفعِيل"، من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندمُ والحزن. كما:- 703 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته (1) . 704 - وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: كان اسم إبليس"الحارث"، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيِّرًا (2) . قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: (فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: 44] ، يعني به: أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنًا، كما قال العجَّاج: يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا? ... قَالَ: نَعَمْ، أَعْرِفُهُ! وَأَبْلَسَا (3)   (1) الخبر: 703- مختصر من الخبر السالف رقم: 606، وهو في الدر المنثور 1: 50، والشوكاني 1: 53. (2) الأثر: 704- في الدر المنثور 1: 50، مقتصرًا على أوله إلى قوله: "الحارث". وجاء النص في المطبوعة هكذا: "وإنما سمى إبليس حين أبلس فغير كما قال الله جل ثناؤه. . . " أسقطوا ما أثبتناه من المخطوطة، لأنهم لم يحسنوا قراءة الكلمة الأخيرة، فبدلوها ووصلوا الكلام بعد الحذف، وهو تصرف معيب. وقوله: "متحيرًا" كتبت في المخطوطة ممجمجة هكذا"مجرا" غير معجمة. والإبلاس: الحيرة، فكذلك قرأتها. (3) ديوانه 1: 31، والكامل 1: 352، واللسان: (بلس) ، (كرس) . المكرس: الذي صار فيه الكرس، وهو أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار. وأبلس الرجل: سكت غما وانكسر وتحير ولم ينطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وقال رؤبة: وَحَضَرَتْ يَوْمَ الْخَمِيسِ الأَخْمَاسْ ... وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلاسْ (1) يعني به اكتئابًا وكسوفًا. فإن قال قائل: فإن كان إبليس، كما قلت،"إفعيل" من الإبلاس، فهلا صُرف وأجري؟ قيل: تُرك إجراؤه استثقالا إذ كان اسمًا لا نظيرَ له من أسماء العرب، فشبَّهته العرب - إذْ كان كذلك - بأسماء العجم التي لا تُجرَى. وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يُجروه. وهو من"أسحقه الله إسحاقًا"، إذْ كان وَقَع مبتدَأ اسمًا لغير العرب، ثم تسمت به العرب فجرى مَجراه - وهو من أسماء العجم - في الإعراب فلم يصرف. وكذلك"أيوب"، إنما هو"فيعول" من"آب يؤبُ". وتأويل قوله:"أبَى"، يعني جل ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له."واستكبر"، يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقيادِ لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم - اليهودُ الذين كانوا بين ظهرانيْ مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصِفته عارفين، وبأنه لله رسولٌ عالمين. ثم استكبروا - مع علمهم بذلك - عن الإقرار بنبوّته، والإذعان لطاعته، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرَّعهم الله بخبره عن إبليس   (1) ديوانه: 67، واللسان (بلس) ، ورواية ديوانه"وعرفت يوم الخميس". وبين البيتين بيت آخر هو: "وَقَدْ نَزَتْ بَيْنَ التَّرَاقِي الأَنْفَاسْ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظيرَ فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا. ثم وَصَف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضرَبه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمرَه الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه:"وكان" - يعني إبليس -"منَ الكافرين"- من الجاحدين نعمَ الله عليه وأياديَه عنده، بخلافه عليه فيما أمرَه به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعمَ ربِّها التي آتاها وآباءها قبلُ: من إطعام الله أسلافَهم المنّ والسلوى، وإظلال الغمام عليهم، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصًا ما خصَّ الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه، ومشاهدتهم حجةَ الله عليهم، فجحدت نبوّته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدًا وبغيًا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى"الكافرين"، فجعله من عِدَادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة. كما جعل أهل النفاق بعضَهم من بعض، لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 67] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال. فكذلك قوله في إبليس: كان من الكافرين، كان منهم في الكُفر بالله ومخالفتِه أمرَه، وإن كان مخالفًا جنسُه أجناسَهم ونسبُه نسبهم. ومعنى قوله:"وكان من الكافرين" أنه كان - حين أبَى عن السجود - من الكافرين حينئذ. وقد رُوي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول: في تأويل قوله:"وكان منَ الكافرين"، في هذا الموضع، وكان من العاصين. 705 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"وكان من الكافرين"، يعني العاصين (1) .   (1) الأثر 705- في ابن كثير 1: 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 706 - وحُدّثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله. وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه. وكان سجود الملائكة لآدم تكرمةً لآدم وطاعة لله، لا عبادةً لآدم، كما:- 707 - حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم"، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته. (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأُسكنها آدمُ قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض. ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول:"وقلنا يا آدمُ اسكنْ أنت وزوجك الجنة وكُلا منها رَغدًا حيثُ شئتما ولا تَقربا هذه الشجرةَ فتكونا منَ الظالمين فأزلهما الشيطانُ عنها فأخرَجهما مما كانا فيه". فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعِن وأظهرَ التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نُفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلَّت عليه اللعنة. كما:- 708 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن   (1) الأثر: 707- في ابن كثير 1: 140، وفي الدر المنثور 1: 50 مطولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليُغويَنَّ آدم وذريته وزوجَه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرِج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلَّم الله آدم الأسماء كلها (1) . 709 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبَى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدمَ وقد علّمه الأسماء كلها، فقال:"يا آدم أنبئهم بأسمائهم" إلى قوله"إنك أنت العليم الحكيم" (2) . ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خُلقت لآدم زوجته، والوقت الذي جعلت له سكنًا. فقال ابن عباس بما:- 710 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرِج إبليسُ من الجنة حين لعن، وأسكِن آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له:"يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما" (3) .   (1) الخبر: 708- لم أجده في مكان. (2) الأثر: 709- لم أجده في مكان بنصه هذا، لكنه من صدر الأثر الآتي بعد رقم: 711. (3) الأثر: 710- في تاريخ الطبري 1: 52، مع اختلاف في بعض اللفظ. وابن كثير 1: 142 والشوكاني 1: 56، وقوله: "وحشًا" أي ليس معه غيره، خلوًا. ومكان وحش: خال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 فهذا الخبر يُنبئ أن حواء خُلقت بعد أن سَكن آدمُ الجنةَ، فجعلت له سكنًا. وقال آخرون: بل خُلقت قبل أن يسكن آدم الجنة. * ذكر من قال ذلك: 711 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها فقال:"يا آدم أنبئهم بأسمائهم" إلى قوله:"إنك أنت العليم الحكيم". قال: ثم ألقى السِّنةَ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلما كُشِف عنه السِّنة وهبّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمِي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وَجعل له سكنًا من نفسه، قال له، قبيلا "يا آدم اسكنْ أنتَ وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين" (1) قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل: زَوْجُه وزَوْجتُه، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء. والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزْد شَنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب، فهو زوجُ المرأة (2) . * * *   (1) الأثر: 711- في تاريخ الطبري 1: 52 وابن كثير 1: 141-142. وقوله"قال له قبيلا" أي عيانًا. وفي حديث أبي ذر (ابن كثير 1: 141) "قال: قلت يا رسول الله؛ أرأيت آدم؛ أنبيًّا كان؟ قال: نعم نبيًّا رسولا يكلمه الله قبيلا - أي عيانًا". وجاء هذا الحرف في المطبوعة: "قال له فتلا يا آدم اسكن. . . " وهو خطأ. وفي تاريخ الطبري"قال له قيلا يا آدم. . . " وهو أيضًا خطأ. (2) انظر اختلافهم في ذلك في مادته (زوج) من لسان العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 القول في تأويل قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} قال أبو جعفر: أما الرَّغَد، فإنه الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه. يقال: أرْغد فلان: إذا أصاب واسعًا من العيش الهنيء، كما قال امرؤ القيس بن حُجْر: بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمَا ... يَأْمَنُ الأَحْدَاثَ فِي عَيْشٍ رَغَدْ (1) 712 - وكما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"وكلا منها رَغدا"، قال: الرغد، الهنيء. (2) 713 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله:"رغدًا"، قال: لا حسابَ عليهم. 714 - وحدثنا المثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد مثله. 715 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد:"وكلا منها رغدًا"، أي لا حسابَ عليهم. (3) 716 - وحُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة،   (1) لم أجد البيت فيما جمعوا من شعر امرئ القيس. (2) الخبر: 712 - في الدر المنثور 1: 52، والشوكاني 1: 56. (3) الآثار: 713 - 715 في الدر المنثور 1: 52، والشوكاني 1: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وكلا منها رغدًا حيث شئتما"، قال: الرغد: سَعة المعيشة. (1) فمعنى الآية وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا من الجنة رزقًا واسعًا هنيئًا من العيش حيث شئتما. 717 - كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما"، ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق، كتب على آدمَ، كما ابتُلي الخلقُ قبله، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رَغدا حيث شاء، غيرَ شجرة واحدة نُهي عنها، وقُدِّم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} قال أبو جعفر: والشجر في كلام العرب: كلّ ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) [سورة الرحمن: 6] ، يعني بالنجم ما نَجمَ من الأرض من نَبت، وبالشجر ما استقلّ على ساق. ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السُّنبلة. * ذكر من قال ذلك: 718 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني،   (1) الخبر: 716 - في الدر المنثور 1: 52 والشوكاني 1: 56. (2) الأثر: 717 - في الدر المنثور 1: 53 من غير طريق الطبري. وقوله: "قدم إليه فيها" أي أمر فيها بأمر أن لا يقربها. ويقال: تقدمت إليه بكذا وقدمت إليه بكذا: أي أمرته بكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، هي السنبلة. (1) 719 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عُتيبة - جميعًا عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"ولا تقرَبا هذه الشجرة"، قال: هي السنبلة. 720 - وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري - قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، مثله. (2) 721 - وحدثنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية في قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة"، قال: السنبلة. (3) 722 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، هي السنبلة. (4) 723 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجَلْد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدمُ، والشجرة التي تاب عندها: فكتب إليه أبو الجلد:"سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم، وهي السنبلة، وسألتني   (1) الخبر: 718 - في ابن كثير 1: 142، والدر المنثور 1: 53، والشوكاني 1: 56 وهو إسناد ضعيف. محمد بن إسماعيل الأحمسي سبق توثيقه: 405 عبد الحميد بن عبد الرحمن، أبو يحيى الحماني: ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له الشيخان. النضر: هو ابن عبد الرحمن، أبو عمر الخزاز -بمعجمات - وهو ضعيف جدًّا، قال البخاري في الكبير 4/2/91: "منكر الحديث". وروى ابن أبي حاتم 4/1/475 عن أحمد بن حنبل، قال: "ليس بشيء، ضعيف الحديث"، وروي عن ابن معين أنه قال: "لا يحل لأحد أن يروي عنه". (2) الأثران: 719، 720 - في ابن كثير 1: 142، والدر المنثور 1: 53. (3) الأثر: 721 - عطية: هو العوفي. وقد أشار ابن كثير 1: 142 إلى هذه الرواية عنه. (4) الأثر: 722 - لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة. (1) 724 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه كان يقول: الشجرة التي نُهي عنها آدمَ: البُرُّ (2) . 725 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزَوجته، السُّنبلة. (3) 726 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه اليماني، أنه كان يقول: هي البُرُّ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ. (4) 727 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حُدِّث أنها الشجرةُ التي تحتكُّ بها الملائكة للخُلد. 728 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يَمانَ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن محارب بنِ دثار، قال: هي السنبلة. 729 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم،   (1) الخبر: 123 - في ابن كثير 1: 142، وفي الأصول: "أبو الخلد"، وانظر ما سلف في التعليق على الأثر رقم: 434. وهذا الإسناد ضعيف، لجهالة الرجل من بني تميم. (2) الخبر: 724 - ابن كثير 1: 142، والدر المنثور 1: 52، والشوكاني 1: 56. والذي في ابن كثير: "عن رجل من أهل العلم، عن حجاج، عن مجاهد. . . ". (3) الأثر: 725 - في ابن كثير 1: 142. (4) الأثر: 726 - في ابن كثير 1: 142-143، والدر المنثور 1: 52-53. ولكن ليس فيهما قوله"وأهل التوراة. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 عن الحسن، قال: هي السنبلة التي جعلها الله رزقًا لولده في الدنيا (1) قال أبو جعفر: وقال آخرون: هي الكرمة. * ذكر من قال ذلك: 730 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: هي الكرمة. 731 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ولا تقرَبا هذه الشجرة"، قال: هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة. 732 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: الشجرة هي الكَرْم. 733 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: هو العِنَب في قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة". 734 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن خلاد الصفار، عن بَيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة:"ولا تقرَبا هذه الشجرة"، قال: الكرمُ. 735 - وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة:"ولا تقربا هذه الشجرة"، قال: الكرم. 736 - وحدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، شجرة الخمر. 737 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا   (1) الآثار: 727 - 729: لم أجدها بلفظها في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 عباد بن العوام، قال: حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مُسلم، عن سعيد بن جبير، قوله"ولا تقربا هذه الشجرة"، قال: الكرم. 738 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السُّدّيّ، قال: العنب. 739 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: عِنَب (1) . وقال آخرون: هي التِّينة. * ذكر من قال ذلك: 740 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تينة. (2) قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجَه أكلا من الشجرة التي نهاهُما ربُّهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بيّن الله جل ثناؤه لهما عَين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله:"ولا تقربا هذه الشجرة"، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطَبين بالقرآن، دلالةً على أيّ أشجار الجنة كان نهيُه آدمَ أن يقربها، بنصٍّ عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيٍّ رضًا، لم يُخل عبادَه من نَصْب دلالة لهم عليها يَصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضًا. فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدمَ وزوجته عن أكل   (1) الآثار: 730 -739: مذكورة بلا تعيين في ابن كثير 1: 142، والدر المنثور 1: 53 والشوكاني 1: 56. (2) الخبر: 740 - في ابن كثير 1: 143، والدر المنثور 1: 53، والشوكاني 1: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنَّى يأتي ذلك؟ (1) وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ، إذا عُلم لم ينفع العالمَ به علمه (2) ، وإن جهله جاهل لم يضرَّه جهلُه به. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين". فقال بعض نحويّي الكوفيين: تأويل ذلك: ولا تقربَا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. فصار الثاني في موضع جواب الجزاء. وجوابُ الجزاء يعمل فيه أوّله، كقولك: إن تَقُم أقُم، فتجزم الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله"فتكونا"، لما وقعت الفاء في موضع شرط الأوّل نُصب بها، وصُيرت   (1) في المخطوطة خلاف ما في المطبوعة، وهذا نصه"ولا علم عندنا بأي ذلك. وقد قيل كانت شجرة البر. . . "، كأن الناسخ أسقط سطرا فاختل الكلام. وكان في المطبوعة: "فأنى يأتي ذلك من أتى" بزيادة قوله"من أتى" والظاهر أن التحريف قديم، فإن ابن كثير نقل نص الطبري هذا في تفسيره 1: 143 فحذف قوله: "فأنى يأتي ذلك"، وقد استظهرت أن الصواب حذف"من أتى"، ليكون الاستفهام منصبًّا على كيفية إتيان العلم بهذه الشجرة، وليس في القرآن عليها دليل ولا في السنة الصحيحة. وأما الجملة كما جاءت في المطبوعة، فهي فاسدة مفسدة لما أراد الطبري. (2) في المطبوعة: "وذلك إن علمه عالم لم ينفع العالم. . . "، وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير (1: 143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 بمنزلة "كي" في نصبها الأفعال المستقبلة، للزومها الاستقبال. إذ كان أصل الجزاء الاستقبال. وقال بعض نحويّي أهل البصرة: تأويل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين. غير أنه زعم أنّ "أن" غير جائز إظهارها مع"لا"، ولكنها مضمرة لا بد منها، ليصح الكلام بعطف اسم - وهي"أن" - على الاسم. كما غير جائز في قولهم:"عسى أن يفعل"، عسى الفعل. ولا في قولك:"ما كان ليفعل": ما كان لأن يَفعل. وهذا القولُ الثاني يُفسده إجماعُ جميعهم على تخطئة قول القائل:"سرني تقوم يا هذا"، وهو يريد سرني قيامُك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل:"لا تقم" إذا كان المعنى: لا يكن منك قيام. وفي إجماع جميعهم -على صحة قول القائل:"لا تقم"، وفساد قول القائل:"سرني تقوم" بمعنى سرني قيامك - الدليل الواضح على فسادِ دعوى المدعي أنّ مع"لا" التي في قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة"، ضمير"أن" - وصحةِ القول الآخر. وفي قوله"فتكونا من الظالمين"، وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون"فتكونا" في نية العطف على قوله"ولا تقربا"، فيكون تأويله حينئذ: ولا تقربا هذه الشجرة ولا تكونا من الظالمين. فيكون"فتكونا" حينئذ في معنى الجزم مجزومًا بما جُزم به"ولا تقربا"، كما يقول القائل: لا تُكلم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القيس: فُقُلْتُ لَهُ: صَوِّبْ وَلا تَجْهَدَنَّهُ ... فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ (1) فجزم"فيذرِك" بما جزم به"لا تجهدنه"، كأنه كرّر النهي.   (1) ديوانه، من رواية الأعلم الشنتمري، القصيدة رقم: 30، البيت: 26. وفي معاني القرآن للفراء 1: 26، ونسبه سيبويه في الكتاب 1: 452، لعمرو بن عمار الطائي، وسيذكره الطبري في (15: 164 بولاق) غير منسوب، ورواية سيبويه"فيدنك من أخرى القطاة" وقوله: "فقلت له" يعني غلامه، وذكره قبل أبيات. وقوله: "صوب"، أي خذ الفرس بالقصد في السير وأرفق به ولا تجهده بالعدو الشديد فيصرعك. أذراه عن فرسه: ألقاه وصرعه. والقطاة: مقعد الردف من الفرس. وأخرى القطاة: آخر المقعد. ورواية الشنتمري: "من أعلى القطاة". وهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 والثاني أن يكون"فتكونا من الظالمين"، بمعنى جواب النهي. فيكون تأويله حينئذ: لا تقربا هذه الشجرة، فإنكما إن قَرَبتماها كنتما من الظالمين. كما تقول: لا تَشتمْ عمرًا فيشتُمك، مجازاةً. فيكون"فتكونا" حينئذ في موضع نَصب، إذْ كان حرفًا عطف على غير شكله، لمّا كان في"ولا تقربا" حرف عامل فيه، ولا يصلح إعادته في"فتكونا"، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة. وأما تأويل قوله:"فتكونا من الظالمين"، فإنه يعني به فتكونا من المتعدِّين إلى غير ما أذِن لهم وأبيح لهم فيه، وإنما عَنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة، كنتما على منهاج من تعدَّى حُدودي، وَعصى أمري، واستحلَّ محارمي، لأن الظالمين بعضُهم أولياء بعض، والله وليّ المتقين. وأصل"الظلم" في كلام العرب، وضعُ الشيء في غير موضعه، ومنه قول نابغة بني ذبيان: إِلا أُوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ (1) فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فيها النؤى حَفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة، لموضع الحفرة منها في غير موضعها. (2) ومن ذلك قول ابن قَميئة في صفة غيث:   (1) سلف تخريجه وشرحه في هذا الجزء: 183. (2) في المطبوعة: "لوضع الحفرة منها في غير موضعها"، وفي المخطوطة أيضًا: "لموضع الحفر فيها في غير موضعها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ظَلَمَ الْبِطَاحَ بِهَا انْهِلالُ حَرِيصَةٍ ... فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ الْمُقْلَعِ (1) وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبِّه. ومنه: ظَلم الرجلُ جَزوره، وهو نحره إياه لغير علة. وذلك عند العرب وَضْع النحر في غير موضعه. وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى. وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} قال أبو جعفر: اختلفت القَرَأة (2) في قراءة ذلك. فقرأته عامتهم،"فأزلَّهما" بتشديد اللام، بمعنى: استزلَّهما، من قولك زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه. وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليسَ خُروجَ آدم وزوجته من الجنة، فقال:"فأخرجهما" يعني إبليس"مما كانا فيه"، لأنه كانَ الذي سَبَّب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة. وقرأه آخرون:"فأزَالهما"، بمعنى إزَالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه. وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله:"فأزلهما"، ما:-   (1) جاء أيضًا في تفسيره (2: 50 بولاق) منسوبًا لعمرو بن قميئة. وصحة نسبته إلى الحادرة الذبياني، وهو في ديوان الحادرة، قصيدة: 4، البيت رقم: 7، وشرح المفضليات: 54. والبطاح جمع بطحاء وأبطح: وهو بطن الوادي. وأنهل المطر انهلالا: اشتد صوبه ووقعه. والحريصة والحارصة: السحابة التي تحرص مطرتها وجه الأرض، أي تقشره من شدة وقعها. والنطاف جمع نطفة: وهي الماء القليل يبقى في الدلو وغيره. وقوله: "بعيد المقلع": أي بعد أن أقلعت هذه السحابة. ورواية المفضليات: "ظلم البطاح له" وقوله: "له": أي من أجله. (2) في المطبوعة: "اختلف القراء" والقَرَأَة جمع قارئ، وانظر ما مضى: 51، تعليق، وص: 64، 109 وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 741 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى:"فأزلهما الشيطان" قال: أغواهما. (1) وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ:"فأزلَّهما"، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه. بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه. وذلك هو معنى قوله"فأزالهما"، فلا وجه - إذْ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج - أن يقال:"فأزالهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه" فيكون كقوله:"فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه. ولكن المفهوم أن يقال: (2) فاستزلهما إبليسُ عن طاعة الله - كما قال جل ثناؤه:"فأزلهما الشيطان"، وقرأت به القراء - فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة. فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليسُ آدمَ وزوجته، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟ قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها (3) فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما:- 742 - حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرِب (4) قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لما   (1) الخبر: 741 - في الدر المنثور 1: 53، والشوكاني 1: 56. (2) في المطبوعة: "لكن المعنى المفهوم"، زاد ما لا جدوى فيه. (3) في المطبوعة: "سنذكر" بغير واو. (4) في المطبوعة: "عمرو" بدل"عمر"، وفي المخطوطة وابن كثير: "مهران"، بدل"مهرب". وكلاهما خطأ، صوابه ما أثبتنا: "عمر بن عبد الرحمن بن مهرب"، فهذا الشيخ ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/1/121، وقال: "سمع وهب بن منبه، روى عنه إبراهيم بن خالد الصنعاني، وعبد الرزاق". ثم روى عن يحيى بن معين، قال: "عمر بن عبد الرحمن بن مهرب: ثقة". ولم أجد له ترجمة أخرى. و"مهرب": لم أجد نصًّا بضبطها في هذا النسب، إلا قول صاحب القاموس أنهم سموا من مادة (هرب) بوزن"محسن" - يعني بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه. ووقع اسم هذا الشيخ محرفًا إلى شيخين، في تاريخ الطبري 1: 54 - في هذا الإسناد، هكذا: "معمر عن عبد الرحمن بن مهران"! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 أسكن الله آدمَ وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه"وذريته" - ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله - فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء (1) فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب (2) ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر: (3) قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء (4) . وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة: 743 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجلّ لآدم:"اسكن أنتَ وزوجُك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين"، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق (5) - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه (6) ، فخرج إليه فقال: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) [سورة طه: 120] يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين (7) ، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة (8) .   (1) في المطبوعة: "فجاء به"، والذي أثبتناه من المخطوطة وتاريخ الطبري. (2) في المطبوعة: "أنا هنا يا رب"، وأثبتناه ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. (3) في المطبوعة: "قال عمرو"، وأثبتنا الصواب من المخطوطة، ومما ذكرنا آنفًا. (4) الأثر: 742 - في تاريخ الطبري 1: 54، بهذا الإسناد، وأوله في ابن كثير 1: 143. (5) في المطبوعة وتاريخ الطبري 1: 53: "فأدخلته في فمها، فمرت الحية. . . "، وما أثبتناه من المخطوطة. (6) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "فكلمة من فمها". وفي المطبوعة: "فلم يبال بكلامه". (7) في المخطوطة: "وتكونا من الخالدين". (8) الخبر: 743. بنصه في تاريخ الطبري 1: 53، وببعض الاختلاف في الدر المنثور 1: 53، والشوكاني 1: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 744 - حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدّث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يُرى أنه البعير، قال: فلعِن، فسقطت قوائمه فصار حيَّة. (1) 745 - وحُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن منَ الإبل مَا كان أوّلها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة (2) ، وقيل لهما:"لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين". قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: أنُهيتما عن شيء؟ قالت: نعم! عن هذه الشجرة فقال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [سورة الأعراف: 20] قال: فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرةً من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَث. قال:"فأزالهما الشيطان عَنها فأخرجهما مما كانا فيه" (3) ، قال: فأخرج آدم من الجنة (4) . 746 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خُلدًا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه (5) ، فأتاه من قِبَل الخلد. (6) .   (1) الأثر: 744 - في تاريخ الطبري 1: 55. (2) في تاريخ الطبري 1: 55، زيادة سياقها: ". . . كلها - يعني آدم - إلا الشجرة". (3) في تاريخ الطبري 1: 55"فأزلهما الشيطان". (4) الأثر: 745 - في تاريخ الطبري 1: 55 (5) في التاريخ: "لو أنا خلدنا". وفي المطبوعة: "فاغتنمها منه الشيطان"، لم يحسنوا قراءة المخطوطة فبدلوا الحرف، وأثبتنا ما في المخطوطة والتاريخ. يقال: سمع مني كلمة فاغتمزها، أي استضعفها ووجد فيها مغمزًا يعاب يؤتي من قبله. (6) الأثر: 746 - في تاريخ الطبري 1: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 747 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حُدثت: أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما، أنه ناح عليهما نياحَة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يا آدم هَل أدلك على شجرة الخلد ومُلك لا يبلى؟ وقال:"ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين". أي تكونا مَلَكين، أو تخلدَا، إن لم تكونا ملكين (1) - في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه:"فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ" (2) . 748 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسَّنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا! إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا! إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدَت لهما سَوآتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنِّي تفرّ؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك. قال: يا آدم أنَّى أُتِيت؟ قال: من قِبَل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها عليَّ أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة (3) ، وأن أجعلها سفيهةً فقد كنت خلقتها حَليمة، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يُسرًا وتَضع يُسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حوّاء. لكان نساء الدنيا لا يَحضن، ولَكُنَّ حليماتٍ، وكن يحملن يُسرًا ويضعن يسُرًا. (4)   (1) في المخطوطة: "أي تكونا ملكين، أو تخلدان إن لم. . . " وفي التاريخ 1: 55: "أي تكونان ملكين أو تخلدان - أي إن لم. . . ". (2) الأثر: 747 - في تاريخ الطبري 1: 55. (3) في المخطوطة: "كما دمت هذه الشجرة". (4) الأثر: 748 - في تاريخ الطبري 1: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 749 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثْني - ما أكل آدم من الشجرة وهو يَعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل (1) . 750 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث بن أبي سُليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض أيُّها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته (2) ، فكلّ الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلّم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتِني الجنة. فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمهما من فيها؛ وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وَجَدتُموها، أخفروا ذمَّةَ عدوّ الله فيها (3) . 751 - وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرُسون: إنما كلم آدمَ الحية، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس. 752 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال:"ما نهاكما رَبُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن   (1) الأثر: 749 - في تاريخ الطبري 1: 55 - 56، وهو هناك تام. (2) في المخطوطة والمطبوعة والدر المنثور: "أنها تحمله حتى يدخل. . . "، وأثبت ما في تاريخ الطبري 1: 54، فهو أجود وأصح. (3) الخبر: 750 - في تاريخ الطبري 1: 53 -54، والدر المنثور 1: 53. وأخفر الذمة والعهد: نقضهما، ولم يف بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الناصحين". قال: فقطعت (1) حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [سورة الأعراف: 22] . لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتِها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن (2) في كلّ هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ (3) . * * * قال أبو جعفر: وقد رُويت هذه الأخبار - عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم - في صفة استزلال إبليس عدوِّ الله آدمَ وزوجتَه حتى أخرجهما من الجنة. وأولى ذلك بالحق عندنا ما كان لكتاب الله مُوافقًا. وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبديَ لهما ما وُري عنهما من سَوآتهما، وأنه قال لهما:"ما نهاكما رَبكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين"، وأنه"قاسمَهما إني لكما لمن الناصحين" مُدلِّيًا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه - عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إني لكما لمن الناصحين - الدليلُ الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجِنًّا في غيره. وذلك أنه غير مَعقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا. إذا سبّب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله"فوسوس إليه الشيطان"، لو كان ذلك كان منه إلى آدم - على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم   (1) في المطبوعة: "فعضت حواء الشجرة"، وأثبتنا ما في المخطوطة وتاريخ الطبري 1: 54. (2) في المطبوعة: "فتدمين"، وأثبتنا ما في المخطوطة والتاريخ. (3) الأثر: 752 - في تاريخ الطبري 1: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزلّه به من القول والحيل - لما قال جلّ ثناؤه:"وقاسمَهما إني لكما لمن الناصحين". كما غير جائز أن يقول اليوم قائلٌ ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصحٌ فيما زيَّن لي من المعصية التي أتيتها. فكذلك الذي كان من آدمَ وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليومَ وذرية آدم - لما قال جلّ ثناؤه:"وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين"، ولكن ذلك كان - إن شاء الله - على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله. فأما سَبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مُدافعته، إذ كان ذلك قولا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه (1) ، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه (2) ؛ وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك - إن شاء الله - كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك. وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما:- 753 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: إنه خَلص إلى آدم وزوجته بسُلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نَوْمته وفي يَقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوَه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه. وقد قال الله عز وجلّ:"فأزلهما الشيطان عنها، فأخرَجهما مما كانا فيه" (3) ، وقال: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ   (1) في المطبوعة: "إذا كان ذلك قولا لا يدفعه قول. . . ". (2) في المطبوعة: "والقول في ذلك. . . ". (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقد قال الله فوسوس لهما الشيطان، فأخرجهما مما كان فيه"، وهذه ليست آية، والصواب أنه أراد آية سورة البقرة هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأعراف: 27] وقد قال الله لنبيه عليه السلام: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ) إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم (1) . ثم قال ابن إسحاق (2) : وإنما أمرُ ابن آدم فيما بينه وبين عدوِّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم. فقال الله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [سورة الأعراف: 13] . ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قصَّ الله علينا من خبرهما، فقال: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) [سورة طه: 120] ، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه - فالله أعلمُ أيّ ذلك كان - فتابا إلى ربهما. * * * قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحاق - لو كان قد أيقن في نفسه - أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به، ما يجوز لذي فهم الاعتراضُ به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم، مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم. فكيف بشكّه؟ والله نسأل التوفيق. * * *   (1) حديث"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" - حديث صحيح جدًّا - رواه أحمد والشيخان وأبو داود، من حديث أنس، ورواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه، من حديث صفية، وهي بنت حيي، أم المؤمنين، كما في الجامع الصغير: 2036. (2) في المطبوعة إسقاط: "ثم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} قال أبو جعفر: وأما تأويل قوله"فأخرجهما"، فإنه يعني: فأخرج الشيطانُ آدمَ وزوجته،"مما كانا"، يعني مما كان فيه آدمُ وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان - وإن كان الله هو المخرجَ لهما - لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، فأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه (1) كما يقول القائل لرجل وَصل إليه منه أذى حتى تحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه:"ما حوَّلني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت"، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوّله عن سبب منه، جازَ له إضافة تحويله إليه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قال أبو جعفر: يقال هَبط فلان أرضَ كذا وواديَ كذا، إذا حلّ ذلك (2) كما قال الشاعر: مَا زِلْتُ أَرْمُقُهُمْ، حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ ... أَيْدِي الرِّكَابِ بِهِمْ مِنْ رَاكِسٍ فَلَقَا (3)   (1) في المطبوعة: "وأضيف ذلك. . . ". (2) لعل صواب العبارة: "إذا حل ذلك الموضع"، فسقطت كلمة من الناسخين. (3) البيت لزهير بن أبي سلمى، ديوانه: 37، أرمقهم: يعني أحبابه الراحلين، وينظر إليهم حزينًا كئيبًا، والركاب: الإبل التي يرحل عليها. وراكس: واد في ديار بني سعد بن ثعلبة، من بني أسد. وفلق وفالق: المطمئن من الأرض بين ربوتين أو جبلين أو هضبتين، وقالوا: فالق وفلق، كما قالوا: يابس ويبس (بفتحتين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وقد أبان هذا القولُ من الله جل ثناؤه، عن صحة ما قلنا من أنّ المخرِجَ آدمَ من الجنة هو الله جل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما، كان على ما وصفنا. ودلّ بذلك أيضًا على أنّ هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس، كان في وقت واحد، بجَمْع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبُّب إبليس ذلك لهما (1) ، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم. * * * قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"اهبطوا"، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به. 754 - فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عَوَانة، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح:"اهبطوا بَعضُكم لبعض عَدوٌّ"، قال: آدم وحواءُ وإبليس والحية (2) . 755 - حدثنا ابن وكيع، وموسى بن هارون، قالا حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌّ"، قال: فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبِط إلى الأرض آدمُ وحواء وإبليس والحية (3) . 756 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله:"اهبِطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: آدم وإبليس والحية (4) .   (1) لعل الأجود: "وتسبيب إبليس ذلك لهما"، وهي في المخطوطة غير منقوطة. (2) الأثر: 754 - في الدر المنثور 1: 55. (3) الأثر: 755 - في تاريخ الطبري 1: 56، والظاهر أن إسناده هنا سقط منه شيء، وتمامه في التاريخ: ". . . عن السدي - في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهبطوا. . . ". وهو الإسناد الذي يكثر الطبري من الرواية به. (4) الأثر: 756 - في تاريخ الطبري 1: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 757 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، آدم وإبليس والحية، ذريةٌ بعضُهم أعداءٌ لبعضٍ. 758 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"بعضكم لبعض عدوٌّ"، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته. 759 - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"بعضكم لبعض عدوٌّ" قال: يعني إبليس وآدم. (1) 760 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: بعضهم لبعض عدوّ: آدم وحواء وإبليس والحية (2) . 761 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: آدم وحواء وإبليس والحية. (3) 762 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: لهما ولذريتهما. (4) * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدمَ وزوجته وإبليس والحية؟   (1) الآثار: 757 - 759 لم أجدها بإسنادها في مكان. (2) الخبر: 760 - كالذي يليه من طريق آخر. (3) الخبر: 761 - في تاريخ الطبري 1: 56. (4) الأثر: 762 - لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسدهُ إياه، واستكبارُه عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [سورة ص: 76] . وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوةُ المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربّه في تكبره عليه ومُخالفته أمرَه. وذلك من آدم ومؤمني ذريته إيمانٌ بالله. وأما عداوة إبليسَ آدمَ فكفرٌ بالله. وأما عدَاوة ما بين آدم وذريته والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَا سالمناهُنّ مُنذ حَاربْناهن، فمن تركهنّ خشيةَ ثأرهنَّ فليس منَّا. 763 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثني حَجاج بن رِشْدين، قال: حدثنا حَيْوة بن شُريح، عن ابن عَجلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما سَالمناهُنَّ مُنذ حارَبناهنّ، فمن ترك شيئًا منهنّ خيفةً، فليس منا (1)   (1) الحديث: 763 - إسناده جيد. والحديث مروي بأسانيد أخر صحاح، كما سنذكر، إن شاء الله. حجاج: هو ابن رشدين بن سعد المصري، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/2/160، وذكر أنه يروي عن"حيوة بن شريح"، ويروي عنه"محمد بن عبد الله بن عبد الحكم". وذكر أنه سأل عنه أبا زرعة، قال: "لا علم لي به، لم أكتب عن أحد عنه". وترجمه الحافظ في لسان الميزان، ونقل أنه ضعفه ابن عدي، وأنه مات سنة 211، وأن ابن يونس لم يذكر فيه جرحًا، "وقال الخليلي: هو أمثل من أبيه، وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به"، وأن ابن حبان ذكره في الثقات. وهذا كاف في توثيقه، خصوصًا وأن ابن يونس أعرف بتاريخ المصريين. وأبوه اسمه"رشدين"، بكسر الراء والدال بينهما شين معجمة ساكنة، وبعد الدال ياء ونون. ووقع في المطبوعة"رشد"؛ وهو خطأ. والحديث رواه أحمد في المسند: 9586، عن يحيى - وهو القطان، 10752، عن صفوان - وهو ابن عيسى الزهري، كلاهما عن ابن عجلان، به (2: 432، 520 من طبعة الحلبي) . ورواه أيضًا قبل ذلك مختصرًا: 7360 (2: 247) عن سفيان بن عيينة. ورواه أبو داود: 5248 (4: 534 عون المعبود) ، من طريق سفيان، تاما. وهذه أسانيد صحاح. وورد معناه من حديث ابن عباس، في المسند أيضًا: 2037، 3254. وقريب من معناه من حديث ابن مسعود، في المسند أيضًا: 3984. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 قال أبو جعفر: وأحسبُ أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، حتى استزلّه عن طاعة ربه في أكله ما نُهي عن أكله من الشجرة. 764 - وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثني آدم - جميعًا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن قَتل الحيَّات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُلقتْ هي والإنسانُ كل واحد منهما عدوّ لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدَغته أوجعته، فاقتلها حَيث وجدتها (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال: بعضهم بما:- 765 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"ولكم في الأرض مُستقَرٌّ" قال: هو قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا) [سورة البقرة: 22] . 766 - وحُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولكم في الأرض مستقرٌّ"، قال: هو قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) (2) [سورة غافر: 64] .   (1) الحديث: 764 - في الدر المنثور 1: 55، ونسبه للطبري فقط. وهو في مجمع الزوائد 4: 45 بلفظ آخر، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جابر غير مسمى، والظاهر أنه الجعفي، وثقه الثوري وشعبة، وضعفه الأئمة أحمد وغيره. (2) الأثران: 765 - 766: لم أجدهما في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وقال آخرون: معنى ذلك ولكم في الأرض قَرَار في القبور. * ذكر من قال ذلك: 767 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ:"ولكم في الأرض مستقر"، يعني القبور (1) . 768 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال:"ولكم في الأرض مستقرٌّ"، قال: القبور (2) . 769 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"ولكم في الأرض مستقر"، قال: مقامهم فيها (3) . * * * قال أبو جعفر: والمستقرُّ في كلام العرب، هو موضع الاستقرار. فإذْ كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودًا حالا فذلك المكان من الأرض مستقره. إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أنّ لهم في الأرض مستقرًّا ومنزلا بأماكنهم ومستقرِّهم من الجنة والسماء. وكذلك قوله:"ومتاع" يعني به: أن لهم فيها متاعًا بمتاعهم في الجنة. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ولكم فيها بَلاغ إلى الموت. * ذكر من قال ذلك: 770 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا   (1) الأثر: 767 - لم أجده في مكان. (2) الخبر: 768 - في الدر المنثور 1: 55، وهو من تمام الخبر: 761. (3) الأثر: 769 - لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 أسباط، عن السُّدّيّ في قوله:"ومتاعٌ إلى حين"، قال يقول: بلاغ إلى الموت (1) . 771 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس:"ومتاعٌ إلى حين"، قال: الحياة (2) . * * * وقال آخرون: يعني بقوله:"ومتاعٌ إلى حين"، إلى قيام الساعة. * ذكر من قال ذلك: 772 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"ومتاع إلى حين"، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا. * * * وقال آخرون:"إلى حين"، قال: إلى أجل. * ذكر من قال ذلك: 773 - حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ومتاع إلى حين"، قال: إلى أجل (3) . * * * والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك (4) . فإذْ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد جَعل حياة كل حيّ متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان مَتاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتًا (5) ، ولجسمه منزلا وَقرارا؛ وكان اسم المتاع يَشمل جميع ذلك - كان أولى التأويلات   (1) الأثر: 770 - لم أجده في مكان. (2) الأثر: 771 - في الدر المنثور 1: 55، وهو من تمام الأثرين: 761، 768. (3) الأثران: 772، 773: لم أجدهما في مكان. (4) في المخطوطة: "في معاش استمتع. . . ". (5) الكفات: الموضع الذي يضم فيه الشيء ويقبض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 بالآية - (1) إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قَصد بقوله:"ومتاعٌ إلى حين" بعضًا دون بعض، وخاصًّا دون عامٍّ في عقل ولا خبر - أن يكون ذلك في معنى العامِّ، وأن يكون الخبر أيضًا كذلك، إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تُبدَّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وَصفنا، فالواجب إذًا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض مَنازلُ ومساكنُ تستقرُّون فيها استقراركم - كان - في السموات، وفي الجنان في منازلكم منها (2) ، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزَّين والملاذِّ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرْماسكم وأجدَاثكم تُدفنون فيها (3) ، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال أبو جعفر: أما تأويل قوله:"فتلقى آدم"، فقيل: إنه أخذ وقَبِل (4) . وأصله التفعُّل من اللقاء، كما يتلقى الرجلُ الرجلَ مُستقبلَه عند قدومه من غيبته أو سفره، فكأنَّ ذلك كذلك في قوله:"فتلقى" (5) ، كأنه استقبله فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه أو أخبر به. فمعنى ذلك إذًا: فلقَّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقَّاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبًا، فتاب الله عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه. كما:- 774 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن   (1) في المطبوعة: "إن لم يكن الله. . . "، وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "في الجنات". (3) الأرماس جمع رمس، والأجداث جمع جدث (بفتحتين) : وهما بمعنى القبر. (4) في المطبوعة: "أخذ. وقيل: أصله"، وهو خطأ. (5) في المطبوعة: ". . . يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر فكذلك ذلك في قوله"، تصرف نساخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 زيد في قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات" الآية. قال: لقَّاهمَا هذه الآية: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (1) [سورة الأعراف: 23] . * * * وقد قرأ بعضهم:"فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ"، فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك، وإن كان من وجهة العربية جائزًا - إذْ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له مُتلقّ، وما لقيه فقد لَقيه، فصار للمتكلم أن يُوجه الفعل إلى أيهما شاء، ويخرج من الفعل أيهما أحب - فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع"آدم" على أنه المتلقي الكلمات، لإجماع الحجة من القَرَأة وأهل التأويل من علماء السلف والخلف (2) ، على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات. وغيرُ جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة، بقول من يجوز عليه السهو والخطأ. * * * واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها. آدمُ من ربه. فقال بعضهم بما:- 775 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتابَ عليه"، قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جَنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب، ألم تسبق رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم.   (1) الأثر: 774 - ابن كثير 1: 147، والدر المنثور 1: 59، والشوكاني 1: 58، وسيأتي برقم: 792. (2) في المطبوعة: "لإجماع الحجة من القراء". والقَرَأَة: جمع قارئ، كما سلف مرارًا، انظر ما مضى ص 524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 قال: فهو قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات" (1) . 776 - وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعْب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه. 777 - وحدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه"، قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه: رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة (2) . 778 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، ذكر لنا أنه قال: يا رب، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذًا راجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا"ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تَغفر لَنا وتَرحمنا لنكونن من الخاسرين". (3) 779 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال الله: إذًا أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تغفرْ لَنا وتَرحمنا لنكونن من الخاسرين" (4) . 780 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات"، قال: رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. قال: ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال وسبقت رحمتك   (1) الخبر: 775 - في ابن كثير 1: 147، والدر المنثور 1: 58، والشوكاني 1: 57. (2) الخبر: 777 - لم أجده بلفظه في مكان. (3) الأثر 778 - في ابن كثير 1: 147. (4) الأثر: 779 - في ابن كثير 1: 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 غضبك؟ قيل له: بلى. قال: ربّ هل كنتَ كتبتَ هذا عليّ؟ قيل له: نعم. قال: رب، إن تبت وأصلحت، هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قيل له: نعم. قال الله تعالى: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (1) [سورة طه: 122] . * * * وقال آخرون بما:- 781 - حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: حدثني من سمع عُبيد بن عُمير يقول: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعتُهُ من قبل نفسي؟ قال: بلى، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفره لي. قال: فهو قول الله:"فتلقَّى آدم من ربه كلمات" (2) . 782 - وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: أخبرني من سمع عُبيد بن عُمير، بمثله. 783 - وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عمن سمع عبيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نحوه. 784 - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، بنحوه. 785 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد العزيز، عن عبيد بن عمير بمثله. وقال آخرون بما:- 786 - حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن   (1) الأثر: 780 - لم أجده بنصه في مكان. (2) الأثر: 781 - في ابن كثير 1: 47. والدر المنثور 1: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 بن شَريك، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، أنه قال: قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه"، قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. (1) 787- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، وقيس- جميعًا عن خُصَيف، عن مجاهد في قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال قوله:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تَغفر لنا وترحمنا"، حتى فرغ منها. (2) 788- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثني شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، كان يقول في قول الله:"فتلقى آدم من ربه كلمات" الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. (3) 789- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد:"فتلقى آدم من ربه كلمات" هو قوله:"ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لَنا وترحمنا" الآية. (4) 790- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن   (1) الأثر: 786- لم أجده في مكان. وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: ثقة، مترجم في التهذيب، وقال مصعب الزبيري: "وكان رجلا صالحًا". وقال أبو زرعة: "معاوية، وعبد الرحمن، وخالد - بنو يزيد بن معاوية: كانوا صالحي القوم". وأما الراوي عنه"حميد بن نبهان" فلم أجد له ترجمة ولا ذكرًا، وأخشى أن يكون محرفًا عن شيء لا أعرفه. (2) الأثر: 787- في ابن كثير 1: 147، والدر المنثور 1: 59، والشوكاني 1: 58. (3) الأثر: 788- في ابن كثير 1: 147. (4) الأثر: 789- انظر الأثر السالف رقم: 787. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 ابن جُريج، عن مجاهد:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال: أي رب، أتتوب عليّ إن تبت؟ قال نعم. فتاب آدم، فتاب عليه ربه. (1) 791- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال: هو قوله:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين (2) ". 792- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: هو قوله:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (3) ". * * * وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقَّى آدمَ كلماتٍ، فتلقَّاهُنّ آدمُ من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب بقِيله إياهنّ وعملِه بهنّ إلى الله من خطيئته، معترفًا بذنبه، متنصِّلا إلى ربه من خطيئته، نادمًا على ما سلف منه من خلاف أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه على سالف الذنب منه. والذي يدل عليه كتابُ الله، أن الكلمات التي تلقاهنّ آدمُ من ربه، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصِّلا بقيلها إلى ربه، معترفًا بذنبه، وهو قوله:"ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". وليس ما قاله من خالف قولنا هذا -من الأقوال التي حكيناها- بمدفوع قوله، ولكنه قولٌ لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربّه عند إنابته إليه من ذنبه. وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم -من قيله الذي لقَّاه إياه فقاله تائبًا إليه من خطيئته- تعريف منه جل ذكره جميعَ المخاطبين   (1) الأثر: 790- لم أجده في مكان. (2) الأثر: 791- في ابن كثير 1: 147، والدر المنثور 1: 59. (3) الأثر: 792- في ابن كثير 1: 147، والدر المنثور 1: 59، ومضى رقم: 774. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 بكتابه، كيفية التوبة إليه من الذنوب (1) ، وتنبيهٌ للمخاطبين بقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [سورة البقرة: 28] ، على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأنّ خلاصهم مما هم عليه مُقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، مع تذكيره إياهم به السالفَ إليهم من النعم التي خَصَّ بها أباهم آدم وغيرَه من آبائهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} قال أبو جعفر: وقوله:"فتاب عليه"، يعني: على آدم. والهاء التي في"عليه" عائدة على"آدم". وقوله:"فتاب عليه"، يعني رَزَقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلى الله، والأوبةُ إلى طاعته مما يَكرَهُ من معصيته. * * *   (1) في المخطوطة: "التوبة من الذنوب"، بالحذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"إنه هو التواب الرحيم"، أن الله جل ثناؤه هو التوّاب على من تاب إليه - من عباده المذنبين - من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه (1) ، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه. * * * وأما قوله:"الرحيم"، فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة. ورحمته إياه، إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جُرمه. * * * قال أبو جعفر: وقد ذكرنا القول في تأويل قوله:"قلنا اهبطوا منها جميعًا" فيما مضى، (2) فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذْ كان معناه في هذا الموضع، هو معناه في ذلك الموضع. 793- وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، في قوله:"اهبطوا منها جميعًا"، قال: آدم وحواء والحية وإبليس. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"فإما يأتينكم"، فإنْ يَأتكم. و"ما" التي مع"إن" توكيدٌ للكلام، ولدخولها مع"إن" أدخلت النون المشددة في"يأتينَّكم"، تفرقةً بدخولها بين"ما" التي تأتي بمعنى توكيد الكلام - التي تسميها أهل العربية صلة وَحشوًا - وبين"ما" التي تأتي بمعنى"الذي"، فتؤذِن بدخولها في الفعل، أنّ"ما" التي مع"إن" التي بمعنى الجزاء، توكيد، وليست"ما" التي بمعنى"الذي". وقد قال بعض نحويي أهل البصرة (4) : إنّ "إمَّا"، "إن" زيدت معها"ما"،   (1) في المطبوعة: "ويؤوب من غضبه عليه"، بالحذف. (2) انظر ص: 534. (3) الأثر: 793- لم أجده بهذا الإسناد، وانظر، ما مضى الأرقام: 754 وما بعده. (4) في المطبوعة: "نحويي البصريين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته "ما"، لأن "ما" نفيٌ، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم:"بعينٍ مَّا أرَينَّك"، حين أدخلت فيها"ما" حسنت النون فيما ها هنا. وقد أنكرت جماعة من أهل العربية دعوى قائل هذه المقالة (1) : أن"ما" التي مع"بعينٍ ما أرَينَّك" بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام. وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام:"بعَين أراك"، وغير جائز أن يُجْعل مع الاختلاف فيه أصلا يُقاس عليه غيره. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) } قال أبو جعفر: والهدى، في هذا الموضع، البيان والرشاد. كما:- 794- حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"فإما يأتينكم مني هدًى" قال: الهدى، الأنبياءُ والرسل والبيان. (2) . فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله:"اهبطوا"، وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: (فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [سورة فصلت: 11] ، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ونظيرَ قوله في قراءة   (1) في المطبوعة: "وقد أنكر جماعة. . . دعوى قائلي. . . ". (2) الأثر: 794- في ابن كثير 1: 148، والدر المنثور 1: 63، والشوكاني 1: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ابن مسعود: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم) [سورة البقرة: 128] ، فجمع قبل أن تكون ذريةً، وهو في قراءتنا:"وأرنا مناسكنا". وكما يقول القائل لآخر:"كأنك قد تزوجت وولد لك، وكثرتم وعززتم"، ونحو ذلك من الكلام. وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية، لأنّ آدمَ كان هو النبيَّ أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، (1) والرسولَ من الله جل ثناؤه إلى ولده. فغير جائز أن يكون معنيًّا -وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم- بقوله:"فإما يأتينّكم منّي هُدًى"، خطابًا له ولزوجته،"فإما يأتينكم مني أنبياءُ ورسل" (2) إلا على ما وصفتُ من التأويل. وقول أبي العالية في ذلك -وإن كان وجهًا من التأويل تحتمله الآية- فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبهُ بظاهر التلاوة، أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم يا معشرَ من أُهبط إلى الأرض من سمائي (3) ، وهو آدمُ وزوجته وإبليس -كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها- إما يأتينكم منّي بيانٌ من أمري وطاعتي، ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلافٌ لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائبُ على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيمُ لمن أناب إليه، كما وصف نفسه بقوله:"إنه هو التّواب الرحيم". وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه:"اهبطوا منها جميعًا"، والذين خوطبوا به هم من سمّينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدّمنا الرواية عنهم. (4) . وذلك، وإن كان خطابًا من الله جل ذكره لمن أُهبط   (1) في المطبوعة: "هو النبي صلى الله عليه وسلم". (2) في المطبوعة: ". . . مني هدى أنبياء ورسل. . . ". (3) في المطبوعة: "فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته. . . ". (4) في المطبوعة: "الرواية عنهم" بالحذف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنّة الله في جميع خلقه، وتعريفٌ منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله (1) (: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة البقرة: 6] ، وفي قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [سورة البقرة: 8] ، وأنّ حكمه فيهم -إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كُفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلَّدين فيها. وقوله:"فمن تَبعَ هُدَايَ"، يعني: فمن اتبع بَياني الذي آتيتُه على ألسن رُسُلي، أو مع رسلي (2) . كما:- 795- حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"فمن تَبع هُدَاي"، يعني بياني. (3) . * * * وقوله:"فلا خوفٌ عليهم"، يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله، غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمرَه وهُداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلّفوا بعد وفاتهم في الدنيا. كما:- 796- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد:"لا خوفٌ عليهم"، يقول: لا خوف عليكم أمامكم (4) . وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت. فأمّنهم منه وسَلاهم عن الدنيا فقال:"ولا هم يحزنون".   (1) في المطبوعة: "وتعريف منه بذلك للذين". (2) في المطبوعة: ". . . بياني الذي أبينه على ألسن رسلي". (3) الأثر: 795- لم أجده في مكان. (4) الأثر: 796- لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } يعني: والذين جَحدوا آياتي وكذّبوا رسلي. وآيات الله: حُجَجه وأدلتُه على وحدانيّته وربوبيّته، وما جاءت به الرُّسُل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأتْ عن ربّها. وقد بيّنا أن معنى الكفر، التغطيةُ على الشيء (1) . "أولئك أصحاب النار"، يعني: أهلُها الذين هم أهلها دون غيرهم، المخلدون فيها أبدًا إلى غير أمَدٍ ولا نهاية. كما:- 797- حدثنا به عُقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غَسان بن مُضَر، قال حدثنا سعيد بن يزيد - وحدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مَسْلَمَة سعيد بن يزيد - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد بن يزيد - عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة (2) . * * *   (1) انظر ما مضى ص: 255. (2) الحديث: 797- رواه الطبري هنا بثلاثة أسانيد، تنتهي إلى سعيد بن يزيد. وذكره ابن كثير 1: 158، ولكنه سها فذكر أنه رواه من طريقين، وهي ثلاثة كما ترى: و"عقبة بن سنان بن عقبة بن سنان البصري" - شيخ الطبري في الإسناد الأول: ثقة، سمع منه أبو حاتم، وقال: "صدوق". ولم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل 3/1/311. و"غسان بن مضر الأزدي البصري": ثقة من شيوخ أحمد القدماء، وقال أحمد: "شيخ ثقة ثقة". وترجمه البخاري في الكبير 4/1/107، وابن أبي حاتم 3/2/51. و"أبو بكر بن عون" - شيخ الطبري في الإسناد الثالث: لم أستطع أن أعرف من هو؟ ولا أثر لذلك في الإسناد، فإن الطبري رواه عنه وعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، كلاهما عن ابن علية. و"سعيد بن يزيد بن مسلمة أبو مسلمة الأزدي البصري": تابعي ثقة، روى له الجماعة. وترجمه البخاري 2/1/476، وابن أبي حاتم 2/1/73. وكنيته"أبو مسلمة" بالميم في أولها. ووقع في تفسير ابن كثير"أبو سلمة" بحذفها، وهو خطأ مطبعي. وهذا الحديث رواه مسلم 1: 67-68، وابن ماجه: 4309- كلاهما من طريق بشر بن المفضل، عن سعيد بن يزيد أبي مسلمة، به. ولكنه عندهما أطول مما هنا. ولم يروه من أصحاب الكتب الستة غيرهما، كما يدل على ذلك تخريجه في جامع الأصول لابن الأثير: 8085. وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند: 11093 (3: 11 حلبي) عن ابن علية. ورواه أيضًا أحمد: 11769 (3: 78-79) ، ومسلم 1: 68- كلاهما من طريق شعبة، عن سعيد بن يزيد. وهو في الحقيقة جزء من حديث طويل، ورواه أحمد في المسند، مطولا ومختصرًا، من أوجه، عن أبي نضرة، منها: 11029، 11168، 11218- 11220 (3: 5، 20، 25-26 حلبي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"يا بني إسرائيل" ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن (1) وكان يعقوب يدعى"إسرائيل"، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه. و"إيل" هو الله، و"إسرا" هو العبد، كما قيل:"جبريل" بمعنى عبد الله. وكما:- 798- حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن عُمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله. (2) 799- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال:"إيل"، الله بالعبرانية. (3)   (1) في المطبوعة: "يا ولد يعقوب. . . " بزيادة النداء". (2) الخبر: 798- في ابن كثير 1:: 149، والدر المنثور 1: 63. وهذا إسناد صحيح. إسماعيل بن رجاء بن ربيعة: ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. عمير مولى ابن عباس: هو عمير بن عبد الله الهلالي، مولى أم الفضل، وقد ينسب إلى ولاء زوجها"العباس"، كما ورد في إسناد حديث آخر في المسند: 77، وقد ينسب إلى ولاء بعض أولادها، كما في هذا الإسناد. وهو تابعي ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/380، وأخرج له الشيخان وغيرهما. (3) الأثر: 799- في الدر المنثور 1: 63. و"المنهال": هو ابن عمرو الأسدي. و"عبد الله بن الحارث": هو الأنصاري البصري أبو الوليد، وهو تابعي ثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله:"يا بني إسرائيل" أحبارَ اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظَهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [سورة الأعراف: 31] وما أشبه ذلك. وإنما خصّهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكَّرهم فيها نعمَه -وإن كان قد تقدّم ما أنزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم- أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبارُ أوائلهم، وَقصَصُ الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثلُ الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرَّفهم بإطلاع محمّد على علمها- مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم درَاسةَ الكتب التي فيها أنباء ذلك (1) - أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم   (1) قوله: "وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم دراسة الكتب. . . "، هو كما نقول اليوم في عبارتنا المحدثة: "وعدم مزاولة محمد. . . ". قال الجاحظ في البيان والتبيين 1: 285: "واستجار عون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، بمحمد بن مروان بنصيبين، وتزوج بها امرأة فقال محمد: كيف ترى نصيبين؟ قال: "كثيرة العقارب، قليلة الأقارب". يريد بقوله: "قليلة"، كقول القائل: "فلان قليل الحياء"، وليس يريد أن هناك حياء وإن قل. يضعون: "قليلا، في موضع"ليس". انتهى. قلت: ومنه قول دريد بن الصمة في أخيه: قَلِيلُ التَّشَكِّي للمصيبات، حافظٌ ... مِنَ الْيَوْمِ أعقابَ الأحاديث في غَدِ وسيأتي قول الطبري في تفسير قوله تعالى من (سورة البقرة: 88) "فقليلا ما يؤمنون": (1: 324، بولاق) : "وإنما قيل: فقليلا ما يؤمنون، وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: "قلما رأيت مثل هذا قط". وقد روى عنها سماعًا منها: "مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل"، يعني ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بالقلة، والمعنى فيه نفي جميعه"، انتهى. وفي الحديث: "إنه كان يقل اللغو" أي لا يلغو أصلا، قال ابن الأثير: وهذا اللفظ يستعمل في نفي أصل الشيء (اللسان: قلل) . ولولا زمان فسد فيه اللسان، وقل الإيمان، واشتدت بالمتهجمين الجرأة على تفسير الكلمات، وتصيد الشبهات - ولولا أن يقول قائل فيفتري على الطبري أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدارس كتب أهل الكتاب، لكنت في غنى عن مثل هذه الإطالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 لم يَصلْ إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنزيلٍ منه ذلك إليه - لأنهم من عِلْم صحة ذلك بمحلّ ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله:"يا بني إسرائيل" خطابهم كما:- 800- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله:"يا بني إسرائيل"، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود (1) . * * * القول في تأويل قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جلّ ذكره، اصطفاؤه منهم الرسلَ، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذُه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضَّرَّاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلَف منه إلى آبائهم على ذُكْر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحلّ بهم من النقم ما أحلّ بمن نسي نعمَه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:- 801- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"اذكروا نعمتِي التي أنعمتُ عليكم"، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه (2) . 802- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن   (1) الأثر 800- في الدر المنثور 1: 63، والشوكاني 1: 61 بتمامه. وسيأتي تمامه في الأثر التالي. (2) الأثر: 801- من تمام الأثر السالف، المراجع السالفة، وابن كثير 1: 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"اذكروا نعمتي"، قال: نعمتُه أنْ جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب (1) . 803- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"، يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون (2) . 804- وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"نعمتي التي أنعمت عليكم" قال: نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (3) [سورة الحجرات: 17] وتذكيرُ الله الذين ذكّرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافَهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [سوة المائدة: 20] . * * *   (1) الأثر: 802- في ابن كير 1: 149. (2) الأثر: 803- في ابن كثير 1: 149 وفيه: "وفيما سوى ذلك: أن فجر"، بالزيادة. (3) الأثر: 804- لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (40) } قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى -عن معنى العهد- من كتابنا هذا (1) ، واختلاف المختلفين في تأويله، والصوابُ عندنا من القول فيه (2) . وهو في هذا الموضع: عهدُ الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبيِّنوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله. "أوف بعهدكم": وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [سورة المائدة: 12] ، وكما قال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا   (1) انظر ما مضى: 410-415. (2) في المطبوعة: "قد تقدم بياننا معنى العهد فيما مضى من كتابنا. . . "، غيروه ليستقيم الكلام على ما ألفوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1) [سورة الأعراف: 156-157] . 805- وكما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وأوفوا بعهدي" الذي أخذتُ في أعناقكم للنبِيّ محمد إذا جاءكم، (2) "أوف بعهدكم"، أي أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعْناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم (3) . 806- وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"أوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم"، قال: عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه،"أوف بعهدكم"، يعني الجنة (4) . 807- وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"أوفوا بعهدي أوف بعهدكم": أما"أوفوا بعهدي"، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما"أوف بعهدكم" فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة (5) . 808- وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:"وأفوا بعهدي أوف بعهدكم"، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ   (1) في الأصول: ". . . اثنى عشر نقيبًا، الآية". و"النبي الأمي، الآية". وآثرنا إتمام الآيتين، كما جرينا عليه فيما سلف، وفيما سيأتي. (2) في المطبوعة: ". . . للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم. . . "، وفي المراجع الأخرى. (3) الأثر: 805- من تمام الأثر السالف رقم: 800، ورقم 801، ومراجعه ما سلف. (4) الأثر: 806- في ابن كثير 1: 150. (5) الأثر: 807- في ابن كثير 1: 150 تضمينًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 نَقِيبًا) إلى آخر الآية [سورة المائدة: 12] . فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده (1) . 809- وحُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله"وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره،"أوف بعهدكم"، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة (2) . 810- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، قال: أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) حتى بلغ (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) [سورة التوبة: 111] ، قال: هذا عهده الذي عهده لهم (3) . * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) } قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"وإياي فارهبون"، وإياي فاخْشَوْا - واتَّقُوا أيها المضيّعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذتُ ميثاقكم - فيما أنزلتُ من الكتُب على أنبيائي -أن تؤمنوا به وتتبعوه- أن أُحِلّ بكمْ من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللتُ بمن خالف أمري وكذّب رُسلي من أسلافكم. كما:- 811- حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،   (1) الأثر: 808- لم أجده بنصه في مكان. (2) الأثر: 809- في ابن كثير 1: 150، الدر المنثور 1: 63، والشوكاني 1: 61. (3) الأثر: 810- لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإيايَ فارهبون"، أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره. (1) 812- وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"وإياي فارهَبُون"، يقول: فاخشَوْن. 813- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وإياي فارهبون"، يقول: وإياي فاخشون. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"آمنوا"، صدِّقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. (3) ويعني بقوله:"بما أنزلت، ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويعني بقوله:"مصدِّقًا لما معكم"، أن القرآن مصدِّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في التوراة والإنجيل ففي تصديقهم بما   (1) الأثر: 812- من تمام الآثار السالفة الأرقام: 800، 801، 805. وابن كثير 1: 150 من تمام ما سلف في ص 149. المراجع المذكورة. (2) الأثر: 813- في ابن كثير 1: 150. (3) انظر ما مضى: 234، 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 أنزل على محمد تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة. وقوله:"مصدقًا"، قطع من الهاء المتروكة في"أنزلته" من ذكر"ما" (1) . ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:- 814- حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم"، يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل. (2) . 815- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 816- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"وآمنوا بما أنزلت مصدِّقًا لما معكم"، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنزلت على محمّد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمّدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. (3) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قِيل:"ولا تكونوا أول كافر به"،   (1) قوله"قطع"، أي حال. وانظر ما سلف ص 230: تعليق: 4، وص 330 تعليق: 1. (2) الأثر: 814- في ابن كثير 1: 150 تضمينًا، والدر المنثور 1: 264، والشوكاني 1: 61. (3) الأثر: 815- في ابن كثير 1: 150، والدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 والخطاب فيه لجميع (1) ، وقوله:"كافر" واحد؟ وهل نجيز -إن كان ذلك جائزًا- أن يقول قائل:"ولا تكونوا أول رجُل قام"؟ قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له"أفعل"، وهو خبر لجميع (2) إذا كان اسمًا مشتقًّا من"فعل ويفعل"، لأنه يؤدِّي عن المرادِ معه المحذوفَ من الكلام وهو"مَنْ"، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه"مَنْ" من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوَّلَ من يكفر به."فمن" بمعنى جميع (3) ، وهو غير متصرف تصرفَ الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسمُ المشتق من"فعل ويفعل" مُقَامه، جرى وهو موحّد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه"مَنْ" من معنى الجمع والتأنيث، كقولك:"الجيش مُنهزم"،"والجند مقبلٌ" (4) ، فتوحِّد الفعلَ لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال:"الجيش رجل، والجند غلام"، حتى تقول:"الجند غلمان والجيش رجال". لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من"فعل ويفعل"، لا يؤدّي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر: وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طَاعِمٍ ... وَإِذَا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ (5) فوحّد مَرّةً على ما وصفتُ من نية"مَنْ"، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من"فعل ويفعل" مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء   (1) في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع. . . لجمع. . . جمع". (2) في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع. . . لجمع. . . جمع". (3) في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع. . . لجمع. . . جمع". (4) في المطبوعة. "الجيش ينهزم، والجند يقبل"، وهو خطأ صرف. (5) نوادر أبي زيد: 152، لرجل جاهلي، ومعاني القرآن للفراء 1: 33، وهي ثلاثة أبيات نوادر، وقبله: ومُوَيْلكٌ زمَعُ الكِلابِ يَسُبُّنِي ... فَسَماعِ أسْتَاهَ الكلابِ سَمَاعِ هَلْ غير عَدْوِكُمُ عَلَى جَارَاتكُمْ ... لبُطُونِكُمْ مَلَثَ الظَّلامِ دَوَاعِي وقوله: "طعموا" أي شبعوا، فهم عندئذ ألأم من شبع. وفي الحديث: "طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة"، يعني شبع. الواحد قوت الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 المخبر عنهم، ولو وحَّد حيث جَمع، أو جمع حيث وحَّد، كان صوابًا جائزًا (1) . وأما تأويل ذلك (2) فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدِّقوا بما أنزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدِّق كتابَكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيِّيَ المبعوثُ بالحق، ولا تكونوا أوَّل أمّتكُمْ كذَّبَ به (3) وَجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم. وكفرهم به: جُحودهم أنه من عند الله (4) . والهاء التي في"به" من ذكر"ما" التي مع قوله:"وآمنوا بما أنزلت". كما:- 817- حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال قال ابن جريج في قوله:"ولا تكونوا أوّل كافر به"، بالقرآن. (5) قال أبو جعفر: وروى عن أبي العالية في ذلك ما:- 818- حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تكونوا أول كافر به"، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. (6) . وقال بعضهم:"ولا تكونوا أول كافر به"، يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدانِ. وذلك أن الله جل ثناؤه   (1) انظر مثل ما قال الطبري في معاني القرآن للفراء 1: 32-33. (2) في المطبوعة: "فأما. . . " بالفاء. (3) في المطبوعة: "أول من كذب به"، والذي أثبتناه هو صواب بيان الطبري. (4) في المخطوطة: "وكفرهم به وجحودهم. . . " وهو خطأ. (5) الأثر: 817- في الدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1: 61. (6) الأثر: 818- في ابن كثير 1: 150، والدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: "وآمِنُوا بما أنزلتُ مصدقًا لما معكم". ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنزيلٌ مُنْزَل، والمنْزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية (1) ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله:"ولا تكونوا أول كافر به" - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام (2) . وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في"به" على"ما" التي في قوله:"لما معكم". لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام (3) ، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن (4) . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. (5) . 819- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد   (1) في المطبوعة زيادة بين هاتين الجملتين، وهي مقحمة مفسدة للكلام نابية في السياق. ونصها". . . في أول الآية من أهل الكتاب، فذلك هو الظاهر المفهوم. ولم يجر لمحمد. . . ". (2) بيان الطبري جيد محكم، وإن ظن بعض من نقل كلامه أن كلا القولين صحيح، لأنهما متلازمان. لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن (ابن كثير 1: 150) . ونعم، كلا القولين صحيح المعنى في ذاته، ولكن الطبري يحدد دلالة الألفاظ والضمائر في الآية، ويعين ما يحتمله ظاهر التلاوة والتنزيل، ويخلص معنى من معنى، وإن كان كلاهما صحيحًا في العقل، صحيحًا في الحكم، صحيحًا في الدين. وما أكثر ما يتساهل الناس إذا تقاربت المعاني، ولا يخلص معنى من معنى إلا بصير بالعربية كأبي جعفر رضي الله عنه. (3) في المطبوعة: "محتمل ظاهر الكلام". (4) في المخطوطة: ". . . أن الأمر بالإيمان به في أول الآية. . . أن يكون النهي عن الكفر به في آخرها. . . "، والذي في المطبوعة أجود وأبين. (5) وهذا أيضًا من جيد البصر؛ بمنطق العربية، وإن ظنه بعضهم قريبًا من قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به"، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: 820- فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تشترُوا بآياتي ثمنًا قليلا"، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمتَ مَجَّانًا (2) . وقال آخرون بما:- 821 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، يقول: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع (3) .   (1) الخبر: 819- من تمام الأخبار السالفة الأرقام 805، 811، في الدر المنثور 1: 63. (2) الأثر: 820- من تمام الأثر السالف رقم: 818 ومراجعه هناك. وفي ابن كثير 1: 151. والمجان: عطية الشيء بلا منة ولا ثمن. قال أبو العباس: سمعت ابن الأعرابي يقول: المجان عند العرب الباطل، وقالوا: "ماء مجان". قال الأزهري: العرب تقول: تمر"مجان"، وماء"مجان"، يريدون أنه كثير كاف. قال: واستطعمني أعرابي تمرًا فأطعمته كتلة واعتذرت إليه من قلته، فقال: هذا والله"مجان". أي كثير كاف. وقولهم: أخذه مجانًا: أي بلا بدل، وهو فعال لأنه ينصرف (اللسان: مجن) . (3) الأثر: 821- في ابن كير 1: 151. وفي المطبوعة وابن كثير: "فذلك الطمع هو الثمن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو أجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيسٍ وعَرضٍ من الدنيا قليل. وبيعُهم إياه - تركهم إبانةَ ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل - بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجرَ ممَّن بيّنوا له ذلك على ما بيّنوا له منه. وإنما قلنا بمعنى ذلك:"لا تبيعوا" (1) ، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائعٌ الآياتِ بالثمن، فكل واحد من الثمَّن والمثمَّن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري: وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية (2) ، بينوا للناس أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيُه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهيَ عن شراء الثمن القليل بآياته. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قال أبو جعفر: يقول: فاتقونِ - في بَيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أنْ أُحِلّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمَات. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"ولا تلبسُوا"، لا تخلطوا. واللَّبْس هو الخلط.   (1) في المطبوعة: "وإنما قلنا معنى ذلك. . . ". (2) في المطبوعة: "وإنما معناه على ما تأوله. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 يقال منه: لَبَست عليه هذا الأمر ألبِسُه لبسًا: إذا خلطته عليه (1) . كما:- 822 - حُدِّثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) [سورة الأنعام: 9] يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون (2) . ومنه قول العجاج: لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي ... غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي (3) يعني بقوله:"لبسن"، خلطن. وأما اللُّبس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا، وذلك الكسوةُ يكتسيها فيلبسها (4) . ومن اللُّبس قول الأخطل: لَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الدَّهْرِ أَعْصُرَهُ ... حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا (5) ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) . [سورة الأنعام: 9] * * * فإن قال لنا قائل (6) وكيف كانوا يلبِسون الحق بالباطل وهم كفّار؟ وأيُّ حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟ قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به. وكان عُظْمُهم يقولون (7) : محمد نبيٌّ مبعوث، إلا أنه   (1) في المطبوعة: "لبست عليهم الأمر. . . خلطته عليهم". (2) الخبر: 822- لم أجده في مكان، ولم يذكره الطبري في مكانه من تفسير هذه الآية في سورة الأنعام (7: 98 بولاق) . (3) ديوانه: 65. غني عن الشيء واستغنى: اطرحه ورمى به من عينه ولم يلتفت إليه. (4) في المطبوعة: "وذلك في الكسوة. . . "، بالزيادة. (5) ديوانه: 142، وفيه"وقد لبست". وأعصر جمع عصر: وهو الدهر والزمان. وعني هنا اختلاف الأيام حلوها ومرها، فجمع. ولبس له أعصره: عاش وقاسى خيره وشره. وتجلل الشيب رأسه: علاه. (6) في المطبوعة: "إن قال. . . ". (7) في المطبوعة: "وكان أعظمهم. . . "، وهو تحريف قد مضى مثله مرارًا. وعظم الشيء: معظمه وأكثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 مبعوث إلى غيرنا. فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقَّ بالباطل، إظهارَه الحقّ بلسانه، وإقرارَه بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارًا (1) ، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه (2) . وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحدُ أنه مبعوث إليهم، إقرارَه بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحودَه أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بَعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولَبْسهم إياه به. كما:- 823 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله:"ولا تلبِسُوا الحق بالباطل"، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب (3) . 824 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل"، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدُّوا النصيحةَ لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم (4) . 825 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد:"ولا تلبسوا الحق بالباطل"، اليهوديةَ والنصرانية بالإسلام (5) . 826 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل"، قال: الحقّ، التوراةُ الذي أنزل الله على موسى، والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم (6) . * * *   (1) في المطبوعة: "وإقراره لمحمد. . . ". (2) في المطبوعة: "بالباطل الذي يستبطنه". (3) الخبر: 823- في ابن كثير 1: 152، والدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1: 62. (4) الأثر: 824- في ابن كثير 1: 152. (5) الأثر: 825- لم أجده عن مجاهد، ومثله عن قتادة في ابن كثير 1: 152، والدر المنثور 1: 64. (6) الأثر: 826- في الدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) } قال أبو جعفر: وفي قوله:"وتكتموا الحق"، وجهان من التأويل: أحدُهما: أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق. ويكون قوله:"وتكتموا" عند ذلك مجزومًا بما جُزِم به"تلبسوا"، عطفًا عليه. والوجه الآخر منهما: أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله:"وتكتموا الحق" خبرًا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله:"وتكتموا" حينئذ منصوبًا لانصرافه عن معنى قوله:"ولا تلبسوا الحق بالباطل"، إذ كان قوله:"ولا تلبسوا" نهيًا، وقوله"وتكتموا الحق" خبرًا معطوفًا عليه، غيرَ جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله:"تلبسوا" من الحرف الجازم. وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صَرْفًا (1) . ونظيرُ ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر: لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إَِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (2)   (1) ذكر هذا الفراء في كتابه معاني القرآن 1: 33-34، ثم قال: "فإن قلت: وما الصرف؟ قلت: أن تأتي بالواو معطوفًا على كلام في أوله حادثه لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصرف، كقول الشاعر:. . . " وأنشد البيت وقال: "ألا ترى أنه لا يجوز إعادة"لا" في"تأتي مثله"، فلذلك سمى صرفًا، إذ كان معطوفًا، ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله". (2) هذا من الأبيات التي رويت في عدة قصائد. كما قال صاحب الخزانة 3: 617. نسبه سيبويه 1: 424 للأخطل، وهو في قصيدة للمتوكل الليثي، ونسب لسابق البربري، وللطرماح، ولأبي الأسود الدؤلي قصيدة ساقها صاحب الخزانة (3: 618) ، وليست في ديوانه الذي نشره الأستاذ محمد حسن آل ياسين في (نفائس المخطوطات) طبع مطبعة المعارف ببغداد سنة 1373هـ (1954م) ، وهذا الديوان من نسخة بخط أبي الفتح عثمان بن جنى. ولم يلحقها الأستاذ الناشر بأشتات شعر أبي الأسود التي جمعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 فنصب"تأتي" على التأويل الذي قلنا في قوله:"وتكتموا" (1) ، لأنه لم يرد: لا تنه عن خُلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، فكان الأول نهيًا، والثاني خبرًا، فنصبَ الخبر إذ عطفه على غير شكله. فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهو على مذهب ابن عباس الذي:- 827 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله:"وتكتموا الحق"، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون. 828 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وتكتموا الحق"، أي ولا تكتموا الحق. (2) . وأما الوجه الثاني منهما، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد. 829 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم (3) . 830 - وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 831 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.   (1) في المطبوعة: "وتكتموا، الآية، لأنه. . . "، وهو خطأ في قراءة ما في المخطوطة وهو: "وتكتموا إلا أنه لم يرد". (2) الخبران: 827، 828- لم أجدهما بنصهما في مكان، وثانيهما في ضمن خبر ابن عباس الذي سلف تخريجه رقم: 819، وفي ابن كثير 1: 152، والدر المنثور 1: 63. (3) الأثر: 829- لم أجده في مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما:- 832 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وتكتموا الحق"، يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. (1) 833 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وتكتموا الحق"، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك. (2) 834 - وحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل (3) . 835 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 836 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون"، قال: الحقُّ هو محمد صلى الله عليه وسلم (4) . 837 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن   (1) الخبر: 832- في ابن كثير 1: 152، والدر المنثور 1: 63، والشوكاني 1: 61. (2) الخبر: 833- في الدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1: 62، إلا قوله: "فنهاهم عن ذلك" وفي المطبوعة". . . رسول الله صلى الله عليه وسلم". (3) الأثر: 834- في ابن كثير 1: 152 تضمينًا. (4) الأثر: 836- في ابن كثير 1: 152 تضمينًا، وفي الدر المنثور 1: 64، والشوكاني 1: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 الربيع، عن أبي العالية:"وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: كتَموا بعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم (1) . 838 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتمون محمدًا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل (2) . فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوثٌ إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي - الذي أخذت عليكم في كتابكم - الإيمانَ به وبما جاء به والتصديقَ به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) } قال أبو جعفر: ذُكِر أن أحبارَ اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدِّقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا. 839 - كما حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفر، عن   (1) الأثر: 837- لم أجده في مكان. (2) الأثر: 838- لم أجده بنصه في مكان. وفي المطبوعة: "تكتمون محمدًا. . . ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 أبيه، عن قتادة، في قوله:"وأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة"، قال: فريضتان واجبتان، فأدُّوهما إلى الله (1) . وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته (2) . أما إيتاءُ الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة. وأصل الزَّكاة، نماءُ المال وتثميرُه وزيادتُه. ومن ذلك قيل: زكا الزرع، إذا كثر ما أخرج الله منه. وزَكتِ النَّفقة، إذا كثرتْ. وقيل زكا الفَرْدُ، إذا صارَ زَوْجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفْعًا، كما قال الشاعر: كَانُوا خَسًا أو زَكًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ ... لَمْ يُخْلَقُوا، وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلجُ (3) وقال آخر: فَلا خَسًا عَدِيدُهُ وَلا زَكا ... كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا (4) قال أبو جعفر: السفا شوك البُهْمَى، والبُهْمى الذي يكون مُدَوَّرًا في السُّلاء (5) .   (1) الأثر: 839- لم أجده في مكان. (2) انظر ما مضى ص: 241-242. (3) اللسان (خسا) ، وفيه: "الفراء: العرب تقول للزوج زكا، وللفرد خسا. . . قال، وأنشدتني الدبيرية. . . " وأنشد البيت. وتعتلج: تصطرع ويمارس بعضها بعضا. (4) لرجل من بني سعد، ثم أحد بني الحارث في عمرو بن كعب بن سعد. وهذا الرجز في خبر للأغلب العجلي، (طبقات فحول الشعراء: 572 / ومعجم الشعراء: 490 / والأغاني 18: 164) ورواية الطبقات والأغاني: "كما شرار الرعى". والرعى (بكسر فسكون) : الكلأ نفسه، والمرعى أيضًا. والسفا: شوط البهمي والسنبل وكل شيء له شوك. يقول: أنت في قومك كالسفا في البهمي، هو شرها وأخبثها. والبيت الأول زيادة ليست في المراجع المذكورة. (5) البهمي: من أحرار البقول، (وهي ما رق منها ورطب وأكل غير مطبوخ) ، تنبت كما ينبت الحب، ثم يبلغ بها النبت إلى أن تصير مثل الحب، ترتفع قدر الشبر، ونباتها ألطف من نبات البر، وطعمها طعم الشعير، ويخرج لها إذا يبست شوك مثل شوك السنبل، (وهو السفا) ، وإذا وقع في أنوف الإبل أنفت منه، حتى ينزعه الناس من أفواهها وأنوفها. وفي المطبوعة: "في السلى" بتشديد الياء، وفي المخطوطة"في السلى" بضم السين وتشديد اللام. والصواب ما أثبته، والسلاء جمع سلاءة، وهي شوكة النخلة، وأراد بها سفا البهمي أي شوكها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 يعني بقوله:"ولا زكا"، لم يُصَيِّرْهم شَفعًا من وَترٍ، بحدوثه فيهم (1) . وإنما قيل للزكاة زكاة، وهي مالٌ يخرجُ من مال، لتثمير الله - بإخراجها مما أخرجت منه - ما بقي عند ربِّ المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سُمِّيت زكاة، لأنها تطهيرٌ لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مَظْلمة لأهل السُّهْمان (2) ، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً) [سورة الكهف: 74] ، يعني بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زَكِيٌّ - لذلك المعنى (3) . وهذا الوجه أعجب إليّ - في تأويل زكاة المال - من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولا في تأويلها. وإيتاؤها: إعطاؤُها أهلها. وأما تأويل الرُّكوع، فهو الخضوع لله بالطاعة. يقال منه: ركع فلانٌ لكذا وكذا، إذا خضع له، ومنه قول الشاعر: بِيعَتْ بِكَسْرٍ لَئِيمٍ وَاسْتَغَاثَ بِهَا ... مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَ مَا رَكَعَا (4)   (1) قوله: "بحدوثه فيهم"، أي بوجوده في هؤلاء القوم. والعديد (في الرجز) ، من قولهم فلان عديد بني فلان: أي يعد فيهم وليس منهم: يريد أنه إذا دخل في قوم لم يعد فيهم شيئًا، فإذا كانوا شفعًا، لم يصيرهم دخوله وترًا، وإذا كانوا وترًا لم يصيرهم شفعًا، فهو كلا شيء في العدد. يهجوه ويستسقطه. (2) السهمان جمع سهم، كالسهام: وهو النصيب والحظ. (3) في المطبوعة: "بذلك المعنى" وليست بشيء. (4) هذا البيت من أبيات لعصام بن عبيد الزماني (من بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل) رواها أبو تمام في الوحشيات رقم 130 (مخطوطة عندي) ، ورواها الجاحظ في الحيوان 4: 281، وجاء فيه: "قال الزيادي" وهو تحريف وتصحيف كما ترى. وهذه الأبيات من مناقضة كانت بين الزماني ويحيى بن أبي حفصة. وذلك أن يحيى تزوج بنت طلبة بن قيس بن عاصم المنقري فهاجاه عصام الزماني وقال: أَرَى حَجْرًا تغيَّر واقشعرَّا ... وبُدِّل بعد حُلْو العيش مُرًّا فأجابه يحيى بأبيات منها: ألا مَنْ مُبلغٌ عنِّى عِصَامًا ... بأَنِّي سَوْفَ أَنْقُضُ مَا أَمرَّا هكذا روى المرزباني في معجم الشعراء: 270، وروى أبو الفرج في أغانيه 10: 75 أن يحيى خطب إلى مقاتل بن طلبة المنقري ابنته وأختيه، فأنعم له بذلك. فبعث يحيى إلى بنيه سليمان وعمر وجميل، فأتوه فزوجهن بنيه الثلاثة، ودخلوا بهن ثم حملوهن إلى حجر، (وهو مكان) . وأبيات عصام الزماني، ونقيضتها التي ناقضه بها يحيى، من جيد الشعر، فاقرأها في الوحشيات، والحيوان، والشعر والشعراء: 740، ورواية الحيوان والوحشيات "بِيعَتْ بوَكْسٍ قَليلٍ واسْتَقَلَّ بِهَا" الوكس: اتضاع الثمن في البيع. وفي المخطوطة والمطبوعة"بكسر لئيم"، وهو تحريف لا معنى له، وأظن الصواب ما أثبت اجتهادًا. والكسر: أخس القليل. وقوله: "بيعت" الضمير لابنة مقاتل بن طلبة المنقري التي تزوجها يحيى أو أحد بنيه. يقول: باعها أبوها بثمن بخس دنئ خسيس، فزوجها مستغيثًا ببيعها مما نزل به من الجهد والفاقة، فزوجها هذا الغنى اللئيم الدنيء، ليستعين بمهرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 يعني: بعد مَا خضَع من شِدَّة الجهْد والحاجة. قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه - لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها - بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخولِ مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة؛ ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذارِ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطُّفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة (1) . * * *   (1) في المطبوعة: "وإبلاغا إليهم. . . " بالزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى"برا". فروي عن ابن عباس ما:- 840- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسكم: (1) أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي. 841- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (أتأمرون الناس بالبر) يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم. * * *   (1) في المطبوعة، وفي المراجع: "والعهد من التوراة". والعهد والعهدة واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وقال آخرون بما:- 842- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه. 843- وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فعيرهم الله. 844- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا الحجاج، قال: قال ابن جريج: (أتأمرون الناس بالبر) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة. * * * وقال آخرون بما:- 845- حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال الله لهم: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (1) 846- وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم الجَرْمي، قال: حدثنا مخلد بن الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، في قول الله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا. (2) * * *   (1) الأثر: 845 - في ابن كثير 1: 154، وفيه"إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه. . . " وفي المخطوطة: "يسألهم ليس فيه". (2) الخبر: 846 - نقله ابن كثير 1: 154 عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 1: 64، ونسبه أيضًا لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي في الأسماء والصفات، وقلده الشوكاني 1: 65. وقد رواه البيهقي ص: 210، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، به نحوه. و"مسلم الجرمي": وقع في ابن كثير في هذا الموضع"أسلم"، وهو خطأ مطيعي. ووقع فيه وفي نسخ الطبري"الحرمي"، بالحاء. وقد رجحنا في ترجمته - فيما مضى: 154 أنه بالجيم. وذكرنا مصادر ترجمته هناك، ونزيد هنا أنه ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4 / 1 /188، ووصفه بأنه"من الغزاة". وشيخه"مخلد بن الحسين" - بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة ساكنة: ثقة معروف، قال ابن سعد: "كان ثقة فاضلا" وقال أبو داود: "كان أعقل أهل زمانه". وأبو قلابة: هو عبد الله ابن زيد الجرمي، أحد الأعلام من ثقات التابعين، وأرى أن روايته عن أبي الدرداء مرسلة، فإن أبا الدرداء مات سنة 32، وأبو قلابة متأخر الوفاة، مات سنة 104، وقيل: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى; لأنهم وإن اختلفوا في صفة"البر" الذي كان القوم يأمرون به غيرهم، الذين وصفهم الله بما وصفهم به، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم. فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم؟ معيرهم بذلك، ومقبحا إليهم ما أتوا به. (1) * * * ومعنى"نسيانهم أنفسهم" في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67] بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (تتلون) : تدرسون وتقرءون. كما:- 847- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: (وأنتم تتلون الكتاب) ،   (1) في المطبوعة: "ومقبحا إليهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني بالكتاب: التوراة. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى {أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (أفلا تعقلون) (2) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته، واتباع محمد والإيمان به وبما جاء به، (3) مثل الذي على من تأمرونه باتباعه. كما: 848- حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: (أفلا تعقلون) يقول: أفلا تفهمون؟ فنهاهم عن هذا الخلق القبيح. (4) * * * قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يقولون: هو مبعوث إلى غيرنا! كما ذكرنا قبل. (5) * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (واستعينوا بالصبر) : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم -من طاعتي واتباع أمري، وترك ما تهوونه   (1) الخبر: 847 - في الدر المنثور 1: 64، وتتمته في الخبر الآتي إلا قوله: "ويعني بالكتاب التوراة" وأخشى أن تكون من كلام الطبري. (2) في المخطوطة: "يعني بذلك أفلا تفقهون". . . (3) في المطبوعة: "في اتباع محمد. . . ". (4) الخبر: 848 - من تتمة الأثر السالف. وفي المطبوعة: "فنهاهم". (5) انظر ما مضى رقم: 840 - 841. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم - بالصبر عليه والصلاة. * * * وقد قيل: إن معنى"الصبر" في هذا الموضع: الصوم، و"الصوم" بعض معاني"الصبر". وتأويل من تأول ذلك عندنا (1) أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابَّها، وكفها عن هواها; ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر، لكفه نفسه عن الجزع; وقيل لشهر رمضان"شهر الصبر"، لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارا، (2) وصبره إياهم عن ذلك: (3) حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما تصبر الرجل المسيء للقتل فتحبسه عليه حتى تقتله. (4) ولذلك قيل: قتل فلان فلانا صبرا، يعني به: حبسه عليه حتى قتله، فالمقتول"مصبور"، والقاتل"صابر". * * * وأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فيما مضى. (5) * * * فإن قال لنا قائل: قد علمنا معنى الأمر بالاستعانة بالصبر على الوفاء بالعهد والمحافظة على الطاعة، فما معنى الأمر بالاستعانة بالصلاة على طاعة الله، وترك معاصيه، والتعري عن الرياسة، وترك الدنيا؟ قيل: إن الصلاة فيها تلاوة كتاب الله، الداعية آياته إلى رفض الدنيا وهجر   (1) في المطبوعة: ". . . بعض معاني الصبر عندنا بل تأويل ذلك عندنا. . . " وفي المخطوطة: ". . . بعض معاني الصبر عند تأويل من تأول ذلك عندنا. . . " وكأن الصواب ما أثبته. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "لصبره صائمة. . . "، ولكن الكلام لا يستقيم لاختلال الضمائر في الجملة التالية. (3) الضمير في قوله"وصبره" إلى شهر رمضان. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "كما يصبر. . . فيحبسه. . . حتى يقتله" كله بالياء، والصواب ما أثبته. (5) انظر ما مضى: 1: 242 - 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 نعيمها، المسلية النفوس عن زينتها وغرورها، المذكرة الآخرة وما أعد الله فيها لأهلها. ففي الاعتبار بها المعونة لأهل طاعة الله على الجد فيها، كما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. 849- حدثني بذلك إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا الحسين بن رتاق الهمداني، عن ابن جرير، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة". (1) 850- وحدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا خلف بن الوليد الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى". (2) . 851-   (1) الحديث: 849 -"الحسين بن رتاق الهمداني": هكذا ثبت في المطبوعة. ولم أجد راويا بهذا الاسم ولا ما يشبهه، فيما لدى من المراجع، وفي المخطوطة"الحسين بن زياد الهمداني" - ولم أجد في الرواة من يسمى"الحسين بن زياد" إلا اثنين، لم ينسب واحد منهما همدانيا، ولا يصلح واحد منهما في هذا الإسناد: أحدهما: "حسين بن زياد"، دون وصف آخر، ترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 387 برقم: 2881، وذكر أنه يروي عن عكرمة، ويروي عنه جرير بن حازم، وجرير مات سنة 175 فهذا قديم جدا، لا يدركه إسماعيل بن موسى الفزاري المتوفي سنة 245. والثاني"حسين ابن زياد أبو علي المروزي" ترجمه البخاري عقب ذاك، وذكر أنه مات سنة 220. فهذا متأخر عن أن يدرك الرواية عن ابن جريج المتوفى سنة 150. وعكرمة بن عمار: هو العجلي اليمامي. وفي المخطوطة"عكرمة عن عمار". وهو خطأ. والحديث سيأتي عقب هذا بإسناد آخر صحيح. (2) الحديث: 850 - هو الذي قبله بمعناه:"خلف بن الوليد": هو أبو الوليد العتكي الجوهري، و"العتكي": نسبة إلى"العتيك"، بطن من الأزد. وهو من شيوخ أحمد الثقات. يحيى ابن زكريا: هو ابن أبي زائدة. محمد بن عبد الله الدؤلي: هو"محمد بن عبيد أبو قدامة" الذي في الإسناد السابق. ووقع في الأصول هنا"محمد بن عبيد بن أبي قدامة". وهو خطأ. بل"أبو قدامة" كنية"محمد بن عبيد". وقد حققنا ترجمته في شرح حديث آخر في المسند: 6548، ورجحنا أن ابن أبي زائدة أخطأ في اسمه، فسماه"محمد بن عبد الله". والحديث رواه أحمد في المسند 5: 388 (حلبي) عن إسماعيل بن عمر، وخلف بن الوليد، كلاهما عن يحيى بن زكريا. ورواه أبو داود: 1319، عن محمد بن عيسى، عن يحيى بن زكريا - بهذا الإسناد. وأشار إليه البخاري في الكبير 1 /1 172، في ترجمة"محمد بن عبيد أبي قدامة الحنفي"، قال:"وقال النضر عن عكرمة، عن محمد بن عبيد أبي قدامة، سمع عبد العزيز أخا حذيفة، عن حذيفة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى. وقال ابن أبي زائدة: عن عكرمة عن محمد ابن عبد الله الدؤلي". و"النضر" الذي يشير إليه البخاري: هو النضر بن محمد الجريشي اليمامي. و"عبد العزيز بن اليمان": هو أخو حذيفة بن اليمان، كما صرح بنسبه في الرواية السابقة، وكما وصف بذلك في هذه الرواية، وفي روايتي المسند والبخاري في الكبير. وأما رواية أبي داود ففيها"عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة". وكذلك في رواية ابن منده، التي أشار إليها الحافظ في الإصابة 5: 159. ورجح الحافظ في ذلك الموضع، وفي التهذيب 6: 364 - 365 أنه ابن أخي حذيفة، لا أخوه. ولكن أكثر الرواة ذكروا أنه أخوه، كما أشرنا، لم يخالفهم إلا"محمد بن عيسى" شيخ أبي داود - فيما رأيت. فلا أدري مم هذا الترجيح؟ بل الذي أراه ترجيح رواية الأكثر، ومنهم"النضر ابن محمد"، وكان مكثرا للرواية عن عكرمة بن عمار. وبذلك جزم ابن أبي حاتم في ترجمة"عبد العزيز بن اليمان" في كتاب الجرح والتعديل 2 /2 /399، لم يذكر خلافا ولا قولا آخر. والحديث ذكره أيضًا ابن كثير 1: 157 - 158 من روايات المسند وأبي داود والطبري ثم ذكر نحوه مطولا، من رواية محمد نصر المروزي في كتاب الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى أبا هريرة منبطحا على بطنه فقال له:"اشكنب درد"؟ قال: نعم، قال: قم فصل؛ فإن في الصلاة شفاء. (1)   (1) الحديث: 851 - هكذا ذكره الطبري معلقا، دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 9054 (2: 390 حلبي) ، عن أسود بن عامر، عن ذواد أبي المنذر، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة. ثم رواه مرة أخرى: 9229 (2: 403حلبي) ، عن موسى بن دواد، عن ذواد. وكذلك رواه ابن ماجه: 3458، بإسنادين عن ذواد. و"ذواد": بفتح الذال المعجمة وتشديد الواو وآخره دال مهملة. وضبطه صاحب الخلاصة"ذؤاد" بضم المعجمةوبعدها همزة مفتوحة، وهو خطأ. وذواد: هو ابن علبة الحارثي، وكان شيخا صالحا صدوقا، وضعفه ابن معين، فقال:"ليس بشيء" وترجمه البخاري في الكبير 2 / 1 /241، والصغير، ص: 214، وقال:"يخالف في بعض حديثه". وروى هذا الحديث في الصغير عن ابن الأصبهاني، عن المحاربي، عن ليث، عن مجاهد:"قال لي أبو هريرة: يا فارسي، شكم درد" ثم قال البخاري:"قال ابن الأصبهاني: ورفعه ذواد، وليس له أصل، أبو هريرة لم يكن فارسيا، إنما مجاهد فارسي". فهذا تعليل دقيق من ابن الأصبهاني، ثم من البخاري، يقضي بضعف إسناد الحديث مرفوعا. قوله في متن الرواية"اشكنب درد": كتب عليها في طبعة بولاق ما نصه:"يعني: تشتكي بطنك، بالفارسية. كذا بهامش الأصل". وكذلك ثبت هذا اللفظ في المسند، إلا الموضع الأول فيه كتب"ذرد" بنقطة فوق الدال الأولى، وهو تصحيف. وثبت هذا اللفظ في رواية البخاري في التاريخ الصغير، ص 214:"شكم درد". وفي رواية ابن ماجه"اشكمت درد". وكتب الأستاذ فؤاد عبد الباقي شارحا له:"بالفارسية: اشكم، أي بطن. ودرد، أي وجع. والتاء للخطاب. والهمزة همزة وصل. كذا حققه الدكتور حسين الهمداني. ومعناه: أتشتكي بطنك؟ ولكن جاء في تكملة مجمع بحار الأنوار، ص 7 (أشكنب ددم) . وفي رواية بسكون الباء". وأنا أرى أن النقل الأخير فيه خطأ. لأني نقلت في أوراق على المسند قديما أن صوابها"أشكنب دردم". وأكبر ظني الآن أنى نقلت ذاك عن تكملة مجمع بحار الأنوار، وهو ليس في متناول يدى حين أكتب هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فأمر الله جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبار بني إسرائيل أن يجعلوا مفزعهم في الوفاء بعهد الله الذي عاهدوه إلى الاستعانة بالصبر والصلاة كما أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له: (فاصبر) يا محمد (عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه: 130] فأمره جل ثناؤه في نوائبه بالفزع إلى الصبر والصلاة. وقد:- 852- حدثنا محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) . (1) * * * وأما أبو العالية فإنه كان يقول بما:- 853- حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال يقول: استعينوا   (1) الخبر: 852 - إسناده صحيح. عيينة بن عبد الرحمن: ثقة. وأبوه عبد الرحمن بن جرشن الغطفاني: تابعى ثقة. الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 68، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب. قُثَم بن العباس بن عبد المطلب، أخو عبد الله بن العباس. وأمه أم الفضل كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح سماعه عنه، فإنه كان في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم فوق ثمان. وخرج مع سعيد بن عثمان زمن معاوية إلى سمرقند، فاستشهد بها. استرجع: قال:"إنا لله وإنا إليه راجعون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله. * * * وقال ابن جريج بما:- 854- حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال: إنهما معونتان على رحمة الله. (1) 855- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة) الآية، قال: قال المشركون: والله يا محمد إنك لتدعونا إلى أمر كبير! قال: إلى الصلاة والإيمان بالله جل ثناؤه. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإنها) ، وإن الصلاة، ف"الهاء والألف" في"وإنها" عائدتان على"الصلاة". وقد قال بعضهم: إن قوله: (وإنها) بمعنى: إن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكر فتجعل"الهاء والألف" كناية عنه، وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته. (2) * * * ويعني بقوله: (لكبيرة) : لشديدة ثقيلة. كما:- 856- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا ابن يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، في قوله: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) قال: إنها لثقيلة. (3) * * *   (1) الأثر: 854 - الحسين: هو سنيد بن داود المصيصي، و"سنيد" لقب له، كما مضى: 144. (2) الظاهر: هو ما تعرفه العرب من كلامها. والباطن: ما يأتي بالاستنباط من الظاهر على طريق العرب في بيانها. وانظر ما مضى 1: 72 تعليق: 2. (3) الأثر: 856 - في المطبوعة"أخبرنا ابن زيد"، والصواب"يزيد" من المخطوطة. وهو"يزيد بن هرون". وقد مضى مثل هذا الإسناد على الصواب: 284. ومن الرواة عن جويبر: "حماد بن زيد"، ولا يحتمل أن يكون مرادا في هذا الإسناد، لأن حماد ابن زيد مات سنة 179. فلا يحتمل أن يروي عنه يحيى بن أبي طالب، لأنه ولد سنة 182، كما في ترجمته في تاريخ بغداد للخطيب 14: 220 - 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ويعني بقوله: (إلا على الخاشعين) : إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدقين بوعده ووعيده. كما:- 856- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (إلا على الخاشعين) يعني المصدقين بما أنزل الله. 857- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (إلا على الخاشعين) قال: يعني الخائفين. 858- وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (إلا على الخاشعين) قال: المؤمنين حقا. (1) 859- وحدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 860- وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الخشوع: الخوف والخشية لله. وقرأ قول الله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) [الشورى: 45] قال: قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له. * * *   (1) الأثر: 858 - محمد بن عمرو، هو: محمد بن عمرو بن العباس، أبو بكر الباهلي، وهو من شيوخ الطبري الثقات، أكثر من الرواية عنه، مات سنة 249. وله ترجمة في تاريخ بغداد 3: 127. و"أبو عاصم": هو النبيل، الضحاك بن مخلد. و"سفيان": هو الثوري. و"جابر": هو ابن يزيد الجعفي. وهكذا جاء هذا الإسناد في هذا الموضع في المخطوطة. ووقع في المطبوعة"محمد بن جعفر" بدل"محمد بن عمرو"، وهو خطأ لا شك فيه. إنما الشبهة هنا: أن هذا الإسناد"أبو عاصم، عن سفيان، عن جابر" _ يرويه الطبري في أكثر المواضع"عن محمد بن بشار"، عن أبي عاصم. وأما روايته عن"محمد بن عمرو"، فإنما هي لإسناد "أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد". والأمر قريب، ولعله روى هذا وذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وأصل"الخشوع": التواضع والتذلل والاستكانة، ومنه قول الشاعر: (1) لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع (2) يعني: والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده. * * * فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله، وكفها عن معاصي الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من مراضي الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله، المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته. * * * القول في تأويل قوله تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه"يظن" أنه ملاقيه، والظن: شك، والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟ قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين"ظنا"، والشك"ظنا"، نظير تسميتهم الظلمة   (1) الشعر لجرير. (2) ديوان جرير: 345، والنقائض: 969، وقد جاء منسوبا له في تفسيره (1: 289 /7: 157 بولاق) ، وطبقات ابن سعد: 3/1/ 79، وسيبويه 1: 25، والأضداد لابن الأنباري: 258، والخزانة 2: 166. استشهد به سيبويه على أن تاء التأنيث جاءت للفعل، لما أضاف"سور" إلى مؤنث وهو"المدينة"، وهو بعض منها. قال سيبويه: "وربما قالوا في بعض الكلام: "ذهبت بعض أصابعه"، وإنما أنث البعض، لأنه أضافه إلى مؤنث هو منه، ولو لم يكن منه لم يؤنثه. لأنه لو قال: "ذهبت عبد أمك" لم يحسن. (1: 25) . وهذا البيت يعير به الفرزدق بالغدر ويهجوه، فإن الزبير بن العوام رضي الله عنه حين انصرف يوم الجمل، عرض له رجل من بني مجاشع رهط الفرزدق، فرماه فقتله غيلة. ووصف الجبال بأنها"خشع". يريد عند موته، خشعت وطأطأت من هول المصيبة في حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبح ما لقي من غدر بني مجاشع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 "سدفة"، والضياء"سدفة"، والمغيث"صارخا"، والمستغيث"صارخا"، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد (1) يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق: بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم ... وأجعل مني الظن غيبا مرجما (2) يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها   (1) الأصمعيات: 23، وشرح الحماسة 2: 156، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 40، وسيأتي غير منسوب في 25: 83، وغير منسوب في 13: 58 برواية أخرى:"فظنوا بألفي فارس متلبب"، وقبل البيت في رواية الأصمعي: وقلت لعارض، وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء، والقوم شهدي علانية ظنوا. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورواية أبي تمام: "نصحت لعارض". . "فقلت لهم ظنوا. . " وهذا الشعر قاله في رثاء أخيه عبد الله بن الصمة، وهو عارض، المذكور في شعره. المدجج: الفارس الذي قد تدجج في شكته، أي دخل في سلاحه، كأنه تغطى به. والسراة جمع سري: وهم خيار القوم من فرسانهم. والفارسي المسرد: يعني الدروع الفارسية، قال عمرو بن امرئ القيس الخزرجي: إذا مشينا في الفارسي كما ... يمشى جمال مَصاعبٌ قُطُفُ السرد: إدخال حلق الدرع بعضها في بعض. والمسرد: المحبوك النسج المتداخل الحلق. ينذر أخاه وقومه أنهم سوف يلقون عدوا من ذوى البأس قد استكمل أداة قتاله. (2) نقائض جرير والفرزدق: 53، 785، والأضداد لابن الأنباري. 12 وهو عميرة بن طارق بن ديسق اليربوعي، قالها في خبر له مع الحوفزان، ورواية النقائض: "وأجلس فيكم. . . "، و"أجعل علمي ظن غيب مرجما". وقبل البيت: فلا تأمرني يا ابن أسماء بالتي ... تجر الفتى ذا الطعم أن يتكلما ذو الطعم" ذو الحرم. وتجر، من الإجرار: وهو أن يشق لسان الفصيل، إذا أرادوا فطامه، لئلا يرضع. يعني يحول بينه وبين الكلام. وغزا الأمر واغتزاه: قصده، ومنه الغزو: وهو السير إلى قتال العدو وانتهابه، والمرجم: الذي لا يوقف على حقيقة أمره، لأنه يقذف به على غير يقين، من الرجم: وهو القذف. هذا، والبيت، كما رواه في النقائض، ليس بشاهد على أن الظن هو اليقين. ورواية الطبري هي التي تصلح شاهدا على هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 على أن"الظن" في معنى اليقين أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية. ومنه قول الله جل ثناؤه: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) [الكهف: 53] وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين. 861- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (يظنون أنهم ملاقو ربهم) قال: إن الظن ههنا يقين. 862- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين،"إني ظننت"،"وظنوا". 863- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم. (1) 864- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) أما"يظنون" فيستيقنون. 865- وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) علموا أنهم ملاقو ربهم، هي كقوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة: 20] يقول: علمت. 866- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) قال: لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينا،   (1) الأثر: 863 - إسحاق: هو ابن راهويه الإمام الحافظ. أبو داود الحفري - بالحاء المهملة والفاء المفتوحتين - هو: عمر بن سعد بن عبيد. ووقع في تفسير ابن كثير 1: 159"أبو داود الجبري"، وهو تصحيف. وسفيان: هو الثوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وليس ظنا في شك. وقرأ: (إني ظننت أني ملاق حسابيه) . * * * القول في تأويل قوله تعالى {أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم، فأضيف"الملاقون" إلى الرب تبارك وتعالى، وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم؟ وإذ كان المعنى كذلك، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون، وإنما تسقط النون وتضيف، في الأسماء المبنية من الأفعال، إذا كانت بمعنى"فعل"، فأما إذا كانت بمعنى"يفعل وفاعل"، فشأنها إثبات النون، وترك الإضافة. قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من"فعل ويفعل"، وإسقاط النون وهو بمعنى"يفعل وفاعل"، أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض، فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك: لم قيل؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون. فقال نحويو البصرة: أسقطت النون من: (ملاقو ربهم) وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى"يفعل" وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [سورة آل عمران: 185 الأنبياء:35 العنكبوت: 57] ، وكما قال: (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) [القمر: 27] ولما يرسلها (1) بعد; وكما قال الشاعر:   (1) في المطبوعة: "ولما يرسلها بعد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق? (1) فأضاف"باعثا" إلى"الدينار"، ولما يبعث، ونصب"عبد رب" عطفا على موضع دينار، لأنه في موضع نصب وإن خفض، وكما قال الآخر: (2) الحافظو عورة العشيرة، لا ... يأتيهم من ورائهم نطف (3) بنصب"العورة" وخفضها، فالخفض على الإضافة، والنصب على حذف النون استثقالا وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة. (4) * * * وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في (ملاقو) الإضافة، وهي في معنى يلقون، وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء، فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء. وكذلك حكم كل اسم كان له نظيرا. قالوا: وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة، فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالإضافة فيه للفظ، وترك الإضافة للمعنى. * * *   (1) سيبويه 1: 87، والخزانة 3: 476، والعيني 3: 563. قال صاحب الخزانة: "البيت من أبيات سيبويه التي لم يعرف قائلها. وقال ابن خلف: قيل هو لجابر بن رألان السنبسي، وسنبس أبو حي من طيء. ونسبه غير خدمة سيبويه إلى جرير، وإلى تأبط شرا، وإلى أنه مصنوع والله أعلم بالحال! ". دينار وعبد رب، رجلان. والشاهد فيه نصب"عبد رب" على موضع"دينار"، لأن المعنى: هل أنت باعث دينارا أو عبد رب. (2) هو عمرو بن امرئ القيس، من بني الحارث بن الخزرج، وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، جاهلي قديم. (3) جمهرة أشعار العرب: 127، سيبويه 1: 95، واللسان (وكف) والخزانة 2: 188، 337، 483 / 3: 400، 473. وهو من قصيدة يقولها لمالك بن العجلان النجاري في خبر مذكور. والعورة: المكان الذي يخاف منه مأتى العدو. والنطف: العيب والريبة، يقال: هم أهل الريب والنطف. وهذه رواية سيبويه والطبري، وأما رواية غيره فهي: "من ورائنا وكف"، والوكف العيب والنقص. (4) قال سيبويه 1: 95: "لم يحذف النون للإضافة، ولا ليعاقب الاسم النون، ولكن حذفوها كما حذفوها من اللذين والذين، حين طال الكلام، وكان الاسم الأول منتهاه الاسم الآخر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فتأويل الآية إذا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي، المتواضعين لأمري، الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم. وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته; لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب، فالصلاة عنده عناء وضلال، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر، وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة، وإقامتها عليه ثقيلة، وله فادحة. وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله، الراجين عليها جزيل ثوابه، الخائفين بتضييعها أليم عقابه، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات، أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون، وإياه في القيامة ملاقون. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) } قال أبو جعفر: و"الهاء والميم" اللتان في قوله: (وأنهم) من ذكر الخاشعين، و"الهاء" في"إليه" من ذكر الرب تعالى ذكره في قوله: (ملاقو ربهم) فتأويل الكلمة: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون. * * * ثم اختلف في تأويل"الرجوع" الذي في قوله: (وأنهم إليه راجعون) فقال بعضهم، بما:- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 867- حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وأنهم إليه راجعون) ، قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم. * * * وأولى التأويلين بالآية، القول الذي قاله أبو العالية; لأن الله تعالى ذكره، قال في الآية التي قبلها: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) فأخبر جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم، وذلك لا شك يوم القيامة، فكذلك تأويل قوله: (وأنهم إليه راجعون) . * * * القول في تأويل قوله تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: وتأويل ذلك في هذه الآية نظير تأويله في التي قبلها في قوله: (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي) . وقد ذكرته هنالك (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) } قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعني بقوله: (وأني فضلتكم على العالمين) : أني فضلت أسلافكم، فنسب نعمه على آبائهم وأسلافهم إلى أنها نعم منه عليهم، إذ كانت مآثر الآباء مآثر للأبناء،   (1) انظر 1: 555 - 559 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والنعم عند الآباء نعما عند الأبناء، لكون الأبناء من الآباء، وأخرج جل ذكره قوله: (وأني فضلتكم على العالمين) مخرج العموم، وهو يريد به خصوصا; لأن المعنى: وإني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه (1) . كالذي:- 868- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر -وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر- عن قتادة، (وأني فضلتكم على العالمين) قال: فضلهم على عالم ذلك الزمان. 869 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وأني فضلتكم على العالمين) قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما. 870 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد في قوله: (وأني فضلتكم على العالمين) قال: على من هم بين ظهرانيه. 871 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: على من هم بين ظهرانيه. 872 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله: (وأني فضلتكم على العالمين) ، قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان: 32] قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره، وقد كان فيهم القردة، وهم أبغض خلقه إليه، وقال لهذه الأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] قال:   (1) انظر 1: 143 - 146، ثم 151 - 152. يقال لكل ما كان في وسط شيء ومعظمه: "هو بين ظهرينا وظهرانينا" على تقدير أنه مقيم بين ظهر من وراءه وظهر من أمامه، فهو مكنوف من جانبيه، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا. ويقال أيضًا: "هو بين أظهرهم مقيم" بهذا المعنى. ويقال أيضًا: " لقيته بين ظهراني الليل"، أي بين العشاء والفجر، وعلى هذا فقس استعمال هذه الكلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 هذه لمن أطاع الله واتبع أمره واجتنب محارمه. * * * قال أبو جعفر: والدليل على صحة ما قلنا من أن تأويل ذلك على الخصوص الذي وصفنا ما:- 873 - حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر جميعا، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ألا إنكم وفيتم سبعين أمة" -قال يعقوب في حديثه: أنتم آخرها-. وقال الحسن:"أنتم خيرها وأكرمها على الله". (1) * * * فقد أنبأ هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يكونوا مفضلين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن معنى قوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الجاثية: 16] وقوله: (وأني فضلتكم على العالمين) على ما بينا من تأويله.   (1) الحديث: 873 - بهز، بفتح الباء وسكون الهاء: هو ابن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري. وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن المديني وغيرهما، ولا حجة لمن تكلم فيه، وقد ترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 /143، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 430 - 431. بل أخرج له البخاري في الصحيح تعليقا، كما ذكر الحافظ في الإصابة 6: 112، في ترجمة جده. أبوه حكيم بن معاوية: تابعي ثقة، ترجمه البخاري 2 / 1 /12، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 207. وجده معاوية بن حيدة: صحابي ثابت الصحبة، قال ابن سعد في الطبقات 7 / 1 /22:"وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم وصحبه، وسأله عن أشياء، وروى عنه أحاديث". وترجمه البخاري 4 / 1 /329، وقال:"سمع النبي صلى الله عليه وسلم". وهذا الحديث رواه الطبري هنا بإسنادين: من طريق ابن علية عن بهز، ومن طريق معمر بن راشد عن بهز. وسيأتي بهذين الإسنادين منفصلين (4: 30 بولاق) . ورواه الترمذي 4: 82 - 83، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن بهز، عن أبيه، عن جده:"أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، في قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ، قال: أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله". ثم قال الترمذي:"هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد هذا الحديث عن بهز بن حكيم، نحو هذا، ولم يذكروا فيه (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ". ورواه ابن ماجه: 4288، من طريق ابن علية، عن بهز. ورواه الإمام أحمد في المسند (5: 3 حلبي) ، عن يزيد بن هرون، عن بهز. ورواه (5:5) ، عن يحيى القطان، عن بهز. ورواه الدارمي 2: 313، عن النضر بن شميل، عن بهز. ورواه ابن ماجه أيضًا: 4287، من طريق ابن شوذب، عن بهز. ثم لم ينفرد به بهز عن أبيه حكيم، إذ رواه أيضًا سعيد بن إياس الجريري: فرواه الإمام أحمد (4: 447) ، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، بنحوه. ورواه أيضًا مطولا (5: 3) ، عن حسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن الجريري. والحديث ذكره ابن كثير 1: 160، نسبه إلى"المسانيد والسنن". ثم ذكره مرة أخرى 2: 214، عن"مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم". ثم قال عقبه:"وهو حديث مشهور. وقد حسنه الترمذي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وقد أتينا على بيان تأويل قوله: (العالمين) بما فيه الكفاية في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) : واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله: واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا، كما قال الراجز: قد صبحت، صبحها السلام ... بكبد خالطها سنام في ساعة يحبها الطعام (2) وهو يعني: يحب فيها الطعام. فحذفت"الهاء" الراجعة على"اليوم"، إذ فيه اجتزاء   (1) انظر ما سلف 1: 143 - 146. (2) الكامل 1: 22، وأمالي ابن الشجري 1: 6، 186 وغيرهما. صبح القوم: سقاهم الصبوح، وهو ما يشرب صباحا من لبن أو خمر. يدعو لها بالخير من حسن ما أطعمته على مسغبة كابدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 -بما ظهر من قوله: (واتقوا يوما لا تجزي نفس) الدال على المحذوف منه- عما حذف، إذ كان معلوما معناه. وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا"الهاء". وقال آخرون: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا"فيه". وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه. (1) * * * وأما المعنى في قوله: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية -عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة، وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. (2) * * * وأما تأويل قوله: "لا تجزي نفس" فإنه يعني: لا تغني: كما:- 874- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "واتقوا يوما لا تجزي نفس" أما"تجزي": فتغني. * * * أصل"الجزاء" -في كلام العرب-: القضاء والتعويض. يقال:"جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء"، بمعنى: قضيته دينه. ومن ذلك قيل:"جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا"، بمعنى: أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب:"يقال أجزيت عنه كذا": إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته وقال آخرون منهم: بل "جَزَيْتُ عنك" قضيت عنك. و"أجزَيتُ" كفيت.   (1) انظر 1: 139 - 141، 179، وانظر لسان العرب (جزى) . (2) تضمين من آية سورة لقمان: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال:"جزت عنك شاة وأجزَت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي" بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن"جزت عنك، ولا تُجزي عنك" من لغة أهل الحجاز، وأن"أجزأ وتجزئ" من لغة غيرهم. وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول:"أجزأت عنك شاة، وهي تجزئ عنك".وزعم آخرون أن"جزى" بلا همز: قضى، و"أجزأ" بالهمز: كافأ (1) فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى. فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى؟ قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه. وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها- يسر الرجل أن يَبْرُدَ له على ولده أو والده حق. (2) وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما: 875- حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأزدي، قالا: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مَظلمة في عِرض -قال أبو كريب في حديثه: أو مال أو جاه، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم" (3)   (1) انظر ما جاء في ذلك في لسان العرب (جزى) ، والذي جاء به الطبري أتم وأبين. (2) يرد عليه حق: وجب ولزم. ويرد لي كذا وكذا: أي ثبت. ويقال: لي عليه ألف بارد، أي ثابت. (3) الحديث: 875 - هذا إسناد صحيح. نصر بن عبد الرحمن الأزدي: سبق في. 423، وأثبت في الشرح هناك"التاجي"، وهو سهو، صوابه"الناجي" بالنون. و"الأزدي" بالزاي، وفي المطبوعة هنا"الأودي" بالواو، وهو خطأ. المحاربي: هو عبد الرحمن بن محمد، سبق في: 221. أبو خالد الدالاني، يزيد بن عبد الرحمن: تكلموا فيه، والحق أنه ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره، وترجمه البخاري في الكبير 4/2 /346 - 347، وابن أبي حاتم 4/2 /277، فلم يذكرا فيه جرحا. وهو مترجم في التهذيب في الكني، لخلاف في اسم أبيه، ولكن رجح الترمذي والطبري ما ذكرنا، وكذلك رجح البخاري وابن أبي حاتم."الدالاني" في المطبوعة هنا"الدولابي"، وهو خطأ، صححناه من المخطوطة. والحديث رواه الترمذي 3: 292، عن هناد، ونصر بن عبد الرحمن، كلاهما عن المحاربي، بهذا الإسناد، ثم قال: " هذا حديث حسن صحيح. وقد روى مالك بن أنس، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه ". وقوله أثناء الحديث "قال أبو كريب"، في المطبوعة " قال أبو بكر"، وهو خطأ واضح، صحته من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 876- حدثنا أبو عثمان المقدمي، قال: حدثنا الفروي، قال: حدثنا مالك، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1) 877- حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أبو همام الأهوازي، قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد، عن سعيد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2)   (1) الحديث: 876 - هو الحديث السابق، بمعناه، ولكن من رواية مالك. وهي الرواية التي نقلنا إشارة الترمذي إليها. أبو عثمان المقدمي - بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المهملة المفتوحة: وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر، نسب إلى"مقدم" أحد أجداده. وهو ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/ 73، وقال:"سمعت منه بمكة، وهو صدوق"، وترجمه السمعاني في الأنساب، في الورقة: 539 والخطيب في تاريخ بغداد 4: 398 - 399، مات سنة 264. الفروي: بفتح الفاء وسكون الراء، نسبة إلى أحد أجداده، وفي المطبوعة بالقاف بدل الفاء، وهو تصحيف. وهو: إسحاق بن محمد بن أبي فروة، أحد الرواة عن مالك، وأحد شيوخ البخاري، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة. وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند: 7425 والحديث من طريق مالك: رواه البخاري 11: 343 - 344 (فتح الباري) ، عن إسماعيل - وهو ابن أبي أويس، ابن أخت مالك ونسيبه - عن مالك. ورواه أحمد في المسند: 9613 (2: 435 حلبي) ، من طريق مالك وابن أبي ذئب، كلاهما عن المقبري. ثم رواه أيضًا: 10580 (2: 506) ، من طريق ابن أبي ذئب. ورواه البخاري أيضًا 5: 73، من طريق ابن أبي ذئب. وأوله في هذه الروايات:"من كانت عنده مظلمة ... ) ، فذكر نحوه، بمعناه. (2) الحديث: 877 - هو الحديث السابق، بنحوه، من طريق أخرى. أبو همام الأهوازي: هو محمد بن الزبرقان، وهو ثقة، وترجمه البخاري في الكبير 1 /1 / 87، وقال:"معروف الحديث"، ابن أبي حاتم 3 / 2 / 260، وأخرج له الشيخان في الصحيحين. عبد الله بن سعيد: أنا أرجح أنه"عبد الله بن سعيد بن أبي هند"، وهو ثقة. وبعيد أن يكون"عبد الله بن سعيد المقبري"، إذ يأباه سياق الإسناد، لو كان إياه لكان"عبد الله بن سعيد عن أبيه". أما وهو"عبد الله بن سعيد عن سعيد" - فالظاهر أنه غير ابن سعيد المقبري. والحديث صحيح بكل حال، بالأسانيد السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 878 - حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يموتن أحدكم وعليه دين، فإنه ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات" وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالا. (1) 879 - حدثني محمد بن إسحاق، قال: قال: حدثنا سالم بن قادم، قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى، قال: أخبرني الحارث بن مسلم، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي هريرة. (2) * * * قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا)   (1) الحديث: 878 - هذا إسناد صحيح متصل عن ابن عباس، ولم أجده في مسند الإمام أحمد، ولا في الكتب الستة، ولا في مجمع الزوائد، ولا أشار إليه الترمذي في قوله"وفي الباب". فهو فائدة زائدة، يستفاد من رواية أبي جعفر رحمه الله. (2) الحديث: 879 - هذا إسناد فيه إشكال لم أستطع تحقيقه. أما"سلم بن قادم": فإنه"سلم" بفتح السين وسكون اللام. وفي المطبوعة هنا"سالم" بالألف بعد السين، وهو خطأ. وسلم هذا: بغدادي ثقة، يروي عن سفيان بن عيينة، وبقية بن الوليد، وغيرهما. ترجمه ابن أبي حاتم 2 /1 / 268، والخطيب في تاريخ بغداد 9: 145 - 146. وله ترجمة موجزة في لسان الميزان 3: 65. وأبو معاوية هاشم بن عيسى: هو هاشم بن أبي هريرة الحمصي، اشتهر بالانتساب إلى كنية أبيه، أعنى"هاشم بن أبي هريرة". ترجمة ابن أبي حاتم 4 / 2 / 105، ولم يذكر فيه جرحا. وله ترجمة غير محررة في لسان الميزان 6: 184، ذكر فيها اسم الراوي عنه"مسلم بن قادم"، وهو تحريف. وأما الإشكال في الإسناد، ففي"الحارث بن مسلم"، الراوي هنا عن الزهري. فما أدري من ذا؟ ولا ما صحته؟ ولعل فيه تحريفا لم أستطع إدراكه. ثم لم أجد هذا الحديث من حديث أنس قط، بعد طول البحث والتتبع. وهناك في المستدرك للحاكم 4: 576، حديث آخر لأنس، من وجه آخر فيه بعض هذا المعنى. إسناده ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 يعني: أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها; لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق، فيؤخذ منه ولا يتجافى له عنه؟ . (1) وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) : لا تجزي منها أن تكون مكانها. وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده. (2) وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل:"ما أغنيت عني شيئا"، بمعنى: ما أغنيت مني أن تكون مكاني، بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء، قالوا:"لا يجزي هذا من هذا"، ولا يستجيزون أن يقولوا:"لا يجزي هذا من هذا شيئا". فلو كان تأويل قوله: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) ما قاله من حكينا قوله لقال: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس) كما يقال: لا تجزي نفس من نفس، ولم يقل:"لا تجزي نفس عن نفس شيئا". وفي صحة التنزيل بقوله:"لا تجزي نفس عن نفس شيئا" أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قال أبو جعفر: و"الشفاعة" مصدر من قول الرجل:"شفع لي فلان إلى فلان شفاعة (4) وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع"شفيع وشافع" لأنه   (1) في المطبوعة: "فيأخذه منه"، والذي في المخطوطة أعرب. تجافى له عن الشيء: أعرض عنه ولم يلازمه بطلبه، وتجاوز له عنه. (2) انظر ما مضى في معنى"ظاهر" 1، 72، تعليق: 2، وهذا الجزء 2: 15. (3) هذا من جيد البيان عن معاني اللغة، وهو منهج من النظر سبق به الطبري كل من تكلم في الفصل بين معاني الكلام العربي. (4) في المخطوطة: " شفع لي فلان شفاعة". بالحذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ثنى المستشفع به، فصار به شفعا (1) فكان ذو الحاجة -قبل استشفاعه به في حاجته- فردا، فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة. ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض"شفيعا" لمصير البائع به شفعا. (2) * * * فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع، فيترك لها ما لزمها من حق. وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها، لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة، ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه. كما:- 880 - حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا حجاج بن نصير، عن شعبة، عن العوام بن مراجم -رجل من قيس بن ثعلبة-، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة، كما قال الله عز وجل (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) ... [الأنبياء: 47] الآية (3)   (1) في المطبوعة: " المستشفع له"، وهو خطأ، كما يدل عليه تمام الكلام. (2) قال ابن قتيبة في تفسير"الشفعة": "كان الرجل في الجاهلية، إذا أراد بيع منزل، أتاه رجل فشفع إليه فيما باع، فشفعه وجعله أولى بالميبع ممن بعد سببه. فسميت شفعة، وسمى طالبها شفيعا". والشفعة في الدار والأرض: القضاء بها لصاحبها (اللسان: شفع) . (3) الحديث: 880 - عباس بن أبي طالب: هو عباس بن جعفر بن الزبرقان البغدادي، وهو ثقة، مترجم في التهذيب، ترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 /215، والخطيب في تاريخ بغداد 12: 411 - 142."العوام بن مراجم". بالراء والجيم، ثبت في الأصول"مزاحم" بالزاي والحاء، وهو تصحيف. والحديث ضعيف الإسناد، من أجل حجاج بن نصير الفساطيطي. وقد رواه عبد الله بن أحمد، في الزوائد على المسند: 520، عن عباس بن محمد وأبي يحيى البزار، كلاهما عن حجاج بن نصير. وقد فصلنا القول في ضعفه هناك. وأما معناه فصحيح ثابت، من حديث أبي هريرة، رواه أحمد في المسند: 7203. ورواه مسلم، والترمذي، وصححه. "الجماء": لا قرن لها. و"القرناء": ذات القرن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله -مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق وخلافهم أمر الله في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عنده- بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم؛ وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم، وجعل ما سن فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله (1) . وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وأنه قال:"ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا". (2) فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين -بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم- عن كثير من عقوبة إجرامهم بينهم وبينه (3) وأن قوله: (ولا يقبل منها شفاعة) إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل. وليس هذا من مواضع الإطالة في القول في الشفاعة والوعد والوعيد، فنستقصي الحجاج في ذلك، وسنأتي على ما فيه الكفاية في مواضعه إن شاء الله. * * *   (1) في المطبوعة: "في رحمة الله" وليست بجيدة. (2) حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي": هكذا ذكره الطبري دون إسناد. وهو حديث صحيح، ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ونسبه لأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم-عن أنس. والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم-عن جابر. انظر شرح المناوي الكبير، رقم 4892 (ج 4 ص 163) . وحديث"ليس من نبي" إلخ: كذلك جاء به الطبري دون إسناد. ومعناه ثابت صحيح، من حديث أنس بن مالك، رواه البخاري، ومسلم. انظر الترغيب والترهيب 4: 213. (3) في المطبوعة: "إجرامهم بينه وبينهم"، والذي في المخطوطة هو الصواب الجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 القول في تأويل قوله تعالى {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} قال أبو جعفر: و"العدل" -في كلام العرب بفتح العين-: الفدية، كما:- 881 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: يعني فداء. 882 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: (ولا يؤخذ منها عدل) أما عدل: فيعدلها من العدل، يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها. 883 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها. 884 - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: بدل، والبدل: الفدية. 885 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: لو أن لها ملء الأرض ذهبا لم يقبل منها فداء قال: ولو جاءت بكل شيء لم يقبل منها. 886 - وحدثني نجيح بن إبراهيم، قال: حدثنا علي بن حكيم، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمرو بن قيس الملائي، عن رجل من بني أمية -من أهل الشام أحسن عليه الثناء-، قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: العدل: الفدية (1) .   (1) الحديث: 886 - نجيح بن إبراهيم: لم أجد في كل المراجع التي بين يدى، غير ترجمة"نجيح بن إبراهيم بن محمد الكرماني"، في لسان الميزان 6: 149، وأنه كوفي ثقة، يروي عن أبي نعيم فهو من طبقة شيوخ الطبري. فالراجح أنه هو. علي بن حكيم - بفتح الحاء - هو الأودي الكوفي، وهو ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي، وأبوه: ثقتان. عمرو بن قيس الملائي - بضم الميم وتخفيف اللام - الكوفي: ثقة من أتباع التابعين. وقد روى هذا الحديث مرفوعا، عن رجل أبهم اسمه وأثنى عليه، والراجح أنه تابعي. فيكون الإسناد مرسلا أو منقطعا، فهو ضعيف ولم أجده عن غير الطبري، نقله عنه ابن كثير 1: 161، والسيوطي 1: 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وإنما قيل للفدية من الشيء والبدل منه"عدل"، لمعادلته إياه وهو من غير جنسه; ومصيره له مثلا من وجه الجزاء، لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة، كما قال جل ثناؤه: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: 70] بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها. (1) يقال منه:"هذا عدله وعديله". وأما"العدل" بكسر العين، فهو مثل الحمل المحمول على الظهر، يقال من ذلك:"عندي غلام عدل غلامك، وشاة عدل شاتك" -بكسر العين-، إذا كان غلام يعدل غلاما، وشاة تعدل شاة. (2) وكذلك ذلك في كل مثل للشيء من جنسه. فإذا أريد أن عنده قيمته من غير جنسه نصبت العين فقيل:"عندي عدل شاتك من الدراهم". وقد ذكر عن بعض العرب أنه يكسر العين من"العدل" الذي هو بمعنى الفدية لمعادلة ما عادله من جهة الجزاء، وذلك لتقارب معنى العدل والعدل عندهم، فأما واحد"الأعدال" فلم يسمع فيه إلا"عدل" بكسر العين. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) } وتأويل قوله: (ولا هم ينصرون) يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة   (1) الجملة في تفسير الآية، ساقطة من المخطوطة. (2) وهذه الجملة في المخطوطة جاءت هكذا: "يقال من ذلك: عندي غلام عدل غلاما وشاة عدل شاة"، واكتفى بهذا القدر منها، مع الخطأ البين فيها. (3) وهذا أيضًا بيان جيد، قلما تصيبه في كتاب من كتب اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 واضمحلت الرشى والشفاعات، وارتفع بين القوم التعاون والتناصر (1) وصار الحكم إلى العدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات: 24-26] وكان ابن عباس يقول في معنى: (لا تناصرون) ، ما:- 887 - حدثت به عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ما لكم لا تناصرون) ما لكم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم! (2) * * * وقد قال بعضهم في معنى قوله: (ولا هم ينصرون) : وليس لهم من الله يومئذ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد قيل: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية. * * * قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بتأويل الآية لما وصفنا من أن الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الآية أن يوم القيامة يوم لا فدية -لمن استحق من خلقه عقوبته-، ولا شفاعة فيه، ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا، فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه. * * *   (1) في المطبوعة: "وارتفع من القوم"، وهو خطأ. وارتفع هنا: بمعنى ذهب وانقضى مجاز من الارتفاع، وهو العلو. (2) الأثر: 887 - لم يذكره في تفسير الآية من سورة الصافات، انظر (23: 32 بولاق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 القول في تأويل قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أما تأويل قوله: (وإذ نجيناكم) فإنه عطف على قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) . فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 إنعامنا عليكم -إذ نجيناكم من آل فرعون- بإنجائناكم منهم. (1) * * * وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه. وأصل"آل" أهل، أبدلت الهاء همزة، كما قالوا"ماء" (2) فأبدلوا الهاء همزة، فإذا صغروه قالوا:"مويه"، فردوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله. وكذلك إذا صغروا آل، قالوا:"أهيل". وقد حكي سماعا من العرب في تصغير"آل":"أويل". (3) وقد يقال:"فلان من آل النساء" (4) يراد به أنه منهن خلق، ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهن ويهواهن، كما قال الشاعر: فإنك من آل النساء وإنما ... يَكُنَّ لأدْنَى; لا وصال لغائب (5) وأحسن أماكن"آل" أن ينطق به مع الأسماء المشهورة، مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآل علي، وآل عباس، وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول، وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك; غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل، ورآني آل المرأة -ولا-: رأيت آل البصرة، وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول:"رأيت آل مكة وآل المدينة". وليس ذلك في كلامهم بالفاشي المستعمل (6) . * * *   (1) في المطبوعة: "بإنجائنا لكم منهم"، غيروه ليستقيم وما ألفوه من دارج الكلام (2) في المطبوعة: "كما قالوا: ماه"، وهو خطأ بين. (3) انظر مادة (أهل) و (أول) في لسان العرب. (4) في المطبوعة: "وقد يقال: فلان. . . " (5) لم أجد البيت ولم أعرف قائله، وقوله: "يكن لأدنى" يعني للداني القريب الحاضر، يصلن حباله بالمودة، أما الغائب فقد تقطعت حباله. وتلك شيمهن، أستغفر الله بل شيمة أبناء أبينا آدم. (6) في المطبوعة: "بالمستعمل الفاشي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وأما"فرعون" فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمى به، كما كانت ملوك الروم يسمى بعضهم"قيصر" وبعضهم"هرقل"، وكما كانت ملوك فارس تسمى"الأكاسرة" واحدهم"كسرى"، وملوك اليمن تسمى"التبابعة"، واحدهم"تبع". وأما"فرعون موسى" الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه"الوليد بن مُصعب بن الريان"، وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه. 888 - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أن اسمه الوليد بن مُصعب بن الريان. (1) * * * وإنما جاز أن يقال: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) ، والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجَّين منه، لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة، كما يقول القائل لآخر:"فعلنا بكم كذا، وفعلنا بكم كذا، وقتلناكم وسبيناكم"، والمخبِر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك، أو أهل بلده ووطنه -كان المقولُ له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه، كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية: ولقد سما لكم الهذيل فنالكم ... بإرَابَ، حيث يقسِّم الأنفالا (2)   (1) انظر تاريخ الطبري 1: 199. (2) ديوانه: 48، ونقائض جرير والأخطل: 77 - 78. قال الطبري فيما مضى 1: 366: "سما فلان لفلان": إذا أشرف عليه وقصد نحوه عاليا عليه". والهذيل، هو الهذيل بن هبيرة التغلبي غزا بني يربوع بإراب (وهو ماء لبنى رياح بن يربوع) فقتل منهم قتلا ذريعا. وأصاب نعما كثيرا، وسبى سببا كثيرا، منهم"الخطفى" جد جرير، فسمى الهذيل"مجدعا"، وصارت بنو تميم تفزع أولادها باسمه. (انظر خبر ذلك في النقائض 473، ونقائض جرير والأخطل: 78) نالكم: أدرككم وأصاب منكم ما أصاب. والأنفال جمع نفل (بفتحتين) : وهي الغنائم. وفي المطبوعة: "تقسم" وهي صواب لا بأس بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 في فيلق يدعو الأراقم، لم تكن ... فرسانه عُزلا ولا أكفالا (1) ولم يلحق جرير هذيلا ولا أدركه، ولا أدرك إراب ولا شهده. (2) ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الأخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه. فكذلك خطاب الله عز وجل من خاطبه بقوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم. (3) . * * * القول في تأويل قوله تعالى {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وفي قوله: (يسومونكم) وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل، فيكون معناه حينئذ: واذكروا نعمتي عليكم إذ نجيتكم من آل فرعون (4) وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويله كان موضع"يسومونكم" رفعا. والوجه الثاني: أن يكون"يسومونكم" حالا فيكون تأويله حينئذ: وإذ نجيناكم   (1) الفيلق: الكتيبة العظيمة. وقوله: "يدعو" الضمير للهذيل. والأراقم: هم جشم ومالك والحارث وثعلبة ومعاوية وعمرو - أبناء بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، رهط الهذيل. وأنما سموا الأراقم لأن كاهنتهم نظرت إليهم وهم صبيان، وكانوا تحت دثار لهم، فكشفت الدثار، فلما رأتهم قالت: "كأنهم نظروا إلى بعيون الأراقم"، والأراقم جمع أرقم: وهو أخبث الحيات، وأشدها ترقدا وطلبا للناس. والعزل جمع أعزل: وهو الذي لا سلاح معه، والأكفال جمع كفل (بكسر فسكون) : وهو الذي لا يثبت على متن فرسه، ولا يحسن الركوب. (2) في المطبوعة: "ولم يلق جرير. . . ". (3) انظر ما سلف قريبا، 23 - 24 (4) في المطبوعة: "إذ نجيناكم. . . " علي سياق الآية، وهذه أجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 من آل فرعون سائميكم سوء العذاب، فيكون حالا من آل فرعون. * * * وأما تأويل قوله: (يسومونكم) فإنه: يوردونكم، ويذيقونكم، ويولونكم، يقال منه:"سامه خطة ضيم"، إذا أولاه ذلك وأذاقه، كما قال الشاعر: إن سيم خسفا، وجهه تربدا (1) * * * فأما تأويل قوله: (سوء العذاب) فإنه يعني: ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشد العذاب; ولو كان ذلك معناه لقيل: أسوأ العذاب. * * * فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوؤهم؟ (2) قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) ، وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما:- 889 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: أخبرنا ابن إسحاق، قال: كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، [وصنف يحرثون] ، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة [له] من عمله: فعليه الجزية -فسامهم- كما قال الله عز وجل: سوء العذاب. (3)   (1) لم أجد الرجز. الخسف: الظلم والإذلال والهوان، وهي شر ما ينزل بالإنسان، وأقبح ما ينزله أخ بأخيه الإنسان. وتربد وجهه: تلون من الغضب وتغير، كأنما تسود منه مواضع. وقوله: "وجهه" فاعل مقدم، أي تربد وجهه. (2) قوله: "الذي كان يسوؤهم"، ليس في المخطوطة، سقط منها. (3) الأثر: 889 - من خبر طويل في تاريخ الطبري 1: 199، والزيادة بين الأقواس من موضعها هناك ويقال: هؤلاء خول فلان: إذا اتخذهم عبيدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وقال السدي: جعلهم في الأعمال القذرة، وجعل يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم: 890 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل = من سومهم إياهم سوء العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم = إليهم، دون فرعون -وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون، وعن أمره- لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه، وإن كان عن أمر غيره، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه، وإن كان الآمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك -سلطانا كان الآمر، أو لصا خاربا، أو متغلبا فاجرا. (2) كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون، وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك، فعلوا ما فعلوا، مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو المقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله. (3) * * *   (1) الأثر: 890 - من خبر طويل في تاريخ الطبري 1: 200، وانظر ما سيأتي رقم: 895. (2) الخارب: اللص الشديد الفساد، من قولهم: فلان صاحب خربة (بضم فسكون) أي فساد وريبة، ومنه الخارب: من شدائد الدهر. وأما أصحاب اللغة فيقولون: الخارب: سارق الإبل خاصة، ثم نقل إلى غيره من اللصوص اتساعا. (3) في المطبوعة: "وإن كان قتله إياه"، وهو تصرف لا خير فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل، واستحيائهم نساءهم، (1) فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره كالذي:- 891 - حدثنا به العباس بن الوليد الآملي وتميم بن المنتصر الواسطي، قالا حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد، قال: حدثنا القاسم بن أيوب، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا وائتمروا، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفارُ (2) يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم؛ ودعوا عاما. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان القابل حملت بموسى. (3) 892 - وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي،   (1) في المطبوعة: "ذبح"، مكان"ذبحهم"، وسقط من المخطوطة قوله: "أبناء". (2) الشفار جمع شفرة: وهي السكين العريضة العظيمة الحديدة، تمتهن في قطع اللحم وغيره. (3) الأثر: 891 - هذا موقوف، وإسناده صحيح إلى ابن عباس. أما صحة المتن، فلا نستطيع أن نجزم بها، لعله مما كان يتحدث به الصحابة عن التاريخ القديم نقلا عن أهل الكتاب. العباس بن الوليد بن مزيد الآملي البيروتي: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه ابن أبي حاتم 3 /1 / 214 - 215. وتميم بن المنتصر بن تميم الواسطي: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 1/ 444 - 445. والأصبغ بن زيد بن علي الجهني الواسطي الوراق: ثقة، وثقه ابن معين وغيره، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 1 /2/ 36، وابن أبي حاتم 1 / 1/ 320 - 321. القاسم بن أبي أيوب الأسدي الواسطي: ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 /168 - 169، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 107. ووقع في المطبوعة هنا" القاسم بن أيوب"، وهو خطأ. وهو في تاريخ الطبري بتمامه 1: 202، مع اختلاف يسير في اللفظ. وفي المخطوطة في هذا الموضع أخطاء من الناسخ تجافينا عن ذكرها. وفي المطبوعة والمخطوطة:"فولدته علانية أمه"، والصواب من التاريخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. قال: فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشرة رجلا فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها فانظروا إليه، فإن كان ذكرا فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلوا عنها. وذلك قوله: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) . (1) 893 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساء قوابل (2) فإذا ولدت امرأة غلاما أُتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري. 894 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) الآية، قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، وإنه أتاه آت، فقال: إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل، فيظهر عليك، ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو حديث آدم. 895 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا   (1) الأثر: 892 - وهذا كالذي قبله، موقوف، إسناده إلى ابن عباس صحيح. وقد رواه الطبري بهذا الإسناد، في التاريخ أيضًا 1: 225. عبد الكريم بن الهيثم بن زياد القطان: ثقة مأمون، مات سنة 278. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 11: 78 - 79، وياقوت في معجم الأدباء 4: 154. إبراهيم بن بشار الرمادي: ثقة، يهم في الشيء بعد الشيء. مترجم في التهذيب، وفي الكبير 1 / 1 / 277، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 89 - 90. أبو سعيد - الراوي عن عكرمة: هو عبد الكريم بن مالك الجزري. ولم أجد الأثر في مكانه من تاريخ الطبري. (2) قوابل جمع قابلة: وهي المرأة التي تتلقى الولد عند الولادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 أسباط بن نصر عن السدي، قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة، فسألهم عن رؤياه (1) فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه -يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم; فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: (إن فرعون علا في الأرض) -يقول: تجبر في الأرض- (وجعل أهلها شيعا) -، يعني بني إسرائيل، حين جعلهم في الأعمال القذرة-، (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ) [القصص: 4] فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت، فأسرع فيهم. فدخل رءوس القبط على فرعون، فكلموه، فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا! بذبح أبنائهم، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار! (2) فلو أنك كنت تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون، فترك; فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى. (3) . 896 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه (4) فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه (5) يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدل دينك. فلما قالوا له ذلك، أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان، وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء [أهل] مملكته، فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه. فكن يفعلن ذلك، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن. (6) 897 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد قال، لقد ذكر [لي] أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصف بعضه إلى بعض، ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه (7) فيحز أقدامهن. حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع من بين رجليها (8) فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت الناس   (1) الكهنة جمع كاهن: وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان. والعافة جمع عائف: وهو الذي يتعاطى العيافة، وهو تكهن كان في الجاهلية، ذكروا أنها زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها. وفي اللسان (حزا) : العائف: العالم بالأمور، ولا يستعاف إلا من علم وجرب وعرف. فلعل الذي وصفه أصحاب كتب اللغة إنما هو ضرب واحد من ضروب العيافة. والقافة جمع قائف: وهو الذي يتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، وليست من السحر والكهانة ولا الجبت. ولعل زيادة ذكرها هنا زيادة من النساخ، فإن الذي جاء في رواية التاريخ: "القافة"، ولم يذكر"العافة"، فلعل الذي في التاريخ تصحيف صوابه"العافة"، والحازة جمع حاز، والحازي: هو الذي ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره، فربما أصاب، وهو الحزاء (بتشديد الزاي) . (2) في المطبوعة: نذبح أبناءهم"، والصواب من التاريخ. (3) الأثر: 895 - في تاريخ الطبري 1: 200، وإسناده هناك هو الإسناد الذي يدور في التفسير وتمامه: ". . . عن السدي في خبره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". (4) في المطبوعة: "فرعون وأحزابه"، وهو خطأ محض، صوابه في المخطوطة وتاريخ الطبري والحزاة جمع حاز أيضًا، كقاض وقضاة. والحازى: سلف شرحه في ص: 38، تعليق: 1. (5) في المطبوعة: " نعم، إنا نجد في علمنا"، وهو خطأ معرق. وتعلم (بتشديد اللام) : بمعنى أعلم، وهي فاشية في سيرة ابن إسحاق وغيره. وانظر تعليقنا فيما مضى 1: 217. وأظلك: صار كالظل، أي قارب ودنا دنوا شديدا. (6) الأثر: 896 - في تاريخ الطبري 1: 199، والزيادة بين القوسين، والتصحيح منه. (7) في المطبوعة: "ثم يؤتى. . . فيوقفن"، بالبناء للمجهول. وذاك نص التاريخ والمخطوطة. (8) مصعت المرأة بولدها: زحرت زحرة واحدة فرمته من بطنها وألقته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وقطعت النسل! وإنهم خولك وعمالك! فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما. فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون. (1) * * * قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم (2) فتأويل قوله إذًا -على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم-: (ويستحيون نساءكم) ، يستبقونهن فلا يقتلونهن. وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: (ويستحيون نساءكم) ، أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن - أن يكون جائزا أن يسمى الطفل من الإناث في حال صباها وبعد ولادها:"امرأة" (3) والصبايا الصغار وهن أطفال:"نساء". لأنهم تأولوا قول الله عز وجل: (ويستحيون نساءكم) ، يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن. وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج، فقال بما:- 898 - حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ويستحيون نساءكم) قال: يسترقون نساءكم.   (1) الأثر: 897 - في تاريخ الطبري 1: 199 - 200. (2) هذه جملة سقط منها خبر"كان"، وهي هكذا في الأصول، وأظن أن صوابها: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم، أن فرعون أمر، بقتل كل مولود يولد من أبناء بني إسرائيل، وباستحياء نسائهم" كما في الأثرين: 891، 896، فكأن سطرا سقط من الناسخ. (3) في المطبوعة: " الطفلة من الإناث". والعرب تقول: جارية طفل وطفلة، وجاريتان طفل، وجوار طفل، قال تعالى: "ثم يخرجكم طفلا"، وقال: "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فحاد ابن جريج، بقوله هذا، عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: (ويستحيون نساءكم) : إنه استحياء الصبايا الأطفال، إذ لم يجدهن يلزمهن اسم"نساء" (1) ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله"ويستحيون"، يسترقون، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية (2) . وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعال من الحياة (3) نظير"الاستبقاء" من"البقاء"، و"الاستسقاء" من"السقي". وهو من معنى الاسترقاق بمعزل. * * * وقد تأول آخرون: قوله (4) (يذبحون أبناءكم) ، بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم، وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال، وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحيين هم النساء، الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال، لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عز وجل أنهم النساء، ما بين أن المذبحين هم الرجال (5) . قال أبو جعفر: وقد أغفل قائلو هذه المقالة - مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين - موضع الصواب. وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى أنه أمرها أن ترضع موسى، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت، ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء، لم يكن بأم موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليم، أو لو أن موسى كان رجلا لم تجعله أمه في التابوت.   (1) في المطبوعة: "قال: إذ لم يجدهن" بزيادة"قال"، وهو فساد. (2) في المطبوعة: "عجمية". (3) في المطبوعة: "إنما هو الاستفعال من الحياة"، وليس بشيء (4) في المطبوعة: ""وقد قال آخرون. . . "، وليس بشيء. (5) في المطبوعة: "ما يبين أن المذبحين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ولكن ذلك عندنا على ما تأوله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل: من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا. وإنما قيل: (ويستحيون نساءكم) ، إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن - وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن، فقيل: (ويستحيون نساءكم) ، يعني بذلك الوالدات والمولودات، كما يقال:"قد أقبل الرجال" وإن كان فيهم صبيان. فكذلك قوله: (ويستحيون نساءكم) . وأما من الذكور، فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون، قيل:"يذبحون أبناءكم"، ولم يقل: يذبحون رجالكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) } أما قوله: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ، فإنه يعني: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم (1) - مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، على ما وصفت - بلاء لكم من ربكم عظيم. * * * ويعني بقوله"بلاء": نعمة، كما:- 899 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (بلاء من ربكم عظيم) ، قال: نعمة. 900 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) ، أما البلاء فالنعمة.   (1) في المطبوعة: "من إنجائنا إياكم"، بدلوه ليجرى على دارج كلامهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 901 - وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) ، قال: نعمة من ربكم عظيمة. 902 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثل حديث سفيان. 903 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) ، قال: نعمة عظيمة (1) . * * * وأصل"البلاء" في كلام العرب - الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر. لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال ربنا جل ثناؤه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168] ، يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35] . ثم تسمي العرب الخير"بلاء" والشر"بلاء". غير أن الأكثر في الشر أن يقال:"بلوته أبلوه بلاء"، وفي الخير:"أبليته أبليه إبلاء وبلاء"، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (2) فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.   (1) الأثر: 903 - مقدم في المخطوطة على الذي قبله. (2) ديوانه: 109، وروايته"رأى الله. . . فأبلاهما". وهذا بيت من قصيدة من جيد شعر زهير وخالصه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أما تأويل قوله: (وإذ فرقنا بكم) ، فإنه عطف على: (وإذ نجيناكم) ، بمعنى: واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون، وإذ فرقنا بكم البحر. ومعنى قوله: (فرقنا بكم) : فصلنا بكم البحر. لأنهم كانوا اثني عشر سبطا؛ ففرق البحر اثني عشر طريقا، فسلك كل سبط منهم طريقا منها، فذلك فرق الله بهم عز وجل البحر، وفصله بهم، بتفريقهم في طرقه الاثني عشر، كما:- 904 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما أتى موسى البحر كنّاه"أبا خالد"، وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط. (1) * * * وقد قال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: (وإذ فرقنا بكم البحر) ، فرقنا بينكم وبين الماء. يريد بذلك: فصلنا بينكم وبينه، وحجزناه حيث مررتم به. وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة، (2) لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم، ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر، فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة، وفرقه البحر بالقوم، إنما هو تفريقه البحر بهم، على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم، على ما جاءت به الآثار.   (1) الأثر 904 - من خبر طويل في تاريخ الطبري، وهذه الفقرة منه في 1: 214، وانظر أيضًا رقم: 910. (2) انظر تفسير"الظاهر" فيما مضى: 2: 15، والمراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 * * * القول في تأويل قوله تعالى {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) } قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون ونجى بني إسرائيل؟ قيل له، كما:- 905 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل، سوى ما في جنده من شهب الخيل. (1) وخرج موسى، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف، طلع فرعون في جنده من خلفهم، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ) مُوسَى (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء: 61-62] أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده. (2) 906 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: أوحى الله إلى البحر -فيما ذكر لي: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات البحر يضرب. بعضه بعضا فرقا من الله وانتظاره أمره. (3) فأوحى الله جل وعز إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها، وفيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل على نشز من الأرض   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "من شية الخيل"، وشية الفرس: لونه، فكان الأجود أن يقول: "من شيات الخيل". وفي التاريخ. "من شهب الخيل"، كما أثبتناه. والشهب جمع أشهب، والشُّهبة في ألوان الخيل: أن تشق معظم لونه شعرة أو شعرات بيض، كميتا كان الفرس أو أشقر أو أدهم. (2) الأثر: 905 - في تاريخ الطبري 1: 217، وفيه"ولا خلف لموعوده". والموعود كالوعد، وهو من المصادر التي جاءت على مفعول. (3) في المطبوعة: "فثاب البحر. . . "، وهو تصحيف، والصواب في المخطوطة والتاريخ. وفي المطبوعة: "وانتظار أمره"، وفي التاريخ"وانتظارا لأمره"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو جيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 (1) . يقول الله لموسى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى) [طه: 77] . فلما استقر له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ (2) سلك فيه موسى ببني إسرائيل، وأتبعه فرعون بجنوده. (3) 907 - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي قال: حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل البحر فلم يبق منهم أحد، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر، وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن ينفذ. (4) فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق، (5) فقربها منه فشمها الفحل، فلما شمها قدمها، (6) فتقدم معها الحصان عليه فرعون. فلما رأى جند فرعون فرعون قد دخل، دخلوا معه وجبريل أمامه، وهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم، يقول:"الحقوا بصاحبكم". حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد، ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى، وليس خلفه أحد، طبق عليهم البحر، ونادى فرعون -حين رأى من سلطان الله عز وجل وقدرته ما رأى وعرف ذله، وخذلته نفسه (7) -: (لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (8) [يونس: 90] .   (1) في المطبوعة: "على يبس من الأرض"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. والنشز: المتن المرتفع من الأرض - أو ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ. (2) في المطبوعة: "فلما استقر لهم. . . ". (3) الأثر: 906 - في تاريخ الطبري 1: 217. (4) هكذا في المخطوطة والمطبوعة"أن ينفذ"، وفي التاريخ: "أن يتقدم"، وكأنها الصواب، والآخر تحريف، سقط الميم من آخره. (5) فرس وديق: مريدة للفحل تشهيه. (6) في المطبوعة"فلما شمها تبعها"، وهو خطأ وخلط. والصواب ما في المخطوطة والتاريخ. وقوله: "قدمها" أي زجرها، بقولهم للفرس: "أقدم" أي امض قدما إلى أمام. (7) في المطبوعة وحدها: "ذلته". (8) الأثر: 907 - في تاريخ الطبري 1: 217. وفي المطبوعة: "آمنت أنه لا إله إلا الذي. . . " وفي التاريخ: "نادي أن لا إله إلا الذي. . . " وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 908 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) ، قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا: فدعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط. ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ قال: أمامك. يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغَمْر، فذهب به، ثم رجع. (1) فقال: أين أمرك ربك يا موسى؟ فوالله ما كَذبتَ ولا كُذبتَ: ففعل ذلك ثلاث مرات. ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء: 63]- يقول: مثل جبل - قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم. فلذلك قال: (وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) . قال معمر، قال قتادة: كان مع موسى ستمائة ألف، وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان. 909 - وحدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أوحى الله جل وعز إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. قال: فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى في ستمائة ألف. فلما عاينهم فرعون قال: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء: 54-56] فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برَهَج دواب فرعون، فقالوا: يا موسى،   (1) في ابن كثير 1: 165"فذهب به الغمر، ثم رجع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا! هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رَهِقنا بمن معه! (1) قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال: فبات البحر له أفكل (2) - يعني: له رعدة - لا يدري من أي جوانبه يضربه. قال: فقال يوشع لموسى: بماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فاضربه. قال: فضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقا، كل طريق كالطود العظيم؛ فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم. قال سفيان، قال عمار الدهني: قال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا. وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر. قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا، (3) فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض. قال سفيان: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر. فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم ذَنوب حصان (4) . فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق، (5)   (1) رهقه: غشيه وأوشك أن يدركه. (2) في المطبوعة"فثاب له"، وهو تصحيف مضى مثله في: 45، تعليق: 3 (3) قال بعصاه أو بيده: أشار بها. والإشارة ضرب من التعبير والبيان، فكان مجاز القول إلى معنى الإشارة جيدا. (4) الأدهم: الأسود. والذنوب: الفرس الوافر الذنب الطويلة. وقوله: "حصان" هنا: أي فحل، قد ضن بمائه فلم ينز على أنثى. (5) الوديق: مضى تفسيرها في ص: 46 تعليق: 4 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فلما رآها الحصان تقحم خلفها. وقيل لموسى: اترك البحر رهوا - قال: طُرقا على حاله (1) - قال: ودخل فرعون وقومه في البحر، فلما دخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، أطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقوا. (2) 910 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، فقال: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. فخرج موسى وهارون في قومهما، وألقي على القبط الموت، فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (فأتبعوهم مشرقين) [الشعراء: 60] فكان موسى على ساقة بني إسرائيل، وكان هارون أمامهم يقدمهم (3) فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتحم، فمنعه موسى، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره، وإنما عدوا ما بين ذلك، سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذِيانة (4) -يعني الأنثى- وذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [الشعراء: 53-54] يعني بني إسرائيل. فتقدم هارون فضرب البحر، فأبى البحر أن ينفتح، وقال: من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى فكناه"أبا خالد" وضربه فانفلق،   (1) في المخطوطة: "علي حياله"، وهو خطأ، وانظر ما مضى ص: 46، وانظر أيضًا تفسير: "رهوا" في 25: 73 (بولاق) . (2) الأثر: 909 - هو كالأثر الماضي: 892، وبالإسناد نفسه. انظر تمام هذا الأثر في رقم: 918. وأقحم سفيان روايته عن عمار الدهني، في روايته عن أبي سعيد. وعمار، هو عمار بن معاوية الدهني (بضم الدال وسكون الهاء) ، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب التهذيب) . (3) ساقة الجيش، وساقة الحاج: هم الذين يكونون في مؤخره يسوقونه ويحفظونه من ورائه. (4) في المطبوعة: "ما ذبانه"، وفي المخطوطة: " مادنانة" بالدال المهملة. ولم أجد الكلمة فيما بين يدي من الكتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فكان كل فرق كالطود العظيم -يقول: كالجبل العظيم-، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط -وكانت الطرق انفلقت بجدران (1) - فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا! فلما رأى ذلك موسى، دعا الله، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطِّيقان (2) فنظر آخرهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قال: ألا ترون البحر فَرِق مني؟ (3) قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) [الشعراء: 64] يقول: قربنا ثم الآخرين، يعني آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذيانة، فشامت الحصن ريح الماذيانة، فاقتحم في أثرها، (4) حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم. (5) . 911 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر، قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين! فلما رآهم أصحاب موسى قالوا: إنا لمدركون! قال كلا إن معي ربي سيهدين. فقال موسى للبحر: ألست تعلم أني رسول الله؟ قال: بلى. قال! وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم؟ قال: بلى.   (1) في تاريخ الطبري: "وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران". (2) الطيقان والأطواق، جمع طاق: وهو عقد البناء حيث كان. (3) فرق يفرق فرقا (بفتحتين) : فزع أشد الفزع. (4) في المطبوعة: "ماذبانة. . . الماذبانة"، وانظر ما سلف: 49 تعليق: 5، وفي المطبوعة"فشام الحصان" بالإفراد، وهو غير جيد في سياق الكلام. الصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري. وشام الشيء: تشممه. والحصن، جمع حصان. (5) الأثر: 910 - في تاريخ الطبري 1: 213 - 214، ومضت فقرة منه برقم: 904. والتطم البحر عليهم: أطبق عليهم وختم وهو يتلاطم موجه. ولم أجدها في كتب اللغة. ولكنهم يقولون: التطمت الأمواج وتلاطمت، ضرب بعضها بعضا. ويقولون: لطم الكتاب: أي ختمه. فالذي جاء في الخبر عربى معرق في مجازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قال: أتعلم أن هذا عدو الله؟ قال: بلى. قال: فافرق لي طريقا ولمن معي. (1) قال: يا موسى، إنما أنا عبد مملوك، ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى. فأوحى الله عز وجل إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق. وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر، وقرأ قول الله تعالى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى) [سورة طه: 77] وقرأ قوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) [الدخان: 24]-سهلا ليس فيه نُقر (2) -فانفرق اثنتي عشرة فرقة، فسلك كل سبط في طريق. قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخلوا البحر. قال: ادخلوا عليهم. قال: وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم: ليلحق آخركم أولكم. وفي أول آل فرعون يقول لهم: رويدا يلحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم: قد هلكوا! فلما دخل ذلك قلوبهم أوحى الله جل وعز إلى البحر فجعل لهم قناطر، ينظر هؤلاء إلى هؤلاء، حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء. * * * ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون) ، أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر، وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه، وإلى عظيم سلطانه -في الذي أراكم من طاعة البحر إياه، من مصيره ركاما فلقا كهيئة الأطواد الشامخة، (3) غير زائل عن حده، انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته، وهو سائل ذائب قبل ذلك. يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم، ويحذرهم -في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم- أن يحل   (1) في المطبوعة"فانفرق لي طريقا. . " وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "ليس فيه تعد"، وفي المخطوطة: "نفد" والدال تشبه أن تكون راء. فاستظهرت أن تكون ما أثبت. والنقر جمع نقرة: وهي الوهدة المستديرة في الأرض، أو الحفرة صغيرة ليست بكبيرة. وهذا أشبه بالكلام والمعنى. (3) في المطبوعة: "ركاما فرقا"، وهو تغيير بلا سبب. ركام: مجتمع بعضه فوق بعض والفلق جمع فلقة (بكسر فسكون) : وهي الشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 بهم ما حل بفرعون وآله، في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم. * * * وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: (وأنتم تنظرون) ، كمعنى قول القائل:"ضربت وأهلك ينظرون، فما أتوك ولا أعانوك" بمعنى: وهم قريب بمرأى ومسمع، وكقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) [الفرقان: 45] ، وليس هناك رؤية، إنما هو علم. قال أبو جعفر: والذي دعاه إلى هذا التأويل، أنه وجه قوله: (وأنتم تنظرون) ، أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون، فقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا -مما اكتنفهم من البحر- إلى فرعون وغرقه. وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام، إنما التأويل: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم -على ما قد وصفنا آنفا- والتطام أمواج البحر بآل فرعون، في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا. وذلك كان، لا شك نظر عيان لا نظر علم، كما ظنه قائل القول الذي حكينا قوله. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا} اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك، (1) فقرأ بعضهم: (واعدنا) بمعنى أن الله تعالى واعد موسى موافاة الطور لمناجاته، (2) فكانت المواعدة من الله لموسى، ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة (واعدنا) على"وعدنا" أن قالوا: كل اتعاد كان بين اثنين للالتقاء والاجتماع، (3) فكل واحد منهما   (1) في المطبوعة في الموضعين: "القراء"، كما فعل كثيرا فيما مضى. والقَرَأَة جمع قارئ. (2) في المطبوعة: "ملاقاة الطور"، ولا أدري لم غيره من غيره! . (3) في المطبوعة: "كل إبعاد. . أو الاجتماع"، ولا أدري لم فعل ذلك! . واتعد اتعادا افتعل، من الوعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 مواعد صاحبه ذلك. فلذلك -زعموا- (1) وجب أن يُقضى لقراءة من قرأ (واعدنا) بالاختيار على قراءة من قرأ"وعدنا". وقرأ بعضهم:"وعدنا" بمعنى أن الله الواعد والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر، فأما الله جل ثناؤه، فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشر. قالوا: وبذلك جاء التنزيل في القرآن كله، فقال جل ثناؤه: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) [إبراهيم: 22] وقال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) [الأنفال: 7] . قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله:"وإذ وعدنا موسى". * * * والصواب عندنا في ذلك من القول: أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القَرَأَة، وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. (2) فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان. وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع، فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان، مثل الذي وعده من ذلك صاحبه، إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفاق منهما عليه. ومعلوم أن موسى صلوات الله عليه لم يعده ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك، إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا، وإلى محبته فيه مسارعا. ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك، إلا وموسى إليه مستجيب. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الله عز ذكره قد كان وعد موسى الطور، ووعده موسى اللقاء. فكان الله عز ذكره لموسى واعدا مواعدا   (1) في المطبوعة: "فلذلك رموا أنه وجب" بزيادة أنه"، وهي زيادة مفسدة للمعنى. (2) انظر ما مضى في تفسير"الظاهر": 44، والمراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 له المناجاة على الطور، (1) وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأي القراءتين من"وعد" و"واعد" قرأ القارئ، فهو للحق في ذلك -من جهة التأويل واللغة- مصيب، لما وصفنا من العلل قبل. (2) ولا معنى لقول القائل: إنما تكون المواعدة بين البشر، وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشر. وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب، والخير والشر، والنفع والضر الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه -لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه، ولا يغيره عن معانيه. والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا: من أن كل اتعاد كان بين اثنين، (3) فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه، ومواعدة بينهما، وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد، وأن الوعد الذي يكون به الانفراد من الواعد دون الموعود، إنما هو ما كان بمعنى"الوعد" الذي هو خلاف"الوعيد". * * * القول في تأويل قوله تعالى {مُوسَى} وموسى -فيما بلغنا- بالقبطية كلمتان، يعني بهما: ماء وشجر."فمو"، هو الماء، و"شا" هو الشجر. (4) وإنما سمي بذلك -فيما بلغنا- لأن أمه لما جعلته في التابوت -حين خافت عليه من فرعون وألقته في اليم، كما أوحى الله إليها، وقيل: إن اليم الذي ألقته فيه هو النيل - دفعته أمواج اليم حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن، فوجدن   (1) في المطبوعة: قد كان وعد موسى" بزيادة"قد"، وفيها أيضًا "وكان الله عز وجل لموسى واعد ومواعدا"، والواو هنا ليست بشيء في قوله"وكان"، و"مواعدا". (2) في المطبوعة: "فهو الحق في ذلك. . . "، وهو خطأ. (3) في المطبوعة هنا أيضًا كما سلف: "كل إبعاد"، وهو فساد وخطأ. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "سا" وأثبت ما في التاريخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 التابوت فأخذنه، فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه، كان ذلك بمكان فيه ماء وشجر، (1) فقيل: موسى، ماء وشجر. كذلك:- 912 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط بن نصر، عن السدي. (2) * * * وقال أبو جعفر: وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فيما زعم ابن إسحاق. 913 - حدثني بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عنه. (3) . * * * القول في تأويل قوله تعالى {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ومعنى ذلك: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أي رأس الأربعين، ومثل ذلك بقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] وبقولهم:"اليوم أربعون منذ خرج فلان"،"واليوم يومان". أي اليوم تمام يومين، وتمام أربعين. قال أبو جعفر: وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل، وخلاف ظاهر التلاوة. فأما ظاهر التلاوة، فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين ليلة، فليس لأحد إحالة ظاهر خبره إلى باطن، (4) بغير برهان دال على صحته. * * *   (1) في المطبوعة: "وكان ذلك المكان فيه" وليست بشيء. (2) الأثر: 912 تاريخ الطبري 1: 201 في خبر طويل. (3) الأثر: 913 - مختصر من خبر نسبه في تاريخ الطبري 1: 198. (4) انظر تفسير"ظاهر" و" باطن" فيما سلف ص: 44، والمراجع قبلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره، وهو ما:- 914 - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) ، قال: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وذلك حين خلف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون، فمكث على الطور أربعين ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح -وكانت الألواح من برد (1) - فقربه الرب إليه نجيا، وكلمه، وسمع صريف القلم. وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور. (2) 915 - وحدثت عن عمار بن الحسن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه. 916 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق قال: وعد الله موسى-حين أهلك فرعون وقومه، ونجاه وقومه ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، يلقاه ربه فيها ما شاء. (3) واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل، وقال: إني متعجل إلى ربي فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للُقِيِّه شوقا إليه، (4) وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. (5) 917 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "وكانت الألواح من زبرجد"، والصواب ما أثبته من المخطوطة، ومما جاء عن أبي العالية، في صفة الألواح 9: 46 (بولاق) . (2) صريف الأقلام: صوتها وصريرها وهي تجري بما تكتبه الملائكة. وقوله: "لم يحدث حدثا"، أي لم يكربه ما يكرب الناس من قضاء الحاجة. (3) في المطبوعة: "تلقاه ربه فيها بما شاء". (4) في المطبوعة: "للقائه"، وهما سواء في المعنى. (5) الأثر: 916 - صدر هذا الأثر في تاريخ الطبري 1: 217 - 218، ولكن قطعه الطبري، وأتمه من خبر السدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 أسباط عن السدي قال: انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) } وتأويل قوله: (ثم اتخذتم العجل من بعده) ، ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها، من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. و"الهاء" في قوله"من بعده" عائدة على ذكر موسى. فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، المكذبين به المخاطبين بهذه الآية -عن فعل آبائهم وأسلافهم، وتكذيبهم رسلهم، وخلافهم أنبياءهم، مع تتابع نعمه عليهم، وشيوع آلائه لديهم، (2) مُعَرِّفَهم بذلك أنهم -من خلاف محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وجحودهم لرسالته، مع علمهم بصدقه (3) - على مثل منهاج آبائهم وأسلافهم، ومحذِّرَهم من نزول سطوته بهم =بمقامهم على ذلك من تكذيبهم= ما نزل بأوائلهم المكذبين بالرسل: من المسخ واللعن وأنواع النقمات. وكان سبب اتخاذهم العجل، ما:- 918 - حدثني به عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم   (1) الأثر: 917 - في تاريخ الطبري في خبر طويل 1: 218، وسيأتي تمامه في رقم: 919. (2) في المطبوعة: "سبوغ آلائه". وشيوع آلائه: ظهورها وعمومها حتى استوى فيها جميعهم. وانظر ما سيأتي بعد ص: 77، تعليق: 2. (3) في المطبوعة: "من خلافهم محمدا. . ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 ذنوب حصان، فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق، فلما رآها الحصان تقحم خلفها. (1) قال: وعرف السامري جبريل، لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه، فيجد في بعض أصابعه لبنا، وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ. فلما عاينه في البحر عرفه، فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ من تحت الحافر قبضة. -قال سفيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: " فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول" [طه: 96] . قال أبو سعيد قال عكرمة، عن ابن عباس: وألقي في رَوْع السامري (2) إنك لا تلقيها على شيء فتقول:"كن كذا وكذا" إلا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر. فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وأغرق الله آل فرعون، قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح. ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بني إسرائيل حَلْي من حَلْي آل فرعون قد تعوَّروه، (3) فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله. فلما جمعوه، قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا، (4) فقذفها فيه - وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا - وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فصار عجلا جسدا له خوار، وكان تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، يسمع له صوت، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه، فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري! قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى. 919 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا   (1) انظر آخر الأثر رقم: 909 فهو هذا بنصه، ثم يأتي تمامه. (2) الروع (بضم الراء) : القلب والعقل. وقع ذلك في روعى: أي في نفسي وخلدي وبالي. (3) تعور الشيء واستعاره: أخذه عارية، كما تقول: تعجب واستعجب. (4) قال بالقبضة: رفعها مشيرا بيده ليلقيها. وقد مضى تفسير ذلك في ص: 54 تعليق: 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 أسباط بن نصر، عن السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل - يعني من أرض مصر - أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر، وغرق آل فرعون، أتى جبريل إلى موسى يذهب به إلى الله. فأقبل على فرس، فرآه السامري فأنكره وقال: إنه فرس الحياة! فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الحافر -حافر الفرس- فانطلق موسى، واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حَلْي القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعا، واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها، وإلا كان شيئا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحَلْي في تلك الحفرة، وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار. وعدت بنو إسرائيل موعد موسى، فعدوا الليلة يوما واليوم يوما، فلما كان تمام العشرين، خرج لهم العجل. فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فنسي - يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إنما فتنتم به -يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل- وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه، فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى. قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري، فأخبره خبرهم. قال موسى؛ يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا. قال: رب أنت إذا أضللتهم. (1) 920 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: كان   (1) الأثر: 919 - مضى صدره في رقم: 917. وفي التاريخ 1: 218. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 -فيما ذكر لي- أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عز وجل به: استعيروا منهم - يعني من آل فرعون - الأمتعة والحلي والثياب، فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم. فلما أذن فرعون في الناس، كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قال: حين ساروا لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم، حتى ذهبوا بأموالكم معهم! (1) 921 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل باجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل. فلما فضل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى إلى ربه، (2) قال لهم هارون: أنتم قد حُمِّلتم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون - وأمتعة وحليا، فتطهروا منها، فإنها نجس. وأوقد لهم نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها. قالوا: نعم. فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الأمتعة وذلك الحلي، (3) فيقذفون به فيها. حتى إذا تكسر الحلي فيها، ورأى السامري، أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره، (4) ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: (5) يا نبي الله، ألقي ما في يدي؟ قال: نعم. ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة، فقذفه فيها وقال:"كن عجلا جسدا له خوار"، فكان، للبلاء والفتنة. فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط. يقول الله عز وجل: (فنسي) [طه: 88] أي ترك ما كان عليه من الإسلام - يعني السامري - (أَفَلا   (1) الأثر: 920 - في تاريخ الطبري 1: 216. وفي المطبوعة"أن يخرجوا بأنفسهم"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. نفله الشيء: جعله نفلا، أي غنيمة مستباحة. (2) فصل فلان عن البلد يفصل فصولا: إذا خرج وفارقها (3) في المطبوعة: "بما كان معهم"، غيروه ليستقيم على دارج ما ألفوه. (4) في المطبوعة: "أخذ ترابا"، حذفوا الفاء ليستقي على عربيتهم، فيما زعموا. (5) في تاريخ الطبري: "ثم أقبل إلى الحفرة. . . ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا) [طه: 89] وكان اسم السامري موسى بن ظفر، وقع في أرض مصر، فدخل في بني إسرائيل. (1) فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) [طه: 90-91] فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون، إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. وكان له هائبا مطيعا (2) . 922 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من فرعون، وأغرق فرعون ومن معه، قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. قال: لما خرج موسى وأمر هارون بما أمره (3) وخرج موسى متعجلا مسرورا إلى الله، قد عرف موسى أن المرء إذا أنجح في حاجة سيده، كان يسره أن يتعجل إليه (4) . قال: وكان حين خرجوا استعاروا حليا وثيابا من آل فرعون، فقال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم، فاجمعوا نارا، فألقوه فيها فأحرقوه. قال: فجمعوا نارا. قال: وكان السامري قد نظر إلى أثر دابة جبريل، وكان على فرس أنثى - وكان السامري في قوم موسى - قال: فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة، فيبست عليها يده. فلما ألقى قوم موسى الحلي في النار، وألقى السامري   (1) هو كما ذكر في أول الخبر من أهل"باجرما"، وباجرما: قرية من أعمال البليخ قرب الرقة، من أرض الجزيرة. (ياقوت) . ويقال: موضع قبل نصيبن (معجم ما استعجم) . وقال الميداني في شرح المثل: [خطب يسير في خطب كبير] أن الزباء كانت من أهل باجرما وتتكلم العربية. (2) الأثر: 921 - في تاريخ الطبري 1: 219 - 220. (3) في المطبوعة: "بما أمره به". (4) في المطبوعة: "نجح"، وأنجح: أدرك طلبته وبلغ النجاح. وإن كنت أخشى أن يكون في الكلمة تصحيف خفي عليَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 معهم القبضة، صور الله جل وعز ذلك لهم عجلا ذهبا، فدخلته الريح، فكان له خوار، فقالوا: ما هذا؟ فقال: السامري الخبيث: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) ، الآية، إلى قوله: (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) [طه: 88-91] قال: حتى إذا أتى موسى الموعد، قال الله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي) فقرأ حتى بلغ: (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) [طه: 86] . 923 - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (ثم اتخذتم العجل من بعده) قال: العجل: حسيل البقرة (1) . قال: حلي استعاروه من آل فرعون، فقال لهم هارون: أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه. وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فطرحه فيه، فانسبك، فكان له كالجوف تهوي فيه الرياح. 924 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: إنما سمي العجل، لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى. 925 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحو حديث القاسم عن الحسن. 926 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه (2) * * *   (1) الحسيل (بفتح فكسر) : ولد البقرة. (2) الأثران: 925، 926 - في المخطوطة ساق إسناد الأثرين جميعا في موضع واحد قال: "قال حدثنا عيسى - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل - جميعا عن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ثم اتخذتم العجل" قال: العجل: حسيل البقرة. . . " ثم ساق نص ما في الأثر: 924. فآثرت ترك ما في المطبوعة على حاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 القول في تأويل قوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) } يعني" وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم، ووضعا للعبادة في غير موضعها. وقد دللنا -في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا- أن أصل كل ظلم، وضع الشيء في غير موضعه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) } قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) ، يقول: تركنا معاجلتكم بالعقوبة،"من بعد ذلك"، أي من بعد اتخاذكم العجل إلها. كما:- 927 - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) ، يعني من بعد ما اتخذتم العجل. * * * وأما تأويل قوله: (لعلكم تشكرون) ، فإنه يعني به: لتشكروا. ومعنى"لعل" في هذا الموضع معنى"كي". وقد بينت فيما مضى قبلُ أن أحد معاني"لعل""كي"، بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع (2) . * * * فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها، لتشكروني على عفوي عنكم، إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللب والعقل. * * *   (1) انظر ما مضى 1: 523 - 524. (2) انظر ما مضى 1: 364 - 365. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 القول في تأويل قوله تعالى {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب) : واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان. ويعني ب"الكتاب": التوراة، وب"الفرقان": الفصل بين الحق والباطل، كما:- 928 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان) ، قال: فرق به بين الحق والباطل. 929 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان) ، قال: الكتاب: هو الفرقان، فرقان بين الحق والباطل (1) . 930 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 931 - وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان) ، قال: الكتاب هو الفرقان، فرق بين الحق والباطل. 932 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، وقال ابن عباس:"الفرقان": جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن زيد في ذلك بما: - 933 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب. قال:   (1) في المخطوطة: "هو الفرقان بين الحق والباطل"، والذي في المطبوعة أجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 سألته -يعني ابن زيد- عن قول الله عز وجل: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان) فقال: أما"الفرقان" الذي قال الله جل وعز: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [الأنفال: 41] ، فذلك يوم بدر، يوم فرق الله بين الحق والباطل، والقضاء الذي فرق به بين الحق والباطل. قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان، فرق الله بينهم، وسلمه وأنجاه، فرق بينهم بالنصر. فكما جعل الله ذلك بين محمد صلى الله عليه وسلم والمشركين، فكذلك جعله بين موسى وفرعون (1) . * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، (2) ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد: من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع، هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها. فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل. فيكون"الكتاب" نعتا للتوراة أقيم مقامها، استغناء به عن ذكر التوراة، ثم عطف عليه ب"الفرقان"، إذ كان من نعتها. * * * وقد بينا معنى"الكتاب" فيما مضى من كتابنا هذا، وأنه بمعنى المكتوب. (3) * * * وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية، وإن كان محتملا غيره من التأويل، لأن الذي قبله من ذكر"الكتاب"، وأن معنى"الفرقان" الفصل (4) - وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا (5) -، فإلحاقه إذ كان كذلك، بصفة ما وليه أولى من إلحاقه بصفة ما بعد منه.   (1) في المطبوعة: "بين محمد والمشركين"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فأولى هذين التأويلين. . . ". (3) انظر ما مضى 1: 97 - 99. (4) في المطبوعة: "لأن الذي قبله ذكر الكتاب" بإسقاط"من". (5) انظر ما مضى 1: 98 - 99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وأما تأويل قوله: (لعلكم تهتدون) ، فنظير تأويل قوله: (لعلكم تشكرون) ، ومعناه لتهتدوا (1) . وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها، لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) } وتأويل ذلك: اذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم. وظلمهم إياها، كان فعلَهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها، مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى. وكذلك كل فاعل فعلا يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم، هو ما أخبر الله عنهم: من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم. ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم، بالتوبة إليه، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به. وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم. * * * وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"التوبة": الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه   (1) انظر ما مضى 2: 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 من طاعته. (1) * * * فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم، على ما أمرهم به، كما:- 934 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن أنه قال في هذه الآية: (فاقتلوا أنفسكم) قال: عمدوا إلى الخناجر، فجعل يطعن بعضهم بعضا. 935 - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج، أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد، (2) حتى ألوى موسى بثوبه، (3) فطرحوا ما بأيديهم، فتكشف عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حسبي فقد اكتفيت! فذلك حين ألوى بثوبه. (4) 936 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: (توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) . قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم، قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا، (5)   (1) انظر ما سلف 1: 547. (2) حن عليه: عطف عليه. وفي ابن كثير 1: 169"لا يحنو"، وهو مثله في المعنى. (3) ألوى بثوبه: لمع به أشار. يأمرهم موسى بالكف عما هم فيه. (4) في المطبوعة: "قد اكتفيت، فذلك حين ألوى. . . " وفي المخطوطة"بذلك"، واخترت ما نقله ابن كثير 1: 169. (5) في المخطوطة: "فاختبأ الذي عكفوا. . . "، وفي ابن كثير 1: 169"فأخبر"، وهو خطأ محض. واحتبى بثوبه: ضم رجليه إلى يطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، يشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب. وانظر البغوي 1: 169، فهو دال على صواب ما استظهرته في قراءة الكلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، (1) كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. 937 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما رجع موسى إلى قومه قال: (يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) إلى قوله: (فكذلك ألقى السامري) [طه: 86-87] . فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه (قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه: 94] . فترك هارون ومال إلى السامري، ف (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) إلى قوله: (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) [طه: 95-97] ثم أخذه فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، (2) ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة: 93] . فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى، ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا:"لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين". فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل، إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلهم حين عبدوا العجل، (3) فقال لهم موسى: (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) . قال: فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف. فاجتلد الذين عبدوه   (1) أجلى عن كذا: انكشف عنه. (2) حرق الحديد بالمبرد حرقا، وحرقه (بتشديد الراء) : برده وحك بعضه ببعض. وكذلك جاء عن ابن إسحاق في تاريخ الطبري 1: 220 قال: "سمعت بعض أهل العلم يقول: إنما كان إحراقه سحلة". والسحل: السحق والحك بالمبرد. (3) في المطبوعة: "أن يقاتلوهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدا، حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا، وحتى دعا موسى وهارون (1) ربنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية! (2) ! فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدا، ومن بقي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: (فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) . (3) 938 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (باتخاذكم العجل) ، قال: كان موسى أمر قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر، فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده، فتاب الله عليهم. 939 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"باتخاذكم العجل"، قال: كان أمر موسى قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا، ولا يقتل الرجل أباه ولا أخاه. فبلغ ذلك في ساعة من نهار سبعين ألفا. (4) 940 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) الآية، قال: فصاروا صفين، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فبلغ القتلى ما شاء الله، ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول. 941 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا   (1) في المخطوطة والمطبوعة: " وحتى دعا موسى"، وأثبت ما في التاريخ بحذف واو العطف. (2) البقية: الإبقاء عليهم، يدعوان ربهما أن يبقى بقية، فلا يستأصلهم بقتل أنفسهم. (3) الأثر: 937 - في تاريخ الطبري 1: 219. (4) الأثر: 939 - سقط هذا الأثر كله من المطبوعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف، (1) وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه. حتى إذا فتر، أتاه بعضهم فقالوا: يا نبي الله ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه. (2) فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟، (3) أما من قتل منكم، فحي عندي يرزق؛ وأما من بقي، فقد قبلت توبته! فبشر بذلك موسى بني إسرائيل (4) . 942 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: (فاقتلوا أنفسكم) ، قال: قاموا صفين يقتل بعضهم بعضا، (5) حتى قيل لهم كُفوا. قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي. 943 - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلى بعض، يقتل بعضهم بعضا، ما يترابأ الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نزلت التوبة. (6)   (1) في المطبوعة: "فتضاربوا" وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير 1: 170. وتضارب الرجلان بسيفيهما واضطربا: تجالدا بالسيف، بمعنى واحد. (2) في المطبوعة: "يشدون"، والصواب من المخطوطة وابن كثير. يريد: يسندون يديه وموسى رافع يديه يدعو الله. (3) في المطبوعة: "لا يحزنك"، والصواب من المخطوطة وابن كثير. (4) في المطبوعة وابن كثير: "فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل". (5) في المطبوعة: " فقتل بعضهم بعضا:، ليست بشيء. (6) في المطبوعة"ما يتوقى الرجل"، وفي المخطوطة"ما يترانا". ورابأت فلانا: اتقيته واتقاني ومن مادته: "أربأ بك عن كذا". أي أرفعك عنه ولا أرضاه لك. ويقال: "ما عبأت به ولا ربأت": أي ما باليت به ولا حفلت. فقوله: "ما يترابأ" أي ما يبالي الرجل أن يقتل أخاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 قال ابن جريج، وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفا، ثم رفع الله عز وجل عنهم القتل، وتاب عليهم. قال ابن جريج: قاموا صفين فاقتتلوا بينهم، فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة، وكانت توبة لمن بقي. وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا. 944 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذراه في اليم، (1) وخرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا - سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله! فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده. فجلسوا بالأفنية، وأَصْلَتَ عليهم القوم السيوف، (2) فجعلوا يقتلونهم. وبكى موسى، وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، (3) فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف. (4) 945 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى إلى قومه، وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم. فقالوا: يا موسى، أما من توبة؟ قال: بلى! (اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم)   (1) في صدر هذا الخبر من التاريخ 1: 220 أن إحراق العجل: سحله، كما مضى في ص: 70 تعليق: 1. (2) في المطبوعة: "وسلت القوم عليهم السيوف". وأثبت ما في تاريخ الطبري وابن كثير 1: 170 وأصلت السيف: جرده من غمده. (3) بهش إليه: أقبل عليه وأسرع إليه، وتهيأ للبكاء. (4) الأثر 944 - في تاريخ الطبري 1: 221، وابن كثير 1: 170، وفي التاريخ وحده: "أن يرفع عنهم السيف". هذا، وفي النسخة المخطوطة التي اعتمدناها، خرم من عند قوله في هذا الأثر: "سأل ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة" - إلى أن يأتي قوله: " القول في تأويل قوله تعالى: "ثم بعثناكم من بعد موتكم". وهو أول المجلد الثاني من هذه النسخة، وتدل وثيقة الوقف التي كتبت على ظهر هذا المجلد، أن هذه النسخة مجزأة في اثنين وعشرين جزءا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الآية. فاخترطوا السيوف والجِرَزَة والخناجر والسكاكين. (1) قال: وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري، ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه. (2) وقرأ قول الله جل ثناؤه: (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) [الدخان: 33] . قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم، وقرأ: (فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) . (3) . * * * فالذي ذكرنا -عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها- كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم، بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك. * * * وأما معنى قوله: (فتوبوا إلى بارئكم) ، فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم، وإلى ما يرضيه عنكم، كما: - 946 - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فتوبوا إلى بارئكم) ، أي: إلى خالقكم. * * * وهو من"برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ". و"البرية": الخلق. وهي"فعيلة" بمعنى"مفعولة"، غير أنها لا تهمز. كما لا يهمز"ملك" وهو من"لأك"، لكنه جرى بترك الهمزة كذلك (4) قال نابغة بني ذبيان: إلا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحدُدْها عن الفَنَد   (1) اخترط السيف: سله. والجرزة (بكسر الجيم وفتح الزاي) جمع جرز (بضم فسكون) ، وهو عمود من الحديد، سلاح يقاتل به. (2) في المطبوعة: "صبر حتى يبلغ" بحذف"نفسه". والزيادة من ابن كثير 1: 170 (3) الأثر: 945 - في ابن كثير 1: 170 (4) انظر ما مضى 1: 444 - 447. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 (1) وقد قيل: إن"البرية" إنما لم تهمز لأنها"فعيلة" من"البَرَى"، والبَرَى: التراب. فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب. * * * وقال بعضهم: إنما أخذت"البرية" من قولك"بريت العود". فلذلك لم يهمز. * * * قال أبو جعفر: وترك الهمز من"بارئكم" جائز، والإبدال منها جائز. فإذ كان ذلك جائزا في"باريكم" فغير مستنكر أن تكون"البرية" من:"برى الله الخلق" بترك الهمزة. * * * وأما قوله: (ذلكم خير لكم عند بارئكم) ، فإنه يعني بذلك: توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم، خير لكم عند بارئكم، لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منه. * * * وقوله: (فتاب عليكم) ، أي: بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك. لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم، فتاب عليكم. فترك ذكر قوله:"فتبتم"، إذ كان في قوله: (فتاب عليكم) دلالة بينة على اقتضاء الكلام"فتبتم". * * * ويعني بقوله: (فتاب عيكم) رَجَعَ لكم ربكم إلى ما أحببتم: من العفو عن ذنوبكم وعظيم ما ركبتم، والصفح عن جرمكم، (إنه هو التواب الرحيم) يعني: الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه. ويعني ب"الرحيم"، العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته. * * *   (1) ديوانه: 29، من قصيدته التي قالها يذكر النعمان ويعتذر إليه، وقبل البيت: ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد حَدَدْتُ فلانا عن الشر: منعته وحبسته. والفند: الخطأ في الرأى وفي القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 القول في تأويل قوله تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عِيانا برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا، كما تجهر الرَّكيَّة، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنُقِّي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: (1) "قد جَهَرْتُ الركية أجهرها جهرا وجهرة". (2) ولذلك قيل:"قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا"، (3) " إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب: من اللائي يظل الألف منه ... منيخًا من مخافته جهارا   (1) هذا نص كلام الأخفش (اللسان جهر) . وفي المطبوعة"فنفى ما قد غطاه"، ولا بأس بها، ولكني أثبت ما في اللسان. (2) قوله"وجهرة"، مصدر لم أجده في اللسان ولا في غيره. (3) في المطبوعة: "جهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا"، وليس حسنا أن يقال كذلك. فإن"مجاهرة" لا تكون مصدر"جهر" ألبتة، وإن جاز أن يكون"جهار" مصدرا له كما في اللسان: "جهر بكلامه يجهر جهرا وجهارا". فمن أجل ذلك آثرت أن أضع مكان"جهر""جاهر"، حتى يستقيم على الجادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 (1) 947 - وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (حتى نرى الله جهرة) ، قال: علانية. 948 - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: (حتى نرى الله جهرة) يقول: عيانا. 949 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (حتى نرى الله جهرة) ، حتى يطلع إلينا. 950 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (حتى نرى الله جهرة) ، أي عيانا. فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور، (2) وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله لديهم، (3) وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة. وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا   (1) ديوانه: 443، والنقائض: 255، يهجو جريرا، وقبل البيت: عوى، فأثار أغلب ضيغميا ... فويل ابن المراغة! ما استثارا? قوله"عوى" يعني جريرا. وقوله"من اللائي"، أصله: من اللائين. و"اللاؤون" جمع"الذي" من غير لفظه، بمعنى"الذين". وفيه لغات: اللاؤون، في الرفع، واللائين، في الخفض والنصب. واللاؤو، بلانون، واللائي، بإثبات الياء في كل حال. يستوى فيه الرجال والنساء، ومنه قول عباد بن طهفة، وهو أبو الربيس، شاعر أموي: من النفر اللائي الذين إذا همو ... يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا وأجاز أبو الربيس أن يجمع بين"اللائي" و"الذين"، لاختلاف اللفظين، أو على إلغاء أحدهما. قول الفرزدق:"من اللائي"، يعني: من الذين. ثم قطع القول وحذف، لدلالة الكلام على ما أراد، كأنه قال: هو من الذين عرفت يا جرير. ثم استأنف فقال: يظل الألف منه..، والضمير في"منه" عائد إلى قوله:"أغلب ضيغميا"، هو الأسد، ويعني نفسه. والألف: يعني ألف رجل. وقوله:"منيخا": أي قد أناخ"الألف" ركابهم من مخافته، وقد قطع عليهم الطريق. هذا، ورواية النقائض والديوان:"نهارا" مكان"جهارا" جاء تفسيرها في النقائض:"قال: نهارا، ولم يقل: ليلا، لأن الأسد أكثر شجاعته وقوته بالليل. فيقول: هذا الأسد يظل الألف منه منيخا بالنهار، فكيف بالليل! ". رواية الطبري:"جهارا" قريبة المعنى من رواية من روى"نهارا". وهم يقولون: لقيته جهارا نهارا. لأن النهار يكشف كل شيء ويعلنه ويجهره. أي أناخوا يرونه وهم يرونه رأى العين، وذلك في النهار. (2) ثلجت نفسه بالشيء (بكسر اللام) تثلج وتثلج (بفتح اللام وضمها) ثلوجا: اشتفت واطمأنت وسكنت إليه، ووثقت به. (3) مضى في ص: 58 التعليق على مثل هذه الكلمة، وكانت في المخطوطة: "شيوع آلائه لديهم". وسبوغ النعمة: كمالها وتمامها واتساعها. ولا أزال أستحسن أن تكون هنا"شيوع"، لقوله"لديهم"، فأما إن قال"وسبوغ النعم عليهم"، كما سيأتي في آخر هذه الفقرة، فهي"سبوغ"ولا شك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم. فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم، مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها. فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا -في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره- كأسلافهم وآبائهم الذين فصّل عليهم ققَصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى، مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم. (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) } اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم. فقال بعضهم بما: - 951 - حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فأخذتكم الصاعقة) ، قال: ماتوا. 952 - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فأخذتكم الصاعقة) قال: سمعوا صوتا فصَعِقوا، يقول: فماتوا. * * * وقال آخرون بما: - 953 - حدثني موسى بن هارون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،   (1) انظر التعليق السالف: 77 تعليق: 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 حدثنا أسباط، عن السدي: (فأخذتكم الصاعقة) ، والصاعقة: نار. * * * وقال آخرون بما: - 954 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعا. * * * وأصل"الصاعقة" كل أمر هائل رآه [المرء] أو عاينه أو أصابه - (1) حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، (2) أو فقد بعض آلات الجسم - صوتا كان ذلك أو نارا، أو زلزلة، أو رجفا. ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت، قول الله عز وجل: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف: 143] ، يعني مغشيا عليه، ومنه قول جرير بن عطية: وهل كان الفرزدق غير قرد ... أصابته الصواعق فاستدارا (3) فقد علم أن موسى لم يكن -حين غشي عليه وصعق ميتا، لأن الله   (1) الزيادة بين القوسين من عندي. ليستقيم بها الكلام. (2) قوله"غمور فهم" لم أجد هذا المصدر في كتب اللغة. وكأنه مصدر غمر عليه (بالبناء للمجهول) : أغمى عليه. وفي الحديث أنه أول ما اشتكي بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة، اشتد مرضه حتى غمر عليه - أي: أغمى عليه، حتى كأنه غطى على عقله وستر، من قولهم: غمرت الشيء: إذا سترته، وغشي عليه وأغمي عليه من معنى الستر أيضًا (اللسان، الفائق) . (3) ديوانه: 281، والنقائض: 251 وبعده في هجاء الفرزدق، وهو من أشده: وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بِخَزْيَةٍ وتركت عارا وما أشد ما قال! وقال في النقائض في شرح البيت: "ولغته - يعني جريرا - الصواقع. فاستدار: أي استدار إنسانا بعد أن كان قردا". وكأنه أخطأ المعنى، فإنه أراد أنه مسخ قردا على هيئته التي كان عليها قبل أن يكون إنسانا. فقوله: "استدار": عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" أي عاد كما بدأ. فهو يقول: كان الفرزدق في أصل نشأته قردا، ثم تحول إنسانا، فلما أصابته صواعق شعري عاد كما كان في أصل نشأته قردا صريحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 جل وعز أخبر عنه أنه لما أفاق قال: (تبت إليك) [الأعراف: 143]- ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا. ولكن معنى ذلك ما وصفنا. * * * ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون) ، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم، يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها. * * * القول في تأويل قوله تعالى (1) {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) } يعني بقوله: (ثم بعثناكم) ثم أحييناكم. * * * وأصل"البعث" إثارة الشيء من محله. ومنه قيل:"بعث فلان راحلته" إذا أثارها من مبركها للسير، كما قال الشاعر: فأبعثها وهيَّ صنيعُ حول ... كركن الرَّعنِ، ذِعْلِبَةً وَقاحا (2)   (1) عند هذا انتهى الخرم الذي ذكرناه في ص: 77 وبدأنا المخطوطة. (2) لم أجد البيت في مكان. وقوله: "هي" بتشديد الياء، وهي لغة همدان، يشددون الواو من"هو" كقول القائل. وإن لساني شُهدة يشتفى بها ... وهوَّ، على من صبه الله، علقم ويشدد الياء من"هي" كقول القائل: والنفس ما أمرت بالعنف آبيه ... وهي - إن أمرت باللطف تأتمر والضمير في"أبعثها"إلى ناقته. وقوله:"صنيع حول" أي قد رعت حولا - عاما - حتى سمنت وقويت. يقال صنع فرسه صنعا وصنعة، فهو فرس صنيع، والأنثى بغير هاء: إذا أحسن القيام عليه فغذاه وعلفه وسمنه. وكل ما تعهدته حتى جاد فهو صنيع. والرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما. شبه ناقته في جلالها وقوتها بركن الجبل. ذعلبة: ناقة سريعة باقية على السير. وقاح: صلبة صبور، الذكر والأنثى سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 و"الرعن": منقطع أنف الجبل، و"الذعلبة": الخفيفة، و"الوقاح": الشديدة الحافر أو الخف. ومن ذلك قيل:"بعثت فلانا لحاجتي"، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها. ومن ذلك قيل ليوم القيامة:"يوم البعث"، لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب. * * * يعني بقوله: (من بعد موتكم) ، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم. * * * وقوله: (لعلكم تشكرون) ، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم. وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: (ثم بعثناكم) ثم أحييناكم. * * * وقال آخرون: معنى قوله: (ثم بعثناكم) ، أي بعثناكم أنبياء. 955 - حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي. * * * قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم، وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم، ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون. وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم. 956 - حدثنا بذلك موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي. وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته. والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه، أن يكون معنى قوله: (لعلكم تشكرون) ، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوا له، من قولهم: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ، ما:- 957 - حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه، ورأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، (1) اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم؛ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال له السبعون -فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء ربه: (2) يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، (3) قال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله، (4) ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام. (5) فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ، فأخذتهم   (1) في المخطوطة: "وذراه في البحر". (2) في المطبوعة: " للقاء الله"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. وفي المخطوطة بعد قوله: "ربه": "لموسى"، وأما التاريخ، فلم يذكر"يا موسى"، ولا"لموسى". (3) في المطبوعة: "لنسمع كلام. . " وفي التاريخ: "اطلب لنا نسمع كلام ربنا" بحذف"إلى ربك". (4) في المطبوعة: "وقع عليه الغمام"، وفي التاريخ: "وقع عليه عمود الغمام". (5) في المطبوعة: "فلما فرغ من أمره"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفيها أيضًا: "وانكشف"بزيادة الواو، وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 الرجفة -وهي الصاعقة-[فافتلتت أرواحهم] فماتوا جميعا. (1) وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا؟ (2) -أي: إن هذا لهم هلاك، اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ (إنا هدنا إليك) . فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه، (3) حتى رد إليهم أرواحهم، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. (4) . 958 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا:"لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة"، فإنك قد كلمته فأرناه: فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: (إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) [إلى قوله]   (1) الذي بين القوسين زيادة من تاريخ الطبري، وهي هناك: "فانفلتت أرواحهم"، والصواب ما أثبته. يقال: "افتلتت نفسه" (بالبناء للمجهول) ، مات فلتة، أي بغتة، وفي الحديث: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي افتلتت نفسها، فماتت ولم توص، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم. (2) في التاريخ: "قد سفهوا، فيهلك من ورائي. . . إن هذا لهم هلاك"، بحذف"أي". (3) قوله: "ويسأله" ليست في المطبوعة. (4) الأثر: 957 - في تاريخ الطبري 1: 220 - 221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) [الأعراف: 155-156] . [يقول تبنا إليك] . (1) وذلك قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) . ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك، فادعه يجعلنا أنبياء! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم) ، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا. (2) 959 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال لهم موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم -، (3) : إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت! لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا (4) فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، (5) فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) . فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل   (1) الزيادة التي بين الأقواس من تاريخ الطبري، والأولى منهما زيادة لا بد منها. (2) الأثر: 958 في تاريخ الطبري 1: 221. وقوله: "قدم حرفا وأخر حرفا"، هو ما ذكره في تأويل الآية على ما ذهب إليه السدي (ص: 85) "فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم. .) (3) في المطبوعة: "فقال: إن هذه الألواح. . " (4) في المطبوعة: "يطلع الله علينا". (5) في المطبوعة: "كما يكلمك أنت". وسيأتي على الصواب في رقم: 1115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فوقهم. (1) 960 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم) ، قال: أخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم. 961 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: (فأخذتهم الصاعقة) ، قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) . قال: فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول: ماتوا - فذلك قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم) ، فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم، فبعثوا لبقية آجالهم. * * * فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى، تقوم به حجة فيسلم له. (2) وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه، فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة، فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: (يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ، كما أخبر عنهم أنهم قالوه. وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، توبيخا لهم في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد قامت حجته على من احتج به عليه، ولا حاجة لمن   (1) الأثر: 959 - سيأتي أيضًا رقم: 1115، وفيه تمام الخبر نتقوا الجبل: اقتلعوه من أصله ورفعوه فوقهم. (2) في المطبوعة: "فسلم لهم"، وهو خطأ وتعبير فاسد. وإنما أراد التسليم للخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي قاله الطبري دليل على صحة ما ذكرنا من أنه لم يستدل بهذه الأخبار إلا للبيان عن بعض المعاني، وإن كانت لا تقوم بها الحجة في التفسير، كما قلنا في التذكرة التي كتبناها في الجزء الأول: 453 - 454. وانظر بقية كلام الطبري في هذه الفقرة. فإنه كلام بليغ الدلالة، مفيد في معرفة أسلوب الطبري في تفسيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك. وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها، وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} (وظللنا عليكم الغمام) عطف على قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم) . فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون. * * * و"الغمام" جمع"غمامة"، كما السحاب جمع سحابة،"والغمام" هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين. وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما. (1) * * * وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا. 962 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وظللنا عليكم الغمام) ، قال: ليس بالسحاب. 963 - وحدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وظللنا عليكم الغمام) ، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم. (2) 964 - وحدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: (وظللنا عليكم الغمام) ، قال: هو بمنزلة السحاب. 965 - وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وظللنا عليكم   (1) في المطبوعة: "فإن العرب تسميه". (2) الأثر 963 - في المخطوطة، ساق هذا الأثر إلى قوله"قال: ليس بالسحاب" ثم قال بعده ما نصه: "وبإسناده عن مجاهد قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي. . . " إلى آخر الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الغمام) ، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: (1) (في ظلل من الغمام) [البقرة: 210] ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه. (2) * * * وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطى وجهها عن الناظر إليها، (3) فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل - فوصفه بأنه كان غماما - بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء. * * * وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} اختلف أهل التأويل في صفة"المن". فقال بعضهم بما: - 966 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (وأنزلنا عليكم المن) ، قال: المن صمغة. 967 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن   (1) في المخطوطة: "فيه في قوله" بحذف"يوم القيامة". (2) الضمير في قوله: "وكان"، للغمام. (3) في المطبوعة: "فغطى وجهها" وتلك أجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 968 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) ، يقول: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج. * * * وقال آخرون: هو شراب. * ذكر من قال ذلك: 969 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه. * * * وقال آخرون:"المن"، عسل. * ذكر من قال ذلك: 970 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن: عسل كان ينزل لهم من السماء. 971 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن. * * * وقال آخرون:"المن" الخبز الرقاق. (1) * ذكر من قال ذلك: 972 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما المن؟ قال: خبز الرقاق،، مثل الذرة، ومثل النقي. (2) * * * وقال آخرون:"المن"، الزنجبيل. (3) * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "خبز الرقاق". خبز رقاق رقيق، كطويل وطوال، صفة. وهو خبز منبسط رقيق. (2) الأثر: 972 - بعض أثر سيأتي برقم: 995. وفي المخطوطة: "من الذرة"، وفي ابن كثير كما في المطبوعة، وسيأتي كذلك في رقم: 995. (3) في المطبوعة"الترنجبين"، وكذلك في البغوي"الترنجبين". وفي تاج العروس: "الترنجبين". بالضم، هو المن المذكور في القرآن". وسيأتي ذلك بعد رقم: 977، وهو هنا"الزنجيل" كما في ابن كثير، والمخطوطة. وانظر لسان العرب: (منن) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 973 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: المن كان يسقط على شجر الزنجبيل (1) * * * وقال آخرون:"المن"، هو الذي يسقط على الشجر الذي يأكله الناس. * ذكر من قال ذلك: 974 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاءوا. (2) . 975 - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر في قوله: (وأنزلنا عليكم المن) ، قال: المن: الذي يقع على الشجر. 976 - حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (المن) ، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس. 977 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر. * * * وقد قيل. إن"المن"، هو الترنجبين. * * * وقال بعضهم:"المن"، هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر، وهو حلو كالعسل، وإياه عنى الأعشى -ميمون بن قيس- بقوله:   (1) في المطبوعة"شجر الترنجبين". (2) الأثر: 974 - هو في المخطوطة بعد رقم: 976. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 لو أُطعِموا المن والسلوى مكانَهمُ ... ما أبصر الناس طُعما فيهمُ نجعا (1) وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: 978 - "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". (2) وقال بعضهم:"المن"، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه. * * * وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلا فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه: فرأى الله أنهم بمَضِيعٍ ... لا بذي مَزْرعٍ ولا معمورا (3)   (1) ديوانه: 87 من قصيدة طويلة، يذكر فيها ذا التاج هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، وكانت بنو تميم قد وثبت على مال وطرف كانت تساق إلى كسرى، فأوقع بهم المكعبر الفارسي، والي كسرى على البحرين، وأدخلهم المشقر - وهو حصن بالبحرين - بخديعة خدعهم بها، فقتل رجالهم واستبقى الغلمان. وكلم هوذة بن علي المكعبر يومئذ في مائة من أسرى بني تميم، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، فقال الأعشى، يذكر ما كان من قبل هوذة في بني تميم: سائل تميما به أيام صفقتهم ... لما أتوه أسارى كلهم ضرعا وسط المشقر في عيطاء مظلمة ... لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتنعا لو أُطعموا المن. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فوصف بني تميم بالكفر لنعمته (تاريخ الطبري 2: 132 - 134) . والطعم: ما أكل من الطعام. ونجع الطعام في الإنسان: هنا أكله وتبينت تنميته، واستمرأه وصلح عليه. (2) الحديث: 978 - هكذا رواه الطبري دون إسناد. وقد صدق في أنه تظاهرت به الأخبار. فقد رواه أحمد والشيخان والترمذي، من حديث سعيد بن زيد. ورواه أيضًا أحمد والشيخان وابن ماجه، من حديث أبي سعيد وجابر. ورواه أبو نعيم في الطب، من حديث ابن عباس وعائشة. انظر مثلا، المسند: 1625، 1626. والجامع الصغير: 6463. وزاد المعاد لابن القيم 3: 383. وتفسير ابن كثير 1: 174 - 176، وقد ساق كثيرا من طرقه. (3) ديوانه: 34 - 35. في الأصول والديوان. "ولا مثمورا". مضيع: بموضع ضياع وهوان وهلاك. يقال: هو بدار مضيعة (بفتح الميم وكسر الضاد) ، كأنه فيها ضائع. وهو مفعلة، وطرح التاء منها كما يقولون: المنزل والمنزلة. ومزرع: مصدر ميمي من"زرع" يعني ليس بذي زرع، ومعمور: أي آهل ذهب خرابه. ونصب"ولا معمورا"، عطفا على محل"بذي مزرع"، وهو نصب. وآثرت هذه الكلمة، لأنها هي التي تتفق مع سياقه الشعر، ولأن التحريف في"معمور" و"مثمور" سهل، ولما سترى في شرح البيت الثالث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 فَنَساها عليهم غاديات، ... ومرى مزنهم خلايا وخورا (1) عسلا ناطِفا وماء فراتا ... وحليبا ذا بهجة مثمورا (2) المثمور: الصافي من اللبن (3) . فجعل المن الذي كان ينزل عليهم عسلا ناطفا، والناطف: هو القاطر. (4) . * * *   (1) في المطبوعة: "فعفاها" وفي المخطوطة: "فسناها"، وفي الديوان"فعفاها" ولا معنى لشيء منها، فاستظهرت أن أقرأها من المخطوط"فنساها"، أصلها"فنسأها" مهموزة، كما قالوا: برأ الله الخلق وبراهم بطرح الهمزة. ونسأ الدابة رالإبل ينسؤها نسأ: زجرها وساقها. يقول: ساق عليهم السحاب. غاديات جمع غادية: وهي السحابة التي تنشأ غدوة. ومرى الناقة مريا: مسح ضرعها لتدر. والمزن جمع مزنة: وهي السحابة ذات الماء. وخلايا جمع خلية: وهي الناقة التي خليت للحلب لكرمها وغزارة لبنها. الخور": إبل حمر إلى الغبرة، رقيقات الجلود، طوال الأوبار، لها شعر ينفذ وبرها، وهي أطول من سائر الوبر، فإذا كانت فهي غزار كثيرة اللبن. شبه السحاب الغزير الماء بهذين الضربين من النوق الغزيرة اللبن، يحلب مطرها عليهم حلبا، ثم فصل في البيت التالي أنواع ما نزل عليهم من السماء. (2) ناطف، من نطف ينطف: قطر. وهو مشروح بعد - أي يقطر من السماء. والفرات: أشد الماء عذوبة. ووصف اللبن بأنه ذو بهجة. وهي الحسن والنضارة، لأنه لم يؤخذ زبده، فيرق، وتذهب لمعة الزبد منه، فاستعار البهجة لذلك. أما قوله: "مثمورا"، فهي في المطبوعة "ممرورا"، وفي المخطوطة في الصلب كانت تقرأ "مثمورا" ثم لعب فيها قلم الناسخ في الثاء والميم، ثم كتب هو نفسه في الهامش: "مزمورا"، ثم شرح في طرف الصفحة فقال: "المزمور: الصافي من اللبن". وذلك شيء لا وجود له في كتب اللغة، وقد رأيت أنه كتب في البيت الأول"مثمورا"، ورجحت أن صوابها"معمورا"، ورجحت في هذا البيت أن يكون اختلط عليه حين كتب"مثمورا" فعاد فجعلها"مزمورا". ولم أجد"مثمورا" في كتب اللغة، ولكن يقال: الثمير والثميرة: اللبن الذي ظهر زبده وتحبب قال ابن شميل: إذا مخض رؤي عليه أمثال الحصف في الجلد، ثم يجتمع فيصير زبدا، وما دامت صغارا فهو ثمير. ويقولون: إن لبنك لحسن الثمر، وقد أثمر مخاضك. فكأنه قال: "مثمورا" ويعني"ثميرا"، لأن فعيلا بمعنى مفعول هنا. (3) كانت في المطبوعة"الممرور"، وقد ذكرت في التعليقة، أنها بهامش المخطوطة"المزمور". (4) قوله: "فجعل المن. . . " إلى آخر الجملة ليس في المخطوطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 القول في تأويل قوله تعالى {وَالسَّلْوَى} قال أبو جعفر: و"السلوى" اسم طائر يشبه السُّمانَى، واحده وجِماعه بلفظ واحد، كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة. * ذكر من قال ذلك: 979 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: السلوى طير يشبه السُّمانى. (1) . 980 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان طيرا أكبر من السمانى. 981 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب. 982 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السلوى: طائر. 983 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السلوى طير. 984 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام. (2)   (1) الأثر: 978 - اقتصر في المخطوطة على بعض هذا الإسناد، إلى قوله: عن السدي"، وأسقط الباقي، وهو الإسناد الدائر في تفسيره، فكأن كل إسناد وقف على السدي، هو هذا الإسناد، ثم اجتزأ ببعضه عن جميعه، كما مضى آنفًا، وكما سيأتي بعد. (2) الأثر 984 - بعض أثر سيأتي برقم: 995. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 985 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير. 986 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: السلوى كان طيرا يأتيهم مثل السمانى. 987 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر، قال: السلوى السمانى. 988 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى. 989 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: السلوى السمانى. 990 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك قال: السمانى هو السلوى. * * * فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟ قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. ونحن ذاكرون ما حضرنا منه: - 991 - فحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، (1) وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالسير إلى أريحا، (2) وهي أرض بيت المقدس. فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا. فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه. (3)   (1) في المخطوطة: "على موسى" بحذف"قوم". (2) في المطبوعة: "بالمسير"، وهما سواء. (3) هذا اختصار، وتفصيله في التاريخ في موضعه، كما سيأتي في موضعه من ذكره مراجعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فقال قوم موسى لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) . فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى: (إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) . فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين - أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا؟ أين الطعام؟ فأنزل ألله عليهم المن - فكان يسقط على شجر الترنجبين (1) - والسلوى = وهو طير يشبه السمانى = فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) وقوله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) . [البقرة: 60] (2) 992 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة، (3) وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم   (1) في المخطوطة وحدها: "الزنجبيل". وانظر ما مضى: 92. (2) الأثر: 991 - في تاريخ الطبري 1: 221 - 222. (3) في المخطوطة: "أن يسبق بهم"، وأراد الناسخ أن يصححها في الهامش، فكتب"-" ولم يتمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نزل التيه -بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل (1) - دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام؛ ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المن والسلوى. 993 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس - 994 - وحدثت عن عمار بن الحسن، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع (2) قوله: (وظللنا عليكم الغمام) ، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة، (3) كلما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه. فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة. (4) قال: وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. 995 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل -لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض- شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل عليهم المن - سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو   (1) الخمر (بفتحتين) : كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره. (2) هذا الإسناد الثاني ساقط من المخطوطة. (3) في المخطوطة: "فإذا هو في قدر" مصفحة، وانظر تفسير الطبري 6: 116 - 117، 119 (بولاق) وقوله: "قدر" ليست في المطبوعة. (4) في المخطوطة: "حتى قمرت أربعين سنة" محرفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 مثل النقيّ - (1) قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به. فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى - فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، (2) كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت - (3) قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. (4) قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ (5) قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر! فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فما نبصر! تغشانا الظلمة! (6) فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله، قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديده! قال: يظلكم الله بالغمام. (7) . 996 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فذكر نحو حديث موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي. 997 - حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق   (1) هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: 972 (2) هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: 984 (3) في المطبوعة: "من السبت إلى السبت". (4) الشسع: أحد سيور النعل الذي يدخل بين الإصبعين (5) في المطبوعة: "فإن فينا أولادا". (6) في المطبوعة: "فبم نبصر". (7) الأثر: 995 - إسحاق: هو ابن راهويه الإمام الكبير. إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل ابن منبه الصنعاني: ثقة، مترجم في التهذيب، ترجمة البخاري 1 /1 /367، وابن أبي حاتم 1 / 1 /187. وهو يروي هنا عن عمه: عبد الصمد بن معقل بن منبه، وهو ثقة أيضًا، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /50. وعبد الصمد يروى عن عمه: وهب بن منبه، هذا الأثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 ولا تدرن. (1) قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا. * * * القول في تأويل قوله تعالى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله:"وقلنا لكم"، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) : كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقناكموه. (2) وقد قيل عنى بقوله: (من طيبات ما رزقناكم) : من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا. والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك ب"الطيب"، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح. و"ما" التي مع"رزقناكم"، بمعنى"الذي". كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) } وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى   (1) درن الثوب يدرن درنا فهو درن وأدرن: تلطخ بالوسخ. (2) في المطبوعة: "من مشهيات"، ليست بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، و"ما ظلمونا"، فاكتفى بما ظهر عما ترك. وقوله: (وما ظلمونا) يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ويعني بقوله: (وما ظلمونا) ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. كما: - 999 - حدثنا عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: يضرون. * * * وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل"الظلم": وضع الشيء في غير موضعه - بما فيه الكفاية، فأغنى ذلك عن إعادته. (1) * * * وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص، ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل. * * *   (1) انظر ما مضى 1: 523 - 524، وهذا الجزء 2: 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} و"القرية" -التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس * ذكر الرواية بذلك: 999 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: (ادخلوا هذه القرية) ، قال: بيت المقدس. 1000 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 أسباط، عن السدي: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) أما القرية، فقرية بيت المقدس. 1001 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) ، يعني بيت المقدس. 1002 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته -يعني ابن زيد- عن قوله: (ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم) قال: هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب. وقد بينا معنى"الرغد" فيما مضى من كتابنا، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أما "الباب" الذي أمروا أن يدخلوه، فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس. * ذكر من قال ذلك: 1003 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ادخلوا الباب سجدا) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس. 1004 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.   (1) انظر ما مضى 1: 515 - 516. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 1005 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وادخلوا الباب سجدا) ، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس. 1006 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وادخلوا الباب سجدا) أنه أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: (سجدا) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع. 1007 - حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا) ، قال: ركعا من باب صغير. 1008 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا) ، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا. * * * قال أبو جعفر: وأصل"السجود" الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو"ساجد". ومنه قول الشاعر: (1) بجَمْع تضل البُلْقُ في حَجَراته ... ترى الأكْم منه سجدا للحوافر (2)   (1) هو زيد الخيل بن مهلهل الطائي، الفارس المشهور. (2) سيأتي بعد في هذا الجزء 1: 289 (بولاق) ، والكامل 1: 258، والمعاني الكبير: 890، والأضداد لابن الأنباري: 256، وحماسة ابن الشجري: 19، ومجموعة المعاني: 192، وغيرها. والباء في قوله "بجمع" متعلقة ببيت سالف هو: بَنِي عَامِرٍ، هَلْ تَعْرِفُونَ إِذَا غَدَا ... أَبُو مِكْنَفٍ قَدْ شَدَّ عَقْدَ الدَّوَابِرِ? والبلق جمع أبلق وبلقاء: الفرس يرتفع تحجيلها إلى الفخذين. والحجرات جمع حجرة (بفتح فسكون) : الناحية. والأكم (بضم فسكون، وأصلها بضمتين) جمع إكام، جمع أكمة: وهي تل يكون أشد ارتفاعا مما حوله، دون الجبل، غليظ فيه حجارة. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير: "يقول: إذا ضلت البلق فيه مع شهرتها فلم تعرف، فغيرها أحرى أن يضل. يصف كثرة الجيش، ويريد أن الأكم قد خشعت من وقع الحوافر". وفي المطبوعة هنا "فيه" والجيد ما أثبته، والضمير في "منه" للجيش أو الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 يعني بقوله:"سجدا" خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة: يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا (1) فذلك تأويل ابن عباس قوله: (سجدا) ركعا، لأن الراكع منحن، وإن كان الساجد أشد انحناء منه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} وتأويل قوله: (حطة) ، فعلة، من قول القائل:"حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة"، بمنزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت. * * * واختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. * ذكر من قال ذلك: (2) 1009 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: (وقولوا حطة) ، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا. 1010 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وقولوا   (1) ديوانه: 41، وسيأتي في 18: 28 (بولاق) ، ومعه بيت آخر في 14: 82 (بولاق) راوح يراوح مراوحة: عمل عملين في عمل، يعمل ذامرة وذا مرة، قال لبيد يصف فرسا. وولّى عامدا لِطِيات فَلْج ... يراوح بين صون وابتذال وقوله: "من صلوات""من" هنا لبيان الجنس، مثل قوله تعالى: يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق". وحذف"بين" التي تقتضيها"يراوح"، لدلالة ما يأتي عليها، وهو قوله: "طورا. . وطورا". والجؤار: رفع الصوت بالدعاء مع تضرع واستغاثة وجزع. جأر إلى ربه يجأر جؤارا. (2) في المطبوعة: "ذلك منهم" بالزيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 حطة) ، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم. (1) 1011 - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (قولوا حطة) قال: يحط عنكم خطاياكم. 1012 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: (حطة) ، مغفرة. 10113 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (حطة) ، قال: يحط عنكم خطاياكم. 1014 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله: (وقولوا حطة) ، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا"لا إله إلا الله"، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول لا إله إلا الله. * ذكر من قال ذلك: 1015 - حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر، قال حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: (وقولوا حطة) ، قال: قولوا،"لا إله إلا الله". * * * وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار. * ذكر من قال ذلك: 1016 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وقولوا حطة) قال: أمروا أن يستغفروا. * * *   (1) في المطبوعة: "وخطاياكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وقال آخرون نظير قول عكرمة، إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم. * ذكر من قال ذلك: 1017 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقولوا حطة) ، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم. * * * واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت "الحطة". فقال بعض نحويي البصرة: رفعت"الحطة" بمعنى"قولوا" ليكن منك حطة لذنوبنا، كما تقول للرجل: سَمْعُك. وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة، وفرض عليهم قيلها كذلك. وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت"الحطة" بضمير"هذه"، كأنه قال: وقولوا:"هذه" حطة. (1) وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة، فتكون"حطة" حينئذ خبرا لـ "ما". * * * قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع"حطة" بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا الباب سجدا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله: (وادخلوا الباب سجدا) ، كما قال جل ثناؤه:   (1) الضمير: المضمر أو الإضمار، كما سلف في 1: 427 تعليق: 1، وقد رأينا أيضًا في كلام نقله الشريف المرتضى في أماليه 1: 334 عن أبي بكر بن الأنباري قال: "كاد، لا تضمر، ولابد من أن يكون منطوقا بها، ولو جاز ضميرها لجاز: قام عبد الله، بمعنى كاد عبد الله يقوم. . . "، وهي هنا بمعنى الإضمار لا شك. وسيأتي في الفقرة التالية أيضًا، بمعنى المضمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) [الأعراف: 164] ، (1) يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. فكذلك عندي تأويل قوله: (وقولوا حطة) ، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا. (2) قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في"حطة"، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا:"لا إله إلا الله"، أو أن يقولوا:"نستغفر الله"، فقد قيل لهم: قولوا هذا القول، ف"قولوا" واقع حينئذ على"الحطة"، لأن"الحطة" على قول عكرمة - هي قول"لا إله إلا الله"، وإذا كانت هي قول"لا إله إلا الله"، فالقول عليها واقع، كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له:"قل خيرا" نصبا، ولم يكن صوابا أن يقول له:"قل خير"، إلا على استكراه شديد. وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع"الحطة" (3) بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: (وقولوا حطة) . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: (وقولوا حطة) ، (4) أن تكون القراءة في"حطة" نصبا. لأن من شأن العرب -إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر: (5)   (1) قراءتنا: "معذرة" بالنصب في مصاحفنا. وقد ذكر الطبري في تفسير الآية 9: 63 (بولاق) أن الرفع قراءة عامة قراء الحجاز والكوفة والبصرة، وقرأ بعض أهل الكوفة"معذرة" بالنصب (2) من هنا أول جزء في التجزئة القديمة التي نقل عنها كاتب مخطوطتنا. وأولها: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك (3) في المطبوعة"القراء"، كما جرت عليه في كل ما مضى (4) انظر رقم: 1010 فيما سلف. (5) هو الفرزدق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 أبيدوا بأيدي عصبة وسيوفهم ... على أمهات الهام ضربا شآميا (1) وكقول القائل للرجل:"سمعا وطاعة" بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة، وكما قال جل ثناؤه: (معاذ الله) [يوسف: 23] بمعنى: نعوذ بالله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ} يعني بقوله: (نغفر لكم) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها. * * * وأصل "الغفر" التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس"مغفر"، لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله"غمد السيف"، وهو ما تغمده فواراه. (2) ولذلك قيل لزئبر الثوب: "غفرة"، لتغطيته الثوب، (3) وحوله بين الناظر والنظر إليه. ومنه قول أوس بن حجر:   (1) ديوانه: 890 في قصيدة يمدح فيها يزيد عبد الملك، ويذكر إيقاعه بيزيد بن المهلب في سنة 102 (انظر خبره في تاريخ الطبري 8: 151 - 160) . ورواية ديوانه. "أناخوا بأيدى طاعة، وسيوفهم" قوله:"أناخوا"، أي ذلوا وخضعوا، أو صرعوا فماتوا، كأنهم إبل أناخت واستقرت. وقوله:"أيدي طاعة"، أي أهل طاعة. (2) في المطبوعة "ومنه غمد السيف"، وهذا يجعل الكلام مضطربا مقحما، فرجح عندي أن تكون"ومنه"، و"مثله" لأنه فسر"نغفر" بقوله"نتغمد". وفي المطبوعة:" ما يغمده فيواريه"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة:"غفر". والغفر جمع غفرة، وزئبر الثوب: هو ما يعلو الثوب الجديد من مائه، كالذي يعلو القطيفة والخز، ويسمونه"درز الثوب" أيضًا. وفي المطبوعة:"لتغطيته العورة.. والنظر إليها"، وهي عبارة غريبة فاسدة، والذي في المخطوطة"لتغطيته الثوب" كما أثبتناها، يعني الزئبر كما وصفنا. ويقال غفر الثوب: إذا أثار زئبره، يكون كالمنتفش على وجه الثوب. هذا، وقد انتهت المخطوطة التي اعتمدنا عند قوله:"لتغطية الثوب". ويأتي بعدها خرم طويل سيستغرق أجزاء برمتها، كما سنبينه في مواضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فلا أعتب ابن العم إن كان جاهلا ... وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا (1) يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {خَطَايَاكُمْ} و"الخطايا" جمع"خطية" بغير همز، كما"المطايا" جمع"مطية"، والحشايا جمع حشية. وإنما ترك جمع"الخطايا" بالهمز، لأن ترك الهمز في"خطيئة" أكثر من الهمز، فجمع على"خطايا"، على أن واحدتها غير مهموزة. ولو كانت"الخطايا" مجموعة على"خطيئة" بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل، وصحيفة وصحائف. وقد تجمع"خطيئة" بالتاء، فيهمز فيقال"خطيئات". و"الخطيئة" فعيلة، من " خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ "، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر: (2) وإن مُهَاجِرَيْن تَكَنَّفاه ... لعمر الله قد خطئا وخابا (3) يعني: أضلا الحق وأثما. * * *   (1) ديوانه، قصيدة" 31. وهذه الرواية جاءت في شرح شواهد المغني: 137، وأما في سائر الكتب:"إن كان ظالما"، وهي أجود. وقوله:"أجهل" بمعنى جاهل، كما قالوا"أوجل" بمعنى وجل، وأميل بمعنى مائل، وأوحد بمعنى واحد، وغيرها. ورواية صدر البيت على الصواب:"ألا أعتب" كما في المفضليات 590 وغيره، أو"وقد أعتب" كما في القرطين 2: 69. ويروى"ولا أشتم ابن العم". يقول: أبلغ رضاه إذا ظلم او جهل، فأترك له ما لا يحب إلى ما يرضاه. (2) هو أمية بن الأسكر (طبقات فحول الشعراء: 159 - 160) (3) أمالي القالي 3: 109، وكتاب المعمرين: 68 والخزانة 2: 405، ويروى صدره"أتاه مهاجران تكنفاه". وأما عجزه فاختلفت رواياته: "بترك كبيرة خطئا. . " و"ليترك شيخه خطئا. . "، "ففارق شيخه،. . " وكان أمية قد أسن، عمر في الجاهلية عمرا طويلا، وألفاه الإسلام هرما. ثم جاء زمن عمر، فخرج ابنه كلاب غازيا، وتركه هامة اليوم أو غد. فقال أبياتا منها هذا للبيت، فلما سمعها عمر، كتب إلى سعد بن أبي وقاص: أن رحل كلاب بن أمية بن الأسكر، فرحله. وله مع عمر في هذه الحادثة قصة جيدة (في القالي 1: 109) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) } وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس، وهو ما:- 1018 - حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (وسنزيد المحسنين) ، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته. فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعا عليكم بغير حساب؛ وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه، ونحط أوزاره عنه، وسنزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياته وعبره، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، ومعلمهم أنهم إن تعدوا (1) في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم، وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم، وقص علينا أنباءهم في   (1) سياق الجملة: ". . إن تعدوا. . أن يكونوا"، و"إن" هنا، نافية بمعنى"ما"، كالتي في قوله: "قل إن أدري أقريب ما توعدون"، وقوله: "إن أدري لعله فتنة لكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 هذه الآيات، فقال جل ثناؤه: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) الآية. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وتأويل قوله: (فبدل) ، فغير. ويعني بقوله: (الذين ظلموا) ، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله. ويعني بقوله: (قولا غير الذي قيل لهم) ، بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه. وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم. وكان تبديلهم - بالقول الذي أمروا أن يقولوا - قولا غيره، (1) ما:- 1019 - حدثنا به الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله لبني إسرائيل:"ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم"، فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعيرة. (2) 1020 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد قالا حدثنا محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:- 1021 - وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد   (1) قوله: "قولا" مفعول"تبديلهم". وأما خبر"كان" فهو قوله: "ما حدثنا به الحسن. . . ". (2) الحديث: 1019 - رواه أحمد في المسند: 8213 (ج 2 ص 318 حلبي) ، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد، ولكن بلفظ"حبة في شعرة". وكذلك رواه البخاري 6: 312، و8: 228- 229 (فتح الباري) ، من طريق عبد الرازق. وذكر الحافظ (8: 229) أن لفظ "شعرة" رواية أكثر رواة البخاري، وأن رواية الكشميهني"شعيرة". وذكره ابن كثير 1: 180، ونسبه أيضًا لمسلم والترمذي، من رواية عبد الرزاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا - يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة في شعيرة. (1) 1022 - وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (حطة) ، قال: بدلوا فقالوا: حبة. (2) 1023 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي سعيد، عن أبي الكنود، عن عبد الله: (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. فأنزل الله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . 1024 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا) قال: ركوعا - من باب صغير، فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم ويقولون: حنطة. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . 1025 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس قال: أمروا   (1) الحديث: 1020، 1021 - هو الحديث السابق، ولكن رواه الطبري هنا بإسنادين. أحدهما صحيح متصل، والآخر ضعيف فيه راو مبهم بين ابن إسحاق ومحمد ابن أبي محمد. صالح بن كيسان المدني: تابعي ثقة. وصالح مولى التوأمة: هو ابن نبهان، وهو ثقة أيضًا، إلا أنه تغير بأخرة، فمن روى عنه قديما فحديثه صحيح. وصالح بن كيسان قديم، وهو بلديه، فالراجح أن يكون ممن سمع منه قبل تغيره. (2) الحديث: 1022 - هو مختصر من الحديث: 1019. وقد رواه أحمد في المسند: 8095 (ج 2 ص 312 حلبي) عن يحيى بن آدم، عن ابن المبارك، بهذا الإسناد، مطولا. وكذلك رواه البخاري 8: 125 (فتح الباري) ، مطولا، من طريق عبد الرحمن بن مهدي. عن ابن المبارك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 أن يدخلوا ركعا ويقولوا: حطة. قال أمروا أن يستغفروا، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حنطة - يستهزئون. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . 1026 - حدثنا الحسن بن يحيي قال، أنبأنا عبد الرازق قال، أنبأنا معمر، عن قتادة والحسن: (ادخلوا الباب سجدا) قالا دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها، فدخلوها متزحفين على أوراكهم، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، فقالوا حبة في شعيرة. 1027 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي. قال، حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حطة، وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة. (1) 1028 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا: حطة. وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم، فلم يسجدوا ودخلوا على أستاهم إلى الجبل -وهو الجبل الذي تجلى له ربه- وقالوا: حنطة. فذلك التبديل الذ قال الله عز وجل: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . (2) 1029 - حدثني موسى بن هارون الهمداني [قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة الهمداني] ،عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا:" هطى سمقا يا ازبة هزبا"، وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . 1030 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش،   (1) الأثر: 1027. سيأتي تمامه في رقم: 1116. (2) الأثر: 1028 - انظر ما سيأتي رقم: 1117، فهو منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وادخلوا الباب سجدا) قال: فدخلوا على أستاهم مقنعي رءوسهم. 1031 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي عن النضر بن عدي، عن عكرمة: (وادخلوا الباب سجدا) فدخلوا مقنعي رءوسهم - (وقولوا حطة) فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . 1032 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) ، قال: فكان سجود أحدهم على خده. و (قولوا حطة) نحط عنكم خطاياكم، فقالوا: حنطة. وقال بعضهم: حبة في شعيرة، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. 1033 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزءوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حطة حطة!! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة. 1034 - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة. 1035 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي سعد بن محمد بن الحسن قال، أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما دخلوا الباب قالوا: حبة في شعيرة،"فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم". * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} يعني بقوله: (فأنزلنا على الذين ظلموا) ، = على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من تبديلهم القول - الذي أمرهم الله جل وعز أن يقولوه - قولا غيره، ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به، وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه، = (رجزا من السماء بما كانوا ينسقون) . * * * و" الرِّجز " في لغة العرب، العذاب، وهو غير " الرُّجز ". (1) وذلك أن الرِّجز: البثر، (2) ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال:"إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم". 1036 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذا الوجع -أو السقم- رجز عذب له بعض الأمم قبلكم". (3) 1037 - وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة قال، حدثنا عمر بن حفص قال، حدثنا أبي، عن الشيباني، عن رياح بن عبيدة، عن عامر بن سعد قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى   (1) الرجز (بضم فسكون) ، وهو الذي جاء في قوله تعالى في سورة المدثر: "والرجز فاهجر". وذكر الطبري فرق ما بينهما في 29: 92 (بولاق) فقال: "الرجز بضم الراء. . . الأوثان" (2) البثر: خراج صغار، كالذي يكون من الطاعون والجدري. (3) الحديث: 1036 - إسناده صحيح. وقد ذكره ابن كثير 1: 182، وقال: "وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين، من حديث الزهري، ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم أبي النضر - عن عامر بن سعد، بنحوه". ورواه أحمد في المسند، من طريق الزهري (5: 207 - 208 حلبي) . ورواية أيضًا (5: 209) ، من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن أسامة بن زيد، مطولا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 الله عليه وسلم: إن الطاعون رجز أنزل على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل. (1) * * * وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1038 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (رجزا) ، قال: عذابا. 1039 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) ، قال: الرجز، الغضب. 1040 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعز عليهم الطاعون، فلم يبق منهم أحدا. وقرأ: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) ، قال: وبقي الأبناء = ففيهم الفضل والعبادة -التي توصف في بني إسرائيل- والخير = وهلك الأباء كلهم، أهلكهم الطاعون. 1041 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: االرِّجز العذاب. وكل شيء في القرآن" رِجز "، فهو عذاب.   (1) الحديث 1037 - وهذا إسناد آخر صحيح، للحديث السابق. أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة: هو"إبراهيم بن عبد الله بن محمد"، وهو ثقة، روى عنه أيضًا النسائي وأبو زرعة وأبو حاتم، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 /1/ 110. عمر بن حفص بن غياث: ثقة، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين. أبوه حفص بن غياث: ثقة مأمون، معروف، أخرج له الجماعة. الشيباني: هو أبو إسحاق، سليمان بن أبي سليمان، ثقة حجة. رياح بن عبيدة: هو بكسر الراء وفتح الياء التحتية المخففة، ووقع في المطبوعة"رباح" بالوحدة، وهو تصحيف. و"عبيدة" بفتح العين وكسر الباء الموحدة، ورياح هذا بصري ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة، وهو مترجم في التهذيب 3: 299 - 300، والكبير للبخاري 2 / 1 /300، وابن أبي حاتم 1 / 2 /511، والمشتبه للذهبي، ص: 212. وهو غير"رياح بن عبيدة السلمى الكوفي"، فرق بينهما المزى في التهذيب. والذهبي في المشتبه. وأنكر الحافظ ابن حجر ذلك على المزى، ولكنه تبع الذهبي في تبصير المنتبه، ولم يعقب عليه، وهو الصواب، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 1042 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (رجزا) ، قال: كل شيء في كتاب الله من " الرِّجز " يعني به العذاب. * * * وقد دللنا على أن تأويل " الرِّجز" العذاب. وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء. وجائز أن يكون ذلك طاعونا، وجائز أن يكون غيره. ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، (1) أي أصناف ذلك كان. فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنزلنا عليهم رجزا من السماء بفسقهم. غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الطاعون أنه رجز، وأنه عذب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا به، كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) } وقد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى"الفسق"، الخروج من الشيء. (2)   (1) انظر تفسير قوله"ظاهر القرآن" فيما مضى: 2: 15 والمراجع. (2) انظر ما سلف 1: 409 - 410، وقد ذكر الآية هناك في أثر عن ابن عباس، فيه: "أي بما بعدوا عن امري"، (ص 410) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 فتأويل قوله: (بما كانوا يفسقون) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل، فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} يعني بقوله: (وإذ استسقى موسى لقومه) ، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسئول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، (1) إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك. وكذلك قوله: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) ، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فضربه، فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه. وكذلك قوله: (قد علم كل أناس مشربهم) ، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم. فترك ذكر"منهم" لدلالة الكلام عليه. * * * وقد دللنا فيما مضى على أن"أناس" جمع لا واحد له من لفظه، (2) وأن"الإنسان" لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية. (3) * * *   (1) قوله" والمعنى الذي سأل موسى"، يعني"والشيء" وهو الماء (2) في المطبوعة: "ان الناس جمع لا واحد له"، وقد مضى ذلك، ولكنه هنا أراد"أناس"، المذكور في الآية، وهو أيضًا جمع لا واحد له من لفظه، وإن قال بعضهم إنه جمع إنس (3) انظر ما سلف 1: 268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات. وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه، كما:- 1043 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ، فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه. فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم. 1044 - حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون، لكل سبط عين؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول. (1) . 1045 - حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه. ضرب لهم موسى الحجر، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها. 1046 - وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) لكل سبط منهم عين. كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا. 1047 - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج   (1) المنقلة: المرحلة من مراحل السفر، والجمع مناقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه) ، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا، ضربه موسى. قال ابن جريج: قال ابن عباس:"الأسباط" بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس. (1) 1048 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا، (2) ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين، فكان بنو إسرائيل يشربون منه، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون، وقيل به فألقى في جانب الجوالق (3) . فإذا نزل رمى به، فقرعه بالعصا، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر. 1049 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط، عن السدي قال: كان ذلك في التيه. * * * وأما قوله: (قد علم كل أناس مشربهم) ، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم -في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- (4) من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل. وذلك   (1) في المطبوعة: "ولد سبطا وأمة من الناس"، والصواب حذف واو العطف فإن قوله "أمة من الناس" تفسير قوله"سبطا". (2) الجوالق: وعاء كبير منسوج من صوف أو شعر، تحمل فيه الأطعمة، وهو الذي نسميه في بلادنا"الشوال" محرفة من"الجوالق". (3) "قيل به" مبني للمجهول من"قال به". وقال بالشيء: رفعه أو حمله. والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان. يقولون: قال برجله: إذا بدأ يتقدم ومشى، أو إذا أشار بها للركل. ويقولون: قال بالماء على يده أي قلبه وصبه. وما أشبه ذلك. وقد مضى مثل ذلك آنفًا ص 54 تعليق: 3، ص: 64 تعليق: 4. (4) سياق الجملة "لأن معناهم. . من الشرب، كالذي مخالفا معاني"، وفصل كعادته فيما بينا مرارا. يعني لأن شربهم كان مخالفا شرب سائر الناس. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس. إذ كان غيرهم -في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) ، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، (1) الذي لا قرار له في الأرض، ولا سبيل إليه [إلا] لمالكيه، (2) يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام. ثم تقدم جل ذكره إليهم (3) - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما   (1) الحجر المتعاور: الحجر المتبادل، ينقل من يد إلى يد. من تعاوروا الشيء: إذا تبادلوه، ولا يتعاور شيء حتى يكون منقولا، أما الثابت فلا يتعاوره الناس ولا يتبادلونه. (2) في المطبوعة: "لا سبيل إليه لمالكيه"، وهو كلام بلا معنى. والصواب ما أثبتناه بزيادة"إلا" ويدل على صواب ذلك ما مضى منذ قليل في تفسير ما سبق من الآية. (3) تقدم إليه بكذا: إذا أمره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا، والعَثَا فيها استكبارا، فقال جل ثناؤه لهم: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) } يعني بقوله: (لا تعثوا) لا تطغوا، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. كما:- 1050 - حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا. 1051 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) لا تعث: لا تطغ. 1052 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين. 1053 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، لا تسعوا في الأرض. وأصل " العَثَا " شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد. (1) يقال منه: عَثِيَ فلان في الأرض" -إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته-"يعثى عثا" مقصور، وللجماعة: هم يعثون. وفيه لغتان أخريان، إحداهما: "عثا يعثو عُثُوّا ". ومن قرأها بهذه اللغة، فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من"يعثو"، ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته   (1) العثا: مصدر: عثى يعثى، كرضى يرضى، وهي لغة الحجاز. ولم أجد هذا المصدر إلا في تاج العروس. ولست أعلم أهو بفتح العين ام بكسرها. ولكني أستظهر أن يكون فتح العين هو الأرجح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 قرأ به. (1) ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال:"عثوت أعثو"، ومن نطق باللغة الأولى قال: عَثِيت أَعْثَى". والأخرى منهما:"عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا، كل ذلك بمعنى واحد. ومن"العيث" قول رؤبة بن العجاج: وعاث فينا مستحل عائث: ... مُصَدِّق أو تاجر مقاعث (2) يعني بقوله:"عاث فينا"، أفسد فينا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} قد دللنا -فيما مضى قبل- على معنى "الصبر" وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. (3) فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم -يا معشر بني إسرائيل-: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك"الطعام الواحد"، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو"السلوى"   (1) "القراءة سنة، ولا يقرأ بما قرأ به القراء". لسان العرب (عثى) . (2) ديوانه" 30. مستحل: قد استحل أموالهم واستباحها. والمصدق: هو العامل الذي يقبض زكاة أموال الناس، وهو وكيل الفقراء في القبض، وله أن يتصرف لهم بما يؤديه إليه اجتهاده، فربما جار إذا لم يكن من أهل الورع. قعث الشيء يقعثه: استأصله واستوعبه. وقعثه فانقعث: إذا قلعه من أصله فانقلع. ولم تذكر معاجم اللغة: " قاعث فهو مقاعث"، ولكنه لما أراد أن التاجر يأتي بظلمه وجوره وإغلائه السعر، فيستأصل أموال الناس ويقتلعها، والناس يدافعونه عن أموالهم - اشتق له من المفاعلة التي تكون بين اثنين: "قاعث فهو مقاعث"، أي يحاول استئصال أموال الناس، والناس يدافعونه عن أموالهم. (3) انظر ما مضى في هذا الجزء 2: 11 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو"الخبز النقي مع اللحم" - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى. * * * وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا، ما: - 1054 - حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فسألوه موسى. فقال الله تعالى: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) . 1055 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لن نصبر على طعام واحد) ، قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك، قالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها) الآية. 1056 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) ، قال: كان طعامهم السلوى، وشرابهم المن، فسألوا ما ذكر، فقيل لهم: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) . * * * قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها، فقالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) ، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر. 1057 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: (لن نصبر على طعام واحد) ، المن والسلوى، فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه. 1058 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله سواء. 1059 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بمثله. 1060 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا، فملوا ذلك وقالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) . 1061 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا، وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينزل لهم من السماء يقال له المن، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره. فقالوا: يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها"، فقرأ حتى بلغ: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) . * * * وإنما قال جل ذكره: (يخرج لنا مما تنبت الأرض) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض، فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن"من" تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها، فاكتفي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام" يريد شيئا منه. وقد قال بعضهم:"من" ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط. كأن معنى الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد على ذلك بقول العرب:"ما رأيت من أحد" بمعنى: ما رأيت أحدا، وبقول الله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [البقرة: 271] ، وبقولهم:"قد كان من حديث، فخل عني حتى أذهب"، يريدون: قد كان حديث. وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون"من" بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام، وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه، وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم. فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر"من" (1) -: فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها. * * * و"البقل" و"القثاء" و"العدس" و"البصل"، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها. * * * وأما"الفوم"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز. * ذكر من قال ذلك: 1062 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: الفوم:، الخبز. 1063 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد قوله: (وفومها) قالا خبزها. 1064 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفومها) ، قال: الخبز.   (1) في المطبوعة: "على ما وصفنا من أمر من ذكرنا"، و"ذكرنا" زائدة ولا شك، كما تبين من سياق كلامه السالف والآتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 1065 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس. 1066 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن بمثله. 1067 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: (وفومها) قال: الحنطة. 1068 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: (وفومها) ، الحنطة. 1069 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن وحصين، عن أبي مالك في قوله: (وفومها) ، الحنطة. 1070 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه. 1071 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله: (وفومها) ، قال: خبزها، قالها مجاهد. 1072 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز. 1073 - حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (وفومها) يقول: الحنطة والخبز. 1074 - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وفومها) قال: هو البر بعينه، الحنطة. 1075 - حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله عز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وجل: (وفومها) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم. (1) 1076 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور، عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: (وفومها) ، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاحح وهو يقول: قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... وَرَد المدينة عن زراعة فوم (2) * * * وقال آخرون: هو الثوم. * ذكر من قال ذلك: 1077 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد قال: هو هذا الثوم. 1078 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفوم، الثوم. * * * وهو في بعض القراءات"وثومها". * * *   (1) الحديث: 1075 - مسلم الجرمي: سبق أن رجحنا في: 154، 649، 846 أنه"الجرمي" بالجيم. وقد ثبت هنا في المطبوعة بالجيم على ما رجحنا. رشدين - بكسر الراء وسكون الشين المعجمعة وكسر الدال المهملة - بن كريب: ضعيف، بينا القول في ضعفه في شرح المسند: 2571. وأبوه، كريب بن أبي مسلم: تابعي ثقة. (2) الحديث: 1076 - عبد الرحمن بن عبد الحكم المصري: ثقة، كان من أهل الحديث عالما بالتواريخ، صنف تاريخ مصر وغيره، كما في التهذيب، مات سنة 257. وهو مؤلف كتاب (فتوح مصر) المطبوع في أوربة. شيخه عبد العزيز بن منصور: لم أجد له ذكرا فيما بين يدي من المراجع، إلا في فتوح مصر، ص 40 س 7 - 8 قال ابن عبد الحكم هناك:"حدثنا عبد العزيز بن منصور اليحصبى، عن عاصم بن حكيم.." وشيخه، نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة المعروفين وهو لم يدرك ابن عباس، إنما يروي عن التابعين، وله ترجمة في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 8، وابن أبي حاتم 4 / 1 /456 - 457، وتاريخ إصبهان لأبي نعيم 2: 326 - 327. والبيت في اللسان (فوم) ، ونسبه لأبي محجن الثقفي، أنشده الأخفش له، وروايته: قد كنت أحسبني كأغنى واحد ... نزل المدينة. . . وفي الروض الأنف 2: 45 نسبه لأحيحة، أو لأبي محجن، ورواه"سكن المدينة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا"فوما" من اللغة القديمة. حكي سماعا من أهل هذه اللغة:"فوموا لنا"، بمعنى اختبزوا لنا. * * * وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود:"وثومها" بالثاء. (1) فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم:"وقعوا في عاثور شر: وعافور شر" وكقولهم""للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير" وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و"المغافير" شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} يعني بقوله: (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) ، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم. * * * وأصل"الاستبدال": هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك. * * * ومعنى قوله: (أدنى) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا. وأصله من قولهم:"هذا رجل دني بين الدناءة" و"إنه ليدنِّي في الأمور" بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم. يقولون:"ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ، (2) وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى (3)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 41 (2) هذا كله من قول الفراء في معاني القرآن 1: 42. وكان في المطبوعة"ما كنت دنيا"، والصواب ما أثبته من كتاب الفراء. (3) الذي سمع هذا هو الفراء. انظر معاني القرآن له 1: 42، والطبري يجهله دائما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 باسلةُ الوقعِ سرابيلها ... بيض إلى دانِئِها الظاهر (1) بهمز الدانئ، وأنه سمعهم يقولون:"إنه لدانئ خبيث" بالهمز. (2) فإن كان ذلك عنهم صحيحا، فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى. * * * ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش الرفيع منه. * * * وقد تأول بعضهم قوله: (الذي هو أدنى) بمعنى: الذي هو أقرب، ووجه قوله: (أدنى) ، إلى أنه أفعل من"الدنو" الذي هو بمعنى القرب. * * * وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (الذي هو أدنى) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله. * ذكر من قال ذلك: 1079 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) ، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه. 1080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج   (1) ديوانه: 108، وروايته"إلى جانبه الظاهر". يصف حصنا. قال قبل: في مجدل شيد بنيانه ... يزل عنه ظفر الطائر يجمع خضراء لها سورة ... تعصف بالدارع والحاسر باسلة الوقع. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والضمير في قوله:"سرابيلها" راجع إلى"خضراء" يقال: كتيبة خضراء، وهي التي غلب عليها لبس الحديد وعلاها سواده، والخضرة سواد عندهم. والسرابيل هنا: الدروع، جمع سربال: وهو كل ما لبس كالدرع وغيره. وقال الفراء:"يعني الدروع على خاصتها - يعني الكتيبة - إلى الخسيس منها". كأنه أراد: يلبسون الدروع من شريف إلى خسيس. وأما رواية الديوان: فالضمير في"جانبه"، راجع إلى"المجدل" وهي أبين الروايتين معنى وأصحهما. (2) في معاني الفراء زيادة بين قوسين من بعض النسخ: [إذا كان ماجنا] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (الذي هو أدنى) قال: أردأ. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له، فقلنا لهم:"اهبطوا مصرا"، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه. * * * وقد دللنا -فيما مضى- على أن معنى"الهبوط" إلى المكان، إنما هو النزول إليه والحلول به. (1) * * * فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) . * * * ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله (2) (مصرا) فقرأه عامة القَرَأَة: "مصرا" بتنوين"المصر" وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نونوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه. فتأويله -على قراءتهم-: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم -إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك   (1) انظر ما مضى 1: 534. (2) في المطبوعة: "الفراء"، ورددناها إلى الذي جرى عليه لفظ الطبري فيما سلف، في كل المواضع التي جروا على تبديلها من"قرأة"، إلى"قراء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 بالإجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده:"اهبطوا مصرا" البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي"مصر" التي خرجوا عنها. غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف، لأن في المصحف ألفا ثابتة في"مصر"، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: (قواريرا قواريرا من فضة) [الإنسان: 15-16] منونة اتباعا منه خط المصحف. وأما الذي لم ينون"مصر" فإنه لا شك أنه عنى"مصر" التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها. (1) * * * وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته. 1081 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (اهبطوا مصرا) ، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم. 1082 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (اهبطوا مصرا) من الأمصار، فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول. 1083 - وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: (اهبطوا مصرا) قال: يعني مصرا من الأمصار. 1084 - وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (اهبطوا مصرا) قال: مصرا من الأمصار. زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر. 1085- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (اهبطوا مصرا) ، قال: مصرا من الأمصار. و"مصر" لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: (ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 21] . * * *   (1) انظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 42 - 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون. * ذكر من قال ذلك: 1086 - حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (اهبطوا مصرا) قال: يعني به مصر فرعون. 1087 - حدثنا عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: (اهبطوا مصرا) ، مصرا من الأمصار دون"مصر" فرعون بعينها -: أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر. وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 21-24] ، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك -فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذريتهم الشأم، فأسكنهم الأرض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ:"اهبطوا مصر"، ونتأوله أنه ردهم إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: 57-59] قيل لهم: (1) فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم. * * * وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: (اهبطوا مصرَ) مصرَ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: 57-59] وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) [الدخان: 25-28] ، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها. قالوا: (2) وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود:"اهبطوا مصر" بغير ألف. قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها"مصر" بعينها. * * * قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: (3) إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه   (1) في المطبوعة: "قيل لهم"، وهو خطأ. والضمير في"له" راجع إلى قوله: "فإن احتج محتج". (2) قوله: "وأخرى"، أي وحجة أخرى. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 43 (3) في المطبوعة: "عندنا والصواب"، وهو سهو ناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار"مصر"، وجائز أن يكون"الشأم". فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: (اهبطوا مصرا) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، (1) فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال أبو جعفر: يعنى بقوله: (وضربت) أي فرضت. ووضعت عليهم الذلة وألزموها. من قول القائل:"ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة" و"ضرب الرجل على عبده الخراج" يعني بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم:"ضرب الأمير على الجيش البعث"، يراد به: ألزمهموه. (2) * * * وأما"الذلة" فهي"الفعلة" من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة"، كـ "الصغرة" من "صغُر الأمر"، و "القِعدة" من "قعد". (3) و"الذلة" هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال عز وجل: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر   (1) الحجة هنا: الذين يحتج بهم. (2) البعث: بعث الجند إلى الغزو. (3) لم أجد فيما بين يدي من الكتب من نص على صِغرة فرة" و"قعدة" مصدر على فعلة مثل: نشد الدابة نِشدة، ليس للهيئة، وإن وافقها في الوزن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29] كما:- 1088 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: (وضربت عليهم الذلة) ، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. * * * وأما"المسكنة" فإنها مصدر"المسكين". يقال:"ما فيهم أسكن من فلان" (1) و"ما كان مسكينا" و"لقد تمسكن مسكنة". ومن العرب من يقول:"تمسكن تمسكنا". و"المسكنة" في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما:- 1089 - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (والمسكنة) قال: الفاقة. 1090 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) ، قال: الفقر. 1091 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) ، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل. * * * فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافا عليه. * * *   (1) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: 42، وفسره فقال: "أي أفقر منه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وباءوا بغضب من الله) ، انصرفوا ورجعوا. ولا يقال"باؤوا" إلا موصولا إما بخير، وإما بشر. يقال منه:"باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء". ومنه قول الله عز وجل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة: 29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني. * * * فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط. كما:- 1092 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وباؤوا بغضب من الله) فحدث عليهم غضب من الله. 1093 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (وباؤوا بغضب من الله) قال: استحقوا الغضب من الله. * * * وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) . * * *   (1) انظر ما سلف 1: 188 - 189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك" ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله:"ذلك" - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل:"ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها. * * * ويعني بقوله: (بأنهم كانوا يكفرون) ، من أجل أنهم كانوا يكفرون. يقول: فعلنا بهم -من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق، كما قال أعشى بني ثعلبة: مليكيةٌ جَاوَرَتْ بالحجا ... ز قوما عداة وأرضا شطيرا (1) بما قد تَرَبَّع روض القطا ... وروض التناضِب حتى تصيرا (2) يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - (3) من تربعها روض القطا وروض التناضب.   (1) ديوانه: 67. مليكية، منسوبة إلى"المليك": وهو الملك، يعني من نبات الملوك. العداة، جمع عاد، وهو العدو. الشطير: البعيد، والغريب، أراد أنها في أرض مجهولة. وذكره الأرض في هذا البيت. يعني أنها نزلت ديار قوم نشبت العداوة بيننا وبينهم، في غربة بعيدة. فصرت لا أقدر عليها. (2) قوله"بما" بمعنى بسبب تربعها وتربع القوم المكان وارتبعوه: أقاموا فيه في زمن الربيع. وروض القطا، من أشهر رياض العرب، في أرض الحجاز. وروض التناضب أيضًا بالحجاز عند سرف. وقوله: "حتى تصيرا"، من قولهم صار الرجل يصير فهو صائر: إذا حضر الماء، والقوم الذين يحضرون الماء يقال لهم: الصائرة. والصير (بكسر الصاد) الماء الذي يحضره الناس. يقول: اغتربت في غير قومها، لما دفعها إلى ذلك طلب الربيع والخصب ومساقط الماء في البلاد. (3) كانت هذه الجملة في المخطوطات والمطبوعة هكذا: "وأرضا بعيدة من أهله بمكان قربها كان منه ومن قومه وبدلا من تربعها. . "، وهو كلام لا معنى له. وقد جعلت"بمكان"، "لمكان" و"بدلا"، "بلده". فصار لها معنى تطمئن إليه النفس والجملة بين الخطين اعتراض، وتفسير لقوله: " أرضا بعيدة من أهله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فكذلك قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) ، يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا. * * * وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى"الكفر": تغطية الشيء وستره، (1) وأن"آيات الله" حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله. (2) فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها. * * * ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم -لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه. * * * وهم جماع، وأحدهم"نبي"، غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من"أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء"، وإنما الاسم منه،"منبئ" ولكنه صرف وهو"مفعل" إلى"فعيل"، كما صرف"سميع" إلى"فعيل" من"مسمع"، و"بصير" من"مبصر"، وأشباه ذلك، (3) وأبدل مكان الهمزة من"النبيء" الياء، فقيل:"نبي". هذا ويجمع"النبي" أيضا على"أنبياء"، وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم"النبيء"، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير"فعيل" من ذوات الياء والواو. وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير"فعيل" من ذوات الياء والواو، جمعوه على"أفعلاء" كقولهم:"ولي وأولياء"، و"وصي وأوصياء"   (1) انظر ما سلف 1: 255. (2) انظر ما سلف 1: 552. (3) كان في المطبوعة: "مفعل" مكان"مسمع". وليس يعني بقوله"سميع"، صفة الله عز وجل، بل يعني ما جاء في شعر عمرو بن معد يكرب. أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ? ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ أي: الداعي المسمع. وانظر ما سلف 1: 283. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 ، و"دعى وأدعياء". ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله، وعلى أن الواحد"نبيء" مهموز، لجمعوه على"فعلاء"، فقيل لهم"النبآء"، على مثال"النبهاء"، (1) لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء، والعليم علماء، والحكيم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب في جمع"النبي""النبآء"، وذلك من لغة الذين يهمزون"النبيء"، ثم يجمعونه على"النبآء" - على ما قد بينت. ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالخير كلُّ هدى السبيل هداكا (2) فقال:"يا خاتم النبآء"، على أن واحدهم"نبيء" مهموز. وقد قال بعضهم: (3) "النبي" و"النبوة" غير مهموز، لأنهما مأخوذان من " النَّبْوَة "، وهي مثل " النَّجْوَة "، وهو المكان المرتفع، وكان يقول: إن أصل"النبي" الطريق، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي: لما وردن نَبِيَّا واستَتَبّ بها ... مُسْحَنْفِر كخطوط السَّيْح مُنْسَحِل (4)   (1) في المطبعة: "النبعاء" وفي المخطوطات"النبآء". (2) من أبيات له في سيرة ابن هشام 4: 103 وغيرها. والضمير الفاعل في قول"هداكا"، لله سبحانه وتعالى، دل عليه ما في قوله"إنك مرسل بالخير"، فإن الله هو الذي أرسله. وهو مضبوط في أكثر الكتب"كل" بالرفع، و"هدى"، و"هداكا" بضم الهاء. (3) كأنه يريد الكسائي (البحر المحيط 1: 220) . ووجدت في معجم البلدان 8: 249"وقال أبو بكر بن الأنباري في"الزاهر" في قول القطامي. . إن النبي في هذا البيت هو الطريق"، وليس يعنيه أبو جعفر، فإن أبا بكر قد ولد سنة 271 وتوفى 328. وقد رد هذا القول أبو القاسم الزجاج - فيما نقل ياقوت - فقال: "كيف يكون ذلك من أسماء الطريق، وهو يقول: "لما وردن نبيا"، وقد كانت قبل وروده على الطريق؟ فكأنه قال: "لما وردن طريقا"، وهذا لا معنى له، إلا أن يكون أراد طريقا بعينه في مكان مخصوص، فيرجع إلى أنه اسم مكان بعينه، قيل: هو رمل بعينه، وقيل: هو اسم جبل". وانظر تحقيق ذلك في معجم البلدان، ومعجم ما استعجم، وغيرهما. (4) ديوان: 4، في قصيدته الجيدة المشهورة، والضمير في"وردن" للإبل ذكرها قبل. وروايته"واستتب بنا". نبي كثيب رمل مرتفع في ديار بني تغلب، ذكره القطامي في كثير من شعره. واستتب الأمر والطريق: استوى واستقام وتبين واطراد وامتد. مسحنفر، صفة للطريق: واسع ممتد ذاهب بين. والسبح: ضرب من البرود أو العباء مخطط، يلبس، أو يستتر به ويفرش. شبه آثار السير عليها بخطوط البرد. وسجلت الريح الأرض فانسحلت: كشطت ما عليها. ووصف الطريق بذلك، لأنه قد استتب بالسير وصار لاحبا واضحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 يقول: إنما سمى الطريق"نبيا"، لأنه ظاهر مستبين، من " النَّبوة ". ويقول: لم أسمع أحدا يهمز"النبي". قال. وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله. * * * ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) } وقوله: (ذلك) ، رد على"ذلك" الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحق، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. (ذلك بما عصوا) ، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. * * * و"الاعتداء"، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} قال أبو جعفر: أما"الذين آمنوا"، فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله، وإيمانهم بذلك، تصديقهم به - على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا. (1) * * * وأما"الذين هادوا"، فهم اليهود. ومعنى:"هادوا"، تابوا. يقال منه:"هاد القوم يهودون هودا وهادة. (2) وقيل: إنما سميت اليهود"يهود"، من أجل قولهم: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) . [سورة الأعراف: 156] . 1094 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: (إنا هدنا إليك) . * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {وَالنَّصَارَى} قال أبو جعفر: و"النصارى" جمع، واحدهم نصران، كما واحد السكارى سكران، وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على"فعلان" فإن جمعه على"فعالى". إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد"النصارى""نصراني". وقد حكى عنهم سماعا"نصران" بطرح الياء، ومنه قول الشاعر: تراه إذا زار العشي مُحَنِّفًا ... ويضحي لديه وهو نصران شامس (3)   (1) انظر ما سلف 1: 234 - 235. (2) قوله"هادة"، مصدر لم أجده في كتب اللغة. (3) لم أعرف قائله. الأضداد لابن الأنباري: 155، ورواه: "تراه ويضحى وهو. . " ونقله أبو حيان في البحر المحيط 1: 238 عن الطبري، وفيهما"إذا دار العشى" وأخطأ القرطبي (تفسيره 1: 369) فقال: و"أنشد سيبويه" وذكر البيت، ولم ينشده سيبويه. وروى صدره. (تراه إذا دار العشا متحنفا) والبيت في صفة الحرباء. و"محنفا": قد تحنف، أو صار إلى الحنيفية. ويعني أنه مستقبل القبلة. وقوله: "لديه"، أي لدى العشى، ويريد قبل أن يستوى العشى أو لدى الضحى، ويكون قد ذكره في بيت قبله. وقوله: "شامس"، يريد مستقبل الشمس، قبل المشرق. يقول يستقبل الشمس كأنه نصراني، وهو كقول ذي الرمة في صفة الحرباء أيضًا: إذا حول الظل العشى رأيته ... حنيفا، وفي قرن الضحى ينتصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وسمع منهم في الأنثى: "نصرانة"، قال الشاعر: (1) فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ (2) يقال: أسجد، إذا مال. (3) وقد سمع في جمعهم"أنصار"، بمعنى النصارى. قال الشاعر: لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارَا ... شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإِزَارَا كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا (4) وهذه الأبيات التي ذكرتها، تدل على أنهم سموا"نصارى" لنصرة بعضهم بعضا، وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا"نصارى"، من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها"ناصرة".   (1) هو أبو الأخزر الحماني. (2) سيبويه 2: 29، 104، واللسان (حنف) ، يصف ناقتين، طأطأتا رؤوسهما من الإعياء، فشبه رأس الناقة في طأطأتها، برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. وأسجد الرجل: طأطأ رأسه وخفضه وانحنى. قال حميد بن ثور، يصف نوقا: فلما لوين على معصم ... وكف خضيب وأسوارها فضول أزمتها أسجدت ... سجود النصاري لأحبارها (3) بيان الطبري عن معنى"أسجد" ليس بجيد. (4) لم أعرف صاحب الرجز. والأبيات، في معاني القرآن للفراء 1: 44 أمالي ابن الشجرى 1: 79، 371. أنشده شاهدا على حذف واو العطف: أي"وكنت لهم من النصارى جارا"، ثم أنشده في الموضع الآخر شاهدا على حذف الفاء العاطفة أي"فكنت لهم. . ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 1095 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"النصارى" إنما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها"ناصرة". * * * ويقول آخرون: لقوله: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) [سورة الصف: 14] . * * * وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضًى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى"ناصرة"، وكان أصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى:"الناصري". 1096 - حدثت بذلك عن هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس. 1096 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إنما سموا نصارى، لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريم، فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به. 1098 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) [المائدة: 22] قال: تسموا بقرية يقال لها"ناصرة"، كان عيسى ابن مريم ينزلها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّابِئِينَ} قال أبو جعفر: و"الصابئون" جمع"صابئ"، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب:"صابئا". يقال منه:"صبأ فلان يصبأ صبْأ". ويقال:"صبأت النجوم": إذا طلعت."وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا"، يعني به: طلع. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم * ذكر من قال ذلك: 1099 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي. 1100 - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم. 1101 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الحجاج بن أرطاة، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد مثله. 1102 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم. 1103 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن حجاج، عن قتادة، عن الحسن مثل ذلك. 1104 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح: "الصابئين" بين اليهود والمجوس لا دين لهم. 1105 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1106 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال مجاهد:"الصابئين" بين المجوس واليهود، لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء:"الصابئين" زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، (1) ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك، وقد قال المشركون للنبي: قد صبأ.   (1) يعني سواد العراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 1107 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والصابئين" قال: الصابئون، [أهل] دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل (1) يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:"هؤلاء الصابئون"، يشبهونهم بهم. * * * وقال آخرون: هم قوم يعيدون الملائكة ويصلون إلى القبلة * ذكر من قال ذلك: 1108 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: حدثني زياد (2) أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة. 1109 - وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والصابئين) قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة، يصلون إلى القبلة، ويقرءون الزبور. 1110 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور، ويصلون إلى القبلة. * * * وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب * ذكر من قال ذلك: 1111 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال: سئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب. * * *   (1) في المطبوعة"الصابئون دين من الأديان"، والزيادة بين القوسين لا بد منها. (2) زياد، هو زياد بن أبيه، والى العراق في زمن معاوية رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 القول في تأويل قوله تعالى ذكره {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) ، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله: (فلهم أجرهم عند ربهم) ، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم. * * * فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) ؟ قيل: تمامه جملة قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) . لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر"منهم" لدلالة الكلام عليه، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره. فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟ قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم. فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟ قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان = وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به، حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به، إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به = ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 جاء به، فمن يؤمن منهم بمحمد، وبما جاء به واليوم الآخر، ويعمل صالحا، فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه. فإن قال قائل: وكيف قال:"فلهم أجرهم عند ربهم"، وإنما لفظه"من" لفظ واحد، والفعل معه موحد؟ قيل:"من"، وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا، فإن معنى الواحد والاثنين والجمع، والتذكير والتأنيث، لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير. فالعرب توحد معه الفعل - وإن كان في معنى جمع - للفظه، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه، كما قال جل ثناؤه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ) [يونس: 42-43] . فجمع مرة مع"من" الفعل لمعناه، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد، كما قال الشاعر: ألما بسلمى عنكما إن عرضتما، ... وقولا لها: عوجي على من تخلفوا (1)   (1) في ديوان لامرىء القيس، منسوب إليه من قصيدة عدتها 23 بيتا، وفيه: "ويقال إنها لرجل من كندة" وأولها: ديار بها الظلمان والعِين تعكف ... وقفت بها تبكي ودمعك يذرف والأضداد لابن الأنباري: 288 قال أنشده الفراء، وروايته صدره: (ألما بسلمى لمة إذ وقفتما) والذي في رواية الطبري من قوله: "عنكما" زائدة في الكلام، والعرب تقول: "سر عنك"، و"أنفذ عنك" أي امض، وجز - لا معنى ل"عنك" وفي حديث عمر رضي الله عنه: أنه طاف بالبيت مع يعلى بن أمية، فلما انتهى إلى الركن الغربي الذي يلي الأسود قال له: ألا تستلم؟ فقال: انفذ عنك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلمه. وفي الحديث تفسيره: أي دعه وتجاوزه. وقوله"عرضتما" من قولهم: عرض الرجل: إذا أتى العروض (بفتح العين) ، وهي مكة والمدينة وما حولهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فقال:"تخلفوا"، وجعل"من" بمنزلة"الذين"، وقال الفرزدق: تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (1) فثنى "يصطحبان " لمعنى "من". فكذلك قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم) ، وحد "آمن وعمل صالحا" للفظ "من"، وجمع ذكرهم في قوله: (فلهم أجرهم) ، لمعناه، لأنه في معنى جمع. * * * وأما قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده. * * * * ذكر من قال عُني بقوله: (من آمن بالله) ، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1112 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية، قال: نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي. وكان سلمان من جُنْدَيسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد، إذ رفع لهما بيت من عباء، (2) فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه   (1) ديوانه: 870، وسيبويه 1: 404، والكامل 1: 216، وطبقات فحول الشعراء: 310، والأضداد: 288، وأمالي ابن الشجري 2: 311. ورواية ديوانه"تعش فإن واثقتني". وهو بيت من قصيدته الجيدة التي قالها حين نزل به ذئب فأضافه. (2) رفع له الشيء (بالبناء للمجهول) : أبصره من بعد. وفي المطبوعة: " بيت من خباء" والخباء بيت من وبر أو صوف. فهو كلام لا معنى له. وفي الدر المنثور 1: 73 وروى الخبر بطوله: "من عباءة". والصواب ما أثبته. والعباء ضرب من الأكسية فيه خطوط سود كبار، وهو هنا مفرد، وجمعه أعبية. والعباء أيضًا جمع عباءة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وهو يبكي. فسألاه: ما هذا؟ فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما. فنزلا إليه، فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله، أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته، فيه: أن لا تزني، ولا تسرق، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما، وتابعاه فأسلما. وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام. فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه، حتى كان عيد للملك، فجعل طعاما، (1) ثم جمع الناس والأشراف، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس. فأبى الفتى، وقال: إني عنك مشغول، فكل أنت وأصحابك. فلما أكثر عليه من الرسل، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم. فبعث الملك إلى ابنه فدعاه. وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم، إنكم كفار، ليس تحل ذبائحكم. فقال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك. فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟ قال: صدق ابنك. قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلا. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقين، فإنا في بِيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها، فأتونا فيها. فخرج الراهب، وبقي سلمان وابن الملك: فجعل يقول لابن الملك: انطلق بنا! وابن الملك يقول: نعم. وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان، خرج سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه، وهو رب البيعة.   (1) في الدر المنثور: "فجمع طعاما"، وأظن أن الصواب: فصنع طعاما"، ويدل على صواب ذلك قوله بعد: "فدعاه إلى صنيعه". يقال: صنع لهم طعاما، وكنت في صنيع فلان: أي مأدبته ومدعاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان، (1) فكان سلمان: معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق، وأنا خائف أن تفتر وتعجز، فارفق بنفسك وخفف عليها. فقال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به، أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع. قال: فخل عني. ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي، وأنا أحق الناس بها، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت! ولكني رجل أضعُف عن عبادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء، فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان: أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان، فكان سلمان يتعبد معهم. ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس، فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق، وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل، أنطلق معك أم أقيم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فانطلق معه. فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى، فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فلم يكلمه ولم ينظر إليه. وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس، فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم، فرجع يوما حزينا، فقال له الشيخ: ما لك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم! فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن، فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه، ولا أراني أدركه، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه، وهو ي   (1) في الدر المنثور: "فكان أهل تلك البيعة، أفضل مرتبة من الرهبان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 خرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه. فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء. قال: نعم، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد، فناداهما فقال: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فعطف إليه حماره، فأخذ بيده فرفعه، فضرب به الأرض ودعا له وقال: قم بإذن الله! فقام صحيحا يشتد، (1) فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان، ولا يعلم سلمان. ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب. فلقيه رجلان من العرب من كلب، فسألهما: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته، قال: نعم راعي الصرمة هذا! (2) فحمله فانطلق به إلى المدينة. قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط. فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يوما يرعى، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه، (3) فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ (4) فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك. فهبط سلمان إلى المدينة، فنطر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد، فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه، فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى بدينار، ببعضه شاة وببعضه خبزا، ثم أتاه به. فقال:"ما هذا"؟ قال سلمان: هذه صدقة قال: لا حاجة لي بها،   (1) اشتد: عدا وأسرع. (2) الصرمة: القطيع من الإبل والغنم. (3) عقبه يعقبه: جاء بعده في نوبته، ومنه التعاقب: أن يأتب هذا ويذهب ذاك. (4) أشعرت: علمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فأخرجها فليأكلها المسلمون". ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: هذه هدية. قال: فاقعد [فكل] (1) فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان، وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك، فأنزل الله هذه الآية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر) . (2) فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى - فلم يدعها ولم يتبع عيسى - كان هالكا. وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا. * * * 1113 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية. قال   (1) الزيادة من الدر المنثور 1: 74. (2) الحديث: 1112 - هذا حديث منقطع، في شأن إسلام"سلمان الفارسي". وقال الحافظ في الإصابة 3: 113: "ورويت قصته من طرق كثيرة، من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه. وأخرجها الحاكم من وجه آخر عنه أيضًا. وأخرجه الحاكم من حديث بريدة. وعلق البخاري طرفا منها. وفي سياق قصته في إسلامه اختلاف يتعسر الجمع فيه". وإشارته إلى رواية أحمد، هي في المسند هـ: 441 - 444 (حلبي) ، وهي بالإسناد نفسه في ابن سعد 4: 53 - 57. وانظر المستدرك للحاكم 3: 599 - 604. وتاريخ إصبهان لأبي نعيم 1: 48 - 57، والحلية لأبي نعيم 1: 190 - 195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 سأل (1) سلمان الفارسي النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، وذكرت اجتهادهم، (2) فنزلت هذه الآية:"إن الذين آمنوا والذين هادوا". (3) فدعا سلمان فقال: نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم"من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهو على خير؛ ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك". (4) * * * وقال ابن عباس بما:- 1114 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) إلى قوله: (ولا هم يحزنون) . فأنزل الله تعالى بعد هذا: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85] وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا - من اليهود والنصارى والصابئين - على عمله، في الآخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) . * * * فتأويل الآية إذًا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين - من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. * * * والذي قلنا من التأويل الأول، أشبه بظاهر التنزيل، لأن الله جل ثناؤه لم   (1) في المطبوعة: "قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم"، بحذف"سأل". والصواب من الدر المنثور 1: 74. (2) في المطبوعة: "وذكر اجتهادهم"، والصواب من الدر المنثور (3) الآية لم ترد في المطبوعة، ووردت في نص المدر المنثور. (4) الحديث: 1113 - وهذا منقطع أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) ، عن جميع ما ذكر في أول الآية. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} قال أبو جعفر:"الميثاق"،"المفعال"، من"الوثيقة"، إما بيمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. (1) ويعني بقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة: 83-85] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:- 1115 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. (2) فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! (3) قال: خذوا   (1) انظر ما سلف 1: 414، في قوله تعالى: "من بعد ميثاقه" [سورة البقرة: 27] . (2) في المطبوعة: "وأمره الذي أمركم"، والتصحيح من روايته في رقم: 959. (3) في رقم: 959: "قالوا أصابنا أنا متنا. . ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) حتى بلغ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 83-85] ، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق. (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} قال أبو جعفر: وأما"الطور" فإنه الجبل في كلام العرب، ومنه قول العجاج: دانَى جناحيه من الطور فمر ... تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كسر (2) وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت. (3) * * *   (1) الأثر رقم: 1115 - مضى أكثره في رقم: 959. (2) ديوانه: 17، وهو من قصيدة جيدة يذكر فيها مآثر عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد ولي الولايات العظيمة، وفتح الفتوح الكثيرة، وقاتل الخوارج. والضمير في قوله: "دانى" يعود إلى متأخر، وهو"البازي" المذكور في البيت بعده. فإن قبله، ذكر عمر بن عبيد الله وكتائبه من حوله: حول ابن غراء حصان إن وتر ... فات، وإن طالب بالوغم اقتدر إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر ... دانى جناحيه ......... يريد: "ابتدر منقضا انقضاض البازي من الطور، دانى جناحيه. . فمر" فقدم وأخر. وهو من جيد التقديم والتأخير. وقوله: "دانى" أي ضم جناحيه وقر بهما وضيق ما بينهما تأهبا للانقضاض من ذروة الجبل. ومر: أسرع إسراعا شديدا. وقوله: "تقضى" أصلها"تقضض"، فقلب الضاد الأخيرة ياء، استثقل ثلاث ضادات، كما فعلوا في"ظنن""وتظنى" على التحويل. وتقضض الطائر: هوى في طيرانه يريد الوقوع. والبازي: ضرب من الصقور، شديد. وكسر الطائر جناحيه: ضم منهما شيئا - أي قليلا- وهو يريد السقوط. (3) هذا قول لم أجده في كتب اللغة في مادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 * ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان: 1116 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا:"حطة" وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم، وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة = و"الطور"، بالسريانية، الجبل = تخويفا، أو خوفا، شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه. (1) 1117 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة، فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية:"الطور". 1118 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به. 1119 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (ورفعنا فوقكم الطور) ، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم، فقال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) فأقروا بذلك. 1120 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ورفعنا فوقكم الطور) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.   (1) الأثر رقم: 1116 - مضى صدر منه برقم: 1027. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 1121 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة قال: الطور الجبل. 1122 - وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [الأعراف: 171] ، وقوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) . 1123 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور. * * * وقال آخرون:"الطور" اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه. * ذكر من قال ذلك: 1124 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: (كأنه ظلة) . * * * وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة. * ذكر من قال ذلك: 1125 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (الطور) قال: الطور من الجبال ما أنبت، وما لم ينبت فليس بطور. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 القول في تأويل قوله تعالى ذكره {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة، وإلا قذفناه عليكم. وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه، فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام -الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه"أن" كما قال الله جل ثناؤه (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح: 1] قال: ويجوز أن تحذف"أن". والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به -مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره. ويعني بقوله: (خذوا ما آتيناكم) ، ما أمرناكم به في التوراة. وأصل"الإيتاء"، الإعطاء. (1) * * * ويعني بقوله: (بقوة) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:- 1126 - حدثت عن إبراهيم بن بشار قال،: حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (خذوا ما آتيناكم بقوة) . قال: تعملوا بما فيه. 1127 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1128 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن   (1) انظر ما سلف 1: 574. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الربيع، عن أبي العالية: (خذوا ما آتيناكم بقوة) ، قال: بطاعة. 1129 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (خذوا ما آتيناكم بقوة) . قال:"القوة" الجد، وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة. 1130 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بقوة) ، يعني: بجد واجتهاد. 1131 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله: (خذوا ما آتيناكم بقوة) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق. * * * فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة، بجد. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) } قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب، فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، (1) بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:- 1132 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن   (1) انظر ما مضى في بيان"لعل" بمعنى"كى" 1: 364 -365، وهذا الجزء 2: 68. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس: (لعلكم تتقون) ، قال: تنزعون عما أنتم عليه. * * * والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:- 1133 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (واذكروا ما فيه) يقول: اذكروا ما في التوراة. 1134 - كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (واذكروا ما فيه) يقول: أمروا بما في التوراة. 1135 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: (واذكروا ما فيه) ، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. (1) قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ثم توليتم) : ثم أعرضتم. وإنما هو"تفعلتم" من قولهم:"ولاني فلان دبره" إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. (2) يقال:"قد تولى فلان عن طاعة فلان، وتولى عن مواصلته"، ومنه قول الله جل ثناؤه: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [التوبة: 76] ، يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ   (1) في المطبوعة: "بطاعة الله وصدق" خطأ. (2) في المطبوعة: "طاعة أمر: عز وجل"، بزيادة الثناء على ربنا سبحانه، وعلى أن"أمر" مبني للمعلوم. وهذا مخالف للسياق، وسهو من النساخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [التوبة: 75] ، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم * * * ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها، كما قال أبو خراش الهذلي: (1) فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل (2) وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئا واستراحل (3) يعني بقوله:"أحاطت بالرقاب السلاسل"، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله. ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله: (ثم توليتم   (1) كان في المطبوعة: "قال أبو ذؤيب الهذلي"، وهو خطأ فاضح، لا يقع في مثله مثل أبي جعفر. (2) ديوان الهذليين 2: 150، وسيرة ابن هشام 4: 116، والأغاني 21: 41، والكامل 1: 267. وهي أبيات جياد في رثاء صديق. وذلك أن زهير بن العجوة الهذلي من بني عمرو بن الحارث - وكان ابن عم ابي خراش، وله صديقا - خرج يطلب الغنائم يوم حنين فأسر، وكتف في أناس أخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه جميل بن معمر الجمحي - وكانت بينهما إحنة في الجاهلية - فقال له: أنت الماشي لنا بالمغايظ؟ فضرب عنقه، فقال أبو خراش يرثيه. وقال لجميل بن معمر: وإنك لو واجهته إذ لقيته ... فنازلته، أو كنت ممن ينازل لظل جميل أسوأ القوم تلة ... ولكن قرن الظهر للمرء شاغل فليس كعهد. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي المطبوعة: "فليس لعهد الدار" خطأ. ويعني بقوله: "الدار": مكة وما حولها وما جاورها. يقول: ليس الأمر كما عهدت بها وعهدتا، جاء الإسلام فهدم ذلك كله. (3) يقول: فارق الفتى أخلاق فتوته وعرامه، وصار كالكهل في أناته وتثبته، فإن الدين قد وقذ الفتيان ذوى البأس وسكنهم من مخافة عقاب ربهم في القتل من غير قتال ومعركة. فاستراحت العواذل لأنهن أصبحن لا يجدن ما يعذلن فيه أزواجهن من التعرض للهلاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 من بعد ذلك) ، يعني بذلك: أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم. وكنى بقوله جل ذكره:"ذلك"، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة، أعني قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) . * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (فلولا فضل الله عليكم) ، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة = بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته، وأداء فرائضه، والقيام بما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم، فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم = لكنتم من الخاسرين. وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب، فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى. (1) * * *   (1) انظر ما مضى في هذا الجزء 2: 38 - 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم. * * * وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالمين -وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- (1) أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر: (2) إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة، ... ولم تجدي من أن تقري به بدا (3) فقال:"إذا ما انتسبنا"، و"إذا" تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال:"لم تلدني لئيمة"، فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك. والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها. * * *   (1) في المطبوعة: "إذ المعنى في ذلك. . "، وهو كلام لا يستقيم. وسياق الجملة يقتضي أن توضع"أن" مكان"إذ" أي: "لأن سامعيه كانوا عالمين. . أن المعنى في ذلك. . "، وما بينهما فصل واعتراض. (2) في حاشية الأمير على مغنى اللبيب 1: 25 قال: "في حاشية السيوطي" قائله زائدة ابن صعصعة الفقعسي، يعرض بزوجته، وكانت أمها سرية"، ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى: 33. (3) سيأتي في هذا الجزء 1: 333 (بولاق) ، وفي 3: 49 (بولاق) ، ومعانى الفراء: 61، 178 وقبل البيت يقول لامرأته. رمتنى عن قوس العدو، وباعدت ... عبيدة، زاد الله ما بيننا بعدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وكان أبو العالية يقول في قوله: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه. 1136 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) ، قال:"فضل الله"، الإسلام،"ورحمته"، القرآن. 1137 - وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [عن أبيه] ، عن الربيع بمثله. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) } قال أبو جعفر: فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته. وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى"الخسار" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ولقد علمتم) ، ولقد عرفتم. (3) كقولك:   (1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، وانظر آخر إسناد عن عمار بن الحسن رقم: 1134. (2) انظر ما مضى 1: 417. (3) سيأتي دليل هذا من تفسير ابن عباس في رقم: 1138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه"، يعني عرفته، ولم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60] ، يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم. * * * وقوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت) ، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري. وقد دللت -فيما مضى- على أن"الاعتداء"، أصله تجاوز الحد في كل شيء. بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - (2) ما كانوا يبرمون من العقود، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:- 1138 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني، اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجُمعة،   (1) انظر ما مضى من هذا الجزء: 2: 142. (2) سياق عبارته: مما عدد الله على بني إسرائيل. . . ما كانوا يبرمون من العقود"، وما بينهما فصل بصفة"بني إسرائيل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. (1) ومن لم يفعل ذلك، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها -: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، (2) وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. - مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت -: أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره، ولا يعملوا شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا) [الأعراف: 163] ، يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله: (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف: 163] . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء، فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا. وهو قول الله جل ثناؤه: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. [قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام] (3) ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء، كما يشاء، ويحوله كما يشاء. 1139 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة-. فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها"مدين". فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان، (4) عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في   (1) في المطبوعة: "بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم"، وهي جملة غير صحيحة، صححتها كما ترى. (2) سبت: سكن، وقولهم: "سبت له"، يريدون: خشع له وانقطع عن كل عمل إلا عبادته سبحانه وانظر ما سيأتي ص: 174. (3) هذه الزيادة من تفسير ابن كثير 1: 193، والدر المنثور 1: 75، وهي زيادة لا بد منها. وفي المطبوعة بعدها؛"ولم تأكل ولم تشرب، ولم تنسل" خطأ. (4) القرم: شدة الشهوة إلى اللحم، قرم يقرم (بفتح الراء) قرما (بفتحتين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. (1) قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقيّة: (2) ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) لسخطنا أعمالهم - (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) [الأعراف: 164] ، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية [الأعراف: 163] . 1140 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة   (1) عثر على الأمر: اطلع عليه وكان خافيا. وفي المطبوعة: "على ما صنع"، وأثبت نص ابن كثير في التفسير 1: 194. (2) في المطبوعة: "من أهل التقية"، وهو خطأ محض. أهل البقية: هم أهل التمييز والفهم، يبقون على أنفسهم بطاعة الله، وبتمسكهم بالدين المرضي. وفلان بقية: فيه فضل وخير فيما يمدح به وسيأتي بعد على الصواب. وقال الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) [سورة هود: 116] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 خاسئين) : أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم: (كونوا قردة خاسئين) فصاروا قردة لها أذناب، تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء. 1141 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) ، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، فكانت تشرع إليهم يوم السبت، وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها، فجعلهم الله قردة خاسئين. 1142 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال: فهم أهل"أيلة"، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سُفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف: 163] ، فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث [فيها] . (1) فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي   (1) الزيادة من تفسير ابن كثير 1: 195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 السمك، فيجد جاره ريحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) [الأعراف: 164] ، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف: 164] . فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار، ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا، ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطئوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: 166] ، فذلك حين يقول: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة: 78] ، فهم القردة. 1143 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . قال: لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا (1) . 1144 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) سورة الجمعة: 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا. * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. (1) وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، (2) كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) [النساء: 153] ، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: (3) هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. (4) ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض -فيما أنكر من ذلك- بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح. هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته. * * *   (1) انظر معنى"ظاهر" فيما سلف 2: 15 والمراجع. (2) سورة المائدة: 60. (3) في المطبوعة: "فسواء قال قائل"، وسياق العبارة يقتضي التقديم. لقوله"وآخر قال". (4) في المطبوعة: "والعقوبات والأنكال"، ليس صوابا. والنكال: العذاب الشديد يكون عبرة للناس حتى ينكلوا عن شيء ويخافوه. وأما"الأنكال" فجمع نكل: وهو القيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 القول في تأويل قوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فقلنا لهم) أي: فقلنا للذين اعتدوا في السبت - يعني في يوم السبت. * * * وأصل"السبت" الهدوّ والسكون في راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم"مسبوت" لهدوّه وسكون جسده واستراحته، كما قال جل ثناؤه: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) [النبأ: 9] أي راحة لأجسادكم. وهو مصدر من قول القائل:"سبت فلان يسبت سبتا". وقد قيل: إنه سمي"سبتا"، لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة - وهو اليوم الذي قبله - من خلق جميع خلقه. * * * وقوله: (كونوا قردة خاسئين) ، أي: صيروا كذلك. * * * و"الخاسئ" المبعد المطرود، كما يخسأ الكلب يقال منه:"خسأته أخسؤه خسأ وخسوءا، وهو يخسأ خسوءا". قال: ويقال:"خسأته فخسأ وانخسأ". ومنه قول الراجز: كالكلب إن قلت له اخسأ انخسأ (1) يعني: إن طردته انطرد ذليلا صاغرا. فكذلك معنى قوله: (كونوا قردة خاسئين) أي، مبعدين من الخير أذلاء صغراء، (2) كما:- 1145 - حدثنا محمد بن بشار، (3) قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،   (1) لسان العرب: (خسأ) ، وروايته: "إن قيل له". (2) صاغر، جمعه صغرة (بفتحات) . وهذا ما نصوا عليه، ولم أجد"صغراء" على وزن جهلاء، وهو جمع في بعض الصفات التي على وزن"فاعل"، مثل شاعر وشعراء، وعالم وعلماء. فهم يشبهون"فاعلا" بـ "فعيل" نحو كريم وكرماء، فيجمعونه كجمعه. (3) في المطبوعة"حدثنا بشار" وهو خطأ لا شك فيه، وأقرب إسناد مثله مر بنا هو رقم: 1062. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كونوا قردة خاسئين) قال: صاغرين. 1146 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله. 1147 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1148 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (خاسئين) ، قال: صاغرين. 1149 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (كونوا قردة خاسئين) ، أي أذلة صاغرين. 1150 - وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: خاسئا، يعني ذليلا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل"الهاء والألف" في قوله: (فجعلناها) ، وعلام هي عائدة؟ فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما:- 1151 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فجعلناها) فجعلنا تلك العقوبة -وهي المسخة-"نكالا". فالهاء والألف من قوله: (فجعلناها) -على قول ابن عباس هذا- كناية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 عن"المسخة"، وهي"فعلة" مسخهم الله مسخة. (1) فمعنى الكلام على هذا التأويل: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فصاروا قردة ممسوخين، (فجعلناها) ، فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم، (نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) . * * * والقول الآخر من قولي ابن عباس، ما:- 1151 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فجعلناها) ، يعني الحيتان. و"الهاء والألف" -على هذا القول- من ذكر الحيتان، ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة، كني عن ذكرها. والدلالة على ذلك قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) . * * * وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فـ "الهاء" و "الألف" -في قول هؤلاء- كناية عن قرية القوم الذين مسخوا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك فجعلنا القردة الذين مسخوا"نكالا لما بين يديها وما خلفها"، فجعلوا"الهاء والألف" كناية عن القردة. * * * وقال آخرون: (فجعلناها) ، يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت"نكالا". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {نَكَالا} و"النكال" مصدر من قول القائل: "نكَّل فلان بفلان تنكيلا ونكالا". وأصل "النكال"، العقوبة، كما قال عدي بن زيد العباد: لا   (1) كأنه يريد أنه مصدر: كقولهم: رحمه الله رحمة، ولم يرد المرة، وسيدل على ذلك ما يقوله بعد سطرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 يسخط الضليل ما يسع العبـ ... د ولا في نكاله تنكير (1) * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس: 1152 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (نكالا) يقول: عقوبة. 1153 - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فجعلناها نكالا) ، أي عقوبة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:- 1154 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لما بين يديها) يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي. (وما خلفها) ، يقول: الذين كانوا بقوا معهم. 1155 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لما بين يدلها وما خلفها) ، لما خلا لهم من الذنوب، (2) (وما خلفها) ، أي عبرة لمن بقي من الناس. * * *   (1) لم أجد البيت في جميع المراجع التي ذكرت قصيدة عدي بن زيد التي كتبها إلى النعمان من محبسه. وقد أثبت البيت كما هو في النسخ السقيمة التي بقيت من تفسير الطبري، وظني أن يكون البيت: لا يكُظ المليك ما يسع العبـ ... ـد ولا في نكاله تنكير فلم يحسن الناسخ قراءة"يكظ" كتبها "يسخط"، ووضع مكان"المليك""الضليل" وكظه الأمر: بهظه وشق عليه. يقول للنعمان: أنت مليك قادر، فلا يبهظك ما يسع عبيدك من العفو عمن أساء واجترم، فإن عاقبت، فما في عقابك ما يستنكر، فأنت السيد المطاع النافذ أمرك في رعيتك صغيرهم وكبيرهم. (2) خلا: مضى وذهب وانقضى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وقال آخرون بما: 1156 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) ، أي من القرى. * * * وقال آخرون بما:- 1157 - حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله (فجعلناها نكالا لما بين يديها) -من ذنوب القوم- (وما خلفها) ، أي للحيتان التي أصابوا. 1158 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لما بين يديها) ، من ذنوبها، (وما خلفها) ، من الحيتان. 1159 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (لما بين يديها) ، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به. 1160 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (نكالا لما بين يديها وما خلفها) ، يقول:"بين يديها"، ما مضى من خطاياهم، (وما خلفها) خطاياهم التي هلكوا بها. 1161 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله - إلا أنه قال: (وما خلفها) ، خطيئتهم التي هلكوا بها. * * * وقال آخرون بما:- 1162 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) قال: أما"ما بين يديها" فما سلف من عملهم، (وما خلفها) ، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وقال آخرون بما:- 1163 - حدثني به ابن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله، (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) ، يعني الحيتان، جعلها نكالا"لما بين يديها وما خلفها"، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: (ما بين يديها وما خلفها) . * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، ما رواه الضحاك عن ابن عباس. وذلك لما وصفنا من أن"الهاء والألف" - في قوله: (فجعلناها نكالا) - بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها. من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، بذلك يخوفهم (1) . وفي إبانته عز ذكره - بقوله: (نكالا) : أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم - ما يعلم أنه عنى بقوله: (فعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) ، فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها - دون غيره من المعاني. وإذْ كانت "الهاء والألف" - بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها؛ فكذلك العائد في قوله: (لما بين يديها وما خلفها) من"الهاء والألف": أن يكون من ذكر"الهاء والألف" اللتين في قوله: (فجعلناها) ، أولى من أن يكون من [ذكر] غيره. (2) فتأويل الكلام - إذْ كان الأمر على ما وصفنا -: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم، بمسخنا إياهم وعقوبتنا لهم - (3) ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم: أن يعمل بها عامل،   (1) في المطبوعة: "وبذلك يخوفهم"، ولعل الأجود ما أثبت. (2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها في سياق الجملة. (3) في المطبوعة"مسخنا إياهم" بحذف حرف الجر، وهو غير مستقيم، وقوله: "ولما خلف عقوبتنا لهم" على قوله: "لما بين يديها. . . ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 فيمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده: أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم. وأما الذي قال في تأويل ذلك: (فجعلناها) ، يعني الحيتان، عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم - فإنه أبعد في الانتزاع. وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: (فجعلناها) . فإن ظن ظان أن ذلك جائز - وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر - لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر، فإن ذلك وإن كان كذلك، فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب - والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنزيل - إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول، (1) ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض. وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها، فينظر إلى تأويل من تأول ذلك: بما بين يدي الحيتان وما خلفها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً} و"الموعظة"، مصدر من قول القائل:"وعظت الرجل أعظه وعظا وموعظة"، إذا ذكرته. * * * فتأويل الآية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين، ليتعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكروا بها، كما:- 1164 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"ظاهر" و"باطن" فيما سلف من هذا الجزء 2: 15 والمراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة) يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين. * * * القول في تأويل قوله تعالى {لِلْمُتَّقِينَ (66) } وأما"المتقون"، فهم الذين اتقوا، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، كما:- 1165 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة للمتقين) ، يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي. * * * فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته، موعظة للمتقين خاصة، وعبرة للمؤمنين، دون الكافرين به - إلى يوم القيامة -، كالذي:- 1166 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس في قوله: (وموعظة للمتقين) ، إلى يوم القيامة. 1167 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وموعظة للمتقين) ، أي: بعدهم. 1168 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. 1169 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"موعظة للمتقين"، فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 1170 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وموعظة للمتقين) ، قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 1171 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: (وموعظة للمتقين) ، أي لمن بعدهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) } قال أبو جعفر: وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه، فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي،"إذ قال موسى لقومه" - وقومه بنو إسرائيل، إذ ادارؤوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) . و"الهزؤ": اللعب والسخرية، كما قال الراجز: (1) قد هزئت مني أم طيسله ... قالت أراه معدما لا شيء له (2) يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت. ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله -فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي- هزؤ أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم -عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه - أنه هازئ لاعب. ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة. * * *   (1) هو صخير بن عمير التميمي، ويقال إن القصيدة للأصمعي نفسه. (2) الأصمعيات: 58، وأمالي القالي 2: 284، وانظر تحقيق ما قيل فيها في تعليق سمط اللآلي للراجكوتي: 930 وروايتهم جميعا: تهزأ مني أخت آل طيسله ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويروى"مملقا لا شيء له" و"مبلطا"، وكلها بمعنى واحد: فقيرا لا شيء له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وحذفت"الفاء" من قوله: (أتتخذنا هزوا) ، وهو جواب، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه، وحَسُن السكوت على قوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ، فجاز لذلك إسقاط"الفاء" من قوله: (أتتخذنا هزوا) ، كما جاز وحسن إسقاطها من قوله تعالى (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا) [الحجر: 57، 58 الذاريات: 31، 32] ، ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا. ولو قيل"فقالوا" كان حسنا أيضا جائزا. ولو كان ذلك على كلمة واحدة، لم تسقط منه"الفاء". وذلك أنك إذا قلت:"قمت ففعلت كذا وكذا"، لم تقل: قمت فعلت كذا وكذا" (1) لأنها عطف، لا استفهام يوقف عليه. فأخبرهم موسى -إذْ قالوا له ما قالوا- أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين. (2) وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) ، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل. * * * وكان سبب قيل موسى لهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ، ما:- 1172 - حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم -أو عاقر- قال: فقتله وليه، ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله؟ قال: فأتوا نبي الله، فقال: اذبحوا بقرة! فقالوا: أتتخذنا هزوا، قال:"أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة) ، إلى قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا، قال:   (1) في المطبوعة: "قمت وفعلت" وفي المطبوعة: "ولم تقل: قمت. . " بزيادة الواو، وهو فاسد. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 44. (2) سياق معناه: أخبرهم موسى أن المخبر عن الله بهُزُء وسخرية، هو من الجاهلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك. (1) 1173 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قول الله (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، (2) وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . فعجبوا وقالوا: (أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض) - يعني: لا هرمة - (ولا بكر) - يعني: ولا صغيرة - (عوان بين ذلك) - أي: نصف، بين البكر والهرمة - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) - أي: صاف لونها - (تسر الناظرين) - أي تعجب الناظرين - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) أي: لم يذللها العمل - (تثير الأرض) - يعني ليست بذلول فتثير الأرض - (ولا تسقي الحرث) - يقول: ولا تعمل في الحرث - (مسلمة) ، يعني مسلمة من العيوب، (لا شية فيها) - يقول: لا بياض فيها - (قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما   (1) الأثر: 1172 - عبيدة، بفتح العين وبعد الباء الموحدة ياء تحتية: هو عبيدة السلماني. وهذا الأثر نقله ابن كثير 1: 197 - 198، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق هشام بن حسان"عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني". ثم أشار إلى رواية الطبري هذه. وقد مضى أثر آخر: 245 من رواية أيوب وابن عون، عن ابن سيرين، عن"عبيدة". ورجحنا هناك أن صوابه"عبيدة". فهذا الإسناد الذي هنا يؤيد ما رجحنا. (2) مجمع الطريق: هو حيث يلتقى الناس ويجتمعون، أو حيث تلتقى الطرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 كادوا يفعلون) . قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، (1) لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: (وإنا إن شاء الله لمهتدون) ، لما هدوا إليها أبدا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، (2) أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم، فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذوا قاتله - وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه، - فقتله الله على أسوء عمله. 1174 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال، وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى، وقد قدم تجار في أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أصيب منها، (3) فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله.   (1) استعرضوا: أخذوا من عرض البقر (بضم العين وسكون الراء) فلم يبالوا أيها أخذوا. والعرض: الوجه والناحية، أي ما يعرض لك من الشيء. (2) تقول: "هذا الأمر لا يزكو بفلان" أي لا يليق به ولا يصلح له. فقوله: "لا يزكو لهم غيرها" أي لا يصلح لهم غيرها ولا ينفع فيما أمرهم الله به. (3) في المطبوعة: "أصيب فيها"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير 1: 200. أصاب الإنسان من المال وغيره: تناول وأخذ. ويريد أصيب منها ربحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادى: واعماه! فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة، (1) فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) . فقال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قال موسى: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) - قال، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم - (2) فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) - والفارض: الهرمة التي لا تلد، والبكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا، والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها -"فافعلوا ما تؤمرون" * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) - قال: تعجب الناظرين - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) - من بياض ولا سواد ولا حمرة - (قالوا الآن جئت بالحق) . فطلبوها فلم يقدروا عليها. وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري   (1) في المطبوعة: "ادع لنا حتى يتبين". ونص ابن كثير في تفسيره 1: 200"ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب القضية". (2) أعنته وتعنته: سأله عن شيء أراد به اللبس عليه والمشقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا، وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا، وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي، فأعطوه ثنتين فأبي، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات، فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه. 1175 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة - 1176 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، عن مجاهد - 1177 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد - 1178 - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبا يذكر - 1179 - وحدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد - وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 1180 - وحدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، أخبرني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس - - فذكر جميعهم أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ، نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي، غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه - عن أمر الله إياهم بذلك - (1) فقالوا له: وما ذبح البقرة؟ يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل، فادُّعِي على بعضنا أنه القاتل! أتهزأ بنا؟ كما:- 1181 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل، فطرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. قالوا: لا والله. فأتوا موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه! فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا! فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. فقالوا: أتستهزئ بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: (أتتخذنا هزوا) . قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه، فتستهزئ بنا؟ فقال موسى: (أعوذ بالله أن أكون من   (1) الأجود أن يكون"عن أمر الله إياه بذلك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 الجاهلين) . 1182 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم - موسى وقصوا قصتهم عليه، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . قالوا: وما البقرة والقتيل؟ قال: أقول لكم:"إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، وتقولون:"أتتخذنا هزوا". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} (1) قال أبو جعفر: فقال الذين قيل لهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) - بعد أن علموا واستقر عندهم، أن الذي أمرهم به موسى من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة - جد وحق، (2) (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) ، فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم:"اذبحوا بقرة". لأنه جل ثناؤه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر - أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف - فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم، وسوء أفهامهم، وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤونته، تعنتا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:- 1183 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قال لهم موسى: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . قالوا له يتعنتونه: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) . فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها، تعنتا منهم نبيهم موسى صلوات الله عليه، بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه، بقولهم: (أتتخذنا هزوا) (3) - عاقبهم عز وجل بأن حصر ذبح ما كان أمرهم بذبحه   (1) الآية كلها ساقطة من الأصول، فوضعتها في موضعها. (2) قوله"جد وحق"، خبر قوله"أن الذي أمرهم به موسى. . . " (3) سياق العبارة: "فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا. . عاقبهم. . "، وما بينهما فصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 من البقر على نوع منها دون نوع، (1) فقال لهم جل ثناؤه - إذ سألوه فقالوا: ما هي؟ ما صفتها؟ وما حليتها؟ حَلِّها لنا لنعرفها! (2) -قال: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) . * * * يعني بقوله جل ثناؤه: (لا فارض) لا مسنة هرمة. يقال منه: فرضت البقرة تفرض فروضا"، يعني بذلك: أسنت. ومن ذلك قول الشاعر: يا رب ذي ضغن عليَّ فارضِ ... له قروء كقروء الحائضِ (3) يعني بقوله:"فارض"، قديم. يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر: لها زِجاج ولهاة فارض ... حدلاء كالوطب نحاه الماخض (4)   (1) في المطبوعة"بأن خص بذبح ما كان أمرهم"، وعبارة الطبري فيما أرجح هي ما أثبته/، وقد قال آنفًا: 189"من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع"، وسيقول بعد: 197"فحصروا على نوع دون سائر الأنواع". (2) الحلية (بكسر فسكون) الصفة والصورة: حلى الرجل يحليه تحلية: وصف صورته وهيأته. وتحليت الرجل: عرفت صفته. (3) مجالس ثعلب: 364، والمعاني الكبير: 850، 1143، والحيوان 6: 66 - 67، والأضداد: 22، وكتاب القرطين 1: 44، 77، واللسان (فرض) ، وغيرها، وصواب إنشاده: يارب مولى حاسد مباغض ... عليّ ذي ضغن وضب فارض والضب: الغيظ والحقد تضمره في القلب. قروء وأقراء جمع قرء (بضم فسكون) : وهو وقت الحيض قال ابن قتيبة: "أي له أوقات تهيج فيها عداوته"، وقال الجاحظ: "كأنه ذهب إلى أن حقده يخبو ثم يستعر، ثم يخبو ثم يستعر". (4) البيت الأول في اللسان (زجج) ، والثاني في المخصص 1: 162. وكان في الأصل: له زجاج ولهاة فارض ... هدلاء كالوطب تجاه الماخض وهو تصحيف. والزجاج جمع زج: وهو الحديدة التي تركب في أسفل الرمح يركز به في الأرض. فاستعاره للألباب. واللهاة: لحمة حمراء في الحنك، معلقة على عكدة اللسان، مشرفة على الحلق. والفارض في هذا البيت: الواسع العظيم الضخم يقال: لحية فارض، وشِقْشِقَة فارض. (وهي لهاة البعير) ودلو فارض قال أبو محمد الفقعسي يذكر دلوا واسعا (وهو الغرب) . والغرب غرب بقري فارض وحدلاء وأحدل: وهو الذي يمشي في شق، وفي منكبيه ورقبته إقبال على صدره، وانحناء. والوطب: سقاء اللبن، يكون من جلد. ونحاه: صرفه وأماله. والماخض: من مخض اللبن: إذا وضع في الممخضة، ليخرج زبده. لعله يهجو امرأته، ويذكر قبح أنيابها، وسعة لهاتها، من شدة شرهها. ويصف مشيتها مائلة على شق، وتكدس بدنها بعضه على بعض، كأنها وطب أماله الماخض يمنة ويسرة يحركه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وبمثل الذي قلنا في تأويل"فارض" قال المتأولون: * ذكر من قال ذلك: 1184 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: (لا فارض) ، قال: لا كبيرة. (1) 1185 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أو عن عكرمة، شك شريك-: (لا فارض) ، قال: الكبيرة. 1185 - حدثني محمد بن سعد قال، أخبرني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لا فارض) ، الفارض: الهرمة. 1186 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لا فارض) ، يقول: ليست بكبيرة هرمة. 1187 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: (لا فارض) ، الهرمة. 1188 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الفارض" الكبيرة. 1189 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،   (1) الخبر 1184 - علي بن سعيد بن مسروق الكندي، شيخ الطبري: كوفي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /189 - 190، مات سنة 249. عبد السلام بن حرب الملائي الكوفي، الحافظ: ثقة حجة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 /47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد قوله: (لا فارض) ، قال: الكبيرة. 1190 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (لا فارض) ، يعني: لا هرمة. 1191 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 1192 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الفارض"، الهرمة. 1193 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، قال قتادة:"الفارض" الهرمة. يقول: ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك. 1194 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الفارض"، الهرمة التي لا تلد. 1195 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الفارض"، الكبيرة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا بِكْرٌ} قال أبو جعفر: و"البكر" من إناث البهائم وبني آدم، ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء، لم يسمع منه "فَعَل" ولا "يفعل". وأما"البكر" بفتح الباء فهو الفتي من الإبل. * * * وإنما عنى جل ثناؤه بقوله (ولا بكر) ولا صغيرة لم تلد، كما:- 1196 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: (ولا بكر) ، صغيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 1197 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"البكر"، الصغيرة. 1198 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد، عن ابن عباس -أو عكرمة، شك-: (ولا بكر) ، قال: الصغيرة. 1199 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (ولا بكر) ، الصغيرة. 1200 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (ولا بكر) ولا صغيرة. 1201 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولا بكر) ، ولا صغيرة ضعيفة. 1202 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا بكر) ، يعني: ولا صغيرة. 1203 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 1204 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: في"البكر"، لم تلد إلا ولدا واحدا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {عَوَانٌ} قال أبو جعفر:"العوان" النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن، وليست بنعت للبكر. يقال منه:"قد عونت" إذا صارت كذلك. وإنما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 بين ذلك. ولا يجوز أن يكون"عوان" إلا مبتدأ. لأن قوله (بين ذلك) ، كناية عن الفارض والبكر، فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما، ومنه قول الأخطل: وما بمكة من شُمط مُحَفِّلة ... وما بيثرب من عُونٍ وأبكار (1) وجمعها"عون" يقال:"امرأة عوان من نسوة عون". ومنه قول تميم بن مقبل: ومأتم كالدمي حورٍ مدامعها ... لم تبأس العيش أبكارا ولا عونا (2) وبقرة "عوان، وبقر عون". قال: وربما قالت العرب: "بقر عُوُن" مثل"رسل" يطلبون بذلك الفرق بين جمع"عوان" من البقر، وجمع"عانة" من الحمر. ويقال:"هذه حرب عوان"، إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة. يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال:"حاجة عوان"، إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة.   (1) ديوانه: 119، وهو يخالف ما رواه الطبري، وقبله: إني حلفت برب الراقصات وما ... أضحي بمكة من حجب وأستار وبالهدي - إذا احمرت مذارعها ... في يوم نسك وتشريق وتنحار وما بزمزم من شمط محلقه ... وما بيثرب من عون وأبكار يعني: حلقوا رؤوسهم، وقد تحللوا من إحرامهم وقضوا حجتهم، والشمط جمع أشمط: وهو الذي خالط سواد شعره بياض الشيب. فإن صحت رواية الطبري"شمط مُحَفِّلَةٍ"، فكأنها من الحفيل والاحتفال: وهو الجد والاجتهاد، يقال منه: رجل ذو حفيل، وذو حفل وحفلة: له جد واجتهاد ومبالغة فيما أخذ فيه من الأمور. فكأنه عنى: مجتهدون في العبادة والنسك. (2) جمهرة أشعار العرب: 162، من جيد شعر تميم بن أبي بن مقبل. والمأتم عند العرب: جماعة النساء - أو الرجال - في خير أو شر. قالوا: والعامة تغلط فتظن أن"المأتم" النوح والنياحة. والدمى جمع دمية: الصورة أو التمثال، يتنوق في صنعتها ويبالغ في تحسينها، والعرب تكثر من تشبيه النساء بالدمي. والحور جمع حوراء. والحور أن يشتد بياض بياض العين، وسواد سوادها، تستدير حدقتها، وترق جفونها، ويبيض ما حولها. وقوله: "لم تبأس" أي لم يلحقها بؤس عيش، أو لم تشك بؤس عيش بئس يبأس بؤسا، فهو بائس وبئيس، افتقر واشتد عليه البؤس. وفي الأصل المطبوع، وفي اللسان (أتم) : "لم تيأس" بالياء المثناة، وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 1205 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، أن ابن زيد أنشده: قعود لدى الأبواب طلاب حاجة ... عوانٍ من الحاجات أو حاجةً بكرا (1) قال أبو جعفر: والبيت للفرزدق. وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1206 - حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: (عوان بين ذلك) ، وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين. (2) 1207 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (عوان) ، قال:"العوان": العانس النصف. 1208 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"العوان"، النصف. 1209 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -أو عكرمة، شك شريك- (عوان) ، قال: بين ذلك. 1210 - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (عوان) ، قال: بين الصغيرة والكبيرة، وهى أقوى   (1) ديوان الفرزدق: 227، وطبقات فحول الشعراء: 256، وتاريخ الطبري: 138، وغيرها. وسيأتي في 7: 188 (بولاق) ، والشعر في زياد، وقبله: دعاني زياد للعطاء ولم أكن ... لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا وعند زياد، لو يريد عطاءهم، ... رجال كثير قد يرى بهمُ فقرا ويروى: قعودا، ورواية ابن سلام"طالب حاجة"، ونصب"أو حاجة بكرا" عطفا على محل"حاجة عوان"، فمحلها نصب بقوله: "طلاب". (2) الخبر: 1206 -"على بن سعيد الكندي": ترجمنا له في: 1184، وفي الأصول هنا"سعد" بدل"سعيد"، وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 ما تكون من البقر والدواب، وأحسن ما تكون. 1211 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: (عوان) ، قال: النصف. 1212 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (عوان) نَصَف. 1213 - وحُدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 1214 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"العوان"، نَصَف بين ذلك. 1214 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد: (عوان) ، التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين. 1215 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"العوان"، النصَف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدُها. 1216 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"العوان"، بين ذلك، ليست ببكر ولا كبيرة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {بَيْنَ ذَلِكَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (بين ذلك) بين البكر والهرمة، كما:- 1217 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (بين ذلك) ، أي بين البكر والهرمة. * * * فإن قال قائل: قد علمت أن"بين" لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 فصاعدا، فكيف قيل"بين ذلك" و"ذلك" واحد في اللفظ؟ قيل: إنما صلحت مع كونها واحدة، لأن"ذلك" بمعنى اثنين، والعرب تجمع في"ذلك" و"ذاك" شيئين ومعنيين من الأفعال، كما يقول القائل:"أظن أخاك قائما، وكان عمرو أباك"، (1) ثم يقول:"قد كان ذاك، وأظن ذلك". فيجمع ب"ذلك" و"ذاك" الاسم والخبر، الذي كان لا بد لـ "ظن" و "كان" منهما. (2) * * * فمعنى الكلام: قال: إنه يقول إنما بقرة لا مسنة هرمة، ولا صغيرة لم تلد، ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن، بين الهرم والشباب. فجمع"ذلك" معنى الهرم والشباب لما وصفنا، ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين، لم يجمع مع"بين" ذلك. وذلك أن"ذلك" لا يؤدي عن اسم شخصين، وغير جائز لمن قال:"كنت بين زيد وعمرو"، أن يقول:"كنت بين ذلك"، وإنما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) } قال أبو جعفر: يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به، تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي؛ واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها، تصلوا - بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها - إلى العلم بقاتل قتيلكم. * * *   (1) عبارة الفراء هنا أوضح قال: فلا بد لـ"كان" من شيئين"، ولا بد لـ"أظن" من شيئين ثم يجوز أن تقول: "قد كان ذاك، وأظن ذلك". معاني القرآن 1: 45. (2) كان في المطبوعة: "الذي كان لا بد للظن وكان منهما"، وهو كلام يضطرب. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: قال قوم موسى لموسى: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ أي لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنت آخر منهم بعد الأول، وتكلف طلب ما قد كانوا كفوه في المرة الثانية والمسألة الآخرة. وذلك أنهم لم يكونوا حصروا في المرة الثانية - إذ قيل لهم بعد مسألتهم عن حلية البقرة التي كانوا أمروا بذبحها، فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من المسألة عن صفتها، فحصروا على نوع دون سائر الأنواع، عقوبة من الله لهم على مسألتهم التي سألوها نبيهم صلى الله عليه وسلم، تعنتا منهم له. ثم لم يحصرهم على لون منها دون لون، فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنياء، فقالوا - تعنتا منهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس-: (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) فقيل لهم عقوبة لهم: (إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) . فحصروا على لون منها دون لون. ومعنى ذلك: أن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها. * * * قال أبو جعفر: ومعنى قوله: (يبين لنا ما لونها) ، أي شيء لونها؟ فلذلك كان اللون مرفوعا، لأنه مرافع"ما". وإنما لم ينصب"ما" بقوله"يبين لنا"، لأن أصل"أي" و"ما"، جمع متفرق الاستفهام. يقول القائل (1) بين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلما لم يكن لقوله:"بين لنا" أن يقع على الاستفهام متفرقا، لم يكن له أن يقع على"أي"، لأنه جمع ذلك المتفرق. (2) وكذلك كل ما كان من نظائره فالعمل فيه واحد، في"ما" و"أي".   (1) في الأصل المطبوعة"كقول القائل"، وهو فساد. (2) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "فلما لم يكن كقوله: بين لنا، ارتفع على الاستفهام منصرفا، لم يكن له ارتفع على أي. . "، وهو كلام ضرب عليه التصحيف ضربا. وانظر ما جاء في معاني الفراء 1: 46 - 48، ففيه بيان شاف كاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (صفراء) . فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد. * ذكر من قال ذلك منهم: 1218 - حدثني أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري قال، حدثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن الحسن: (صفراء فاقع لونها) ، قال: سوداء شديدة السواد. (1) 1219 - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائده. والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن أبي رجاء، عن الحسن مثله. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف. * ذكر من قال ذلك: 1220 - حدثني هشام بن يونس النهشلي قال، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن في قوله: (صفراء فاقع لونها) ، قال: صفراء القرن والظلف. (3) 1221 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في قوله: (صفراء فاقع لونها) ، قال: كانت وحشية. (4)   (1) الخبر: 1218 - أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري البصري: ثقة، روى عنه أيضًا النسائي وأبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 200 مات سنة 248. نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني:، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 /111 - 112، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 483. (2) الخبر: 1219 - أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي يحيى بن أبي زائدة: ثقة، روى عنه أبو حاتم وغيره، وذكر بعضهم أن البخاري روى عنه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/601 - 602. مسلم بن إبراهيم: هو الأزدي الفراهيدي الحافظ. محمد بن سيف عن أبي رجاء". وهو خطأ، صوابه حذف"عن". (3) الخبر: 1220 - هشام بن يونس بن وابل النهشلي اللؤلؤي: ثقة، روى عنه الترمذي، وسمع منه أبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 72. (4) الخبر: 1221 - كثير بن زياد أبو سهل البرساني - بضم الموحدة وسكون الراء- الأزدي العتكي: ثقة من أكابر أصحاب الحسن. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 /215، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 151. والإسناد ضعيف، من أجل"جويبر بن سعيد"، كما ذكرنا ضعفه في: 284. وسيأتي قريبا برقم: 1254. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 1222 - حدثني يعقوب قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن إبراهيم، عن أبي حفص، عن مغراء - أو عن رجل -، عن سعيد بن جبير: (بقرة صفراء فاقع لونها) ، قال: صفراء القرن والظلف. (1) 1223 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هي صفراء. 1224 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنها بقرة صفراء فاقع لونها) ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. * * * قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: (صفراء) ، يعني به سوداء، ذهب إلى قوله في نعت الإبل السود: (2) "هذه إبل صفر، وهذه ناقة صفراء" يعني بها سوداء. وإنما قيل ذلك في الإبل لأن سوادها يضرب إلى الصفرة، ومنه قول الشاعر: (3) تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب (4)   (1) الخبر: 1222 - مروان بن معاوية: هو الفزاري الكوفي الحافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق والأئمة. مغراء، بفتح الميم وسكون الغين المعجمة: تابعي روى عن ابن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 65، وابن أبي حاتم 4 / 1/429، فلم يذكروا فيه جرحا. ولكن هذا الإسناد ضعيف، لتردد الراوي: أنه عن مغراء، أو عن رجل، فتردد بين ثقة وبين مبهم (2) في المطبوعة: "ذهب إلى قوله"، وليس بشيء. (3) هو الأعشى الكبير. (4) ديوانه: 219، والأضداد: 138، واللسان (صفر) ، وغيرها. من قصيدة يمدح بها أبا الأشعث قيس بن معد يكرب الكندي. وكان في الأصل: "تلك خيلي منها" وهو خطأ، فسياق الشعر: إن قيسا، قيس الفعال أبا الأشـ ... عث أمست أمداؤه لِشعوب كل عام يمدني بجموم ... عند وضع العنان أو بنجيب تلك خيلي منه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما أظن الطبري يخطئ في رواية هذا الشعر، والركاب: الإبل التي يسار عليها، لا واحد لها من لفظها، واحدتها راحلة. والزبيب: ذاوي العنب، وأسوده أجوده، ولكنه ليس خالص السواد. يقول: كل ما أملك من خيل، ومن إبل قد ولدت لي خير ما تلد الإبل، فهو من جود أبي الأشعث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 يعني بقوله:"هن صفر" هن سود وذلك إن وصفت الإبل به، فليس مما توصف به البقر. مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع، وإنما تصف السواد -إذا وصفته- بالشدة بالحلوكة ونحوها، فتقول:"هو أسود حالك وحانك وحُلكوك، وأسود غِربيب ودَجوجي" - ولا تقول: هو أسود فاقع. وإنما تقول:"هو أصفر فاقع". فوصفه إياه بالفقوع، من الدليل البين على خلاف التأويل الذي تأول قوله: (إنها بقرة صفراء فاقع) المتأول، بأن معناه سوداء شديدة السواد. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال أبو جعفر: يعني خالص لونها. و"الفقوع" في الصفر، نظير النصوع في البياض، وهو شدته وصفاؤه، كما:- 1225 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: (فاقع لونها) ، هي الصافي لونها. 1226 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فاقع لونها) ، أي صاف لونها. 1227 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. 1228 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فاقع) ، قال: نقي لونها. 1229 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: (فاقع لونها) ، شديدة الصفرة، تكاد   (1) مجرى العبارة: الذي تأول المتأول بأن معناه. "المتأول" فاعل مرفوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 من صفرتها تَبْيَضُّ. وقال أبو جعفر: أُراه أبيض! (1) 1230 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فاقع لونها) ، قال: شديدة صفرتها. * * * يقال منه:"فقع لونه يفقع ويفقع فقعا وفقوعا، فهو فاقع، كما قال الشاعر: حملت عليه الوَرد حتى تركته ... ذليلا يسُف الترب واللون فاقع (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (تسر الناظرين) ، تعجب هذه البقرة -في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها- الناظر إليها، كما:- 1231 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (تسر الناظرين) ، أي تعجب الناظرين. 1232 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا: (تسر الناظرين) ، إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. 1233 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (تسر الناظرين) ، قال: تعجب الناطرين. * * *   (1) كأن أبا جعفر أراد أن يعترض على قوله: "تكاد من صفرتها تبيض"، فقال ما معناه: لو صح ذلك لكان قوله: "فاقع لونها"، أي أبيض، والصفرة تشتد، فإذا خفت ابيضت. هذا هو معنى ما قاله فيما أرجح. (2) لم أعرف قائله. والورد: فرسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (قالوا) قال قوم موسى - الذين أمروا بذبح البقرة - لموسى. فترك ذكر موسى، وذكر عائد ذكره، اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له:"ادع ربك". فلم يذكر"له" لما وصفنا. وقوله: (يبين لنا ما هي) ، خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة. وذلك أنهم لو كانوا، إذ أمروا بذبح البقرة، ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة، كانت عنهم مجزئة، ولم يكن عليهم غيرها، لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة. فلما سألوا بيانها بأي صفة هي، بين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان، (1) فقيل لهم: هي عوان بين الفارض والبكر والضرع. (2) فكانوا - إذْ بينت لهم سنها- لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم، كانت عنهم مجزئة، لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم، ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون. فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها، مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض، فشددوا على أنفسهم - شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه. ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته:- 1234 - "ذروني ما تركتكم، فإنما أُهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوه، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم". (3)   (1) في المطبوعة: "فبين لهم أنها بسن. . "، والفاء لا مكان لها هنا. (2) الضرع: الضعيف الضاوي الجسم. (3) الحديث: 1234 - رواه هنا دون إسناد. وهو من حديث أبي هريرة. ووقع في آخره خطأ، قلب معناه. واللفظ الصحيح، بالمعنى الصحيح؛"فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم". هذا لفظ البخاري. وقد أفاض الحافظ في شرحه، في الفتح 13: 219 - 226. ورواه أيضًا أحمد: 7361، بنحو معناه. وأشرنا هناك إلى كثير من طرقه في المسند وغيره وكذلك رواه مسلم 2: 221، بنحوه، من طرق. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، من طرق: 17، 18، 19، 20 (بتحقيقنا) وفي رواية ابن حبان: 17، "قال ابن عجلان: فحدثت به أبان بن صالح، فقال لي: ما أجود هذه الكلمة، قوله: فأتوا منه ما استطعتم". وهو الحديث التاسع من الأربعين النووية، وقد شرحه ابن رجب، في جامع العلوم والحكم، شرحا مسهبا. ولعل الخطأ الذي وقع هنا خطأ من الناسخين. فما أظن الطبري يخفي عليه ما في هذا اللفظ من تهافت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 قال أبو جعفر: ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا، زادهم الله عقوبة وتشديدا، كما:- 1235 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم. 1236 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. (1) 1237 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب- 1238 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان جميعا، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: سألوا وشددوا فشدد الله عليهم. 1239 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة   (1) الخبر: 1236 - جاء شيخ الطبري هنا باسم"عمرو بن عبد الأعلى"! وما وجدت راويا يسمى بهذا. وإنما هو"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني"، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما، كما مضى مثل هذا الإسناد على الصواب: 1172. ومحمد بن عبد الأعلى: بصري ثقة، مات سنة 245، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 1 / 174، وابن أبي حاتم 4 / 1 /16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 لأجزأت عنهم. ولولا قولهم: (وإنا إن شاء الله لمهتدون) ، لما وجدوها. 1240 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ، لو أخذوا بقرة ما كانت، لأجزأت عنهم. (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) ، قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) الآية. 1241 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، وزاد فيه: ولكنهم شددوا فشدد عليهم. 1242 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد:"لو أخذوا بقرة مَّا كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج، قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شُدد الله عليهم؛ وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد". (1) 1243 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا   (1) الخبر: 1242 - جاء في آخره حديث مرفوع، ذكره ابن جريج. وهو مرسل لا تقوم به حجة. وسيأتي أيضًا: 1244، عن قتادة مرسلا. وذكر معناه ابن كثير 1: 203، من تفسيرى ابن أبي حاتم وابن مردويه، بإسناديهما، من رواية الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مرفوعا، بنحوه. قال ابن كثير: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 بقرة فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: (وإنا إن شاء الله لمهتدون) ، لما هدوا إليها أبدا. 1244 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم. والذي نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد. 1245 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم. 1246 - حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عباس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة -يعني بني إسرائيل- لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد عليهم، فاشتروها بملء جلدها دنانير. (1) 1247 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك، ولكن البلاء في هذه المسائل، فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) ، فشدد عليهم، فقال: (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) ، فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) ، قال: وشدد عليهم أشد من الأول، فقرأ حتى بلغ: (مسلمة لا شية فيها) فأبوا أيضا فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) فشدد عليهم، فقال: "إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها) ،   (1) الخبر: 1246 - هذا الإسناد منقطع بين أبي بكر بن عياش وابن عباس، كما هو ظاهر لأن ابا بكر يروى عن التابعين، ومولده بعد موت ابن عباس بدهر. وهذا الخبر ذكره السيوطي 1: 77، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم"من طرق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 قال: فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها، وهي صفراء، ليس فيها سواد ولا بياض. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه - من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم، من قولهم إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله، فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، على العموم الظاهر، دون الخصوص الباطن، (2) إلا أن يخص، بعض ما عمه ظاهر التنزيل، كتاب من الله أو رسولُ الله، وأن التنزيل أو الرسول، إن خص بعض ما عمه ظاهر التنزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر، فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة، وسائر حكم الآية على العموم؛ على نحو ما قد بيناه في كتابنا (كتاب الرسالة) من (لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام) - في قولنا في العموم والخصوص، وموافقة قولهم في ذلك قولنا، ومذهبهم مذهبنا، وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام، وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم، ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية. فإن خص منها بعض، فحكم الآية حينئذ على الخصوص. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا - ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها - رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين، وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر - إذ أمروا بذبحها بقوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ، فذبحوها - كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك   (1) الأثر: 1247 - سيأتي تمامه في رقم: 1273. (2) انظر ما مضى في تفسير" الظاهر، والباطن": 2: 15 والمراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 مؤدين، وللحق مطيعين، إذْ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع، وسن دون سن. ورأوا مع ذلك أنهم - إذْ سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها، وحصرهم منها على سن دون سن، ونوع دون نوع، وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها - كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية، بعد الذي خص لهم من أنوع البقر، من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى. وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية، وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى، استعمال ظاهر الأمر، وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة. وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية، استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر، ولم يروا أن حكمهم - إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية - انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى، من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص. ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك - مع الرواية التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة لقولهم - دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص، وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه - فيما أمر ونهى - على العموم، ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له. وأنه إذا خص منه شيء، فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر، وسائر حكم الآية على ظاهرها العام - ومؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك، (1) وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه.   (1) في المطبوعة: " ويؤيد حقيقة ما قلنا. . . "، وهو خطأ، وقوله"مؤيد حقيقة ما قلنا" معطوف على قوله آنفًا: " ففي إجماع جميعهم. . دليل واضح. . ومؤيد حقيقة ما قلنا. . وشاهد عدل. . ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وقد زعم بعض من عظمت جهالته، واشتدت حيرته، أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر، لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك، كما خصت عصا موسى في معناها، فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها. ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا، لسهل عليه ما استصعب من القول. وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم، ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم. فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا، ويتعبدهم بعبادة، ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به، حتى يسألوا بيان ذلك لهم! فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه، ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه، فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض، فنعوذ بالله من الحيرة، ونسأله التوفيق والهداية. * * * وأما قوله: (إن البقر تشابه علينا) ، فإن"البقر" جماع بقرة. وقد قرأ بعضهم: (إن الباقر) ، وذلك - وإن كان في الكلام جائزا، لمجيئه في كلام العرب وأشعارها، كما قال ميمون بن قيس: (1) وما ذنبه أن عافت الماء باقر ... وما إن تعاف الماء إلا ليضربا (2)   (1) يعني الأعشى الكبير. (2) ديوانه: 90، والحيوان 1: 19 (وانظر أيضًا 1: 301، 6: 174) ، واللسان (ثور) وغيرها. من قصيدة يقولها لبني قيس بن سعد، وما كان بينه وبينهم من قطيعة بعد مواصلة ومودة، وقبل البيت: وإني وما كلفتموني - وربكم ... ليعلم من أمسى أعق وأحربا لكالثور، والجِنِّيّ يضرب ظهره ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا قال الجاحظ: "كانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب، إما لكدر الماء أو لقلة العطش، ضربوا الثور ليقتحم، لأن البقر تتبعه كما تتبع الشول الفحل، وكما تتبع أتن الوحش الحمار. . وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء، حتى تمسك البقر عن الشرب، حتى تهلك. . كأنه قال: إذا كان يضرب أبدا لأنها عافت الماء، فكأنها إنما عافت الماء ليضرب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وكما قال أمية: (1) ويسوقون باقر السهل للط ... ود مهازيل خشية أن تبورا (2) - فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة، بنقل من لا يجوز - عليه فيما نقلوه مجمعين عليه - الخطأ والسهو والكذب. * * * وأما تأويل: (تشابه علينا) ، فإنه يعني به، التبس علينا. والقَرَأَة مختلفة في تلاوته. (3) فبعضهم كانوا يتلونه:"تشابه علينا"، بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال "تفاعل"، ويُذَكِّر الفعل، وإن كان "البقر" جماعا. لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء، وجمعه بطرح الهاء - وتأنيثه، (4) كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر: 20] ، فذكر"المنقعر" وهو من صفة النخل، لتذكير لفظ"النخل" - وقال في موضع آخر: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) [الحاقة: 7] ، فأنث"الخاوية" وهي من صفة"النخل" - بمعنى النخل. (5) لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر -على ما وصفنا قبل- فهي جماع"نخلة". * * *   (1) يعني: أمية بن أبي الصلت. (2) ديوانه: 35، والحيوان 4: 467، والأزمنة والأمكنة 2: 124، وغيرها. وفي الأصل المطبوع: "باقر الطود للسهل"، وفي الديوان والحيوان"باقرا يطرد السهل"، وصواب الرواية ما أثبته من الأزمنة. قال الجاحظ في ذكر نيران العرب: ""ونار أخرى: وهي النار التي كانوا يستمطرون بها في الجاهلية الأولى. فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار، اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع، فكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا"، وقال ابن الكلبي: " كانوا يضرمون تفاؤلا للبرق" والمهازيل جمع مهزول، مثل هزيل وجمعه هزلي: وهي التي ضعفت ضعفا شديدا وذهب سمنها. وتبور: تهلك. (3) في المطبوعة: "والقراء"، ورددتها إلى ما جرى عليه لفظ الطبري، كما سلف مرارا. (4) وحدان جمع واحد: ويعني أفراده. وقوله"وتأنيثه" معطوف على قوله"تذكير كل فعل". (5) السياق: "فأنث (الخاوية) . . بمعنى النخل"، يعني أنثها من أجل معناه وهو جمع مؤنث، ولم يذكره من أجل لفظه، وهو مذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وكان بعضهم يتلوه: (إن البقر تشَّابهُ علينا) ، بتشديد الشين وضم الهاء، فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث"البقر"، كما قال: (أعجاز نخل خاوية) ، ويدخل في أول"تشابه" تاء تدل على تأنيثها، ثم تدغم التاء الثانية في"شين""تشابه" لتقارب مخرجها ومخرج"الشين" فتصير"شينا" مشددة، وترفع"الهاء" بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب. * * * وكان بعضهم يتلوه: (إن البقر تشَّابهُ علينا) ، فيخرج"يشابه" مخرج الخبر عن الذكر، لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك: (تشابه) بالتخفيف ونصب"الهاء"، غير أنه كان يرفعه ب"الياء" التي يحدثها في أول"تشابه" التي تأتي بمعنى الاستقبال، وتدغم"التاء" في"الشين" كما فعله القارئ في"تشابه" ب"التاء" والتشديد. * * * قال ابو جعفر: والصواب في ذلك من القراءة عندنا: (إن البقر تَشَابَهَ علينا) ، بتخفيف"شين""تشابه" ونصب"هائه"، بمعنى"تفاعل"، لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك، ودفعهم ما سواه من القراءات. (1) ولا يعترض على الحجة بقول من يَجُوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ. * * * وأما قوله: (وإنا إن شاء الله لمهتدون) ، فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى"اهتدائهم" في هذا الموضع معنى:"تبينهم" أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "ورفعهم"، والصواب ما أثبته. (2) يعني أن ذلك من قولهم: هداه، أي بين له، ومنه قوله تعالى: "وأما ثمود فهد يناهم"، أي بينا لهم طريق الهدى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: قال موسى: إن الله يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعني بقوله: (لا ذلول) ، أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها، ولا سُنِيَ عليها الماء فيُسقى عليها الزرع. (1) كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل:"دابة ذلول بينة الذِّل" بكسر الذال. (2) ويقال في مثله من بني آدم:"رجل ذليل بين الذِّل والذلة". 1248 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إنها بقرة لا ذلول) ، يقول: صعبة لم يذلها عمل، (تثير الأرض، ولا تسقي الحرث) . 1249 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) ، يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها، وليست تسقي الحرث. 1250 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (إنها بقرة لا ذلول) ، أي لم يذللها العمل. (تثير الأرض) يعني: ليست بذلول فتثير الأرض. (ولا تسقي الحرث) يقول: ولا تعمل في الحرث. 1251 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن   (1) سنت الناقة تسنو، وسنا الرجل يسنو سنوا وسناية: إذا سقى الأرض. والسانية: هي الناضحة، وهي الناقة أو غيرها مما يسقى عليها الزرع، والجمع: السواني. (2) الذل: اللين، ضد الصعوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الربيع: (إنها بقرة لا ذلول) يقول: لم يذلها العمل، (تثير الأرض) يقول: تثير الأرض بأظلافها، (1) (ولا تسقي الحرث) ، يقول: لا تعمل في الحرث. 1252 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال الأعرج، قال مجاهد، قوله: (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) ، يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك. 1253 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث. * * * قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (تثير الأرض) ، تقلب الأرض للحرث. يقال منه:"أثرت الأرض أثيرها إثارة"، إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة، لأنها كانت -فيما قيل- وَحشِيّة. 1254 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن قال: كانت وحشية. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مُسَلَّمَةٌ} قال أبو جعفر: ومعنى "مسلمة" "مفعلة" من "السلامة". يقال منه: " سُلِّمت تسلم فهي مسلمة. * * * ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه، فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما:- 1255 - حدثنا به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مسلمة"، يقول: مسلمة من الشية، و (لا شية فيها) ،   (1) في المطبوعة: "تبين الأرض"، وهو تصحيف. (2) الأثر: 1254 - سلف قريبا برقم: 1221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 لا بياض فيها ولا سواد. 1256 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1257 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (مسلمة) ، قال: مسلمة من الشية، (لا شية فيها) لا بياض فيها ولا سواد. * * * وقال آخرون: مسلمة من العيوب. * ذكر من قال ذلك: 1258 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مسلمة لا شية فيها) ، أي مسلمة من العيوب. 1259 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (مسلمة) ، يقول: لا عيب فيها. 1260 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (مسلمة) ، يعني مسلمة من العيوب. 1261 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. 1262 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: (مسلمة) ، لا عَوَارَ فيها. (1) * * * قال أبو جعفر: والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك، أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد. لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها، لكان في قوله: (مسلمة) مُكْتَفًى عن قوله: (لا شية فيها) . وفي قوله: (لا شية فيها) ، ما يوضح عن أن معنى قوله: (مُسَلَّمة) ، غير معنى قوله: (لا شية فيها) ، وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: إنه   (1) العوار (بفتح العين، وتضم) : العيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة، ولا السنو عليها للمزارع، (1) وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لا شِيَةَ فِيهَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (لا شية فيها) ، لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من "وشي الثوب"، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه، بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته، (2) يقال منه:"وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا"، ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره:"واش"، لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالأباطيل. يقال منه:"وشيت به إلى السلطان وشاية". ومنه قول كعب بن زهير: تسعى الوشاة جَنَابَيْها وقولهُمُ ... إنك يا ابن أبي سُلمى لمقتول (3) و"الوشاة جمع واش"، يعني أنهم يتقولون بالأباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم قتله. وقد زعم بعض أهل العربية أن"الوشي"، العلامة. وذلك لا معنى له، إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام. لأنه معلوم أن القائل:"وشيت بفلان إلى فلان" غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة.   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 211 تعليق: 1. (2) السدَى: الأسفل من الثوب، واللُّحمة: الأعلى منه يداخل السدَى. (3) ديوانه: 19، وسيرة ابن هشام 4: 153، والروض الأنف 2: 314، والفائق (قحل) ورواية الديوان "بجنبيها" ورواية ابن هشام: "تسعى الغواة". وقوله: "جنابيها". والجناب: الناحية، ويريد ناحية الجنب. يقال: "جنبيه، وجانبيه، وجنابيه،. والضمير في قوله: "جنابيها" لناقته التي ذكرها قبل. وقوله: "وقولهم: إنك. . "، حال، أي: وهم يقولون، والمعنى يكثرون القول عليه: إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول، كأنهم لا يقولون غير ذلك، ترهيبا له وتخويفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وإنما قيل: (لا شية فيها) وهي من"وشيت"، لأن"الواو" لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها"الهاء" في آخرها. كما قيل: "وزنته زنة" و "وسن سِنة" (1) و"وعدته عِدة" و"وديته دِية". * * * وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: (لا شية فيها) ، قال أهل التأويل: 1263 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (لا شية فيها) ، أي لا بياض فيها. 1264 - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. 1265 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (لا شية فيها) ، يقول: لا بياض فيها. 1266 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا شية فيها) أي لا بياض فيها ولا سواد. 1267 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1268 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (لا شية فيها) ، قال: لونها واحد، ليس فيها سوى لونها. 1269 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لا شية فيها) ، من بياض ولا سواد ولا حمرة. 1270 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (لا شية فيها) ، هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد. 1271 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لا شية فيها) ، يقول: لا بياض فيها. * * *   (1) في المطبوعة: " ووسيته سية"، وهو كلام لا أصل له، وكأنه مصحف ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (قالوا الآن جئت بالحق) . فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق فتبيناه، وعرفنا أية بقرة عنيت. (1) وممن قال ذلك قتادة: 1272 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قالوا الآن جئت بالحق) ، أي الآن بينت لنا. * * * وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه، إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد: 1273 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها، وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض، فقالوا: هذه بقرة فلان: (الآن جئت بالحق) ، وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندنا بقوله: (قالوا الآن جئت بالحق) ، قول قتادة. وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقر، فعرفنا أيها الواجب علينا ذبحها منها. (3) لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها، بعد   (1) في المطبوعة: "فتبيناه وعرفناه أنه بقرة عينت"، تصحيف وتحريف، وهو فاسد جدا. مضى في ص" 209 نقض الطبري لقول من زعم أنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها. فسألوه أن يصفها لهم ليعرفوها، وسمى قائل ذلك: جاهلا، وشفى في بيان جهله، فلو كان الله تعالى"عينها" لهم، لبين لهم ما عين، إذا أمر بذبحها. (2) الأثر: 1273 - بعض الأثر: 1247، وهنا زيادة عليه من تمامه. (3) في المطبوعة: "الآن بينت لنا الحق في أمر البقرة، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها"، و"البقرة"و"أنها" تصحيف وتحريف، يفسد معنى ما قال الطبري ىنفا ص: 209، وما سيأتي بعد هذه الجملة. وانظر التعليق السالف رقم: 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 قيلهم هذا. مع غلظ مؤونة ذبحها عليهم، وثقل أمرها، فقال: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ، وإن كانوا قد قالوا - بقولهم: الآن بينت لنا الحق - هراء من القول، وأتوا خطأ وجهلا من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم - في كل مسألة سألوها إياه، ورد رادوه في أمر البقر - (1) الحق. وإنما يقال:"الآن بينت لنا الحق" لمن لم يكن مبينا قبل ذلك، فأما من كان كل قيله -فيما أبان عن الله تعالى ذكره- حقا وبيانا، فغير جائز أن يقال له = في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه، وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: (الآن جئت بالحق) ، كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك! * * * وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: (الآن جئت بالحق) ، ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر. وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال، لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فذبحوها) ، فذبح قوم موسى البقرة، التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها. ويعني بقوله: (وما كادوا يفعلون) ، أي: قاربوا أن يَدَعوا ذبحها، ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك. * * * ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم، في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان   (1) السياق: "كان مبينا لهم. . الحق"، ما بينهما فصل، كعادته في الفصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها، وبينت لهم صفتها. * ذكر من قال ذلك: 1274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) قال: لغلاء ثمنها. 1275 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي قال، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ، قال: من كثرة قيمتها. (1) 1276 - حدثنا القاسم قال، أخبرنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - في حديث فيه طول، ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض - قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ، لكثرة الثمن، أخذوها بملء مسكها ذهبا من مال المقتول، (2) فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها. 1277 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ، يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها: وكل شيء في القرآن"كاد" أو"كادوا" أو"لو"، فإنه لا يكون. وهو مثل قوله: (أكاد أخفيها) [طه: 20] * * * وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن أطلع الله على   (1) الخبر: 1275 - محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي، شيخ الطبري: ثقة، روى عنه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. مترجم في التهذيب، ولم أجد له ترجمة في غيره. عبد العزيز ابن الخطاب الكوفي أبو الحسن: ثقة، روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وغيرهما، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 /381. أبو معشر: هو نجيح - بفتح النون - بن عبد الرحمن السندي - بكسر السين - المدني، وهو ضعيف. البخاري في الكبير 4 / 2 /114، وقال: "منكر الحديث" وابن أبي حاتم 4 /1 / 495. محمد بن كعب القرظي: تابعي ثقة معروف. (2) المسك (بفتح فسكون) : جلد البقرة وغيرها من الحيوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى. * * * قال أبو جعفر: والصواب من التأويل عندنا، أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلتين كلتيهما: إحداهما غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها؛ والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه - على قاتله. * * * فأما غلاء ثمنها، فإنه قد روي لنا فيه ضروب من الروايات. 1278 - فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا، فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها. 1279 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: اشتروها بملء جلدها دنانير. 1280 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له، فباعها بملء جلدها ذهبا. 1281 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبا فباعها منهم. 1282 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل، بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير، ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير، ثم دفعوها إليه. 1283 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي (1)   (1) في المطبوعة: محمد بن سعيد قال حدثني أبي قال حدثني يحيى"، وهذا خطأ، والصواب ما أثبته. وقد مضى الكلام على هذا الإسناد في 1: 263 - 264، وهو كثير الدوران في تفسير الطبري"، وسيأتي بعد في رقم: 1290على الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا، فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير، فرضي به فأعطاهم إياها. 1284 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: لم يجدوها إلا عند عجوز، وإنها سألتهم أضعاف ثمنها، فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. 1285 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عَبيدة قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد، فباعها بوزنها ذهبا، أو ملء مسكها ذهبا - فذبحوها. 1286 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: وجدوا البقرة عند رجل، فقال: إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا، فاشتروها بملء جلدها ذهبا. 1287 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها - وهو جلدها - ذهبا. * * * وأما صغر خطرها وقلة قيمتها، فإن الحسن بن يحيى:- 1288 - حدثنا قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، حدثني محمد بن سوقة، عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير. وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم، فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى: (أتتخذنا هزوا) ، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها. 1289 - حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه. وكان ابن عباس يقول: إن القوم، بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 أنكرت قتلته قتله، فقالوا: والله ما قتلناه؛ بعد أن رأوا الآية والحق. 1290 - حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثتي أبي عن أبيه، عن ابن عباس. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذ قتلتم نفسا) ، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا. و"النفس" التي قتلوها، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . * * * وقوله: (فادارأتم فيها) ، يعني فاختلفتم وتنازعتم. وإنما هو"فتدارأتم فيها" على مثال"تفاعلتم"، من الدرء. و"الدرء": العوج، ومنه قول أبي النجم العجلي: خشية ضَغّام إذا هم جَسَر ... يأكل ذا الدرء ويقصي من حقر (1) يعني: ذا العوج والعسر. ومنه قول رؤبة بن العجاج: أدركتها قدام كل مِدْرَهِ ... بالدفع عني درء كل عُنْجُهِ (2)   (1) لم أجد البيت في مكان، وكان في المطبوعة. خشية طغام إذا هم حسر ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهو كلام مختل. والضغام من الضغم: وهو أن يملأ فمه مما أهوى إليه. وجسر جسورا وجسارة مضى ونفذ من شدة إقدامه. (2) ديوانه: 166 من قصيدة يصف بها نفسه. والضمير في قوله: "أدركتها" إلى ما سبق في رجزه. وَحقّةٍ ليست بقول التره وقوله: "حقة"، يعني خصومة أو منافرة أو مفاخرة، أو ما أشبه ذلك. والمدره: هو المدافع الذي يقدم عند الخصومة، بلسان أو يد. والعنجه والعنجهي: ذو الكبر والعظمة حتى كاد يبلغ الجهل والحمق ومنه العنجهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ومنه الخبر الذي:- 1291 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن السائب قال: جاءني عثمان وزهير ابنا أمية، فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا أعلم به منكما، ألم تكن شريكي في الجاهلية؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي، فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري". (1)   (1) الحديث: 1291 - في هذا الإسناد ضعف، وفي الحديث نفسه اضطراب، كما سيأتي: أبو كريب: هو محمد بن العلاء بن كريب الحافظ، ثقة كبير، من شيوخ أصحاب الكتب الستة، روى عنه الطبري كثيرا. مات سنة 248. مصعب بن المقدام الخثعمي: ثقة، وضعفه بعضهم، وأخرج له مسلم في صحيحه، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 354، وابن أبي حاتم 4 /1 / 308. إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة حافظ معروف. إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي: ثقة، تكلم فيه بغير حجة، وأخرج له مسلم. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 1 / 328، وصرح بأنه سمع مجاهدا، وابن أبي حاتم 1 /1 / 132 - 133. السائب: صحابي - كما هو ظاهر من هذا الحديث وغيره، واختلف فيه كثيرا، فقيل: "السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ. . "، وقيل: "السائب بن عبد الله المخزومي"، بل قيل أيضًا: "قيس بن السائب"! والذي جزم به البخاري في الكبير 2 / 2 / 152 واقتصر عليه: "السائب بن أبي السائب القرشي المكي، له صحبة". وكذلك صنع ابن أبي حاتم 2 /1 / 242، وقال: "منهم من يقول: له صحبة، ومنهم من يقول: لأبيه صحبة. روى عنه مجاهد. يقال: "إنه مولى مجاهد من فوق". وفي الإصابة 3: 60 نقلا عن ابن أبي شيبة، أنه روى من طريق يونس بن خباب عن مجاهد: "كنت أقود السائب، فيقول لي: يا مجاهد. . ". ولو صح هذا لثبت اتصال الإسناد، لكن يونس بن خباب ضعيف. والحديث روى أحمد في المسند: 15566 (3: 425 حلبي) نحو معناه، بزيادة ونقص، عن أسود بن عامر، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، "عن السائب بن عبد الله"، ثم روى بعده مثله، بمعناه، مطولا ومختصرا، من طرق، وفي بعضها" عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب". وروى أبو داود: 4836، نحوه، من طريق الثوري، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب وقال المنذري في تهذيب السنن: 4669"وأخرجه النسائي وابن ماجه. . وهذا الحديث قد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا. وذكر ابو عمر يوسف بن عبد البر النمري: أن هذا الحديث مضطرب جدا. . وهذا الاضطراب لا تقوم به حجة". وقد وقع في متن الحديث هنا خطأ، لا ندري: أهو من الرواية، أم من الناسخين. وذلك قوله"جاءني عثمان وزهير ابنا أمية". فلا يوجد في الصحابة من يسمي بهذا ولا بذاك. والصواب ما في رواية المسند: 15566"جاء بي عثمان بن عفان، وزهير". وزهير: هو ابن أبي أمية، أخو أم سلمة، أم المؤمنين، وهي بنت أبي أمية. كما بين ذلك في الإصابة 3: 13 - 14، إذ قال: "وروى ابن منده من طريق مجاهد، عن السائب شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذهب بي عثمان، وزهير بن أبي أمية. . " وانظر نسب قريش للمصعب، ص: 333. حيث جزم بأن"السائب بن أبي السائب صيفي" قتل يوم بدر كافرا؛ وانظر أيضًا الإشارة إلى أصل القصة في الإصابة 3: 13 - 14، 60، و 4: 74، و5: 253 - 254. والموضوع لا يزال محتاجا إلى تحقيق وبحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 يعني بقوله:"لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارُّه. * * * وإنما أصل (فادارأتم) ، فتدارأتم، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر: تولي الضجيع إذا ما استافها خَصِرا ... عذب المذاق إذا ما اتّابعَ القُبَل (1) يريد إذا ما تتابع القبل، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى. فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت، فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها، وذلك إذا كان قبله شيء، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء، ومنه قول الله جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) [الأعراف: 38] ، إنما هو"تداركوا"، ولكن التاء منها أدغمت في الدال، فصارت دالا مشددة، وجعلت فيها ألف -إذ وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام. وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله، وابتدئ به، قيل: تداركوا وتثاقلوا، فأظهروا الإدغام. وقد قيل يقال:"اداركوا، وادارءوا". وقد قيل إن معنى قوله: (فادارأتم فيها) ، فتدافعتم فيها. من قول القائل:"درأت هذا الأمر عني"، ومن قول الله: (ويدرأ عنها العذاب) [النور: 8] ، بمعنى   (1) لم أعرف قائله، وسيأتي في 10: 94 (بولاق) ، وفي المطبوعة هنا"اشتاقها" وهو خطأ والصحيح ما أثبته من هناك. وساف الشيء يسوفه سوفا واستافه: دنا منه وشمه. واستعاره للقبلة، كما استعاروا الشم للقبلة، لأن دنو الأنف يسبق ما أراد المريد. قال الراعي يصف ما يصف من القبلة يثني مُساوفها غضروف أرنبة ... شماء، من رخصة في جيدها غيد قال الزمخشري: "ساوفتها" ضاجعتها، ولكنه في البيت: الذي يُقبِّل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الأول. لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله، كما قد بينا قبل قيما مضى من كتابنا هذا. (1) وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (فادارأتم فيها) قال أهل التأويل. 1292 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (فادارأتم فيها) ، قال: اختلفتم فيها. 1293 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1294 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال الآخرون: أنتم قتلتموه. 1295 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فادارأتم فيها) ، قال: اختلفتم، وهو التنازع، تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه. وقال هؤلاء: لا. * * * وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما:- 1296 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم، فانتفوا -أو انتفلوا- منه. شك أبو عاصم. (2) 1297 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) انظر ما سلف رقم: 1172، 1180. (2) انتفل من الشيء: انتفى منه وتبرأ، وأنكر أن يكون فعله أو عرفه وفي حديث ابن عمر: "إن فلانا انتفل من ولده" أي تبرأ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال: فادعوا دمه عندهم فانتفوا -ولم يشك- منه. (1) 1298 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: قتيل كان في بني إسرائيل. فقذف كل سبط منهم [سبطا به] ، (2) حتى تفاقم بينهم الشر، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأوحى الله إلى موسى: أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها. فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله، من أجل ميراث كان بينهم. 1299- حدثني ابن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في شأن البقرة. وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته. فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم، أتاهم الشيطان، فقال: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما، فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين، قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين، فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم، عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وأنهم عمدوا إلى موسى، فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى،   (1) في المطبوعة: "ولم يشك فيه"، وهو خطأ وتصحيف. "لم يشك" فاصلة بين الفعل وحرفه. (2) الزيادة بين القوسين، لا بد منها ليستقيم معناه، وأخشى أن يكون في الأصول تحريف لم أعثر على صوابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 فقال: قل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها. 1300 - حدثنا القاسم قال، حدثنا حسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد - وحجاج عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: إن سبطا من بني إسرائيل، لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف، (1) فإذا لم ير شيئا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير ابن أخيه، فطال عليه حياته، فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة، فنظر فلم ير شيئا. ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب: فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل، (2) كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم. أخذهم. فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض. فأتوا موسى فذكروا له شأنهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب. وقال أهل المدينة: يا رسول الله، قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة -كما رأيت- نعتزل شرور الناس، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى ذكره إليه: أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. 1301 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير، فقتله ابن أخ له، فجره فألقاه على باب ناس آخرين.   (1) تشرف الشيء واسشرفه: وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس، حتى يبصره ويستبينه. (2) لعل الصواب: "كثر في أصحابه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ثم أصبحوا، فادعاه عليهم، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يقتتلوا، فقال، ذوو النهي منهم: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فأمسكوا حتى أتوا موسى، فقصوا عليه القصة، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها، فقالوا: أتتخذنا هزوا؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. 1302 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتيل من بني إسرائيل، طرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. فقالوا: لا والله. فأتوا إلى موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. * * * قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو"الدرء" الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم: (فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) } قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (والله مخرج ما كنتم تكتمون) ، والله معلن ما كنتم تسرونه من قتل القتيل الذي قتلتم، ثم ادارأتم فيه. * * * ومعنى"الإخراج" -في هذا الموضع- الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه، وإطلاعهم عليه، كما قال الله تعالى ذكره: (أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [النمل: 25] يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه. * * * والذي كانوا يكتمونه فأخرجه، هو قتل القاتل القتيل. لما كتم ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك، (1) حتى أظهره الله وأخرجه، فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره. * * * وعَنَى جل ذكره بقوله: (تكتمون) ، تسرون وتغيبون، كما: 1303 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (والله مخرج ما كنتم تكتمون) ، قال: تغيبون. 1304 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما كنتم تكتمون) ، ما كنتم تغيبون. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: فقلنا لقوم موسى الذين ادارءوا في القتيل (2) - الذي قد تقدم وصفنا أمره -: اضربوا القتيل. و"الهاء" التي في قوله: (اضربوه) من ذكر القتيل؛ (ببعضها) أي: ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها. * * * ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وأي عضو كان ذلك منها. فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل. * ذكر من قال ذلك: 1305 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا، فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.   (1) "ذلك" في قوله: "لما كتم ذلك" مفعول، هو كناية عن قوله: "هو قتل القاتل القتيل". (2) في المطبوعة: ". . بقوله فقلنا لقوم موسى"، والصواب زيادة لفظ الآية، كما فعلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 1306 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة، ثم ذكر مثله. 1307 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: (فقلنا اضربوه ببعضها) ، قال: بفخذها، فلما ضرب بها عاش، وقال: قتلني فلان. ثم عاد إلى حاله. (1) 1308 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن خالد بن يزيد، عن مجاهد قال: ضرب بفخذها الرجل، فقام حيا فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته. 1309 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا المقتول ببعض لحمها -وقال معمر، عن قتادة -: ضربوه بلحم الفخذ فعاش، فقال: قتلني فلان. 1310 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات. * * * وقال آخرون: الذي ضرب به منها، هو البضعة التي بين الكتفين. (2) * ذكر من قال ذلك: 1311 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فقلنا اضربوه ببعضها) ، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.   (1) الخبر: 1307 - النضر بن عربي الباهلي: ثقة من أتباع التابعين، وثقه ابن معين وغيره، مات سنة 168، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 /89، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 475. (2) البضعة: القطعة من اللحم، قولهم: بضع اللحم: قطعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها، عظم من عظامها. * ذكر من قال ذلك: 1312 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله. * * * وقال آخرون بما:- 1313 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد - (1) قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط، أراد أن يأخذ ديته. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله عندنا: (فقلنا اضربوه ببعضها) ، أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية، ولا [في] خبر تقوم به حجة، (2) على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف، وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل، ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحياه الله. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادارءوا فيه - من قاتله.   (1) آراب جمع إرب (بكسر فسكون) : وهو العضو، يقال: قطعه إربا إربا، أي عضوا عضوا. (2) الزيادة بين القوسين، أولى من حذفها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه - نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي - كما قال جل ثناؤه: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء: 63] ، والمعنى: فضرب فانفلق - دل على ذلك قوله: (1) (كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} قال أبو جعفر: وقوله: (كذلك يحيى الله الموتى) ، مخاطبة من الله عباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا. فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث. وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، (2) وهم قوم أميون لا كتاب لهم، لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نزلت هذه الآيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قِبَلَهم. * * *   (1) في المطبوعة: "يدل على ذلك قوله. . "، وليست بشيء. (2) في المطبوعة: "فإنما احتج. . "، والفاء ليست بشيء هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) } قال أبو جعفر: يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - من آياته = وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته = (1) لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} قال أبو جعفر: يعني بذلك كفار بني إسرائيل، وهم -فيما ذكر- بنو أخي المقتول، فقال لهم:"ثم قست قلوبكم": أي جفت وغلظت وعست، كما قال الراجز: وقد قسوت وقسا لداتي (2) يقال:"قسا" و"عسا" و"عتا" بمعنى واحد، وذلك إذا جفا وغلظ وصلب. يقال: منه: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقَساء. (3) * * * ويعني بقوله: (من بعد ذلك) ، من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي - ادارءوا   (1) انظر ما سلف 1: 552، وهذا الجزء 2: 139. (2) لم أعرف قائله، وسيأتي في 6: 99 (بولاق) ، وكان في الأصل هنا"وقسا لدنى"، وهو خطأ. ولداتى جمع لدة، ولدة الرجل: تربه، ولد معه. وقسا هنا بمعنى: أسن وكبر وولي شبابه، وجف عوده. ولم ترد بذلك المعنى في المعاجم. (3) أنا في شك في ضبطه المصدر الأول من هذه المصادر الأربعة وهو"قسوا"، وتبعت في ضبطه القاموس المحيط، وإن، كان قد ضبط بالقلم، وأخشى أن يكون مصدرا على"فعول" مثل دنا يدنوا دنوا، وسما يسمو سموا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 في قتله، فأخبرهم بقاتله، وما وبالسبب الذي من أجله قتله، (1) كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار - وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل (2) . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم -فيما بلغنا- أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك، وبعد ميتته الثانية، كما:- 1314 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه! فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه، فقال الله: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) -يعني بني أخي الشيخ- (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) . 1315 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) ، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم،"فهي كالحجارة أو أشد قسوة". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فهي) :"قلوبكم". يقول: ثم صلبت قلوبكم -بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد قسوة"،   (1) في المطبوعة: "وما السبب" وليست بشيء. (2) سياق العبارة بلا فصل"من بعد أن أحيى المقتول لهم. . وفصل بخبره بين المحق منهم والمبطل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة. (1) * * * فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ، و"أو" عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟ قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم. * * * وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب"أو"، كقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] ، وكقول الله جل ذكره: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ: 24] [الإبهام على من خاطبه] (2) فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة، (3) وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب، كما قال أبو الأسود الدؤلي: أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة والوصيا (4)   (1) كانت هذه الجملة في المطبوعة هكذا: "كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد صلابة، يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة". وكأنها سهو من الناسخ، فرددته إلى أصله بحمد الله. (2) اللسان (سكن) . غاله الشيء يغوله: ذهب به فلم تدر أين هو وأجن: ستر وأخفى. (3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام، استظهرته من قوله بعد: "ولكنه أبهم على المخاطب"، ومن تفسير ابن كثير 1: 209، 210. (4) ديوانه: 32 (من نفائس المخطوطات) ، والأغاني 11: 113، وإنباه الرواة 1: 17، وسيأتي البيت الثاني وحده في 22: 65 (بولاق) ورواية الديوان: "وفيهم أسوة إن كان غيا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى - رَشَد، ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت! فقال: كلا والله! ثم انتزع بقول الله عز وجل: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ، فقال: أَوَ كان شاكا -من أخبر بهذا- في الهادي من الضلال. (1) * * * وقال بعضهم: ذلك كقول القائل:"ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا"، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة. وقال بعضهم:"أو" في قوله: (أو أشد قسوة) ، بمعنى، وأشد قسوة، كما قال تبارك وتعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) [الإنسان: 24] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية: نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر (2) يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرا، وكما قال النابغة: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد (3)   (1) قوله"في الهادي من الضلال" يعني نبيه صلى الله عليه وسلم. وعبارة الأغاني: أفترى الله عز وجل شك في نبيه". (2) سلف هذا البيت وتخريجه في 1: 337. (3) ديوانه: 32، وروايته هناك"ونصفه". وهو من قصيدته المشهورة التي يعتذر فيها إلى النعمان. والضمير في قوله: "قالت" إلى"فتاة الحي، المذكورة في شعر قبله، وهي زرقاء اليمامة. وهو خبر مشهور، لا نطيل بذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 يريد. ونصفه * * * وقال آخرون:"أو" في هذا الموضع بمعنى"بل"، فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، كما قال جل ثناؤه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] ، بمعنى: بل يزيدون. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم. * * * قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد، (1) على تأويل أن منها كالحجارة، ومنها أشد قسوة. لأن"أو"، وإن استعملت في أماكن من أماكن"الواو" حتى يلتبس معناها ومعنى"الواو"، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - (2) فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا (3) أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها. * * * قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: (أو أشد قسوة) فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى"الكاف" في قوله: (كالحجارة) ، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى"مثل"، [فيكون تأويله] (4) فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.   (1) في المطبوعة: "فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشد"، واستظهرت تصويبه مما مضى آنفًا، ومن تأويله بعد، فوضعت"إما" مكان"من". (2) انظر ما سلف في 1: 327 - 328. (3) في المطبوعة: "من وجد إلى ذلك سبيلا". وهو خطأ. (4) زدت ما بين القوسين، ليستقيم الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير"هي" عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) : وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار، فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. (1) وإنما ذكر فقال"منه"، للفظ"ما". (2) * * * و"التفجر":"التفعل" من"تفجر الماء"، (3) وذلك إذا تنزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد"انفجر"، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك، ومنه قوله عمر بن لجأ: ولما أن قرنت إلى جرير ... أبى ذو بطنه إلا انفجارا (4) يعني: إلا خروجا وسيلانا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: وإن منها لما يشقق"،   (1) في المطبوعة: "بذكر الماء عن ذكر الأنهار"، وهو خطأ بين. (2) في المطبوعة: "وإنما ذكر فقيل. . "، وهو لا شيء. (3) في المطبوعة: "من: فجر الماء"، وهو خطأ يدل السياق على خلافه، وهو ما أثبت. (4) طبقات فحول الشعراء: 369، والأغاني 8: 72، وروايتهما"إلا انحدارا"، وراوية الطبري أعرق في الشعر. وفي المطبوعة"قربت"، وهو خطأ محض. قاله عمر بن لجأا حين أخذهما أبو بكر ابن حزم - بأمر الوليد بن عبد الملك - فقرنهما، وأقامهما على البلس يشهر بهما، فكان التميمي ينشد هذا البيت في هجاء جرير. وقوله: "ذو بطنه"، كناية جيدة عما يشمأز من ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. (1) وإنما هي: لما يتشقق، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة. وقوله: (فيخرج منه الماء) فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - (2) من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى"الهبوط" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * قال أبو جعفر: وأدخلت هذه"اللامات" اللواتي في"ما"، توكيدا للخبر. وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار، وأن منها المتشقق بالماء، وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، (4) مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، (5) دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم   (1) أسقط ذكر الآية في المطبوعة، كأنه استطال التكرار؛ وأقمنا الكلام على نهج أبي جعفر وفي المطبوعة: "لحجارة تشقق"، ورددتها إلى الصواب أيضًا. (2) تردى من الجبل ترديا: طاح وسقط. (3) انظر ما سلف 1: 534، وهذا الجزء 2: 132. (4) سياق هذه العبارة: جعل منها مثلا لقلوب الذين. (5) وسياق هذه الجملة: وإنما وصف الله بما وصفها به. . معذرة منه لها" أي للحجارة، وما بين ذلك فصل كدأب جعفر رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 يعطها الحجر والمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:- 1316 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1317 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) ، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن. 1318 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1319 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) . 1320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر، عن قتادة مثله. 1321 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) . 1322 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 جريج أنه قال: فيها كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل، فمن خشية الله. نزل به القرآن. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله. فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله. (1) وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه. (2) وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه. 1324 - كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن. (3) 1325 - وكالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن". (4)   (1) يريد قوله تعالى في سورة النحل: 48 (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) . وانظر تفسير الآية من تفسير الطبري 14: 78، 79 (بولاق) . (2) يريد قوله تعالى في سورة الأعراف: 143: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) . (3) الحديث: 1324 - قصة حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متواترة صحيحة، لا يشك في صحتها إلا من لا يريد أن يؤمن. وقد عقد الحافظ ابن كثير في التاريخ بابا لذلك 6: 125 - 132 قال في أوله: "باب حنين الجذع شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقا من فراقه. وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة، بطرق متعددة، تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان، ثم ساق من الأحاديث الصحاح من دواوين السنة. وانظر منها في المسند: 2236، 3430 من حديث ابن عباس. و2237، 3431، من حديث أنس. و3432 من حديث ابن عباس وأنس. وصحيح البخاري 6: 443 (من الفتح) . (4) الحديث: 1325 - روى مسلم في صحيحه 2: 203 - 204، عن جابر بن سمرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". وذكره ابن كثير في التاريخ 6: 134، من مسند أحمد، ثم نسبه لصحيح مسلم، ومسند الطيالسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وقال آخرون: بل قوله: (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) كقوله: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله، كما قال زيد الخيل: بجمع تضل البلق في حَجَراته ... ترى الأكْمَ منه سجدا للحوافر (1) وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له: ساجد المنخر لا يرفعه ... خاشع الطرف أصم المستمع (2) يريد أنه ذليل. (3) وكما قال جرير بن عطية: لما أتى خبر الرسول تضعضعت ... سور المدينة والجبال الخشع (4) * * * وقال آخرون: معنى قوله: (يهبط من خشية الله) ، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل:"ناقة تاجرة"، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية:   (1) مضى هذا البيت في هذا الجزء: 2: 104 وورد هنا"ترى الأكم فيها" والصواب ما أثبته، كما مضى آنفًا، وفي الأضداد لابن الأنباري"منها" مكان"فيها". (2) المفضليات: 407، والأضداد لابن الأنباري: 257. من قصيدته المحكمة. و"ساجد" منصوب إذ قبله، في ذكر عدوه هذا: ثم ولى وهو لا يحمى استه ... طائر الإتراف عنه قد وقع وفي الأصل المطبوع: "إذ يرفعه"، وهو خلل في الكلام. وأثبت ما في المفضليات، ورواية ابن الأنباري: "ما يرفعه". . يقول أذله فطأطأ رأسه خزيا، وألزم الأرض بصره، وصار كأنه أصم لا يسمع ما يقال له، فهو لا حراك به، مات وهو حي قائم، لا يحير جوابا. ولذلك قال بعده: فر مني هاربا شيطانه ... حيث لا يعطى، ولا شيئا منع (3) هذه الجملة كانت قبل البيت، فرددتها إلى حيث ينبغي أن ترد. (4) سلف هذا البيت وتخرجه في هذا الجزء 2: 17، وروايته هناك "خبر الزبير"، وهي أصح وأجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وأعور من نبهان، أما نهاره ... فأعمى، وأما ليله فبصير (1) فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به. * * * وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها. (2) * * * وقد دللنا فيما مضى على معنى"الخشية"، وأنها الرهبة والمخافة، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وما الله بغافل عما تعملون) ، وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا. (4)   (1) سلف هذا البيت وتخريجه في 1: 317 من طبعتنا هذه، وأغفلت هناك أن أرده إلى هذا الموضع من التفسير، فقيده. (2) ليت من تهور من أهل زماننا، فاجترأ على جعل كتاب ربه منبعا يستقى منه ما يشاء لأهوائه وأهواء أصحاب السلطان - سمع ما يقول أبو جعفر، فيما تجيزه لغة العرب، فكيف بما هو تهجم على كلام ربه بغير علم ولا هدى ولا حجة؟ اللهم إنا نبرأ إليك منهم، ونستعيذ بك أن نضل على آثارهم. (3) انظر ما سلف 1: 559 - 560، وهو من تفسير" فارهبون"، ولم ترد مادة (خشي) في القرآن قبل هذا الموضع، فلذلك قطعت بأنه أحال على هذه الآية. (4) كانت في المطبوعة"يحصيها،. . فيجازيكم. . أو يعاقبكم" بالياء في أولها جميعا، واستجزت أن أردها إلى الاسمية، لأن الطبري هكذا يقول، وقد سلف مثل ذلك مرارا، ورأيت النساخ تصرفوا فيه كما بيناه في موضعه. فاستأنست بنهجه في بيانه، وهو أبلغ وأقوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وأصل"الغفلة" عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له. * * * فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها، بل هو لها محص، ولها حافظ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (أفتطمعون) يا أصحاب محمد، أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟ * * * ويعني بقوله: (أن يؤمنوا لكم) ، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم، كما:- 1326 - حُدثت عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) ، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،"أن يؤمنوا لكم" يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟. 1327 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) الآية، قال: هم اليهود. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} قال أبو جعفر: أما"الفريق" فجمع، كالطائفة، لا واحد له من لفظه. وهو"فعيل" من"التفرق" سمي به الجماع، كما سميت الجماعة ب"الحزب"، من"التحزب"، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 أجَدّوا فلما خفت أن يتفرقوا ... فريقين، منهم مُصعِد ومُصوِّب (1) يعني بقوله: (منهم) ، من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) - لأنهم كانوا آباءَهم وأسلافهم، فجعلهم منهم، إذ كانوا عشائرهم وفَرَطهم وأسلافهم، كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته. وكان من قومه وعشيرته، فيقول:"كان منا فلان"، (2) يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله: (وقد كان فريق منهم) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) . فقال بعضهم بما:- 1328 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) ،   (1) ديوانه: 137، وفي المطبوعة: "أخذوا" خطأ. أجد السير: انكمش فيه وأسرع مصعد: مبتدئ في صعوده إلى نجد والحجاز. ومُصَوِّب منحدر في رجوعه إلى العراق والشام وأشباه ذلك وبعد البيت من تمامه. طلبتهمُ، تَطوى بي البيد جَسْرَة ... شُوَيْقَئةُ النابين وجَناء ذِعْلب (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 38، 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 فالذين يحرفونه والذين يكتمونه، هم العلماء منهم. 1329 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. 1330 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) ، قال: هي التوراة، حرفوها. 1331 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) ، قال: التوراة التي أنزلها عليهم، يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا، إذا جاءهم المحق برِشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برِشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، (1) فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44] . * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 1332 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) ، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. 1333 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) الآية، قال: ليس قوله: (يسمعون كلام الله) ، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.   (1) يعني: "ذلك الكتاب" المحرف، لا"كتاب الله" الصادق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 1334 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل، فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم، فمرهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام [أن يسجدوا] فوقعوا سجودا، (1) وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة، ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان، وإيذانا منه تعالى ذكره عبادَه المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى، (2) فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم ييعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه، ثم يبدله ويحرفه ويجحده، فهؤلاء الذين بين   (1) ما بين القوسين زيادة من ابن كثير 1: 212. (2) في المطبوعة"وإيذانا منه. . وقطع أطماعهم" بالعطف بالواو، وليس يستقيم. وآذنه الأمر وآذنه به يذانا: أعلمه. فقوله: "قطع" منصوب مفعول ثان للمصدر"إيذانا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله، وإنما يسمعونه منكم - (1) وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذبوا - (2) من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف. ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله: (يسمعون كلام الله) ، يسمعون التوراة، لم يكن لذكر قوله: (يسمعون كلام الله) معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له. (3) فإن ظن ظان [أنه] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: (يحرفونه) ، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. (4) وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل، ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره. * * * ويعني بقوله: (ثم يحرفونه) ، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه. وأصله من"انحراف الشيء عن جهته"، وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: (يحرفونه)   (1) قوله: "وأقرب"، معطوف على قوله: "أحرى. . ". (2) قوله: "من أوائلهم. . " متعلق بقوله آنفًا: "أحرى أن يجحدوا. . وأقرب إلى أن يحرفوا. . ". (3) سياق العبارة: فخصوص المحرف بأنه. . لا معنى له". (4) الزيادة بين القوسين لا بد منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا، وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال: (يحرفونه من بعد ما عقلوه) ، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، (وهم يعلمون) ، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم، وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} قال أبو جعفر: أما قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهاجهم، كما:- 1335 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا صلى الله عليه وسلم قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم. 1336 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. * * * وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر * وهو ما:- 1337 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، أي: بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إليكم خاصة. 1338 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) الآية، قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم -"قالوا" يعني: قال بعضهم لبعض -:"أتحدثونهم بما فتح الله عليكم". * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (بما فتح الله عليكم) . فقال بعضهم بما:- 1339 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك. * * * وقال آخرون بما:- 1340 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، أي: بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. (1) فأنزل الله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) ، أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) . 1341 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، أي بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. 1342 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، أي: بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، (أفلا تعقلون) .   (1) قوله: "فكان منهم"، أي كان منهم النبي الذي كانوا يستفتحون به على مشركي العرب ويستنصرون، ويرجون أن يكون منهم، فكان من العرب. وسيأتي خبر استفتاحهم بعد في تفسير الآية: 89 من سورة البقرة في هذا الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 1343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، ليحتجوا به عليكم. 1344 - حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، قال قتادة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، يعني: بما أنزل الله عليكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته. * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 1345 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) قال: قول يهود بني قريظة، (1) حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير، قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا، فقال: يا إخوة القردة والخنازير. (2) 1346 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير". 1347 - حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (أتحدثونهم بما فتح   (1) في المطبوعة: "يهود من قريظة"، ليست بشيء. (2) من أول قوله: "قالوا من حدثك؟ . . " إلى آخر العبارة، تفسير للقصة قبله. وقوله"فقال: يا إخوة القردة والخنازير" من كلام رسول الله صلى الله عليهم وسلم، لا كلام علي رضي الله عنه. وسيظهر ذلك في الخبرين بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الله عليكم) ، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال:"يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت. فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم! (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ! بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم. (1) * * * وقال آخرون بما:- 1348 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) - من العذاب -"ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم؟ * * * وقال آخرون بما:- 1349 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالو أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) : قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال: وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن (2) . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا، واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر (3) وقرأ قول الله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72] . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله   (1) الأثر: 1347 - في ابن كثير 1: 214 وفيه: "من أخبر بهذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم". (2) قصبة القرية: وسطها وجوفها. وقصبة البلاد: مدينتها، لأنها تكون في أوسطها. (3) البكر جمع بكرة (بضم فسكون) : وهي الغدوة، أول النهار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم، قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء]- قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم"، الآية. (1) * * * وأصل"الفتح" في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال منه:"اللهم افتح بيني وبين فلان"، أي احكم بيني وبينه، ومنه قول الشاعر: ألا أبلغ بني عُصْمٍ رسولا ... بأني عن فُتاحَتكم غني (2) قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي:"الفتاح" (3) ومنه قول الله عز وجل: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف: 89] أي احكم بيننا وبينهم. * * * فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا، تبين أن معنى قوله: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به، حجةً على المكذبين من اليهود   (1) الأثر: 1349 في ابن كثير 1: 213 - 214، والزيادة بين القوسين منه. (2) ينسب للأسعر الجعفي، ومحمد بن حمران بن أبي حمران. انظر تعليق الراجكوتي في سمط اللآلئ: 927. (3) أمالي القالي 2: 281 واللسان (فتح) (رسل) ، وغيرهما، وبنو عصم، هم رهط عمرو ابن معد يكرب الزبيدي. وقد اختلفت روايات البيت اختلافا شديدا، وليس هذا مكان تحقيقها، لطولها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [من أحكامه وقضائه] . (1) فإذ كان كذلك. (2) فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها. وإذا كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم، فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وكان قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فكان تلاومهم -فيما بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويكفرون به، وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. فلما بعث كفروا به، مع علمهم بنبوته. * * * قال أبو جعفر: وقوله: (أفلا تعقلون) ، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم، ولا تخبروهم   (1) ما بين القوسين، زيادة استظهرتها من سابق بيانه، ليستقيم الكلام. (2) في المطبوعة: "فإن كان كذلك"، والزيادة ماضية على نهج أبي جعفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) . * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) ، أو لا يعلم - هؤلاء اللائمون من اليهود إخوانهم من أهل ملتهم، على كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وعلى إخبارهم المؤمنين بما في كتبهم من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه، القائلون لهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم - أن الله عالم بما يسرون، فيخفونه عن المؤمنين في خلائهم = من كفرهم، وتلاومهم بينهم على إظهارهم ما أظهروا لرسول الله وللمؤمنين به من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قيلهم لهم: آمنا، ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا المؤمنين بما فتح الله للمؤمنين عليهم، وقضى لهم عليهم في كتبهم، من حقيقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه = وما يعلنون، فيظهرونه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين به إذا لقوهم، من قيلهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، نفاقا وخداعا لله ولرسوله وللمؤمنين؟ كما:- 1350 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون) ، من كفرهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلى بعض، (وما يعلنون) إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا ليرضوهم بذلك. 1351 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 الربيع، عن أبي العالية: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) ، يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم، (وما يعلنون) ، يعني: ما أعلنوا حين قالوا للمؤمنين: آمنا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ومنهم أميون) ، ومن هؤلاء -اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات، وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم فقال لهم: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، وهم إذا لقوكم قالوا: آمنا، كما:- 1352 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ومنهم أميون) ، يعني: من اليهود. 1353 - وحُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 1354 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ومنهم أميون) ، قال: أناس من يهود. * * * قال أبو جعفر: يعني بـ "الأميين"، الذين لا يكتبون ولا يقرءون. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" (1) يقال منه:"رجل أمي بين الأمية". (2) كما:- 1356 - حدثني المثنى قال، حدثني سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن   (1) الحديث: 1355 - هو حديث صحيح. ورواه البخاري 4: 108 - 109 (من الفتح) ، ورواه أيضًا مسلم وأبو داود والنسائي، كما في الجامع الصغير للسيوطي، رقم: 2521. (2) كان في المطبوعة: "أي بين الأمية"، فحذفت"أي"، فليس ذلك مما يقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب) ، قال: منهم من لا يحسن أن يكتب. (1) 1357 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومنهم أميون) قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود. * * * وروي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول، وهو ما:- 1358 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ومنهم أميون) ، قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم،   (1) قوله "لا يحسن أن يكتب" نفى لمعرفة الكتابة، لا لجودة معرفة الكتابة، كما يسبق إلى الوهم. وقديما قام بعض أساتذتنا يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يعرف الكتابة، ولكنة لا يحسنها، لخبر استدل به هو - أو اتبع فيه من استدل به من أعاجم المستشرقين - وهو ما جاء في تاريخ الطبري 3: 80 في شرح قصة الحديبية، حين جاء سهيل بن عمرو، لكتابة الصلح. روى الطبري عن البراء بن عازب قال:".. فلما كتب الكتاب، كتب:"هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله"، فقالوا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله. قال لعلي: امح"رسول الله". قال: لا والله لا أمحاك أبدا. فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب: "فكتب مكان "رسول الله" "محمد"، فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد". فظن أولا أن ضمير الفاعل في قوله "فكتب مكان "رسول الله" - محمد"، هو رسول الله صلى الله عليه. وليس كذلك بل هو: علي بن أبي طالب الكاتب. وفي الكلام اختصار، فإنه لما أمر عليا أن يمحو الكتاب فأبى، أخذه رسول الله، وليس يحسن يكتب، فمحاه. وتفسير ذلك قد أتى في حديث البخاري عن البراء بن عازب أيضًا 3: 184:"فقال لعلى" امحه. فقال على: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله صلى عليه وسلم بيده".وأخرى أنه أخطأ في معنى"يحسن"، فإنها هنا بمعنى"يعلم"، وهو أدب حسن في العبارة، حتى لا ينفي عنه العلم، وقد جاء في تفسير الطبري 21: 6 في تفسير قوله تعالى:"أحسن كل شيء خلقه"، ما نصه:"معنى ذلك: أعلم كل شيء خلقه. كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم كل خلقه ما يحتاجون إليه. وأنه قوله:"أحسن"، إنما هو من قول القائل:"فلا يحسن كذا"، إذا كان يعلمه". هذا، والعرب تتأدب بمثل هذا، فتضع اللفظ مكان اللفظ؛ وتبطل بعض معناه، ليكون تنزيها للسان، أو تكرمه للذي تخبر عنه. فمعنى قوله:"ليس يحسن يكتب"، أي ليس يعرف يكتب. وقد أطال السهيلي في الروض الأنف 1: 230 بكلام ليس يغني في تفسير هذا الكلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن"الأمي" عند العرب: هو الذي لا يكتب. * * * قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للأمي"أمي"؛ نسبة له بأنه لا يكتب إلى"أمه"، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال -إلى أمه- في جهله بالكتابة، دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، وكما قال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة: 2] . (2) فإذا كان معنى"الأمي" في كلام العرب ما وصفنا، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي، من أن معنى قوله: (ومنهم أميون) : ومنهم من لا يحسن أن يكتب. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (لا يعلمون الكتاب) ، لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم، كالذي:- 1359 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 215، وساق الخبر وكلام الطبري، ثم قال: "قلت: في صحة هذا عن ابن عباس - بهذا الإسناد - نظر، والله أعلم". (2) اقتصر في المطبوعة على قوله: "رسولا منهم"، وأتممت الآية، لأنه يستدل بها على أنه جاء يعلم الأمين"الكتاب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 معمر، عن قتادة في قوله، (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) : إنما هم أمثال البهائم، لا يعلمون شيئا. 1360 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يعلمون الكتاب) ، يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه. 1361 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (لا يعلمون الكتاب) لا يدرون ما فيه. 1362 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لا يعلمون الكتاب) قال: لا يدرون بما فيه. 1363 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (لا يعلمون الكتاب) ، لا يعلمون شيئا، لا يقرءون التوراة. ليست تستظهر، إنما تقرأ هكذا. فإذا لم يكتب أحدهم، لم يستطع أن يقرأ. (1) 1364 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله، (لا يعلمون الكتاب) ، قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله. * * * قال أبو جعفر: وإنما عني بـ "الكتاب": التوراة، ولذلك أدخلت فيه "الألف واللام" لأنه قصد به كتاب معروف بعينه. * * * ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون، ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم - وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به - من أحكام الله وفرائضه، وما فيه من حدوده التي بينها فيه. [واختلف أهل التأويل في تأويل قوله] (2) (إلا أماني) فقال بعضهم بما:-   (1) الأثر: 1363 - كان في المطبوعة: "حدثنا بشر قال أخبرنا ابن وهب. . "، وهو سهو من الناسخ، والإسناد كثير الدوران في التفسير، أقربه رقم 1357. (2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام. وكأن الناسخ سها فأغفلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 1365 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (إلا أماني) ، يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا. 1366 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) : إلا كذبا. 1367 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وقال آخرون بما:- 1368 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا أماني) ، يقول: يتمنون على الله ما ليس لهم. 1369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (إلا أماني) ، يقول: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم. 1370 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، [عن معاوية بن صالح] ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) ، يقول: إلا أحاديث. 1371 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) ، قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب. أماني يتمنونها. 1372 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (إلا أماني) ، يتمنون على الله ما ليس لهم. 1373 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا أماني) ، قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 قال أبو جعفر: وأولى ما روينا في تأويل قوله: (إلا أماني) ، بالحق، وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد: إن"الأميين" الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا. (1) * * * و"التمني" في هذا الموضع، هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله. يقال منه:"تمنيت كذا"، إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه:"ما تغنيت ولا تمنيت"، (2) يعني بقوله:"ما تمنيت"، ما تخرصت الباطل، ولا اختلقت الكذب والإفك. * * * والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله: (إلا أماني) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه: (وإن هم إلا يظنون) . فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب، ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معني ذلك أنهم"يتلونه"، لم يكونوا ظانين، وكذلك لو كان معناه:"يشتهونه". لأن الذي يتلوه، إذا تدبره علمه. ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه، وإن لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال: هو ظان لما يتلو، إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه، لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم - الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود -فيما بلغنا-   (1) في المطبوعة: "وأنهم لا يفقهون" بزيادة الواو، وهو خطأ لا يستقيم، والصواب ما أثبته من ابن كثير 1: 216. (2) في الفائق 1: 163 عن عثمان رضي الله عنه: "قد اختبأت عند الله خصالا: إني لرابع الإسلام، وزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم ابنته، وبايعته بيدي هذه اليمنى فما مسست بها ذكرى، وما تغنيت ولا تمنيت، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا إسلام". وروى الطبري في تاريخه في خبر مقتله رضي الله عنه 5: 130، أن الرجل الذي انتدب لقتله دخل عليه فقال له: "اخلعها وندعك. فقال: ويحك! ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعا قميصا كسانيه الله عز وجل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك"المتمني" الذي هو في معنى"المشتهي" غير جائز أن يقال: هو ظان في تمنيه. لأن التمني من المتمني، إذا تمنى ما قد وجد عينه. فغير جائز أن يقال: هو شاك، فيما هو به عالم. لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه، لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد. والمتمني في حال تمنيه، موجود تمنيه، فغير جائز أن يقال: هو يظن تمنيه. (1) * * * وإنما قيل: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) ، والأماني من غير نوع"الكتاب"، كما قال ربنا جل ثناؤه: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [النساء: 157] و"الظن" من"العلم" بمعزل. وكما قال: (وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى) [الليل: 19-20] ، وكما قال الشاعر: (2) ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكُلَى وضرب الرقاب (3) وكما قال نابغة بني ذبيان: حلفت يمينا غير ذي مَثْنَوية، ... ولا علم إلا حسنَ ظن بصاحب (4)   (1) في المطبوعة: "غير جائز"، والصواب إثبات الفاء. (2) هو عمرو بن الأيهم التغلبي النصراني، وقيل اسمه: عمير، وقيل هو أعشى تغلب. روي عن الأخطل أنه قيل له وهو يموت: على من تخلف قومك؟ قال: على العميرين. يعني القطامي عمير ابن أشيم، وعمير بن الأهتم. (3) سيبويه 1: 365، والوحشيات رقم: 55، ومعجم الشعراء: 242، وحماسة البحتري: 32، وانظر تحقيق الراجكوتي في سمط اللآلئ: 184. والشعر يقوله في هجاء قيس عيلان يقول فيها: قاتل الله قيس عيلان طرا ... ما لهم دون غدرة من حجاب ثم إن سيبويه أنشد البيت برفع"غير"، على البدل من"عتاب"، اتساعا ومجازا. (4) ديوانه: 42، وسيبويه 1: 365، وغيرهما، وروايتهم جميعا: "بصاحب"، وكان في الأصل المطبوع"بغائب"، وأظن أن ما كان في الطبري خطأ من النساخ، لأنه لا يتفق مع الشعر. فالنابغة يمدح بهذه الأبيات عمرو بن الحارث الأعرج الغساني، فيقول قبله: على لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده، ليست، بذات عقارب حلفت يمينا. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لئن كان للقبرين: قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب وللحارث الجفني سيد قومه ... ليلتمسن بالجيش دار المحارب وقوله: "مثنوية" أي استثناء. فهو يقول لعمرو: حلفت يمينا لئن كان من هو - من ولد هؤلاء الملوك من آبائه، الذين عدد قبورهم ومآثرهم - ليغزون من حاربه في عقر داره وليهزمنه، ولم أقل هذا عن علم إلا ما عندي في صاحبي من حسن الظن. فرواية الطبري لا تستقيم، إن صحت عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب. (1) ويخرجُ بـ "إلا" ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته، وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه. ويسمي ذلك بعض أهل العربية"استثناء منقطعا"، لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد"إلا" عن معنى ما قبلها. وإنما يكون ذلك كذلك، في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان"إلا""لكن"؛ فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول، ألا ترى أنك إذا قلت: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) ثم أردت وضع "لكن" مكان "إلا" وحذف "إلا"، وجدت الكلام صحيحا معناه، صحته وفيه"إلا"؟ وذلك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني. يعني: لكنهم يتمنون. وكذلك قوله: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) ، لكن اتباع الظن، بمعنى: لكنهم يتبعون الظن. وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا. * * * وقد ذكر عن بعض القَرَأَة أنه قرأ: (2) (إلا أماني) مخففة. ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم"المفتاح""مفاتح"، و"القرقور"،"قراقر"، (3) وأن   (1) انظر سيبويه 1: 363 - 366"هذا باب يختار فيه النصب، لأن الآخر ليس من نوع الأول". ثم الباب الذي يليه: "هذا باب ما لا يكون إلا على معنى: ولكن". (2) في المطبوعة: "بعض القراء" و"لإجماع القراء"، ورددته إلى ما جرى عليه الطبري آنفًا. (3) انظر معاني القرآن للفراء: 1: 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية - أعني من"الأماني" - كما جمعوا"الأثفية""أثافي" مخففة، كما قال زهير بن أبي سلمى: أثافيَ سُفْعا في مُعَرَّسِ مِرْجَل ... ونُؤْيا كجِذم الحوض لم يَتَثَلَّم (1) وأما من ثقل: (أماني) فشدد ياءها، فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم"المفتاح مفاتيح، والقرقور قراقير، والزنبور زنابير"، فاجتمعت ياء"فعاليل" ولامها، وهما جميعا ياآن، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا ياء واحدة مشددة. * * * فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك، فتشديد ياء"الأماني"، لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف - مستفيض ذلك بينهم، غير مدفوعة صحته - وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك. (2) وكفى دليلا على خطأ قارئ ذلك بتخفيفها، (3) إجماعها على تخطئته. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن هم إلا يظنون) ، وما هم، كما قال جل ثناؤه: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم: 11] ، يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم. * * * ومعنى قوله: (إلا يظنون) : إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته وصحته. و"الظن" - في هذا الموضع- الشك.   (1) ديوانه: 7 المرجل: قدر يطبخ فيها، ومعرس المرجل: حيث يقام فيه، من التعريس: وهو النزول والإقامة، وسفع جمع أسفع: والسفعة: سواد تخالطه حمرة، من أثر النار ودخانها. والنؤي: ما يقام من الحجارة حول الخباء حتى لا يدخله ماء المطر. وجذم الحوض: حرفه وأصله. يعني: النؤي قد ذهب أعلاه وبقى أصله لم يتحطم، كبقايا الحوض. يقول: عرفت الدار بهذه الآثار، قبله: "فلأيا عرفت الدار بعد توهم"، "ونصب"أثافي" بقوله: "توهم". (2) سياق العبارة: لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة. . وعلى شذوذ القارئ بتخفيفها" على العطف. (3) في المطبوعة: "وكفى خطأ على قارئ ذلك"، وهو ليس بكلام صحيح، والصواب ما أثبته، استظهار من عبارة الطبري، فيما سلف من أشباه ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخط ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه، إلا تخرصا وتقولا على الله الباطل، ظنا منه أنه محق في تخرصه وتقوله الباطل. * * * وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظن أنهم محقون وهم مبطلون، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله، ولم تكن من كتاب الله، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعون ما هم فيه شاكون، وفي حقيقته مرتابون، مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله، ومخالفة منهم لأمر الله، واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: (وإن هم إلا يظنون) ، قال فيه المتأولون من السلف: 1374 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن هم إلا يظنون) إلا يكذبون. 1375 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1376 - حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. 1377 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) ، أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن. 1378 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وإن هم إلا يظنون) ، قال: يظنون الظنون بغير الحق. 1379 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الربيع، عن أبي العالية قال: يظنون الظنون بغير الحق. 1380 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فويل) . فقال بعضهم بما:- 1381 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس (فويل) ، يقول: فالعذاب عليهم. (1) * * * وقال آخرون بما:- 1382 - حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن زياد بن فياض قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم. (2) 1383 - حدثنا بشر بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض في قوله: (فويل) ، قال: صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديدهم. (3)   (1) في المطبوعة: "فويل لهم". والصواب حذف"لهم"، ليست من الآية هنا. (2) الخبر: 1382 - سفيان: هو الثوري. زياد بن فياض الخزاعي: ثقة، مات سنة 129. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 /334، وابن أبي حاتم 1 / 2 /542. أبو عياض: هو عمرو بن الأسود العنسي، تابعي ثقة، كان من عباد أهل الشأم وزهادهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 220 - 221. (3) الخبر: 1383 - بشر بن أبان الحطاب، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدى من المراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 1384 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال، حدثنا سفيان عن زياد بن فياض، عن أبي عياض قال: الويل، واد من صديد في جهنم. (1) 1385 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن شقيق قال: (ويل) ، ما يسيل من صديد في أصل جهنم. * * * وقال آخرون بما:- 1386 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري. قال، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الويل جبل في النار". (2)   (1) الخبر: 1384 - علي بن سهل الرملي، شيخ الطبري: ثقة، مات سنة 261. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /189. وزيد بن أبي الزرقاء الموصلي، نزيل الرملة: ثقة، مات سنة 194. مترجم في التهذيب، والكبير 2 /1 /361، وابن أبي حاتم 1 / 2/ 575. سفيان هو الثوري. "عن زياد بن فياض"، كالإسنادين اللذين قبله. وفي المطبوعة: "سفيان بن زياد بن فياض"، وهو تحريف. (2) الحديث: 1386 - هذا الإسناد مشكل. ووقع فيه هنا خطأ. من الناسخ أو الطابع، صححناه من الرواية الآتية: 1395 فقد كان فيه"حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر"؛ وصوابه"عن عبد الحميد بن جعفر"، كما هو بديهي. أما ما أشكل علينا فيه: فراويان لم نجد لهما ذكرا ولا ترجمة. أحدهما:"إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري". وسيأتي في الإسناد الآخر"إبراهيم بن عبد السلام" فقط. ولم أستطع أن أعرف من هو؟ وقد نقل ابن كثير 1: 217 الحديث الآتي: 1395، وأكمل نسب هذا الشيخ، ولكنه وقع فيه هكذا "إبراهيم بن عبد السلام، حدثنا صالح القشيري"! وأنا لست على ثقة من دقة التصحيح في طبعة تفسير ابن كثير، وأرى أن ما نسخة الطبري أقرب إلى الصحة. الراوي الآخر:"على بن جرير". وقد أتعبنى أن أعرف من هو؟ مع البحث في كل المراجع، وتقليبه على كل الاحتمالات. أما عبد الحميد بن جعفر: فإنه الأنصاري الأوسى المدني، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن سعد وغيرهما، مات سنة 153، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /10. و"كنانة العدوي":هو كنافة ابن نعيم، وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 /236، وابن أبي حاتم 3 / 2 /169. ولكني أخشى أن لا يكون أدرك عثمان بن عفان، فإنهم لم يذكروا له رواية إلا عن أبي برزة الأسلمي وقصيبة بن المخارق، وهما متأخران كثيرا عن عثمان. وأيا ما كان، فهذا الحديث لا أظنه مما يقوم إسناده. وهو مختصر من الحديث الآتي: 1395. والحافظ ابن كثير حين ذكره عن الطبري، وصفه بأنه"غريب جدا". وقد ذكره السيوطي أيضًا 1: 82، ولم ينسباه لغير الطبري. فالله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 1387 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ويل" واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره". (1) * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية - على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل (ويل) -: فالعذاب = الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم = لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله. * * *   (1) الحديث: 1387 - إسناده صحيح. عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري: ثقة حافظ متقن، مترجم في التهذيب، وابن سعد 7 / 2 / 203 وابن أبي حاتم 3 / 1 / 225. دراج، بفتح الدال وتشديد الراء: هو ابن سمعان، أبو السمح، المصري القاص، وهو ثقة، فيه خلاف كثير. والراجح عندنا أنه ثقة، كما بينا ذلك في شرح المسند: 6634، وفي تعليقنا على تهذيب السنن: 2388. أبو الهيثم: هو سليمان بن عمرو العتواري المصري، كان يتيما لأبي سعيد الخدري، وكان في حجره. وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 28 - 29، وابن أبي حاتم 2 /1 / 131 - 132. والحديث رواه ابن أبي حاتم - كما نقل عنه ابن كثير 1: 217 - عن يونس بن عبد الأعلى، شيخ الطبري هنا، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك 4: 596، من طريق بحر بن نصر. عن ابن وهب، بهذا الإسناد، بزيادة في آخره. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ورواه أحمد في المسند: 11735 (ج 3 ص 75 حلبي) ، عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، به، بزيادة في آخره. وقال ابن كثير - عقب رواية ابن أبي حاتم: "ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن الحسن بن موسى. . وقال هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. قلت [القائل ابن كثير] : لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى. ولكن الآفة ممن بعده! وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا - منكر"! أقول: وابن كثير يريد بذلك جرح دراج أبي السمح، وجعله علة الحديث. والصحيح ما ذهبنا إليه. وقد رواه ابن حبان في صحيحه أيضًا. كما في الدر المنثور 1: 82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} قال أبو جعفر: يعني بذلك الذين حرفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل، وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم، مخالفا لما أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها، ولا بما في التوراة، جهال بما في كتب الله - لطلب عرض من الدنيا خسيس، فقال الله لهم: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) ، كما:- 1388 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) ، قال: كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنا قليلا. 1389 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله"ليشتروا به ثمنا قليلا". قال: عرضا من عرض الدنيا. 1390 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) ، قال: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله، يحرفونه. 1391 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: ثم يحرفونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 1392 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن قتادة: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) الآية، وهم اليهود. 1393 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) ، قال: كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم، ليتأكلوا الناس، فقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله. (1) 1394 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) ، قال: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا، فقال: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) . 1395 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام قال، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) ، الويل: جبل في النار، وهو الذي أنزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة، وزادوا فيها ما يحبون، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) . (2) 1396 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي   (1) يقال فلان يستأكل الضعفاء: يأخذ أموالهم ويأكلها. أما قوله: "ليتأكلوا"، فلم أجد في المعاجم"يتأكل"، فإن صح نص الطبري، وإلا فهي عربية معرقة، صح أو لم يصح. (2) الحديث: 1395 - مضى الكلام فيه مفصلا: 1386. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار. قال: ويل، واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدة حره. (1) * * * قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه قوله: (2) (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة، إلى أن يخبروا عن هؤلاء - القوم الذين قص الله قصتهم - أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟ قيل له: إن الكتاب من بني آدم، وإن كان منهم باليد، فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه فيقال: كتب فلان إلى فلان بكذا"، وإن كان المتولي كتابته بيده، غير المضاف إليه الكتاب، إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) عباده المؤمنين، أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله، (3) تَكَذُّبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: (يكتبون الكتاب بأيديهم) ، أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل:"باعني فلان عينُه كذا وكذا، فاشترى فلان نفسه كذا"، يراد بإدخال"النفس والعين" في ذلك، نفي اللبس عن سامعه، أن يكون المتولي بيع ذلك أو شراءه، غير الموصوف له أمره، (4) ويوجب حقيقة الفعل للمخبر   (1) سيرت: أدخلت ودفعت لتسير. وانماع الملح في الماء: ذاب. وفي اللسان روى تفسير عطاء، وفيه: "لماعت"، أي ذابت وسالت. (2) في المطبوعة: "فما وجه فويل للذين. . "، كأنه سقط حرف من ناسخ أو طابع. (3) يقال: نحل فلان فلانا شعرا: نسبه إليه باطلا. وكره الطبري أن يقول ما لا يجوز لأحد في ذكر ربه سبحانه وتعالى، فانتهج طريقا في أساليب العربية، فقال: "فنحله إلى أنه من عند الله" أي نسبه باطلا إلى أنه من عند الله. ولم يعد الفعل إلى مفعوليه. (4) كان في المطبوعة: "أن يكون المتولى بيع ذلك وشراءه، غير الموصوف به بأمره" وهو كلام غير واضح ولا مفهوم، فآثرت أن أصححه ما استطعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 عنه، فكذلك قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فويل لهم مما كتبت أيديهم) ، أي فالعذاب - في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم - لهم، يعني: للذين يكتبون الكتاب، الذي وصفنا أمره، من يهود بني إسرائيل محرفا، ثم قالوا: هذا من عند الله، ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم. * * * وقوله: (مما كتبت أيديهم) ، يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك، وويل لهم أيضا (مما يكسبون) ، يعني: مما يعملون من الخطايا، ويجترحون من الآثام، ويكسبون من الحرام، بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم، بخلاف ما أنزل الله، ثم يأكلون ثمنه، وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله، كما:- 1397 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وويل لهم مما يكسبون) ، يعني: من الخطيئة. 1398 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فويل لهم) ، يقول: فالعذاب عليهم. قال: يقول: من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، (وويل لهم مما يكسبون) ، يقول: مما يأكلون به من السفلة وغيرهم. * * * قال أبو جعفر: وأصل"الكسب": العمل. فكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف، فهو كاسب لما عمل، كما قال لبيد بن ربيعة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يُمَنُّ طعامُها (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وقالوا) ، اليهود، يقول: وقالت اليهود: (لن تمسنا النار) ، يعني لن تلاقي أجسامنا النار ولن ندخلها،"إلا أياما معدودة". وإنما قيل"معدودة" وإن لم يكن مبينا عددها في التنزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام، التي يوقتونها لمكثهم في النار. فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام، وسماها"معدودة" لما وصفنا. * * * ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود، القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك * فقال بعضهم بما:- 1399 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، قال ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا   (1) من معلقته النبيلة. واللام في قوله"لمعفر"، ترده إلى البيت قبله: خنساء ضيعت الفَرِيرَ، فلم يَرِم ... عُرض الشقائق طوفها وبُغَامها والخنساء: البقرة الوحشية، والفرير: ولدها. والشقائق: أرض غليظة بين رملتين، أودعت هناك فيه ولدها. وطوفها طوافها حائرة. بغامها: صوتها صائحة باكية. ظلت تطوف وتنادي ولدها.وقوله:"لمعفر"، أي طوفها وبغامها من أجل"معفر". والمعفر: الذي ألقي في العفر، وهو التراب، صادت ولدها الذئاب. قهد: هو ولد البقر، لطيف الجسم أبيض اللون. والشلو: العضو من اللحم، أو الجسد كله. وغبس: غبر، وهي الذئاب. لا يمن طعامها: تكسب طعامها بنفسها، فلا يمن عليها أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب والقسم. 1400 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل. 1401 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، قال: قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا، (1) نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل. فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه. 1402 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يخرجنا. فأكذبهم الله. 1403 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل. 1404 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) الآية، قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم - وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيه شجرة الزقوم - فزعم أعداء الله،   (1) نقيت الثوب (بتشديد القاف) وأنقيته نقاء فهو نقي: نظيف. و"استنقيته" ليست في المعاجم، ولكنها صحيحة البناء والمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة - وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم - فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل. فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك. (1) فذلك قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم، ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة! فقد خلا العدد وأنتم في الأبد! فأخذ بهم في الصَّعود في جهنم يرهقون. (2) 1405 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، إلا أربعين ليلة. 1406 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم (3) "بل أنتم فيها خالدون، لا يخلفكم فيها أحد. فأنزل الله جل ثناؤه: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) . 1407 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوما تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ،   (1) خلا يخلو: مضى وذهب وانقضى. (2) الصعود: مشقة العذاب، ولكنه أراد هنا ما قالوا: جبل في جهنم من جمرة واحدة، يكلف الكافر ارتقاءه، ويضرب بالمقامع، فكلما وضع عليه رجله ذابت إلى أسفل دركة، ثم تعود مكانها صحيحة، والله أعلم. (3) قال بيده: أشار. وقد مضى مثل ذلك مرارا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 - وسموا أربعين يوما - ثم يخلفنا، أو يلحقنا، فيها أناس. فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذبتم، بل أنتم فيها خالدون مخلدون، لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا". (1) 1408 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل. 1409 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء، مَن أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة؟ وقالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة، فنمكث في النار أربعين ليلة، ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم والله، لا نخلفكم فيها أبدا". فنزل القرآن تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبا لهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا) إلى قوله: (هم فيها خالدون) . (2) * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 1410 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الآخرة، وإنها سبعة أيام. فأنزل الله في ذلك من   (1) الحديثان: 1406، 1407 - هما حديث واحد بإسنادين. ونسبه السيوطي أيضًا 1: 84، لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وهو حديث مرسل، لا تقوم به حجة. (2) الحديث: 1409 - هو حديث مرسل أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 قولهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) الآية. 1411 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يوما واحدا في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (لن تمسنا النار) الآية. 1412 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ، قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما. 1413 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا، وسائر الحديث مثله. 1414 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة من الدهر. وسموا عدة سبعة آلاف سنة، من كل ألف سنة يوما. يهود تقوله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) } قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: (لن تمسنا النار إلا أياما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 معدودة) - على ما قد بينا من تأويل ذلك - قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لمعشر اليهود: (أتخذتم عند الله عهدا) : أأخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده، أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟ كما:- 1415 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قل أتخذتم عند الله عهدا) أي: موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون. 1416 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1417 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدة الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: (أتخذتم عند الله عهدا) ، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حجة وبرهان؟ فلن يخلف الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ 1418 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله جل ثناؤه لمحم، قل"أتخذتم عند الله عهدا"، يقول: أدخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها، وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا به شيئا، ثم متم على ذلك، لكان لكم ذخرا عندي، ولم أخلف وعدي لكم: أني أجازيكم بها. 1419 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله عز وجل: (قل أتخذتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) - وقال في مكان آخر: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) . [آل عمران: 24] ، ثم أخبر الخبر فقال: (بلى من كسب سيئة) . * * * قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، بنحو ما قلنا في تأويل قوله: (قل أتخذتم عند الله عهدا) . لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه: أن من آمن به وأطاع أمره، نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به، الإقرار بأن لا إله إلا الله. وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به: أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار، فينجيه منها. وكل ذلك، وإن اختلفت ألفاظ قائليه، فمتفق المعاني، على ما قلنا فيه. والله تعالى أعلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} قال أبو جعفر: وقوله: (بلى من كسب سيئة) تكذيب من الله القائلين من اليهود: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) وإخبار منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، فمخلده في النار، (1) فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده * كما:- 1420 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. * * * قال أبو جعفر: وأما (بلى) ، فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما   (1) في المطبوعة: "أنه يعذب. . فمخلد في النار"، والصواب ما أثبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 "نعم" إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه. وأصلها"بل" التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك:"ما قام عمرو بل زيد". فزيد فيها"الياء" ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت"بل" لا يصلح عليها الوقوف، إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد. ولتكون - أعني"بلى" - رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فدلت"الياء" منها على معنى الإقرار والإنعام. (1) ودل لفظ"بل" عن الرجوع عن الجحد. (2) * * * قال أبو جعفر: وأما"السيئة" التي ذكر الله في هذا المكان، فإنها الشرك بالله * كما:- 1421 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال، حدثني عاصم، عن أبي وائل: (بلى من كسب سيئة) ، قال: الشرك بالله. 1422 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بلى من كسب سيئة) شركا. 1423 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1424 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بلى من كسب سيئة) ، قال: أما السيئة فالشرك. 1425 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. 1426 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) الإنعام: التصديق. يقال: أنعم: أجاب بقوله: نعم. وهو تصديق. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 52 - 53، وقد عد الطبري الحرف الآخر من"بلى""ياء"، وعدها الفراء"ألفا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 السدي: (بلى من كسب سيئة) ، أما السيئة، فهي الذنوب التي وعد عليها النار. 1427 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: (بلى من كسب سيئة) ، قال: الشرك - قال ابن جريج قال، قال مجاهد: (سيئة) شركا. 1428 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (بلى من كسب سيئة) ، يعني: الشرك. * * * قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن"السيئة" - التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته، فهو من أهل النار المخلدين فيها - في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما، (1) لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار. والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان. فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) - قوله - (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) . فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات، غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان. * * * فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا، هم الذين عملوا الصالحات، دون الذين عملوا السيئات، فإن في إخبار الله = أنه مكفر - باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا، ومدخلُنا المُدخلَ الكريم = ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: (بلى من كسب سيئة) ، بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها. * * * فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا   (1) انظر تفسير"الظاهر" فيما سلف: 2: 15 والمراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 كبائر ما ننهى عنه، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: (بلى من كسب سيئة) ؟ قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه، وأن المعنيَّ بالآية خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذرَ من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الأمة. فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها. فمن أنكر ذلك - ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة - فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار، بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد. إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية يأتي عاما في صنف ظاهرها، وهي خاص في ذلك الصنف باطنها. (1) ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء، سؤالَنا منكر رجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض. فإن السؤال عليهم، نظير السؤال على هؤلاء، سواء. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الظاهر والباطن" آنفًا: 2: 15 والمراجع. (2) هذا رد على المعتزلة، في إيجابهم خلود أهل الإيمان في النار. ورجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض، مما جاء في الأخبار، ولم يأت به نص قرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وأحاطت به خطيئته) ، اجتمعت عليه فمات عليها، قبل الإنابة والتوبة منها. * * * وأصل"الإحاطة بالشيء"، الإحداق به، بمنزلة"الحائط" الذي تحاط به الدار فتحدق به. ومنه قول الله جل ثناؤه: (نارا أحاط بهم سرادقها) [الكهف: 29] . * * * فتأويل الآية إذًا: من أشرك بالله، واقترف ذنوبا جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون. * ذكر من قال ذلك: 1429 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي روق، عن الضحاك: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: مات بذنبه. 1430 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: مات عليها. (1) 1431 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: يحيط كفره بما له من حسنة. 1432 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى،   (1) الخبر: 1430 - الربيع بن خثيم الثوري الكوفي: من كبار التابعين وخيارهم، ثقة لا يسأل عن مثله. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 /246 وابن أبي حاتم 1/ 2 /459. وأبوه "خثيم" بضم الخاء المعجمة مصغر، كما ضبطه ابن دريد في الاشتقاق: 112 - 113، والحافظ في التقريب، ووقع في المطبوعة"خيثم" بتقديم الياء على الثاء، وبذلك ضبطه صاحب الخلاصة. وهو خطأ صرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: ما أوجب الله فيه النار. 1433 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة. 1434 - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق [قال، أخبرنا معمر] ، عن قتاده: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: الخطيئة: الكبائر. 1435 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع ويحيى بن آدم، عن سلام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن عن قوله: (وأحاطت به خطيئته) ، فقال: ما ندري ما الخطيئة، يا بني اتل القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة. 1436 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) ، قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد الله عليه النار. 1437 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: مات بخطيئته. 1438 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش قال، حدثنا مسعود أبو رزين، عن الربيع بن خثيم في قوله: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب. 1439 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: (وأحاطت به خطيئته) ، مات بذنوبه. 1440 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وأحاطت به خطيئته) ، الكبيرة الموجبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 1441 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أحاطت به خطيئته) ، فمات ولم يتب. 1442 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حسان، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: (وأحاطت به خطيئته) ، قال: الشرك، ثم تلا (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل: 90] . (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم، أصحاب النار هم فيها خالدون. * * * ويعني بقوله جل ثناؤه: (أصحاب النار) ، أهل النار، وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم - في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم سعيرها - على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم جل ذكره = بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة = لها أصحابا، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره، حتى يعرف به. * * * (هم فيها) ، يعني: هم في النار خالدون. ويعني بقوله: (خالدون) مقيمون * كما: 1443 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (هم فيها خالدون) ، أي خالدون أبدا. 1444 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،   (1) انظر ما مضى في كلامه عن"الخطيئة" في هذا الجزء 2: 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 عن السدي: (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها أبدا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) } قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (والذين آمنوا) ، أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله: (وعملوا الصالحات) ، أطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله: (فأولئك) ، فالذين هم كذلك (أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ، يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها (خالدون) ، مقيمون أبدا. * * * وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها، [وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها] ، (1) ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها، تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل: إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة. فأخبرهم بخلود كفارهم في النار، وخلود مؤمنيهم في الجنة * كما:- 1445 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ، أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا. 1446 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،   (1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لسياقة الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 قال ابن زيد: (والذين آمنوا وعملوا الصلحات) ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه -"أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} قال أبو جعفر: قد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن"الميثاق""مفعال" من"التوثق باليمين" ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. (1) فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:- 1447 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) -أي ميثاقكم- (لا تعبدون إلا الله) . * * * قال أبو جعفر: والقَرَأَة مختلفة في قراءة قوله (2) (لا تعبدون) . فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء، والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن يقال (لا تعبدون) و (لا يعبدون) وهم غَيَب، (3) لأن أخذ الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول:"استحلفت أخاك ليقومن" فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول:"استحلفته لتقومن"، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك - فيكون ذلك صحيحا جائزا.   (1) انظر ما سلف 1: 414، وهذا الجزء 2: 156. (2) في المطبوعة: "والقراء مختلفة"، ورددتها إلى ما جرى عليه الطبري في كل ما سلف. (3) غيب (بفتح الغين والياء) جمع غائب، مثل خادم وخدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فكذلك قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) و (لا يعبدون) . من قرأ ذلك"بالتاء" فمعنى الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ"بالياء" فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم. * * * وأما رفع"لا تعبدون"، فبالتاء التي في"تعبدون"، ولا ينصب بـ "أن" التي كانت تصلح أن تدخل مع (لا تعبدون إلا الله) . لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه الرفع، كما قال جل ثناؤه: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) [الزمر: 64] ، فرفع"أعبد" إذ لم تدخل فيها"أن" - بالألف الدالة على معنى الاستقبال، وكما قال الشاعر: (1) ألا أيهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي (2) فرفع"أحضر" وإن كان يصلح دخول"أن" فيها -إذ حذفت، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال. وإنما صلح حذف"أن" من قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون) ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها، فاكتفى - بدلالة الظاهر عليها - منها. (3) * * * وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، حكاية، كأنك قلت: استحلفناهم: لا تعبدون، أي قلنا لهم: والله لا تعبدون - وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك.   (1) هو طرفة بن العبد. (2) ديوانه: 317 (أشعار الستة الجاهليين) ، من معلقته النفيسة وسيأتي في 21: 22 / 30: 130 (بولاق) ، وسيبويه 1: 452. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 53 - 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وبنحو الذي قلنا في قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، تأوله أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1448 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره. 1449 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره. 1450 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (وبالوالدين إحسانا) عطف على موضع"أن" المحذوفة في (لا تعبدون إلا الله) . فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا. فرفع (لا تعبدون) لما حذف"أن"، ثم عطف بالوالدين على موضعها، كما قال الشاعر: (2) معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا (3)   (1) قوله تعالى في سورة المائدة: 12: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) إلى آخر الآية. (2) عقيبة بن هبيرة الأسدي، جاهلي إسلامي. (3) سيبويه 1: 34، 375، 448، والخزانة 1: 343، وسمط اللآلئ: 149 وفيه تحقيق جيد. وهذا البيت مما أخطأ فيه سيبويه، وكان عقيبة وفد على معاوية، ودفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات: معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد فهبها أمة ذهبت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد ? ذروا خَوْنَ الخلافة واستقيموا ... وتأمير الأراذل والعبيد وأعطونا السوية، لا تزركم ... جنود مردفات بالجنود فدعاه معاوية فقال له: ما أجرأك علي؟ قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك. فقال معاوية: ما أظنك إلا صادقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فنصب"الحديد" على العطف به على موضع"الجبال"، لأنها لو لم تكن فيها"باء" خافضة كانت نصبا، فعطف بـ "الحديد" على معنى "الجبال"، لا على لفظها. فكذلك ما وصفت من قوله: (وبالوالدين إحسانا) . * * * وأما"الإحسان" فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: (وبالوالدين) ، إذ كان مفهوما معناه، فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف -: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، فاكتفى بقوله: (وبالوالدين) من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام. * * * وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانا، فجعل"الباء" التي في"الوالدين" من صلة الإحسان، مقدمة عليه. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فزعموا أن"الباء" التي في"الوالدين" من صلة المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحسانا، لأنه إنما يقال:"أحسن فلان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 إلى والديه" ولا يقال: أحسن بوالديه، إلا على استكراه للكلام. ولكن القول فيه ما قلنا، وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل. فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من نظائره. (1) * * * فإن قال قاتل: وما ذلك"الإحسان" الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وذي القربي) ، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه. * * * و"القربي" مصدر على تقدير"فعلى"، من قولك،"قربت مني رحم فلان قرابة وقربي وقربا"، بمعنى واحد. * * * وأما"اليتامى". فهم جمع"يتيم"، مثل"أسير وأسارى". ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث. * * * ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا، وبذي القربي: أن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقه، وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة، وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم.   (1) انظر ما سلف 1: 138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 * * * و"المسكين"، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة، وهو"مفعيل" من"المسكنة". و"المسكنة" هي ذل الحاجة والفاقة. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: (وقولوا للناس حسنا) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي. فلو كان مكان:"لا تعبدون إلا الله"، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به - لأن أخذ الميثاق قول. فكان معنى الكلام -لو كان مقروءا كذلك-: وإذ قلنا لبني إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: (لا تعبدون إلا الله) ، عطف بقوله: (وقولوا للناس حسنا) ، على موضع (لا تعبدون) ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه، (2) لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع"لا تعبدون". فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله، وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه، (3) ثم تعود إلى الخبر على   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 2: 137. (2) في المطبوعة:"ومعناه" بزيادة الواو، والصواب حذفها. (3) في المطبوعة: "في موضع الحكايات كما أخبرت عنه"، والصواب ما أثبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وجه الخطاب؛ وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية من المعنيين، (1) كما قال الشاعر: (2) أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّت (3) يعني: تقليت. * * * وأما"الحسن" فإن القَرَأَة اختلفت في قراءته. (4) فقرأته عامة قَرَأَة الكوفة غير عاصم: (وقولوا للناس حَسَنا) بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: (حُسْنا) بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: "وقولوا للناس " حُسْنَى " على مثال "فُعلى". * * * واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: "حُسْنا" و"حَسَنا". فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـ"الحَسَن" "الحُسن" وكلاهما لغة، كما يقال: "البُخل والبَخَل"، وإما أن يكون جعل "الحُسن" هو "الحَسن" في التشبيه. وذلك أن الحُسن "مصدر" و "الحَسن" هو الشيء الحسن. ويكون ذلك حينئذ كقولك:"إنما أنت أكل وشرب"، وكما قال الشاعر: (5) وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع (6)   (1) انظر ما سلف 1: 153 - 154، وسيأتي في هذا الجزء 2: 357. (2) هو كثير عزة. (3) ديوانه 1: 53 من قصيدته المشهورة. قلاه يقليه قلى فهو مقلي: كرهه وأبغضه. وتقلى تبغض، أي استعمل من الفعل أو القول ما يدعو إلى بغضه. (4) في المطبوعة: "فإن القراء"، ورددته إلى ما مضى عليه أبو جعفر في عبارته، كما سلف مرارا. (5) يقال هو: عمرو بن معد يكرب الزبيدي. (الخزانة 4: 56) ، وليس في قصيدته التي على هذا الوزن في الأصمعيات: 43، ولكنه أتى في نوادر أبي زيد: 149 - 150 أنه لعمرو بن معد يكرب. فكأنه له، وكأنه سقط من رواية الأصمعي، وهو في رواية غيره. (6) نوادر أبي زيد: 150، وسيبويه 1: 365، 429 والخزانة 4: 53. وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 فجعل"التحية" ضربا. وقال آخر: بل "الحُسن" هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن. و"الحسن" هو البعض من معاني"الحُسن". قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحُسن، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال: (وقولوا للناس حسنا) ، يعني بذلك بعض معاني الحُسن. * * * قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى"الحسن" بضم الحاء وسكون السين، غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما"الحسن" فإنه صفة وقعت لما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك، فالصواب من القراءة في قوله: (وقولوا للناس حَسنا) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم:"وقولوا للناس" باستعمال الحَسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحُسن، وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين، على قراءته بضم الحاء وسكون السين. * * * وأما الذي قرأ ذلك: (وقولوا للناس حسنى) ، فإنه خالف بقراءته إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره. فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ "فعلى" "وأفعل" إلا بالألف واللام أو بالإضافة. لا يقال:"جاءني أحسن"، حتى يقولوا:"الأحسن". ولا يقال:"أجمل"، حتى يقولوا،"الأجمل". وذلك أن"الأفعل والفعلى"، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف، كما تقول: بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى". وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى، ورجل أحسن. * * * وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 في هذه الآية، أن يقولوه للناس، (1) فهو ما:- 1451 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقولوا للناس حسنا) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بـ "لا إله إلا الله" من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه. 1452 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وقولوا للناس حسنا) ، قال، قولوا للناس معروفا. 1453 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج: (وقولوا للناس حسنا) ، قال: صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم. 1454 - وحدثت عن يزيد بن هارون قال، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: (وقولوا للناس حسنا) ، قال: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. (2) 1455 - حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت عطاء بن أبي رباح، عن قول الله جل ثناؤه: (وقولوا للناس حسنا) ، قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا جعفر، فقال مثل ذلك. (3) 1456 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد الملك،   (1) في المطبوعة: "لأن يقولوه للناس" بزيادة اللام، فاسدة. (2) الأثر: 1454 - أخشى أن يكون سقط من إسناده شيء. (3) الخبر: 1455 - هارون بن إدريس الأصم، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة، ولا وجدته في مكان، إلا في رواية الطبري عنه في التاريخ أيضًا 1: 253، و2: 126. روى عنه، عن المحاربي. عبد الملك بن أبي سليمان: هو العرزمي، أحد الأئمة الثقات الحفاظ. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 /366 - 368. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: (وقولوا للناس حسنا) ، قال: للناس كلهم. 1457 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وأقيموا الصلاة) ، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها * كما:- 1458 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود قال: (وأقيموا الصلاة) ، هذه و"إقامة الصلاة" تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى"الزكاة" وما أصلها. (2) * * * وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية، فهي ما:- 1459 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وآتوا الزكاة) ، قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار   (1) انظر ما سلف 1: 241، 573. (2) انظر ما سلف 1: 573 - 574. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 فتحملها، فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل: من ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له. 1460 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وآتوا الزكاة) ، يعني"بالزكاة": طاعة الله والإخلاص. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:- 1461 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية، وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم، وهم الذين استثنى الله فقال: (ثم توليتم) ، يقول: أعرضتم عن طاعتي، (إلا قليلا منكم) ، قال: القليل الذين اخترتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 لطاعتي، وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول: تركها استخفافا بها. (1) . 1462 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) ، أي تركتم ذلك كله. * * * وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: (وأنتم معرضون) ، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: (ثم توليتم إلا قليلا منكم) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم -على ما ذكرناه فيما مضى قبل- (2) ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم. * * * وقال آخرون: بل قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) ، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه. * * *   (1) انظر معنى "تولى" فيما سلف من هذا الجزء 2: 162. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 38، 39 ثم: 164، ثم: 245، ثم 302. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} قال أبو جعفر: قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) في المعنى والإعراب نظير قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) . * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وأما"سفك الدم"، فإنه صبه وإراقته. * * * فإن قال قائل: وما معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذ كانت ملتهما [واحدة، فهما] بمنزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام: (1) 1463 - "إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". (2) * * * وقد يجوز أن يكون معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم) ، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فيقاد به قصاصا، فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة:"أنت جنيت هذا على نفسك". * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1464 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) ، أي: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا فسد الكلام. (2) الحديث: 1463 - هكذا رواه الطبري معلقا. والظاهر أنه رواه بالمعنى أيضًا. ولفظه في صحيح مسلم 2: 284، من حديث النعمان بن بشير: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وكذلك رواه أحمد في المسند (4: 270 حلبي) . ورواه البخاري بنحو معناه 10: 367 (من الفتح) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 1465 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار. 1466 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: (لا تسفكون دماءكم) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ثم أقررتم) ، بالميثاق الذي أخذنا عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:- 1467 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ثم أقررتم) ، يقول: أقررتم بهذا الميثاق. 1468 - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: (وأنتم تشهدون) . فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، فقال الله تعالى لهم: (ثم أقررتم) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 يعني بذلك، إقرار أوائلكم وسلفكم، (وأنتم تشهدون) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم. وممن حُكي معنى هذا القول عنه، ابنُ عباس. 1469 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أن هذا حق من ميثاقي عليكم. * * * وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مُخرج المخاطبة، على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها، التي قد بينا تأويلها فيما مضى. (1) * * * وتأولوا قوله: (وأنتم تشهدون) ، على معنى: وأنتم شهود. * ذكر من قال ذلك: 1470 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: (وأنتم تشهدون) ، يقول: وأنتم شهود. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي: أن يكون قوله: (وأنتم تشهدون) خبرا عن أسلافهم، وداخلا فيه المخاطبون منهم، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) خبرا عن أسلافهم، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم   (1) انظر ما سلف: 2: 298، تعليق: 2، والمراجع. (2) في المطبوعة: "بأن كان خطابا. . "، وهو لا يستقيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 ذلك الميثاق، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، (1) بقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) . فإذْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم، (2) فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض. والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك، (3) فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها، أعني قوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) الآية. لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: (ثم أنتم هؤلاء) وجهان. أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك"يا" استغناء بدلالة الكلام عليه، كما قال: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [يوسف: 29] ، وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم   (1) سياق العبارة: "وتكذيبهم ما وكدوا من العهود على أنفسهم بالوفاء له. . "، فقدم وأخر. (2) في المطبوعة: "فإن كان خارجا. . " وهو تصحيف لا يستقيم. (3) في المطبوعة: "فإن كان ذلك كذلك"، وهو تصحيف لا يستقيم أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 من دياركم، ثم أقررتم = بعد شهادتكم على أنفسكم = (1) بأن ذلك حق لي عليكم، لازم لكم الوفاء لي به - تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، متعاونين عليهم، في إخراجكم إياهم، بالإثم والعدوان. (2) * * * والتعاون هو"التظاهر". وإنما قيل للتعاون"التظاهر"، (3) لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو"تفاعل" من"الظهر"، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض. * * * والوجه الآخر: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن"أنتم". وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم"بهؤلاء"، كما تقول العرب:"أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس"، (4) وإذْ قيل:"أنا هذا أجلس" كان صحيحا جائزا كذلك: أنت ذاك تقوم". وقد زعم بعض البصريين أن قوله"هؤلاء" في قوله: (ثم أنتم هؤلاء) ، تنبيه وتوكيد لـ "أنتم". وزعم أن"أنتم" وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا بـ "هؤلاء" و"أولاء"، (5) لأنها كناية عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة: أقول له والرمح يَأطر متنه: ... تبين خُفافا إنني أنا ذلكا (6) يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ   (1) في المطبوعة: "ثم أقررتم وبعد شهادتكم. . " والواو لا مكان لها هنا. (2) في المطبوعة"متعاونين عليه في إخراجكم. . "، وهذا سهو. (3) في المطبوعة: " وإنما قيل التعاون التظاهر. . " وهذا لا شيء. (4) في المطبوعة: "ولوقيل. أنا هذا أجلس". والصواب ما أثبت. (5) في المطبوعة: "وأولى"، وهو خطأ. ويعني قوله تعالى في سورة آل عمران: 119: "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم"، وقوله تعالى في سورة طه: 84: " قال هم أولاء على أثرى". (6) مضى تخريجه فيما سلف 1: 227. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 بِهِمْ) [يونس: 22] * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، نحو اختلافهم فيمن عَني بقوله: (وأنتم تشهدون) * ذكر اختلاف المختلفين في ذلك: 1471 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) إلى أهل الشرك، (1) حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم. (2) قال: أنبهم الله [على ذلك] من فعلهم، (3) وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، (4) لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حراما ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم، تصديقا لما في التوراة، وأخذا به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس،   (1) في تفسير ابن كثير 1: 223، والدر المنثور 1: 86: "أي أهل الشرك"، والصواب ما في الطبري، وقوله: "إلى أهل الشرك"، أي تخرجون فريقا منكم - إلى أهل الشرك. (2) في المطبوعة: "فقال أنبهم"، والأجود حذفها. (3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها. وأما ابن كثير في تفسيره 1: 223 فكتب: "أنبأهم الله بذلك من فعلهم"، وهو تحريف. (4) في المطبوعة: "أهل الشرك"، والصواب في سيرة ابن هشام 2: 188، وابن كثير 1: 224. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوا من الدماء، (1) وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، (2) مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره، حين أنبهم بذلك: (3) (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، (4) ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه - ابتغاء عرض من عرض الدنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه القصة. (5) 1472 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) قال: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة: أن لا يقتل بعضهم بعضا، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه، فأعتقوه. (6) فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمير. (7) فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها، النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى   (1) طل دمه وأطله: أهدره وأبطله. (2) في المطبوعة: "وقتلوا من قتلوا. . "، والصواب من ابن هشام 2: 189. (3) في المطبوعة: "أنباهم بذلك"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام 2: 189، وسترى ذلك في تفسير الآية نفسها بعد. (4) في المطبوعة: "من ذلك"، وهو محض خطأ. (5) هذه الجملة الأخيرة من كلام ابن إسحاق، لا من كلام ابن عباس. (6) في المطبوعة: "بما قدم يمينه فأعتقوه". وهو كلام من السقم بمكان. يقال: قامت الأمة مئة دينار، أي بلغت قيمتها مئة دينار. ويقال: كم قامت أمتك؟ أي كم بلغت؟ ووجدتها في تفسير البغوي على الصواب: "بما قام من ثمنه" 1: 224 (بهامش تفسير ابن كثير) . (7) حرب سُمير. كانت في الجاهلية بين الأوس والخزرج. وسُمير رجل من بني عمرو بن عوف. وانظر خبر هذه الحرب في الأغاني 3: 18: 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) . 1473 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين، وكانوا بهذه المثابة، (1) وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا، وافترقت قريظة والنضير، فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس، فاقتتلوا. وكان بعضهم يقتل بعضا، فقال الله جل ثناؤه: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) الآية. * * * وقال آخرون بما:- 1474 - حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم. * * * قال أبو جعفر: وأما "العدوان" فهو"الفعلان" من"التعدي"، يقال منه:"عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا، واعتدى يعتدي اعتداء"، وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا. * * * وقد اختلف الْقَرَأَة في قراءة: (تظاهرون) . (2) فقرأها بعضهم:"تظاهرون" على مثال"تفاعلون" فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة. وقرأها آخرون:   (1) المثابة: يعني المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمثابة المنزل، لأن أهله يتصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه، يرجعون إليه. وقال الله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" (2) في المطبوعة: "وقد اختلف القراء"، ورددتها إلى منهج الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 (تظَّاهرون) ، فشدد، بتأويل: (تتظاهرون) ، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء، لتقارب مخرجيهما، فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان، وإن اختلفت ألفاظهما، فإنهما متفقتا المعنى. فسواء بأي ذلك قرأ القارئ، لأنهما جميعا لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى، إلا أن يختار مختار"تظاهرون" المشددة طلبا منه تتمة الكلمة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم) اليهود. يوبخهم بذلك، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها، فقال لهم: ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم - تقتلون أنفسكم = يعني به: يقتل بعضكم بعضا = وأنتم، مع قتلكم من تقتلون منكم، إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم، تفدونه، (1) ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم [حرام عليكم] ، (2) فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم، وتستجيزون قتلهم؟ وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم - سواء. (3) لأن الذي حرمت عليكم   (1) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ. (2) الزيادة بين القوسين لا معدى عنها لاستقامة الكلام. (3) في المطبوعة: "وهم جميعا"، والصواب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 من قتلهم وإخراجهم من دورهم، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب - الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه، فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما:- 1475 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تَفْدُوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، [أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين] ؟ (1) والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم أفتكوهم. 1476 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: (وإن يأتوكم أسارى تَفْدوهم) ، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم، (وهو محرم عليكم) في كتابكم (إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرا بذلك. 1477 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟   (1) كان في المطبوعة: ". . وتكفرون ببعض فادين والله إن فداء لإيمان"، وهو كلام مضطرب فزدت ما بين القوسين استظهارا، حتى يستقيم الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 1478 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر قال، قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، فكان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا. 1479 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) الآية، قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق: أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق: إن أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا. 1480 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، حدثنا الربيع بن أنس قال، أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن. 1481 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، قال: كفرهم القتل والإخراج، وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ (1) وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث. * * * قال أبو جعفر: واختلف الْقَرَأَة (2) في قراءة قوله: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) .   (1) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ. (2) في المطبوعة: "واختلف القراء"، ورددته إلى نهج أبي جعفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 فقرأه بعضهم: (أسرى تَفْدوهم) ، وبعضهم: (أُسارى تُفادوهم) ، وبعضهم (أُسارى تَفدوهم) ، وبعضهم: (أسرى تفادوهم) . * * * قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: (وإن يأتوكم أسرى) ، فإنه أراد جمع"الأسير"، إذ كان على"فعيل"، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير"فعيل"، إذ كان"الأسر" شبيه المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني العاهات، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا، فقيل: أسير وأسرى"، كما قيل:"مريض ومرضى، وكسير وكَسرى، وجريح وجرحى". * * * وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: (أُسارى) ، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع "فَعلان"، إذ كان جمع "فَعلان" الذي له "فَعلى" قد يشارك جمع "فعيل" كما قالوا: "سَكارى وسَكرى، وكَسالى وكَسلى"، فشبهوا"أسيرا" - وجمعوه مرة"أسارى"، وأخرى"أسرى" - بذلك. * * * وكان بعضهم يزعم أن معنى"الأسرى" مخالف معنى"الأسارى"، ويزعم أن معنى"الأسرى" استئسار القوم بغير أسر من المستأسِر لهم، وأن معنى"الأسارى" معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة. قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب. ولكن ذلك على ما وصفت من جمع"الأسير" مرة على "فَعلى" لما بينت من العلة، ومرة على"فُعالى"، لما ذكرت: من تشبيههم جمعه بجمع"سكران وكسلان" وما أشبه ذلك. * * * وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ (وإن يأتوكم أسرى) ، لأن"فعالى" في جمع"فعيل" غير مستفيض في كلام العرب، فإذ كان ذلك غير مستفيض في كلامهم، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات - التي بمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الآلام والزمانة - وواحده على تقدير"فعيل"، على"فعلى"، كالذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك"الأسير"، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها. * * * وأما من قرأ: (تفادوهم) ، فإنه أراد: أنكم تفدونهم من أسرهم، ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم. * * * وأما من قرأ ذلك (تفدوهم) ، فإنه أراد: إنكم يا معشر اليهود، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم. وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني: (أسرى تفادوهم) - (1) لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم. * * * وأما قوله: (وهو محرم عليكم إخراجهم) ، فإن في قوله: (وهو) وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره. كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر"الإخراج" الذي بعد"وهو محرم عليكم" تكريرا على"هو"، لما حال بين"الإخراج" و"هو" كلام. والتأويل الثاني: أن يكون عمادا، لمّا كانت "الواو" التي مع "هو" تقتضي اسما يليها دون الفعل. (2) فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه "الواو" أن يليها - أُولِيَتْ "هو"، لأنه اسم، كما تقول: "أتيتك وهو قائم أبوك"، بمعنى:"وأبوك قائم"، إذ كانت"الواو" تقتضي اسما، فعمدت بـ "هو"، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام. (3) كما قال الشاعر:   (1) في المطبوعة: "أسرى تفدوهم"، وهو غير الصواب، فيما اختاره أبو جعفر من القراءة. (2) العماد، هو ما اصطلح عليه البصريون بقولهم: "ضمير الفصل"، ويسمى أيضًا: "دعامة"، "صفة". وأراد بقوله: "الفعل" هنا: المشتق الذي يعمل فيما بعده عمل الفعل. وسيتبين مراده في العبارات الآتية. (3) قد استوفى هذا كله الفراء في معاني القرآن 1: 50 - 52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته ... على العيس في آباطها عَرَق يَبْسُ (1) بأن السُّلامِيَّ الذي بِضَرِيَّة ... أميرَ الحمى، قد باع حَقِّي بني عبسِ (2) بثوب ودينار وشاة ودرهم ... فهل هو مرفوع بما ههنا رَأْسُ (3) فأوليت"هل""هو" لطلبها الاسم العماد. (4) * * *   (1) سيأتي الشطر الثاني من البيت الأخير في 11: 34، 17: 73 ولم أجد الشعر في غير معاني القرآن للفراء 1: 52، ولم أعرف قائله. والعيس: إبل بيض يخالطها شقرة يسيرة، وهي من كرائم الإبل. ويبس يابس. قد يبس العرق في آباطها من طول الرحلة. (2) السلامي: يعني رجلا كان - فيما أرجح - مصدقا وعاملا على الزكاة، وأميرا على حمى ضرية، ولست أعرف نسبته، أهي قبيلة أم إلى بلد. وحمى ضرية: في نجد، على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى مكة أقرب، وهي أرض طيبة مذكورة في شعرهم. وفي البيت إقواء. (3) سيأتي الشطر الثاني بعد قليل: 374 قوله: "بثوب"، متعلق بقوله آنفًا "باع". يقول: أخذ هذه الرشى التي عددها من بني عبس، فأسلم إليهم حقي. وقوله: "فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس" يقوله لأبي يحيى الذي ذكره، ويقول: فهل نجد ناصرا ينصرنا وياخذ لناحقنا، فنرفع رؤوسنا بعد ما نزل بنا من الضيم. وهذه كلمة يقولونها في مثل ذلك. قال الراعي (طبقات فحول الشعراء: 442) : فإن رفعت بهم رأسا نَعَشْتُهم ... وإن لَقُوا مثلها في قابل فسدوا وقال أعرابي: فتى مثل ضوء الشمس، ليس بباخل ... بخير، ولا مهد ملاما لباخل ولا ناطق عوراء تؤذى جليسه ... ولا رافع رأسا بعوراء قائل وجاءت هذه الكلمة في (باب فضل من علم وعلم) من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (البخاري 1: 23) : "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". (4) في المطبوعة: "فأوليت هل لطلبها"، وزيادة"هو" لا بد منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) : فليس لمن قتل منكم قتيلا = فكفر بقتله إياه، بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة - وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى = جزاء - يعني"بالجزاء": الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه - (1) إلا خزي في الحياة الدنيا. و"الخزي": الذل والصغار، يقال منه:"خزي الرجل يخزى خزيا"، (في الحياة الدنيا) ، يعني: في عاجل الدنيا قبل الآخرة. * * * ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصا، والانتقام للمظلوم من الظالم. * * * وقال آخرون: بل ذلك، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم، ذلة لهم وصغارا. * * * وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا: إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم، فكان ذلك خزيا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.   (1) انظر ما سلف 2: 27 - 28 من هذا الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) : ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم - بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله - إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه. * * * وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب الدنيا. (1) ولا معنى لقول قائل ذلك. (2) ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب، ولذلك أدخل فيه"الألف واللام"، لأنه عنى به جنس العذاب كله، دون نوع منه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) } قال أبو جعفر: اختلف الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وما الله بغافل عما يعملون) بـ "الياء"، على وجه الإخبار عنهم، فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون) ، يعني: عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب. * * * وقرأه آخرون: (وما الله بغافل عما تعملون) بـ "التاء" على وجه المخاطبة.   (1) في المطبوعة: "إلى أشد العذاب من عذاب الدنيا"، والصواب حذف"العذاب". (2) في المطبوعة: "ولا معنىلقول ذلك بأن. . " والصواب زيادة"ذلك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 قال: فكأنهم نحوا بقراءتهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) . وما الله بغافل، يا معشر اليهود، عما تعملون أنتم. * * * وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ بـ "الياء"، اتباعا لقوله: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) ، ولقوله: (ويوم القيامة يردون) . لأن قوله: (وما الله بغافل عما يعملون) إلى ذلك، أقرب منه إلى قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، فاتباعه الأقرب إليه، أولى من إلحاقه بالأبعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من الصواب. * * * وتأويل قوله:"وما الله بغافل عما يعملون"، (1) وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة، بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، ويخزيهم في الدنيا، فيذلهم ويفضحهم. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعض، فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره، نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء [هم] الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم، (3) وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان، الذي كان يكون لهم به في الآخرة - لو كانوا أتوا به مكان الكفر - الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه   (1) في المطبوعة: "وتأويل قوله: وما الله بساه"، لم يذكر الآية، والصواب إثباتها. (2) مضى تفسير معنى"الغفلة" فيما سلف من هذا الجزء 2: 244 (3) ما بين القوسين زيادة، لا يستقيم الكلام بطرحها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها، عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين. فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله، ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا، (1) كما:- 1482 - حدثنا بشر، حدثنا يزيد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) ، استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة. (2) * * * قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة - بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه - لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وأن الذي لهم في الآخرة العذاب، غير مخفف عنهم فيها العذاب. لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب، هو الذي له حظ في نعيمها، ولا حظ لهؤلاء، لاشترائهم - بالذي كان في الدنيا - دنياهم بآخرتهم. (3) * * * وأما قوله: (ولا هم ينصرون) فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله - لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (آتينا موسى الكتاب) : أنزلناه إليه. وقد بينا أن معنى"الإيتاء" الإعطاء، فيما مضى قبل. (4) * * *   (1) انظر ما مضى 1: 312: - 315 في معنى"الاشتراء". (2) الأثر: 1482 - كان في المطبوعة: "حدثنا يزيد. . " بإسقاط: "حدثنا بشر قال"، وهذا إسناده إلى قتادة، كثير الدوران، وأقربه فيما مضى رقم: 1475. (3) في المطبوعة: "لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم بآخرتهم"، وهو كلام سقيم، ولعل الصواب ما أثبت. (4) انظر ما سلف 1: 574. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 و"الكتاب" الذي آتاه الله موسى عليه السلام، هو التوراة. وأما قوله: (وقفينا) ، فإنه يعني: وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض، كما يقفو الرجل الرجل: إذا سار في أثره من ورائه. وأصله من"القفا"، يقال منه:"قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه، كما يقال:"دبرته": إذا صرت في دبره. * * * ويعني بقوله: (من بعده) ، من بعد موسى. * * * ويعني بـ (الرسل) : الأنبياء، وهم جمع"رسول". يقال:"هو رسول وهم رسل"، كما يقال:"هو صبور وهم قوم صبر، وهو رجل شكور وهم قوم شكر. * * * وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: (وقفينا من بعده بالرسل) ، أي أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة. لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة، والعمل بما فيها، والدعاء إلى ما فيها. فلذلك قيل: (وقفينا من بعده بالرسل) ، يعني على منهاجه وشريعته، والعمل بما كان يعمل به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) ، أعطينا عيسى ابن مريم. * * * ويعني بـ "البينات" التي آتاه الله إياها: ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، ونحو ذلك من الآيات، التي أبانت منزلته من الله، ودلت على صدقه وصحة نبوته، كما:- 1483 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 عباس: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) : أي الآيات التي وضع على يديه: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال أبو جعفر: أما معنى قوله: (وأيدناه) ، فإنه قويناه فأعناه، كما:- 1484 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (وأيدناه) ، يقول: نصرناه. يقال منه:"أيدك الله"، أي قواك،"وهو رجل ذو أَيْد، وذو آد"، يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج: من أن تبدلت بآدي آدا (1) * يعني: بشبابي قوة المشيب، ومنه قول الآخر: (2) إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو جَلَد وبطش أيِّد   (1) زيادة ديوانه: 76، واللسان (آود) (أيد) ومجاز القرآن: 46، وأمالي الزجاجي: 39 في خبر، ورواه: فإن تبدلت بآدي آدا ... لم يك ينآد فأمسى انآدا فقد أراني أصل القعادا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقعاد: القواعد من النساء، جمع على جمع المذكر، كما قال القطامي: أبصارهن إلى الشبان مائلة ... وقد أراهن عني غير صداد يعني: غير صواد. (2) ينسب البيت - من أبيات - لعبد الملك بن مروان، والصواب أنه لعبد الله بن عبد الأعلى ابن أبي عمرة الشيباني. مولى بني شيبان (تاريخ الطبري 4: 22 / وسمط اللآلئ: 963 ترجمته) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 (1) يعني بالأيد: القوي. * * * ثم اختلف في تأويل قوله: (بروح القدس) . فقال بعضهم:"روح القدس" الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به، هو جبريل عليه السلام. * ذكر من قال ذلك: 1485 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وأيدناه بروح القدس) قال: هو جبريل. 1486 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: هو جبريل عليه السلام. 1487 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: روح القدس، جبريل. 1488 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: أيد عيسى بجبريل، وهو روح القدس. 1489 - وقال ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو [الذي]   (1) البيت من أبيات جياد رواها أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي ورقة: 105، 106، والمسعودى في مروج الذهب 3: 104، ولباب الآداب: 31، وجاء بيت الشاهد في تاريخ الإسلام للذهبي 3: 280، وتاريخ ابن كثير 9: 67، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 147، واختلفت رواية البيت الشاهد. وقد أوصى عبد الملك بن مروان بنيه وصية جليلة، ثم قال لهم احفظوا عني هذه الأبيات - يعني شعر عبد الله بن عبد الأعلى - أمرهم أن يجتمعوا ولا يتفرقوا فتذهب ريحهم. وبعد البيت: عزت ولم تكسر، وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 يأتيني؟ قالوا: نعم. (1) وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى، هو الإنجيل. * ذكر من قال ذلك: 1490 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا، كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله، كما قال الله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52] . * * * وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. * ذكر من قال ذلك: 1491 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال:"الروح" في هذا الموضع جبريل. لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا   (1) الحديث: 1489 - وقع في المطبوعة "حدثنا سلمة، عن إسحاق". وهو خطأ، صوابه"عن ابن إسحاق". عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي: ثقة فقيه، من شيوخ الليث ومالك. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 /97. شهر بن حوشب الأشعري: تابعي ثقة، ومن تكلم فيه فلا حجة له. وقد فصلنا القول في توثيقه، في شرح المسند: 5007. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري. 2 /2 / 659 - 260، وابن سعد 7 /2 /158، وابن أبي حاتم 2 / 1 382 - 383. ولكن هذا الحديث مرسل، فإن شهرا تابعي كما قلنا. ومعناه - في تفسير"الروح" بأنه جبريل - ثابت في أحاديث صحاح متكاثرة. ذكر منها ابن كثير 1: 227 حديث ابن مسعود، في صحيح ابن حبان، مرفوعا: "إن روح القدس نقث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وقد ذكرنا في شرحنا رسالة الشافعي. رقم: 306 كثيرا من هذا المعنى. وهذا الحديث جزء من حديث مطول، سيأتي بهذا الإسناد رقم: 1606. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ) [المائدة: 110] ، فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل، لكان قوله:"إذ أيدتك بروح القدس"، و"إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه على تأويل قول من قال: معنى (إذ أيدتك بروح القدس) ، إنما هو: إذ أيدتك بالإنجيل - وإذ علمتك الإنجيل. وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو مُعَلَّمُه، فذلك تكرير كلام واحد، من غير زيادة معنى في أحدهما على الآخر. وذلك خلف من الكلام، (1) والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وإذْ كان ذلك كذلك، فَبَيِّنٌ فساد قول من زعم أن"الروح" في هذا الموضع، الإنجيل، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة، وتنتعش بها النفوس المولية، وتهتدي بها الأحلام الضالة. * * * وإنما سمى الله تعالى جبريل"روحا" وأضافه إلى"القدس"، لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده، من غير ولادة والد ولده، فسماه بذلك"روحا"، وأضافه إلى"القدس" - و"القدس"، هو الطهر - كما سمي عيسى ابن مريم"روحا" لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده. * * * وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أن معنى"التقديس": التطهير، و"القدس"- الطهر، من ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه. (2) 1492 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: القدس، البركة. 1493 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: القدس، وهو الرب تعالى ذكره.   (1) الخلف: الرديء الفاسد من القول. يقال في المثل: "سكت ألفا ونطق خلفا"، للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ والخطل. (2) انظر ما سلف 1: 475 - 476. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 1494 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وأيدناه بروح القدس) ، قال: الله، القدس، وأيد عيسى بروحه، قال: نعت الله، القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر: 23] ، قال: القدس والقدوس، واحد. 1495 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، [عن هلال] بن أسامة، عن عطاء بن يسار قال، قال كعب: الله، القدس. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم) ، اليهود من بني إسرائيل. 1496 - حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. * * * قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بني إسرائيل، لقد آتينا موسى التوراة، وتابعنا من بعده بالرسل إليكم، وآتينا عيسى ابن مريم   (1) الخبر: 1495 - هو كلمة من كلام كعب الأحبار. أما الإسناد إليه ففيه إشكال. ولعله خطأ من الناسخين. فليس في الرواة - فيما علمنا - من يسمى"سعيد بن أبي هلال بن أسامة" كما كان في المطبوعة. وإنما صوابه ما رجحنا إثباته، بزيادة [عن هلال] . فسعيد بن أبي هلال الليثي المدني المصري: ثقة من أتباع التابعين، يروي عنه عمرو بن الحارث (الذي سبقت ترجمته في 1387) . وسعيد مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري 2 / 1 /475، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 71. وهلال بن أسامة: هو: "هلال بن علي بن أسامة المدني "، وبعضهم نسبه إلى جده، فقال: ابن أسامة"، كما في التهذيب، وهو ثقة. مترجم أيضًا في الكبير للبخاري 4 / 2 /204 - 205، وابن أبي حاتم 4 /2 /76. وقد فصلنا القول في ترجمته، في شرح المسند: 7346. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 البينات والحجج، إذ بعثناه إليكم، وقويناه بروح القدس، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم - تجبرا وبغيا - استكبار إمامكم إبليس، فكذبتم بعضا منهم. وقتلتم بعضا. فهذا فعلكم أبدا برسلي. * * * وقوله: (أفكلما) ، وإن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب، فهو بمعنى الخبر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وقالوا قلوبنا غُلْف) مخففة اللام ساكنة. وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار. وقرأه بعضهم:"وقالوا قلوبنا غُلُف" مثقلة اللام مضمومة. * * * فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها، فإنهم تأولوها، أنهم قالوا: قلوبنا في أكنة وأغطية وغلْف. و"الغلْف" -على قراءة هؤلاء- جمع"أغلف"، وهو الذي في غلاف وغطاء، كما يقال للرجل الذي لم يختتن"أغلف"، والمرأة"غلفاء". وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه:"سيف أغلف"، وقوس غلفاء" وجمعها"غُلْف"، وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على"أفعل" وأنثاه على"فعلاء"، يجمع على"فُعْل" مضمومة الأول ساكنة الثاني، مثل:"أحمر وحمر، وأصفر وصفر"، فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير. ولا يجوز تثقيل عين"فعل" منه، إلا في ضرورة شعر، كما قال طرفة بن العبد: (1) أيها الفتيان في مجلسنا ... جردوا منها وِرادا وشُقُر   (1) ديوانه (أشعار الستة الجاهليين) : 331، من قصيدة نفيسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 (1) يريد: شُقْرًا، إلا أن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه. ومنه الخبر الذي:- 1497 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة - ثم ذكرها - فقال فيما ذكر: وقلب أغلف معصوب عليه، فذلك قلب الكافر. (2) * * * * ذكر من قال ذلك، يعني أنها في أغطية. 1498 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق   (1) جردوا: قدموا للغارة. وتجرد الفرس: تقدم الحلبة فخرج منها. وتجرد في الأمر: جد فيه. وراد جمع ورد (بفتح فسكون) وهو من الخيل، بين الكميت والأشقر. والأشقر: الأحمر حمرة صافية، يحمر منها السبيب والمعرفة والناصية. والعرب تقول: أكرم الخيل وذوات الخير منها شقرها. (2) الخبر: 1497 - هذا موقوف على حذيفة، وإسناده جيد، إلا أنه منقطع، كما سنبين، إن شاء الله. الحكم بن بشير بن سلمان النهدي الكوفي: ثقة، مترجم في التهذيب، ووقع هناك خطأ مطبعي في اسمي أبيه وجده. وله ترجمة عند البخاري في الكبير 2/1/340، وابن أبي حاتم 1 / 2 /114. عمرو بن قيس الملائي": مضت ترجمته: 886. و"عمرو بن مرة الجملي"و"أبو البختري" واسمه"سعيد بن فيروز" مضيا في: 175. انقطاع الإسناد، هو بين أبي البختري، المتوفي سنة 83، وبين حذيفة بن اليمان، المتوفى أوائل سنة 36 بعد مقتل عثمان بأربعين يوما. ونص في التهذيب على أن أبا البختري لم يدرك حذيفة. هذا الخبر ذكره الطبري مختصرا - كما ترى - وجاء به السيوطي كاملا 1: 87، ونسبه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير، فذكر نحوه، موقوفا على حذيفة. وقد ورد معناه مرفوعا: فروى أحمد في المسند: 11146 (ج3 ص 17 حلبي) ، عن أبي النضر، عن أبي معاوية، وهو شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن ليث، وهو ابن أبي سليم، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري. وهذا إسناد صحيح. ويظهر منه أن أبا البختري كان عنده هذا الحديث، عن أبي سعيد مرفوعا متصلا، وعن حذيفة بن اليمان موقوفا منقطعا. ومثل هذا كثير، ولا نجعل إحدى الروايتين علة للأخرى. وحديث أبي سعيد هذا: ذكره السيوطي 1: 87، ونسبه لأحمد"بسند جيد". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 63، وقال:"رواه أحمد، والطبراني في الصغير، وفي إسناده ليث بن أبي سليم". كأنه يريد إعلاله بضعف ليث. وليث بن أبي سليم: ليس بضعيف بمرة، ولكن في حفظه شيء وحديثه عندنا صحيح، إلا ما ظهر خطؤه فيه، كما بينا في شرح المسند: 1199، وقد ترجمة البخاري في الكبير 4 / 1 /246، فلم يذكر فيه جرحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (وقالوا قلوبنا غلف) ، أي في أكنة. 1499 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (قلوبنا غلف) ، أي في غطاء. 1500 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،: (وقالوا قلوبنا غلف) ، فهي القلوب المطبوع عليها. 1501 - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قوله: (وقالوا قلوبنا غلف) ، عليها غشاوة. 1502 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (وقالوا قلوبنا غلف) ، عليها غشاوة. 1503 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك عن الأعمش قوله: (قلوبنا غلف) ، قال: هي في غُلُف. 1504 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف) ، أي لا تفقه. 1505 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف) ، قال: هو كقوله: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت: 5] . 1506 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: (قلوبنا غلف) قال: عليها طابَع، قال: هو كقوله: (قلوبنا في أكنة) . 1507 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (قلوبنا غلف) ، أي لا تفقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 1508 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالوا قلوبنا غلف) ، قال: يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء. 1509 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قلوبنا غلف) ، قال يقول: قلبي في غلاف، فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) [فصلت: 5] . (1) * * * قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوها "غلف" بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى أنها أوعية. قال: و"الغلف" على تأويل هؤلاء جمع"غلاف". كما يجمع"الكتاب كتب، والحجاب حجب، والشهاب شهب. فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ"غلف" بتحريك اللام وضمها، وقالت اليهود: قلوبنا غلف للعلم، وأوعية له ولغيره. * ذكر من قال ذلك: 1510 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: (وقالوا قلوبنا غلف) ، قال: أوعية للذكر. 1511 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله: (قلوبنا غلف) قال: أوعية للعلم. (2) 1512 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل، عن عطية مثله. 1513 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقالوا قلوبنا غلف) ، قال: مملوءة علما، لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره. * * * والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: (قلوبنا غلف) ، هي قراءة من قرأ (غلف)   (1) في المطبوعة:"شيء" ساقطة، واستدركتها من ابن كثير 1: 229. (2) الخبر: 1511 - محمد بن عمارة الأسدى، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في رواية الطبري عنه في التاريخ أيضًا مرارا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 بتسكين اللام - بمعنى أنها في أغشية وأغطية، لاجتماع الحجة من الْقَرَأَة وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه، من قراءة ذلك بضم"اللام". وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه، حجة على من بلغه. وما جاء به المنفرد، فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان. (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (بل لعنهم الله) ، بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم، وجحودهم آيات الله وبيناته، وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك. * * * وأصل"اللعن" الطرد والإبعاد والإقصاء يقال:"لعن الله فلانا يلعنه لعنا، وهو ملعون". ثم يصرف"مفعول": فيقال: هو"لعين". ومنه قول الشماخ بن ضرار: ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مكان الذئب كالرجل اللعين (2) * * * قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: (بل لعنهم الله بكفرهم) تكذيب منه للقائلين من اليهود: (قلوبنا غلف) . لأن قوله: (بل) دلالة على جحده جل   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 210، 211، 265، 295 (2) ديوانه: 92، ومجاز القرآن 461، وسيأتي في 2: 33 (بولاق) ، وروايته هناك وفي ديوانه،"مقام الذئب" والضمير في"به" إلى"ماء" في قوله قبله: وماء قد وردت لوصل أروى ... عليه الطير كالورق اللجين وأراد في البيت: مقام الذئب الطريد اللعين كالرجل. والرجل اللعين المطرود لا يزال منتبذا عن الناس، شبه الذئب به، يعني في ذله وشدة مخافته وذعره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك، إذ كانت"بل" لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود. فإذ كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلا ما يؤمنون. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (88) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فقليلا ما يؤمنون) . فقال بعضهم، معناه فقليل منهم من يؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا قليل. * ذكر من قال ذلك: 1514 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) ، فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير. 1515 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون) ، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. * ذكر من قال ذلك: 1516 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون) ، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في قوله: (فقليلا ما يؤمنون) بالصواب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ما نحن متقنوه إن شاء الله. وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك نصب قوله: (فقليلا) ، لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره. ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم، فإيمانا قليلا ما يؤمنون. فقد تبين إذًا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك. لأن معنى ذلك، لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان"القليل" مرفوعا لا منصوبا. لأنه إذا كان ذلك تأويله، كان"القليل" حينئذ مرافعا"ما". فإذْ نصب"القليل" - و"ما" في معنى"من" أو"الذي" -[فقد] بقيت"ما" لا مرافع لها. (1) وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب. * * * فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى"ما" التي في قوله: (فقليلا ما يؤمنون) . فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها، وإنما تأويل الكلام: فقليلا يؤمنون، كما قال جل ذكره: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران: 159] وما أشبه ذلك، فزعم أن"ما" في ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم، وأنشد في ذلك محتجا لقوله ذلك - بيت مهلهل: لو بأبانين جاء يخطبها ... خضب ما أنف خاطب بدم (2) وزعم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم، وأن"ما" زائدة. * * * وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في"ما"، في الآية وفي البيت الذي   (1) في المطبوعة: "وإن نصب القليل"، وكأن الأجود ما أثبته. والزيادة بين القوسين واجبة. (2) الكامل 2: 68، ومعجم ما استعجم: 96، وشرح شواهد المغني: 247 وغيرها قال أبو العباس: "أبان جبل: وهما أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض قال مهلهل، وكان نزل في آخر حربهم - حرب البسوس - في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج، وجنب حي من أحيائهم وضيع، وخطبت ابنته ومهرت أدما فزوجها وقال قبله: أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 أنشده، وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء، إذ كانت"ما" كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها. * * * وهذا القول عندنا أولى بالصواب. لأن زيادة ما لا يفيد من الكلام معنى في الكلام، غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه. * * * ولعل قائلا أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلا ما يؤمنون - من الإيمان قليل أو كثير، فيقال فيهم:"فقليلا ما يؤمنون"؟ قيل: إن معنى"الإيمان" هو التصديق. وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله، وبالبعث والثواب والعقاب، وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به، لأنه في كتبهم، ومما جاءهم به موسى، فصدقوا ببعض - وذلك هو القليل من إيمانهم - وكذبوا ببعض، فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به. * * * وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قيل: (فقليلا ما يؤمنون) ، وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب:"قلما رأيت مثل هذا قط". وقد روي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل" يعني: ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بـ "القلة"، والمعنى فيه نفي جميعه. (1) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 554، تعليق: 1، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 59 - 60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 مصدق لما معهم) ، ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم- (كتاب من عند الله) = يعني بـ "الكتاب" القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم = (مصدق لما معهم) ، يعني مصدق للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن، كما:- 1518 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) ، وهو القرآن الذي أنزل على محمد، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل. 1518 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) ، وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ، أي: وكان هؤلاء اليهود - الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب التي أنزلها الله قبل الفرقان، كفروا به - يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم = ومعنى"الاستفتاح"، الاستنصار = (1) يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه، أي من قبل أن يبعث، كما:- 1519 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 524. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قالوا: فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار، وفي اليهود = الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة = يعني: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) = قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية - (1) ونحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب - (2) فكانوا يقولون: إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد وإرم. (3) فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه، كفروا به. يقول الله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) . (4) 1520 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته! فقال سَلام بن مِشْكَم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: (ولما جاءهم   (1) في سيرة ابن هشام 2: 190"علوناهم ظهرا". (2) في سيرة ابن هشام 2: 190"ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب". (3) في سيرة ابن هشام 2: 190"نقتلكم معه. . "، وكذلك هو في ابن كثير 1: 230، وكأنه الصواب. (4) الخبر: 1519 - هذا له حكم الحديث المرفوع، لأنه حكاية عن وقائع في عهد النبوة، كانت سببا لنزول الآية، تشير الآية إليها. الراجح أن يكون موصولا. لأن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري الظفري المدني: تابعي ثقة، وهو يحكي عن"أشياخ منهم"، فهم آله من الأنصار. وعن هذا رجحنا اتصاله. وقد نقل السيوطي 1: 87 هذا الخبر، ونسبه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبي نعيم، والبيهقي، كلاهما في الدلائل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) . (1) 1521 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله. 1522 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ، يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب - يعني بذلك أهل الكتاب - فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه. 1523 - وحدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي في قول الله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ، قال: اليهود، كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس، يستفتحون - يستنصرون - به على الناس. 1524 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي - وهو البارقي - في قول الله جل ثناؤه: (وكانوا من قبل يستفتحون) ، فذكر مثله. (2) 1525 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ، كانت اليهود   (1) الخبر: 1520 - فس يرة ابن هشام 2: 196. (2) الأثر: 1523، 1524 - عليٍ الأزدى البارقي، هو علي بن عبد الله أبو عبد الله بن أبي الوليد البارقي، روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وعبيد بن عمير، وأرسل عن زيد بن حارثة. وعنه مجاهد بن جبر، وهو من أقرانه. قال ابن عدى: ليس عنده كثير حديث، وهو عندي لا بأس به (تهذيب 7: 358، 359) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب من قبل، وقالوا: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) . 1526 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا، ورأوا أنه من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال الله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) . 1527 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) . قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة، ويسألون الله أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب. فلما جاءهم محمد كفروا به، حين لم يكن من بني إسرائيل. 1528 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ، قال: كانوا يستفتحون على كفار العرب بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، ويرجون أن يكون منهم. فلما خرج ورأوه ليس منهم، كفروا وقد عرفوا أنه الحق، وأنه النبي. قال: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) . 1529 - قال حدثنا ابن جريج، وقال مجاهد: يستفتحون بمحمد صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 عليه وسلم تقول: إنه - يخرج. (فلما جاءهم ما عرفوا) -وكان من غيرهم- كفروا به. (1) 1530 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج - وقال ابن عباس: كانوا يستفتحون على كفار العرب. 1531 - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثني شريك، عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) ، قال: هم اليهود عرفوا محمدا أنه نبي وكفروا به. 1532 - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ، قال: كانوا يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمدا عليهم. وليسوا كذلك، يكذبون. 1533 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) . قال: كانت يهود يستفتحون على كفار العرب، يقولون: أما والله لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى، أحمد، لكان لنا عليكم! وكانوا يظنون أنه منهم، والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون عليهم به، ويستنصرون به. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحسدوه، وقرأ قول الله جل ثناؤه: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [سورة البقرة: 109] . قال: قد تبين لهم أنه رسول، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيا خارج. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) ؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في جوابه. فقال بعضهم: هو مما ترك جوابه، استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه، وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن. (2)   (1) الأثر: 1529 - هذا إسناد قد سقط صدره، فما أدري ما هو. وهو مضطرب اللفظ أيضًا. (2) أنا في شك من هذه الجملة الأخيرة، أن يكون فيها تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتي بأشياء لها أجوبة، فتحذف أجوبتها، لاستغناء سامعيها - بمعرفتهم بمعناها - عن ذكر الأجوبة، كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا) [سورة الرعد: 31] ، فترك جوابه. والمعنى:"ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن - استغناء بعلم السامعين بمعناه. قالوا: فكذلك قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) . * * * وقال آخرون: جواب قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) في"الفاء" التي في قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) ، وجواب الجزاءين في"كفروا به"، كقولك:"لما قمت، فلما جئتنا أحسنت"، بمعنى: لما جئتنا إذْ قمت أحسنت. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) } قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى اللعنة، وعلى معنى"الكفر"، بما فيه الكفاية. (2) * * * فمعنى الآية: فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحق عليهم لله ولأنبيائه، المنكرين لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ففي إخبار الله عز وجل عن اليهود - بما أخبر الله عنهم بقوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) - البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعد قيام الحجة بنبوته عليهم، وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 59. (2) انظر ما سلف (الكفر) 1: 255، 382، 522، وهذا الجزء (اللعنة) 2: 328 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 القول في تأويل قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا} قال أبوجعفر ومعنى قوله جل ثناؤه: (بئس ما اشتروا به أنفسهم) : ساء ما اشتروا به أنفسهم. * * * وأصل"بئس" "بَئِس" من"البؤس"، سكنت همزتها، ثم نقلت حركتها إلى"الباء"، كما قيل في"ظللت""ظلت"، وكما قيل"للكبد"،"كِبْد" - فنقلت حركة"الباء" إلى"الكاف" لما سكنت"الباء". وقد يحتمل أن تكون"بئس"، وإن كان أصلها"بَئِس"، من لغة الذين ينقلون حركة العين من"فعل" إلى الفاء، إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة، كما قالوا من"لعب" "لِعْب"، ومن"سئم""سِئْم"، وذلك -فيما يقال- لغة فاشية في تميم. ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ، ووصلت بـ "ما". واختلف أهل العربية في معنى"ما" التي مع"بئسما". فقال بعض نحويي البصرة: هي وحدها اسم، و"أن يكفروا" تفسير له، (1) نحو: نعم رجلا زيد، و"أن ينزل الله" بدل من"أنزل الله". وقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف"ما" اسم"بئس"، و"أن يكفروا" الاسم الثاني. وزعم أن:"أن يكفروا" إن شئت جعلت"أن" في موضع رفع، وإن شئت في موضع خفض. (2) أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن يفعلوه. وأما الخفض: فبئس   (1) "التفسير" هو ما اصطلح البصريون على تسميته"التمييز"، ويقال له التبيين أيضًا، (همع الهوامع 1: 250) . (2) في المطبوعة: "وزعم أن أن ينزل من فضله إن شئت جعلت. . . "، وهو سهو من النساخ، وصوابه ماأثبته من معاني القرآن للفراء 1: 56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا. قال: وقوله: (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) [سورة المائدة: 80] كمثل ذلك. والعرب تجعل"ما" وحدها في هذا الباب، بمنزلة الاسم التام، كقوله: (فنعما هي) [سورة البقرة: 271] ، و"بئسما أنت"، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز: لا تعجلا في السير وادْلُوها ... لبئسما بطءٌ ولا نرعاها (1) قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر"، فيجعلون"ما" وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي"بئس" معرفة مُوَقَّتَة، وخبره معرفة موقتة. وقد زعم أن"بئسما" بمنزلة: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم، فقد صارت"ما" بصلتها اسما موقتا، لأن"اشتروا" فعل ماض من صلة"ما"، في قول قائل هذه المقالة. وإذا وصلت بماض من الفعل، كانت معرفة موقتة معلومة، فيصير تأويل الكلام حينئذ:"بئس شراؤهم كفرهم". وذلك عنده غير جائز: فقد تبين فساد هذا القول. (2) وكان آخر منهم يزعم أن"أن" في موضع خفض إن شئت، ورفع إن شئت. فأما الخفض: فأن ترده على"الهاء" التي في،"به" على التكرير على كلامين. كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع: فأن يكون مكرورا على موضع"ما" التي تلي"بئس". (3) قال: ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك:"بئس الرجل عبد الله. (4) وقال بعضهم:"بئسما" شيء واحد يرافع ما بعده (5) كما حكي عن العرب:   (1) لم أعرف الراجز، والبيتان في اللسان (دلو) . دلوت الناقة دلوا: سقتها سوقا رفيقا رويدا ورعى الماشية وأرعاها: أطلقها في المرعى. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 56 - 57، كأنه قول الكسائي. والمعرفة الموقتة: وهي المعرفة المحددة. وانظر شرح ذلك فيما سلف 1: 181، تعليق: 1. (3) في المطبوعة: "مكررا"، والصواب من معاني القرآن للفراء 1: 56. (4) هذه الفقرة هي نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 56. (5) في المطبوعة: "يعرف ما بعده"، والصواب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 "بئسما تزويج ولا مهر" فرافع"تزويج""بئسما"، (1) كما يقال:"بئسما زيد، وبئس ما عمرو"، فيكون"بئسما" رفعا بما عاد عليها من"الهاء". كأنك قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم، وتكون"أن" مترجمة عن"بئسما". (2) * * * وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من جعل"بئسما" مرفوعا بالراجع من"الهاء" في قوله: (اشتروا به) ، كما رفعوا ذلك بـ "عبد الله" إذ قالوا:"بئسما عبد الله"، وجعل"أن يكفروا" مترجمة عن"بئسما". (3) فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله. وتكون"أن" التي في قوله:"أن ينزل الله"، في موضع نصب. لأنه يعني به"أن يكفروا بما أنزل الله": من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. موضع "أن" جزاء. (4) وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن"أن" في موضع خفض بنية"الباء". وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها. والحرف الخافض لا يخفض مضمرا. * * * وأما قوله: (اشتروا به أنفسهم) ، فإنه يعني به: باعوا أنفسهم * كما:- 1534 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بئسما اشتروا به أنفسهم) ، يقول: باعوا أنفسهم"أن يكفروا بما أنزل الله بغيا". 1535 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (بئسما اشتروا به أنفسهم) ، يهود، شروا الحق   (1) في المطبوعة: "فرفع"، والصواب ما أثبت. (2) الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان" و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان. (3) الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان" و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان. (4) الجزاء: المفعول لأجله هنا، وفي المطبوعة: "جر"، وهو خطأ، وصوابه في معاني القرآن للفراء 1: 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 بالباطل، وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه. (1) قال أبو جعفر: والعرب تقول:"شريته"، بمعنى بعته. و"اشتروا"، في هذا الموضع،"افتعلوا" من"شريت". وكلام العرب -فيما بلغنا- أن يقولوا:"شريت" بمعنى: بعت، و"اشتريت" بمعنى: ابتعت. وقيل: إنما سمي"الشاري"،"شاريا"، لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته. (2) ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري: وشريت بردا ليتني ... من قبل برد كنت هامة (3) ومنه قول المسيب بن علس: يعطى بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها ألا تشري? (4)   (1) في المطبوعة: "بأن بينوه"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير 1: 231. والمعنى اشتروا الكتمان بالبيان. (2) الشاري واحد الشراة (بضم الشين) ، وهم الخوارج، وقال قطري بن الفجاءة الخارجي في معنى ذلك، ويذكر أم حكيم، وذلك في يوم دولاب: فلو شهدتنا يوم ذاك، وخيلنا ... تبيح من الكفار كل حريم رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم وقال الخوارج: نحن الشراة، لقول الله عز وجل: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيعها ويبذلها في الجهاد، وثمنها الجنة، وقيل: سموا بذلك لقولهم: "إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله حين فارقنا الأئمة الجائرة"، أي: بعناها بالجنة. (3) طبقات فحول الشعراء: 555 من قصيدة له، في هجاء عباد بن زياد، حين باع ما له في دين كان عليه، وقضى الغرماء، وكان فيما باع غلام لابن مفرغ، يقال له"برد"، وجارية يقال لها"أراكة". وقوله: "كنت هامة" أي هالكا. يقال: فلان هامة اليوم أو غد، أي قريب هلاكه، فإذا هو"هامة"، وذلك زعم أبطله الله بالإسلام كان في الجاهلية: أن عظم الميت أو روحه تصير هامة (وهو طير كالبومة) فتطير. ورواية غيره: "من بعد برد". (4) ديوانه: 352 (من ملحق ديوان الأعشى - والمسيب خال الأعشى، والأعشى راويته) ، ورواية الديوان"ويقول صاحبه"، وهي الصواب. والبيت من أبيات آية في الجودة، يصف الغواص الفقير، قد ظفر بدرة لا شبيه لها، فضن بها على البيع، وقد أعطى فيها ما يغنى من الثمن، فأبى، وصاحبه يحضضه على بيعها، وبعده: وترى الصراري يسجدون لها ... ويضمها بيديه للنحر والصراري: الملاحون، من أصحاب الغواصين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 يعني به: بعت بردا. وربما استعمل"اشتريت" بمعنى: بعت، و"شريت" في معنى:"ابتعت". والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت. * * * وأما معنى قوله: (بغيا) ، فإنه يعني به: تعديا وحسدا، كما:- 1536 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة: (بغيا) ، قال: أي حسدا، وهم اليهود. 1537 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بغيا) ، قال: بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟ فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. 1538 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (بغيا) ، يعني: حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. 1539 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء باعوا به أنفسهم، الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى - من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والأمر بتصديقه واتباعه - من أجل أن أنزل الله من فضله = وفضله: حكمته وآياته ونبوته = على من يشاء من عباده - يعني به: على محمد صلى الله عليه وسلم - بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل، ولم يكن من بني إسرائيل. * * * فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر، فقيل: (بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله) ؟ وهل يشتري بالكفر شيء؟ قيل: إن معنى:"الشراء" و"البيع" عند العرب، هو إزالة مالك ملكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 إلى غيره، بعوض يعتاضه منه. ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا، شرا أو خيرا، فتقول:"نعم ما باع به فلان نفسه" و"بئس ما باع به فلان نفسه"، بمعنى: نعم الكسب أكسبها، وبئس الكسب أكسبها - إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: (بئس ما اشتروا به أنفسهم) - لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم، فقال: (بئس ما اشتروا به أنفسهم) ، يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا، إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك. * * * وهذه الآية - وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به، مع علمهم بصدقه، وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل - (1) نظيره الآية الأخرى في سورة النساء، وذلك قوله، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 51-54] . * * *   (1) قوله"- نظيره الآية. . " خبر قوله في صدر هذه الفقرة: "وهذه الآية-". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 القول في تأويل قوله: {أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} قال أبو جعفر: قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه:- 1540 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم، قوله: (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) ، أي أن الله تعالى جعله في غيرهم. (1) . 1541 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: هم اليهود. لما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به - حسدا للعرب - وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة. 1542 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله. 1543 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 1544 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟ 1545- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي. قال: نزلت في اليهود. (2) * * *   (1) الأثر: 1540 - سيرة ابن هشام 2: 190 (2) الأثر: 1545 - انظر التعليق على رقم: 1523، 1524. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 القول في تأويل قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فباءوا بغضب على غضب) ، (1) فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث - مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا فباءوا بغضب من الله = استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث، وجحودهم نبوته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم، عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب = على غضب سالف، كان من الله عليهم قبل ذلك، سابقٍ غضبه الثاني، لكفرهم الذي كان قبل عيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت، يستحقون بها الغضب من الله، كما:- 1546 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما روى عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (فباءوا بغضب على غضب) ، فالغضب على الغضب، غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم. (2) 1547 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: (فباءوا بغضب على غضب) قال: كفر بعيسى، وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. (3) 1548 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان،   (1) انظر تفسير. "باء" فيما سلف من هذا الجزء 2: 138. (2) الأثر: 1546- سيرة ابن هشام 2: 190. (3) الأثر: 1547 - في الدر المنثور: "كفرهم" في الموضعين، وهما سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 عن أبي بكير، عن عكرمة: (فباءوا بغضب على غضب) ، قال: كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. 1549 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن عكرمة مثله. 1550 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما، فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فباء بغضب. 1551 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فباءوا بغضب على غضب) ، غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. 1552 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فباءوا بغضب) ، اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم، (على غضب) ، جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بما جاء به. 1553 - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فباءوا بغضب على غضب) ، يقول: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. 1554 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فباءوا بغضب على غضب) ، أما الغضب الأول فهو حين غضب الله عليهم في العجل؛ وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 1555 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله: (فباءوا بغضب على غضب) ، قال: غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم - من تبديلهم وكفرهم -، ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم - إذ خرج، فكفروا به. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"الغضب" من الله على من غضب عليه من خلقه - واختلاف المختلفين في صفته - فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وللكافرين عذاب مهين) ، وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، عذاب من الله، إما في الآخرة، وإما في الدنيا والآخرة، (مهين) هو المذل صاحبه، المخزي، الملبسه هوانا وذلة. * * * فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه، فيكون للكافرين المهين منه؟ قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا، الذي يخلد فيه صاحبه، لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله. وأما الذي هو غير مهين صاحبه، فهو ما كان تمحيصا لصاحبه. وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام، يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد، وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل   (1) انظر ما سلف 1: 188 - 189، وما مضى في هذا الجزء 2: 138 هذا وقد كان في المطبوعة بعد قوله: "عن إعادته" ما نصه: "والله تعالى أعلم"، وليس لها مكان هنا، وهي بلا شك زيادة بعض النساخ، فلذلك تركتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير جرائمهم التي ارتكبوها، ليمحصوا من ذنوبهم، ثم يدخلون الجنة. فإن كل ذلك، وإن كان عذابا، فغير مهين من عذب به. إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه، ثم يورده معدن العز والكرامة، ويخلده في نعيم الجنان. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذا قيل لهم) ، وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل - للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (آمنوا) ، أي صدقوا، (بما أنزل الله) ، يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، (قالوا: نؤمن) ، أي نصدق، (بما أنزل علينا) ، يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ويكفرون بما وراءه) ، ويجحدون،"بما وراءه"، يعني: بما وراء التوراة. * * * قال أبو جعفر: وتأويل"وراءه" في هذا الموضع"سوى". كما يقال للرجل المتكلم بالحسن:"ما وراء هذا الكلام شيء" يراد به: ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام. فكذلك معنى قوله: (ويكفرون بما وراءه) ، أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله، (1) كما:- 1556 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ويكفرون بما وراءه) ، يقول: بما بعده. 1557 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ويكفرون بما وراءه) ، أي بما بعده - يعني: بما بعد التوراة. 1558 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ويكفرون بما وراءه) ، يقول: بما بعده. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهو الحق مصدقا) ، أي: ما وراء الكتاب - الذي أنزل عليهم من الكتب   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 التي أنزلها الله إلى أنبيائه - الحق. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما:- 1559 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه) ، وهو القرآن. يقول الله جل ثناؤه: (وهو الحق مصدقا لما معهم) . وإنما قال جل ثناؤه: (مصدقا لما معهم) ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا. ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام. فلذلك قال جل ثناؤه لليهود - إذْ أخبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه، من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه -: إنه الحق مصدقا للكتاب الذي معهم، يعني: أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون. قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة، على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان، عنادا لله، وخلافا لأمره، وبغيا على رسله صلوات الله عليهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) } قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: (قل فلم تقتلون أنبياء الله) ، قل يا محمد، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا: نؤمن بما أنزل علينا-: لم تقتلون = إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم = أنبياءه، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) وتعيير لهم، كما:- 1560 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني اليهود: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) ؟ * * * فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) ، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثم أخبر أنه قد مضى؟ قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك. فقال بعض البصريين: معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، كما قال جل ثناؤه: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) [سورة البقرة: 102] ، أي: ما تلت، (1) وكما قال الشاعر: (2) ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت عنه وقلت لا يعنيني (3) يريد بقوله:"ولقد أمر" ولقد مررت. واستدل على أن ذلك كذلك، بقوله:"فمضيت عنه"، ولم يقل: فأمضي عنه. وزعم أن"فعل" و"يفعل" قد تشترك في معنى واحد، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: (4) وإني لآتيكم تَشَكُّرَ ما مضى ... من الأمر، واسْتِيجابَ ما كان في غد (5) يعني بذلك: ما يكون في غد، وبقول الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر (6)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 60 - 61. (2) هو رجل من بني سلول. (3) سيبويه 1: 416، الخزانة 1: 173، وشرح شواهد المغني: 107 وغيرها كثير. وروايتهم جميعا"ثمت قلت". وبعده بيت آخر: غضبان ممتلئا علي إهابه ... إني وربك سخطه يرضيني (4) هو الطرماح بن حكيم الطائي. (5) ديوانه: 146، وسيأتي في 4: 97 (بولاق) ، وحماسة البحتري: 109، واللسان (كون) وقد كان في هذا الموضع"بشكرى"، وهو خطأ، سيأتي من رواية الطبري على الصواب. وروى اللسان: "واستنجاز ما كان". وصواب الرواية: "فإني لآتيكم" فإنه قبله: من كان لا يأتيك إلا لحاجة ... يروح بها فيما يروح ويغتدى فإني لآتيكم. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (6) ديوانه: 85، ونسب قريش: 138، والاستيعاب: 604، وأنساب الأشراف 5: 32، وسمط اللآلئ: 674. قالها الحطيئة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان من رجالات قريش همة وسخاء. استعمله أبو بكر وعمر وعثمان، فلما كان زمان عثمان، رفعوا عليه أنه شرب الخمر، فعزله عثمان وجلده الحد، وكان لهذا شأن كبير، فقال الحطيئة يعذره ويمدحه، ويذكر عزله: شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر خلعوا عنانك إذ جريت، ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور والعسر فنزعت، مكذوبا عليك، ولم ... تردد إلى عوز ولا فقر قال مصعب بن عبد الله الزبيري في نسب قريش: "فزادوا فيها من غير قول الحطيئة: نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم? ثملا ولا يدري ليزيدهم خمسا، ولو فعلوا ... مرت صلاتهم على العشر وقد أكثر الناس فيما كان من خبر الوليد، وما كان من شعر الحطيئة فيه. وهذا نص من أعلم قريش بأمر قريش، على أن البيتين قد نحلهما الحطيئة، متكذب على الوليد، لما كان له في الشأن في أمر عثمان رضي الله عنه. ولقد جلد الوليدبن عقبة مكذوبا عليه كما قال الحطيئة، فاعتزل الناس. وروى أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي (ورقة: 196) قال:: "قال الوليد بن عقبة عند الموت، وهو بالبليخ من أرض الجزيرة: "اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا على، فلا تلق روحي منك روحا ولا ريحانا، وإن كانوا كذبوا على فلا ترضهم بأمير ولا ترض أميرا عنهم. انتقم لي منهم، واجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي". فليت أهل الشر كفوا ألسنتهم عن رجل من عقلاء الرجال وأشرافهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 يعني: يشهد. وكما قال الآخر: فما أضحي ولا أمسيت إلا ... أراني منكم في كَوَّفان (1) فقال: أضحي، ثم قال:"ولا أمسيت". * * * وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) ، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل، ومعناه الماضي، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له: ويحك، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر:   (1) لم أعرف قائله، وهو في اللسان (كوف) والصاحبي: 187. والكوفان (بتشديد الواو) : الاختلاط والشدة والعناء. يقال: إنا منه في كوفان، أي في عنت وشقاء ودوران واختلاط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 إذا ما انتسبنا، لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تُقِري به بُدَّا (1) فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت. وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام:"إذا نظرت في سيرة عمر، لم تجده يسيء". (2) المعنى: لم تجده أساء. فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه، لم يقع في الوهم أنه مستقبل. فلذلك صلحت"من قبل" مع قوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) . قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا، فتولوهم على ذلك ورضوا به، فنسب القتل إليهم. (3) * * * قال أبو جعفر: والصواب فيه من القول عندنا، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور - بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به، نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا -، (4) يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) ، إذْ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن   (1) سلف تخريجه في هذا الجزء 2: 165. (2) في معاني القرآن للفراء: "لم يسئ"، بحذف"تجده". (3) في المطبوعة: "فتلوهم على ذلك ورضوا. فنسب. . "، والصواب ما أثبته من معاني القرآن للفراء 1: 60 - 61، وهذا الذي نقله الطبري هو نص كلامه. (4) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 302 تعليق: 1 والمراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 فعل السالفين منهم - (1) على نحو الذي بينا - جاز أن يقال"من قبل"، إذْ كان معناه: قل: فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل"؟ وكان معلوما بأن قوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) ، إنما هو خبر عن فعل سلفهم. * * * وتأويل قوله: (من قبل) ، أي: من قبل اليوم. * * * وأما قوله: (إن كنتم مؤمنين) ، فإنه يعني: إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم - إن كانوا وكنتم، كما تزعمون أيها اليهود، مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه، عند قولهم حين قيل لهم: (آمنوا بما أنزل الله. قالوا: نؤمن بما أنزل علينا. لأنهم كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله، مع قيلهم: نؤمن بما أنزل علينا - متولين، وبفعلهم راضين. فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي: ترضون أفعالهم. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولقد جاءكم موسى بالبينات) ، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة نبوته، (3) كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا، ويده التي   (1) في المطبوعة: "وإن كان قد خرج على لفظ الخبر. . "، والصواب: "إذ. . " كما أثبته. (2) في المطبوعة: "أي وترضون. . " بزيادة واو لا خير فيها. (3) في المطبوعة: "وحقية نبوته"، وليست مما يقوله أبو جعفر، وقد مضى آنفًا مثل هذا التبديل من النساخ، وكان في المخطوطة العتيقة، على مثل الذي أثبته، وانظر ما سلف 2: 318. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 أخرجها بيضاء للناظرين. وفلق البحر ومصير أرضه له طريقا يبسا، والجراد والقمل والضفادع، وسائر الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته. (1) وإنما سماها الله"بينات" لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر، إلا بتسخير الله ذلك له. وإنما هي جمع"بينة"، مثل"طيبة وطيبات". (2) * * * قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم - يا معشر يهود بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته. (3) * * * وقوله:"ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون" يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها. فالهاء التي في قوله:"من بعده"، من ذكر موسى. وإنما قال: من بعد موسى، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده - على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا. (4) وقد يجوز أن تكون"الهاء" التي في"بعده" إلى ذكر المجيء. فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات، ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون. كما تقول: جئتني فكرهته، يعني كرهت مجيئك. * * * وأما قوله: (وأنتم ظالمون) ، فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه. لأن العبادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبيخ من الله لليهود، وتعيير منه لهم، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا - من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 318، 354. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 318، 319. (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 318، 354. (4) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 60 - 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه، من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حِكَم الله - فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحود ما في كتبهم = التي زعموا أنهم بها مؤمنون = من صفته ونعته، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة - أسرع (1) وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذ أخذنا ميثاقكم) ، واذكروا إذ أخذنا عهودكم، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري، وتنتهوا عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط، فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم، إذ رفعنا فوقكم الجبل. (2) وأما قوله: (واسمعوا) ، فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر:"سمعت وأطعت"، يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك، كما قال الراجز: السمع والطاعة والتسليم ... خير وأعفى لبني ميمْ (3)   (1) سياق هذه الجملة المفصلة:. . "وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا. . فهم إلى تكذيب محمد. . . أسرع"، وكل ما بين ذلك فصول متتابعة كدأبه. (2) سلف شرحه لألفاظ هذه الآية: "ميثاق"، "الطور"، "الإيتاء"، "قوة"، فاطلبه في المواضع الآتية 2: 156، 157، 160 والمراجع. (3) قائلة رجل من ضبة، من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك، ومن خبره أن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي والي البصرة في سنة 55، خطب على منبرها فحصبه جبير هذا، فأمر به عبد الله بن عمرو فقطعت يده. فقال الرجز. ورفعوا الأمر إلى معاوية فعزله (تاريخ الطبري 6: 167) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 يعني بقوله:"السمع"، قبول ما يسمع، و"الطاعة" لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: (واسمعوا) ، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة، واعملوا بما سمعتم، وأطيعوا الله، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك. * * * وأما قوله: (قالوا سمعنا) ، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب، فإن ذلك كما وصفنا، (1) من أن ابتداء الكلام، إذا كان حكاية، فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب، كما بينا ذلك فيما مضى قبل. (2) فكذلك ذلك في هذه الآية، لأن قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) ، بمعنى: قلنا لكم، فأجبتمونا. * * * وأما قوله: (قالوا سمعنا) ، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. * ذكر من قال ذلك: 1561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (وأشربوا في قلوبهم العجل) ، قال: أشربوا حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.   (1) في المطبوعة: "مما وصفنا"، ليست شيئا. (2) انظر ما سلف 1: 153 - 154، وهذا الجزء 2: 293، 294. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 1562 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وأشربوا في قلوبهم العجل) ، قال: أشربوا حب العجل بكفرهم. 1563 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع: (وأشربوا في قلوبهم العجل) ، قال: أشربوا حب العجل في قلوبهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل. (1) * ذكر من قال ذلك: 1564 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما رجع موسى إلى قومه، أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه، فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، (2) ثم ذرّاه في اليم، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا منه، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب. فذلك حين يقول الله عز وجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) . (3) 1565 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: لما سحل فألقي في اليم، استقبلوا جرية الماء، فشربوا حتى ملئوا بطونهم، فأورث ذلك من فعله منهم جبنا. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: (وأشربوا   (1) السحالة: ما سقط من الذهب والفضة ونحوهما إذا سحلا، أي بردا بالمبرد. (2) حرقه: برده بالمبرد، وانظر ما سلف من هذا الجزء 2: 74. (3) الأثر: 1564 - سلف برقم: 937. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 في قلوبهم العجل) تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. لأن الماء لا يقال منه: أشرب فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك في حب الشيء، فيقال منه:"أشرب قلب فلان حب كذا"، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير: فصحوت عنها بعد حب داخل ... والحب يُشْرَبُه فؤادُك داء (1) قال أبو جعفر: ولكنه ترك ذكر"الحب" اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام. إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) [سورة الأعراف: 163] ، (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) [يوسف: 82] ، وكما قال الشاعر: (2) ألا إنني سُقِّيت أسود حالكا ... ألا بَجَلِي من الشراب ألا بَجَل (3)   (1) ديوانه: 339، وهو هناك"تشربه" بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء ونصب"فؤادك"، وشرحه فيه دليل على ذلك، فإنه قال: "تدخله" وقال: "تشربه" تلزمه ولكن استدلال الطبري، كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول، ورفع"فؤادك". وحب داخل، وداء داخل: قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل والبدن. (2) هو طرفة بن العبد. (3) ديوانه: 343 (أشعار الستة الجاهليين) ، ونوادر أبي زيد: 83، واللسان (سود) . واختلف فيما أراد بقوله: "أسود". قيل: الماء، وقيل: المنية والموت. قال أبو زيد في نوادره: "يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة، (سويد: بالتصغير) هو الماء، يدعى الأسود". واستدل بالبيت. والصواب في ذلك أن يقال كما قال الطبري، ويعني به: سوء ما لقى من هم وشقاء حالك في حب صاحبته الحنظلية، التي ذكرها في شعره هذا قبل البيت: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل ألا إنما أبكى ليوم لقيته ... بجرثم قاس، كل ما بعده جلل إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا ... به حين يأتي - لا كذاب ولا علل ألا إنني. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويروى: "ألا بجلى من الحياة"، وهي أجود. . ورواية الديوان واللسان: (ألا إنني شربت) ، والتي هنا أجود. وقوله: "بجل"، أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 يعني بذلك سُمّا أسود، فاكتفى بذكر"أسود" عن ذكر"السم" لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله:"سقيت أسود". ويروى: ألا إنني سقيت أسود سالخا (1) وقد تقول العرب:"إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم، أو إلى حاتم"، (2) فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر: يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وإن جهادا طيئ وقتالها (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الشيء يأمركم به إيمانكم؛ إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله،   (1) السالخ من الحيات: الأسود الشديد السواد، وهو أقتل ما يكون إذا سلخ جلده في إبانه من كل عام. (2) هرم بن سنان، صاحب زهير بن أبي سلمى، وحاتم: هو الطائي الذي لا يخفى له ذكر. وأكثر هذا في معاني القرآن للفراء 1: 61 - 62. (3) معاني القرآن للفراء 1: 62، ومجالس ثعلب: 76، واللسان (غزا) ، ونسبه لجميل، ولا أظنه إلا أخطأ، لذكر جميل في البيت، ولمشابهته لقول جميل: يقولون: جاهد يا جميل بغزوة! ... وأي جهاد غيرهن أريد? ولكن البيت من شعر آخر، لم أهتد إليه بعد البحث، ويريد الأول: وإن الجهاد جهاد طيئ وقتالها، فحذف واجتزأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده. ومعنى"إيمانهم": تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله، إذْ قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله. فقالوا: نؤمن بما أنزل علينا. وقوله: (إن كنتم مؤمنين) ، أي: إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم، (1) وإنما كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهي عن ذلك كله، وتأمر بخلافه. فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة، إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم، وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان. * * *   (1) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" 1: 235، 2: 143 وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) } قال أبو جعفر: وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف. كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. (1) وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة   (1) وذلك ما جاء في سورة آل عمران: 61، وانظر خبره في التفسير والسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 من الله. بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جنانه، إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا". 1566 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)   (1) الحديث: 1566 - إسناده صحيح. أبو كريب: هو محمد بن العلاء. زكريا بن عدي ابن زريق التيمي الكوفي: ثقة جليل ورع قال ابن سعد: " كان رجلا صالحا صدوقا". وهو مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري 2 /1 / 387 - 388، والصغير: 232، وابن سعد 6: 284، وابن أبي حاتم 1/2/600، ووقع هنا في المطبوعة"أبو زكريا" وزيادة"أبو" خطأ من ناسخ أو طابع، عبيد الله بن عمرو: هو أبو وهب الجزري الرقي، ثقة معروف أخرج له أصحاب الكتب الستة، وترجمته في التهذيب، وابن سعد 7 /2 /182، والصغير للبخاري: 203، وابن أبي حاتم 2 /2 / 328 - 329. عبد الكريم: هو ابن مالك الجزري الحراني، وهو ثقة ثبت صاحب سنة، من شيوخ ابن جريج ومالك والثوري وأضرابهم. ترجمته في التهذيب، والصغير للبخاري: 148، وابن أبي حاتم 3 / 1 /58 - 59. والحديث رواه أحمد في المسند: 2226، عن أحمد بن عبد الملك الحراني، عن عبيد الله، وهو ابن عمرو، بهذا الإسناد، ولكن لم يذكر لفظه، أحاله على الرواية قبله: 2225، من طريق فرات بن سلمان الحضرمي، عن عبد الكريم، به، بزيادة في أوله. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 228، عن الرواية المطولة، وقال: "في الصحيح طرف من أوله"، ثم قال: "رواه أحمد، أبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح". أقول: ورجال أحمد في الإسناد: 2226 - رجال الصحيح أيضًا. وذكر السيوطي 1: 89 بعضه، ونسبه أيضًا إلى الشيخين، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، وأبي نعيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 1567 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن ابن عباس في قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. (1) 1568 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة في قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا. (2) 1569 - حدثني موسى قال، أخبرنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن ابن عباس مثله. 1570 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر: فيما أروي: أنبأنا - عن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لو تمنوه يوم قال ذلك لهم، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات. (3) قال أبو جعفر: فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل.   (1) الخبر: 1567 - هو موقوف على ابن عباس، في معنى الحديث قبله. ولكن إسناده هذا منقطع. الأعمش: لم يدرك ابن عباس. (2) الخبر: 1568- هو بعض الحديث السابق: 1566، وإسناده صحيح. وظاهره هنا أنه موقوف على ابن عباس، ولكنه مرفوع بالروايات الأخر. (3) الأثر: 1570 - في ابن هشام 2: 191. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وإنما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: (تمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، لأنهم -فيما ذكر لنا- قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18] ، وقالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [البقرة: 111] . فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون، فتمنوا الموت. فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت، وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما. * ذكر من قال ذلك: 1571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. (1) * * * وقال آخرون بما:- 1572 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس) ، وذلك أنهم قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [البقرة: 111] ، وقالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18] فقيل لهم: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) . 1573 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن   (1) الأثر: 1571 - في سيرة ابن هشام 2: 191، وفيها: "أكذب عند الله"، وانظر رقم: 1578. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 الربيع، عن أبي العالية قال: قالت اليهود: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، وقالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه) فقال الله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، فلم يفعلوا. 1574 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة) الآية، وذلك بأنهم قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، وقالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه) . (1) . * * * وأما تأويل قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة) ، فإنه يقول: قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر"الدار"، من ذكر نعيمها، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها. وقد بينا معنى"الدار الآخرة". فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * وأما تأويل قوله: (خالصة) ، فإنه يعني به: صافية. كما يقال:"خلص لي فلان" بمعنى صار لي وحدي وصفا لي. يقال منه:"خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة، و"الخالصة" مصدر مثل"العافية". ويقال للرجل:"هذا خُلْصاني"، يعني خالصتي من دون أصحابي. * * * وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: (خالصة) : خاصة. وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك. 1575 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قل إن كانت لكم   (1) الأثر: 1574 - في المطبوعة". . حدثنا إسحاق قال حدثني أبو جعفر عن الربيع" وهذا إسناد فاسد، وهو كثير الدوران في التفسير، وأقرب ذلك رقم: 1563 (2) انظر ما سلف 1: 245. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 الدار الآخرة) ، قال:"قل" يا محمد لهم - يعني اليهود -: إن كانت لكم الدار الآخرة" - يعني: الجنة (1) - (عند الله خالصة) ، يقول: خاصة لكم. * * * وأما قوله: (من دون الناس) ، فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك: 1576 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (من دون الناس) ، يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم. * * * وأما قوله: (فتمنوا الموت) فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: فسلوا الموت. ولا يعرف"التمني" بمعنى"المسألة" في كلام العرب. ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى"الأمنية" - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة، إذْ كانت المسألة، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله. 1577 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: (فتمنوا الموت) ، فسلوا الموت، (إن كنتم صادقين) . * * *   (1) في المطبوعة: "يعني الخير"، وهو تصحيف وتحريف، صوابه ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 القول في تأويل قوله تعالى {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب، كالذي:- 1578 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) الآية، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) ، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك. (1) 1579 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولن يتمنوه أبدا) ، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدا، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم. 1580 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) الأثر: 1578 - مضى في رقم: 1571، وهنا تمامه. وفي سيرة ابن هشام 1: 191"أكذب عند الله". وفي المطبوعة: "وقالوا ذلك على رسول الله. . " وهو خطأ، صوابه ما في سيرة ابن هشام. وفي المطبوعة: "أي لعلمهم بما عندهم. . " والذي أثبته هو نص ابن هشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 ابن جريج قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا. * * * وأما قوله: (بما قدمت أيديهم) ، فإنه يعني به: بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها. فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها:"نالك هذا بما جنت يداك، وبما كسبت يداك، وبما قدمت يداك"، فتضيف ذلك إلى"اليد". ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد. قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى"اليد"، لأن عُظْمَ جنايات الناس بأيديهم، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى"أيديهم"، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده. فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) ، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم، والبغي عليه، وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم، وأنه مما قدمته أيديهم، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:- 1581 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (بما قدمت أيديهم) ، يقول: بما أسلفت أيديهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 1582 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (بما قدمت أيديهم) ، قال: إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه. * * * وأما قوله: (والله عليم بالظالمين) ، فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون. وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم. وقد دللنا على معنى"الظلم" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) - اليهود -. يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود * كما:- 1583 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) ، يعني اليهود. 1584 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، حدثنا الربيع، عن أبي العالية: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) ، يعني اليهود. (2) 1585 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر، عن   (1) انظر ما سلف 1: 523 - 524. (2) الأثر: 1584 - في المطبوعة: "حدثنا أبو جعفر عن أبي العالية"، سقط منه"حدثنا الربيع"؛ وهو إسناد دائر، وأقربه في رقم: 1573. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 أبيه، عن الربيع مثله. (1) 1586 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن الذين أشركوا) ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال:"هو أشجع الناس ومن عنترة" بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة. فكذلك قوله: (ومن الذين أشركوا) . لأن معنى الكلام: ولتجدن -يا محمد- اليهود من بني إسرائيل، أحرص [من] الناس على حياة ومن الذين أشركوا. (2) فلما أضيف"أحرص" إلى"الناس" وفيه تأويل"من"، أظهرت بعد حرف العطف، ردا - على التأويل الذي ذكرنا. وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك، (3) فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب، (4) فاليهود أحرص   (1) الأثر: 1585 - في المطبوعة: "حدثني المثنى قال حدثنا ابن أبي جعفر" سقط منه"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر، وأقربه رقم: 1574. (2) الزيادة بين القوسين، لا بد منها، يدل عليها سياقه. (3) في المطبوعة: "مما لا يقر به"، والصواب ما أثبته. (4) في المطبوعة: "وإن المشركين لا يصدقون. . "، و"إن" لا مكان لها هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 منهم على الحياة وأكره للموت. * * * وقيل: إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث * ذكر من قال هم المجوس: 1587 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، يعني المجوس. 1588 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: المجوس. 1589 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال قال ابن زيد: (ومن الذين أشركوا) ، قال: يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. * * * * ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث: 1590 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا) ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم. (1) * * *   (1) الأثر: 1590 - سيرة ابن هشام 2: 191. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 القول في تأويل قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا (1) - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة. يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته، (2) أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم تحية بعض:"عشرة آلاف عام" حرصا منهم على الحياة، كما:- 1591 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي عليا، أخبرنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: هو قول الأعاجم:"سال زه نوروز مهرجان حر". (3)   (1) في المطبوعة: "هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا" والصواب حذف"بقوله"، والنسخة المطبوعة ومخطوطاتها مضطربة في هذا الموضع من الكتاب اضطرابا شديدا. (2) في المطبوعة: "يود أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا ما. . بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته"، بياض فيها وفي الأصل. واستظهرت قراءتها كما أثبت، فإنه هو المعنى الذي يدور عليه تفسير أبي جعفر: أن هذا المشرك قد يئس أن يكون له بعد فناء الدنيا وانقضاء الحياة نشور أو محيا أو فرح أو سرور، فهو يود لو يعمر ألف سنة. (3) الأثر: 1591 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، وأبوه: ثقتان، ترجمنا لهما في شرح المسند: 7437. أبو حمزة: هو السكري، محمد بن ميمون، ثقة إمام. وهذا الإسناد صحيح متصل. وانظر الإسناد الآتي. في تفسير ابن كثير 1: 238، ونص الكلام الفارسي فيه:"هزار سال نوروز مهرجان". وقد سألت أحد أصحابنا ممن يعرف الفارسية فقال: إن هذا النص لا ينطبق على قواعد الفارسية، وأنه يظن أن صوابها:"زه در مهرجان نو وروز هزار سال" ومعنى"زه": عش، و"در" ظرف بمعنى"في"، ومهرجان هو عيد لهم. ونيروز: عيد آخر في أول السنة. و"هزار" ألف، و"سال": سنة. فكأن"حر" التي في آخر الكلام في نص الطبري هي:"در" مصحفة. وباقي النصوص الفارسية صحيح، ومعناه: عش ألف سنة. وفي المستدرك للحاكم 2: 264"هزار سال سرور مهرجان بخور"، وقال مصححه: يعني"تمتع ألف سنة كمثل عيد مهرجان. وهو عيد لهم"، وكأن هذا هو الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 1592 - وحدثت عن نعيم النحوي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس:"زه هزار سال". 1593 - حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن قتادة في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: حَبَّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العمر. 1594 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثني علي بن معبد، عن ابن علية، عن ابن أبي نجيح في قوله: (يود أحدهم) ، فذكر مثله. 1595 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) حتى بلغ: (لو يعمر ألف سنة) ، يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة. 1596 - وحدثت عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، قال: هو قول أحدهم إذا عطس:"زه هزار سال"، يقول: عشرة آلاف سنة. (1) * * *   (1) الخبر: 1596 - ذكره الطبري هكذا مجهول الإسناد، بقوله: "حدثت عن أبي معاوية"، إلخ. والعلة في ذلك - فيما أرى - أن الأعمش لم يسمعه من سعيد بن جبير، وإن كان أدركه وروى عنه. فقد روى الحاكم هذا الخبر، في المستدرك 2: 263 - 264، من طريق إسحاق بن إبراهيم"حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس" - بنحوه. ثم قال الحاكم: "رواه قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس". ثم رواه بإسناده إلى محمد بن يوسف، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. . " وهذا إسناد صحيح متصل، دل على انقطاع الإسناد: "الأعمش عن سعيد بن جبير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله. * * * وقوله: (هو) عماد لطلب "ما" الاسم أكثر من طلبها الفعل، (1) كما قال الشاعر: فهل هو مرفوع بما ههنا رأس * (2) و"أن" التي في: (أن يعمر) ، رفع، بـ "مزحزحه"، و"هو" الذي مع"ما" تكرير، عماد للفعل، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة. * * * وقد قال بعضهم: إن"هو" الذي مع"ما" كناية ذكر العمر. كأنه قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب. وجعل"أن يعمر" مترجما عن"هو"، يريد ما هو بمزحزحه التعمير. (3) * * * وقال بعضهم: قوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر. * * * قال أبو جعفر: وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا، وهو أن يكون"هو" عمادا، نظير قولك:"ما هو قائم عمرو". * * *   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 312 في معنى"الاسم" و"الفعل"، و"العماد"، تعليق رقم: 2، وانظر معاني الفراء 1: 50 - 52. (2) هذا شطر بيت مضى من أبيات ثلاثة، في هذا الجزء 2: 313. (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 340 معنى"الترجمة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وقد قال قوم من أهل التأويل: إن"أن" التي في قوله:"أن يعمر" بمعنى: وإن عمر، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف. * ذكر من قال ذلك: 1597 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، يقول: وإن عمر. 1598 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 1599 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"أن يعمر"- ولو عمر. * * * وأما تأويل قوله: (بمزحزحه) ، فإنه بمبعده ومُنَحِّيه، كما قال الحطيئة: وقالوا: تزحزح ما بنا فضل حاجة ... إليك، وما منا لوَهْيِك راقع (1) يعني بقوله::"تزحزح"، تباعد، يقال منه:"زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا،"وهو عنك متزحزح"، أي متباعد. * * * فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا مُنَحِّيه منه، لأنه لا بد للعمر من الفناء، ومصيره إلى الله، كما:-   (1) البيت ليس للحطيئة، وإنما هو لقيس بن الحدادية، من قصيدة له نفيسة طويلة رواها أبو الفرج في أغانيه 13: 6. يقول قبل البيت، يذكر مجيئه إلى صاحبته أم مالك. وما راعنى إلا المنادى: ألا اظعنوا ... وإلا الرواغى غدوة والقعاقع فجئت كأني مستضيف وسائل ... لأخبرها كل الذي أنا صانع فقالت: تزحزح! ما بنا كبر حاجة ... إليك، ولا منا لفقرك راقع فما زلت تحت الستر حتى كأنني ... من الحر ذو طمرين في البحر كارع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 1600 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما أروي- (1) عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، أي: ما هو بمنحيه من العذاب. 1601 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، يقول: وإن عُمِّر، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منحيه. 1602 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 1603 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب) ، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام. 1604 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك، إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله بصير بما يعملون) ، والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفي عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها. * * *   (1) في المطبوعة: "فيما أرى"، خطأ، والصواب ما أثبت. وانظر الإسناد رقم: 1590. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وأصل"بصير""مبصر" - من قول القائل:"أبصرت فأنا مبصر"، ولكن صرف إلى"فعيل"، كما صرف"مسمع" إلى"سميع"، و"عذاب مؤلم" إلى"أليم"،"ومبدع السموات" إلى بديع، وما أشبه ذلك. (1) القول في تأويل قوله جل ثناؤه {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته. * ذكر من قال ذلك: 1605 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، (2) عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا   (1) انظر ما سلف 1: 283، وهذا الجزء 2: 140. (2) في المطبوعة: "يونس عن بكير"، وهو خطأ محض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال:"نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر: فيما أروي: (1) وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قال: وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: اللهم اشهد! قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة، (2) فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة، تابعناك وصدقناك. قال:"فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله (كأنهم لا يعلمون) ، فعندها باءوا بغضب على غضب. (3) 1606 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين -يعني المكي-، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا: نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ (4) نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟   (1) في المطبوعة: "فيما أرى" - وانظر ما سلف قريبا: 376. (2) في تفسير ابن كثير 1: 239"أنت الآن فحدثنا. . "، وهي جيدة. (3) الأثر: 1605 - إسناده صحيح. يونس بن بكير بن واصل الشيباني: ثقة، من تكلم فيه فلا حجة له، وأخرج له مسلم في صحيحه. وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 411، وابن سعد 6: 279، وابن أبي حاتم 4 /2 /236. ووقع في المطبوعة هنا"يونس عن بكير" وهو خطأ واضح. عبد الحميد بن بهرام - بفتح الباء وسكون الهاء - الفزاري: ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وتكلم فيه بعضهم من أجل روايته عن شهر بن حوشب، وهو راويته، ولكن شهر ثقة أيضًا، كما أشرنا في: 1489. والحديث رواه أحمد في المسند، مطولا: 2514، وابن سعد في الطبقات 1/1/115 - 116، كلاهما من هاشم بن القاسم، عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد. ثم رواه أحمد: 2515، عن محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، به ولم يذكر لفظه، إحالة على ما قبله. ورواه أحمد أيضًا: 2471، مختصرا، عن حسين، هو ابن محمد المروزي عن عبد الحميد بن بهرام. ورواه أيضًا: 2483، من وجه آخر، أطول قليلا. وكذلك رواه أبو نعيم في الحلية 4: 304 - 305 من هذا الوجه. وذكر الهيثمي الرواية: 2483، وأشار إلى ما في الرواية: 2514 من الزيادة، في مجمع الزوائد 8: 241 - 242، وقال:"رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات".ونقل ابن كثير في التفسير 1: 238 - 239 رواية الطبري التي هنا، ثم أشار إلى رواية المسند: 2514. ثم نقل رواية المسند: 2483 فيه 1: 240، ونقل روايتي المسند أيضًا 2: 186 - 187. (4) في المطبوعة: "فأيهما غلبت صاحبتها"، والصواب من نص سيرة ابن هشام 2: 191 - 192. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 (1) قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قالوا أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، (2) وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله فيهم: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) إلى قوله (كأنهم لا يعلمون) . (3) 1607 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال: جبريل. قالوا: فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا: إنه لنا عدو! (4) فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. (5) * * * وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين   (1) نص ابن إسحاق في رواية ابن هشام 2: 192: "هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به، تنام عيناه وقلبه يقظان؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ " وبعد ذلك اختلاف أيضًا في رواية ابن جرير عن ابن إسحاق. (2) في سيرة ابن هشام: "هل تعلمونه"، وهو أشبه بالصواب. (3) الأثر: 1606 - هو حديث مرسل، مضى جزء منه، بهذا الإسناد: 1489. وأشار إليه ابن كثير 239:1 - 240، عقب حديث ابن عباس الذي قبله، وصرح أيضًا بأنه رواه محمد بن إسحاق مرسلا. وفي سيرة ابن هشام 2: 191 - 192، وفيه اختلاف في بعض اللفظ. وقد ساق ابن كثير هذين الأثرين (1605، 1606) وخرجهما، وواستوفى الكلام في هذه القصة في تفسيره 1: 238 - 245. (4) في تفسير ابن كثير 1: 240: "إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو". (5) الأثر: 1607 - وهذا منقطع، وقد ذكره ابن كثير 1: 240، عن هذا الموضع و"القاسم بن أبي بزة": سبق في: 631، وهو يروى عن التابعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 1608 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ربعي بن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. فكره ذلك وقال: أيما؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه! (1) ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه. (2) قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا به، فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم! إذا هلكتم! (3) قالوا إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟   (1) في المطبوعة: "وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة"، وهي عبارة ركيكة. وأثبت ما جاء في تفسير ابن كثير عن الطبري 1: 240. وقوله"أيما" استفهام وتعجب، وأكثر ما تكتب: "أيم" (بفتح فسكون ففتح) ، وبحذف الألف. تقول: أيم تقول؟ أي: أي شيء تقول؟ وانظر اللسان (أيم) . يتعجب عمر من فعلهم. (2) في تفسير ابن كثير 1: 242: "قد غلظ عليكم". (3) في المطبوعة: "أي هلكتم"، والصواب في تفسير ابن كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 قالوا: إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. (1) قال: قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل! قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان، (2) فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ على: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، (3) والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر! (4) 1609 - حدثني يعقوب بن ابرهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال، قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي. (5) 1610 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود، فلما أبصروه رحبوا به. فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمدا على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة (6) ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم، فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) . 1611 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما، فذكر نحوه. 1612 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (من كان عدوا لجبريل) ، قال: قالت اليهود:   (1) السلم: المسالم. تقول: أنا سلم لمن سالمني. رجل سلم، وقوم سلم، وامرأة سلم. (2) في المطبوعة: "خرقة"، وفي تفسير ابن كثير"خوخة" والصواب"مخرفة" كما أثبتها. والمخرفة: البستان، أو سكة بين صفين من نخل. خرف النخل والثمر: اجتناه، واجتناء الثمر هـ"الخرفة" (بضم فسكون) . (3) في المطبوعة: "بأبي وأمي يا رسول الله" بإسقاط"أنت"، وأثبت ما في تفسير ابن كثير (4) الحديث: 1608 - وهذا مرسل أيضًا. ذكره ابن كثير 1: 241 - 243، عن هذا الموضع، ثم عن تفسير ابن أبي حاتم، من رواية مجالد عن عامر - وهو الشعبي - وسيأتي نحوها أيضًا من رواية مجالد رقم: 1614. ثم قال ابن كثير:"وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر. ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر، فإنه لم يدرك زمانه". وقال السيوطي في الدر المنثور 1: 90"صحيح الإسناد ولكن الشعبي لم يدرك عمر". رِبْعِي، بكسر الراء والعين المهملة، بينهما باء موحدة ساكنة، وآخره ياء تحتية مشددة: هو"ربعي بن إبراهيم بن مقسم الأسدي" عرف"بابن علية"، كأخيه"إسماعيل بن علية". وربعي: ثقة مأمون، من شيوخ أحمد وأبي خيثمة وغيرهما. وقال عبد الرحمن بن مهدي:"كنا نعد ربعي بن علية من بقايا شيوخنا". وفي المسند: 7444 أن أحمد بن حنبل قال:"كان يفضل على أخيه". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 /299، وابن أبي حاتم 1 /2 /509 - 510.داود بن أبي هند: ثقة، جيد الإسناد، رفع، من حفاظ البصرين. ترجمته في التهذيب، والكبير 2/1/211 -212، والصغير: 160، وابن أبي حاتم 1 /2 /411 - 412. الشعبي: هو عامر بن شراحيل الهمداني، إمام جليل الشأن، من كبار التابعين. ولكنه لم يدرك عمر، كما قال ابن كثير. فإنه ولد سنة 19، أو سنة 20. (5) الأثر: 1609 - في المطبوعة: "حدثني يعقوب قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن علية" والصواب ما أثبته، يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وقد سلف مرارا بهذا الإسناد، وروايته عن ابن علية (6) السنة: الجدب والقحط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 إن جبريل هو عدونا، لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه: (من كان عدوا لجبريل) . 1613 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) ، قال: كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة، فكان يأتيها، وكان ممره على طريق مدراس اليهود، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا، وتمر بنا فلا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك. فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأَسْكتوا. (1) فقال: تكلموا، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني. فنظر بعضهم إلى بعض، فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل، لتخبرنه أو لأخبرنه. قالوا: نعم، إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف، ولو أنه كان وليه ميكائيل، إذًا لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أين مكان جبريل من الله؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه، عدو للذي هو عن يساره؛ والذي هو عدو للذي هو عن يساره؛ عدو للذي هو عن يمينه؛ وأنه من كان عدوهما، فانه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم،   (1) سكت الرجل: صمت. وأسكت الرجل (غير متعد) : انقطع كلامه فلم يتكلم، وأطرق من فكرة انتابته وقطعته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه، فقال عمر: والذي بعثك بالحق، لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك! (1) 1614 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير، عن مجالد، عن الشعبي قال: انطلق عمر إلى يهود فقال: إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله، (2) وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. [فبينما هو عندهم] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم، (3) فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه، فأتاه وقد أنزل عليه: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله: (فإن الله عدو للكافرين) . (4)   (1) الأثر: 1613 - في الدر المنثور 1 - 91 مع اختلاف يسير في اللفظ واختصار في روايته. (2) في تفسير ابن كثير 1: 243: "ما ينزلان إلا بإذن الله"، وكأنه هو الصواب. (3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، زدتها من تفسير ابن كثير 1: 242، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره. (4) الحديث: 1614 - وهذا إسناد مرسل أيضًا، ووقع فيه في المطبوعة خطأ في موضعين أثبتنا الصواب لليقين به. وكان في المطبوعة"حدثنا عبد الرحمن بن مغراء قال حدثنا زهير عن مجاهد عن الشعبي". فلا يوجد في شيوخ ابن مغراء، ولا في الرواة عن"مجاهد" أو"مجالد" من يسمى"زهيرا". و"مجاهد عن الشعبي" خطأ أيضًا، وكلاهما من كبار التابعين، من طبقة واحدة، ومجاهد أقدم قليلا. وعبد الرحمن بن مغراء لا يدرك أن يروى عن مجاهد، ولا عن الشعبي. ومجالد: هو ابن سعيد الهمداني، وهو ثقة، ضعفه بعض الأئمة. وروى عنه من الأئمة: شعبة والسفيانان وابن المبارك، ورجحنا تصحيح حديث القدماء عنه، في شرح المسند: 3781، لأن أعدل كلمة فيه قول عبد الرحمن بن مهدي:"حديث مجالد عند الأحداث، يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم وهؤلاء القدماء،". قال ابن حاتم:"يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره". وذكر ابن سعد في ترجمته 6: 243 جرح يحيى القطان إياه، ثم قال:"وقد روى عنه يحيى بن سعيد القطان مع هذا، وروى عنه سفيان الثورى، وشعبة، وغيرهم". وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4/ 2/9، والصغير: 168، 169، وابن أبي حاتم 4 /1/ 361 - 362. إسحاق بن الحجاج الرازي: هو الطاحوني المقرئ، ترجمنا له فيما مضى: 230. وعبد الرحمن بن مغراء بن عياض الدوسي، أبو زهير: ثقة، تكلم بعضهم في روايته عن الأعمش، وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2 /2 /290 - 291. وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 242 - 243، من تفسير ابن أبي حاتم."حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر.." - وهو الشعبي، فذكر نحوه. ثم بين ابن كثير أنه منقطع، كما أشرنا آنفًا. الراجح عندي أن عبد الرحمن بن مغراء ممن روى عن مجالد بعد تغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 1615 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله: (من كان عدوا لجبريل) . قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا عدو. قال: فنزلت هذه الآية: (من كان عدوا لجبريل) . 1616 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بنحو ذلك. * * * قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية - أعني قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) - فهو: أن الله يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات، لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة، فأبوا اتباعك، وجحدوا نبوتك، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك، وزعموا أنه عدو لهم -: من يكن من الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 لجبريل عدوا، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه، وصاحب رحمته، فإني له ولي وخليل، ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي، بإذن ربي له بذلك، يربط به على قلبي، ويشد فؤادي، كما:- 1617 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (قل من كان عدوا لجبريل) ، قال: وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، فأخبرهم بها على ما هي عندهم -"إلا جبريل"، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة، ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني: تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه: أن جبريل صاحب وحي الله، وصاحب نقمته. وصاحب رحمته، فقالوا: ليس بصاحب وحي ولا رحمة، هو لنا عدو! فأنزل الله عز وجل إكذابا لهم: (قل) يا محمد: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) ، يقول: فإن جبريل نزله. يقول: نزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك، ويربط به على قلبك"، يعني: بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله- وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك. 1618 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) ، يقول: أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله. 1619 - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فإنه نزله على قلبك) ، يقول: نزل الكتاب على قليك جبريل. * * * قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: (فإنه نزله على قلبك) - وهو يعني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل: فإنه نزله على قلبي = ولو قيل:"على قلبي" كان صوابا من القول = لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه، إذ كان المخبر عن نفسه؛ ومرة مضافا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب. فتقول في نظير ذلك:"قل للقوم إن الخير عندي كثير" - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه-: و"قل للقوم إن الخير عندك كثير" - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك:"لا تقل للقوم إني قائم" و"لا تقل لهم إنك قائم"، و"الياء" من"إني" اسم المأمور بقول ذلك، على ما وصفنا. ومن ذلك قول الله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) و (تغلبون) [آل عمران: 12] ، بالياء والتاء. (1) * * * وأما"جبريل" فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون"جبريل، وميكال" بغير همز، بكسر الجيم والراء من"جبريل" وبالتخفيف. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل المدينة والبصرة. أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون:"جَبرئيل وميكائيل" على مثال"جبرعيل وميكاعيل"، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل الكوفة، كما قال جرير بن عطية: عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد ... وبجَبرَئيل وكذبوا ميكالا (2)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 63. (2) ديوانه: 450، ونقائض جرير والأخطل: 87، من قصيدته الدامغة في هجاء الأخطل، والضمير إلى تغلب، رهط الأخطل، وقبله: قبح الإله وجوه تغلب، كلما ... شَبَح الحجيج وكبروا إهلالا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن:"جبريل" بفتح الجيم. وترك الهمز. قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها، لأن"فعليل" في كلام العرب غير موجود. (1) وقد اختار ذلك بعضهم، وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال:"سمويل"، وأنشد في ذلك: (2) بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ... ما وازنت ريشة من ريش سمويلا (3) وأما بنو أسد فإنها تقول"جِبرين" بالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في"جبريل""ألفا" فتقول: جبراييل وميكاييل. وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ:"جَبْرَئِلّ" بفتح الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام. فأما"جبر" و"ميك"، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى:"عبد"، والآخر بمعنى:"عبيد". * * *   (1) في المطبوعة: "فعيل"، هو خطأ. (2) هو الربيع بن زياد العبسي، أحد الكملة من بني فاطمة بنت الخرشب الأنمارية. (3) الأغاني 14: 92، 16: 22، واللسان (سمل) ، من أبيات أرسلها الربيع إلى النعمان ابن المنذر في خبر طويل، حين قال لبيد في رجزه: مهلا، أبيت اللعن، لا تأكل معه وزعم أنه أبرص الخبيثة، وذكر من فعله قبيحا كريها، فرحل الربيع عن النعمان، وكان له نديما، وأرسل إليه أبياته. لئن رحلت جمالي لا إلى سعة ... ما مثلها سعة عرضا ولا طولا بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ... لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا ترعى الروائم أحرار البقول بها ... لا مثل رعيكم ملحا وغسويلا فاثبت بأرضك بعدي، واخل متكئا ... مع النطاسي طورا وابن توفيلا ولخم: هم رهط آل المنذر ملوك الحيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وأما"إيل" فهو الله تعالى ذكره، كما:- 1620 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس:"جبريل" و"ميكائيل"، كقولك: عبد الله. 1621 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"جبريل" عبد الله؛ و"ميكائيل"، عبيد الله. وكل اسم"إيل" فهو: الله. 1622 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس: أن"إسرائيل، وميكائيل وجبريل، وإسرافيل" كقولك: عبد الله. 1623 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث قال:"إيل"، الله، بالعبرانية. 1624 - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال، حدثنا إسحاق بن منصور قال، حدثنا قيس، عن عاصم، عن عكرمة، قال:"جبريل" اسمه: عبد الله؛ و"ميكائيل" اسمه: عبيد الله."إيل": الله. 1625 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين قال: اسم"جبريل" عبد الله، واسم"ميكائيل" عبيد الله، واسم"إسرافيل": عبد الرحمن. وكل معبد،"إيل"، فهو عبد الله. (1) 1626 - حدثنا المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن   (1) الخبر: 1625 - الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي: ضعيف قال أبو زرعة: "لا يصدق". وهو مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 1/2/61 -62، والأنساب، في الورقة: 401. و"العنقزي": بفتح العين المهلة والقاف بينهما نون ساكنة وبالزاي. ووقع في المطبوعة"العبقري"، وهو تصحيف. وكذلك سيأتي في رقم: 1655، بالتصحيف، وصححناه هناك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 محمد المدني - قال المثنى: قال قبيصة: أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين، قال: ما تعدون"جبريل" في أسمائكم؟ قال:"جبريل" عبد الله، و"ميكائيل" عبيد الله. وكل اسم فيه"إيل"، فهو مُعَبَّدٌ لله. 1627 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين قال: قال لي: هل تدري ما اسم"جبريل" من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبد الله. قال: فهل تدري ما اسم"ميكائيل" من أسمائكم؟ قلت: لا. (1) قال: عبيد الله. وقد سمى لي"إسرائيل" باسم نحو ذلك فنسيته، إلا أنه قد قال لي: أرأيت، كل اسم يرجع إلى"إيل" فهو معبد له. 1628 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله: (جبريل) قال:"جبر" عبد،"إيل" الله، و"ميكا" قال: عبد."إيل": الله. (2) * * * قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ"جبرئيل" بالفتح، والهمز، والمد. وهو -إن شاء الله- معنى من قرأ بالكسر، وترك الهمز. وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز، وترك المد، وتشديد اللام، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك، إلى إضافة"جبر" و"ميكا" إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني. وذلك أن"الإلّ" بلسان العرب: الله، كما قال: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) [التوبة: 10] . فقال جماعة من أهل العلم:"الإل" هو الله. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول، فأخبروه - فقال لهم: ويحكم"   (1) في المطبوعة: "قال: لا"، والصواب ما أثبت. (2) لعله"وميكا". قال: "عبيد" بالتصغير، كما سلف آنفًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 أين ذهب بكم؟ والله، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر. يعني"من إل": من الله * وقد:- 1629 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) قال: قول"جبريل" و"ميكائيل" و"إسرافيل". كأنه يقول: حين يضيف"جبر" و"ميكا" و"إسرا" إلى"إيل" يقول: عبد الله. (1) (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، كأنه يقول: لا يرقبون الله عز وجل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (مصدقا لما بين يديه) ، القرآن. ونصب "مصدقا" على القطع من"الهاء" التي في قوله: (نزله على قلبك) . (2) فمعنى الكلام: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، يا محمد، مصدقا لما بين يدي القرآن. يعني بذلك: مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهي تصدقه. (3) كما:- 1630 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس. (مصدقا لما بين   (1) لعل الصواب أن يقول: "إسراف"، مكان"إسرا"، أو تكون الأولى"إسرائيل" مكان"إسرافيل". (2) القطع: الحال هنا. وانظر ما سلف 1: 230 - 232، 330، 561. (3) في المطبوعة: "وهي تصديقه" والصواب ما أثبت، يريد: وهي توافقه. كما فسر قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 يديه) ، يقول: لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم. 1631 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مصدقا لما بين يديه) ، من التوراة والإنجيل. 1632 - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهدى) ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه"هدى"، لاهتداء المؤمن به. و"اهتداؤه به" اتخاذه إياه هاديا يتبعه، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. و"الهادي" من كل شيء: ما تقدم أمامه. ومن ذلك قيل لأوائل الخيل:"هواديها"، وهو ما تقدم أمامها، وكذلك قيل للعنق:"الهادي"، لتقدمها أمام سائر الجسد. (1) * * * وأما"البشرى" فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه، أن القرآن لهم بشرى منه، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه، وذلك هو"البشرى" التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه. لأن البشارة في كلام العرب، هي: إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر، قبل أن يسمعه من غيره، أو يعلمه من قبل غيره. (2) وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه:   (1) انظر ما سلف 1: 166 - 170، 230، 249 ثم 549 - 551. (2) انظر ما سلف 1: 383. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 1633 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هدى وبشرى للمؤمنين) ، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه، وكان على يقين من ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله، من عاداه، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ (1) وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل، وعادى جميع ملائكته ورسله. لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته، ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته. لأن العدو لله عدو لأوليائه، والعدو لأولياء الله عدو له. فكذلك قال لليهود - الذين قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة، وميكائيل ولينا منهم-: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) ، من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله وميكال - عدو، وكذلك عدو بعض رسل الله، عدو لله ولكل ولي. وقد:- 1634 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله - يعني العتكي -، عن رجل من قريش قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود   (1) هكذا في المطبوعة: "من كان عدوا لله"، وهو لايستقيم، وكأن الصواب"أن من كان عدوا لله، عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله" بإسقاط"من" من"من عاداه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 فقال: أسالكم بكتابكم الذي تقرءون، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا: اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال وتهَرِيق الدماء. فأنزل الله: (من كان عدوا لله وملائكته) الآية. (1) 1635 - حدثت عن عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك، هو عدو لنا. فقال له عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) . قال: فنزلت على لسان عمر. * * * وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو، وأن عدو محمد من الناس كلهم، لمن الكافرين بالله، الجاحدين آياته. * * * فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل: بلى. فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما، وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما، أن اليهود لما قالت:"جبريل عدونا، وميكائيل ولينا" - وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أن   (1) الحديث: 1634 - عبيد الله العتكي: هو عبيد الله بن عبد الله، أبو المنيب العتكي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وذكره البخاري في كتاب الضعفاء، ص: 22، وقال: "عنده مناكير". وقال ابن أبي حاتم 2 /2 /322 في ترجمته: "سمعت أبي يقول: هو صالح الحديث. وأنكر على البخاري إدخاله في كتاب الضعفاء. وقال: "يحول". ولكن هذا الحديث منقطع ضعيف الإسناد، لأن أبا المنيب إنما يروى عن التابعين. والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 265، من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، به. وصحه الذهبي في مختصره. ونقله ابن كثير 1: 248 - 249، عن الطبري، ثم أشار إلى رواية الحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا، فإن الله له عدو، وأنه من الكافرين. فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء. لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه. وكذلك قوله: (ورسله) ، فلست يا محمد داخلا فيهم. فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم، ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين. * * * وأما إظهار اسم الله في قوله: (فإن الله عدو للكافرين) ، وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال: (من كان عدوا لله وملائكته) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية، فقيل:"فإنه عدو للكافرين"، على سامعه، من المَعْنِيّ بـ "الهاء" التي في"فإنه": أألله، أم رسل الله جل ثناؤه، أم جبريل، أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك، لاحتمال الكلام ما وصفت، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر: (1) ليت الغراب غداة ينعَب دائما ... كان الغراب مقطع الأوداج (2) وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والأمر في ذلك بخلاف ما قال. وذلك أن"الغراب" الثاني لو كان مكنى عنه، لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم "الغراب" الأول، إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه   (1) هو جرير. (2) ديوانه 89، وأمالي ابن الشجرى 1: 243، وغيرهما. ورواية ديوانه"ينعت بالنوى" وهو الجيد، فإن قبله: إن الغراب، بما كرهت، لمولع ... بنوى الأحبة دائم التشحاج والأوداج جمع ودج: وهو عرق من عروق تكتنف الحلقوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 غير كناية اسم "الغراب" الأول - وأن قبل قوله: (فإن الله عدو للكافرين) أسماء، لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه، (1) لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم، إلا بتوقيف من حجة. فلذلك اختلف أمراهما. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولقد أنزلنا إليك آيات) ، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. (2) فكان، في ذلك من أمره، الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. 1636 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولقد أنزلنا إليك   (1) في المطبوعة: "وإن قيل قوله فإن الله عدو للكافرين" اسما لو جاء. . " والصواب ما أثبت. وقد رجم مصححو المطبوعة رجما لا خير فيه في تصحيح كلام الطبري. (2) في المطبوعة: "فأطلع الله في كتابه. . " وهو كلام لا يستقيم، والصواب ما أثبت. يعني فأظهر الله هذه الخفايا، وتلك الأخبار، وما حرفوه من الأحكام في توراتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 آيات بينات) يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون. 1637- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (1) يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! (2) فأنزل الله عز وجل: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) ! (3) 1638 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله. (4) * * *   (1) في المطبوعة"القطيوني" بالقاف، وهو خطأ، وهو من بني ثعلبة بن الفطيون (بكسر الفاء وسكون الطاء، وضم الياء) . قال السهيلي: "الفطيون: كلمة عبرانية تطلق على كل من ولي أمر اليهود وملكهم". ورواية ابن جرير: "ابن صوريا"، والذي في سيرة ابن هشام 2: 196"ابن صلوبا الفطيوني". وقد ذكر ابن هشام فيما روى من سيرة ابن إسحاق 1: 160 - 161"الأعداء من يهود"، فعد في بني ثعلبة: ابن الفطيون: "عبد الله بن صوريا الأعور، ولم يكن في زمانه أحد أعلم بالتوارة منه، وابن صلوبا، ومخيريق. وكان حبرهم، أسلم"، ولم أستطع أن أرجح أهو: ابن صوريا، أو - ابن صلوبا - الذي كان من أمره ما كان. ولعلهما روايتان مختلفتان عن ابن إسحاق. وانظر أيضًا الأثر: 1638. (2) في ابن هشام: "من آية فنتبعك لها، فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله: "ولقد أنزلنا إليك. . " (3) الأثران: 1637 - 1638 - في سيرة ابن هشام 2: 196. (4) الأثران: 1637 - 1638 - في سيرة ابن هشام 2: 196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما يكفر بها إلا الفاسقون) ، وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى"الكفر" الجحود، بما أغنى عن إعادته هنا. (1) وكذلك بينا معنى"الفسق"، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره. (2) * * * فتأويل الآية: ولقد أنزلنا إليك، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم، ونبي مبعوث، وما يجحد تلك الآيات = الدالات على صدقك ونبوتك، التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم = إلا الخارج منهم من دينه، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه، والمتبع منهم حكم كتابه، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) } قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم"الواو" التي في قوله: (أو كلما عاهدوا عهدا) . فقال بعض نحويي البصريين: هي"واو" تجعل مع حروف الاستفهام، وهي مثل"الفاء" في قوله: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة: 87] ، قال: وهما زائدتان في هذا الوجه،   (1) انظر ما سلف 1: 255، 382، 552، وهذا الجزء 2: 140، 337. (2) انظر ما سلف 1: 409 - 410، وهذا الجزء 2: 118. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وهي مثل"الفاء" التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا، (1) وكقولك للرجل:"أفلا تقوم"؟ وإن شئت جعلت"الفاء" و"الواو" هاهنا حرف عطف. وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام. * * * والصواب في ذلك عندي من القولة أنها"واو" عطف، أدخلت عليها"ألف" الاستفهام، كأنه قال جل ثناؤه: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا قالوا: سمعنا وعصينا) ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم. ثم أدخل"ألف" الاستفهام على"وكلما" فقال: (قالوا سمعنا وعصينا، أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم. وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له، (2) فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن"الواو" و"الفاء" من قوله: (أو كلما) و (أفكلما) زائدتان لا معنى لهما. * * * وأما"العهد"، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته، فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:- 1639 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال مالك بن الصيف - حين بعث   (1) لم أعلم ماذا أراد الطبري بهذا. (2) انظر ما سلف 1: 439 - 441. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه-: والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنزل الله جل ثناؤه: (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) . (1) 1640 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. * * * قال أبو جعفر: وأما"النبذ" فإن أصله -في كلام العرب- الطرح، ولذلك قيل للملقوط:"المنبوذ"، (2) لأنه مطروح مرمي به. ومنه سمي النبيذ"نبيذا"، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله"مفعول" صرف إلى"فعيل"، أعني أن"النبيذ" أصله"منبوذ" ثم صرف إلى"فعيل" فقيل:"نبيذ"، كما قيل:"كف خضيب، ولحية دهين" - يعني: مخضوبة ومدهونة. (3) يقال منه:"نبذته أنبذه نبذا"، كما قال أبو الأسود الدؤلي: نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا (4) * * * فمعنى قوله جل ذكره: (نبذه فريق منهم) ، طرحه فريق منهم، فتركه ورفضه ونقضه. كما:-   (1) الأثر: 1639 - في سيرة ابن هشام 2: 196، مع اختلاف يسير في اللفظ. وقد ذكر ابن هشام في 2: 161"مالك بن الصيف" وقال: "ويقال: ابن ضيف". (2) في تفسير ابن كثير 1: 247: "وسمى اللقيط. . " واللقيط أجود من الملقوط. (3) انظر ما سلف 1: 112. (4) ديوانه: 21 (في نفائس المخطوطات: 2) ، وسيأتي في 20: 49 - 50 (بولاق) ، ومجاز القرآن: 48، من أبيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر، وهو وال على ميسان، وكان كتب إليه في أمر يهمه، فشغل عنه؛ وقبل البيت: وخبرني من كنت أرسلت أنما ... أخذت كتابي معرضا بشمالكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 1641 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (نبذه فريق منهم) يقول: نقضه فريق منهم. 1642 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (نبذه فريق منهم) ، قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: (نقضه فريق منهم) . * * * و"الهاء" التي في قوله: (نبذه) ، من ذكر العهد. فمعناه أو كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم. * * * و"الفريق" الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنزلة"الجيش" و"الرهط" الذي لا واحد له من لفظه. (1) * * * و"الهاء والميم" اللتان في قوله: (فريق منهم) ، من ذكر اليهود من بني إسرائيل. * * * وأما قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون. * * * ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها عهدا، نبذ ذلك   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 244، 245. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه = على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم = ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله، ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى"الإيمان"، وأنه التصديق. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولما جاءهم) ، أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل - (رسول) ، يعني بالرسول: محمدا صلى الله عليه وسلم. كما:- 1643 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: (ولما جاءهم رسول) ، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وأما قوله: (مصدق لما معهم) ، فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه، في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه. * * * وأما تأويل قوله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم) ، فإنه للذي هو مع اليهود، وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله، (نبذ فريق) ، يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب) . وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: (كتاب الله) ، التوراة.   (1) انظر ما سلف 1: 234 - 235، 271، 560، وهذا الجزء 2: 143، 348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وقوله: (وراء ظهورهم) ، (1) جعلوه وراء ظهورهم. وهذا مثل، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال:"قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره"، يعني به: أعرض عنه وصد وانصرف، كما:- 1644 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم) ، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. (2) فذلك قوله الله: (كأنهم لا يعلمون) . * * * ومعنى قوله: (كأنهم لا يعلمون) ، كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم، كما:- 1645 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) ، يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب"كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون) : أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا. * * *   (1) في المطبوعة: "وقوله نبذوه وراء ظهورهم"، فحذفت"نبذوه"، لأن الطبري ساق الآية بتمامها، وهذا لفظ مقحم فيها. (2) في تفسير ابن كثير 1: 247 زيادة، بعد قوله: "وماروت، فلم يوافق القرآن، فذلك قول الله". وآصف: كان كاتب سليمان. وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان. ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا (ابن كثير 1: 248) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) ، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها، الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى، وراء ظهورهم، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه، وذلك هو الخسار والضلال المبين. * * * واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) . فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة، تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان. * ذكر من قال ذلك: 1646 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) - على عهد سليمان - قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، (1) فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب   (1) في تفسير ابن كثير 1: 249: "ما يكون في الأرض. . أو غيب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا اسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ (1) قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام ناحية. (2) فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . (3) 1647 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، قالوا: إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم. (4) فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر   (1) لا تأكلونه: أي لا تنفدونه أبدا. يقال: أكل فلان عمره: إذا أفناه. (2) في المطبوعة: "فقام"، والصواب ما أثبته من تفسير ابن كثير. (3) الأثر: 1646 - في تفسير ابن كثير 1: 249. (4) خاصمني فخصمته أخصمه: غلبته بالحجة في خصومي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان - (1) وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم. (2) * * * 1648 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، قال: لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم، (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) الآية، قال: اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . * * * وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان. * ذكر من قال ذلك: 1649 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان، فاتبعته اليهود على ملكه، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان. 1650 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر:"من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا". حتى إذا صنعوا أصناف السحر، (3) جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان   (1) في تفسير ابن كثير: "تحت كرسي مجلس سليمان". (2) الأثر: 1647 - في تفسير ابن كثير 1: 249 - 250. (3) في تفسير ابن كثير: "صنفوا أصناف السحر". وهي أجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نزل عليه من الله، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! (1) يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) . (2) * * * قال: كان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، (3) فلما رجع الله إلى سليمان ملكه، قام الناس على الدين كما كانوا. وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان حدثان ذلك، (4) فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين) ، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه   (1) في المطبوعة: "لمحمد صلى الله عليه وسلم"، والذي أثبته مقتضى سياق كلامهم. (2) إلى هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره عن أبي جعفر 1: 250، أما سائر الخبر، فإنه رواه في 1: 247، وصدره بقوله: "وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: "واتبعوا ما تتلو الشياطين" الآية - وكان حين ذهب ملك سليمان. . "، وساق الخبر بنصه هذا. فلست أدري أفي نسخ الطبري سقط، أم هذه جزء من رواية الطبري عن ابن إسحاق من حديث ابن عباس. (3) الفئام: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه. (4) حدثان الشيء (بكسر فسكون) : أوله وابتداؤه وقرب العهد به. وهو منصوب على الظرفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ويعرفون أنه كتاب الله، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: (واتبعوا) بعضا منهم دون بعض. إذْ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) - إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة تدل عليه. فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما تتلوا الشياطين) ، الذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين. * * * واختلف في تأويل قوله: (تتلو) . فقال بعضهم: يعني بقوله: (تتلو) ، تحدث وتروي، وتتكلم به وتخبر. نحو "تِلاوة" الرجل للقرآن، وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم. * ذكر من قال ذلك: 1651 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو، عن مجاهد في قول الله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، قال: كانت الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 38 - 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 مائتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس، وهو السحر. (1) 1652 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، من الكهانة والسحر. وذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. 1653 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء: قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) ، قال: نراه ما تحدث. 1654 - حدثني سَلْم بن جُنادة السُّوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس. (2) * * * وقال آخرون: معنى قوله: (ما تتلو) ، ما تتبعه وترويه وتعمل به. * ذكر من قال ذلك: 1655 - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس: (تتلوا) ، قال: تتبع. (3) 1656 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي رزين مثله. (4) * * *   (1) الأثر: 1651 - في تفسير ابن كثير 1: 250. (2) الأثر: 1654 - كان في المطبوعة: "سالم بن جنادة"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر رقم: 48 في الجزء الأول. وهو جزء من خبر سيأتي برقم: 1660. (3) الأثر: 1655 - في المطبوعة"العبقري"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر رقم: 1625. (4) الأثر: 1656 - في المطبوعة"نصر بن عبد الرحمن الأودي"، وهو خطأ وانظر التعليق على الأثر: 423 في الجزء الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين. * * * ولقول القائل:"هو يتلو كذا" في كلام العرب معنيان. أحدهما: الاتباع، كما يقال:"تلوت فلانا" إذا مشيت خلفه وتبعت أثره، كما قال جل ثناؤه: (هُنَالِكَ تتلو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) [يونس: 30] ، (1) يعني بذلك تتبع. والآخر: القراءة والدراسة، كما تقول:"فلان يتلو القرآن"، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت: نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد (2) ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأى معنى"التلاوة" كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (على ملك سليمان) ، في ملك سليمان. وذلك أن العرب تضع"في" موضع"على" و"على" في موضع"في".   (1) "هنالك تتلو" إحدى القراءتين، والأخرى"هنالك تبلو"، وهي التي في مصاحفنا اليوم وقال أبو جعفر في تفسيره 11: 79"إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل منهما أئمة من القراء". (2) ديوانه: 88، من أبيات قالها حسان في خبر أم معبد، حين خرج رسول الله مهاجرا إلى المدينة. ورواية الديوان: "في كل مسجد"، ورواية الطبري أمثل. (3) كان ينبغي أن يكون في هذا المكان تفسير قوله" ما تتلو" الذي سيأتي في: 418 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 (1) من ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [سورة طه: 71] يعني به: على جذوع النخل، وكما قالوا:"فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا"، بمعنى واحد. (2) وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله: 1657 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: (على ملك سليمان) ، يقول: في ملك سليمان. * * * 1658 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن أبي إسحاق في قوله: (على ملك سليمان) ، أي: في ملك سليمان. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، (3) ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟ قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى   (1) انظر ما سلف 1: 299. (2) في المطبوعة: "وكما قال: فعلت كذا. . " ولا يستقيم إلا على تمريض. (3) قوله: "وما هذا الكلام" الإشارة فيه إلى الآية التي يؤولها: "وما كفر سليمان" يقولون: ما مكان هذا الكلام - من هذا الكلام وهو قوله: "واتبعوا ما تتلو الشياطين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 الشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود. وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم، (1) عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة. وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان - من سليمان، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر، (2) وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر = لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها = وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه. * * * * ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار: * * * 1659 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان   (1) في المطبوعة"لأنفسهم"، والصواب إسقاط هذه اللام، كما يدل عليه السياق. (2) سياق العبارة: "وتبرأ. . من سليمان. . منهم بشر". ولعل"بشر" هذه"نفر"، أي جماعة. يقول: تبرأت جماعة أخرى من سليمان، إذ نسب إلى السحر، وكفروه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان. فقال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) الآية، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. (1) 1660 - حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل جل ثناؤه: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ، فأنزل الله جل وعز وعذره. (2) 1661 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حُدير، عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان من كل   (1) الثر: 1659 - في تفسير ابن كثير 1: 250. (2) الأثر: 1660 - انظر الأثر السالف: 1654 والتعليق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد، خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . (1) 1662 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس، إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم؛ من ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا حدث منه صدق، (2) كذب معها سبعين كذبة. قال: فتشربها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - (3) فأنزل الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . (4) . 1663 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. (5) فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى   (1) الأثر: 1661 - في تفسير ابن كثير 1: 251، وفيه"فزاد الناس". . مكان"فرأى" والصواب ما في الطبري. (2) في تفسير ابن كثير: "فإذا جرت منه وصدق"، ولعلها تصحيف. (3) في تفسير ابن كثير: "حتى بقاياها". (4) الأثر: 1662 - في تفسير ابن كثير 1: 248 - 249، مع اختلاف في بعض اللفظ غير الذي أثبته. (5) في المطبوعة: "وأعلموهم إياه"، وقد مضى في رقم: 1652، "وعلموهم"، وكذلك أثبتها هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه، (1) كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك، فقال جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) . 1664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان! فقال الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . 1665 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس. (2) 1666 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت:"من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا". فكتبته وجعلت عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان   (1) في المطبوعة: "فتتبع تلك الكتب" بزيادة الفاء، ولا موضع لها. (2) الأثر: 1665 - كان في المطبوعة: "حدثنا القاسم قال حدثنا حجاج" أسقط منه"قال حدثنا الحسين"، وهو إسناد دائر في الطبري، أقربه إلينا رقم: 1657، وسيأتي في الذي يلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نبيا، وإنما كان ساحرا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، جعل يذكر الأنبياء، حتى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنزل الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) الآية. (1) 1667 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ،-أي باتباعهم السحر وعملهم به- (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) . (2) * * * قال أبو جعفر: فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وتأويل قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ما ذكرنا = فبين أن في الكلام متروكا، (3) ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه، وأن معنى الكلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان، وما كفر سليمان، فيعمل بالسحر، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس   (1) الأثر: 1666 - في تفسير ابن كثير 1: 251. (2) الأثر: 1667 - سيرة ابن هشام 2: 192 - 193. (3) في المطبوعة: "فتبين" وما أثبت أشبه بعبارة الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) على ما قلنا. 1668 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ، يقول: ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه. * * * وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى"تتلو"، (1) وتوجيه من وجه ذلك إلى أن"تتلو" بمعنى"تلت"، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: (واتبعوا) ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول، (2) فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. * * * وأما معنى قوله: (ما تتلوا) ، فإنه بمعنى: الذي تتلو، وهو السحر. (3) 1669 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، أي السحر. (4) * * * قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ قيل له: بلى، قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر. [فإن] قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟   (1) انظر ما سلف قريبا: 411. (2) قوله: "وتوجيه من وجه ذلك أن: تتلو - بمعنى: تلت" لم يأت هنا في تفسير الآية، بل جاء في تفسير آية مضت من سورة البقرة: 91، ص 350 - 352. (3) هذه الفقرة، والأخرى التي قبلها، والأثر الآتي رقم: 1669، كان أولى أن تكون في آخر تفسير قوله: "ما تتلو الشياطين" فيما مضى: 411. (4) الأثر: 1669 - سيرة ابن هشام 2: 192. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان، على ما قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه، مما كانوا وجدوه، إما في خزائنه، وإما تحت كرسيه، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) . فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى"لم". * ذكر من قال ذلك: 1670 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فإنه يقول: لم ينزل الله السحر. 1671 - حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس: (وما أنزل على الملكين) ، قال: ما أنزل الله عليهما السحر. * * * فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله: (وما أنزل على الملكين) إلى: ولم ينزل على الملكين-: واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين = ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ="ببابل، هاروت وماروت". فيكون حينئذ قوله:" (ببابل هاروت وماروت) ، من المؤخر الذي معناه التقديم. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 فإن قال لنا قائل: وكيف - وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [من السحر] ، وما أنزل [الله السحر] على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت - فيكون معنيا بـ "الملكين": جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود، فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس [ذلك] ببابل، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: (1) اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون"هاروت وماروت"، على هذا التأويل، ترجمة على"الناس" وردا عليهم. (2) * * * وقال آخرون: بل تأويل"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) -"الذي". * ذكر من قال ذلك: 1672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، قال قتادة والزهري عن عبد الله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) ، كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم. قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها، (3) ثم ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر، قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر".   (1) في المطبوعة وابن كثير: "وأن الذين يعلمونهم"، وما أثبت هو الصواب. (2) "الترجمة" عند الكوفيين هي"البدل"، وانظر ما سلف 2: 340 وانظر ما سيأتي: 423. والزيادات التي بين الأقواس في هذه الفقرة، من تفسير ابن كثير 1: 252، وقد نقل كلام الطبري بنصه. (3) حاف له يحيف حيفا: مال معه فجاز وظلم غيره. وحاف عليه: ظلمه وجار عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 1673 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا. يقول: خاصموه بما أنزل على الملكين، وأن كلام الملائكة فيما بينهم، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به، كان سحرا. (1) 1674 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الناس ببابل هاروت وماروت) . فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت. 1675 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) ، قال: التفريق بين المرء وزوجه. 1676 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين) ، فقرأ حتى بلغ: (فلا تكفر) ، قال: الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى. * * * قال أبو جعفر (2) إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله السحر، أم   (1) الأثر: 1673 - هو من تتمة الأثر السالف: 1646، ويرجع الضمير في قوله: "وخاصموه به أيضًا - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اليهود، كما تبين ذلك من مراجعة الأثر هناك. (2) كان في المطبوعة هنا: "وقالوا: إن قال لنا قائل. . ". والضمير في"قالوا"، لا يعود إلى مذكورين قبل. وكأن الناسخ تعاظمه أن يكون الرد الآتي من كلام أبي جعفر، فحذف ما جرى عليه في تفسيره من قوله"قال أبو جعفر"، وأقحم"وقالوا" مكانها، ثم زاد فحشا هذه الفقرات الآتية بكلمته"وقالوا"، كما سنبينه في مواضعه من التعليق. وهذا أسلوب لم يطرقه أبو جعفر قط في تفسيره كله. والذي استبشعه بعض النساخ - فيما نرجح - سيأتي بعد قليل في ص 423 - 426 بأوضح مما قاله هنا. وقد عد ابن كثير قول أبي جعفر مسلكا غريبا، فقال في تفسيره 1: 253، وذكر ما ذكره أبو جعفر من قول من قال"ما" بمعنى"لم" فقال: "ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن"ما" بمعنى"الذي"، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر، اختبارا لعباده وامتحانا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك، لأنهما امتثلا ما أمرا به. وهذا الذي سلكه غريب جدا". ولست أستنكر ما قاله أبو جعفر، كما استنكره ابن كثير، ولو أنت أنصفت وتتبعت كلام أبي جعفر، لرأيت فيه حجة بينه ساطعة على صواب مذهبه الذي ذهب إليه، ولرأيت دقة ولطفا في تناول المعاني، وتدبير الألفاظ، لا تكاد تجدهما في غير هذا التفسير الجليل القدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟ قلنا له: إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله، وبين جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها. (1) وليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله وتسويته. وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الإثم في العمل به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به. (2) فليس في إنزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. (3) ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم يكن من تعلمه حرجا، كما لم يكونا حرجين لعلمهما   (1) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ليس في العلم. . ". انظر ما سلف. (2) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) فليس في إنزال الله. . " انظر ما سلف. (3) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ولو كان الله أباح. . " انظر ما سلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 به. (1) إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما. (2) * * * وقال آخرون: معنى"ما" معنى"الذي"، وهي عطف على"ما" الأولى. غير أن الأولى في معنى السحر، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه. فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. * ذكر من قال ذلك: 1677 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك قول الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) . وكان يقول: أما السحر، فإنما يعلمه الشياطين، وأما الذي يعلم الملكان، فالتفريق بين المرء وزوجه، كما قال الله تعالى. * * * وقال آخرون: جائز أن تكون"ما" بمعنى"الذي"، وجائز أن تكون"ما" بمعنى"لم". * ذكر من قال ذلك: 1678 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنزل عليهما، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت. * 1679 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أنس بن عياض، عن   (1) استعمل أبو جعفر: هو"حرج" - على وزن: هو"فرح" - بمعنى: آثم. وأهل اللغة ينكرون ذلك. لا يقال للآثم إلا"الحارج" على النسب. لأن"الحرج" بمعنى الإثم، لا فعل له. ولعل الناسخ أخطأ فكتب"حرجا. . وحرجين" مكان"حارجا. . وحارجين"، بمعنى: آثم، وآثمين، ولكني تركتها هنا على حالها مخافة أن تكون من كلام أبي جعفر خطأ اجتهاد، أو صوابا علمه هو لم يبلغنا. (2) سيأتي بيان قوله هذا كله بأوفى من هذا وأتم في ص: 423 - 426. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 بعض أصحابه، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره: (وما أنزل على الملكين) ، فقيل له: أنزل أو لم ينزل؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان، إلا أني آمنت به. (1) . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من وجه"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) إلى معنى"الذي"، دون معنى"ما" التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك، من أجل أن"ما" إن وجهت إلى معنى الجحد، تنفي عن"الملكين" أن يكونا منزلا إليهما، (2) ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني"هاروت وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما (3) أو بدلا من"الناس" في قوله: (يعلمون الناس السحر) ، وترجمة عنهما. (4) فإن جعلا بدلا من"الملكين" وترجمة عنهما، بطل معنى قوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنه فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به من بين المرء وزوجه) . لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ (5)   (1) الخبر: 1679 - يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري: إمام معروف، يروى عنه الطبري كثيرا، وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة. وقال ابن أبي حاتم 4 /2 /243: "كتبت عنه، وأقمت عليه سبعة أشهر". وقال: "سمعت أبي يوثق يونس بن عبد الأعلى، ويرفع من شأنه". ولد سنة 170، ومات سنة 264. وأما شيخه هنا فهو: "أنس بن عياض بن ضمرة": وهو ثقة، خرج له أصحاب الكتب الستة. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 /2 /34، وابن أبي حاتم 1 /1 /289. وكتب في المطبوعة"بشر" بدل"أنس". وهو تحريف واضح. صوابه في ابن كثير 1: 253، نقلا عن هذا الموضع من الطبري. ولم نجد في الرواة من يسمى"بشر بن عياض" أبدا. (2) في المطبوعة: "فتنفي. . . " بزيادة فاء لا خير فيها. (3) انظر معنى "الترجمة" آنفًا: 420 تعليق: 2. (4) في المطبوعة "يعلمان الناس السحر" وهو خطأ. وانظر ما سلف: 420. (5) في المطبوعة: "ما يفرق"، والصواب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وبعد، فإن"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: (وما كفر سليمان) ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: (وما كفر سليمان) ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين. وإن كان قوله"هاروت وماروت" ترجمة عن"الناس" الذين في قوله: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو"هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين: إما أن يكونا ملكين، فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول. أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم. (1) لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما.   (1) يقول في سياقه: قد ارتفع من بني آدم - السحر، والعلم به والعمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطوله. (1) * * * فإذْ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها، فبَيِّنٌ أن معنى (ما) التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) بمعنى"الذي"، وأن"هاروت وماروت"، مترجم بهما عن الملكين، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما، لأنهما في موضع خفض على الرد على"الملكين". ولكنهما لما كانا لا يجران، فتحت أواخر أسمائهما. * * * فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟ قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين، إذْ كانا = عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه = يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرا،   (1) بطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا. وهذا باطل بين البطول والبطلان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. (1) فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) ، إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك، كما:- 1680 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن في قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) إلى قوله: (فلا تكفر) ، أخذ عليهما ذلك. * * * ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (ببابل) : * * * 1681 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب، عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فاهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها"بيذخت" فلما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما   (1) هذه حجة رجل يبصر دقيق المعاني، ولا يغفل عن مواضع السقط في كلام من يتكلم وهو لا يضبط ما يقتضيه كلامه. وقد استخف به ابن كثير، لأنه لم يضبط ما ضبطه هذا الإمام المتمكن من عقله وفهمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر، أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل. (1) 1682 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حجاج، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم! (2) فأوحى الله إلى الملائكة: إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا! (3) قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، وكان أهل فارس يسمونها"بيذخت". قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. (4) (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا) . فلما وقعا بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. (5)   (1) الخبر: 1681 - أبو شعبة العدوي، هذا الذي يروى هنا عن ابن عباس: لم أعرف من هو؟ ولا وجدت له ذكرا في شيء من المراجع. والراجح عندي أن اسمه محرف عن شيء لا أعرفه. (2) في تفسير ابن كثير 1: 256، والدر المنثور 1: 99: "ربنا، لا تمهلهم"، وكأنها هي الصواب، وإن كانت الأولى صحيحة المعنى. (3) هذه العبارة صحيحة المعنى، ولكنها جاءت في تفسير ابن كثير: "إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا". وجاءت في الدر المنثور: "إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا". مختصرا. (4) في المطبوعة: "وكانت الملائكة" بالواو، والصواب من ابن كثير والدر المنثور. (5) الخبر: 1682 - الحجاج بن المنهال الأنماطي: ثقة فاضل، أخرج له الجماعة. شيخه"حماد": الراجح عندنا أنه"حماد بن سلمة"، وإن كان في التهذيب أنه يروى عن"الحمادين"، يعني حماد بن زيد وحماد بن سلمة. ولكن اقتصر البخاري في ترجمته في الكبير 1 /2 / 376 على ذكر"حماد بن سلمة"، وكذلك صنع ابن أبي حاتم 1 /2 /167. فصنيعهما يدل على أنه عرف بالرواية عنه أكثر - ووقع في المطبوعة هنا"حجاج" بدل"حماد". والتصحيح من ابن كثير 1: 256، إذ نقل هذا الخبر عن الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 1683 - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمير بن سعيد قال، سمعت عليا يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء. فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا. (1) 1684 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق - جميعا، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما. (2)   (1) الخبر: 1683 - خالد الحذاء: هو"خالد بن مهران"، ثقة كثير الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 /2 /159، وابن أبي حاتم 1 /2 / 352 - 353. عمير بن سعيد النخعي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1 /376. ووقع في المطبوعة هنا"عمرو" بدل"عمير". وهو خطأ، صوابه في ابن كثير 1: 255 عن رواية الطبري هذه. والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 265 - 266، مطولا، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، "عن عمير بن سعيد النخعي قال: سمعت عليا. . "، فذكره بطوله. (2) الخبر: 1684 - راه البخاري بإسنادين: من طريق مؤمل بن إسماعيل، ومن طريق عبد الرازق، كلاهما عن الثوري. موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي: هو صاحب المغازي، كان ثقة ثبتا. كان مالك يقول:"عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة". وهو مترجم في الكبير للبخاري 4/ 1/ 292 وابن أبي حاتم 4/ 1 /154 - 155. والذي أثبتنا هو الصواب، وكان في المطبوعة"محمد بن عقبة"، بدل"موسى". و"محمد ابن عقبة": هو أخو موسى بن عقبة. وهو ثقة أيضًا، مترجم في التهذيب، والكبير 1/1 /198 - 199، وابن أبي حاتم 4/1/35. وكان من المحتمل أن يكون ما في المطبوعة صحيحا، لأن سفيان الثوري يروي عن محمد بن عقبة، كما يروي عن أخيه موسى. لولا الدلائل والقرائن، التي جزمنا معها بخطأ ذلك: فأولا: أن محمد بن عقبة لم يذكر في ترجمته بالرواية عن سالم بن عبد الله بن عمر. وثانيا: أن ابن كثير نقل هذا الخبر عن تفسير عبد الرزاق، عن الثوري، عن موسى بن عقبة 1: 255، ثم ذكر أن الطبري رواه من طريق عبد الرزاق. وثالثا: الخبر ثابت في تفسير عبد الرزاق، في نسخة مصورة عندي، عن مخطوطة دار الكتب المصرية، المكتوبة سنة 724. وفيها"عن موسى بن عقبة". فاتفق على هذا الكتابان: الكتاب الذي نقل عنه الطبري، والكتاب الذي نقل عن الطبري. ورابعا: أن ابن كثير قال أيضًا:"رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مؤمل، عن سفيان الثوري، به". والطبري هنا رواه - كما ذكرنا - عن مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري. فاتفقت روايته مع رواية ابن أبي حاتم. وليس بعد هذا ثبت ويقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 1685 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة قال، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي، فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت، فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس، وليس بيني وبينكما رسول، انزلا إلى الأرض، ولا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب بيده، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما. (1)   (1) الخبر: 1685 - هو تكرار للخبر قبله، من رواية عبد العزيز بن المختار، عن موسى ابن عقبة. وعبد العزيز بن المختار الدباغ: ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم /2/393 - 394. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 1686 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية،"الزُّهَرة"، وبالنبطية"بيذخت"، واسمها بالفارسية"أناهيذ" - فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني! فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال: الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها، قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت. فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها، (1) وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا، فعرفا الهلك، (2) فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة، فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر. 1687 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من   (1) في ابن كثير 1: 259: "فثبتت مكانها". (2) في ابن كثير 1: 259: "الهلكة"، وهما سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام. والسرقة والزنا وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. (1) فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل بهما شهوات بني آدم، (2) وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكوكب، وأنها أتت عليهما، (3) فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه، فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله، (4) ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية (5) فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان. (6) 1688 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثا- (7) ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (8) وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت. (9)   (1) ما أدري ما يعني بقوله: "إنهم في غيب"، إلا أن يكون أراد الغيب: وهو ما غيبك من الأرض، لبعده وانقطاعه، وهبوطه عما حوله. كأنه يقول: إنهم في مكان غيبهم عما تشهدون أنتم - أيتها الملائكة - من آيات ربكم. وانظر ص: 433. (2) في تفسير ابن كثير 1: 257: "فجعل لهما. . ". (3) في تفسير ابن كثير: "أتيا عليها". (4) في المطبوعة: "فصبرا ما شاء الله"، وفي ابن كثير: "فعبرا". وغبر: مكث وبقى. (5) انظر ص: 432 تعليق: 1. (6) الأثر: 1687 - في تفسير ابن كثير 1: 257 - 258 عن أبي حاتم قال: "أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس رضي الله عنهما"، وهو غير إسناد ابن جرير، وكلاهما من طريق أبي جعفر عن الربيع بن أنس، ولكن ابن جرير لم يرفعه إلى ابن عباس. ونصهما واحد إلا بعض خلاف يسير في بعض اللفظ. (7) في المطبوعة: "قالها مرتين أو ثلاثا"، والصواب من ابن كثير في تفسيره 1: 255، والدر المنثور 1: 97. (8) في ابن كثير: "أو قال - قال لي رسول الله. . ". (9) الفرج بن فضالة التنوخي القضاعي: ضعيف قال البخاري: "منكر الحديث"، وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 /1/134، والصغير: 192، 199، والضعفاء للبخاري: 29، والنسائي: 25، وابن أبي حاتم 3 /2 /85 - 86. وهذا الحديث هنا مختصر. وقد رواه الخطيب في ترجمة سنيد، مطولا، من طريق عبد الكريم بن الهيثم، عن سنيد، بهذا الإسناد. وهذه الأخبار، في قصة هاروت وماروت، وقصة الزهرة، وأنها كانت امرأة فمسخت كوكبا - أخبار أعلها أهل العلم بالحديث. وقد جاء هذا المعنى في حديث مرفوع، ورواه أحمد في المسند: 6178، من طريق موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر. وقد فصلت القول في تعليله في شرح المسند، ونقلت قول ابن كثير في التفسير 1: 255"وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم". واستدل بروايتي الطبري السالفتين: 1684، 1685 عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار. وقد أشار ابن كثير أيضًا في التاريخ 1: 37 - 38 قال: "فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سيبل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل ":. وقال أيضًا، بعد الإشارة إلى أسانيد أخر: "وإذا أحسنا الظن قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار. ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها". وقال في التفسير أيضًا 1: 260، بعد ذكر كثير من الروايات التي في الطبري وغيره: "وقد روى في قصة هاروت وماروت، عن جماعة من التابعين، كمجاهد، والسدي والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. وظاهر سياق القرآن إجمال القصة" من غير بسط ولا إطناب فيها. فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى. والله أعلم بحقيقة الحال". وهذا هو الحق، وفيه القول الفصل. والحمد لله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 1689 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات. فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما حين أنزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، (1) وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمر ونهاهما. (2) ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما. فحكما   (1) في ابن كثير 1: 259: "أعجبتم من بني آدم. . وإنكما ليس بيني وبينكم رسول". (2) في ابن كثير: "فأمرهما بأمور ونهاهما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 فعدلا. فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم، فقضيا عليها. فلما قامت، وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها: أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت، قالالها -وقضيا لها-: ائتينا! فأتتهما، (1) فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما، (2) ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، ومع الدنيا سبع مرات مثلها. (3) فأمرا أن ينزلا ببابل، فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما. (4) * * * قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: (وما أنزل على الملكين) ، يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال، (5) فأما من جهة النقل، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من   (1) في ابن كثير: "قالا وقضيا لها فأتتهما"، وليس بصواب. (2) في ابن كثير: "فزجرا ولم يؤذن لهما، وهما سواء. (3) في ابن كثير: "فقالا: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله. . وفي الدنيا تسع مرات مثلها". وفي الدر المنثور: "فقالا: نعلم أن أفواج عذاب الله. . نعم، ومع الدنيا سبع مرات. . " وقوله"ومع الدنيا. . " أي إذا قيس بعذاب الدنيا، كان سبعة أمثال عذابها. (4) الأثر: 1689 - في تفسير ابن كثير 1: 259 - 260، وفي الدر المنثور 1: 102 (5) انظر ما سلف ص: 425 - 426. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى بذلك شاهدا على خطئها. * * * وأمأ قوله (ببابل) ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها. فقال بعضهم: إنها"بابل دُنْبَاوَنْد". 1690 - حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (1) * * * وقال بعضهم: بل ذلك"بابل العراق". * ذكر من قال ذلك: 1691 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل، فأتت بها هاروت وماروت، فتعلمت منهما السحر. (2) قال أبو جعفر: واختلف في معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، ويرى الشيء من بعيد فيثبته. بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته: يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته، كالذي:-   (1) الأثر: 1690 - هو الأثر السابق 1686. (2) الأثر: 1691 الحسين: هو سنيد، كما مضى مرارا. حجاج: هو ابن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة رفيع الشأن، من شيوخ أحمد وابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/376، وابن أبي حاتم 1/2/166، وتاريخ بغداد 8: 236 - 239. وهذا الخبر قطعة من خبر مطول، سيأتي: 1692، من طريق ابن أبي الزناد أيضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 1692 - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع، قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. (1) 1693 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله. (2)   (1) الحديث: 1692 - أحمد بن الوليد، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ وسفيان بن وكيع بن الجراح: ضعيف قال البخاري في التاريخ الصغير، ص: 246"يتكلمون فيه لأشياء لقنوه". وقال النسائي في الضعفاء، ص: 16"ليس بشيء". بل اتهمه أبو زرعة بالكذب. ودفع عنه أبو حاتم هذه السبة، وإنما جاءه ذلك من وراقه، أفسد عليه حديثه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/1/231 - 232، والمجروحين لابن حبان (مخطوط مصور) ، رقم: 470. وليس ضعفه بسبب لضعف هذا الحديث فقد جاء بأسانيد صحاح، سنشير إليها في الحديث التالي. يحيى بن سعيد: هو القطان الإمام الحافظ. (2) الحديث: 1693- هو تكرار للحديث السابق بإسناد آخر، رواه سفيان بن وكيع عن ابن نمير. ابن نمير: هو عبد الله بن نمير الهمداني: ثقة صاحب سنة، روى عنه الأئمة، أحمد، وابن المديني. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 274 - 275. وابن أبي حاتم 2 /2 /186. وهذا الحديث - بطريقيه - مختصر من حديث مطول: أما من رواية ابن نمير، فقد رواه أحمد في المسند 6: 57 (حلبي) عن ابن نمير. ورواه مسلم في صحيحه 2: 180، عن أبي كريب. ورواه ابن ماجه: 3545، عن أبي بكر بن شيبة - كلاهما عن ابن نمير، به مطولا. وقد رواه كثير من الثقات الأثبات عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: فرواه أحمد في المسند 6: 63، من طريق معمر. ورواه أحمد أيضًا 6: 63، من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، وكذلك رواه البخاري 10: 201، ومسلم 2: 180 - كلاهما من طريق أبي أسامة. ورواه أحمد أيضًا 6: 96، وابن سعد 2 /2 /4 - كلاهما من طريق وهيب. ورواه البخاري 10: 192 - 197، من طريق عيسى بن يونس. و10: 199 - 201، من طريق ابن عيينة. و 10: 400، من طريق سفيان، وهو ابن عيينة. و11: 163، من طريق أنس ابن عياض أبي ضمرة. ورواه أيضًا 6: 239، معلقا من رواية الليث بن سعد، - كل هؤلاء رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقال البخاري 10: 197، عقب رواية عيسى بن يونس: أنه سمعه قبل ذلك من ابن جريح"يقول: حدثني آل عروة عن عروة".، وأنه - أي ابن عيينة - سأل هشاما عنه، فحدثه به عن أبيه عن عائشة. وذكر ابن كثير بعض طرقه، في تفسير سورة الفلق 9: 353 - 354. وإنما فصلنا القول في طرقه هنا، لأن الطبري لم يذكره هناك في موضعه. وقد ثبت مثل هذه القصة من حديث زيد بن أرقم. رواه أحمد في المسند 4: 367 (حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم، به وهذا إسناد صحيح. يزيد بن حيان أبو حيان التيمي: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4/ 2/324 - 325، وابن أبي حاتم 4 /2 /255 - 256. ورواه أيضًا ابن سعد 2/2/6، عن موسى بن مسعود، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن ثمامة المحلمي، عن زيد بن أرقم. وهذا إسناد صحيح أيضًا. موسى بن مسعود النهدي: سبق توثيقه: 280. و"ثمامة بن عقبة المحلمي": ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 /2 /176، والجرح 1/1/465 - 466. و"المحلمي"بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشددة بعدهما ميم، نسبة إلى"محلم بن تميم". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 281، بروايتين، وقال:"رواه النسائي باختصار"، ثم قال:"رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح". وذكره الحافظ في الفتح 10: 194 أنه"صححه الحاكم وعبد حميد". وقصة السحر هذه عرض لها كثير من أهل عصرنا بالإنكار؛ وهم في إنكارهم مقلدون، ويزعمون أنهم بعقلهم يهتدون. وقد سبقهم إلى ذلك غيرهم، ورد عليهم العلماء: فقال الحافظ في الفتح 10: 192"قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها! 10: 192"قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم! وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء!! قال المازري: وهذا كله مردود. لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه. فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها - فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر، كالأمراض. فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك من أمور الدين". ثم أفاض الحافظ في هذا البحث الدقيق، بقوته المعروفة، في جمع الروايات وتفسيرها، بما لا يدع شكا عند من ينصف. وعقد القاضي عياض فصلا جيدا في هذا البحث، في كتاب الشفاء. انظره في شرح العلامة على القارئ2: 190 - 193 من طبعة بولاق سنة 1257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 1694 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. فكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سحرتني يهود بني زريق. (1) * * * وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الحق والباطل فصل، (2) ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [سورة طه: 66] ، وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذْ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين =: أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان = وصحة ما قلنا. (3) * * * وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا، وأن يسحر الإنسان والحمار، وينشئ أعيانا وأجساما، واعتلوا في ذلك بما:- 1695 - حدثنا به الربيع بن سليمان قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد قال، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج   (1) الحديث: 1694 - هذا في معنى الحديثين قبله. ولكن هذا مرسل. وقد روى ابن سعد 2/2/5، نحوه مختصرا، عن الزهري، "عن ابن المسيب وعروة بن الزبير قالا: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سحرتني يهود بني زريق". وقد أشار الحافظ في الفتح 10: 193 إلى أن مرسل سعيد بن المسيب رواه عبد الرزاق، وذكر من بعض ألفاظه ما يدل على أنه أطول مما هنا. وقوله"بئر حزم"، لا يعرف. والذي في الروايات جميعا: "بئر ذروان". (2) في المطبوعة: "فضل"، وهو خطأ. (3) سياق العبارة: "أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين. . وصحة ما قلنا" معطوفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك، (1) تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، (2) كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، (3) فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. (4) فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت، (5) فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت، فاقشعررت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا. فقالا كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك! (6) فأربيت وأبيت، فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، (7) فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت: بلى، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري. فبذرت، وقلت: أطلعي! فأطلعت، وقلت: أحقلي! فأحقلت، ثم قلت: أفركي! فأفركت، ثم قلت: أيبسي! فأيبست، ثم قلت: أطحني! فأطحنت، ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. (8) فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. (9) قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا، وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان، لم يكن تفريقا على صحة، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة. * * * وقال آخرون: بل"السحر" أخذ بالعين. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:- 1696 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) يقال: "كان في حدثان كذا وكذا" (بكسر فسكون) ، و"في حداثته": أي على قرب عهد به. (2) يشفيها: أي يجيبها بما يبلغ بها سكينة القلب فتبرأ من حيرتها. ومنه: "شفاء العي السؤال". والجهل والحيرة مرض القلوب والنفوس. (3) في ابن كثير 1: 260: "فلم يكن شيء"، والصواب ما هنا وفي الدر المنثور 1: 101 وقولها: "فلم يكن كشيء" عبارة جيدة، بمعنى: لم يكن ما مضى كشيء يعد، بل أقل من القليل. والعرب تقول: تأخرت عنك شيئا، أي قليلا. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة. وقالت لهن: اربعن شيئا، لعلني ... وإن لامني فيما ارتأيت مليم أي قفن قليلا. ويقولون في مثل ذلك أيضًا: "لم يكن إلا كلا ولا"، كل ذلك بمعنى السرعة الخاطفة. (4) في المطبوعة: "فقالا، اذهبي. . "، وأثبت ما في الدر المنثور وابن كثير، فهي أجود. (5) في المطبوعة: "فأبيت" بحذف"فأرببت". وأرب بالمكان لزمه ولم يبرحه. والزيادة من ابن كثير في الموضعين. (6) يقال: أنت على رأس أمرك، وعلى رئاس أمرك: أي في أوله وعلى شرف منه. وزعم الجوهري أن قولهم: "على رأس أمرك" من كلام العامة، وهذا الخبر ينقض ما قال. (7) في تفسير ابن كثير والدر المنثور: "فرأيت فارسا"، وما هنا صواب جيد. (8) في هذه الفقرة كلمات لم تثبتها كتب اللغة، سأذكرها في مدرج شرحها. "أطلعي فأطلعت" أي أخرجي شطأك، من قولهم: أطلع الزرع، إذا بدا أول نباته من الأرض. "أحقل الزرع: تشعب ورقه من قبل أن تغلظ سوقه. "أفركي فأفركت"، أي كوني فريكا. وهو حب السنبلة إذا اشتد وصلح أن يفرك. أفرك السنبل: صار فريكا، وهو حين يصلح أن يفرك فيؤكل. و"أيبسي فأيبست" أي كوني حبا يابسا، أيبس البقل: يبس وجف. "أطحني فأطحنت". أي كوني طحينا. ولم يرد في كتب اللغة: "أطحن"، ولكنها أتبعت هذا الحرف ما مضى من أخواته، وهي عربية سليمة ماضية على سنن اللغة في هذا الموضع. "أخبزي فأخبزت"، أي كوني خبزا يؤكل، وهذه أيضًا لم ترد في كتب اللغة، ولكنها عريقة كأختها السالفة. وقد قال ابن كثير أن إسناد هذا الحديث جيد إلى عائشة، وأن الحاكم صححه، فإن كان ذلك كما قالا، فلا شك في عربية هذه الألفاظ من طريق الرواية أيضًا. (9) الخبر: 1695 - مضت قطعة منه، بإسناد آخر إلى ابن أبي الزناد: 1691. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 260 - 261، بطوله، عن الطبري. وقدم له بكلمة قال"وقد ورد في ذلك أثر غريب، وسياق عجيب في ذلك. أحببنا أن ننبه عليه". ثم قال بعد نقله. "فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها". وذكر أنه رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان، بأطول منه. وذكره السيوطي 1: 101، ونسبه أيضًا للحاكم وصححه. والبيهقي في سننه. وهي قصة عجيبة، لا ندري أصدقت تلك المرأة فيما أخبرت به عائشة؟ أما عائشة فقد صدقت في أن المرأة أخبرتها. والإسناد إلى عائشة جيد، بل صحيح. الربيع بن سليمان: هو المرادي المصري المؤذن، صاحب الشافعي وراوية كتبه، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/464. ابن أبي الزناد: هو"عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان"، وهو ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة، في روايته عن أبيه، وفي رواية البغداديين عنه. والحق أنه ثقة، وخاصة في حديث هشام بن عروة. فقد قال ابن معين - فيما رواه أبو داود عنه عند الخطيب وغيره -"أثبت الناس في هشام بن عروة: عبد الرحمن بن أبي الزناد". وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في السنن 3: 59، في حديث له صححه، وفيه حرف لم يروه غيره، فقال: "وإنما ذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ثقة حافظ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 السدي قال: إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت - إنسان يريد السحر، وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة! فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه، (1) فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) الآية. 1697 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: (حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ، قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. (2) 1698 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". 1699 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر قال، قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". 1700 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك. 1701 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". لا يجترئ على السحر إلا كافر. * * *   (1) في المطبوعة: "وقيل شيء أسود. . " كلام بلا معنى. والتصحيح من ابن كثير 1: 262. (2) في المطبوعة: أخذ عليها أن لا يعلما" والزيادة من ابن كثير 1: 262. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وأما الفتنة في هذا الموضع، فإن معناها: الاختبار والابتلاء، من ذلك قول الشاعر. (1) وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا (2) ومنه قوله:"فتنت الذهب في النار"، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته، "أفتنه فتنة وفتونا"، كما:- 1702 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة (إنما نحن فتنة) ، أي بلاء. * * *   (1) نسبه الطبري في تاريخه 1: 151 - 152 للحتات بن يزيد المجاشعي عم الفرزدق. ونسبه البلاذري في أنساب الأشراف 5: 104 إلى: علي بن الغدير بن المضرس الغنوي، وإلى: إهاب بن همام بن صعصة بن ناجية بن عقال المجاشعي، وإلى: ابن الغريرة النهشلي، وهو كثير بن عبد الله بن مالك النهشلي، وهو مخضرم، وإليه أيضًا في معجم الشعراء: 349، وفي الكامل للمبرد 2: 34، وقال أبو الحسن الأخفش: "ابن الغريرة الضبي"، وهو خطأ محض، إنما هو النهشلي. (2) أول هذه القصيدة: نأتك أمامة نأيا طويلا ... وحملك الحب عبئا ثقيلا ثم قال: لعمر أبيك فلا تجزعي ... لقد ذهب الخير إلا قليلا لقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا أعاذل كل امرئ هالك ... فسيرى إلى الله سيرا جميلا فإن الزمان له لذة ... ولا بد لذته أن تزولا وروى الطبري صدر البيت الذي استشهد به هنا في تاريخه: * لقد سفه الناس في دينهم * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 القول في تأويل قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (فيتعلمون منهما) ، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجواب لقوله: (وما يعلمان من أحد) ، بل هو خبر مستأنف، ولذلك رفع فقيل:"فيتعلمون". فمعنى الكلام إذًا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة، فيأبون قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه. (1) وقد قيل: إن قوله: (فيتعلمون) ، خبر عن اليهود معطوف على قوله:"ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت"،"فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) . وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم. * * * والذي قلنا أشبه بتأويل الآية. لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام، ما كان للتأويل وجه صحيح، (2) أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام. و"الهاء" و"الميم" و"الألف" من قوله: (منهما) ، من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه. * * * و"ما" التي مع"يفرقون" بمعنى"الذي". وقيل: معنى ذلك: السحر الذي يفرقون به. وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل. (3)   (1) يعني الطبري أن في الكلام حذف اجتزأ بفهم سامعه عن ذكره، وهو قوله: "فيأتون قبول ذلك منهما". (2) قوله: "ما كان للتأويل. . "، هي ما يقولونه في العربية الركيكة"ما دام للتأويل. . " (3) انظر ما سلف: 423 - 424. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وأما"المرء"، فإنه بمعنى: رجل من أسماء بني آدم، والأنثى منه"المرأة". يوحد ويثنى، ولا تجمع ثلاثته على صورته، (1) يقال منه:"هذا امرؤ صالح، وهذان امرآن صالحان". ولا يقال: هؤلاء امرؤو صدق، ولكن يقال:"هؤلاء رجال صدق"، وقوم صدق. وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها. يقال: هذه امرأة، وهاتان امرأتان". ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن:"هؤلاء نسوة". * * * وأما"الزوج"، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل:"هي زوجه" بمنزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [سورة الأحزاب: 37] ، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون:"هي زوجته". (2) كما قال الشاعر: (3) وإن الذي يمشي يحرش زوجتي ... كماش إلى أسد الشرى يستبيلها (4) فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى"السحر": تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. (5) فإن كان   (1) في المطبوعة: "ولا يجمع ثلاثيه" خطأ محض. (2) انظر ما سلف 1: 514، ففيه زيادة عما هنا. (3) هو الفرزدق. (4) ديوانه: 605، والأغاني 9: 326، و19: 8 (ساسى) ، في قصته مع النوار، ويقول هذا الشعر لبني أم النسير (طبقات فحول الشعراء: 281، والأغاني) ، وكانت خرجت مع رجل يقال له زهير بن ثعلبة ومع بني أم النسير، فقال هذا الشعر، وبعد البيت: ومن دون أبوال الأسود بسالة ... وصولة أيد يمنع الضيم طولها ورواية الديوان وغيره: وإن امرءا يسعى يخبب زوجتي وقوله: "يخبب"، أي يفسدها على. ويحرش: يحرض ويغرى بيني وبينها. و"يستبيلها": أي يطلب أن تبول في يده. (5) انظر ما سلف: 435 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه، (1) فتفريقه بين المرء وزوجه: تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته، من حسن وجمال، حتى يقبحه عنده، فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا. فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما. وقد دللنا، في غير موضع من كتابنا هذا، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1703 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) ، وتفريقهما: أن يُؤَخِّذَ كل واحد منهما عن صاحبه، (3) ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه. * * * وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويل قوله: (فيتعلمون منهما) إلى"فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا"، أي مكان كذا، كما قال الشاعر: ججَمَعَت من الخيرات وَطبا وعلبة ... وصرا لأخلاف المُزَنَّمة البزل (4)   (1) في المطبوعة: "فإن كان ذلك صحيحا"، والأجود ما أثبت. (2) انظر ما سلف 1: 196. (3) أخذه تأخيذا. والتأخيذ: حبس السواحر أزواج النساء عن غيرهن من النساء، ويقال لهذه الحيلة: الأخذة (بضم فسكون) . (4) لم أعرف قائلهما، ولم أجدها إلا في أمالي الشريف المرتضى 1: 421، وكأنه نقلهما عن الطبري، لأنهما جاءا في تفسير هذه الآية، على هذا المعنى. والوطب: سقاء اللبن خاصة. والعلبة: جلدة تؤخذ من جنب البعير، فتسوى مستديرة، ثم تملأ رملا سهلا، ثم تضم أطرافها بخلال حتى تجف وتيبس، ثم يقطع رأسها وقد قامت قائمة لجفافها تشبه قصعة مدورة، فكأنها نحتت نحتا، ويعلقها الراعي ويشرب بها، وله فيها رفق وخفة لأنها لا تنكسر إذا حركها البعير أو طاحت إلى الأرض. والصر: شد ضرع النوق الحلوبات إذا أرسلوها للمرعي سارحة، ويسمون ذلك الرباط: صرارا. والأخلاف جمع خلف (بكسر فسكون) ، وهو ضرع الناقة أو البعير إذا استكمل الثامنة وطعن في التاسعة، وبزل نابه، أي انشق عن اللحم. وهو أقصى سنه وتمام قوته. وفي المطبوعة هنا"المذممة"، وفي أمالي الشريف:"المزممة"، وفي نسخة أخرى منها"المزهمة"، وقد علق أحد أصحاب الحواشي على الأمالي فقال: "المزممة: التي علق عليها الزمام ". واخترت أن تكون "المزنمة" فهي أشبه بهذا الشعر. يقال: ناقة مزنمة وهي التي عليها سمة التزنيم، وهو أن يقطع طرف أذنه ويترك له زنمة مشرفة. وإنما يفعل ذلك بالكرام من الإبل. وهذا هجاء يقول له: إنما أنت راع خسيس، ترعى على السادة الكرام كرام إبلهم، ولا تجمع من خيرات ما يتمتع به سادتك، إلا وطبا وعلبة وعلاجا لإبلهم التي ترعاها عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 ومن كل أخلاق الكرام نميمة ... وسعيا على الجار المجاور بالنَّجْل (1) يريد بقوله:"جمعت من الخيرات"، مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة، ومنه قول الآخر: صلدت صفاتك أن تلين حيودها ... وورثت من سلف الكرام عقوقا (2) يعني: ورثت مكان سلف الكرام، عقوقا من والديك. * * *   (1) الجار: الذي قرب منزله من منزلك، ووصفه بقوله: "المجاور" للدلالة على شدة قربه، وهو الجار الجنب، فهو أشد حرمة لنزوله في جواره ومنعته، وركونه إلى أمان عهده. والنجل: تمزيق عرضه بالغيبة والمعابة والسب بظهر الغيب. وفي الحديث: "من نجل الناس نجلوه" أي سبهم وقطع أعراضهم بالشتم كما يقطع بالمنجل، جازوه بمثل فعله. (2) لم أعرف قائله. صلدت: صلبت وقست. والصفاة: الحجر الصلد الأملس الضخم الذي لا ينبت شيئا. والحيود جمع حيد: وهو التنوء في الجبل أو القرن أو غيرهما. وهذا مثل: يقول له أنت غليظ جاف لا يصلحك شيء، ولا خير فيك، كالصفاة الملساء ذات النتوء، لا يصلحها شيء ولا تأتي بخير. والسلف: سلف الإنسان: من تقدمه من آبائه وذوي قرابته ممن هم فوقه في السن والفضل. يقول: ورثت من والديك مكان مآثر الأسلاف الكرام، عقوقا، فأنت تعقهم، كما عقوا هم آباءهم. فأنتم خلف يلعن سلفا لئيما عاقا، يلعن أسلافه. فأنتم معرقون في العقوق، وهو شر أخلاق الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} قال أبو حعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) ، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه، بضارين - بالذي تعلموه منهما، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره. فأما من دفع الله عنه ضره، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقى، فإن ذلك غير ضاره، ولا نائله أذاه. * * * ولـ لإذن" في كلام العرب أوجه. منها: الأمر على غير وجه الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) ، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة. (1) ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه. ومنها العلم بالشيء، يقال منه:"قد أذنت بهذا الأمر" إذا علمت به"آذن به إذنا"، ومنه قول الحطيئة: ألا يا هند إن جددت وصلا ... وإلا فأذنيني بانصرام (2) يعنى فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ) [سورة البقرة: 279] ، وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: وما هم بضارين،   (1) كأنه يريد: حرم التفريق على لسان الأمة: أن تنطق به وتأمر بفعله (2) لم أجد البيت في ديوان الحطيئة المطبوع. وقوله"فأذنيني"، يدل على أن الفعل متعد: "أذنه بالشيء يأذنه إذنا" أعلمه به، مثل"آذنه به". ولم يرد ذلك في شيء من كتب اللغة، والبيت شاهد عليه، وشرح الطبري بعد دال أيضًا على مراده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 بالذي تعلموا من الملكين، من أحد إلا بعلم الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما:- 1704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) ، قال: بقضاء الله. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ويتعلمون) ، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم، ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون - من يهود بني   (1) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه". ويتعلمون أي الناس الذين يتعلمون. . " وهو كلام غير مستقيم، كأنه تصرف من بعض النساخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم = التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت = لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق. كما:- 1705 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة. 1706 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، يعني اليهود. يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره، ما له في الآخرة من خلاق. 1707 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه. 1708 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، قال: قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك دين الله، ما له في الآخرة من خلاق. فالنار مثواه ومأواه. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله: (لمن اشتراه) ، فإن"من" في موضع رفع، وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 قوله: (ولقد علموا) بعامل فيها. لأن قوله: (ولقد علموا) ، (1) بمعنى اليمين، فلذلك كانت في موضع رفع. لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. ولكون قوله: (قد علموا) بمعنى اليمين، حققت بـ "لام اليمين"، فقيل: (لمن اشتراه) ، كما يقال:"أقسم لمن قام خير ممن قعد". وكما يقال:"قد علمت، لعمرو خير من أبيك". وأما"من" فهو حرف جزاء. وإنما قيل"اشتراه" ولم يقل"يشتروه"، لدخول"لام القسم" على"من". ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بـ "فعل" دون"يفعل"، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم، كما قال الله جل ثناؤه: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) [سورة الحشر: 12] ، وقد يجوز إظهار فعله بعده على"يفعل" مجزوما، (2) كما قال الشاعر: لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي واسع (3) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما له في الآخرة من خلاق) . فقال بعضهم:"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب. * ذكر من قال ذلك: 1709 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما له في الآخرة من خلاق) ، يقول: من نصيب.   (1) في المطبوعة: "لأن قوله: علموا، بمعنى اليمين"، وآثرت إثبات"ولقد"، لأن الجملة كلها بمعنى اليمين. (2) هذا كله في معاني الفراء 1: 65 - 69، مع تصرف في اللفظ. (3) رواه الفراء في معاني الفراء 1: 66 غير منسوب، ولكن صاحب الخزانة 4: 220 نسبه لكميت بن معروف، ولكني لم أجده منسوبا إليه في كتاب آخر، وأخشى أن يكون صاحب الخزانة قدوهم. هذا، والبيت وما قبله جميعا في معاني الفراء 1: 65 - 66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 1710 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما له في الآخرة من خلاق) ، من نصيب. 1711 - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا وكيع، قال سفيان: سمعنا في: (وما له في الآخرة من خلاق) ، أنه ما له في الآخرة من نصيب. * * * وقال بعضهم:"الخلاق" ههنا الحجة. * ذكر من قال ذلك: 1712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (وما له في الآخرة من خلاق) ، قال: ليس له في الآخرة حجة. وقال آخرون: الخلاق: الدين. * ذكر من قال ذلك: 1713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: (ما له في الآخرة من خلاق) ، قال: ليس له دين. * * * وقال آخرون:"الخلاق" ههنا القوام. * ذكر من قال ذلك: 1714 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (ما له في الآخرة من خلاق) ، قال: قوام. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب. وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 1715 - "ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم". (1) يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: يَدْعُون بالويل فيها لا خَلاق لهم ... إلا سرابيلُ من قِطْر وأغلال (2) يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال. * * * فكذلك قوله: (ما له في الآخرة من خلاق) : ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يحازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: (ما له في الآخرة من خلاق) ، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به: لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار، إذْ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على مراده من الخبر، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا. * * *   (1) الحديث: 1715 - هكذا علق الطبري هذا الحديث، بدون إسناد وقد رواه أحمد في المسند 5: 45 (حلبي) ، من حديث أبي بكرة، بلفظ: "إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 302، ثم قال: "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات". وذكره أيضًا بعده، من حديث أنس، وقال: "رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد البزار ثقات الرجال". (كذا بالأصل) . وذكره السيوطي في الجامع الصغير: 1838، ونسبه للنسائي وابن حبان من حديث أنس، ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة. ونقل شارحه المناوي أن الحافظ العراقي قال: "إسناده جيد". وحديث أنس رواه أيضًا أبو نعيم في الحلية 6: 262. ورواه قبل ذلك 3: 13، من حديث الحسن مرسلا. ثم أشار إلى حديث أنس. (2) ديوانه: 47 بيت مفرد:. وقوله"فيها"، أظنه يعني النار. والقطر: النحاس الذائب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) } قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"شروا":"باعوا". (1) فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته، كما: 1716 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي (ولبئس ما شروا به أنفسهم) ، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ؟ وقد قال قبل: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به. ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: (لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارة صفقة بيعهم. إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله، ولا يعرف حلاله وحرامه، وأمره ونهيه.   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 340 - 342. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين - فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر، ما له في الآخرة من خلاق؛ ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها، ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر، على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم، وبغيا على رسله، وتعديا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب. فذلك تأويل قوله. * * * وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، يعني به الشياطين، وأن قوله: (لو كانوا يعلمون) ، يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف. وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) ، معني به اليهود دون الشياطين: ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه التنزيل. لأن الآيات قبل قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) ، وبعد قوله: (لو كانوا يعلمون) ، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) ، أحد تلك الأخبار عنهم. * * * وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ، فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) . وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: (لو كانوا يعلمون) - بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: (ولقد علموا) - من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا. وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما:"لو علمت لأقصرت" كما قال كعب بن زهير المزني، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده: إذ إذا حضراني قلت: لو تعلمانه!! ... ألم تعلما أني من الزاد مرمل (1) فأخبر أنه قال لهما:"لو تعلمانه"، فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) و (لو كانوا يعلمون) * * * وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: (ولقد علموا) وقوله: (لو كانوا يعلمون) ، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب = دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن = أولى. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا) ، لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه،"آمنوا" فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم، و"اتقوا" ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه - لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه، خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به،"لو كانوا يعلمون" أن ثواب الله إياهم على ذلك   (1) ديوانه: 51، وأمالي الشريف المرتضى 1: 424، وكأنه كان ينقل كلام الطبري في تفسير هذه الآية، مع التصرف. والمرمل: الذي نفد زاده. أرمل الرجل فهو مرمل، كأنه لصق بالرمل لما أنفض. (2) يقول: "وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر من الخطاب. . أولى" وفصل فأطال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما نفى بقوله: (لو كانوا يعلمون) العلم عنهم: أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله، وقدر جزائه على طاعته. * * * و"المثوبة" في كلام العرب، مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة". فأصل ذلك من:"ثاب إليك الشيء" بمعنى: رجع. ثم يقال:"أثبته إليك": أي، رجعته إليك ورددته. فكان معنى"إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها": إرجاعه إليه منها بدلا (1) ورده عليه منها عوضا. ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه: مثيبا له. ومنه"ثواب" الله عز وجل عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له. * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير) مما اكتفي - بدلالة الكلام على معناه - عن ذكر جوابه. وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، ولكنه استغنى - بدلالة الخبر عن المثوبة - عن قوله: لأثيبوا. * * * وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا) ، (لمثوبه) ، وأن"لو" إنما أجيبت"بالمثوبة"، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى"لئن" في أنهما جزاءان، فإنهما جوابان للإيمان. فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها - فأجيبت"لو" بجواب "لئن"، و"لئن" بجواب "لو"، لذلك، وإن اختلفت أجوبتهما، فكانت"لو" من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل، وكانت"لئن" من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل - لما وصفنا من تقاربهما. فكان يتأول معنى قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا) : ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير. * * *   (1) في المطبوعة: "إرجاعه إليها" سهو من ناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وبما قلنا في تأويل"المثوبة" قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لمثوبة من عند الله) ، يقول: ثواب من عند الله. 1718 - حدثني يونس قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله) ، أما"المثوبة"، فهو الثواب. 1719 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير) ، يقول: لثواب من عند الله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا تقولوا راعنا) . فقال بعضهم: تأويله: لا تقولوا خلافا. * ذكر من قال ذلك: 1720 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: (لا تقولوا راعنا) ، قال: لا تقولوا خلافا. 1721 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا تقولوا راعنا) ، لا تقولوا خلافا. 1722 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 1723 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن رجل عن مجاهد مثله. 1724 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وقال آخرون: تأويله: أَرْعِنَا سمعك. أي: اسمع منا ونسمع منك. * ذكر من قال ذلك: 1725 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: (راعنا) ، أي: أَرْعِنا سمعك. 1726 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. 1727 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (راعنا) ، قال: كان الرجل من المشركين يقول: أَرْعِني سمعك. * * * ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا"راعنا". فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 1728 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) قول كانت تقوله اليهود استهزاء، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم. 1729 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: (لا تقولوا راعنا) ، قال: كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين: فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، كما قالت اليهود والنصارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 1730 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ، قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) . 1731 - وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (لا تقولوا راعنا) ، قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك! وإنما"راعنا" كقولك، عاطنا. 1732 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) قال:"راعنا" القول الذي قاله القوم، قالوا: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [سورة النساء: 46] قال:"قال: هذا الراعن" - والراعن: الخطاء - قال: فقال للمؤمنين: لا تقولوا خطاء، كما قال القوم، وقولوا: انظرنا واسمعوا. قال: كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه، ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم. (1) * * * وقال آخرون: بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 1733 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن عطاء في قوله: (لا تقولوا راعنا) ، قال: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية، فنزلت هذه الآية: (لا تقولوا راعنا) ولكن قولوا انظرنا) إلى آخر الآية.   (1) قوله"الراعن: الخطاء" لم أجده في غيره بعد. والذي في كتب التفسير واللغة. وربما كانت"الخطأ". وقد قالوا: "راعنا: الهجر من القول". وقالوا اشتقوه من الرعونة: وهي الحمق والجهل والاسترخاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 1734 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: (لا تقولوا راعنا) ، قال: كانت لغة في الأنصار. 1735 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء مثله. 1736 - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (لا تقولوا راعنا) ، قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أَرْعِني سمعك! فنهوا عن ذلك. 1737 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"راعنا"، قول الساخر. فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه، يقال له: رفاعة بن زيد. كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه السب له، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 1738 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ، كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع - كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب - قال أبو جعفر: هذا خطأ، إنما هو ابن التابوت، ليس ابن السائب - كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: (1) أَرْعِني سمعك، واسمع غير مسمع = فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان   (1) في المطبوعة: "فقال"، والفاء لا مكان لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ناس منهم يقولون:"اسمع غير مسمع"، كقولك اسمع غير صاغر = وهي التي في النساء (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [سورة النساء: 46] ، يقول: إنما يريد بقوله طعنا في الدين. ثم تقدم إلى المؤمنين فقال:"لا تقولوا راعنا". (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه:"راعنا" أن يقال: إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 1739 - "لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحبَلة". (2) 1740 - و"لا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي". (3) وما أشبه ذلك، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما، واختيار الأخرى عليها في المخاطبات. * * * فإن قال لنا قائل: فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم في "العنب" أن يقال له"كرم"، وفي"العبد" أن يقال له"عبد"، فما المعنى الذي في قوله: (راعنا) حينئذ، الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين   (1) تقدم إليه: أمره. (2) الحديث: 1739 - ذكره الطبري معلقا دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 7509، من حديث أبي هريرة، مرفوعا: "ولا تسموا العنب الكرم". ورواه الشيخان وغيرهما، كما بينا هناك. ورواه أيضًا قبل ذلك إشارة موجزا: 7256. وروى مسلم 2: 197، من حديث علقمة بن وائل، عن أبيه، مرفوعا: "لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، يعني العنب". (3) الحديث: 1740 - وهذا معلق أيضًا. وهو جزء من حديث طويل. رواه البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة، مرفوعا: ". . ولا يقل أحدكم عبدي، أمتي، وليقل: فتاى، فتاتي، غلامي". انظر البخاري 5: 128 - 131 (فتح) ، ومسلم 2: 197. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 عن أن يقولوه، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله: (انظرنا) ؟ قيل: الذي فيه من ذلك، نظير الذي في قول القائل:"الكرم" للعنب، و"العبد" للمملوك. وذلك أن قول القائل:"عبدي" لجميع عباد الله، فكره للنبي صلى الله عليه وسلم أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى العبودية - إلى غير الله، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل، فيقال:"فتاي". وكذلك وجه نهيه في"العنب" أن يقال:"كرم" خوفا من توهم وصفه بالكرَم، وإن كانت مُسَكَّنَة، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد. فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا:"راعنا"، لما كان قول القائل:"راعنا" محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول العرب بعضهم لبعض:"رعاك الله": بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك، من قولهم:"أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رِعاء أو مراعاة"، بمعنى: فرغته لسماع كلامه. كما قال الأعشى ميمون بن قيس: يُرْعِي إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا (1) يعني بقوله"يرعى"، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك. وكان الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم. (2)   (1) ديوانه: 86، وسيأتي في هذا الجزء 2: 540 وقد سلف تخريج أبيات من هذه القصيدة في 1: 106، 2: 94، وهي في هوذة بن علي كما سلف. يقول قبله: يا هوذ، يا خير من يمشي على قدم ... بحر المواهب للوراد والشرعا وابتدع: أحدث ما شاء. (2) اقرأ قول الله تعالى في صدر"سورة الحجرات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها. فكان من ذلك قولهم: (راعنا) لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل:"عاطنا، وحادثنا، وجالسنا"، بمعنى: افعل بنا ونفعل بك - (1) ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بقولهم له: (اسمع غير مسمع وراعنا) . يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) ، (2) فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه، مما يسر اليهود والمشركين. * * * فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله: (راعنا) أنه بمعنى: خلافا، فمما لا يعقل في كلام العرب. لأن"راعيت" في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى"فاعلت" من "الرِّعْية" وهي الرِّقبة والكَلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع، بمعنى"أرعيته سمعي". وأما"راعيت" بمعنى"خالفت"، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب. إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد، فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء - معنى مفهوم حينئذ. * * * وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه: أن قوله: (راعنا)   (1) قوله: "ومعنى" معطوف على قوله آنفًا: "لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك. . ". (2) وهي الآية التي تلي الآية التي يفسرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين: أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي، هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك، من الوجه الذي تقوم به الحجة. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره. * * * وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (لا تقولوا راعنا) بالتنوين، بمعنى: لا تقولوا قولا"راعنا"، من"الرعونة" وهي الحمق والجهل. وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافِها ما جاءت به الحجة من المسلمين. ومن نون"راعنا" نونه بقوله: (لا تقولوا) ، لأنه حينئذ عامل فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكي. لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (راعنا) ، بمعنى مسألته: إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم إياه"راعنا". فتكون الدلالة على معنى الأمر في"راعنا" حينئذ سقوط الياء التي كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 تكون في"يراعيه" ويدل عليها - أعني على"الياء" الساقطة - كسرة"العين" من"راعنا". * * * وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا) ، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره. ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقولوا انظرنا) ، وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا، وتعلمنا، كما: 1741 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وقولوا انظرنا) فهمنا، بين لنا يا محمد. 1742 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وقولوا انظرنا) فهمنا، بين لنا يا محمد. 1743 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. * * * يقال منه:"نظرت الرجل أنظره نظرة" بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه قول الحطيئة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وقد نَظَرتكمُ أَعْشاء صادرةٍ ... للخِمس، طال بها حَوْزي وتَنْساسي (1) ومنه قول الله عز وجل: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [سورة الحديد: 13] ، يعني به: انتظرونا. * * * وقد قرئ"أنظرنا" و"أنظرونا" بقطع"الألف" في الموضعين جميعا (2) فمن قرأ ذلك كذلك أراد: أخرنا، كما قال الله جل ثناؤه: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة ص: 79] ، أي أخرني. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع. لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض الجناح - لا بالتأخر عنه، ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب - إذْ كان ذلك كذلك - (3) من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله: (انظرنا) ، ولم يقطعها بمعنى: انتظرنا. * * * وقد قيل: إن معنى (أنظرنا) بقطع الألف بمعنى: أمهلنا. حكي عن بعض   (1) ديوانه: 53، واللسان (نظر) (حوز) (نس) (عشا) . من قصيدة يهجو بها الزبرقان ابن بدر، ويمدح بغيض بن عامر من شماس. والأعشاء جمع عشى (بكسر فسكون) : وهو ما تتعشاه الإبل. والصادرة: الإبل التي تصدر عن الماء. والخمس: من أظماء الإبل، وهو أن تظل في المرعى بعد يوم ورودها ثلاثة أيام، ثم ترد في الرابع. والحوز: السوق اللين، حاز الإبل: ساقها سوقا رويدا. والتنساس والنس، مصدر قولك: نس الإبل بينها: ساقها سوقا شديدا لورود الماء. ويروى"إيتاء صادرة". والإيتاء مصدر آنيت الشيء: إذ أخرته. يقول للزبرقان، حين نزل بداره، ثم تحول عنها إلى دار بغيض (انظر خبرهما في طبقات فحول الشعراء: 96 - 98) : انتظرت خيركم انتظار الإبل الخوامس لعشائها. وذلك أن الإبل إذا صدرت تعشت طويلا، وفي بطونها ماء كثير، فهي تحتاج إلى بقل كثير. يصف طول انتظاره حين لا صبر له على طول الانتظار. وقد شكاه الزبرقان إلى عمر لهذه القصيدة، ولقوله فيها: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي (2) زدت قول الله تعالى: "أنظرونا"، من أجل اختلاف" الحرفين. (3) في المطبوعة: "إن كان ذلك. . "، ليست بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 العرب سماعا:"أنظرني أكلمك"، وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه، فأخبره أنه أراد أمهلني. فإن يكن ذلك صحيحا عنهم"فانظرنا" و"أنظرنا" - بقطع"الألف" ووصلها - متقاربا المعني. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها، قراءة من قرأ: (وقولوا انظرنا) ، بوصل"الألف" بمعنى: انتظرنا، لإجماع الحجة على تصويبها، ورفضهم غيرها من القراآت. * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (واسمعوا) ، واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم، وعُوه وافهموه، كما:- 1744 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واسمعوا) ، اسمعوا ما يقال لكم. * * * فمعنى الآية إذًا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم: راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول. ولكن قولوا: انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا. واسمعوا منه ما يقول لكم، فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته، وخالف أمره ونهيه، وكذب رسوله، العذاب الموجع في الآخرة، فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم. يعني بقوله:"الأليم"، الموجع. وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل، وما فيه من الآثار. (1) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 283، ثم هذا الجزء 2: 140، 377. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ما يود) ، ما يحب، أي: ليس يحب كثير من أهل الكتاب. يقال منه:"ود فلان كذا يوده ودا وودا ومودة". * * * وأما"المشركين" (1) فإنهم في موضع خفض بالعطف على"أهل الكتاب". ومعنى الكلام: ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم. * * * وأما (أن) في قوله: (أن ينزل) فنصب بقوله: (يود) . وقد دللنا على وجه دخول"من" في قوله: (من خير) وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * فتأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم. (3) فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين. وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون. * * *   (1) في المطبوعة: "وأما المشركون"، والصواب ما أثبت. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 126، 127، وكان ينبغي أن يذكره في تفسير الآية: 102 أو يحيل كما أحال هنا. (3) كان في المطبوعة: "الذي كان عند الله ينزله عليهم"، ولا يستقيم الكلام إلا كما أثبتنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (والله يختص برحمته من يشاء) : والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له. و"اختصاصه" إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له. * * * وأما قوله: (والله ذو الفضل العظيم) . فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه. * * * وفي قوله: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) ، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه، (1) وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه. * * *   (1) في المطبوعة: "تفضلا منه"، وهو خطأ، بل هذا خبر"أن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 القول في تأويل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية) : ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. (1) وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام   (1) كان في المطبوعة: "ما نسخ من آية إلى غيره فنبد له"، والزيادة من تفسير ابن كثير 1: 273. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. * * * وأصل"النسخ" من"نسخ الكتاب"، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى"نسخ" الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها. (1) فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أَأُقر خطها فترك، أو محي أثرها، فعفِّي ونسي، (2) إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه:"نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، و "النُّسخة" الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول: 1745 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) ، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا، (3) ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه. * * * قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما ننسخ) فقال بعضهم بما:-   (1) في المطبوعة: "عنه إلى غيره"، وفي تفسير ابن كثير: "ونقل عبارة إلى غيرها". والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "أوفر حظها فترك، أو محي أثرها فعفي أو نسي"، وهي جملة حشيت تصحيفا وخلطا. ومراد الطبري أن النسخ، وهو تغير الحكم، قد يكون مع إقرار الخط كما هو، والإتيان بحكم آخر في عبارة أخرى - أو رفع الخط، ونسيان الناس ما حفظوه عند التنزيل. وقوله"عفي"، من قولهم: عفا الأثر يعفو: درس وذهب. وعفاه يعفيه (بالتشديد) : طمسه وأذهبه. هذا والجملة التالية: "إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"، وحديث الحسن الآتي، يدل على صواب ما أثبته في قراءة نص الطبري. (3) في المطبوعة: "قال أقرئ قرآنا"، سقط منه ما أثبته، وسيأتي على الصواب في الأثر برقم: 1754، ومنه زدت هذه الزيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 1746 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما ننسخ من آية) ، أما نسخها، فقبضها. * * * وقال آخرون بما:- 1747 - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ما ننسخ من آية) ، يقول: ما نبدل من آية. * * * وقال آخرون بما: 1748 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا: (ما ننسخ من آية) ، نثبت خطها، [ونبدل حكمها] . 1749 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) ، نثبت خطها، ونبدل حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود. 1750 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود: (ما ننسخ من آية) نثبت خطها، [ونبدل حكمها] . (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قوله ذلك. فقرأها أهل المدينة والكوفة: (أو ننسها) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل.   (1) الأثر: 1750 - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير 1: 273 ثم 274. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: (ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها) ، فذلك تأويل:"النسيان". وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1751 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع. 1752 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) ، قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وينسخ ما شاء. 1753 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها) ، نرفعها من عندكم. 1754 - حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها) ، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه. (1) * * * وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها: (أو تَنسها) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد * ذكر الأخبار بذلك: 1755 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يعلى   (1) الأثر: 1754 - انظر الأثر السالف: 1745 والتعليق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 بن عطاء، عن القاسم [بن ربيعة] قال، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (ما ننسخ من آية أو تنسها) ، قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: (أو تُنْسها) ، (1) قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: 6] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (2) [سورة الكهف: 24] . 1756 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه. (3) 1757 - حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تُنسها) فقال سعد: إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي: (ما ننسخ من آية أو تنسها) يا محمد. ثم قرأ: (سنقرئك فلا تنسى) و (واذكر ربك إذا نسيت) . (4) 1758 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن   (1) في المطبوعة: "أو ننسها". والصواب ما أثبت، وفي ابن كثير 1: 275"أو ننساها، ولكن أبا حيان نص في البحر المحيط 1: 334 على أن قراءة سعيد"أو تنساها" بغير همزة بضم التاء، وأما ابن خالوية فقد نص في شواذ القراآت: 9 قال: "أو تنسها" كذلك، إلا أنه لم يسم فاعله. سعيد بن المسيب". فأثبت هذا، لأنها هي رسم ما في نص الطبري. وانظر الآثار الآتية: 1756، 1757، والمستدرك للحاكم 2: 242. (2) الأثر: 1755 - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير 1: 275. والقاسم بن ربيعة، هو القاسم بن عبد الله بن ربيعة بن قانف الثقفي، وربما نسب إلى جده. وهو ابن ابن أخي ليلى بنت قانف الصحابية. روى عن سعد بن أبي وقاص في قوله: "ما ننسخ من آية"، وعنه يعلى بن عطاء العامري. ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر: قرأت بخط الذهبي: ما حدث عنه سوى يعلى (تهذيب التهذيب 8: 320) . وانظر رقم: 1756، 1757. (3) الأثر: 1756 - في المطبوعة: "بن قانف" وهو"قانف" بقاف ثم نون ثم فاء. هكذا نص عليه في الإصابة في ترجمة: "ليلى بنت قانف". (4) الأثر 1757 - انظر الأثرين السالفين. وقال الحاكم في المستدرك 2: 242: "هذا حديث صحيح عى شرط الشيخين، ولم يخرجاه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 أبيه، عن الربيع في قوله: (ما ننسخ من آية أو نُنسها) ، يقول:"ننسها": نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها. * * * والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى"الترك"، من قول الله جل ثناؤه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67] ، يعني به: تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1759 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (أو نَنسها) ، يقول: أو نتركها لا نبدلها. (1) 1760 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (أو ننسها) ، نتركها لا ننسخها. 1761 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) ، قال: الناسخ والمنسوخ. * * * قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما:- 1762 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (نُنسها) ، نمحها. * * * وقرأ ذلك آخرون: (أو ننسأها) بفتح النون وهمزة بعد السين، بمعنى نؤخرها، من قولك:"نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء"، إذا أخرته، وهو من قولهم:"بعته   (1) الأثر: 1759 - في تفسير ابن كثير: "أو ننساها". والصواب ما في الطبري، بفتح النون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 بنساء، يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد: لعمرك إن الموت ما أَنْسَأ الفتى ... لكالطِّوَل المُرْخى وثِنْياه باليد (1) يعني بقوله"أنسأ"، أخر. وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1763 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: (ما ننسخ من آية أو نَنْسأها) ، قال: نؤخرها. 1764 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله: (أو ننسأها) ، قال: نُرْجئها. 1765 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو ننسأها) ، نرجئها ونؤخرها. 1766 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل، عن عطية: (أو ننسأها) ، قال: نؤخرها فلا ننسخها. 1767 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي، عن عبيد بن عمير (أو ننسأها) ، إرجاؤها وتأخيرها. هكذا حدثنا القاسم، عن عبد الله بن كثير،"عن عبيد الأزدي"، وإنما هو عن"علي الأزدي". 1768 - حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن علي الأزدي، عن عبيد   (1) ديوانه: 318 (من أشعار الستة الجاهليين) من معلقته المشهورة. وروايتهم: "ما أخطأ الفتى". والطول: حبل يطول للدابة لترعى وهي مشدودة فيه. وثنياه" طرفاء. أي إنه لا يفلت من حبال المنية، وإن أخر في أجله. وما أصدق ما قال! ولكننا ننسى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 بن عمير أنه قرأها: (ننسأها) . (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها. * * * وقد قرأ بعضهم ذلك: (ما ننسخ من آية أو تُنسها) . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: (أو نُنسها) ، إلا أن معنى (أو تُنسها) ، أنت يا محمد. * * * وقد قرأ بعضهم: (ما نُنسخ من آية) ، بضم النون وكسر السين، بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من"أنسختك فأنا أنسخك". وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ (تُنسها) أو (تَنسها) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة. وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب، من قرأ: (أو نُنْسها) بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان ذلك معناها، أن يكون - إذ قدم الخبر   (1) الخبران: 1767، 1768 - أبان الطبري في الإسناد الأول أن شيخه القاسم قال في الإسناد:"عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي"، وبين أن صوابه"عن علي الأزدي". ثم ساق الإسناد الثاني على الصواب. وهو كما قال عبد الله بن كثير الداري المكي: هو القارئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2 /144. علي الأزدي: هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي، وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1/193.عبيد بن عمير - بالتصغير فيهما -: هو الليثي الجندعي المكي، ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة، وأثنى عليه الناس خيرا في مجلس ابن عمر، في المسند: 5359. مترجم في التهذيب، والإصابة 5: 79، وابن سعد 5: 341 - 342،وابن أبي حاتم 2/2/409. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية) . قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك، (1) ومعنى "النَّساء" الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك. * * * وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: (أو نَنْسها) ، إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه شيئا، ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) [الإسراء: 86] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم. * * * قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا. 1769 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا:"بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا". ثم إن ذلك رفع. (2)   (1) قد رد أهل اللغة أن يكون الإنساء بمعنى الترك، وقالوا: إنما يقال نسيت: إذا تركت، لا يقال: أنسيت، تركت. وانظر ما جاء في ذلك في اللسان (نسي) ، وسائر كتب التفسير. (2) الحديث: 1769 - يزيد بن زريع - بضم الزاي - العيشي: ثقة حافظ حجة، روى عنه شعبة والثوري وغيرهما من الكبار. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/335، وابن سعد 7 / 2 / 44 وابن أبي حاتم 4/2/263 - 265. وسعيد: هو ابن أبي عروبة. وهذا الحديث مختصر من حديث لأنس، في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة. ورواه الأئمة عن أنس، من أوجه مختلفة. فمن ذلك: أنه رواه البخاري 7: 297 (فتح الباري) ، عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، بهذا الإسناد. وفي آخره: "قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا، أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا". وروى مسلم 1: 187 - 188، من رواية مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس. وانظر تفصيل ذلك في تاريخ ابن كثير4: 71 - 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 1770 - والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون:"لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". ثم رفع. (1) وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز. وأما قوله: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) ، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) [الأعلى: 6-7] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله. فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله. (2) * * *   (1) الحديث: 1770 - ذكره الطبري تعليقا. وهو جزء من حديث طويل، رواه مسلم 1: 286، من حديث أبي موسى الأشعري. وذكره السيوطي في الدر المنثور1: 105، ونسبه أيضًا لابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل. وقد أفاض السيوطي في الإتقان 2: 29 - 32 (طبعة المطبعة الموسوية بمصر سنة 1287) - في هذا البحث، ونقل روايات كثيرة فيه. (2) في المطبوعة: "قد كان آتى نبيه بعض ما ننسخ"، والصواب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 القول في تأويل قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) . فقال بعضهم بما:- 1771 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (نأت بخير منها أو مثلها) ، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم. * * * وقال آخرون بما: 1772 - حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) ، يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، (1) فيها أمر، فيها نهي. * * * وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها. * ذكر من قال ذلك: 1773 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (نأت بخير منها) ، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثلها، أو مثل التي تركناها. * * * "فالهاء والألف" اللتان في قوله: (منها) - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله: (ما ننسخ من آية) . و"الهاء والألف" اللتان في قوله: (أو مثلها) ، عائدتان على"الهاء والألف" اللتين في قوله: (أو ننسها) . * * * وقال آخرون بما:- 1774 - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) في تفسير ابن كثير: 1: 275"فيها رخصة" مكان: "فيها رحمة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها) : نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها. (1) 1775 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (أو نُنسها) ، نرفعها، نأت بخير منها أو بمثلها. (2) 1776 - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود مثله. * * * والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم = وإما في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: (نأت بخير منها) . لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام.   (1) الأثر: 1774 - مضى شطره برقم: 1753. (2) الأثر: 1775 - مضى شطره برقم: 1758. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة. لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو معنى"المثل" الذي قال جل ثناؤه: (أو مثلها) . * * * وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) : ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر"الآية" من ذكر"حكمها". وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة: 93] ، بمعنى حب العجل، ونحو ذلك. (1) * * * فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم -أيها المؤمنون- حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب. * * * فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: (وأشربوا في قلوبهم العجلَ) ، أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فما الذي يدل على أن قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) - لذلك نظير؟ قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) ، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض. (2) * * *   (1) انظر ما سلف من هذا الجزء 2: 357 - 360. (2) من شاء أن يرى كيف كان أبو جعفر رضي الله عنه يبصر معنى كل حرف، متحريا للحق والصواب حريصا على دلالة كل كلمة، فليقرأ أمثال هذا القول فيما مضى وفيما يستقبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم = عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة = وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير. * * * ومعنى قوله: (قدير) في هذا الموضع: قوي. يقال منه:"قد قدرت على كذا وكذا"، إذا قويت عليه"أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقِدرانا ومقدرة"، وبنو مرة من غطفان تقول:"قدِرت عليه" بكسر الدال. (1) فأما من"التقدير" من قول القائل:"قدرت الشيء"، فإنه يقال منه"قدرته أقدِره قدْرا وقدَرا". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) } قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك؟   (1) انظر ما سلف 1: 361. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 قيل: بلى! فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا، فيقول أحدهما لصاحبه:"ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟ " بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه، يريد: أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك. * * * قال أبو جعفر: وهذا لا وجه له عندنا. وذلك أن قوله جل ثناؤه: (ألم تعلم) ، إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات، وإما بمعنى النفي، فأما بمعنى الإثبات، فذلك غير معروف في كلام العرب، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد. ولكن ذلك عندي، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) . لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه. وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح: أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة، والمقصود به أحدهم. من ذلك قول الله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الأحزاب: 1-2] ، فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 إلى السراج المنير أحمد، لا ... يَعْدِلني رغبة ولا رهب (1) عنه إلى غيره ولو رفع الن ... اس إليّ العيونُ وارتقبوا (2) وقيل: أفرطتَ! بل قصدتُ ولو ... عنفني القائلون أو ثَلَبُوا (3) لج بتفضيلك اللسان، ولو ... أكثر فيك الضِّجاج واللجَب (4) أنت المصفي المحض المهذب في الن ... سبة، إن نص قومَك النسب (5) فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قاصد بذلك أهل بيته، فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين. لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله. (6)   (1) الهاشميات: 34، والحيوان للجاحظ 5: 170 - 171. (2) "عنه إلى غيره" متعلق بقوله: لا يعدلني. . "، في البيت قبله. (3) أفرطت: أي جاوزت الحد. و"قصدت" من القصد: وهو العدل بين الإفراط والتقصير. والثلب: العيب والذم. (4) قوله"فيك" أي بسببك ومن أجلك. والضجاج مصدر: ضاجه يضاجه (بتشديد الجيم) مضاجة وضجاجا: وهو المشاغبة مع الصياح والضجيج. واللجب: ارتفاع الأصوات واختلاطها طلبا للغلبة. (5) هذب الشيء: نقاء وخلصه وطهره من كل ما يعيبه. وقوله"المهذب في النسبة"، أي المهذب النسبة، وأدخل"في" للتوكيد، بمعنى الزيادة. ونص الشيء: رفعه وأظهره وأبانه. يعني أبان فضلهم على غيرهم. (6) من شاء أن يعرف فضل ما بين عقلين من عقول أهل الذكاء والفطنة، فلينظر إلى ما بين قول أبي جعفر في حسن تأتيه، وبين قول الجاحظ في استطالته بذكائه حيث يقول في كتابه الحيوان 5: 169 - 171. ومن المديح الخطأ، الذي لم أر قط أعجب منه قول الكميت بن زيد، وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: فلو كان مديحه لبني أمية لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم، أو لو مدح به بعض بني هاشم، لجاز أن يعترض عليه بعض بني أمية، أو لو مدح أبا بلال الخارجي لجاز أن تعيبه العامة، أو لو مدح عمرو بن عبيد لجاز أن يعيبه المخالف، أو لو مدح المهلب، لجاز أن يعيبه أصحاب الأحنف، فأما مديح النبي صلى الله عليه وسلم. فمن هذا الذي يسوؤه ذلك؟ " ثم أنشد الأبيات السالفة، وقال:"ولو كان لم يقل فيه عليه السلام إلا مثل قوله: وبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به وله أهل بذلك يثرب لقد غيبوا برا وحزما ونائلا ... عشية واراك الصفيح المنصب فلو كان لم يمدحه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب، لما كان بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا؟ ". والجاحظ تأخذ قلمه أحيانا مثل الحكة، لا تهدأ من ثوراتها عليه حتى يشتفى منها ببعض القول، وببعض الاستطالة، وبفرط العقل! ومع ذلك، فإن النقاد يتبعون الجاحظ ثقة بفضله وعقله، فربما هجروا من القول ما هو أولى، فتنة بما يقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وكما قال جميل بن معمر: ألا إن جيراني العشية رائح ... دعتهم دواع من هوى ومنادح (1) فقال:"ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثم قال:"رائح"، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى: خليلي فيما عشتما، هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي (2) وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها، وهو يعنيها. فكذلك قوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مقصود به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة قوله: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى   (1) لم أجد البيت فيما طبع من شعر جميل، ولا فيما جمعته منه. والمنادح: البلاد الواسعة البعيدة. كأنهما جمع مندوحة، حذفت ياؤه. وقال تميم بن أبي بن مقبل. وإني إذا ملت ركابي مناخها ... ركبت، ولم تعجز على المنادح وربما حسن أن يقال: إنه جمع لا واحد له من لفظه، كمحاسن مشابه، والواحد من ذلك ندح وجمعه أنداح: وهو ما اتسع من الأرض. (2) الأمالي 2: 74، والأغاني 1: 117، 7: 140، وهي قصيدة من جيد شعر جميل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 من قبل) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك. (1) * * * أما قوله: (له ملك السموات والأرض) ولم يقل: ملك السموات، فإنه عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "المِلك". والعرب إذا أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان، قالت: "ملك الله الخلق مُلكا". وإذا أرادت الخبر عن "المِلك" قالت: "ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلكا ومَلَكة ومَلْكا. * * * فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر منها ما أشاء؟ * * * وهذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرَهم بما شاء ونهيَهم عما شاء، ونسخ ما شاء، وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ، من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا قيم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم، والدفاع عنكم، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتى أعلي حجتكم،   (1) انظر ما سيأتي بعد قليل: 499 - 500. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وأجعلها عليهم لكم. * * * و"الولي" معناه"فعيل" من قول القائل:"وَلِيت أمر فلان"، إذا صرت قيِّما به،"فأنا أليه، فهو وليه" وقَيِّمُه. ومن ذلك قيل:"فلان ولي عهد المسلمين"، يُعْنَى به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين. * * * وأما"النصير" فإنه"فعيل" من قولك:"نصرتك أنصرك، فأنا ناصرك ونصيرك"، وهو المؤيد والمقوي. * * * وأما معنى قوله: (من دون الله) ، فإنه سوى الله، وبعد الله، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: يا نفس مالك دون الله من واقي ... وما على حدثان الدهر من باقي (1) يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره. * * * فمعنى الكلام إذا: وليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيم بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم، فيعينكم على أعدائكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية. فقال بعضهم بما: 1777 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير - وحدثنا   (1) ديوانه: 43. ومثله قول ابن أحمر: إن نحن إلا أناس أهل سائمة ... وما لهم دونها حرث ولا غُرر يريد: ليس لنا مال سوى السائمة، فليس لنا زرع ولا خيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل- (1) قالا حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما: (2) (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، الآية. (3) * * * وقال آخرون بما:- 1778 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، وكان موسى يسأل، فقيل له: (أرنا الله جهرة) . 1889 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة. * * * وقال آخرون بما:- 1780 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا، قال: نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم"! فأبوا ورجعوا. 1781 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) في المطبوعة: "قال حدثنا إسحاق" والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "من قولهم"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام. (3) الأثر 1777 - في سيرة ابن هشام 2: 197. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 ابن جريج، عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال:"نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة. 1782 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وقال آخرون بما:- 1783 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية قال، قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل، قال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110] . قال: وقال:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن". وقال:"من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك". فأنزل الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) . (1) * * *   (1) الحديث: 1783 - هذا حديث مرسل، من مراسيل أبي العالية. وقد نقله ابن كثير 1: 279، عن الطبري. ونقله السيوطي 1: 107، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم. وأبو العالية الرياحي: ثقة من كبار التابعين، كما قلنا في: 184. ونزيد هنا أنه مترجم في التهذيب والكبير 2/1/298، والصغير: 109، وابن سعد 7 /1 /81 - 85، وابن أبي حاتم 1/510 والإصابة 2: 221. ولكن الاحتجاج بحديثه - كغيره من التابعين فمن بعدهم - هو في الإسناد المتصل، أما المرسل والمنقطع، فلا حجة فيهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 واختلف أهل العربية في معنى (أم) التي في قوله: (أم تريدون) . فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام. وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟ * * * وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام، كأنك تميل بها إلى أوله، كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء" و"لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟ " قال: وليس قوله: (أم تريدون) على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل: كذبَتْك عينُك أم رأيت بواسط ... غَلَس الظلام من الرَّباب خيالا (1) * * * وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: (أم تريدون) استفهاما على كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه: (الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [السجدة: 1-3] ، فجاءت"أم" وليس قبلها استفهام، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه. وقال قائل هذه المقالة:"أم" في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين: إحداهما أن تُفَرِّق معنى"أي"، (2) والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق، والذي ينوي بها الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام. (3) فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلا بـ "الألف" أو بـ "هل". (4)   (1) ديوانه: 41، ونقائض جرير والخطل: 70. وواسط: قرية غربي الفرات مقابل الرقة من أعمال الجزيرة، وهي من منازل بني تغلب، وهي غير واسط التي بناها الحجاج بين البصرة والكوفة. الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بتباشير الصباح، فهي سواد مختلط ببياض وحمرة. (2) في المطبوعة: "تعرف معنى أي"، وفي لسان العرب (أمم 14: 300) : "أن تفارق معنى أم" وكلتاهما خطأ صرف. والصواب في معاني القرآن للفراء1: 71. وذلك أن قولك: أزيد عندك أم عمرو"، معناه أيهما عندك. وبين أن"أم" تفرق الاستفهام، وأن"أي" تجمع متفرق الاستفهام. وقد قال الطبري فيما سلف في هذا الجزء 2: 198: "إن أصل"أي" و"ما" جمع متفرق الاستفهام". (3) في المطبوعة: "وتكون على جهة النسق، وللذي ينوى به الابتداء"، والصواب من معاني القرآن للفراء. (4) هذا نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 قال: وإن شئت قلت في قوله: (أم تريدون) ، قبله استفهام، فرد عليه وهو في قوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) . (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل: أنه استفهام مبتدأ، بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز، أن يستفهم القوم بـ "أم"، وإن كانت"أم" أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: (الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [السجدة: 1-3] وقد تكون"أم" بمعنى"بل"، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه"أي"، فيقولون:"هل لك قِبَلَنا حق، أم أنت رجل معروف بالظلم؟ " (2) وقال الشاعر: فوالله ما أدري أسلمى تغولت ... أم النوم أم كل إلي حبيب (3) يعني: بل كل إلي حبيب. وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن"أم" في قوله: (أم تريدون)   (1) وهذا أيضًا بعض نص الفراء في معاني القرآن. (2) هذا أيضًا ذكره الفراء. ثم قال بعده: "يريدون: بل أنت رجل معروف بالظلم". (3) لم أعرف قائله. وسيأتى في تفسيره 20: 6 (بولاق) على الصواب، وفي معاني القرآن للفراء 1: 72، واللسان (أمم) ، والصاحبي: 98. وفي المطبوعة هنا: "تقولت. . أم القول، وهو خطأ محض. وقوله: "تغولت"، أي تصورت في صورة امرأة أحسها وأراها. من تغول الغول: وهي أن تتلون وتتخيل في صور شتى. يعنى أنها بعيدة لا شك في بعدها، ولكنه يخال أنه يراها أمامه ماثلة قائمة. وقال الأخطل: وتعرضت لك بالأباطح بعد ما ... قطعت بأبرق خلة ووصالا وتغولت لتروعنا جنية ... والغانيات يرينك الأهوالا ثم يقول: "أم النوم" أي: أم هو حلم. بل كلاهما حبيب إلى، يعني أي ذلك كان، فهو حبيب إلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 استفهام مستقبل منقطع من الكلام، يميل بها إلى أوله -: إن الأول خبر، والثاني استفهام، والاستفهام لا يكون في الخبر، والخبر لا يكون في الاستفهام، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر، فاستفهم. * * * قال أبو جعفر: فإذا كان معنى"أم" ما وصفنا، فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا -إن مُنِعتموه- في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه، (1) فأعطاكموه، ثم كفرتم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم، فلما أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها، بعد إعطاء الله إياها سؤلها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يتبدل) ، ومن يستبدل "الكفر"، (2) ويعني بـ "الكفر"، الجحود بالله وبآياته، (3) (بالإيمان) ، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به. (4) وقد قيل: عنى بـ "الكفر" في هذا الموضع: الشدة، وبـ "الإيمان" الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني"الكفر"، ولا الرخاء في معنى"الإيمان"، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله"الكفر" بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله"الإيمان" في معنى الرخاء -: ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد، وما أعد الله لأهل   (1) في المطبوعة: "أو أتهلكوا" خطأ. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 130. (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 1: 255، 382، 552 وغيرها بعدها. (4) انظر ما سلف 1: 234 - 235، 271، 560 وغيرها بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 الإيمان فيها من النعيم، فيكون ذلك وجها، وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب. * ذكر من قال ذلك: 1784 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) ، يقول: يتبدل الشدة بالرخاء. 1785 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية بمثله. * * * وفي قوله: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) ، دليل واضح على ما قلنا: (1) من أن هذه الآيات من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم، مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك، وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم المكاره، ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا، فقد أخطأ قصد السبيل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) } قال أبو جعفر: أما قوله: (فقد ضل) ، فإنه يعني به ذهب وحاد. وأصل"الضلال عن الشيء"، الذهاب عند والحيد، (3) ثم يستعمل في الشيء الهالك،   (1) انظر ما سلف قريبا: 462 - 466، 484 - 488، وانظر ما سيأتي قريبا: 498، 499 (2) في المطبوعة: "المؤمنين به أصحاب رسول الله. . "، وزيادة"به" خطأ. (3) انظر ما سلف 1: 195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 والشيء الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة: "ضُل بن ضُل"، و "قُل بن قُل"، وكقول الأخطل، في الشيء الهالك: كنتَ القَذَى في موجِ أكدر مُزْبدٍ ... قذف الأتِيُّ به فضل ضلالا (1) يعني: هلك فذهب. * * * والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: (فقد ضل سواء السبيل) ، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه. * * * وأما تأويل قوله: (سواء السبيل) ، فإنه يعني بـ "السواء"، القصد والمنهج. وأصل"السواء" الوسط. ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال:"ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي"، يعني: وسطي. وقال حسان بن ثابت: يا ويح أنصار النبي ونسله ... بعد المغيب في سواء الملحد (2)   (1) ديوانه: 50، ونقائض جرير والأخطل: 83 وسيأتي في تفسير الطبري 3: 219 / 21: 61 (بولاق) . وقوله: "كنت"، يعني جريرا، وهو جواب"إذا"، فقبل البيت: وإذا سما للمجد فرعا وائل ... واستجمع الوادي عليك فسالا " فرعا وائل" يعني بكرا وتغلب رهط الأخطل. والقذي" ما يكون فوق الماء من تبن وورق وأعواد. وفي المطبوعة هنا: "أكبر" مكان"أكدر"، وهو تصحيف، وأتى على صوابه في الموضعين الآخرين من التفسير. وقوله"أكدر" يعني بحرا متلاطما، فكدر بعد صفاء. ومزبد: بحر هائج مائج يقذف بالزبد. والأتي: السيل الذي يأتي من مكان بعيد. وقوله: "قذف الآتي به"، صفة للقذى. يقول: كنت عندئذ كالقذى رمى به السيل في بحر مزبد لا يهدأ موجه، فهلك هلاكا. ورواية الديوان: "في لج أكدر". (2) ديوانه: 98، وسيأتي في تفسير الطبري 10: 20 (بولاق) ، وهكذا جاءت الرواية هنا"نسله"، وأظنها خطأ من ناسخ أو خطأ في رواية. ورواية الديوان وما سيأتي في الطبري، وغيرهما"ورهطه". وهو من رثاء حسان رسول الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وعنى بقوله: "ورهطه" المهاجرين رضي الله عنهم. والمغيب مصدر غيبه في الأرض: واراه. و"الملحد" بضم الميم وفتح الحاء بينهما لام ساكنة: هو اللحد، والقبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 يعني بالسواء: الوسط. والعرب تقول:"هو في سواء السبيل"، يعني في مستوى السبيل،"وسواء الأرض": مستواها، عندهم. وأما"السبيل"، فإنها الطريق المسبول، صرف من"مسبول" إلى"سبيل". (1) * * * فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر، فيرتد عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول. (2) وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق، والمعْنِيُّ به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه، وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه، طلباتهم في آخرتهم، (3) كالذي يدرك اللازم محجة السبيل = بلزومه إياها = طلبته من النجاة منها، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - (4) في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده، (5) وذهابه عما أمل من ثواب عمله، وبعده به من ربه، مثلَ الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه، (6) إلا ازداد من موضع حاجته بعدا،   (1) لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري: "مسبول". ويهون ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك. (2) لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري: "مسبول". ويهون ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك. (3) في المطبوعة: "لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم. . " وقوله: "إدراكهم" زائدة من ناسخ. (4) في المطبوعة: "والحائد عن اتباع ما دعاه. . "، وأظن الصواب ما أثبت. (5) في المطبوعة: "في حياته ما رجا أن يدركه. . "، وهي مصحفة ولا شك، وأثبت ما أداني إليه اجتهادي في قراءته. لأنهم يقول أخطأ الطريق، وأخطأ ما ابتغى، إلى أشباه ذلك. (6) الوغول، مصدر"وغل يغل وغولا"، إذا ذهب فأبعد المذهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا. وهذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها، هي الصراط المستقيم"، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه، (1) وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، (2) تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك: (3) لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود:"راعنا"، تأسيا منكم بهم، ولكن قولوا:"انظرنا واسمعوا"، فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم   (1) في المطبوعة: "للمؤمنين وأصحابه"، وكأنه الصواب ما أثبت. (2) سياق العبارة: أو من استعمل. . الجفاء، واستعمل ما لم يكن له استعماله معه، تأسيا باليهود. (3) في المطبوعة: "قال لهم ربهم"، والصواب زيادة الفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 من خير من ربكم، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة. * * * وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: (ود كثير من أهل الكتاب) ، كعب بن الأشرف. 1786 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب) ، هو كعب بن الأشرف. 1787 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان العمري، عن معمر، عن الزهري وقتادة: (ود كثير من أهل الكتاب) ، قال: كعب بن الأشرف. (1) وقال بعضهم بما:- 1788 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهِدَين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) الآية. (2) * * * قال أبو جعفر: وليس لقول القائل عنى بقوله: (ود كثير من أهل الكتاب)   (1) الأثر: 1787 - في المطبوعة: "أبو سفيان المعمري". وهو محمد بن حميد اليشكري المعمري البصري نزيل بغداد، قيل له المعمري" لأنه رحل إلى معمر بن راشد الأزدي. وهو ثقة صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: "في حديثه نظر" مات سنة 182 (تهذيب التهذيب 9: 132) . (2) الأثر: 1788 - في سيرة ابن هشام 2: 197. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 كعب بن الأشرف، معنى مفهوم. لأن كعب بن الأشرف واحد، وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم، والواحد لا يقال له"كثير"، بمعنى الكثرة في العدد، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية، الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته، كما يقال:"فلان في الناس كثير"، يراد به كثرة المنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال: (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا) ، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد = أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة، والمقصود بالخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل، (1) فيكون ذلك أيضا خطأ. وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه، ولا دلالة تدل في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} قال أبو جعفر: ويعني جل ثناؤه بقوله: (حسدا من عند أنفسهم) ، أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر، حسدا منهم وبغيا عليهم. * * * و"الحسد" إذا منصوب على غير النعت للكفار، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر، كقول القائل لغيره:"تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك"، فيكون"الحسد" مصدرا   (1) انظر ما سلف قريبا: 487 قوله: "ألا إن جيراني العشية رائح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 من معنى قوله:"تمنيت من السوء". لأن في قوله تمنيت لك ذلك، معنى: حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب"الحسد"، لأن في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) ، معني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما، ولم يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله: (حسدا) ، مصدرا من ذلك المعنى. * * * وأما قوله: (من عند أنفسهم) ، فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم، كما يقول القائل:"لي عندك كذا وكذا"، بمعنى: لي قبلك، وكما: 1789 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله: (من عند أنفسهم) ، قال: من قبل أنفسهم. (1) وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب -الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم- الحقُّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه، كما:-   (1) الأثر: 1789 - كان هذا الإسناد مبتورا، فأتممه استظهارا من الإسناد الدائر في التفسير في مئات المواضع السالفة، أقربها رقم: 1647 وسيأتي أيضًا رقم: 1792، وكان الأثر نفسه مبتورا فأتممته من تفسير ابن كثير 1: 280، والدر المنثور 1: 107. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 1790 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام دين الله. 1791 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، يقول: تبين لهم أن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. 1792 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله - وزاد فيه: فكفروا به حسدا وبغيا، إذْ كان من غيرهم. 1793 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، قال: الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم، فتبين لهم أنه هو الرسول. 1794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، قال: قد تبين لهم أنه رسول الله. * * * قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله، عناد، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون، كما:- 1795 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فاعفوا) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) ، [النساء: 46] ، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين به: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) . [التوبة: 29] . فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا، كما:- 1796- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) ، ونسخ ذلك قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، [التوبة: 5] 1797- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) ، فأتى الله بأمره فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، حتى بلغ (وهم صاغرون) ، أي: صغارا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 ونقمة لهم. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) . 1798- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) ، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا. فأحدث الله بعد فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، إلى: (وهم صاغرون) . 1799- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) قال: نسختها: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) . 1800- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) ، قال: هذا منسوخ، نسخه (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، إلى قوله: (وهم صاغرون) . * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) } قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"القدير"، وأنه القوي. (1) فمعنى الآية ههنا: إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم، (2) وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه، لأن له الخلق والأمر. * * *   (1) انظر ما سلف قريبا: 484 وفي 1: 361. (2) في المطبوعة: "إن شاء الله الانتقام منهم" والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"إقامة الصلاة"، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل"الصلاة" وما أصلها، وعلى معنى"إيتاء الزكاة"، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووجبت، وعلى معنى"الزكاة" واختلاف المختلفين فيها، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وأما قوله: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) ، فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به. * * * و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: (تجدوه) ، والمعنى: تجدوا ثوابه، كما:- 1801- حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (تجدوه) يعني: تجدوا ثوابه عند الله. قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه، كما قال عمر بن لجأ: (2) وسبحت المدينة لا تلمها ... رأت قمرا بسوقهم نهارا (3) وإنما أراد: وسبح أهل المدينة.   (1) انظر ما سلف 1: 241 - 242، ثم 1: 573 - 574. (2) في المطبوعة: "عمرو بن لجأ"، وهو خطأ. (3) سلف هذا البيت وتخريجه في 1: 279. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (راعنا) ، إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها. (1) وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا. وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه، كما قال: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) ، وليحذروا معصيته، إذْ كان مطلعا على راكبها، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وعد عليه فمأمور به. * * * وأما قوله: (بصير) ، فإنه"مبصر" صرف إلى"بصير"، كما صرف"مبدع" إلى"بديع"، و"مؤلم" إلى"أليم". (2) * * *   (1) في المطبوعة: "جزاءه" والصواب من تفسير ابن كثير 1: 281. (2) انظر ما سلف 1: 283، وهذا الجزء 2: 140، 377. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وقالوا) ، وقالت اليهود والنصارى: (لن يدخل الجنة) . * * * فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه، جُمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) الآية - أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. * * * وأما قوله: (من كان هودا) ، فإن في"الهود" قولين: أحدهما أن يكون جمع"هائد"، كما جاء "عُوط" جمع "عائط"، و "عُوذ" جمع "عائذ"، و "حُول" جمع"حائل"، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد. و"الهائد" التائب الراجع إلى الحق. (1) والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع، كما يقال:"رجل صَوم وقوم   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 143. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 صوم"، و "رجل فِطر وقوم فطر، ونسوة فطر". (1) وقد قيل: إن قوله: (إلا من كان هودا) ، إنما هو قوله، إلا من كان يهودا، ولكنه حذف الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي:"إلا من كان يهوديا أو نصرانيا". (2) * * * وقد بينا فيما مضى معنى"النصارى"، ولم سميت بذلك، وجمعت كذلك، بما أغنى عن إعادته. (3) * * * وأما قوله: (تلك أمانيهم) ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان، ولا يقين علم بصحة ما يدعون، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة، كما:- 1802- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (تلك أمانيهم) ، أماني يتمنونها على الله كاذبة. 1803- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (تلك أمانيهم) ، قال: أماني تمنوا على الله بغير الحق. * * *   (1) أخشى أن يكون أبو جعفر قد زل زلة العجلان. فإنه ذكر آنفًا (2: 143) مصدر الفعل: "هاد" وهو"هودا" بفتح فسكون، وعلى ذلك إجماع أهل اللغة، ولم يأت منه مصدر مضموم الهاء، حتى يشبه بقولهم"صوم"، و"فطر"، فهما مصدران. ولا يستقيم كلام أبي جعفر حتى يكون مصدر"هاد يهود هودا" بضم الهاء، ولم يقله هو ولا قاله غيره. فسقط هذا الوجه، حتى تقيمه حجة من رواية صادقة. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 73. (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 143 - 145. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) } قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالوا: (لن يدخل الجنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى أمر عدل بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا: من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون غيرهم من سائر البشر: (هاتوا برهانكم) ، على ما تزعمون من ذلك، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين. * * * والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:- 1804- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (هاتوا برهانكم) ، هاتوا بينتكم. 1805- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (هاتوا برهانكم) ، هاتوا حجتكم. 1806- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (قل هاتوا برهانكم) ، قال: حجتكم. (1) 1807- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (قل هاتوا برهانكم) ، أي: حجتكم. * * * قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، عن أن الذي ذكرنا من الكلام، (2) بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم. * * * وأما تأويل قوله: (قل هاتوا برهانكم) فإنه: أحضروا وأتوا به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ) ، أنه ليس كما قال الزاعمون (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها وينعم فيها، كما:- 1809- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية. * * * وقد بينا معنى (بلى) فيما مضى قبل. (3) * * * وأما قوله: (من أسلم وجهه لله) ، فإنه يعني بـ "إسلام الوجه": التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل"الإسلام": الاستسلام، لأنه"من استسلمت لأمره"، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي"المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:- 1810- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) ، يقول: أخلص لله.   (1) الأثر: 1806 - كان في المطبوعة"حدثنا الحسن" وهو خطأ، إسناد دائر، والحسين هو الحسين بن داود المصيصي، ولقبه"سنيد" عرف به. (2) في المطبوعة: "على أن الذي ذكرنا"، وهو تحريف. (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 280، 281. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا (1) يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له. * * * وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه، لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء، فتضيفه إلى"وجهه" وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى: أَؤُوِّل الحكم على وَجهه ... ليس قضائي بالهوى الجائر (2) يعني بقوله:"على وجهه": على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال ذو الرمة: فطاوعت همي وانجلى وجه بازل ... من الأمر، لم يترك خِلاجا بُزُولُها (3)   (1) سيرة ابن هشام 1: 246 وغيره. (2) ديوانه: 106 من قصيدته المشهورة. في منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، فهجا الأعشى علقمة لأمر كان بينهما. وفضل عليه عامرا. (انظر الأغاني 15: 50 - 56) . وأول الحكم: قدره ودبره ورده إلى صوابه وأصله. والجائر: المائل عن سبيل الحق. جار: ظلم ومال وقبل البيت: علقم، لا تسفه، ولا تجعلن ... عرضك للوارد والصادر وبعده: قد قلت قولا فقضى بينكم ... واعترف المنفور للنافر (3) ديوانه: 560 يمدح عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، في آخر القصيدة، فقال بعد البيت: فقالت: عبيد الله من آل معمر ... إليه ارحل الأنقاض يرشد رحيلها وقوله: "طاوعت همي"، ما هم به في نفسه. يقول: طاوعت ما همت به نفسي. وقوله: "بازل من الأمر" يعني خطة يركبها. هذا مثل. يقال: بزل ناب البعير بزولا، أي طله وانشق وظهر. ومنه قيل: بزل الأمر والرأى: قطعه. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. فقوله"بازل من الأمر" صفة لما أضمره من قوله"خطة"، وأتى بها على التذكير، كما أتوا بها على التذكير في قولهم: "ناقة بازل". والخلاج: الشك والتردد والتنازع. يقول: طاوعت ما جال في نفسي، فانجلى عن خطة ظاهرة انشقت وظهرت، فلم تدع للنفس مذهبا في الشك والتردد، إذ قالت: اقصد عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، (1) إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده، وهو محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر"الوجه" من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر"الوجه". * * * وأما قوله: (وهو محسن) ، فإنه يعني به: في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له، محسنا في فعله ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) } قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، فللمسلم وجهه لله محسنا، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه، عند الله في معاده. * * * ويعني بقوله: (ولا خوف عليهم) ، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون،   (1) الضمير في قوله، "وصفها" إلى العرب، فيما سلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم. * * * ويعني بقوله: (ولا هم يحزنون) ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته. * * * وإنما قال جل ثناؤه: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، وقد قال قبل: (فله أجره عند ربه) ، لأن"من" التي في قوله: (بلى من أسلم وجهه لله) ، في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله: (فله أجره) للفظ، والجمع في قوله: (ولا خوف عليهم) ، للمعنى. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض. * ذكر من قال ذلك: 1811- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، قالا جميعا- حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، إلى قوله: (فيما كانوا فيه يختلفون) (1) 1812- حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. * * * قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين، إعلاما، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض. ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون؛ وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون.   (1) الأثر: 1811 - في سيرة ابن هشام 2: 197 - 198. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟ قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل، من أن إنكار كل فريق منهم، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الآخر، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا. فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا. كما:- 1813- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) ، قال: بلى! قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، وقالت النصارى: (ليست اليهود على شيء) ، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا. 1814- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، قال: قال مجاهد: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء. * * * وأما قوله: (وهم يتلون الكتاب) ، فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه. كما:- 1815- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديقُ موسى، وما جاء به من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون) . فقال بعضهم بما:- 1816- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، (قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم. 1817- حدثنا بشر بن سعيد، عن قتادة: (قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم. * * * وقال آخرون بما:-   (1) الأثر: 1815 - في سيرة ابن هشام 2: 198. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 1818- حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل. * * * وقال بعضهم: عنى بذلك مشركي العرب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم. * ذكر من قال ذلك: 1819- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، فهم العرب، قالوا: ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى، إذْ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل، ولا من جهة النقل المستفيض. وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل، وافتراء الكذب على الله، وجحود نبوة الأنبياء والرسل، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون، وعلى الله مفترون، مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به. لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين، = القائل بعضهم لبعض: لستم على شيء من دينكم - يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل، بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به = فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا. * * * وأما"القيامة" فهي مصدر من قول القائل:"قمت قياما وقيامة"، كما يقال:"عدت فلانا عيادة" و"صنت هذا الأمر صيانة". * * * وإنما عنى"بالقيامة" قيام الخلق من قبورهم لربهم. فمعنى"يوم القيامة": يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. (1) وتأويل قوله: (ومن أظلم) ، وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟ * * * و"المساجد" جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى السجود فيما مضى. (2) فمعنى"المسجد": الموضع الذي يسجد لله فيه، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه:"المجلس"، وللموضع الذي ينزل فيه:"منزل"، ثم يجمع:"منازل ومجالس" نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب"مساجد" في واحد المساجد، وذلك كالخطأ من قائله. * * * وأما قوله: (أن يذكر فيها اسمه) ، فإن فيه وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، فتكون"أن" حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض، وتعلق الفعل بها. والوجه الآخر: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده، فتكون"أن" حينئذ في موضع نصب، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه. (3) * * * وأما قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) ، فإن معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن   (1) انظر ما سلف 1: 523 - 524، وهذا الجزء 2: 101 - 102، 369 (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 104 - 105. (3) قوله: "تكريرا"، أي بدل اشتمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 يذكر فيها اسمه، وممن سعى في خراب مساجد الله. فـ "سعى" إذًا عطف على "منع". * * * فإن قال قائل: ومن الذي عنى بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ؟ وأي المساجد هي؟ قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى، والمسجد بيت المقدس. * ذكر من قال ذلك: 1820- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، أنهم النصارى. 1821- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. 1822- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وقال آخرون: هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى، والمسجد: مسجد بيت المقدس. * ذكر من قال ذلك:- 1823- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، الآية، أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. 1824- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 معمر، عن قتادة في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، قال: هو بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى. 1825- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، قال: الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس، حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. * * * وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام. * ذكر من قال ذلك: 1826- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، قال: هؤلاء المشركون، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم:"ما كان أحد يرد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق! وفي قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) قال: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره، (1) ويأتيها للحج والعمرة. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) النصارى. وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر   (1) في المطبوعة: "قالوا إذا قطعوا"، والصواب من تفسير ابن كثير 1: 285 فهذا جزء من من الأثر، والقائل هو: ابن زيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده. والدليل على صحة ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) ، إلا أحد المسجدين، إما مسجد بيت المقدس، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك = وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه = صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده، غير الذين وصفهم الله بعمارتها. إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية، وبعمارته كان افتخارهم، وإن كان بعض أفعالهم فيه، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم. وأخرى، أن الآية التي قبل قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام قبلها، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) - إليهم وإلى المسجد الحرام. وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت. (1) فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك، إذْ كان المسلمون لم يلزمهم   (1) أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري في تفسير الآية، في تفسيره 1: 285 / 287 وقال:"اختار ابن جرير القول الأول، واحتج- بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعت في تخريب بيت المقدس، قال ابن كثير: والذي يظهر والله أعلم، القول الثاني، كما قاله ابن زيد ... " ثم قال:"وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم.." ثم استدل بآيات من كتاب الله وقال:"ليس المراد بعمارتها، زخرفتها وإقامة صورتها، فقط، إنما عمارتها بذكر الله وإقامة شرعه فيها" إلى آخر ما قاله. هذا الاعتراض من ابن كثير على أبي جعفر رحمهما الله، ليس يقوم في وجه حجة الطبري على صواب ما ذهب إليه في تأويل الآية. والطبري لم يغفل عن مثل اعتراض ابن كثير، ولكن ابن كثير غفل عن سياق تأويل الطبري. وصحيح أن ما كان من أمر أهل الشرك في الجاهلية في البيت الحرام يدخل في عموم معنى قوله: {وَسَعَى فِي خَرَابها} ، ولكن سياق الآيات السابقة، ثم التي تليها، توجب-كما ذهب إليه الطبري- أن يكون معنيا بها من كانت الآيات نازلة في خبره وقصته. والآيات السالفة جميعا خبر عن بني إسرائيل الذين كانوا على عهد موسى، وتأنيب لبني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما كان منهم لأهل الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحذير لهم من أهل الكتاب جميعا، يهوديهم ونصرانيهم، وذكر لافتراء الفريقين بعضهم على بعض، وادعاء كل فريق أنه هو الفريق الناجي يوم القيامة. ثم أفرد بعد ذلك أخبار النصارى، كما أفرد من قبل أخبار بني إسرائيل، فعدد سوء فعلهم في منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ثم كذبهم على ربهم أنه اتخذ ولدا، ثم قول بعضهم: {لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية} ، وأن ذلك شيبه بقول اليهود: {أرنا الله جهرة} ، ثم أخبر أنه أرسل رسوله محمدا بشيرا ونذيرا، وأمره أن يعرض عن أهل الجحيم من هؤلاء وهؤلاء، ثم أعلنه أن اليهود والنصارى جميعا لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وطريقهم، في الافتراء على رب العالمين. فالسياق كما ترى، بمعزل عن المشركين من العرب، ولكن ابن كثير وغيره من أئمتنا رضوان الله عليهم، تختلط عليهم المعاني حين تتقارب، ولكن أبا جعفر صابر على كتاب ربه، مطيق لحمله، لا يعجله شيء عن شيء ما استطاع. فهو يخلص معاني كتاب ربه تخليصا لم أجده قط لأحد بعده، ممن قرأ كتابه. وأكثرهم يعترض عليه، ولو صبر على دقة هذا الإمام. لكان ذلك أولى به، وأشبه بخلق أهل العلم، وهم له أهل، غفر الله لنا ولهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 قط فرض الصلاة في [المسجد المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون] توجيه قوله (1) (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد. وإن كان قد دل بعموم قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله، (2) فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا-، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين. * * * القول في تأويل قوله جل ذكره {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها، ما داموا على مناصبة الحرب، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها، كالذي:- 1827- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، وهم اليوم كذلك، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة. 1828- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: قال الله عز وجل: (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، وهم النصارى، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة، إن قدر عليهم عوقبوا. 1829- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أولئك ما كان لهم إن يدخلوها إلا خائفين) ، فليس في الأرض رومي يدخلها   (1) الذي بين القوسين، هكذا جاء في النسخ المطبوعة والمخطوطة السقيمة. ولم أجد نقلا عن أبي جعفر يهديني إلى تصويب هذا الخلط. فاجتهدت أن استظهر سياق كلامه. فأقرب ما انتهيت إليه أن يكون فيه سقطا وتحريفا، وأن يكون سياقه كما يلي: [إذ كان المسلمون هم المخاطبون بالآيات التي سبقت هذه الآية، وكان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في مسجد بيت المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه، وكان النصارى واليهود لم يمنعوهم قط من الصلاة فيه، فيجوز توجيه قوله -:} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} - إلى أنه معنى به مسجد بيت المقدس] . هذا اجتهادي في قراءة هذا النص المختلط، والله أعلم. (2) في المطبوعة: "في مسجد الله"، والصواب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية، فهو يؤديها. 1830- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن ننزل!. * * * وإنما قيل: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، فأخرج على وجه الخبر عن الجميع، وهو خبر عن (من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، لأن"من" في معنى الجميع، وإن كان لفظه واحدا. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) } قال أبو جعفر: أما قوله عز وجل: (لهم) ، فإنه يعني: الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله: (لهم في الدنيا خزي) ، فإنه يعني بـ "الخزي": العار والشر والذلة (2) إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية، كما:- 1831- حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (لهم في الدنيا خزي) ، قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. 1832- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (لهم في الدنيا خزي) ، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم. فذلك الخزي. وأما العذاب العظيم، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 513. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 314. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 في خرابها، ولهم = على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الأرض فسادا = عذاب جهنم، وهو العذاب العظيم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولله المشرق والمغرب) ، لله ملكهما وتدبيرهما، كما يقال:"لفلان هذه الدار"، يعني بها: أنها له، ملكا. فذلك قوله: (ولله المشرق والمغرب) ، يعني أنهما له، ملكا وخلقا. * * * و"المشرق" هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال: لموضع طلوعها منه"مطلع" بكسر اللام، وكما بينا في معنى"المساجد" آنفا. (1) * * * فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد، حتى قيل: (ولله المشرق والمغرب) ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذْ كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق، وما بين قطري المغرب، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها كل يوم. فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت، فلله كل ما دونه (2) الخلق خلقه!   (1) انظر ما سلف قريبا: 519. (2) قوله: "فلله كل ما دونه"، أي كل ما سواه من شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 قيل: بلى! فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع، دون سائر الأشياء غيرها؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع. ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه ذلك بالخبر، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة، ثم حولوا إلى الكعبة. فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي، أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله. * ذكر من قال ذلك: 1833- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [سورة البقرة: 144] إلى قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة: 144-150] ، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: (مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [سورة البقرة: 142] ، فأنزل الله عز وجل: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، وقال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . (1)   (1) الحديث: 1833 - علي: هو ابن أبي طلحة الهاشمي: ثقة، تكلموا فيه. والراجح أن كلامهم فيه من أجل تشيعه. ولكن لم يسمع من ابن عباس، فروى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 52، عن دحيم قال:"إن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير". وروي عن أبيه أبي حاتم مثل ذلك. وفي التهذيب أنه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال:"روى عن ابن عباس، ولم يره". فهذا إسناد ضعيف، لانقطاعه. ولكن معناه ثابت عن ابن عباس، من وجه صحيح. فرواه أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ - فيما نقل ابن كثير 1: 288 -"أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس.." فذكر نحوه. وهذا إسناد صحيح، من جهة رواية ابن جريج عن عطاء، وهو ابن أبي رباح. وأما"عثمان ابن عطاء"، فإنه"الخراساني". وهو ضعيف. وحجاج بن محمد: سمعه منهما، من ثقة ومن ضعيف، فلا بأس. ورواه الحاكم 2: 267 - 268، من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وذكره السيوطي 1: 108، ونسبه لأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 1834- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي نحوه. * * * وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام. وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، (1) كما قال جل وعز: (وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [سورة المجادلة: 7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي   (1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 289 تعليقا على كلمة أبي جعفر رحمه الله: "في قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان - إن أراد علمه تعالى، فصحيح. فإن علمه تعالى، محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله على ذلك علوا كبيرا". قلت: الذي قاله ابن كثير هو عقيدة أبي جعفر رحمه الله، وقد بين ذلك في تفسير سورة المجادلة من تفسيره 28: 10، فلا معنى لتشكك ابن كثير في كلام إمام ضابط من أئمة أهل الحق، وعبارته صحيحة اللفظ، ولكن أهل الأهواء جعلوا الناس يفهمون من عربية الفصحاء معنى غير المعنى الذي تدل عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام. * ذكر من قال ذلك: 1835- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فقال الله: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) [سورة البقرة: 149-150] 1836- حدثنا الحسن قال (1) أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام. 1837- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام قال، حدثنا يحيى قال، سمعت قتادة في قول الله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام. فنسخها الله في آية أخرى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) إِلَى (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة: 144] ، قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة. 1838- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني زيدا - يقول: قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز وجل:   (1) في المطبوعة: "حدثت عن الحسن"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في تفسيره أقربه رقم: 1731. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) الآية [سورة البقرة: 144] . * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف، والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك، بقوله: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) . * ذكر من قال ذلك: 1839- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: (أينما تولوا فثم وجه الله) . (1) 1840- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه قال:"إنما نزلت هذه الآية: (أينما تولوا فثم وجه الله) أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة". (2) * * *   (1) الحديث: 1839 - ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي، سبق توثيقه: 438. عبد الملك: هو ابن أبي سليمان، كما سيأتي في الإسناد التالي لهذا، وقد سبق توثيقه: 1455. والحديث رواه أحمد في المسند: 5001، عن عبد الله بن إدريس، بهذا الإسناد. وسيأتي تمام تخريجه في الذي بعده. (2) الحديث: 1840 - ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، وهو ثقة، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما. بل روى عنه الثوري، وهو أكبر منه. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 1207 -208، وابن أبي حاتم 4/1/57 -58. والحديث رواه أحمد أيضًا: 4714، عن يحيى القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، بنحوه. ورواه مسلم 1: 195، من طريق يحيى، وآخرين. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 4، بأسانيد من طريق عبد الملك. وقد رجحنا في شرح المسند الرواية السابقة، بأن هذه الآية لم تنزل في ذلك، بل هي في معنى أعم، وإنما تصلح شاهدا ودليلا، كما يتبين ذلك من فقه تفسيرها في سياقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عُمِّيت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب، فأنى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، (1) وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية. * ذكر من قال ذلك: 1841- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال،"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة. فأنزل الله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) . (2)   (1) في المطبوعة: "فإن وليتم وجوهكم". والصواب ما أثبت. (2) الحديث: 1841 - أحمد، شيخ الطبري: هو أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، كما سبق نسبه كاملا في: 159، وهو صدوق، من شيوخ أبي داود، مترجم في التهذيب، وأبو أحمد: هو الزبيري. واسمه: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم، وهو ثقة حافظ، من شيوخ الإمام أحمد. مترجم في التهذيب. والكبير 1/1/133 - 134، وابن سعد 6: 281، وابن أبي حاتم 3 /2 /297.أبو الربيع السمان. هو أشعث بن سعيد، سبق في: 24 أنه ضعيف جدا. عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: هو ضعيف، وقد بينا ضعفه في شرح المسند: 5229. عبد الله بن عامر بن ربيعة: ثقة من كبار التابعين. وأبوه صحابي معروف، من المهاجرين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد كلها. والحديث ذكره ابن كثير 1: 289 - 290، عن هذا الموضع. ووقع فيه خطأ في اسم شيخ الطبري، كتب"محمد بن إسحاق"، بدل"أحمد". وهو خطأ ناسخ أو طابع. ثم أشار ابن كثير إلى روايته الآتية: 1843. ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم. ثم نقل كلام الترمذي قال:"هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان: يضعف في الحديث". قال ابن كثير:"قلت: وشيخه عاصم، أيضًا ضعيف قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك. وقد ذهبت في شرحي للترمذي، رقم: 345، إلى تحسين إسناده. ولكني أستدرك الآن، وأرى أنه حديث ضعيف. ونقله السيوطي 1: 109، مع تخريجه وبيان ضعفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 1842- حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد قال، قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت، شك الطبري - (1) فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك، يقول الله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله) . 1843- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أشعث السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر، فلم ندر أين القبلة فصلينا، فصلى كل واحد منا على حياله، (2) ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . (3) * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا في أمره، من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها لي، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي، وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته. * ذكر من قال ذلك: 1844- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن معاذ قال، حدثني أبي، عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم! قال فنزلت (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ) [سورة   (1) لم يرد في كتب اللغة: "أيقظت" لازما، وأخشى أن يكون الطبري يصححها، وأشباهها في العربية كثير. (2) في لسان العرب"فصلى كل منا حياله"، أي تلقاء وجهه، وزيادة"علي" لا تضر المعنى. (3) الحديث: 1843 - هو مكرر الحديث: 1841. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 آل عمران: 199] ، قال: قتادة، فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) . (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق، وأن على جميعهم = إذ كان له ملكهم = طاعته فيما أمرهم ونهاهم، وفيما فرض عليهم من الفرائض، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب، والمراد به من بينهما من الخلق، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه، كما قيل: (وأشربوا في قلوبهم العجل) ، وما أشبه ذلك. (2) ومعنى الآية إذًا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته، فولوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي. * * * فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص، وذلك أن قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، محتمل: أينما تولوا - في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثم وجه الله، كما قال ابن عمر والنخعي، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا.   (1) الحديث: 1844 - هو حديث ضعيف، لأنه مرسل وقد نقله السيوطي 1: 109، ونسبه لابن جرير: وابن المنذر. ونقله ابن كثير 1: 291، عن هذا الموضع. ثم قال: "هذا غريب". وأقول: وسياقته تدل على ضعفه ونكارته. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 357 - 360، 483. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 = ومحتمل: فأينما تولوا - من أرض الله فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها، لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال:- 1845 - أبو كريب قال حدثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك، والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها. 1846- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن ابن أبي بكر، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال، الكعبة. = ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما:- 1847- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: لما نزلت: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر: 60] ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: (فأينما تولوا فثم وجه الله) . * * * فإذ كان قوله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، محتملا ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها. لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، مَعْنِيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم؛ ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس، إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 = ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا - قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا: بأن تكون جاءت بعموم، ومعناها: في حال دون حال - (1) إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا. وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام"، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفى حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. (2) فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه. ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ. * * * وأما قوله: (فأينما) ، فإن معناه: حيثما. * * * وأما قوله: (تولوا) فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون: تولون نحوه وإليه، كما يقول القائل:"وليته وجهي ووليته إليه"، (3) بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله، بمعنى قبلة الله. * * * وأما قوله: (فثم) فإنه بمعنى: هنالك. * * *   (1) في المطبوعة: "أو معناها في حال دون حال"، وهو فاسد. ومراده أن الآية جاءت عامة، وتحتمل أحد معنيين: إما في حال دون حال_ وإما في كل حال، كما فصل بعد. (2) في المطبوعة: "لظاهره"، وانظر ما سلف في معنى"الظاهر والباطن" 2: 15 والمراجع (3) في المطبوعة: "وليت وجهي"، والصواب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 واختلف في تأويل قوله: (فثم وجه الله) (1) فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك وجهه الذي وجههم إليه. * ذكر من قال ذلك: 1848- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: (فثم وجه الله) قال: قبلة الله. 1849- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها. * * * وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فثم الله تبارك وتعالى. * * * وقال آخرون: معنى قوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم. * * * وقال آخرون: عنى بـ "الوجه" ذا الوجه. وقال قائلو هذه المقالة: وجه الله صفة له. * * * فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟ قيل: هي لها مواصلة. وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها، ولله المشرق والمغرب، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه، فإن وجهه هنالك، يسعكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلم ما تعملون، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله، تبتغون به وجهه. * * *   (1) في المطبوعة: "فثم، فقال بعضهم"، والصواب إثبات"وجه الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (واسع) يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير. وأما قوله: (عليم) ، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقالوا اتخذ الله ولدا) ، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، (وقالوا) : معطوف على قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) . * * * وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم: (1) (سبحانه) ، يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل:"سبحان الله"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا. ومعنى ذلك:   (1) في المطبوعة: "ومنفيا ما نحلوه". وانتفى من الشيء: تبرأ منه. ونحله الشيء: نسبه إليه. والفرية: الكذب المختلق. (2) انظر ما سلف 1: 474، 495. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 وكيف يكون المسيح لله ولدا، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إما في السموات، وإما في الأرض، ولله ملك ما فيهما. ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم، لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده، في ظهور آيات الصنعة فيه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون. * ذكر من قال ذلك: 1850- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (كل له قانتون) ، مطيعون. 1851- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (كل له قانتون) ، قال: مطيعون قال، طاعة الكافر في سجود ظله. 1852- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره. 1853- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كل له قانتون) ، يقول: كل له مطيعون يوم القيامة. 1854- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يحيى بن سعيد، عمن ذكره، عن عكرمة: (كل له قانتون) ، قال: الطاعة. 1855- حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قانتون) ، مطيعون. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وقال آخرون: معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية. * ذكر من قال ذلك: 1856- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: (كل له قانتون) ، كل مقر له بالعبودية. * * * وقال آخرون بما:- 1857- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (كل له قانتون) ، قال: كل له قائم يوم القيامة. * * * ولِـ "القنوت" في كلام العرب معان: أحدها الطاعة، والآخر القيام، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه. * * * وأولى معاني "القنوت" في قوله: (كل له قانتون) ، الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: (بل له ما في السموات والأرض) ، ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟ * * * وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وِجْهتَه، أن قوله: (كل له قانتون) ، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها، إلا بحجة يجب التسليم لها، لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام". * * * وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية، عقيب قوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا) ، فدل ذلك على صحة ما قلنا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (بديع السموات والأرض) ، مبدعها. * * * وإنما هو"مُفْعِل" صرف إلى"فعيل" كما صرف"المؤلم" إلى"أليم"، و"المسمع" إلى"سميع". (1) ومعنى"المبدع": المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد. ولذلك سمي المبتدع في الدين"مبتدعا"، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، (2) في مدح هَوْذَة بن علي الحنفي: يُرعي إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم، أو ما شاءه ابتدعا (3) أي يحدث ما شاء، ومنه قول رؤبة بن العجاج: فأيها الغاشي القِذَافَ الأتْيَعَا ... إن كنت لله التقي الأطوعا فليس وجه الحق أن تَبَدَّعا (4) يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 251، وهذا الجزء 2: 140، 377، 506. (2) في المطبوعة: "الأعشى بن ثعلبة"، وهو خطأ محض. (3) سلف تخريجه في هذا الجزء: 2: 464. (4) ديوانه: 87، واللسان (بدع) من رجز طويل يفخر فيه برهطه بني تميم. ورواية الديوان"القذاف الأتبعا"، وليس لها معنى يدرك، ورواية الطبري لها مخرج في العربية. "الغاشي" من قولهم: غشي الشيء: أي قصده وباشره أو نزل به. والقذاف: سرعة السير والإبعاد فيه، أو كأنه أراد الناحية البعيدة، وإن لم أجده في كتب العربية. والأتيع: لم أجده في شيء، ولعله أخذه من قولهم: تتايع القوم في الأرض: إذا تباعدوا فيها على عمى وشدة. يقول: يا أيها الذاهب في المسالك البعيدة عن سنن الطريق- يعني به: من ابتدع من الأمور ما لا عهد للناس به، فسلك في ابتداعه المسالك الغريبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه؟ * * * وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده، أن مما يشهد له بذلك: المسيح، الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1858- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (بديع السموات والأرض) ، يقول: ابتدع خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد. 1859- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بديع السموات والأرض) ، يقول: ابتدعها فخلقها، ولم يُخلق قبلها شيء فيتمثل به. (2) * * *   (1) نقل ابن كثير في تفسيره 1: 294، عبارة الطبري ثم قال: "وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد، وعبارة صحيحة"، فاستحسن ابن كثير ما خف محمله، ولكن ما ثقل عليه آنفًا (انظر ص: 522 تعليق: 1) كان مثارا لاعتراضه، مع أنه أعلى وأجود وأدق وألطف، وأصح عبارة، وأعمق غورا. وهذا عجب من العجب فيما ناله ابن جرير من قلة معرفة الناس بسلامة فهمه، ولطف إدراكه. (2) الأثر: 1859- كان في المطبوعة: "ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به"، وهو كلام فاسد. والصواب في الدر المنثور 1: 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإذا قضى أمرا) ، وإذا أحكم أمرا وحتمه. (1) * * * وأصل كل"قضاء أمر" الإحكام، والفراغ منه. (2) ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس:"القاضي" بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به. (3) ومنه قيل للميت:"قد قضى"، يراد به قد فرغ من الدنيا، وفصل منها. ومنه قيل:"ما ينقضي عجبي من فلان"، يراد: ما ينقطع. ومنه قيل:"تقضي النهار"، إذا انصرم، ومنه قول الله عز وجل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء: 23] أي: فصل الحكم فيه بين عباده، بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) [سورة الإسراء: 4] ، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول أبي ذؤيب: وعليهما مسرودتان، قضاهما ... داود أو صَنَعَ السوابغِ تُبَّعُ (4)   (1) حتم الأمر: قضاه قضاء لازما. (2) كان في المطبوعة: "قضاء الإحكام"، والصواب ما أثبت. (3) في المطبوعة"فراغه" وزيادة"منه" واجبة. (4) ديوانه: 19، والمفضليات: 881 وتأويل مشكل القرآن: 342، وسيأتي في تفسير الطبري 11: 65، 22: 47 (بولاق) ، من قصيدته التي فاقت كل شعر، يرثى أولاده حين ماتوا بالطاعون. والضمير في قوله: "وعليهما" إلى بطلين وصفهما في شعره قبل، كل قد أعد عدته: فتناديا فتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مخدع متحاميين المجد، كل واثق ... ببلائه، واليوم يوم أشنع وعليهما مسرودتان. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . "مسرودتان"، يعني درعين، من السرد، وهو الخرز أو النسج، قد نسجت حلقهما نسجا محكما. وداود: هو نبي الله صلى الله عليه وسلم. وتبع: اسم لكل ملك من ملوك حمير (انظر ما سلف 2: 237) . قال ابن الأنباري: "سمع بأن الحديد سخر لداود عليه السلام، وسمع بالدروع التبعية، فظن أن تبعا عملها. وكان تبع أعظم من أن يصنع شيئا بيده، وإنما صنعت في عهده وفي ملكه". والصنع: الحاذق بعمله، والمرأة: صناع. ويروى: "وعليهما ماذيتان"، يعني درعين. والماذية: الدرع الخالصة الحديد، اللينة السهلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 ويروى: * وتعاورا مسرودتين قضاهما * (1) ويعني بقوله:"قضاهما"، أحكمهما. ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (2) قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بَوائِق في أكمامها لم تَفَتَّقِ (3) ويروى:"بوائج". (4) * * *   (1) "تعاورا"، يعني - كما قالوا: تعاورا بالطعن، مسرودتين. من قولهم: تعاورنا فلانا بالضرب: إذا ضربته أنت ثم صاحبك. ورأيي أنها رواية مرفوضة، لا تساوق لشعر فإنه يقول بعده: وكلاهما في كفه يزنية ... فيها سنان، كالمنارة أصلع وكلاهما متوشح ذارونق ... عضبا، إذا مس الضريبة يقطع فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العُبُط التي لا ترفع فهو يصف، ثم يخبر أنهما قد تضاربا ضربا مهلكا، ولا معنى لتقديم الطعن ثم العود إلى صفة السلاح، إلا على بعد واستكراه. (2) هو جزء بن ضرار، أخو الشماخ بن ضرار. وقد اختلف في نسبتها. نسبت للشماخ، ولغيره، حتى نسبوها إلى الجن (انظر طبقات فحول الشعراء: 111، وحماسة أبي تمام 3: 65، وابن سعد 3: 241، والأغاني 9: 159، ونهج البلاغة 3: 147، والبيان والتبيين 3: 364، وتأويل مشكل القرآن: 343، وغيرها كثير) . هذا والصواب أن يقول: "في رثاء عمر بن الخطاب". (3) البوائق جمع بائقة: وهي الداهية المنكرة التي فتحت ثغرة لا تسد. والأكمام جمع كم _ (بضم الكاف وكسرها) . وهو غلاف الثمرة قبل أن ينشق عنه. وقوله: "لم تفتق"، أصلها: تتفتق، حذف إحدى التاءين. وتفتق الكم عن زهرته: انشق وانفطر. ورحم الله عمر من إمام جمع أمور الناس حياته، حتى إذا قضى انتشرت أمورهم. (4) بوائج جمع بائجة: وهي الداهية التي تنفتق انفتاقا منكرا فتعم الناس، وتتابع عليهم شرورها من قولهم: باج البرق وانباج وتبوج: إذا لمع وتكشف وعم السحاب، وانتشر ضوؤه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وأما قوله: (فإنما يقول له كن فيكون) ، فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك الأمر"كن"، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه:"كن"؟ أفي حال عدمه، وتلك حال لا يجوز فيها أمره، (1) إذْ كان محالا أن يأمر إلا المأمور، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر،؛ وكما محالٌ الأمر من غير آمر، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور. (2) أم يقول له ذلك في حال وجوده؟ = وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث، لأنه حادث موجود، ولا يقال للموجود:"كن موجودا" إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟ قيل: قد تنازع المتأولون في معنى ذلك، ونحن مخبرون بما قالوا فيه، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك: (3) * * * قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه   (1) في المطبوعة: "وتلك حال لا يجوز أمره"، بإسقاط"فيها"، وهي واجبة، واستظرتها من السياق ومن الشطر الآتي من السؤال. (2) في المطبوعة: "كما محال الأمر"، بإسقاط الواو، وهي واجب إثباتها. ويعنى بقوله: "المأمور"، أي الموجود المأمور. (3) أحب أن أنبه قارئ هذا التفسير، أن يلقى باله إلى سياق أقوال القائلين، وكيف يخلص هو المعاني بعضها من بعض، وكيف يصيب الحجة بعقل ولطف إدراك، وصحة بيان عن معاني الكلام، وعن تأويل آيات كتاب ربنا سبحانه وتعالى ثم لينظر بعد ذلك أقوال المفسرين، وكيف تجنبوا الإيغال فيما توغل هو فيه، ثقة بعون الله له، ثم اتباعا لأهدى السبل في طلب المقاصد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 قضاؤه، ومضى فيه أمره، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم، وكالذي خسف به وبداره الأرض، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه. فوجه قائلو هذا القول قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، إلى الخصوص دون العموم * * *. وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها. (1) وقال: إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلما كان ذلك كذلك، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها، نظائر التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها:"كوني"، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم. * * * وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهرَ عمومٍ، فتأويلها الخصوص، لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور، على ما وصفت قبل. قالوا: وإذ كان ذلك كذلك، فالآية تأويلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت، أو إماتة حي، ونحو ذلك، فإنما يقول لحي:"كن ميتا، أو لميت: كن حيا"، وما أشبه ذلك من الأمر. * * * وقال آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي -. وقالوا: إنما قول الله عز وجل: (وإذا   (1) انظر معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف: 2: 15 والمراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، نظير قول القائل:"قال فلان برأسه" و"قال بيده"، إذا حرك رأسه، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا، وكما قال أبو النجم: وقالت للبَطْنِ الْحَقِ الحق ... قِدْمًا فآضت كالفَنِيقِ المحنِق (1) ولا قول هنالك، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال عمرو بن حممة الدوسي: (2) فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطيارا يقال له: قعِ (3) ولا قول هناك، وإنما معناه: إذا رام طيرانا وقع، وكما قال الآخر: امتلأ الحوض وقال: قطني ... سلا رويدا، قد ملأت بطني (4) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول   (1) لم أجد الرجز كاملا، والبيتان في اللسان (حنق) . يصف ناقة أنضاها السير. والأنساع جمع نسع (بكسر فسكون) ، وهو سير يضفر عريضا تشد به الرحال. ولحق البطن يلحق لحوقا: ضمر. أي قالت سيور التصدير لبطن الناقة: كن ضامرا. يعني بذلك ما أضناها من السير. وقدما: أي منذ القدم قال بشامة بن الغدير. لا تظلمونا، ولا تنسوا قرابتنا ... إطوا إلينا، فقدما تعطف الرحم ويعني أبو النجم: أن الضمور قد طال بها، فإن الأنساع قالت ذلك منذ زمن بعيد. وآض: صار ورجع. والفنيق الجمل الفحل المودع للفحلة، لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم، فهو ضخم شديد التركيب. والمحنق: الضامر القليل اللحم. والإحناق: لزوق البطن بالصلب. (2) يقال له أيضًا: كعب بن حممة، وهو أحد المعمرين، زعموا عاش أربعمائة سنة غير عشر سنين. وهو أحد حكام العرب، ويقال إنه هو"ذو الحلم" الذي قرعت له العصا، فضرب به المثل. (3) كتاب المعمرين: 22، وحماسة البحتري: 205 ومعجم الشعراء: 209، وهي أبيات. (4) أمالي ابن الشجري 1: 313، 2: 140، واللسان (قطط) . وفي المطبوعة: "سيلا"، والصواب في اللسا وأمالي ابن الشجري، والرواية المشهورة"مهلا رويدا". وقطني: حسبي وكفاني وللنحاة كلام كثير في"قطني". وقوله"سلا": كأنه من قولهم: انسل السيل: وذلك أول ما يبتدئ حين يسيل، قبل أن يشتد. كأنه يقول: صبا رويدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 له كن فيكون) ، أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام". وإذ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: (كن) في حال إرادته إياه مكوَّنا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، (1) إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. (2) فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [سورة الروم: 25] بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله، ولا يتأخر عنه. * * * ويسألُ من زعم أن قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز، (3) عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم، أم بعده؟ أم هي في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله. ويسألُ الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: (فإنما يقول له كن فيكون) ، نظير قول القائل:"قال فلان برأسه أو بيده"، إذا حركه وأومأ، ونظير قول الشاعر: (4)   (1) في المطبوعة: "وجوده" الذي أراد إيجاده" وزيادة الهاء في"وجوده" لا مكان لها. (2) يقول: إن وجود الشيء، لا يتقدم إرادة الله وأمره، ولا يتأخر عنهما. (3) يقول: "يسأل من زعم. . عن دعوة أهل القبور". (4) هو المثقب العبدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دينه أبدا وديني (1) وما أشبه ذلك-: فإنهم لا صواب اللغة أصابوا، ولا كتاب الله، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له:"كن"، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن، وخرجوا من الملة. وإن قالوا: بل نقر به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل:"قال الحائط فمال" ولا قول هنالك، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط. قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل:"قال الحائط فمال"، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، وقول القائل:"قال الحائط فمال"؟   (1) المفضليات: 586، والكامل 1: 193 وطبقات فحول الشعراء: 231، وسيأتي في تفسيره 4: 112 (بولاق) من قصيدة جيدة، يقول قبله في ناقته: إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين ودرأ الوضين لناقته: بسطه على الأرض، ثم أبركها عليه ليشد عليها رحلها. والوضين: حزام عريض من جلد منسوج يشد به رحل البعير. والدين: الدأب والعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله. * * * وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود، فبَيِّنٌ بذلك أن الذي هو أولى بقوله: (فيكون) (1) الرفع على العطف على قوله (2) (يقول) لأن"القول" و"الكون" حالهما واحد. وهو نظير قول القائل:"تاب فلان فاهتدى"، و"اهتدى فلان فتاب"، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد، ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود. ولذلك استجاز من استجاز نصب"فيكون" من قرأ: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل: 40] ، بالمعنى الذي وصفنا على معنى: أن نقول فيكونَ. وأما رفع من رفع ذلك، (3) فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله: (إذا أردناه أن نقول له كن) . إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا، ثم ابتدأ بقوله: فيكون، كما قال جل ثناؤه: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) ، [سورة الحج: 5] وكما قال ابن أحمر: يعالج عاقرا أعيت عليه ... ليُلْقِحَها فيَنْتِجُها حُوارا (4)   (1) في المطبوعة: "فتبين"، والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "فيكون على العطف" سقط من الناسخ قوله: الرفع". (3) وهذه هي قراءة مصحفنا اليوم. (4) المعاني الكبير: 846، 1134، وسيبويه 1: 341، من أبيات يذكر صديقا كان له، يقول: أرانا لا يزال لنا حميم ... كداء البطن سِلا أو صُفارا يعالج عاقرا أعيت عليه ... ليلقحها، فينتجها حوارا ويزعم أنه ناز علينا ... بشرته فتاركنا تبارا جعل هذا الصديق كداء البطن لا يدري من أين يهج ولا كيف يتأتى له. وهو يعالج من الشر ما لا يقدر عليه، فكأنه يطلب الولد من عاقر. جعل ذلك مثلا. والحوار: ولد البقرة. والشرة: حدة الشر، والتبار: الهلاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 يريد: فإذا هو يَنتجها حُوارا. * * * فمعنى الآية إذًا: وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه أن يكون له ولد! بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنى يكون له ولد، وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بمقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه:"كن"، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه، إذْ أراد خلقه من غير والد. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) ، فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى. * ذكر من قال ذلك: 1860- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) ، قال: النصارى تقوله. 1861- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله - وزاد فيه (وقال الذين لا يعلمون) ، النصارى. * * * وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 1862- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، قالا جميعا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله كما تقول، فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) ، الآية كلها. (1) * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب. * ذكر من قال ذلك: 1863- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) ، وهم كفار العرب. 1864- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله) ، قال: هم كفار العرب. 1865- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) الأثر: 1862 - سيرة ابن هشام 2: 198. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 السدي: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله) ، أما الذين لا يعلمون: فهم العرب. * * * وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالى عنى بقوله: (وقال الذين لا يعلمون) ، النصارى دون غيرهم. لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله: (اتخذ الله ولدا) ، تمنوا على الله الأباطيل، فقالوا جهلا منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون: (لولا يكلمنا الله) ، كما يكلم رسوله وأنبياءه، أو تأتينا آية كما أتتهم؟ ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه، ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده، فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه. وأمّا الزاعم: أن الله عنى بقوله (1) (وقال الذين لا يعلمون) العرب، فإنه قائل قولا لا خبر بصحته، ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه، لأنه ادعى ما لا برهان على صحته، وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد. * * * وأما معنى قوله: (لولا يكلمنا الله) ، فإنه بمعنى: هلا يكلمنا الله! كما قال الأشهب بن رميلة: (2)   (1) في المطبوعة: "وقال الزاعم. . " والصواب ما أثبت، كما استدركه مصحح المطبوعة. (2) ليس للأشهب، بل هو لجرير، وقد تابعه ابن الشجري في أماليه 2: 210، كأنه نقله عنه كعادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى، لولا الكمي المقنعا (1) بمعنى: فهلا تعدون الكمي المقنع! كما: 1866- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لولا يكلمنا الله) قال: فهلا يكلمنا الله! قال أبو جعفر: فأما"الآية" فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة. (2) وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلا تأتينا آية على ما نريد ونسأل، (3) كما   (1) ديوان جرير: 338، النقائض: 833، وسيأتي في التفسير 7: 119 (بولاق) غير منسوب، ومجاز القرآن: 52، وأمالي ابن الشجري 1: 279، 334 / 2: 210، والخزانة 1: 461. ورواية الديوان والنقائض: "أفضل سعيكم". والبيت من قصيدة طويلة في مناقضة جرير والفرزدق. وقوله: "عقر النيب". عقر الناقة أو الفرس: ضرب قوائمها فقطعها، وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، ثم نحروه، وإنما يفعلون به ذلك كيلا يشرد عند النحر. وكان العرب يتكارمون بالمعاقرة. وهي أن يعقر هذا ناقة، فيعقر الآخر، يتباريان في الجود والسخاء، ويلحان في ذلك حتى يغلب أحدهما صاحبه. والنيب جمع ناب: وهي الناقة المسنة، أسموها بذلك لطول نابها. ويشير جرير بذلك إلى ما كان يفخر به الفرزدق من معاقرة أبيه غالب بن صعصعة، سحيم بن وثيل الرياحي بمكان يقال له"صوأر"، فعقر سحيم خمسا ثم بدا له، وعقر غالب مئة، أو مئتين. وهذا أمر من أمور الجاهلية قال ابن عباس: " لا تأكلوا من تعاقر الأعراب، فإني لا آمن أن يكون مما أهل لغير الله به"، وقال علي رضي الله عنه: "يا أيها الناس، لا تحل لكم، فإنها أهل بها لغير الله". (انظر خبر المعاقرة في النقائض: 625 - 626) . وقوله: "بني ضوطرى"، يعني: يا بني الحمقى. هكذا قيل، وأخشى أن لا يكون كذلك، فإن: "ضوطرى" نبز لرجل من بني مجاشع بن دارم - لم يعينوه - فقال جرير للفرزدق: إن ابن شعرة، والقرين، وضوطرى ... بئس الفوارس ليلة الحدثان فهذا دليل على أنه شخص بعينه، أرجو أن أحققه في غير هذا المكان. وقد أراد ذمه بأسلافه على كل. والكمي: الشجاع الذي لا يرهب، فلا يحيد عن قرنه، كان عليه سلاح أو لم يكن. وقوله: "تعدون" أي تحسبون وتجعلون، فعدى الفعل"عد" إلى مفعولين، تضمينا لمعنى"جعل وحسب"، كما قال ذو الرمة: أشم أغر أزهر هبرزي ... يعد القاصدين له عيالا (2) انظر ما سلف: 1: 106. (3) في المطبوعة: "عما نريده ونسأل"، والصواب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 أتت الأنبياء والرسل! فقال عز وجل: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) ، فقال بعضهم في ذلك بما:- 1867- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) ، هم اليهود. 1868- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قال الذين من قبلهم) ، اليهود. * * * وقال آخرون: هم اليهود والنصارى، لأن الذين لا يعلمون هم العرب. (1) * ذكر من قال ذلك: 1869- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (قال الذين من قبلهم) ، يعني اليهود والنصارى وغيرهم. 1870- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قالوا يعني - العرب- كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم. 1871- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) في المطبوعة: "هم اليهود"، والصواب ما أثبت، كما استظهره مصحح المطبوعة، ودليل ذلك أنه سيروى بعد عن قتادة، وقد مضى في رقم: 1763 بإسناده هذا عن قتادة: أن" الذين لا يعلمون"، هم كفار العرب، والأثر التالي تتمة هذا الأثر السالف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 عن أبيه، عن الربيع: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) ، يعني اليهود والنصارى. * * * قال أبو جعفر: قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله) ، هم النصارى، والذين قالوا مثل قولهم هم اليهود (1) سألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة، (2) وأن يسمعهم كلام ربهم، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا - (3) وسألوا من الآيات ما ليس لهم مسألته تحكما منهم على ربهم، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك، مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد. 1872- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تشابهت قلوبهم) قلوب النصارى واليهود. * * * وقال غيره: (4) معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم. * ذكر من قال ذلك: 1873- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن   (1) في المطبوعة: "والذين قالت". والضمير في قوله"والذين قالوا" إلى النصارى يعود. وانظر دليله فيما سلف قريبا: 550. (2) في المطبوعة: "وسألت موسى"، وحذف الواو أولى. وكان أحب أن يكون"سألوا" مكان"سألت". (3) انظر ما سلف في تفسير الآية: 55، والأثر: 959. (4) في المطبوعة: "وقال غيرهم"، والصواب ما أثبت، فإنه روى قول مجاهد وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 قتادة: (تشابهت قلوبهم) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم. 1874- حدثني المثنى، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (تشابهت قلوبهم) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم. * * * قال أبو جعفر: وغير جائز في قوله: (تشابهت) التثقيل، لأن التاء التي في أولها زائدة أدخلت في قوله:"تفاعل"، وإن ثقلت صارت تاءين، ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما، لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال، والأخرى منها التي في"تفاعل"، ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل، فيقال: تشابه بعد اليوم قلوبنا. (1) * * * فمعنى الآية: وقالت النصارى، الجهال بالله وبعظمته: هلا يكلمنا الله ربنا، كما كلم أنبياءه ورسله، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ قال الله جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم، قال من قبلهم من اليهود، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة، ويؤتيهم آية، واحتكموا عليه وعلى رسله، وتمنوا الأماني. فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 75، وعبارة الطبري هنا تصحح الخطأ الذي هناك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) ، قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود، وجعل منهم القردة والخنازير، وأعد لهم العذاب المهين في معادهم، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا، وأعد لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها. فأعلموا الأسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك، وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه، ويعلم حقيقة الأمر، إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه. وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب، وذلك منفي عن خبر الله عز وجل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} قال أبو جعفر: ومعنى قوله جل ثناؤه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ، إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان، وهو الحق؛ مبشرا من اتبعك فأطاعك، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق - بالنصر في الدنيا، والظفر بالثواب في الآخرة، والنعيم المقيم فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك، ورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في الدنيا، والذل فيها، والعذاب المهين في الآخرة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) } قال أبو جعفر: قرأت عامة الْقَرَأَة: (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) ، بضم"التاء" من"تسئل"، ورفع"اللام" منها على الخبر، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغت ما أرسلت به، وإنما عليك البلاغ والإنذار، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق، وكان من أهل الجحيم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: (ولا تَسألْ) جزما. بمعنى النهي، مفتوح"التاء" من"تسأل"، وجزم"اللام" منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما:- 1875- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت: (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم) . 1876- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ " ثلاثا، فنزلت: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم) ، فما ذكرهما حتى توفاه الله. (1)   (1) الحديثان: 1875، 1876 - هما حديثان مرسلان. فإن محمد بن كعب بن سليم القرظي: تابعي. والمرسل لا تقوم به حجة، ثم هما إسنادان ضعيفان أيضًا، بضعف راويهما: موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي: ضعيف جدا، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 /1/ 291، والصغير: 172 - 173، وابن أبي حاتم 4 /1 /151، فقال البخاري: "منكر الحديث قاله أحمد بن حنبل. وقال علي بن المديني، عن القطان: كنا نتقيه تلك الأيام". وروى ابن أبي حاتم عن الجوجزاني قال: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة، قلنا: يا أبا عبد الله، لا يحل؟ قال: عندي، قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه؟ قال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه". وقال ابن معين: "لا يحتج بحديثه". وقال أبو حاتم: "منكر الحديث". وأبوه"عبيدة"، بالتصغير، ووقع في المطبوعة في الإسنادين"عبدة". وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 1877- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني داود بن أبي عاصم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم:"ليت شعري أين أبواي؟ " فنزلت: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) . (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع، على الخبر. لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكفرهم بالله، وجراءتهم على أنبيائه، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنا أرسلناك) يا محمد (بالحق بشيرا) ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه، (ونذيرا) من كفر بك وخالفك، فبلغ رسالتي، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر - لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر، فيكون لقوله: (ولا تسأل عن   (1) الحديث: 1877 - وهذا مرسل أيضًا، لا تقوم به حجة. داود بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة، ويروى عن بعض التابعين أيضًا. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/210. والجرح 1/2/421. ووقع في المطبوعة"داو عن أبي عاصم". وهو تحريف، صححناه من ابن كثير 1: 297. ونقل ابن كثير 1: 296 عن القرطبي أنه قال: "وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا أبويه حتى آمنا به، وأجبنا عن قوله: إن أبي وأباك في النار". ثم علق ابن كثير، فقال: "الحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام - ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها، وإسناده ضعيف". وأنا أرى أن الإفاضة في مثل هذا غير مجدية، وما أمرنا أن نتكلف القول فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 أصحاب الجحيم) ، وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل -في هذه الآية عن أصحاب الجحيم، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم. (1) * * * فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب، إن كان الخبر عنه صحيحا. مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) ، بـ "الواو" - بقوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) ، وتركه وصل ذلك بأوله بـ "الفاء"، وأن يكون:"إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم" - (2) أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله: (3) "ولا تسئل"، أولى من النهي، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: (وما تسأل) ، وفي قراءة ابن مسعود: (ولن تسأل) ، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه، دون النهي. (4) * * *   (1) حجة قوية لا ترد، وبصر بسياق معاني القرآن وتتابعها. ولكن كثيرا من الناس يغفلون عن مواطن الحق في موضع بعينه، لاختلاط الأمر عليهم لمشابهته لموطن آخر في موضع غيره، كما سترى في التعليق التالي رقم: 40. (2) كان في المطبوعة: "بالواو يقول: فلا تسئل عن أصحاب الجحيم. . . بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم" وهو خطأ كما استدركه مصحح المطبوعة في تعليقه. (3) في المطبوعة: "أوضح الدلائل" بالجمع، والإفراد هو الصواب، وكأنه سبق قلم من ناسخ. (4) قال ابن كثير في تفسيره 1: 297" وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك؛ لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه، واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه، قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا في الصحيح. ولهذا أشباه كثيرة ونظائر، ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم". ينسى ابن كثير غفر الله له، ما أعاد الطبري وأبدأ من ذكر سياق الآيات المتتابعة، والسياق كما قال هو في ذكر اليهود والنصارى وقصصهم، وتشابه قلوبهم في الكفر بالله، وقلة معرفتهم بعظمة ربهم، وجرأتهم على رسل الله وأنبيائه، وكل ذلك موجب عذاب الجحيم، فما الذي أدخل كفار العرب في هذا السياق؟ نعم إنهم يدخلون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، كما يدخل فيه كل مشرك من العرب وغيرهم. وقد بينا آنفًا ص: 521 تعليق: 1 أن هذه الآيات السالفة والتي تليها، دالة أوضح الدلالة على أن قصتها كلها في اليهود والنصارى، ولا شأن لمشركي العرب بها. وإن دخل هؤلاء المشركون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، وإذن فسياق الآيات يوجب أن تكون في اليهود والنصارى، فتخصيص شطر من آية بأنه نزل في أمر بعض مشركي الجاهلية. تحكم بلا خبر ولا بينة. (وانظر ص: 565) . إن ابن كثير غفل عن معنى الطبري، فإن الطبري أراد أن يدل على شيئين: أن خبر محمد بن كعب لا يصح، وأنه إن صح عنه من وجه، فإن نزول الآية لم يكن لهذا الذي روي عنه. وبيان ذلك: أن الخبر لا يصح، لأنه جاء على صيغة التشكك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمر بعض أهل الجاهلية: ما فعل به، في جنة أو نار! وهذا مما يتنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفرق كبير بين أن يستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبويه اللذين كانا من أهل الجاهلية، وعلى مثل أمرها من الشرك، وبين أن يتشكك في أمرهما فيقول:"ليت شعري ما فعل أبواي؟ ". وإنما يصح كلام ابن كثير، إذا كان بين هذا التشكك، وبين الاستغفار رابط يوجب أن يكون أحدهما ملازما للآخر، أو بسبب منه. ثم يرد الخبر أيضًا، لأن سياق الآيات يدل ظاهرها البين على أنها في اليهود والنصارى نزلت، فلا يمكن تخصيص شطر من آية من هذه الآيات المتتابعة، على خبر لا يصح، لعلة موهنة له. فلست أدري لم أقحم ابن كثير الاستغفار والتبرؤ في هذا الموضع، مع وضوح حجة الطبري في الفقرة السالفة. من جهة السياق، وفي هذه الفقرة من جهة العربية؟ إن بعض المشكلات التي يدور عليها جدال الناس، ربما أغفلت مثل ابن كثير عن مواطن الدقة والصواب والتحري، وهم يفسرون كتاب الله الذي لا يخالف بعضه بعضا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل، ونستهديك في البيان عن معاني كتابك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) إلى الحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم"التاء"، وقرأه على معنى الخبر، وكان يجيز على ذلك قراءته:"ولا تسأل"، بفتح"التاء" وضم"اللام" على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك. وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك، يدفعهما ما روي عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 مسعود وأبي من القراءة، (1) لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من"ما" و"لن" يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: (ولا تسأل) . وإذا كان ابتداء لم يكن حالا. * * * وأما (أصحاب الجحيم) ، ف"الجحيم"، هي النار بعينها إذا شبت وقودها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: إذا شبت جهنم ثم دارت ... وأَعْرَض عن قوابسها الجحيم (2) * * *   (1) في المطبوعة: يرفعهما ما روي. . . " والصواب ما أثبت. (2) ديوانه: 53، وروايته: "ثم فارت"، وكأنها هي الصواب، وأخشى أن يكون البيت محرفا. لم أعرف معنى"قوابسها" هناك، وأظنه"قدامسها" جمع قدموس، وهي الحجارة الضخمة الصلبة، كقوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة"، وأعرض الشيء اتسع وعرض، وقوله"عن" أي بسبب قذف هذه الحجارة فيها. هذا أقرب ما اهتديت إليه من معناه، ويرجح ذلك البيت الذي يليه، وفيه جواب"إذا": تحش بصندل صم صلاب ... كأن الضاحيات لها قضيم وكأنه يعني بالضاحيات: النخيل. وشعر أمية مشكل على كل حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ، وليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا، وذلك مما لا يكون منك أبدا، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل. * * * وأما"الملة" فإنها الدين، وجمعها الملل. * * * ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد - لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) - (إن هدى الله هو الهدى) ، يعني إن بيان الله هو البيان المقنع، والقضاء الفاصل بيننا، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه- الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل، وأينا أهل الجنة، وأينا أهل النار، وأينا على الصواب، وأينا على الخطأ. وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولئن اتبعت) ، يا محمد، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر، فصرت من ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي = يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به = ولا نصير، ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك. وقد بينا معنى"الولي" و"النصير" فيما مضى قبل. (1) وقد قيل: إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه، غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: (الذين آتيناهم الكتاب) فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من أصحابه. *ذكر من قال ذلك: 1878- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) ، هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به. * * * وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل، الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة. فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 488، 489. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 الله عليه وسلم، والإيمان به، والتصديق بما جاء به من عند الله. *ذكر من قال ذلك: 1879- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون. * * * وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة. لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين، وتبديل من بدل منهم كتاب الله، وتأولهم إياه على غير تأويله، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر، فيكون قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) ، موجها إلى الخبر عنهم، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد انقضاء قصص غيرهم، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له. (1) فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه [قصصهم] في الآية قبلها والآية بعدها، (2) وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد -وهو التوراة- فقرءوه واتبعوا ما فيه، فصدقوك وآمنوا بك، وبما جئت به من عندي، أولئك يتلونه حق تلاوته. * * *   (1) رحم الله أبا جعفر، فهو لا يدع الاحتجاج الصحيح عند كل آية، ولكن بعض أهل التفسير يتجاوزون ويتساهلون، فليتهم نهجوا نهجه في الضبط والحفظ والاستدلال. (2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 وإنما أدخلت الألف واللام في"الكتاب" لأنه معرفة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: (يتلونه حق تلاوته) ، فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه. *ذكر من قال ذلك: 1880- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني ابن أبي عدي، وعبد الأعلى، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي جميعا، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته) ، يتبعونه حق اتباعه. 1881- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة بمثله. 1880- وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة بمثله. 1883- حدثني الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قوله الله عز وجل: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه. (1) 1884- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: (يتلونه حق تلاوته) ، فذكر مثله، إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه. 1885- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المؤمل قال، حدثنا سفيان قال:   (1) الأثر: 1883 - في المطبوعة: "الحسن بن عمرو العبقري"، وانظر التعليق على الأثر رقم: 1625 وكذلك مضى في الأثر: 1655"الحسن"، وهو خطأ، نصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 حدثنا يزيد، عن مرة، عن عبد الله في قول الله عز وجل: (يتلونه حق تلاوته) : قال: يتبعونه حق اتباعه. 1886- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية قال، قال عبد الله بن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله. 1887- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه. 1888- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال، حدثنا عباد بن العوام عمن ذكره، عن عكرمة، عن ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته) يتبعونه حق اتباعه. 1889- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن عطاء، بمثله. 1890- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه. 1891- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان -وحدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم قال، حدثنا سفيان- وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان - قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله. 1892- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: عملا به. (1)   (1) الأثر: 1892 - في المطبوعة: "أبو حميد"، والصواب ما اثبت، وهو محمد بن حميد، وهو كثير ذكره فيما سلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 1893- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن قيس بن سعد: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، ألم تر إلى قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) [سورة الشمس: 2] ، يعني الشمس إذا تَبعها القمر. 1894- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء وقيس بن سعد، عن مجاهد في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يعملون به حق عمله. 1895- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال، يتبعونه حق اتباعه. 1896- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 1897- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته) ، يعملون به حق عمله. 1898- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن مجاهد في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه. 1899- حدثني عمرو قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن أبي أيوب، عن أبي الخليل، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه. (1)   (1) الخبر: 1899 - أبو قتيبة: هو سلم بن قتيبة الشعيري - بفتح الشين المعجمة - الخراساني، وهو ثقة مأمون، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/160، وابن أبي حاتم 2/1/1226. الحسن بن أبي جعفر الجفري: حسن الحديث، تكلموا فيه، ورجحنا تحسين أحاديثه مفصلا في شرح المسند: 5818. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/286 وابن أبي حاتم 1/2/29. و"الجفري": بضم الجيم وسكون الفاء، نسبة إلى"جفرة خالد" بالبصرة. كما في الأنساب واللباب والمشتبه. أيوب: هو السختياني، وفي المطبوعة"عن أبي أيوب". وهو خطأ. استقينا تصويبه من التراجم. أبو الخليل: هو صالح بن أبي مريم الضبعي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/290 وابن أبي حاتم 2/1/415 - 416. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 1900- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى القطان، عن عبد الملك، عن عطاء قوله: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه، يعملون به حق عمله. 1901- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن المبارك، عن الحسن: (يتلونه حق تلاوته) قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. (1) 1902- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته: أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه. 1903- حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا الحكم بن عطية، سمعت قتادة يقول: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه. قال: اتباعه: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرءونه كما أنزل. 1904- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم عن داود، عن عكرمة في قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) [سورة الشمس: 2] ، قال: إذا تبعها. * * * وقال آخرون: (يتلونه حق تلاوته) ، يقرءونه حق قراءته. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره، إذا اتبع أثره، (3) لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.   (1) الخبر: 1901 - مبارك: هو ابن فضالة. وهو من أخص الناس بالحسن البصري. كما قلنا في: 611. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 411. (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 411. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وإذ كان ذلك تأويله، فمعنى الكلام: الذين آتيناهم الكتاب، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي، يتبعون كتابي الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك، وأنك رسولي، فرضٌ عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي، ويعملون بما أحللت لهم، ويجتنبون ما حرمت عليهم فيه، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه - كما أنزلته عليهم - بتأويل ولا غيره. * * * أما قوله: (حق تلاوته) ، فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به، كما يقال:"إن فلانا لعالم حق عالم"، وكما يقال:"إن فلانا لفاضل كل فاضل" (1) * * * وقد اختلف أهل العربية في إضافة"حق" إلى المعرفة، فقال بعض نحويي الكوفة: غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى"أي"، وبمعنى قولك:"أفضل رجل فلان"، و"أفعل" لا يضاف إلى واحد معرفة، لأنه مبعض، ولا يكون الواحد المبعض معرفة. فأحالوا أن يقال:"مررت بالرجل حق الرجل"، و"مررت بالرجل جِدِّ الرجل"، كما أحالوا"مررت بالرجل أي الرجل"، وأجازوا ذلك في"كل الرجل" و"عين الرجل" و"نفس الرجل". (2) وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا، فلما صرن مدوحا، تركن مدوحا على أصولهن في المعرفة. وزعموا أن قوله: (يتلونه حق تلاوته) ، إنما جازت إضافته إلى التلاوة، وهي مضافة إلى معرفة، لأن العرب تعتد ب"الهاء" -إذا عادت إلى نكرة - بالنكرة، فيقولون:"مررت برجل واحد أمه، ونسيج وحده، وسيد قومه"، قالوا: فكذلك قوله: (حق تلاوته) ، إنما جازت إضافة"حق" إلى"التلاوة" وهي مضافة إلى   (1) انظر سيبويه 1: 223 - 224. (2) في المطبوعة"غير الرجل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 "الهاء"، لاعتداد العرب ب"الهاء" التي في نظائرها في عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك"حق التلاوة"، لوجب أن يكون جائزا:"مررت بالرجل حق الرجل". فعلى هذا القول تأويل الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة. * * * وقال بعض نحويي البصرة: جائزة إضافة"حق" إلى النكرات مع النكرات، ومع المعارف إلى المعارف، وإنما ذلك نظير قول القائل:"مررت بالرجل غلام الرجل"، و"برجل غلام رجل". فتأويل الآية على قول هؤلاء: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته (1) * * * وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول، لأن معنى قوله: (حق تلاوته) ، أي تلاوة، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها."وأي" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم. وكذلك"حق" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة. وإنما أضيف في (حق تلاوته) إلى ما فيه"الهاء" لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أولئك) ، هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته، وأما قوله: (يؤمنون) ، فإنه يعني: يصدقون به. و"الهاء" التي في قوله:"به" عائدة على"الهاء" التي في"تلاوته"، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله: (الذين آتيناهم الكتاب) . فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة، هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته، دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها، مغيرا   (1) الصواب أن يقول: "حق تلاوة الكتاب"، ولعل الناسخ أخطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه. * * * وإنما وصف جل ثناؤه من وُصف بما وصف به من متبعي التوراة، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم، لأن في اتباعها اتباع محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك، وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته، وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم، وأن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون بما فيها، كما:- 1905- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولئك يؤمنون به) ، قال: من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، وبالتوراة، وإن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر، كما قال جل ثناؤه: (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) . (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يكفر به) ، ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه - من آتاه من المؤمنين - حق تلاوته. ويعني بقوله جل ثناؤه: (يكفر) ، يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه، ويبدله فيحرف تأويله، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه. وقال ابن زيد في قوله، بما:- 1906- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:   (1) انظر ما سلف في معنى"الخاسر" 1: 417 ثم هذا الجزء 2: 166. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) ، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود، (فأولئك هم الخاسرون) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) } قال أبو جعفر: وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم، وصنائعي عندكم، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وإنزالي عليكم المن والسلوى في تيهكم، وتمكيني لكم في البلاد، بعد أن كنتم مذللين مقهورين، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين ظهرانيه، أيام أنتم في طاعتي- (1) باتباع رسولي إليكم، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي، ودعوا التمادي في الضلال والغي. وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، والمعاني التي ذكرهم جل ثناؤه من آلائه عندهم، والعالم الذي فضلوا عليه - فيما مضى قبل، بالروايات والشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته، إذْ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك واحدا. (2) * * *   (1) إن لم يكن قد سقط هنا قوله: "وأعظكم باتباع رسولي. . "، فإن قوله" باتباع رسولي" متعلق بقوله في صدر الخطاب: "اذكروا أيادي لديكم. . ". (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 23 - 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) } قال أبو جعفر: وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا - يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنزيلي، المحرفين تأويله عن وجهه، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم - عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا تغني عنها غناء، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي، وتكذيبكم رسولي، فتموتوا عليه، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع، ولا هي ينصرها ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه. (1) * * * وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "ولا هم ينصرهم"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 26 - 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإذ ابتلى) ، وإذا اختبر. * * * يقال منه:"ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء"، ومنه قول الله عز وجل: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) [سورة النساء: 6] ، يعني به: اختبروهم. (1) . * * * وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه، وأمر أمره به. وذلك هو"الكلمات" التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا. * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة"الكلمات" التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه. * * * فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما. (2) * ذكر من قال ذلك: 1907- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال،   (1) انظر ما سلف في الجزء 2: 48، 49. (2) السهم في الأصل واحد السهام التي يضرب بها في الميسر، وهي القداح. ثم سمى ما يفوز به الفالج سهما، ثم كثر حتى سمى كل نصيب سهما. وقوله هنا يدل على أنهم استعملوه في كل جزء من شيء يتجزأ وهو جملة واحدة. فقوله: "سهما" هنا، أي خصلة وشعبة. وسيأتي شاهدها في الأخبار الآتية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب الله له البراءة فقال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم: 37] . قال: عشر منها في"الأحزاب"، وعشر منها في"براءة"، وعشر منها في"المؤمنون" و"سأل سائل"، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما. (1) 1908- حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم، ابتلي بالإسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال:"وإبراهيم الذي وفى"، فذكر عشرا في"براءة" [112] فقال: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ) إلى آخر الآية، (2) وعشرا في"الأحزاب" [35] ، (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) ، وعشرا في"سورة المؤمنون" [1-9] إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) ، وعشرا في"سأل سائل" [22-34] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) . 1909- حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الإسلام ثلاثون سهما، وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم، قال الله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) ، فكتب الله له براءة من النار. (3) * * *   (1) سيأتي بيانها في الأثر التالي. (2) في المطبوعة: "الآيات"، والصواب ما أثبت. (3) الخبر 1909- عبد الله بن أحمد بن شبويه: هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن ثابت بن مسعود بن يزيد، أبو عبد الرحمن، عرف بابن شبويه، وهو من أئمة الحديث، كما قال الخطيب. مترجم في تاريخ بغداد 9: 371، وله ترجمة موجزة في ابن أبي حاتم. ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله بن أحمد بن شبرمة". وهو تحريف وخطأ. صححناه من التاريخ، ومما سيأتي في التفسير. علي بن الحسن بن شقيق بن دينار: ثقة، من شيوح أحمد، والبخاري، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وفي شرح المسند: 7437. وهذا الخبر سيأتي بهذا الإسناد، في التفسير: 27: 43 (بولاق) . وكذلك رواه أبو جعفر بهذا الإسناد، في التاريخ 1: 144. وذكره ابن كثير 1: 302، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، والحاكم. وذكره السيوطي 1: 111-112، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وابن مردويه، وابن عساكر. وهذا الإسناد صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الإسلام. * ذكر من قال ذلك: 1910- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء. (1) 1911- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن القاسم بن أبي بزة، عن ابن عباس، بمثله- ولم يذكر أثر البول. 1912- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة. 1913- حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الخلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان: سنة:   (1) الخبر: 1910- وهذا الإسناد صحيح أيضًا. وهو في تفسير عبد الرزاق (مخطوطة دار الكتب المصورة) ، بهذا الإسناد. وكذلك رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 144، من تفسير عبد الرزاق. بهذا الإسناد. وكذلك رواه الحاكم 2: 266، من طريق ابن طاوس عن أبيه، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 1: 301. وكذلك ذكره السيوطي 1: 111 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وقلم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج (1) . * * * وقال بعضهم: بل"الكلمات" التي ابتلي بهن عشر خلال; بعضهن في تطهير الجسد، وبعضهن في مناسك الحج. *ذكر من قال ذلك: 1914- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال، ستة في الإنسان، وأربعة في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. (2) * * * وقال آخرون: بل ذلك:"إني جاعلك للناس إماما"، في مناسك الحج. * ذكر من قال ذلك: 1915- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فمنهن:"إني جاعلك للناس إماما"، وآيات النسك. (3) 1916- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل   (1) الخبر: 1913- مطر: هو ابن طهمان الوراق. وأبو الجلد: بفتح الجيم وسكون اللام، سبق بيانه: 434. وفي المطبوعة"أبو الخلد" بالخاء المعجمة بدل الجيم، وهو تصحيف تكرر فيها كثيرا. البراجم جمع برجمة (بضم الباء وسكون الراء وضم الجيم) : وهي ظهور القصب من مفاصل الأصابع. (2) الخبر: 1914- ابن هبيرة: هو عبد الله بن هبيرة السبائي المصري، وهو ثقة، وثقه أحمد وغيره، وخرج له مسلم في الصحيح. حنش، بفتحتين وبالشين المعجمة: هو ابن عبد الله السبائي الصنعاني، من صنعاء دمشق -وهي قرية بالغوطة من دمشق- وهو تابعي ثقة. وهذا الخبر رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى. عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد - كما في ابن كثير 1: 302. وهو إسناد صحيح. (3) يأتي بيان آيات النسك في الخبرين التاليين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 بن أبي خالد، عن أبي صالح مولى أم هانئ في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن"إني جاعلك للناس إماما" ومنهن آيات النسك: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [سورة البقرة: 127] . 1917- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس. قال: نعم. [قال] : وأمنا. قال: نعم. [قال] : وتجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. [قال] : وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا. قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم. 1918- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 1919- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، أخبره به عن عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره. 1920- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا. 1921- حدثنا سفيان قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال، ابتلي بالآيات التي بعدها:"إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين". 1922- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الربيع في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فالكلمات:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس"، وقوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية، وقوله:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" الآية. قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. (1) 1923- حدثني محمد بن سعد (2) قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فمنهن:"إني جاعلك للناس إماما"، ومنهن:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، ومنهن الآيات في شأن النسك، والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام. * * * وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة. * ذكر من قال ذلك: 1924- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا عمر بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، مناسك الحج. (3) 1925- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان ابن عباس يقول في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، المناسك.   (1) في المطبوعة: "فذلك كلمة من الكلمات"، والصواب من ابن كثير 1: 303. (2) في المطبوعة: "محمد بن سعيد"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في الطبري، وانظر رقم: 305. (3) الخبر: 1924- هذا الإسناد ضعيف من ناحيتين. أما سلم -بفتح السين وسكون اللام- ابن قتيبة أبو قتيبة: فإنه ثقة، خرج له البخاري في صحيحه. وأما الضعف، فلأن"عمر بن نبهان الغبري" بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة: ضعيف جدا، ذمه الإمام أحمد، وقال ابن معين: ليس بشيء. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/138. والوجه الآخر من الضعف: أنه منقطع، لأن قتادة لم يدرك ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 1926- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، قال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك. 1927- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، المناسك. 1928- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، مناسك الحج. 1929- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن مناسك الحج. (1) * * * وقال آخرون: هي أمور، منهن الختان. * ذكر من قال ذلك: 1930- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن الختان. 1931- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعت الشعبي يقول، فذكر مثله. 1932- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، سمعت الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قول الله:"وإذ ابتلى   (1) الخبران: 1928، 1929- أبو إسحق: هو السبيعي، عمرو بن عبد الله الهمداني، الإمام التابعي الثقة، التميمي: هو"أربدة" بسكون الراء وكسر الباء الموحدة. ويقال"أربد" بدون هاء. وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/64، وابن أبي حاتم 1/1/345، وقد عرف بأني راوي التفسير عن ابن عباس. وفي المسند: 2405- في حديث آخر"عن أبي إسحاق، عن التميمي الذي يحدث التفسير". لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 إبراهيم ربه بكلمات" - قال، منهن الختان، يا أبا إسحاق. * * * وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن. * ذكر من قال ذلك: 1933- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: قلت للحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن". قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه؛ وابتلاه بالقمر، فرضي عنه؛ وابتلاه بالشمس، فرضي عنه؛ وابتلاه بالنار، فرضي عنه؛ وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان. 1934- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين؛ ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله؛ ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك؛ فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك. 1935- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن يقول في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، وبالكوكب، والشمس، والقمر. 1936- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا أبو هلال، عن الحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه بالكوكب، وبالشمس والقمر، فوجده صابرا. * * * وقال آخرون بما: 1937- حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 أسباط، عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ) [سورة البقرة: 127-129] * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه، وأمره أن يعمل بهن فأتمهن، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. (1) وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل"الكلمات"، وجائز أن تكون بعضه. لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك، فعمل به، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، لو ثبتا، أو أحدهما، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. أحدهما، ما:- 1938- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا رشدين بن سعد قال، حدثني زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: (الَّذِي وَفَّى) ؟ [سورة النجم:37] لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [سورة الروم: 17] حتى يختم الآية. (2)   (1) في المطبوعة: "وأتمهن" بالواو، والأجود ما أثبت. (2) الحديث: 1939- إسناده منهار لا تقوم له قائمة. وقد ضعفه الطبري نفسه، هو والحديث الذي بعده. وقال ابن كثير 1: 304- بعد إشارته إلى ذلك: "وهو كما قال، فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجود عديدة، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه". رشدين بن سعد: ضعيف جدا، وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: 5748، و"رشدين": بكسر الراء وسكون الشين المعجمة وكسر الدال وبعد الياء نون، ووقع في المطبوعة وفي ابن كثير"راشد". وهو تصحيف. زبان بن فائد المصري الحمراوي: ضعيف أيضًا. قال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وضعفه ابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/405، وابن أبي حاتم 1/2/616. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: 210 مخطوطة مصور عندي) : "منكر الحديث جدا، يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة". و"زبان": بالزاي المعجمة وتشديد الباء الموحدة. ووقع في المطبوعة"ريان" بالراء والتحتية، وهو تصحيف. سهل بن معاذ بن أنس الجهني: ضعيف أيضًا، ضعفه ابن معين. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: 232) : "روى عنه زبان بن فائد، منكر الحديث جدا. فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من زبان بن فائد؟ فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها أحدهما ساقطة". وهذا الحديث -على ما فيه من ضعف شديد- رواه أحمد في المسند: 15688 (ج 3 ص 439 حلبي) . بل إنه روى هذه النسخة، التي كاد ابن حبان أن يجزم بأنها موضوعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 والآخر منهما ما:- 1939- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وإبراهيم الذي وفى" قال، أتدرون ما"وفى"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وفي عمل يومه، أربع ركعات في النهار. (1) * * *   (1) الحديث: 1939- ضعفه أيضًا الطبري ووافقه ابن كثير، كما قلنا في الذي قبله. الحسن بن عطية بن نجيح الكوفي: ثقة، روى عنه البخاري في الكبير 2/1/299، ولم يذكر فيه جرحا، وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة، وقال أبو حاتم: "صدوق". وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/27. وهو غير"الحسن بن عطية بن سعد العوفي، السابق ترجمته في: 305. إسرائيل: هو ابن يونس بن إسحاق السبيعي، وهو ثقة، مضى في: 1291. جعفر بن الزبير الحنفي، أو الباهلي، الدمشقي ثم البصري: ضعيف جدا. مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري 1/2/191، وفي الضعفاء له، ص: 7، وقال: "متروك الحديث، تركوه"، وفي ابن أبي حاتم 1/1/479. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: 142) : "روى عن القاسم مولى معاوية وغيره، أشياء كأنها موضوعة". وقال أبو حاتم: "روى جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، نسخة موضوعة، أكثر من مئة حديث". وأما القاسم: فهو ابن عبد الرحمن الشامي، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقد اختلف فيه، والراجح أنه ثقة، وأن ما أنكر عليه إنما جاء من الرواة عنه الضعفاء. وقد بينا ذلك في شرح المسند: 598، وما علقنا به على تهذيب السنن للمنذري: 2376. والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 6: 129، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم، وقال: "بسند ضعيف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 قال أبو جعفر: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده، كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن، هو قوله كلما أصبح وأمسى:"فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون"- أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته، كان معلوما أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن: أن يصلي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في معنى"الكلمات" التي أخبر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم، ما بينا آنفا. ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهبا. لأن قوله:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فأتمهن"، فأتم إبراهيم الكلمات. و"إتمامه إياهن"، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي   (1) وقد نقل ابن كثير في تفسيره 1: 304 هذه الفقرة من أول قوله"ولو قال قائل" ثم عقب عليه بقوله: "قلت: والذي قاله أولا: من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله. لأن السياق يعطى غير ما قالوه، والله أعلم". لم يأت ابن كثير بشيء، فإن قول الطبري بين، وهو قاض بأن الصواب هو القول الأول، وأن هذا الثاني لو قيل كان مذهبا. وهذه كلمة تضعيف لا كلمة تقوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 قال الله جل ثناؤه: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم: 37] ، يعني وفى بما عهد إليه،"بالكلمات"، بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها، (1) كما:- 1940- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس:"فأتمهن"، أي فأداهن. 1941- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن. 1942- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إني جاعلك للناس إماما"، فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به، كما:- 1943- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إني جاعلك للناس إماما"، ليؤتم به ويقتدى به. * * * يقال منه:"أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة"، إذا كنت إمامهم. * * * وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم:"إني جاعلك للناس إماما"، إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي، تتقدمهم أنت، (2) ويتبعون هديك، ويستنون بسنتك التي تعمل بها، بأمري إياك ووحيي إليك. * * *   (1) في المطبوعة: "يعني: وفى بما عهد إليه بالكتاب فأمره به من فرائضه ومحنه فيها"، وهي عبارة مضطربة لا تستقيم، وكأن الصواب ما أثبته. (2) في المطبوعة: "فتقدمهم أنت"، ليست بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: قال إبراهيم- لمّا رفع الله منزلته وكرمه، فأعلمه ما هو صانع به، من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم، يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه -: يا رب، ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدي بهم، كالذي جعلتني إماما يؤتم بي ويقتدى بي. مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها، كما:- 1944- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال إبراهيم:"ومن ذريتي"، يقول: فاجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به. * * * وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم:"ومن ذريتي"، مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه، كما قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) [سورة إبراهيم:35] ، فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه، بقوله:"لا ينال عهدي الظالمين". * * * والظاهر من التنزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة. لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه:"ومن ذريتي"، في إثر قول الله جل ثناؤه:"إني جاعلك للناس إماما". فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه، لكان مبينا. (1) ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره، اكتفى بالذكر الذي قد مضى، من تكريره وإعادته، فقال:"ومن ذريتي"، بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس. * * *   (1) قوله: "لكان مبينا"، أي لجاء ما سأل إبراهيم ربه مبينا في الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) } قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه (1) أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مُصَيِّره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة. لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به. * * * واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه. فقال بعضهم: ذلك"العهد"، هو النبوة. * ذكر من قال ذلك: 1945- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، يقول: عهدي، نبوتي. فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك. * * * وقال آخرون: معنى"العهد": عهد الإمامة. فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالما، إماما لعبادي يقتدى به. * ذكر من قال ذلك: 1946- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا يكون إمام ظالما.   (1) في المطبوعة: "لما توهم"، وهي خطأ، والصواب ما أثبته، بالبناء للمجهول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 1947- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قال الله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا يكون إمام ظالما. 1948- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة بمثله. 1949- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا يكون إمام ظالم يقتدى به. 1950- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. 1951- حدثنا مشرَّف بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. (1) . 1952- حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. 1953- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن   (1) الخبر: 1951- مشرف بن أبان أبو ثابت الحطاب، شيخ الطبري: ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد 13: 224، وذكر أنه يروي عن ابن عيينة، وغيره. مات ببغداد سنة 243. ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا غير ذلك، و"مشرف": بوزن"محمد"، كما نص على أنه الجادة في المشتبه للذهبي، ص: 484، والتبصير للحافظ ابن حجر (مخطوط مصور) . ووقع في المطبوعة"مسروق"، وهو خطأ بين، وقد مضى في: 1383 باسم"بشر بن أبان الحطاب". وهو خطأ أيضًا. ثم هو سيأتي على الصواب: "مشرف" - في: 2382. وأما"الحطاب"، فهكذا هو الثابت هنا بالحاء المهملة، وفي تاريخ بغداد"الخطاب" بالمعجمة. ولم أستطع الترجيح بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 ابن جريج، عن مجاهد:"لا ينال عهدي الظالمين": قال: لا يكون إماما ظالم. قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال:"إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي"، فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه. * ذكر من قال ذلك: 1954- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لا ينال عهدي الظالمين"، يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه. 1955- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه. 1956- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس قال، ليس لظالم عهد. * * * وقال آخرون: معنى"العهد" في هذا الموضع: الأمان. فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي، وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة. * ذكر من قال ذلك: 1957- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، ذلكم عند الله يوم القيامة، لا ينال عهده ظالم، فأما في الدنيا، فقد نالوا عهد الله، فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به. (1) فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.   (1) في المطبوعة: "وعادوهم"، والصواب من الدر المنثور 1: 118، وقوله: "غازوهم" أي كانوا معهم في الغزو وشاركوهم في الغنائم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 1958- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش. 1959- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون. فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وأبصر وعاش. * * * وقال آخرون: بل"العهد" الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله. * ذكر من قال ذلك: 1960- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال الله لإبراهيم:"لا ينال عهدي الظالمين" فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينه. يقول: لا ينال دينه الظالمين. ألا ترى أنه قال: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [سورة الصافات:113] ، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق. 1961- حدثني يحيى بن جعفر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا ينال عهدي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر = عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله - الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير،   (1) الأثر: 1961- يحيى بن جعفر، هو يحيى بن أبي طالب، وانظر الأثر رقم: 284. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 بمعنى الاقتداء به في الدنيا، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة، من وفى لله به في الدنيا (1) - من كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق (2) . فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به، ويجور عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده، كالذي:- 1962- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون (3) * * * وأما نصب"الظالمين"، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين. وذكر أنه في قراءة ابن مسعود:"لا ينال عهدي الظالمون"، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله. * * * وإنما جاز الرفع في"الظالمين" والنصب، وكذلك في"العهد"، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء، كما يقال:"نالني خير فلان، ونلت خيره"، فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه. * * * وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (4) * * *   (1) سياق هذه الجملة المعترضة: ". . لا ينال من ولد إبراهيم عهد الله. . . من كان منهم ظالما. . . ". (2) وسياق هذه الجملة التي اعترضتها الجملة الطويلة السالفة: "وإن كان ظاهره ظاهر خبر. . فهو إعلام من الله. . . "، وهكذا دأب أبي جعفر رضي الله عنه. (3) الأثر: 1962- في المطبوعة"عتاب بن بشر"، وهو خطأ. هو عتاب بن بشير الجزري أبو الحسن ويقال أبو سهل الحراني (تهذيب التهذيب) والتاريخ الكبير للبخاري 4/1/56. (4) انظر ما سلف 1: 523-524. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} قال أبو جعفر: أما قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة"، فإنه عطف ب"إذ" على قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات". وقوله:"وإذ ابتلى إبراهيم" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي"، واذكروا"إذ ابتلى إبراهيم ربه"،"وإذ جعلنا البيت مثابة". * * * و"البيت" الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام. * * * وأما"المثابة"، فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت. فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في"المثابة"، لما كثر من يثوب إليه، كما يقال:"سيارة" لمن يكثر ذلك،"ونسابة". وقال بعض نحويي الكوفة: بل"المثاب" و"المثابة" بمعنى واحد، نظيرة"المقام" و"المقامة" (1) . و"المقام"، ذكر -على قوله- لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت"المقامة"، لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون"المثابة" ك"السيارة، والنسابة".، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في"السيارة والنسابة" تشبيها لها ب"الداعية". * * * و"المثابة""مفعلة" من"ثاب القوم إلى الموضع"، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا. (2)   (1) في المطبوعة: "نظيره" والأرجح ما أثبت. (2) لم تذكر هذه المصادر في كتب اللغة، "المثاب، والمثابة" مصدران ميميان قياسيان، فإغفالهما في كتب اللغة غير غريب، وأما قوله"وثوابا"، فهذا إن صح عن الطبري، فهو جائز في العربية أيضًا، ولكنهم نصوا على أن مصدر"ثاب" هو"ثوبانا، وثوبا، وثؤوبا" فأخشى أن تكون محرفة عن إحداها. وأما"الثواب" في المعروف من كتب العربية الاسم من"أثابه يثيبه إثابة، وهو الثواب"، وهو المجازاة على الصنيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فمعنى قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس": وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا. ومن"المثاب"، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم: مثاب لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الطلائح (1) ومنه قيل:"ثاب إليه عقله"، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 1963- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو عاصم قال، حدثنا] عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإذ جعلنا البيت مثابة   (1) من أبيات طويلة لورقة بن نوفل في البداية والنهاية لابن كثير 2: 297، والبيت في تفسير أبي حيان 1: 380، بهذه الرواية، وقبل البيت في ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام: فمتبع دين الذي أسس البنا ... وكان له فضل على الناس راجح وأسس بنيانا بمكة ثابتا ... تلألأ فيه بالظلام المصابح مثابا لأفناء. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بنصب"مثابا" بيد أن الشافعي روى هذا البيت في الأم 2: 120 لورقة بن نوفل، وعجزه. تخب إليه اليعملات الذوامل وكذلك جاء في القرطبي 2: 100، وعدها أبو حيان رواية في البيت، وبهذه الرواية ذكره صاحب اللسان في (ثوب) منسوبا لأبي طالب، وفي (ذمل) غير منسوب. والظاهر أن الشافعي رحمه الله أخطأ في رواية البيت. وأخطأ صاحب اللسان في نسبته، اشتبه عليه بشعر أبي طالب في قصيدته المشهورة. وأفناء القبائل: أخلاطهم ونزاعهم من هاهنا وهاهنا. وخبت الدابة تخب خببا: وهو ضرب سريع من العدو. واليعملات جمع يعملة وهي الناقة السريعة المطبوعة على العمل، اشتق اسمها من العمل، والعمل الإسراع والعجلة. والطلائع جمع طليح. ناقة طليح أسفار: جهدها السير وهزلها، فهي ضامرة هزلا. يعني الإبل أنضاها أصحابها في إسراعهم إلى حج البيت. وأما"الذوامل" في الرواية الأخرى، فهو جمع ذاملة. ناقة ذمول وذاملة: وهي التي تسير سيرا لينا سريعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 للناس" قال: لا يقضون منه وطرا. (1) 1964- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1965- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه، لا يقضون منه وطرا. 1966- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه. 1967- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا يقضون منه وطرا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. 1968- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. 1969- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه من كل مكان، ولا يقضون منه وطرا. 1970- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء مثله. 1971- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال،   (1) الأثر: 1963- ما بين القوسين ساقط من الأصول. وهذا إسناد دائر، أقربه إلينا رقم: 1946، فأتممته على الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 حدثنا مالك بن مغول، عن عطية في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا يقضون منه وطرا (1) . 1972- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يحجون ويثوبون. 1973- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا الثوري، عن أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير في قوله:"مثابة للناس" قال، يحجون، ثم يحجون، ولا يقضون منه وطرا. (2) 1974- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر، عن غالب، عن سعيد بن جبير:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه. (3) 1975-- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" قال، مجمعا. 1976- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه.   (1) الخبر: 1971- شيخ الطبري"محمد بن عمارة الأسدي"، كما مضى في: 645، 1511، وكما ذكرنا أنه يروى عنه في التاريخ كثيرا. وفي المطبوعة"محمد بن عمار". سهل بن عامر: هو البجلي، وهو ضعيف جدا، ترجمه للبخاري في الصغير، ص: 234، وقال: "منكر الحديث، لا يكتب حديثه". وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/202 وروى عن أبيه قال: "هو ضعيف الحديث، روى أحاديث بواطيل! أدركته بالكوفة، وكان يفتعل الحديث". وترجم في لسان الميزان 3: 119-120، ووقع اسم أبيه في التاريخ الصغير"عمار"، وهو خطأ ناسخ أو طابع. (2) الخبران: 1972-1973- أبو الهذيل: هو غالب بن الهذيل الأودي، يروي عن أنس، وسعيد بن جبير، وغيرهما، وهو ثقة، وثقه ابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4/1/99، وابن أبي حاتم 3/2/47. وسيأتي باسمه في الخبر بعدهما. (3) الخبر: 1974- غالب: هو أبو الهذيل في الخبرين قبله. مسعر، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين: هو ابن كدام -بكسر الكاف وتخفيف الدال- وهو أحد الأعلام. الثقات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 1977- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه. 1978- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمْنًا} قال أبو جعفر: و"الأمن" مصدر من قول القائل:"أمن يأمن أمنا". * * * وإنما سماه الله"أمنا"، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . [سورة العنكبوت: 67] 1979- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وأمنا" قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له. 1980- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"أمنا"، فمن دخله كان آمنا. 1981- حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله:"وأمنا" قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله. 1982- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وأمنا"، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 1983- حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"وأمنا" قال، أمنا للناس. 1984- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"وأمنا" قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأه بعضهم:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" بكسر"الخاء"، على وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. (1) وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:- 1985- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". 1986- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا، عن حميد، عن أنس، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.   (1) كان في المطبوعة: "قراء" في هذه المواضع، فرددتها إلى ما جرى عليه الطبري في الأجزاء السالفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 1987- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، فذكر مثله. (1) * * * قالوا: فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز قراءتها -وهي أمر- على وجه الخبر. * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي" و"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم -على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ..... كما حدثنا [عن] الربيع بن أنس. (2) بما:- 1988- حدثت [به] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام. (3) * * *   (1) الأحاديث: 1985-1987، هي حديث واحد بأربعة أسانيد صحاح. وهو مختصر من حديث مطول، رواه أحمد في المسند: 157، 160، 250، عن هشيم، وعن ابن أبي عدي، وعن يحيى - ثلاثتهم، عن حميد، عن أنس. ورواه البخاري أيضًا، عن مسدد، عن يحيى. كما ذكره ابن كثير 1: 309-310، من رواية البخاري وأحمد، ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن صحيح". (2) كان في المطبوعة: "كما حدثنا الربيع بن أنس"، وهو خطأ، فزدت"عن" بين القوسين، فبين أبي جعفر الطبري والربيع بن أنس دهر طويل. وانظر التعليق التالي. (3) الأثر: 1988- هو جزء من الأثر السالف رقم: 1922 وهو"عن ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس"، فزدت ما بين الأقواس، ليستقيم الكلام. وسيأتي أيضًا برقم: 2001 ولكني وضعت هذه النقط في الموضع السالف، لأني أخشى أن يكون في الكلام سقط. وذلك أنه بدأ فقال: إن الأمر بهذه الآية على قول هذا البصري - لليهود من بني إسرائيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم عقب عليه بقوله: "فأمرهم أن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام". ولست أعلم أن اليهود الذي كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلون في البيت الحرام خلف المقام، فلذلك وضعت هذه النقط، لأني أرجح أنه قد سقط من كلام الطبري في هذا الموضع ما يستقيم به هذا الكلام. ولم أجد في الكتب التي تنقل عن تفسير الطبري ما يهدي إلى صواب هذه العبارة. والذي استظهره أن يكون سقط من هذا الموضع، توجيه الأمر في هذه الآية إلى إبراهيم وذريته من ولد إسماعيل، فيكون الضمير في قوله: "فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام" إلى ذرية إبراهيم من ولد إسماعيل، وهم العرب من أهل دين إسماعيل، وبقاياهم من أهل الجاهلية، الذين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليقيمهم على الحنيفية ملة إبراهيم، وهي الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فتأويل قائل هذا القول: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال، إني جاعلك للناس إماما، وقال: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. * * * قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل، يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين. * * * وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: (واتخذوا) بفتح"الخاء" على وجه الخبر. * * * ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله:"واتخذوا" إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر، فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، [وإذ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. (1) وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله:"جعلنا"، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى (2) . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا:"واتخذوا"   (1) الزيادة التي بين القوسين، لا بد منها، وإلا لم يكن بين هذا القول والذي يليه فرق. ويعني البصري في هذا التأويل أن العطف على جملة"وإذ جعلنا"، فتكون"إذ" مضمرة في قوله تعالى: "واتخذوا". (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 77 وهو تأويله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 بكسر"الخاء"، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا، وأن: 1989- عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا جعفر بن محمد قال، حدثني أبي، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وفي"مقام إبراهيم". فقال بعضهم:"مقام إبراهيم"، هو الحج كله. * ذكر من قال ذلك: 1990- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"مقام إبراهيم"، قال الحج كله مقام إبراهيم. 1991- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، الحج كله. 1992- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الحج كله"مقام إبراهيم". * * * وقال آخرون:"مقام إبراهيم" عرفة والمزدلفة والجمار. * ذكر من قال ذلك: 1993- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رياح:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار.   (1) الحديث: 1989- عمرو بن علي: هو الفلاس، من كبار الحفاظ الثقات، روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم. وشيخه يحيى بن سعيد: هو القطان الإمام. والحديث جزء من حديث جابر -الطويل- في الحج كما سنذكر في: 2003، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 1994- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه: جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة. 1995- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه، عرفة. 1996- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [سورة المائدة: 3] ، الآية. 1997- حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن الشعبي مثله * * * وقال آخرون:"مقام إبراهيم"، الحرم. * ذكر من قال ذلك: 1998- حدثت عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، الحرم كله"مقام إبراهيم". * * * وقال آخرون:"مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه، وضعف عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 رفع الحجارة. * ذكر من قال ذلك: 1999- حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدّث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو"مقام إبراهيم" (1) * * * وقال آخرون: بل"مقام إبراهيم"، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام. * ذكر من قال ذلك: 2000- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. (2) ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. (3) 2001- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، فهم يصلون خلف المقام. (4) 2002- حدثني موسى (5) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وهو الصلاة عند مقامه في الحج. و"المقام" هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته تحت الشق الآخر، فغسلته، فغابت رجله   (1) الحديث: 1999- هو قطعة من الحديث الآتي: 2056. وسنخرجه هناك، إن شاء الله. وشيخ الطبري هنا"ابن سنان القزاز": هو"محمد بن سنان"، مضت ترجمته في: 157. وفي المطبوعة"سنان" بحذف"ابن"، وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "مما تكلفته"، والصواب من تفسير ابن كثير 1: 311. (3) في المطبوعة: "أصابعه فيها"، والصواب من تفسير ابن كثير. خلق الشيء وأخلق واخلولق: بلى. (4) الأثر: 2001- هو الأثر السالف: 1988، وانظر التعليق عليه. (5) كان في المطبوعة"حدثني يونس"، وهو خطأ محض بل هو إسناده الدائر في التفسير - إلى السدي، وأقربه رقم: 1980. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أيضا فيه، فجعلها الله من شعائره، فقال:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله القائلون: إن"مقام إبراهيم"، هو المقام المعروف بهذا الاسم، الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، (1) ولما:- 2003- حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. (2) * * * فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب"مقام إبراهيم" الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا. ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه   (1) انظر ما سلف رقم: 1985- 1987. (2) الحديث: 2003- يوسف بن سلمان، شيخ الطبري: هو أبو عمر الباهلي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/2/223-224. وفي المطبوعة"سليمان" بدل"سلمان"، وهو خطأ. حاتم بن إسماعيل المدني: ثقة مأمون كثير الحديث، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/72، وابن أبي حاتم 1/2/258-259، وابن سعد 5: 314. جعفر بن محمد: هو جعفر الصادق، بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو ثقة صادق مأمون، من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا. وإنما يكذب عليه الشيعة الروافض. أما رواية الثقات عنه فصحيحة. وهذا الحديث قطعة من حديث جابر -الطويل- في صفة حجة الوداع. وقد مضت قطعة منه: 1989، من رواية يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر الصادق. وستأتي قطعة منه، بهذا الإسناد: 2365. والحديث بطوله -رواه الإمام أحمد في المسند: 14492 (ج 3 ص 320-321 حلبي) عن يحيى القطان، عن جعفر. ورواه مسلم في صحيحه 1: 346-347، عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه -كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر الصادق، به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وسلم، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا. وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، (1) حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس ب"مقام إبراهيم" هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" * * * [قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى:"مصلى"] ، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. (2) فقال بعضهم: هو المدعى. * ذكر من قال ذلك: 2004- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده. * ذكر من قال ذلك: 2005- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده. 2006- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو الصلاة عنده. * * * قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل:"المصلى" ههنا، المُدَّعَى، وَجَّهوا "المصَلَّى" إلى أنه"مُفَعَّل"، من قول القائل:"صليت" بمعنى دعوت. (3) .   (1) انظر تفسير"الظاهر والباطن" فيما سلف 2: 15، واطلبه في الفهارس. (2) الزيادة بين القوسين لا بد منها. (3) انظر ما سلف 1: 242-243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله. * * * فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها، فإني قد جعلته لمن بعده -من أوليائي وأهل طاعتي- إماما يقتدون به وبآثاره، فاقتدوا به. * * * وأما تأويل القائلين القول الآخر، فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده، عبادةً منكم، وتكرمةً مني لإبراهيم. * * * وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وَعهدنا"؛ وأمرنا، كما:- 2007- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره. 2008- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم" قال، أمرناه. * * * فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين."والتطهير" الذي أمرهما الله به في البيت، هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 فإن قال قائل: وما معنى قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين"؟ وهل كان أيام إبراهيم -قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم، فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟ قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل. (1) أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب (2) كما قال تعالى ذكره: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) ، [سورة التوبة: 109] ، فكذلك قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما:- 2009- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، يقول: ابنيا بيتي [للطائفين] . (3) فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه -على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده، كما:- 2010- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:   (1) في المطبوعة: "قد كان لكل واحد من الوجهين"، وهو كلام هالك. (2) الريب هنا: الشر والخوف من قولهم: رابني أمره، أي أدخل علي شرا وخوفا، وكأن ذلك مردود إلى قوله تعالى: "مثابة للناس وأمنا". (3) هذه الزيادة، من تفسير ابن كثير 1: 315. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 "أن طهرا" قال، من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها. (1) 2011- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عبيد بن عمير:"أن طهرا بيتي للطائفين" قال، من الأوثان والرَّيْب. 2012- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، مثله. 2013- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: من الشرك. 2014- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو إسرائيل، عن أبي حصين، عن مجاهد:"طهرا بيتي للطائفين" قال، من الأوثان. 2015- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"طهرا بيتي للطائفين" قال: من الشرك وعبادة الأوثان. 2016- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، بمثله - وزاد فيه: وقول الزور. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطائفين" في هذا الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ. (2) * ذكر من قال ذلك:   (1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 314-315، بعد أن ساق هذا الوجه، وهذا الأثر: "قلت: وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم". (2) الغربة والغرب (بفتح فسكون) : النوى والبعد. يعني من أتاه من مكان بعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 2017- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله:"للطائفين" قال، من أتاه من غربة. * * * وقال آخرون: بل"الطائفون" هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله. * ذكر من قال ذلك: 2018- حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء:"للطائفين" قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من"الطائفين". * * * وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن"الطائف" هو الذي يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم"طائف بالبيت"، إن لم يطف به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْعَاكِفِينَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والعاكفين"، والمقيمين به."والعاكف على الشيء"، هو المقيم عليه، كما قال نابغة بني ذبيان: عكوفا لدى أبياتهم يثمدونهم ... رمى الله في تلك الأكف الكوانع (1)   (1) ديوانه: 63 من أبيات قالها لزرعة بن عامر العامري. حين بعثت بنو عامر إلى حصن بن حذيفة وابنه عيينة بن حصن: أن اقطعوا حلف ما بينكم وبين بني أسد، وألحقوهم ببني كنانة، ونحالفكم ونحن بنو أبيكم. وكان عيينة هم بذلك، فقالت بنو ذبيان: أخرجوا من فيكم من الحلفاء، ونخرج من فينا! فأبوا، فقال النابغة: ليهن بني ذبيان أن بلادهم ... خلت لهم من كل مولى وتابع سوى أسد، يحمونها كل شارق ... بألفي كمي، ذي سلاح، ودارع ثم مدح بني أسد، وذم بني عبس، وتنقص بني سهم ومالك من غطفان وعبد بن سعد بن ذبيان، وهجاهم بهذا البيت الذي استشهد به الطبري، ورواية الديوان"قعودا"، و"يثمدونها"، والضمير للأبيات. وقوله: "يثمدونهم" أصله من قولهم: "ثمد الماء يثمده ثمدا"، نبث عنه التراب ليخرج. وماء مثمود: كثر عليه الناس حتى فني ونفد إلا أقله. وأخذوا منه: "رجل مثمود"، إذا ألح الناس عليه في السؤال، فأعطى حتى نفد ما عنده. يقول: يظل بنو سعد ومالك لدى أبيات عبد بن سعد يستنزفون أموالهم. يصفهم بالخسة وسقوط الهمة. ومن روى: "يثمدونها" وأعاد الضمير إلى"أبياتهم"، فهو مثله، في أنهم يلازمون بيوتهم ويسترزقونها، يهزأ بهم. والكوانع جمع كانع: وهو الخاضع الذي تدانى وتصاغر وتقارب بعضه من بعض، كأنه يتقبض من ذلته. يصفهم بالخسة والطمع والسؤال الذليل. وقوله: "رمى الله" يعني أصابها بما يستأصلها، ورواية الديوان: "في تلك الأنوف"، فمعناه: رمى فيها بالجدع، وهو دعاء عليهم، واشمئزاز من حقارتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وإنما قيل للمعتكف"معتكف"، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:"والعاكفين". فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة. * ذكر من قال ذلك: 2019- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين. * * * وقال بعضهم:"العاكفون"، هم المعتكفون المجاورون. * ذكر من قال ذلك: 2020- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة:"طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال، المجاورون. * * * وقال بعضهم:"العاكفون"، هم أهل البلد الحرام. * ذكر من قال ذلك: 2021- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله:"والعاكفين" قال: أهل البلد. 2022- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والعاكفين" قال: العاكفون: أهله. * * * وقال آخرون:"العاكفون"، هم المصلون. * ذكر من قال ذلك: 2023- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله:"طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال، العاكفون، المصلون. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء، وهو أن"العاكف" في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة. لأن صفة"العكوف" ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم، وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله:"أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" - المصلين والطائفين، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من"العاكف"، غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والركع"، جماعة القوم الراكعين فيه له، واحدهم"راكع". وكذلك"السجود" هم جماعة القوم الساجدين فيه له، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 واحدهم"ساجد" - كما يقال:"رجل قاعد ورجال قعود" و"رجل جالس ورجال جلوس"، فكذلك"رجل ساجد ورجال سجود". (1) * * * وقيل: بل عنى"بالركع السجود"، المصلين. * ذكر من قال ذلك: 2024- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء:"والركع السجود" قال، إذا كان يصلي فهو من"الركع السجود". 2025- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والركع السجود"، أهل الصلاة. * * * وقد بينا فيما مضى بيان معنى"الركوع" و"السجود"، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا"، واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا. * * * قال أبو جعفر: يعني بقوله:"آمنا": آمنا من الجبابرة وغيرهم، أن يسلطوا   (1) مما استظهرته من أمر هذا الجمع، جمع فاعل على فعول: أن كل فعل ثلاثي جاء مصدره على"فعول" بضم الفاء، فجمع"فاعل" منه على"فعول"، كهذه الأمثلة التي ذكرت هنا، وكل ما سواها مما قيدته كتب اللغة، ومما هو منثور في الشعر. (2) انظر ما سلف 1: 574-575، ثم 2: 103-105، 519. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان، من خسف، وائتفاك، وغرق، (1) وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره، كما: 2026- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش. وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمان الطوفان -حين أغرق الله قوم نوح- رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله. * * * فإن قال لنا قائل: أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان؟ قيل له: لقد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والأرض. واعتلوا في ذلك بما:- 2027- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال:"يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي،   (1) في المطبوعة: "وانتقال" مكان"وائتفاك"، وذاك لفظ بلا معنى هنا وبلا دلالة. والائتفاك الانقلاب، وهو عذاب الله الشديد الذي أنزله بقوم لوط، فقال سبحانه في سورة هود: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها"، وهذا هو الائتفاك، ائتفكت بهم الأرض: أي انقلبت فصار عاليها سافلها، فسمى الله هذه القرى، قرى لوط"المؤتفكات" في سورة التوبة: 70، وفي سورة الحاقة: 9، وقال في سورة النجم: 52-53"والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبا علي أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحِلَّها لك". (1) 2028- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكة حين افتتحها:"هذه حرم حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، ووضع هذين الأخشبين، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، أُحِلَّت لي ساعة من نهار. (2) * * *   (1) الحديث: 2027- هذا مختصر من حديث صحيح مطول: فرواه أحمد في المسند: 16448 (ج 4 ص 32 حلبي) ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، بهذا الإسناد. ورواية ابن إسحاق ثابتة أيضًا -مطولة- في سيرة ابن هشام 4: 57-58 (حلبي) ، و 823- 824 أوربة، 2: 277-278 (من الروض الأنف) . ورواه أيضًا، بنحوه، أحمد: 16444 (ج 4 ص 31) ، والبخاري 1: 176-177، و 4: 35-39 (فتح) ، ومسلم 1: 383-384 كلهم من طريق الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح. وقوله في الحديث: "أو يعضد بها شجرا"، أي يقطعه، يقال"عضد الشجر"، من باب"ضرب" قطعه. وقوله: "غضبا على أهلها": هذا هو الصحيح الثابت في رواية ابن إسحاق، في المسند، وسيرة ابن هشام، وفي المطبوعة: "عصى على أهلها". وهو تصحيف. (2) الحديث: 2028- هذا الحديث رواه الطبري بإسنادين، عن ثلاثة شيوخ: فرواه عن أبي كريب محمد بن العلاء، عن عبد الرحيم بن سليمان الرازي. ثم رواه عن ابن حميد - وهو محمد بن حميد الرازي، وعن ابن وكيع - وهو سفيان بن وكيع، كلاهما: أعني ابن حميد وابن وكيع، عن جرير بن عبد الحميد الضبي. ثم يجتمع الإسنادان: فيرويه عبد الرحيم بن سليمان وجرير بن عبد الحميد"جميعا عن يزيد بن أبي زياد". وهذه الأسانيد ظاهرها الصحة، وإن كان سفيان بن وكيع ضعيفا، كما بينا في: 1692- فإن الطبري لم يفرده بالرواية عنه، بل قرن به محمد الرازي، وهو ثقة - إلا أن في الحديث انقطاعا، بين مجاهد وابن عباس. وقد سمع مجاهد من ابن عباس حديثا كثيرا، ولكن هذا الحديث بعينه رواه"عن طاوس عن ابن عباس". و"يزيد بن أبي زياد الكوفي مولى بني هاشم": صدوق، في حفظه شيء بعد ما كبر، قال ابن سعد 6: 237"كان ثقة في نفسه، إلا أنه اختلط في آخر عمره، فجاء بالعجائب". وقال يعقوب بن سفيان: "ويزيد -وإن كانوا يتكلمون فيه لتغييره- فهو على العدالة والثقة، وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/334، وابن أبي حاتم 4/2/265. فلعله وهم في حذف"طاوس" بين مجاهد وابن عباس. والحديث في ذاته صحيح. فرواه أحمد بنحوه مطولا: 2353، 2898، من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس. وكذلك رواه البخاري 4: 40-42، ومسلم 1: 383، من طريق منصور. ومنصور بن المعتمر: سبق توثيقه 177. وهو أثبت حفظا من مئة مثل يزيد بن أبي زياد. بل قال يحيى القطان: "ما أحد أثبت عن مجاهد وإبراهيم - من منصور". وقدمه الأئمة -في الحفظ- على الأعمش والحكم. بل إن هذا الحديث نفسه: ذكر الحافظ في الفتح أنه رواه الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - مرسلا، يعني بحذف طاوس وابن عباس، ثم قال: "ومنصور ثقة حافظ، فالحكم لوصله". أي أن هذه الزيادة زيادة ثقة، يجب قبولها والحكم لها بالترجيح. وقوله في هذه الرواية: "ووضع هذين الأخشبين". هذه الزيادة لم أجدها في شيء من الروايات الأخر. و"الأخشبان"، بلفظ التثنية: هما جبلا مكة المطيفان بها. انظر النهاية لابن الأثير، ومعجم البلدان لياقوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 قالوا: فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط، وأن يرزق ساكنه من الثمرات، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله:"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر". قالوا: وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته، وهو غير ذي زرع ولا ضرع، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه. قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه، وهو القائل - حين حله، ونزله بأهله وولده: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [سورة إبراهيم: 37] ؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 تحريمه لما قال:"عند بيتك المحرم" عند نزوله به، ولكنه حُرِّم قبله، وحُرِّم بعده. * * * وقال آخرون: كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك، ما:- 2029- حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا تقطع عضاهها. (1) 2030- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [حدثنا ابن إدريس - وأخبرنا أبو كريب قال] ، حدثنا عبد الرحيم الرازي، [قالا جميعا] : سمعنا أشعث، عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير. (2)   (1) الحديث: 2029- إسناده صحيح. عبد الرحمن بن مهدي: هو الإمام الحافظ العلم. سفيان: هو الثوري. أبو الزبير: هو المكي، محمد بن مسلم بن تدرس، تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. جابر: هو ابن عبد الله، الصحابي المشهور. والحديث رواه مسلم 1: 385، بنحوه، من طريق محمد بن عبد الله الأسدي، عن سفيان، بهذا الإسناد. بلفظ"إن إبراهيم حرم مكة" إلخ. ونقله ابن كثير 1: 316، وقال: "وهكذا رواه النسائي، عن محمد بن بشار بندار، به". و"بندار": لقب محمد بن بشار. اللابتان: هما الحرتان بجانبي المدينة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها. العضاه، بكسر العين وتخفيف الضاد المعجمة وآخره هاء: كل شجر عظيم له شوك. (2) الحديث: 2030- أبو السائب: هو مسلم بن جنادة، مضت ترجمته: 48. ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي. سبقت ترجمته في: 438. عبد الرحيم الرازي: هو عبد الرحيم بن سليمان الرازي الأشل الكناني - الذي مضت له رواية في الحديث 2028- وهو ثقة كثير الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/239. أشعث: هو ابن سوار الكندي، ضعفه بعضهم، ووثقه آخرون. وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند: 661. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/430، وابن أبي حاتم 1/1/271-272. نافع: هو مولى ابن عمر، الثقة الثبت الحجة. وقد كان هذا الإسناد: مغلوطا في المطبوعة هكذا: "حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا عبد الرحيم الرازي: سمعت أشعث. . . " نقص منه"ابن إدريس". فكان ظاهره أن أبا كريب وأبا السائب روياه عن عبد الرحيم الرازي عن أشعث. والصواب ما أثبتناه، نقلا عن ابن كثير 1: 316، عن هذا الموضع من الطبري. فصحة الإسناد: أنه يرويه الطبري عن أبي كريب وأبي السائب. كلاهما عن عبد الله بن إدريس، ثم يرويه الطبري عن أبي كريب وحده، عن عبد الرحيم الرازي -وأن عبد الله بن إدريس وعبد الرحيم الرازي سمعاه جميعا من أشعث. وهذا الحديث من هذا الوجه، قال فيه ابن كثير: "وهذه الطريق غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة". وأزيد عليه: أني لم أجدها في المسند أيضًا، ولا في غيره مما استطعت الرجوع إليه من المراجع. ثم أشار ابن كثير إلى أن أصل معناه ثابت عن أبي هريرة، من وجه آخر، في صحيح مسلم. وهو حديث مالك في الموطأ، ص: 885، عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة: "كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا. اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة، ومثله معه". وهو في صحيح مسلم 1: 387، عن قتيبة، عن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 2031- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قتيبة بن سعيد قال، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابيتها. (1)   (1) الحديث: 2031- بكر من مضر بن محمد بن حكيم المصري: ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/95، وابن أبي حاتم 1/1/392-393، وتذكرة الحفاظ، وقال: "الإمام المحدث الصادق العابد". ابن الهاد: هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني. وهو ثقة كثير الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/344، وابن أبي حاتم 4/2/275. أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: تابعي ثقة حجة، لا يسأل عن مثله. عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: تابعي ثقة، وكان شريفا جوادا ممدحا. جده لأمه: عبد الله بن عمر بن الخطاب. والحديث رواه مسلم في صحيحه 1: 385، عن قتيبة بن سعيد، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير 1: 316، وقال: "انفرد بإخراجه مسلم". يعني دون البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب. * * * قالوا:"وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال:"رب اجعل هذا بلدا آمنا"، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض، فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس، فخبران لا تثبت بهما حجة، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم،"أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض"، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه، يستنون به فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله، للناس إماما يقتدى به، فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه، فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - (1) فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم.   (1) سياق هذه الجملة المعترضة: "بعد أن كانت ممنوعة. . .، ومحرمة. . . "، وسياق الجملة التي دخلها الاعتراض: "فصارت مكة. . . فرض تحريمها. . . وواجب على عباده. . . " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم مكة". لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - (1) كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، [وهو الذي] لزم العباد فرضه دون غيره. (2) فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وإن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر" - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن خديج وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة"؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر، كما ظنه بعض الجهال. وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا، إذا ثبت صحتها. وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه. وأما قول إبراهيم عليه السلام (3) (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [سورة إبراهيم: 37] فإنه، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، (4) فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته، (5) من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد، لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك. * * *   (1) كلأه الله يكلؤه كلاء (بفتح فسكون) وكلأ (بكسر فسكون) وكلاءة (بكسر الكاف) : حرسه وحفظه. وكان في المطبوعة"الكلاء" بهمزة مفردة مع المد، وليس صوابا. هذا، وسياق العبارة: "لأن فرض تحريمها. . . كان عن مسألة إبراهيم ربه". (2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. (3) في الأصول: "وقول إبراهيم"، والصواب زيادة"أما" كما يدل عليه السياق. (4) وفيها: "إن يكن قال قبل إيجاب الله". والصواب ما أثبت. (5) وفيها: "وكلائه"، والصواب ما أثبت، وانظر التعليق السالف رقم: 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 القول في تأويل قوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال أبو جعفر: وهذه مسألة من إبراهيم ربه: أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات، دون كافريهم. وخص، بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين، لما أعلمه الله -عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم- أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده، والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر، خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة، المؤمن منهم دون الكافر. وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قليلا. * * * وأما "من" من قوله: "من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، فإنه نصبٌ على الترجمة والبيان عن"الأهل"، (1) كما قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) [سورة البقرة: 217] ، بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وكما قال تعالى ذكره: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) [سورة آل عمران: 97] : بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا. * * * وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك، لأنه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل، فسأل أن يرزق أهله ثمرا، وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم. فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه، نقل الله الطائف من فلسطين. 2032- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا هشام قال، قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم:"وارزق أهله من الثمرات"، نقل الله الطائف من فلسطين. * * *   (1) الترجمة: هي عطف البيان أو البدل عند الكوفيين، كما سلف 2: 340، 420. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول، وفي وجه قراءته. فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره، وتأويله على قولهم: قال: ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك:"فأمتعه قليلا"، بتشديد"التاء" ورفع"العين". * ذكر من قال ذلك: 2033- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع، قال، حدثني أبو العالية، عن أبي بن كعب في قوله:"ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار"، قال هو قول الرب تعالى ذكره. 2034- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما قال إبراهيم:"رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية، = انقطاعا إلى الله، (1) ومحبة وفراقا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره (2) = فقال الله: ومن كفر - فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا. (3) * * * وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن، على وجه المسألة منه ربه أن   (1) يعني أن إبراهيم قال ذلك، وصرف الدعوة: "انقطاعا إلى الله. . . " (2) في المطبوعة: "أنه كان منهم ظالم. . . " والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير. قوله: "بخبره عن ذلك. . " سياقه، أنه: عدل الدعوة عمن أبي. . بخبر الله عن ذلك حين أخبره. وفي المطبوعة: "فقال الله. . "، والفاء مفسدة للسياق، فإنه: "لما قال إبراهيم. . وعدل الدعوة. . قال الله. . ". (3) الأثر: 2034- في تفسير ابن كثير 1: 319، وفيه اختلاف في بعض اللفظ، ولم أجده في سيرة ابن هشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا"ثم اضطره إلى عذاب النار" - بتخفيف"التاء" وجزم"العين"، وفتح"الراء" من اضطره، وفصل"ثم اضطره" بغير قطع ألفها (1) - على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة. * ذكر من قال ذلك: 2035- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قال، قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا. * * * 2036- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ليث، عن مجاهد:"ومن كفر فأمتعه قليلا"، يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا، ثم أضطره إلى عذاب النار. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل، ما قاله أبي بن كعب وقراءته، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم، قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار. * * * وأما قوله:"فأمتعه قليلا" يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته   (1) هذا رسم القراءة {فأمتعه قليلا ثم اضطره} ، على أنهما فعلا أمر، يراد بهما الدعاء والسؤال. (2) الأثر: 2036- كان ينبغي أن يقدم هذا الأثر على ذكر هذه القراءة التي سوف يردها الطبري. وبين من نقل ابن كثير عن الطبري أن موقعه قبل الأثر رقم: 2034، وسيأتي في كلام الطبري بعد قليل ما يقطع بأن هذا الخبر عن مجاهد، بمعزل عن هذه القراءة. فأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط الخبر عند النسخ، ثم عاد فوضعه هنا حين انتبه إلى أنه قد أسقطه. وكدت أرده إلى مكانه، ولكني آثرت تركه على حاله مع التنبيه على الخطأ، وفصلته عن الذي قبله بالنجوم الفاصلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 متاعا يتمتع به إلى وقت مماته. (1) وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة. فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه. (2) وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا. وقال غيره: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه، لما وصفنا. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله:"ثم أضطره إلى عذاب النار"، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها، كما قال تعالى ذكره: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ   (1) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539-541. (2) انظر الأثر: رقم: 2036، والتعليق عليه. (3) ما أحسن ما قال أبو جعفر فإن أكثر الكلام، يحتمل وجوها، ولكن سياق المعاني وترابطها يوجب معنى واحدا مما يحتمله الكلام. وهذا ما يعنيه بقوله: "دليل ظاهر الكلام". وانظر تفسير"الظاهر" فيما سلف 2: 15 والمراجع قبله وبعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 جَهَنَّمَ دَعًّا) [سورة الطور: 13] . (1) * * * ومعنى"الاضطرار"، الإكراه. يقال:"اضطررت فلانا إلى هذا الأمر"، إذا ألجأته إليه وحملته عليه. فذلك معنى قوله:"ثم أضطره إلى عذاب النار"، أدفعه إليها وأسوقه، سحبا وجرا على وجهه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) } قال أبو جعفر: قد دللنا على أن"بئس" أصله "بِئس" من "البؤس" سُكِّن ثانيه، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله، كما قيل للكَبد كِبْد، وما أشبه ذلك. (2) * * * ومعنى الكلام: وساء المصيرُ عذابُ النار، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها. * * * وأما"المصير"، فإنه "مَفعِل" من قول القائل:"صرت مصيرا صالحا"،، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار. (3) * * *   (1) قال أبو جعفر في تفسير هذه الآية (27: 13-14، بولاق) : "يدفعون بإرهاق وإزعاج. يقال منه. دععت في قفاه: إذا دفعت فيه". (2) انظر ما سلف 2: 338-340. (3) يريد الطبري أنه المنزل الذي ينتهى إليه، من قولهم: "أين مصيركم؟ "، أي منزلكم. والمصير: العاقبة وما يصير إليه الشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت. * * * و"القواعد" جمع"قاعدة"، يقال للواحدة من"قواعد البيت""قاعدة"، وللواحدة من"قواعد النساء" وعجائزهن"قاعد"، فتلغى هاء التأنيث، لأنها"فاعل" من قول القائل:"قعدت عن الحيض"، ولا حظَّ فيه للذكورة، كما يقال:"امرأة طاهر وطامث"، لأنه لا حظ في ذلك للذكور. ولو عنى به"القعود" الذي هو خلاف"القيام"، لقيل:"قاعدة"، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث. و"قواعد البيت": إساسه. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في"القواعد" التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت. أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟ فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفَّى أثرُه بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه والسلام، فبناه. ذكر من قال ذلك: 2037- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قال آدم: يا رب، إني لا أسمع أصوات الملائكة! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، وابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت   (1) الإساس (بكسر الهمزة) جمع أس (بضم الهمزة) ، وجمع الأساس، أسس (بضمتين) وجمع الأسس (بفتحتين) آساس (بالمد) ، وكلها بمعنى واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من"حراء" و"طورزيتا"، و"طورسينا"، و"جبل لبنان"، و"الجودي"، وكان ربضه من حراء. فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد. (1) 2038- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. * * * وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت. ذكر من قال ذلك: 2039- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مهبط معك -أو منزل - معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من"حراء" و"ثبير" و"لبنان" و"جبل الطور" و"جبل الخمر". (2)   (1) الأثر: 2037- في تفسير ابن كثير 1: 325، وقال: "وهذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة والله أعلم". وربض البناء (بفتحتين) وربضه (بضم فسكون) : هو وسطه الذي يربض عليه، أي يستقر ويثبت. (2) الخبر: 2039- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي، وهو ثقة، من شيوخ الشافعي وأحمد وأضرابهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/71، وابن سعد 7/2/44. أيوب: هو ابن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة حجة. قال شعبة: "كان سيد الفقهاء". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/409-410، وابن سعد 7/2/14-17، وابن أبي حاتم. أبو قلابة، بكسر القاف وتخفيف اللام: هو عبد الله بن زيد الجرمي. وهو تابعي ثقة مشهور. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/1/133-135، وابن أبي حاتم 2/2/57-58. وهذا الخبر ذكره السيوطي 1: 127، ونسبه الطبري وابن أبي حاتم، والطبراني، عن"عبد الله بن عمرو بن العاص". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 288، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، موقوفا، ورجاله رجال الصحيح". وهو كما قال. ولكن ليس فيه حجة، ولعله مما كان يسمع عبد الله بن عمرو من أخبار أهل الكتاب. جبل الخمر: هو جبل بيت المقدس، سمي بذلك لكثرة كرومه (ياقوت) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 2040- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا إسماعيل بن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: لما أهبط آدم، ثم ذكر نحوه. 2041- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار [ختن عطاء] ، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى الأرض. فلما فقد ما كان يسمع منهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة، فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكة. وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم فبناه. فذلك قول الله:"وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت". (1) 2042- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم، حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا: فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي.   (1) الأثر: 2041- في تاريخ الطبري 1: 61، والزيادة بين القوسين منه. وفي تفسير ابن كثير 1: 325، وقال"هذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة، والله أعلم"، ومعه أيضًا الأثر الذي سلف رقم: 2037. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 فانطلق إليه آدم فخرج، ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك. فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء. 2043- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة واحدة -أو درة واحدة- حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه، فبوأه الله لإبراهيم، فبناه بعد ذلك. * * * وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوه حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، (1) وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه. وقالوا: أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة. ذكر من قال ذلك: 2044- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال جرير بن حازم، حدثني حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، مثل الزبْدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض. 2045- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحا فصفقت الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت منها. فلذلك هي"أم القرى". قال ابن جريج، قال عطاء: ثم وَتَدها بالجبال كي لا تكفأ بميد، فكان أول جبل"أبو قيس". (2)   (1) الزبد (بفتحتين) : هو ما يطفو على الماء من رغوته البيضاء. والطائفة من الزبد، زبدة (بفتح فسكون) . (2) صفقت الريح الماء (بفتح الفاء، وبتشديدها مع الفتح) : ضربته وقلبته يمينا وشمالا. والحشفة: صخرة رخوة في سهل الأرض. ويقال للجزيرة في البحر لا يعلوها الماء: "حشفة"، وجمعها حشاف (بكسر الحاء) ، إذا كانت صغيرة مستديرة. وكفأ الشيء يكفؤه: قلبه. وماد الشيء يميد ميدا. تحرك ومال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 2046- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت (1) . 2047- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنتره، عن عطاء بن أبي رباح قال: وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه:"إني أنا الله ذو بكة بنيته يوم صنعت الشمس والقمر، وحففته بسبعة أملاك حنفاء" (2) . 2048- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع. وحملوا -فيما حدثني- على البراق ومعه جبريل يدله على   (1) قال مصحح النسخة المطبوعة: "قوله: وضع البيت على أركان الماء. . . هكذا في الأصل وعبارة الدر المنثور: كان البيت على أربعة أركان في الماء" وهذا تعليق غريب جدا، فإن نص الدر المنثور 1: 127، هو نفس نص الطبري، وهو نفس ما نقله ابن كثير في تفسيره عن الطبري 1: 326. وعبارة الطبري صحيحة. (2) الأثر: 2047- لم أجده من طريق عطاء بن أبي رباح، ولكنه مروي عن ابن عباس، ومجاهد في أخبار مكة للأزرقي 1: 37-38، بألفاظ مختلفة، في خبر طويل تام اختصره أبو جعفر. ونص خبر مجاهد: "وجد في بعض الزبور: أنا الله ذو بكة، جعلتها بين هذين الجبلين، وصغتها يوم صغت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء. . . ". وأما ابن إسحاق فقال (سيرة ابن هشام 1: 208) ؛"حدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن". قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها". أما قوله: "حنفاء" فجمع حنيف، وهو المسلم الذي قال لا إله إلا الله ثم استقام على الطريق. ووصف الملائكة بأنهم حنفاء، لطاعتهم واستقامتهم في عبادة ربهم، وصبرهم أنفسهم على ما أمروا به من حفظ هذا البيت المطهر. . وانظر تفسير"حنفاء" في الآثار رقم: 2096، 2098، 2099. هذا وقد كان في المطبوعة: "حففته بسبعة أملاك حفا"، وهو خطأ صوابه ما أثبت من المراجع، أخبار مكة للأزرقي 1: 37-38، وسيرة ابن هشام 1: 208، والسهيلي في الروض الأنف 1: 131. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 موضع البيت ومعالم الحرم. فخرج وخرج معه جبريل، فقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه! حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر، وبها أناس يقال لهم"العماليق" خارج مكة وما حولها، (1) والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله: (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) . [سورة إبراهيم: 37] قال ابن حميد: قال، سلمة قال، ابن إسحاق: ويزعمون -والله أعلم- أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل - حين أنزلهما إبراهيم مكة، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت - فأشار لها إلى البيت، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: (2) هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه للناس. (3) 2049- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان قال، أخبرني حميد، عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا   (1) في المطبوعة: "يربها أناس يقال لهم. . . "، وهي صحيحة المعنى: أي يملكها العماليق وهم سادتها وأصحابها. من ذلك حديث صفوان بن أمية حين قال لأبي سفيان: "لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن". أي يكون ربا فوقي وسيدا يملكني. ولكني أثبت ما في تاريخ الطبري، وما نقله عنه ابن كثير، وأخبار مكة للأزرقي. (2) في المطبوعة: "فأشار لهما. . فقال لهما. . " على التثنية، وهو خطأ محض، فإن الخطاب لهاجر وحدها، كما يدل عليه السياق قبل وبعد، والصواب في أخبار مكة للأزرقي. (3) الأثر: 2048- الفقرة الأولى من هذا الأثر في تاريخ الطبري 1: 130 مع بعض الاختلاف في اللفظ في صدر الخبر، وفي أخبار مكة للأزرقي 1: 19، وفي تفسير ابن كثير 1: 326. وأما الفقرة الأخيرة منه فهي في أخبار مكة للأزرقي 1: 20-21، وقد كان مكان قوله في آخرها"يرفعانه للناس"، "يرفعانه فالله أعلم"، وهي زيادة من ناسخ في أغلب الظن. وأثبت نص ما جاء في أخبار مكة. والعضاه: كل شجر يعظم وله شوك شديد. والسلم والسمر: ضربان من شجر العضاه. وقوله: "مدرة"، أي طين يابس لزج، لا رمل فيه، وهو الطين الحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة. 2050- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، أخبرني بشر بن عاصم، عن ابن المسيب قال، حدثنا كعب: إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة، ومنه دحيت الأرض. قال [سعيد] : وحُدّثنا عن علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة، تدله على تبوئ البيت، كما تتبوأ العنكبوت بيتها قال، فرفعت عن أحجار تطيقه -أو لا تطيقه- ثلاثون رجلا قال، قلت: يا أبا محمد فإن الله يقول:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، كان ذاك بعد. (1) * * *   (1) الخبر: 2050- بشر بن عاصم بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الطائفي: ثقة، يروي عن سعيد بن المسيب. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/77-78، وابن سعد 5: 380، وابن أبي حاتم 1/1/360. وهذا الخبر خبران: أولهما عن كعب الأحبار. ولا قيمة له. والثاني عن علي بن أبي طالب. والظاهر أنه مما كان يتحدث به الصحابة من أخبار أهل الكتاب. وقد روى القسمين ابن أبي حاتم، فيما نقل ابن كثير 1: 324-325. عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن سفيان، وهو ابن عيينة، بهذا الإسناد. وروى الحاكم في المستدرك 2: 267 -خبر على وحده- من طريق زكريا بن إسحاق، عن بشر بن عاصم، به. وزكريا بن إسحاق المكي: ثقة. وكذلك روى خبر علي وحده - الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد، في تاريخ مكة 1: 25 (طبعة مكة سنة 1352) - عن جده، عن سفيان بن عيينة، عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب، "قال: أخبرني علي بن أبي طالب". وفي المطبوعة هنا - أول خبر علي: "قال: وحدثنا عن علي بن أبي طالب". فالذي يقول هذا: هو سعيد بن المسيب. وما أدري أوقعت الرواية للطبري هكذا، أم هو تحريف من الناسخين. فالذي في رواية ابن أبي حاتم: "قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب". ويؤيده رواية الحاكم: "عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب قال: حدثنا علي بن أبي طالب". وكذلك رواية الأزرقي. وهذا هو الصواب فيما أرى. وخبر علي: نقله أيضًا السيوطي 1: 126، ونسبه فوق هذا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. الغثاءة واحدة الغثاء، وهو ما يحمله السيل والماء من الزبد والهالك البالي من الشجر وغيره، يخالط الزبد. وفي ابن كثير: "فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا". والضمير في قوله: "تطيقه" إلى حجر من الأحجار المذكورة، إن لم يكن في الأصول تحريف أو سقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء، مما أنشأه الله من زبد الماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، (1) لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بالنقل المستفيض. ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو - إذ لم يكن به خبر، على ما وصفنا - مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا. والله تعالى أعلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا. وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن سعود. وهو قول جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 2051- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه، قال:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا   (1) مضى مثل هذا التعبير في 1: 520 س 16، ثم 2: 517 س 15. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 أمة مسلمة لك ربنا وابعث فيهم رسولا منهم". 2052- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" قال، هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ يبني. * * * فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل قائلين: ربنا تقبل منا. * * * وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل. فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإذ يقول ربنا تقبل منا. فيصير حينئذ"إسماعيل" مرفوعا بالجملة التي بعده. و"يقول" حينئذ، خبر له دون إبراهيم. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد، بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها. فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. ذكر من قال ذلك: 2053- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين". (1)   (1) صدر هذا الخبر في تفسير ابن كثير: "وقال السدي: إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل: ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. فانطلق إبراهيم. . . " وفي تاريخ الطبري 1: 129: "قال: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم. . . " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 قال: فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول، لا يدريان أين البيت. فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، (1) واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) . [سورة الحج: 26] . فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان تعب. قال: علي بذلك. فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا. فانطلق يطلب له حجرا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة. (2) وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس. فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك! فبنياه. (3) 2054- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن عبد الله بن عروة، عن عبيد بن عمير الليثي قال: بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "وعن أساس البيت" بزيادة الواو، ولا خير في زيادتها، وأثبت ما في التاريخ، وابن كثير. وفي ابن كثير: "فكشفت لهما" مكان"فكنست". والريح الخجوج: الشديدة المر، التي تلتوي في هبوبها، وتشق شقا بشدة عصفها. (2) الثغامة: نبات ذو ساق جماحته مثل هامة الشيخ، أبيض الثمر والزهر، يشبه به بياض الشيب. وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بأبي قحافة يوم الفتح، وكأن رأسه ثغامة، فأمرهم أن يغيروه. (3) الأثر: 2052- في تاريخ الطبري 1: 129 صدره إلى قوله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت"، وهو بتمامه في تفسير ابن كثير 1: 325. وقد مضى شطر من صدره بالرقم: 2009. (4) الخبر: 2054- عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام: من ثقات أتباع التابعين يروي أيضًا عن جده عروة بن الزبير، وأخرج له الشيخان في الصحيحين. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/1/117، وكتاب الجمع بين رجال الصحيحين، ص: 341. ووقع في المطبوعة"عمرو بن عبد الله بن عتبة"، وهو خطأ كبير، فلا يوجد في الرواة من يسمى بهذا. ثم هذا الخبر نفسه كلمات قلائل، من خبر مطول في قصة، رواه الطبري في التاريخ 1: 134. بهذا الإسناد"عن عمر بن عبد الله بن عروة: أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن إبراهيم دعا إلى الحج؟ . . ". عبيد بن عمير الليثي: مضت ترجمته: 1768. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسماعيل يناوله الحجارة. ذكر من قال ذلك: 2055- حدثنا أحمد بن ثابت الرازي قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة -يزيد أحدهما على الآخر-، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم، وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا! وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها قال، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، حتى دور حول البيت. (1)   (1) الحديث: 2055- أحمد بن ثابت بن عتاب الرازي، المعروف بفرخويه، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/44، ولسان الميزان 1: 143. وروى ابن أبي حاتم عن أبي العباس الطهراني قال، "كانوا لا يشكون أن فرخويه كذاب". وقد يصدق الكذوب! فالحديث في ذاته صحيح: رواه البخاري -مطولا جدا- عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد 6: 283-289 (فتح) . والذي هنا قطعة منه. وقد ذكر ابن كثير 1: 320-322، رواية البخاري بطولها، ثم أشار إلى رواية الطبري هذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 2056- حدثنا ابن سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء -يعني إبراهيم- فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم. قال إبراهيم: يا إسماعيل، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا. فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". (1) * * * وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسماعيل يومئذ طفل صغير. ذكر من قال ذلك: 2057- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على   (1) الحديث: 2056- ابن سنان القزاز: هو محمد بن سنان. وقد مضت ترجمته في: 157. ووقع في المطبوعة هنا"ابن بشار"! وهو تصحيف. وهذا الحديث أيضًا جزء من حديث مطول، رواه البخاري 6: 290 (فتح) ، عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، عن إبراهيم بن نافع، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير أيضًا 1: 322-323، عن رواية البخاري. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 551-552، مختصرا، عن أبي العباس الأصم محمد بن يعقوب، عن محمد بن سنان القزاز -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فلم ينبه إلى خطأ الحاكم في استدراكه، إذ رواه البخاري. وقد نبه على ذلك ابن كثير، واستعجب أن يستدركه الحاكم، وهو في صحيح البخاري! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص. فلما بنى [خرج] وخلف إسماعيل وهاجر، (1) فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال، فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئا. ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت، فلم تر شيئا. حتى فعلت ذلك سبع مرات. فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. (2) فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر، أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف! قال: ففحص [الغلام] الأرض بإصبعه، (3) فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء. فقال: دعيه فإنها رَوَاء. (4) 2058- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟   (1) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري 1: 129، وتفسير ابن كثير 1: 324. (2) فحصت الدجاجة وغيرها برجلها في التراب: بحثته وأزالت التراب عن حفرة. (3) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري 1: 129، وليست في ابن كثير. (4) الحديث: 2057- مؤمل- بوزن: محمد -: هو ابن إسماعيل العدوي، وهو ثقة. بينا توثيقه في شرح المسند: 2173. سفيان: هو الثوري. وأبو إسحاق: هو السبيعي. حارثة ابن مضرب العبدي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/87، وابن أبي حاتم 1/2/255. و"مضرب": بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة. ووقع في المطبوعة"مصرف"، وهو تصحيف. والخبر رواه الطبري في التاريخ أيضًا 1: 129، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير في التفسير 1: 324، عن الطبري. ثم قال: "ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما. وقد يحتمل -إن كان محفوظا- أن يكون أولا وضع له حوطا وتجميرا، لا أنه بناه إلى أعلاه. حتى كبر إسماعيل، فبنياه معا، كما قال الله تعالى". وقوله: "فإنها رواء" (بفتح الراء والواو) . يقال ماء روى (بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء) وروى (بكسر ففتح) ورواء: كثير عذب مرو لا ينقطع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة، (1) مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض. قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل الله السكينة -وهى ريح خجوج، ولها رأسان (2) - فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، (3) وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيم: لا ابغني حجرا كما آمرك. (4) قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء. فأتماه. (5) 2059- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا سعيد، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه. 2060- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، بنحوه. * * * قال أبو جعفر: فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال: رفعها إبراهيم وكان   (1) في المطبوعة وفي التاريخ، وابن كثير: "وضع في البركة". وفي المستدرك الحاكم 1: 293، والدر المنثور، "وضع للناس فيه البركة والهدى"، فصححتها من هناك. (2) انظر ما سلف قريبا: 66 تعليق رقم: 1. (3) تطوت: استدارت. تطوت الحية: تحوت والتف بعضها على بعض واستدارت كالطوق. والحجفة: الترس من الجلود يطارق بعضه على بعض، ليس فيه خشب. وفي رواية الطبري في التاريخ"كتطوي الحية"، وكذلك في المستدرك"كتطوق الحية"، وجاء في ابن كثير"الجحفة" وهو خطأ. (4) في التاريخ: "لا أبغي حجرا. . . "، وهو خطأ، وفي ابن كثير: "فقال إبراهيم: ابغي حجرا كما آمرك"، وهو خطأ أيضًا. يقال: ابغني كذا وكذا، وابغ لي كذا وكذا: أي اطلبه لي والتمسه. بغى فلان فلانا شيئا: التمسه له. (5) الأخبار: 2058-2060، هي خبر واحد بثلاثة أسانيد. وشيخ الطبري في الإسناد الأول"هناد": هو ابن السري بن مصعب الدارمي التميمي، وهو ثقة. من شيوخ البخاري ومسلم وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/248، والصغير: 245، وابن أبي حاتم 4/2/119-120. وقع في المطبوعة"عباد"، وهو تحريف، تصويبه، من التاريخ للطبري 1: 128-129، حيث روى هذا الخبر بهذا الإسناد الأول"حدثنا هناد بن السري". وكذلك نقله ابن كثير 1: 224، عن الطبري. أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي الحافظ الثقة. سماك - بكسر السين وتخفيف الميم: هو ابن حرب بن أوس البكري، وهو تابعي ثقة، روى له مسلم ووثقه أحمد وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/174، وابن أبي حاتم 2/1/279-280. خالد بن عرعرة التيمي: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 2/1/149، وقال: "سمع عليا". وابن أبي حاتم 1/2/343، ولم يذكرا فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات. و"سعيد" -في الإسناد الثاني-: أنا أرجح أنه محرف عن"شعبة"، فهو الذي يروي عن سماك ابن حرب، وهو الذي يطلقه"محمد بن جعفر غندر"، إذ هو شيخه الذي لزمه وجالسه نحوا من عشرين سنة. و"أبو داود" في الإسناد الثالث: هو الطيالسي. والخبر رواه أيضًا الأزرقي في تاريخ مكة 1: 24-25، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 292-293، من طريق إسرائيل، عن خالد بن حرب، عن خالد بن عرعرة. قال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي 1: 126، ونسبه لهؤلاء ولغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 إسماعيل يناوله الحجارة، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل. ويكون الكلام حينئذ:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" يقولان:"ربنا تقبل منا". وقد كان يحتمل، على هذا التأويل، أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا. وأما على التأويل الذي روي عن علي:- أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة. * * * والصواب من القول عندنا في ذلك: أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. وذلك أن إبراهيم وإسماعيل، إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا. وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنما قلنا ما قلنا من ذلك، لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه، أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك، إلا وهو: إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان -في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله (1) - كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام. * * * فتأويل الكلام: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا عملنا، وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، إنك أنت السميع العليم. * * * وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه، ولا منزلا ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك. ولذلك قالا"ربنا تقبل منا". ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم، لم يكن لقولهما:"تقبل منا" وجه مفهوم. لأنه كانا   (1) سياق العبارة: "وإذا كان. . . كذلك" وما بينهما فصل. ويعني بقوله"كذلك" أنه كان قد فهم الضر والنفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 يكونان -لو كان الأمر كذلك- سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه. وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) } قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"إنك أنت السميع العليم"، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا، (2) . كما:- 2061- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني أبو كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} قال أبو جعفر: وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل: أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان:"ربنا واجعلنا مسلمين لك"، يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك   (1) يقول: هما من العلم والنبوة بمنزلة وموضع، فلا يسألان الله قبول عمل ليس من القربات إلى الله. (2) قوله: "وما نبدي. . . " معطوف على قوله: "العليم بما في ضمائر نفوسنا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك. * * * وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"الإسلام": الخضوع لله بالطاعة. (1) * * * وأما قوله:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، فإنهما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره. فخصا بالدعوة بعض ذريتهما. * * * وقد قيل: إنهما عنيا بذلك العرب. ذكر من قال ذلك: 2062- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب. * * * قال أبو جعفر: وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه. لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته، والمستجيبين لأمره. وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة، من الفريقين. فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم، إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد. * * * وأما"الأمة" في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، (2) من قول الله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: 159] . (3) * * *   (1) انظر ما سلف 2: 510، 511. (2) انظر ما سلف 1: 221 س: 14. (3) جاء في تفسير ابن كثير 1: 332 ما نصه: قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" وهو كما ترى ليس في أصل الطبري. فلا أدري أهو تصرف من ابن كثير، أم في أصول الطبري خرم في هذا الموضع، وكلاهما جائز، ولا أقطع بشيء. هذا وقد أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري، فزعم أن تخصيص السدي أنهم العرب لا ينفي من عداهم ثم قال: "والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية، والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم". واعتراض ابن كثير هذا لا يقوم، واحتجاجه بالسياق هنا لا ينهض. فالدعاء دعاء إبراهيم وإسماعيل معا، ولكل منهما ذرية يشملها الدعاء. والسياق هنا سياق الآيات المتتابعة لا سياق آية واحدة. ففي الآيات التي تلي هذه الآية ذكر ملة إبراهيم، وبيانها: " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون". وهي آيات متتابعة، فالتخصيص فيها غير جائز، مع وضوح الدلالة على أن ذرية إبراهيم من غير إسماعيل، كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهم له مسلمون وهذا دليل على ما ذهبت إليه في مقدمة الجزء الأول، من اختصار الطبري في تفسيره هذا، فإنه لو شاء لأفاض واحتج بما احتججت بما احتججت به. وهو دليل أيضًا على أن قراءة الطبري تحتاج إلى متابعة آية بعد آية، وأن قراءته مفرقا توقع في خطأ في فهم مراده وحجته. ودليل على أن الطبري شديد العناية بسياق الآيات وترابطها، ولكنه ربما أغفل ذكر هذا الترابط مفصلا وحجته فيه، لأنه قد استوفى ذلك في مواضع سبقت، فاختصر المواضع الأخرى ثقة بتتبع قارئه لما أراد. ودليل آخر على أن هذا التفسير لا يزال مجهول المكانة، على علو مكانته عند أسلافنا غفر الله لنا ولهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (1) فقرأه بعضهم:"وأرنا مناسكنا" بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة.   (1) في المطبوعة: "القراء"و"قراء"، ورددتها إلى ما درج عليه الطبري في عبارته. والقَرَأَة جمع قارئ، مثل حافظ وحفظة، كما سلف مرارا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل، يسكن الراء من"أرنا"، غير أنه يشمها كسرة. * * * واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل قوله:"مناسكنا" فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه. ذكر من قال ذلك: 2063- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأرنا مناسكنا" فأراهما الله مناسكهما: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين - أو دينه. 2064- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا نسكنا وحجنا. 2065- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت، أمره الله أن ينادي فقال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) [سورة الحج:27] ، فنادى بين أخشبي مكة: (1) يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة:"لبيك لبيك". فأجابوه بالتلبية:"لبيك اللهم لبيك"، وأتاه من أتاه. فأمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها [له] ، (2) فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان، فرماه بسبع حصيات   (1) أخشبا مكة: هما الجبلان المطيفان بها، وهما: "أبو قبيس" و"الأحمر"، وهو مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ، وفي الحديث: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها". (2) الزيادة بين القوسين، أظنها أحرى بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا، فصده، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى"ذا المجاز"، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت. قال: قد عرفت! فسميت:"عرفات". فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، (1) فسميت"المزدلفة"، فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره. وذلك قوله:"وأرنا مناسكنا". (2) * * * وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة -"المناسك": المذابح. فكان تأويل هذه الآية، على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا، فنذبحها لك. (3) ذكر من قال ذلك: 2066- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأرنا مناسكنا" قال: ذبحنا.   (1) ازدلف إلى الشيء: تقرب إليه ودنا منه. وجمع (بفتح الجيم وسكون الميم) هي"مزدلفة". (2) الأثر: 2065 سيأتي بعضه برقم: 3792 في هذا الجزء. (3) نسك ينسك (بضم السين) نسكا (بسكون السين) ذبح. والنسيكة: الذبيحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 2067- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء قال: مذابحنا. 2067م- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2067م- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 2067م- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا مذابحنا. * * * وقال آخرون:"وأرنا مناسكنا" بتسكين"الراء"، (1) وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا، ودلنا عليها - لا أن معناه: أرناها بالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يعفر، أخي الأسود بن يعفر: (2) ريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا (3) يعني بقوله:"أريني"، دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به رؤية العين.   (1) كان في المطبوعة: "وقال آخرون"، واستظهرت من السياق أنها"وقرأ آخرون"، فلذلك أثبت ما استظهرت، فسيقول بعد: "وهذه قراءة رويت. . . ". (2) هما أخوان من بني نهشل بن دارم، جاهليان، أمهما رهم بنت العباب. (3) الشعر والشعراء: 201-202، 211 وفيه تحقيق عن اختلاف قديم في نسبته، ومجاز القرآن: 55، والخزانة 1: 195-196 وفيهما مراجع كثيرة. روى البيت لحاتم الطائي، ولمعن بن أوس، وفي اللسان (أنن) و (علل) عن ابن برى وقال: "حطائط بن يعفر، ويقال هو لدريد"، وسيأتي في تفسير الطبري منسوبا لدريد بن الصمة (7: 213 بولاق) مع اختلاف في رواية صدره: ذريني أطوف في البلاد لأنني ولم أجد هذه الرواية في الكتب التي بين يدي، وأخشى أن يكون الطبري أو من أنشده البيت - قد وهم. فقول حطائط قبله أو بعده. ذريني أكن للمال ربا، ولا يكن ... لي المال ربا، تحمدي غبه غدا ذريني فلا أعيا بما حل ساحتى ... أسود فأكفي، أو أطيع المسودا وهو يخاطب بهذه الأبيات أمه رهم بنت العباب، وكانت تلومه على جوده وإتلافه المال. والهزل (بفتح وسكون) والهزل (بضم فسكون) والهزال: هو نقيض السمن، مع الضعف والاسترخاء. وقوله: "لأنني" بفتح الهمزة بمعنى: "لعلني". من قولهم: "أن" بمعنى"عل"، و"لأن" بمعنى"لعل"، وأرى أن الهمزة منقلبة عن العين، والنون منقلبة عن اللام. وهما لغتان من لغات العرب. واجتمعتا في هذا اللفظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين. (1) ذكر من قال ذلك: 2068- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء:"أرنا مناسكنا"، أخرجها لنا، علمناها. 2069- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال:"فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا" -أبرزها لنا، علمناها- فبعث الله جبريل، فحج به. * * * قال أبو جعفر: والقول واحد، فمن كسر"الراء" جعل علامة الجزم سقوط"الياء" التي في قول القائل:"أرينه""أرنه"، (2) وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن"الراء" من"أرنا"، توهم أن إعراب الحرف في"الراء"، فسكنها في الجزم، كما فعلوا ذلك في"لم يكن" و"لم يك". (3) . وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب. * * * وأما"المناسك" فإنها جمع"منسك"، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. ولذلك قيل لمشاعر الحج   (1) كان الأجود أن تكون هذه الجملة بعد قوله: "وقرأ آخرون: "وأرنا مناسكنا" بتسكين الراء". ولكن هكذا وقع في النسخ. (2) هكذا جاء في المطبوعة"أرينه"، وأظن صواب هذا الحرف"يرينيه"، مضارعا مرفوعا، ليستقيم مع قوله: "وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم". (3) ظاهر كلام الطبري هنا يدل على أن قوله: "لم يك" بتسكين الكاف، على توهم أن إعراب هذه الكلمة في الكاف، فسكنها لما دخل عليها الجازم. ولم أجد هذا القول في كتاب مما بين يدي من الكتب، وأخشى أن يكون في نص الطبري في هذا المكان سقط لم أتبينه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 "مناسكه"، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويترددون إليها. * * * وأصل"المنسك" في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال:"لفلان منسك"، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر. ولذلك سميت"المناسك""مناسك"، لأنها تعتاد، ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله. * * * وقد قيل: إن معنى"النسك": عبادة الله. وأن"الناسك" إنما سمي"ناسكا" بعبادة ربه. فتأول قائلو هذه المقالة. قوله:"وأرنا مناسكنا"، وعلمنا عبادتك، كيف نعبدك؟ وأين نعبدك؟ وما يرضيك عنا فنفعله؟ وهذا القول، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على معنى"المناسك" ما وصفنا قبل، من أنها"مناسك الحج" التي ذكرنا معناها. * * * وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما. وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين. فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما، صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك. (1) وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية، وتأخره بعد في الآية الأخرى. فأما الذي في أول الآية فقولهما:"ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما، في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا"وأرنا مناسكنا". وأما التي في الآية التي بعدها:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، فجعلا المسألة لذريتهما خاصة.   (1) في المطبوعة: "عن أنفسهم بذلك"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود:"وأرهم مناسكهم"، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) } قال أبو جعفر: أما"التوبة"، فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب. فتوبة العبد إلى ربه، أوبته مما يكرهه الله منه، بالندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه، والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه. (1) * * * فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟ قيل: إنه ليس أحد من خلق الله، إلا وله من العمل -فيما بينه وبين ربه- ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خَصَّا به الحال التي كانا عليها، (2) من رفع قواعد البيت. لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدى بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما:"وتب علينا"، وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا -الذين أعلمتنا أمرهم- من ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما، والمعني به ذريتهما. كما   (1) انظر معنى"التوبة" فيما سلف 1: 547/2: 72-73. (2) في المطبوعة: "ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خصا. . . "، وهو كلام فاسد والصواب ما أثبت. يجعل"قبلهما"، أي قولهما. وبحذف الواو من: "وإنما". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 يقال:"أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرني فلان"، إذا بر ولده. * * * وأما قوله:"إنك أنت التواب الرحيم"، فإنه يعني به: إنك أنت العائد على عبادك بالفضل، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران - الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} قال أبو جعفر: وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى":- 2070- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، صلى الله عليه وسلم. (1)   (1) الحديث: 2070- ثور بن يزيد الكلاعي الحمصي. ثقة من أثبت الرواة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/180-181، وابن أبي حاتم 1/1/468-469. خالد بن معدان الكلاعي الحمصي: تابعي ثقة ثبت، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/161-162، وابن سعد 7/2/162، وابن أبي حاتم 1/2/351. وهذا الإسناد مرسل، لأن خالد بن معدان لم يذكر أنه عن أحد من الصحابة. وكذلك هو في سيرة ابن هشام، (ص 106-107 طبعة أوربة، 1: 175 طبعة الحلبي) . في قصة مطولة. وكذلك رواه الطبري في التاريخ 2: 130، بهذا الإسناد، مطولا أيضًا، مرسلا. ولكنه ثبت موصولا، من رواية ابن إسحاق أيضًا: فرواه الحاكم في المستدرك 2: 600، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، "حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ ". . فذكر الحديث مختصرا، بنحو مما هنا. ثم قال الحاكم: "خالد بن معدان: من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل، فمن بعده من الصحابة. فإذا أسند حديثا إلى الصحابة، فإنه صحيح الإسناد، وإن لم يخرجاه". ووافقه الذهبي على تصحيحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 2071- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا أبو اليمان قال، حدثنا أبو كريب، عن أبي مريم، عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية السلمي قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عند الله في أم الكتاب، خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي. (1) 2072- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية -، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثني أبي قال، حدثنا   (1) الحديث: 2071- عمران بن بكار الكلاعي: ثقة، من شيوخ النسائي، ووثقه هو وغيره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/294، وذكر أنه سمع منه. وقد مضت رواية الطبري عنه: 149 ولم نترجمه هناك. ووقع في التهذيب أنه مات"سنة إحدى وسبعين ومائة"! وهو خطأ ناسخ أو طابع، لا يعقل ذلك وأن يسمع منه النسائي والطبري وهذه الطبقة. وصحته: سنة 271. أبو اليمان: هو الحكم بن نافع الحمصي، وهو ثقة من شيوخ أحمد بن حنبل والبخاري. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/342، وابن أبي حاتم 1/2/129، وقال: "وهو نبيل ثقة صدوق". أما قوله"حدثنا أبو كريب" - هنا: فإنه خطأ يقينا من الناسخين. فإن"أبا كريب محمد بن العلاء" - وقد مضت ترجمته: 1291- متأخر عن أبي اليمان. هذه واحدة، وأخرى، أن أبا اليمان روى هذا الحديث عن ابن أبي مريم، كما سيأتي. فإما أنه ذكر خطأ من الناسخ، وإما أن يكون صوابه"وأبو كريب، قالا: حدثنا". فيكون عمران بن بكار رواه عن شيخين. ابن أبي مريم: هو"أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي"، وهو ضعيف، من قبل سوء حفظه وتغيره، كما بينا في شرح المسند: 1464، 6165. ووقع هنا في المطبوعة"عن أبي مريم" بحذف"ابن". وهو خطأ واضح. ثم إن ضعف"ابن أبي مريم" من قبل حفظه، قد جبر في هذا الحديث، بأن رواه غيره. ولكنه أخطأ فيه بحذف التابعي من إسناده. سعيد بن سويد الكلبي الشامي: وهو تابعي ثقة، سمع من بعض الصحابة ولقيهم. ولكن ابن حبان ذكره في الثقات (ص: 475) في أتباع التابعين. ترجمه الحافظ في التعجيل: 152، وأشار إلى هذا الحديث، ونقل أن البخاري قال: "لم يصح حديثه". وما أدري أين قاله البخاري، فإنه لم يترجمه في الصغير، ولم يذكره في الضعفاء. وترجمه في الكبير 2/1/436، ولم يذكر فيه جرحا. وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/29، ولم يذكر فيه جرحا أيضًا. وإنما اختلف عنه الراويان - في هذا الإسناد والإسنادين بعده: أهو"عن العرباض"، أم بينهما تابعي آخر؟ فأخطأ ابن أبي مريم في حذف التابعي بين سعيد والعرباض. كما سيأتي، إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح - قالا جميعا، عن سعيد بن سويد، عن عبد الله بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية السلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1) 2073- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر نحوه. (2) * * *   (1) الحديث: 2072- وهذا إسناد آخر للحديث قبله، بل إسنادان: فرواه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، ثم رواه عن عبيد بن آدم العسقلاني، عن أبيه، عن الليث بن سعد - وابن وهب والليث روياه عن معاوية بن صالح. وأولهما واضح. و"عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني" - في ثانيهما: ثقة، روى عنه أيضًا أبو زرعة وأبو حاتم، والنسائي، وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/402. وأبوه"آدم بن أبي إياس". مضت ترجمته: 187. والليث بن سعد: ومعاوية بن صالح: مضت ترجمته: 187 أيضًا. (2) الحديث: 2073- وهذا إسناد آخر للحديث السابق. و"أبو صالح": هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد. مضت ترجمته: 186. عبد الأعلى بن هلال السلمي: هكذا اختلف في اسمه على معاوية بن صالح، في الإسناد السابق وهذا الإسناد: فهنالك"عبد الله بن هلال"، وهنا"عبد الأعلى بن هلال". وأنا أرجح أنه"عبد الأعلى" لما سيأتي من الدلائل، إن شاء الله. وهذا التابعي قصر الحافظ فلم يترجم له في التعجيل في واحد من الاسمين، مع أنه من رجال مسند أحمد، ومع أن سلفه الحافظ الحسيني ترجم له في الإكمال، ص: 64 قال، "عبد الله بن هلال السلمي، ويقال: عبد الأعلى، شامي. روى عن العرباض بن سارية، وأبي أمامة الباهلي. وعنه سويد بن سعيد الكلبي. مجهول"! وما كان الرجل مجهولا قط! وهو مترجم عند ابن أبي حاتم 3/1/25 باسم"عبد الأعلى"، وكذلك ذكره ابن حبان في الثقات، ص: 267، وذكر له هذا الحديث، عن العرباض بن سارية. وكذلك ذكره البخاري في الكبير، في ترجمة"سعيد بن سويد" باسم"عبد الأعلى بن هلال". وكذلك صنع ابن أبي حاتم وابن حبان. وأيضًا فإن الرواة عن الليث بن سعد اختلفوا عليه كذلك. ففي روايتي أحمد وابن سعد، من طريق الليث: "عبد الأعلى بن هلال"، كما سنذكر. بل إن عبد الأعلى هذا له ذكر في حديث آخر في المسند (5: 261 حلبي) في مسند أبي أمامة الباهلي، فروى الإمام أحمد بإسناده إلى خالد بن معدان قال، "حضرنا صنيعا لعبد الأعلى بن هلال، فلما فرغنا من الطعام قام أبو أمامة فقال:. . "، إلخ. وأيا ما كان فهذه الأسانيد صحاح، على الرغم من هذا الاختلاف. وكثيرا ما يكون مثل هذا، ولا أثر له في صحة الحديث. والحديث - من رواية أبي بكر بن أبي مريم: 2071- رواه أيضًا أحمد في المسند: 17230 (ج 4 ص 127 حلبي) ، عن أبي اليمان الحكم بن نافع، عن أبي بكر، عن سعيد بن سويد، عن العرباض، بنحوه. وآخره عنده: "ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين، صلوات الله عليهم". وبنحو ذلك - وشيء من الاختصار- رواه الحاكم في المستدرك 2: 600، من طريق أبي اليمان، عن ابن أبي مريم. وصححه هو والذهبي. ورواه أيضًا الإمام أحمد: 17217 (ج 4 ص 127 حلبي) ، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد الله بن هلال السلمي"، عن عرباض بن سارية، نحوه. فعبد الرحمن بن مهدي، سمي التابعي"عبد الله" - كما صنع ابن وهب وآدم بن أبي إياس، هنا في روايتهما عن الليث. ورواه أيضًا الإمام أحمد: 17218، وابن سعد في الطبقات 1/1/95-96، كلاهما عن أبي العلاء الحسن بن سوار الخراساني، عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد الأعلى بن هلال السلمي"، عن العرباض. وقد ذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد 8: 223، بألفاظ عن العرباض. ثم قال: "رواه أحمد بأسانيد، والبزار، والطبراني بنحوه. . . وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان". وهو أيضًا عند السيوطي 1: 139، ونسبه -زيادة على ما ذكرنا- لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وبعد: فإن للحديث شاهدا آخر، يصلح للاستشهاد، مع ضعف في إسناده: فروى أبو داود الطيالسي في مسنده: 1140، عن الفرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو هذا الحديث. وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند (5: 262 حلبي) ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن الفرج بن فضالة. بهذا الإسناد. والفرج بن فضالة: ضعيف، كما قلنا في: 1688. وذكره السيوطي 1: 139، ونسبه أيضًا للطبراني، وابن مردويه، والبيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 2074 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 2075- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه وسلم. 2076- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: قد استجيب ذلك، وهو في آخر الزمان. * * * قال أبو جعفر: ويعني تعالى ذكره بقوله:"يتلو عليهم آياتك": يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {َ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قال أبو جعفر: ويعني ب"الكتاب": القرآن. وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن"كتابا"، وما تأويله. (2) وهو قول جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 2077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ويعلمهم الكتاب"، القرآن. * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: هي السنة. ذكر من قال ذلك:   (1) انظر معاني"تلا" فيما سلف 2: 409- 411، 569. (2) انظر ما سلف 1: 97، 99. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 2078- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة""والحكمة"، أي السنة. * * * وقال بعضهم:"الحكمة"، هي المعرفة بالدين والفقه فيه. ذكر من قال ذلك: 2079- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له. 2080- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والحكمة" قال،"الحكمة"، الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: و"الحكمة"، العقل في الدين وقرأ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [سورة البقرة: 269] ، وقال لعيسى، (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ) [سورة آل عمران: 48] قال، وقرأ ابن زيد: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) [سورة الأعراف: 175] قال، لم ينتفع بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال:"والحكمة" شيء يجعله الله في القلب، ينور له به. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في"الحكمة"، أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من"الحكم" الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة "الجِلسة والقِعدة" من "الجلوس والقعود"، يقال منه:"إن فلانا لحكيم بين الحكمة"، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول والفعل. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 عليهم آياتك، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"التزكية": التطهير، وأن معنى"الزكاة"، النماء والزيادة. (1) فمعنى قوله:"ويزكيهم" في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله، كما:- 2081- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يتلو عليهم آياتك ويزكيهم" قال، يعني بالزكاة، طاعة الله والإخلاص. 2082- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"ويزكيهم" قال، يطهرهم من الشرك، ويخلصهم منه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إنك يا رب أنت"العزيز" القوي الذي لا يعجزه شيء أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك؛ و"الحكيم" الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 573-574. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم"، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها؟ (1) * * * وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن"ملة إبراهيم" هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: 67] ، فقال تعالى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه، كما:- 2083- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"، رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية، بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم -يعني الإسلام- حنيفا؛ كذلك بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم. 2084- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ومن يرغبث عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" قال، رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم: الإسلام. * * *   (1) سيأتي تفسير"الملة" بعد صفحات ص: 104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إلا من سفه نفسه"، إلا من سفهت نفسه. وقد بينا فيما مضى أن معنى"السفه"، الجهل. (1) فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية، إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها، ويضرها في معادها، كما:- 2085- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا من سفه نفسه" قال، إلا من أخطأ حظَّه. * * * وإنما نصب"النفس" على معنى المفسر. ذلك أن"السفه" في الأصل للنفس، فلما نقل إلى"من"، نصبت"النفس"، بمعنى التفسير. (2) كما يقال:"هو أوسعكم دارا"، فتدخل"الدار" في الكلام على أن السعة فيها، لا في الرجل. فكذلك"النفس" أدخلت لأن السفه للنفس لا ل"من". ولذلك لم يجز أن يقال: سفه أخوك. وإنما جاز أن يفسر بالنفس، وهي مضافة إلى معرفة، لأنها في تأويل نكرة. (3) * * * وقال بعض نحويي البصرة: إن قوله:"سفه نفسه" جرت مجرى"سفه" إذا كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى"نفسه" و"رأيه" وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو"سفه"، إذا هو لم يتعد. فأما"غبن" و"خسر" فقد يتعدى إلى غيره، يقال:"غبن خمسين، وخسر خمسين". * * *   (1) انظر ما سلف 1: 293-295. (2) التفسير والمفسر: يعني التمييز، ويقال له أيضًا "التبيين". (3) انظر بيان ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 79، واللسان (سفه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولقد اصطفيناه في الدنيا"، ولقد اصطفينا إبراهيم. و"الهاء" التي في قوله:"اصطفيناه"، من ذكر إبراهيم. * * * و"الاصطفاء""الافتعال" من"الصفوة"، وكذلك"اصطفين"ا"افتعلنا" منه، صيرت تاؤها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد. ويعني بقوله:"اصطفيناه": اخترناه واجتبيناه للخلة، (1) ونصيره في الدنيا لمن بعده إماما. * * * وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده، فهو لله مخالف، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته، وجعله للناس إماما، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإنه في الآخرة لمن الصالحين"، وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين. * * * و"الصالح" من بني آدم: هو المؤدي حقوق الله عليه.   (1) الخلة (بضم فتشديد) : الصداقة والمحبة. والخليل: الصديق الحبيب. وهي هنا منزلة من منازل محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم وأحبهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله، أنه في الدنيا صفي، وفي الآخرة ولي، وأنه وارد موارد أوليائه الموفين بعهده. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال له ربه أسلم"، إذ قال له ربه: أخلص لي العبادة، واخضع لي بالطاعة، وقد دللنا فيما مضى على معنى"الإسلام" في كلام العرب، فأغنى عن إعادته. (1) * * * وأما معنى قوله:"قال أسلمت لرب العالمين"، فإنه يعني تعالى ذكره، قال إبراهيم مجيبا لربه: خضعت بالطاعة، وأخلصت العبادة، لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره. * * * فإن قال قائل: قد علمت أن"إذ" وقت، فما الذي وقت به؟ وما الذي هو له صلة. (2) قيل: هو صلة لقوله:"ولقد اصطفيناه في الدنيا". وتأويل الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا، حين قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. وإنما معنى الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا حين قلنا له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. فأظهر اسم"الله" في قوله:"إذ قال له ربه أسلم"، على وجه الخبر   (1) انظر ما سلف 2: 510، 511، وهذا الجزء 3: 74. (2) في المطبوعة: "وما الذي صلته". والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 عن غائب، وقد جرى ذكره قبل على وجه الخبر عن نفسه، كما قال خُفاف بن ندبة: أقول له - والرمح يأطر متنه: ... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا (1) * * * ءفإن قال لنا قائل: وهل دعا اللهُ إبراهيمَ إلى الإسلام؟ قيل له: نعم، قد دعاه إليه. فإن قال: وفي أي حال دعاه إليه؟ قيل حين قال: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: 78-79] ، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه: أسلم - من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ووصى بها"، ووصى بهذه الكلمة. عنى ب"الكلمة" قوله (3) "أسلمت لرب العالمين"، وهي"الإسلام"   (1) سلف تخريج هذا البيت في 1: 227/ 2: 304. (2) قرأ الآيات من سورة الأنعام: 74-78. (3) في المطبوعة: "أعني بالكلمة"، وهو خطأ محض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له. (1) * * * ويعني بقوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه"، عهد إليهم بذلك وأمرهم به. * * * وأما قوله:"ويعقوب"، فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنيه، كما:- 2086- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب"، يقول: ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم. 2087- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ووصى بها إبراهيم بنيه"، وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بمثل ذلك. * * * قال أبو جعفر: وقال بعضهم: قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه) ، خبر منقض. وقوله:"ويعقوب" خبر مبتدأ. فإنه قال:"ووصى بها إبراهيم بنيه". بأن يقولوا: أسلمنا لرب العالمين - ووصى يعقوب بنيه: أن:"يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون". ولا معنى لقول من قال ذلك. لأن الذي أوصى به يعقوب بنيه، نظير الذي أوصى به إبراهيم بنيه: من الحث على طاعة الله، والخضوع له، والإسلام. * * * فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت: من أن معناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: أن"يا بني" - فما بال"أن" محذوفة من الكلام؟ قيل: لأن الوصية قول، فحملت على معناها. وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ   (1) انظر تفسير"الإسلام" قبل 2: 510، 511، وهذا الجزء 3: 74، 92. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 القول، لم تحسن معه"أن"، وإنما كان يقال: وقال إبراهيم لبنيه ويعقوب:"يا بني". فلما كانت الوصية قولا حملت على معناها دون لفظها، (1) فحذفت"أن" التي تحسن معها، كما قال تعالى ذكره: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [سورة النساء: 11] ، وكما قال الشاعر: إني سأبدي لك فيما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد ... وشجن لي ببلاد السند (2) فحذفت"أن"، إذ كان الإبداء باللسان في المعنى قولا فحمله على معناه دون لفظه. (3) * * * وقد قال بعض أهل العربية: إنما حذفت"أن" من قوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب"، اكتفاء بالنداء - يعني بالنداء قوله:"يا بني" وزعم أن علته في ذلك أن من شأن العرب الاكتفاء بالأدوات عن"أن"، كقولهم:"ناديت هل قمت؟ - وناديت أين زيد؟ ". قال: وربما أدخلوها مع الأدوات. فقالوا:"ناديت، أن هل قمت؟ ". * * *   (1) في المطبوعة: "على معناها دون قولها"، وهو خطأ صوابه ما أثبت. (2) معاني القرآن للفراء 1: 80، 180، ولسان العرب (شجن) . وقوله"شجن": هوى النفس، والحاجة. وهو مجاز من"الشجن" الذي هو الحزن والهم. وكنوا به عن المرأة المحبوبة التي تشغل القلب بالهم والحزن، من فراق أو دلال أو تجن، يقول مسلم بن الوليد الأنصاري: وسرب من الأشجان يطوى له الحشا ... على شرق، من يلقه يتبلد يعني نساء، وقال أيضًا: أطال عمري، أم مد في أجلي، ... أم ليس في الظاعنين لي شجن? أي امرأة أحبها، وهوى يحزنني فراقه وبعده؟ (3) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 80-81. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وقد قرأ جماعة من القرأة:"وأوصى بها إبراهيم"، بمعنى: عهد. وأما من قرأ"ووصى" مشددة، فإنه يعني بذلك أنه عهد إليهم عهدا بعد عهد، وأوصى وصية بعد وصية. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفى لكم الدين"، إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه، واجتباه لكم. (1) * * * وإنما أدخل"الألف واللام" في"الدين"، لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنيهما بذلك، كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به، وعهدهما إليهم فيه، ثم قالا لهم -بعد أن عرفاهموه-: إن الله اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه، فاتقوا الله أن تموتوا إلا وأنتم عليه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) } قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أوَ إلَى بني آدمَ الموتُ والحياةُ، فينهى أحدُهم أن يموت إلا على حالة دون حالة؟ قيل له: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ. وإنما معنى (2) "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أي: فلا تفارقوا هذا الدين -وهو الإسلام- أيام حياتكم. وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيتُه، فلذلك قالا لهم:"فلا تموتن إلا وأنتم   (1) انظر معنى"الاصطفاء" فيما سلف قريبا: 91. (2) في المطبوعة: "وإنما معناه"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 مسلمون"، لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار، فلا تفارقوا الإسلام، فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربُّكم ساخط عليكم، فتهلكوا. القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أم كنتم شهداء"، أكنتم. ولكنه استفهم ب"أم"، إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه، كما قيل: (الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: 1-3] وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه، تستفهم فيه ب"أم". (1) * * * "والشهداء" جمع"شهيد"، كما"الشركاء" جمع"شريك" و"الخصماء" جمع"خصيم". (2) * * * قال أبو جعفر وتأويل الكلام: أكنتم -يا معشر اليهود والنصارى، المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين نبوته-، حضورَ يعقوبَ وشهودَه إذ حضره الموت، أي إنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتَنحلوهم اليهوديةَ والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم -وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم- بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصَّوْا بنيهم، وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم. فلو حضرتموهم   (1) استوفى الطبري حديث"أم" فيما سلف 2: 492-494 وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 56. (2) مضى تفسير"الشهداء" في 1: 376-378. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 فسمعتم منهم، علمتم أنهم على غير ما نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم (1) . * * * وهذه آيات نزلت، تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب: أنهم كانوا على ملتهم، فقال لهم في هذه الآية:"أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت"، فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده؟ ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 2088- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"أم كنتم شهداء"، يعني أهل الكتاب. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال لبنيه"، إذ قال يعقوب لبنيه". * * * و"إذ" هذه مكررة إبدالا من"إذ" الأولى، بمعنى: أم كنتم شهداء يعقوب، إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته. * * * ويعني بقوله:"ما تعبدون من بعدي" - أي شيء تعبدون،"من بعدي"؟ أي من بعد وفاتي؟ قالوا:"نعبد إلهك"، يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق،"إلها واحدا" أي: ن   (1) في المطبوعة: "علىغير ما تنحلوهم"، والصواب ما أثبت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 خلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئا، ولا نتخذ دونه ربا. * * * ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون"، ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة. ويحتمل قوله:"ونحن له مسلمون"، أن تكون بمعنى الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه. ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا، فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون. * * * وأحسن هذين الوجهين -في تأويل ذلك- أن يكون بمعنى الحال، وأن يكون بمعنى: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، مسلمين لعبادته. * * * وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق، لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق. ذكر من قال ذلك: 2089- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" قال، يقال: بدأ بإسماعيل لأنه أكبر. * * * وقرأ بعض المتقدمين:"وإله أبيك إبراهيم"، ظنا منه أن إسماعيل، إذ كان عما ليعقوب، فلا يجوز أن يكون فيمن تُرجم به عن الآباء، وداخلا في عدادهم. وذلك من قارئه كذلك، قلة علم منه بمجاري كلام العرب. والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء، والأخوال بمعنى الأمهات. (1) فلذلك دخل إسماعيل فيمن تُرجم به عن الآباء. وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ترجمةٌ عن الآباء في موضع جر، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون (2) . * * *   (1) وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 57، وقوله: "والعرب تجعل العم والخال أبا". (2) "الترجمة" وما اشتق منها: هي"البدل"، كما سلف آنفًا 2: 340، 420، وهذا الجزء 3: 52 وقوله: "ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون"، بمعنى أنها أسماء ممنوعة من الصرف، كما هو بين، ولكنه تعبير مليح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"وإله آبائك"، لإجماع القراء على تصويب ذلك، وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك. * * * ونصب قوله:"إلها"، على الحال من قوله:"إلهك". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره. بقوله:"تلك أمة قد خلت"، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم. يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى، دَعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية، فتضيفونها إليهم، فإنهم أمة - ويعني: ب"الأمة" في هذا الموضع: الجماعةَ والقرنَ من الناس (1) - قد خلت: مضت لسبيلها. * * * وإنما قيل للذي قد مات فذهب:"قد خلا"، لتخليه من الدنيا وانفراده، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه. (2) وأصله من قولهم:"خلا الرجل"، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه، وانفرد من الناس. فاستعمل ذلك في الذي يموت، على ذلك الوجه. * * * ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إن لمن نحلتموه - ضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه (3) - من أنبيائي ورسلي، ما كسب (4) .   (1) انظر ما سلف في معنى"أمة" 1: 221، وهذا الجزء 3: 74. (2) في المطبوعة: "بما كان من الأنس"، والصواب ما أثبت: أي: تخليه عما كان من الأنس بأهله. . (3) في المطبوعة: "بضلالكم وكفركم" بزيادة الباء، وسياق الطبري يقتضي حذف هذه الباء. (4) في المطبوعة: "كسبت"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 "والهاء والألف" في قوله:"لها"، عائدة إن شئت على"تلك"، وإن شئت على"الأمة". * * * ويعني بقوله:"لها ما كسبت"، أي ما عملت من خير، (1) . ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم، ولا تؤاخذون أنتم - أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل - فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون. فيكسبون من خير وشر، لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم، فإن الدعاوَى غيرُ مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم، إن كنتم عملتموها وقدمتموها. * * *   (1) انظر معنى"الكسب" فيما سلف 2: 273-274. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا"، وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا؛ وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا. * * * تعني بقولها:"تهتدوا"، أي تصيبوا طريق الحق، (1) . كما:- 2090- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة - جميعا، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى   (1) انظر معاني"الهدى" فيما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551/2: 393. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل فيهم:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين". (1) * * * قال أبو جعفر: احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك:"كونوا هودا أو نصارى تهتدوا" -: بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه (2) وأمر به -فإن دينه كان الحنيفية المسلمة- وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا. فإن ذلك -على اختلافه- لا سبيل لنا على الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم. * * * وفي نصب قوله:"بل ملة إبراهيم" أوجه ثلاثة. أحدها: أن يوجه معنى قوله:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى"، إلى معنى: وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية. لأنهم إذ قالوا:"كونوا هودا أو نصارى"، إلى اليهودية والنصرانية دعوهم، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة. فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد، لا نتبع اليهودية والنصرانية، ولا نتخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، ثم يحذف"نتبع" الثانية، ويعطف ب"الملة" على إعراب اليهودية والنصرانية. والآخر: أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى"نتبع" والثالث: أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة   (1) الأثر: 2090- سيرة ابن هشام 2: 198. (2) في المطبوعة: "تجمع جميعنا"، وهي خطأ، والصواب"يجمع"، من الإجماع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 إبراهيم. ثم حذف"الأهل" و"الأصحاب"، وأقيمت"الملة" مقامهم، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام، (1) كما قال الشاعر: (2) حسبت بغام راحلتي عناقا! ... وما هي، ويب غيرك، بالعناق (3) يعني: صوت عناق، فتكون"الملة" حينئذ منصوبة، عطفا في الإعراب على"اليهود والنصارى". * * * وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء، باتباع ملة إبراهيم. (4) وقرأ بعض القراء ذلك رفعا، فتأويله - على قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيم. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 82، ويريد في هذا القول الأخير، أن النصب بقوله"نكون"، التي هي من معنى قوله: "كونوا هودا. . "، ثم حذفت"نكون". (2) هو ذو الخرق الطهوي، وانظر الاختلاف في اسمه، ومن سمي باسمه في المؤتلف والمختلف: 119، والخزانة 1: 20، 21. (3) سيأتي في التفسير 2: 56 منسوبا / ثم 4: 60/15: 14 (بولاق) ، ونوادر أبي زيد: 116، ومعاني القرآن للفراء 1: 61 - 62، واللسان (ويب) (عنق) (عقا) (بغم) وغيرها. وهو من أبيات يقولها لذئب تبعه في طريقه، وهي أبيات ساخرة جياد. ألم تعجب لذئب بات يسري ... ليؤذن صاحبا له باللحاق حسبت بغام راحلتي عناقا! ... وما هي، ويب غيرك، بالعناق ولو أني دعوتك من قريب ... لعاقك عن دعاء الذئب عاق ولكني رميتك من بعيد ... فلم أفعل، وقد أوهت بساقي عليك الشاء، شاء بني تميم، ... فعافقه، فإنك ذو عفاق وقوله"عناق" في البيت: هي أنثى المعز، وقوله: "ويب" أي ويل. والبغام: صوت الظبية أو الناقة، واستعاره هنا للمعز. وقوله في البيت الثالث"عاق"، أي عائق، فقلب، والعقاق: السرعة في الذهاب بالشيء. عافقه: عالجه وخادعه ثم ذهب به خطفة واحدة. (4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 57، وقوله: "عليكم ملة إبراهيم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) } قال أبو جعفر: و"الملة"، الدين * * * وأما"الحنيف"، فإنه المستقيم من كل شيء. وقد قيل: إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى، إنما قيل له"أحنف"، نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد"المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك. * * * فمعنى الكلام إذا: قل يا محمد، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما. فيكون"الحنيف" حينئذ حالا من"إبراهيم" * * * وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"الحنيف" الحاج. وقيل: إنما سمي دين إبراهيم الإسلام"الحنيفية"، لأنه أول إمام لزم العباد -الذين كانوا في عصره، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة- اتباعه في مناسك الحج، والائتمام به فيه. قالوا: فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته، فهو"حنيف"، مسلم على دين إبراهيم. ذكر من قال ذلك: 2091- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا القاسم بن الفضل، عن كثير أبي سهل، قال: سألت الحسن عن"الحنيفية"، قال: حج البيت. 2092- حدثني محمد بن عبادة الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن موسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 قال: أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله:"حنيفا" قال الحنيف: الحاج. (1) 2093- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال: حدثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية مثله. (2)   (1) الخبر: 2092- محمد بن عبادة الأسدي، شيخ الطبري: هذا الشيخ مضى مرارا في المطبوعة على أوجه. منها: 645، 1511 باسم"محمد بن عمارة الأسدي"، وذكرنا في ثانيهما أننا لم نجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في رواية الطبري عنه مرارا في التاريخ. ولم نجده في فهارس التاريخ إلا كذلك. ومنها: 1971، باسم"محمد بن عمار"، وصححناه فيه على ما رأينا من قبل"محمد بن عمارة". ولكنه جاء هنا -كما ترى- باسم"محمد بن عبادة". والراجح عندي الآن أنه هو الصواب. فإن يكن ذلك تكن نسخ الطبري في التفسير وفي التاريخ محرفة في كل موضع ذكر فيه على غير هذا النحو. وهذا الشيخ"محمد بن عبادة بن البختري الأسدي الواسطي": ثقة صدوق، كان صاحب نحو وأدب. وهو من شيوخ البخاري، وأبي حاتم، وأبي داود، وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/17. روى عنه البخاري في الصحيح حديثين، (8: 26، و 9: 93 من الطبعة السلطانية) - (10: 429، و 13: 214 من الفتح) - (9: 53، و 10: 246 من القسطلاني طبعة بولاق الأول) . ونص بهامش السلطانية على أن"عبادة" - في الموضعين: بفتح العين. وكذلك ضبطه الشارحان. قال الحافظ (13: 214) : "بفتح المهملة وتخفيف الموحدة، واسم جده: البختري، بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة من فوق، ثقة واسطي، يكنى: أبا جعفر. ما له في البخاري إلا هذا الحديث، وآخر تقدم في كتاب الأدب"، يعني الذي مضى في الفتح (8: 26) . وكذلك ضبط اسم أبيه، في المشتبه للذهبي: 333، والحافظ في تحرير المشتبه (مخطوط) . وإنما رجحت -هنا- أنه"محمد بن عبادة": لأن"محمد بن عمارة الأسدي" مفقود ذكره في كتب التراجم والرواية. فيما وصل إليه علمي، ولأن كثيرا من رواياته في التاريخ والتفسير - عن"عبيد الله بن موسى"، كما في التفسير: 1511، والتاريخ 1: 57، و 2: 266، و 3: 76، 78. نعم: يمكن أن يكون هناك شيخ آخر -لم يصل إلينا علمه- باسم"محمد بن عمارة" يتفق مع هذا في شيوخه وفي الرواة عنه. ولكني أرى أن ما ذكرت هو الأرجح. و"عبيد الله بن موسى": هو العبسي الحافظ الثقة. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/334-335، وتذكرة الحفاظ 1: 322-323، ووقع اسمه في المطبوعة هنا"عبد الله" وهو تحريف واضح. فضيل: هو ابن مرزوق الرقاشي: وهو ثقة، رجحنا توثيقه في شرح المسند: 1251، لأن من تكلم فيه، إنما تكلم من أجل أحاديث يرويها عن عطية العوفي - الذي يروى عنه هنا، وعطية ضعيف، كما مضى في: 305. (2) الخبر: 2093- الحسين بن علي الصدائي -بضم الصاد وتخفيف الدال المهملتين- الأكفاني: ثقة عدل من الصالحين، روى عنه الترمذي والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/56، وتاريخ بغداد 8: 67-68. أبوه"علي بن يزيد بن سليم الصدائي": ثقة أيضًا، تكلم فيه بعضهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/209. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 2094- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام بن سلم، (1) عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: الحنيف الحاج. 2095- حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي، عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن"الحنيفية"، قال: هو حج هذا البيت. قال ابن التيمي: وأخبرني جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، مثله. (2) 2096- حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن مجاهد:"حنفاء" قال: حجاجا. (3) 2097- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"حنيفا" قال: حاجا. 2098- حدثت عن وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن عبد الله بن القاسم قال: كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون"حنفاء"، فأنزل الله تعالى ذكره (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) . [سورة الحج: 31] * * * وقال آخرون:"الحنيف"، المتبع، كما وصفنا قبل، من قول الذين قالوا: إن معناه: الاستقامة. ذكر من قال ذلك: 2099- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان،   (1) في المطبوعة"حكام بن سالم"، خطأ. وقد مضى كثيرا في إسناد الطبري. (2) الخبر: 2095- ابن التيمي: لم أجد نصا يعين من هو؟ ونسبة"التيمي" فيها سعة. وأنا أرجح أن يكون"معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي". فإنه من هذه الطبقة، ويروي عنه عبد الرزاق. ولعل عبد الرزاق ذكره بهذه النسبة، لئلا يشتبه باسم معمر. وهو ابن راشد، إذ يكثر عبد الرزاق الرواية عن معمر. فخشي التصحيف لو قال هنا"معتمر". فخرج منه بقوله"ابن التيمي". (3) انظر ما سيأتي في رقم: 2098، فهذا من تفسير آية سورة الحج المذكورة ثم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حنفاء" قال: متبعين. * * * وقال آخرون: إنما سمي دين إبراهيم"الحنيفية"، لأنه أول إمام سن للعباد الختان، فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختثن على سبيل اختتان إبراهيم، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام، فهو"حنيف" على ملة إبراهيم. (1) وقال آخرون:"بل ملة إبراهيم حنيفا"، بل ملة إبراهيم مخلصا."فالحنيف" على قولهم: المخلص دينه لله وحده. ذكر من قال ذلك: 2100- حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"واتبع ملة إبراهيم حنيفا"، يقول: مخلصا. * * * وقال آخرون: بل"الحنيفية" الإسلام. فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها، فهو"حنيف". * * * قال أبو جعفر:"الحنف" عندي، هو الاستقامة على دين إبراهيم، واتباعه على ملته. (2) . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: (ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) [سورة آل عمران: 67] فكذلك القول في الختان. لأن"الحنيفية" لو كانت هي الختان، لوجب أن يكون اليهود حُنفاء. وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: 67] .   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 58. (2) في المطبوعة: "الحنيف عندي هو الاستقامة"، وهو كلام مختلف، صوابه ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 فقد صحّ إذًا أن"الحنيفية" ليست الختانَ وحدَه، ولا حجَّ البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا: من الاستقامة على ملة إبراهيم، واتباعه عليها، والائتمام به فيها. * * * فإن قال قائل: أوَ ما كان مَنْ كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من الأنبياء وأتباعهم، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامةَ إبراهيم وأتباعه؟ قيل: بَلى. فإن قال: فكيف أضيف"الحنيفية" إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟ قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا متّبعًا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام الساعة. وجعل ما سنّ من ذلك عَلَمًا مميّزًا بين مؤمني عباده وكفارهم، والمطيعِ منهم له والعاصي. فسمِّي الحنيفُ من الناس"حنيفًا" باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه، وسُمِّي الضالُّ من ملته بسائر أسماء الملل، فقيل:"يهودي، ونصرانيّ، ومجوسيّ"، وغير ذلك من صنوف الملل * * * وأما قوله: و"ما كانَ مِن المشركين"، يقول: إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود ولا من النصارى، بل كان حنيفًا مسلمًا. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 القول في تأويل قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"قولوا" -أيها المؤمنون، لهؤلاء اليهودِ والنصارَى، الذين قالوا لكم:"كونوا هُودًا أو نصارى تَهتدوا"-:"آمنا"، أي صدَّقنا"بالله". وقد دللنا فيما مضى أنّ معنى"الإيمان"، التصديقُ، بما أغنى عن إعادته. (1) . * * * "وما أنزل إلينا"، يقول أيضًا: صدّقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم، إذ كانوا متّبعيه، ومأمورين منهيين به. فكان - وإنْ كان تنزيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمعنى التنزيل إليهم، للذي لهم فيه من المعاني التي وصفتُ * * * ويعني بقوله:"ومَا أنزل إلى إبراهيم"، صدَّقنا أيضًا وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم"وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط"، وهم الأنبياء من ولد يَعقوب. * * * وقوله:"ومَا أوتي مُوسَى وعيسى"، يعني: وآمنا أيضًا بالتوراة التي آتاها الله موسى، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب التي آتى النبيين كلهم، وأقرَرنا وصدّقنا أن ذلك كله حَق وهُدى ونور من عند الله، وأن جَميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى، يُصدِّق بعضهم بعضًا، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله، والعمل بطاعته،"لا نُفرِّق بَينَ أحد منهم"، يقول: ل   (1) انظر ما سلف 1: 235-236، ثم 2: 143، 348. . . ومواضع أخرى غيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 انؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، ونتبرَّأ من بعضٍ ونتولى بعضًا، كما تبرأت اليهودُ من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وكما تبرأت النصارَى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرّت بغيره من الأنبياء، بل نشهد لجميعهم أنّهم كانوا رسلَ الله وأنبياءَه، بعثوا بالحق والهدى. * * * وأما قوله:"ونحنُ لَهُ مُسلمون"، فإنه يعني تعالى ذكره: ونحنُ له خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية. (1) * * * فذُكر أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهود، فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به، كما:- 2101- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفرٌمن يهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، (2) ورافع بن أبي رافع، وعازر، وخالد، وزيد، وأزار بن أبي أزار، وأشْيَع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وَمَا أنزلَ إلينا وما أنزلَ إلى إبرَاهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوب والأسباط، ومَا أوتي مُوسى وعيسى وَمَا أوتي النبيون من رَبهم لا نُفرّق بين أحد منهم ونحن له مُسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به. فأنزل الله فيهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) (3) [سورة المائدة:59]   (1) انظر"الإسلام" فيما سلف: 510، 511 / وهذا الجزء 3، 74، 92، 94. (2) في سيرة ابن هشام 2: 216"منهم: أبو ياسر". (3) الأثر: 2101- سيأتي في تفسير سورة المائدة: 59 (6: 188-189 بولاق) بإسناده عن هناد بن السري عن يونس بن بكير، وهو في سيرة ابن هشام 2: 216 مع اختلاف يسير في بعض لفظه. وانظر الأثر التالي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 2102- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه - إلا أنه قال:"ونافع بن أبي نافع" مكانَ"رافع بن أبي رافع" (1) . * * * وقال قتادة: أنزلتْ هذه الآية، أمرًا من الله تعالى ذكره للمؤمنين بتصديق رُسله كلهم. 2103- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"قُولُوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم" إلى قوله:"ونَحنُ له مسلمون"، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرِّقوا بين أحد منهم. * * * وأما"الأسباط" الذين ذكرهم، فهم اثنا عشر رَجلا من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وَلَد كل رجل منهم أمّة من الناس، فسموا"أسباطًا" (2) . كما:- 2104- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الأسباط، يوسفُ وإخوته، بنو يَعقوب. ولد اثني عشر رجلا فولد كل وحل منهم أمَّة من الناس، فسموا:"أسباطا". 2105- حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما الأسباط، فهم بنو يعقوب: يوسُف، وبنيامين، ورُوبيل،   (1) الأثر: 2102 - هكذا جاء في سيرة ابن هشام 2: 216، وانظر سيرة ابن هشام أيضًا 1: 161، 162"رافع بن أبي رافع"، و"نافع بن أبي نافع"، والخلط في أسماء يهود ذلك العهد كثير في كتب السير. (2) انظر تفسير"الأسباط" فيما سلف أيضًا 2: 121. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 ويهوذا، وشَمعون، ولاوِي، ودَان، وقهاث. (1) . 2106- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال:"الأسباط" يوسف وإخوته بنو يعقوب، اثنا عشر رجلا فولد لكل رجل منهم أمّة من الناس، فسموا"الأسباط". 2107- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق قال (2) نكح يَعقوب بن إسحاق -وهو إسرائيل- ابنة خاله"ليا" ابنة"ليان بن توبيل بن إلياس"، (3) فولدت له"روبيل بن يعقوب"، (4) وكان أكبر ولده، و"شمعون بن يعقوب"، و"لاوي بن يعقوب" و"يهوذا بن يعقوب" و"ريالون بن يعقوب"، (5) و"يشجر بن يعقوب"، (6) و"دينة بنت يعقوب"، ثم توفيت"ليا بنت ليان". (7) فخلف يعقوب على أختها"راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس" (8) فولدت له"يوسف بن يعقوب" و"بنيامين" -وهو بالعربية أسد- وولد له من سُرِّيتين له: اسم إحداهما"زلفة"، واسم الأخرى"بلهية"، (9) أربعة   (1) الأثر: 2105- في الدر المنثور 1: 140. ولم أجد في ولد يعقوب"قهاث" وفي الدر المنثور"وتهان"، والظاهر أنهما جميعًا محرفان عن"نفتالى" أخبر"دان" من أمها"بلهية" جارية"راحيل"، كما سيأتي في الأثر التالي: 2107، وكما هو في كتاب بني إسرائيل الذي بين أيدينا. هذا، وقد اقتصر الطبري هنا على ثمانية نفر من الأسباط. وزاد السيوطي في الدر المنثور تاسعًا -في روايته عن الطبري- قال"وكونوا - بالنون"، وليس في ولد يعقوب هذا الاسم، إلا أن يكون تصحيفًا صوابه"زبلون" كما هو في كتب القوم. انظر التعليق على الأثر التالي: 2107. (2) الأثر: 2107- لم أصحح هذه الأسماء، مع الاختلاف فيها، ولكني سأذكر مواضع الاختلاف على رسمها في كتاب بني إسرائيل الذي بين أيدينا، في التعليقات الآتية. (3) "ليئة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . " (4) (رأُوبين بن يعقُوبُ) (5) (زَبُولُون بن يعقوب) (6) (يسَّاكر بن يعقوب) (7) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . " (8) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . " (9) (بِلْهة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 نفر:"دان بن يعقوب"، و"نَفثالي بن يعقوب" و"جَاد بن يعقوب"، و"إشرب بن يعقوب" (1) فكان بنو يعقوب اثني عشرَ رجلا نشر الله منهم اثنَى عشر سبطًا، لا يُحصى عددَهم ولا يعلم أنسابَهم إلا الله، يقول الله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) . [سورة الأعراف: 160] * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به"، فإن صدّق اليهودُ والنصارَى بالله، ومَا أنزل إليكم، وما أنزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك، مثلَ ما صدّقتم أنتم به أيّها المؤمنون وأقررتم، فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك. فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية، على أنه لم يقبل من أحد عَملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قَبلها، كما:- 2108- حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" ونحو هذا، قال: أخبر الله سبحانه أنّ الإيمان هو العروة الوثقى، وَأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه. * * *   (1) (أشِير بن يَعْقُوب) وراجع في الجميع سفر التكوين إصحاح: 29، 30، 35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءةٌ، جاءت مصاحفُ المسلمين بخلافها، وأجمعت قَرَأة القرآن على تركها. وذلك ما:- 2109- حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: قال ابن عباس: لا تقولوا:"فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" -فإنه ليس لله مثل- ولكن قولوا:"فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا"- أو قال:"فإن آمنوا بما آمنتم به". * * * فكأن ابن عباس -في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه- يوجِّه تأويل قراءة من قرأ:"فإن آمنُوا بمثل مَا آمنتم به"، فإن آمنوا بمثل الله، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل. وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه، شِركٌ لا شكَّ بالله العظيم. لأنه لا مثل لله تعالى ذكرُه، فنؤمن أو نكفر به. * * * ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وَجّه إليه تأويله. وإنما معناه ما وصفنا، وهو: فإن صدّقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به -من جميع ما عددنا عليكم من كتُب الله وأنبيائه- فقد اهتدوا. فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء. كقول القائل:"مرّ عمرو بأخيك مثلَ ما مررتُ به"، يعني بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مُروري به. والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين، لا بين عمرو وبين المتكلم. فكذلك قوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به"، إنما وقع التمثيل بين الإيمانين، لا بين المؤمَنِ به. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله:"وإن تَوَلَّوْا"، وإن تولى -هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه:"كونوا هودًا أو نصارَى"- فأعرضوا، (1) = فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابتُعِثت به الرسل، وفرّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله، فصدّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ = فاعلموا، أيها المؤمنون، أنهم إنما هُمْ في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم، كما:- 2110- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "وإنما هُم في شقاق"، أي: في فراق (2) 2111- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإنما هُمْ في شقاق"، يعني فراق. 2112- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"وإن توَلوا فإنما هم في شقاق" قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) [سورة النساء: 115] . * * * قال أبو جعفر: وأصل"الشقاق" عندنا، والله أعلم، مأخوذٌ من قول القائل:"شَقَّ عليه هذا الأمر"، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل:"شاقَّ فلانٌ فلانًا"، بمعنى: نال   (1) انظر معنى"تولى" فيما سلف، 2: 162، 163 / ثم 298، 299. (2) الأثر: 2110- سقط من المطبوعة في إسناده: "عن سعيد"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقر به فيما سلف: 2104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 كل واحد منهما من صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [سورة النساء: 35] بمعنى: فراقَ بينهما. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فسيكفيكهمُ الله"، فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لَكَ ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تهتدوا"، من اليهود والنصارى، إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أنزل إليك، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم، وفرقوا بين الله ورُسُله - إما بقتل السيف، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو"السميع" لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم، من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضّالة -"العليمُ" بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء. ففعل الله بهم ذلك عَاجلا وأنجزَ وَعْده، فكفى نبيّه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 القول في تأويل قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) } قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره ب"الصبغة: صبغةَ الإسلام. وذلك أنّ النصارى إذا أرادت أن تنصِّر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غُسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية. (1) فقال الله تعالى ذكره -إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تَهتدوا"-: قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيمَ، صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه. * * * ونصب"الصبغة" من قرأها نصبًا على الردِّ على"الملة". وكذلك رَفع"الصبغة" من رَفع"الملة"، على ردّها عليها. وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه. وذلك على الابتداء، بمعنى: هي صبغةُ الله. وقد يجوز نصبها على غير وجه الرّد على"الملة"، ولكن على قوله:"قولوا آمنا بالله" إلى قوله"ونحنُ له مسلمون"،"صبغةَ الله"، بمعنى: آمنا هذا الإيمان، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغةُ الله. (2) * * * وبمثل الذي قلنا في تأويل"الصبغة" قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 2113- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:   (1) انظر معاني القرآن 1: 82-83. (2) انظر معاني القرآن 1: 82-83. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 "صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة" إنّ اليهود تصبغ أبناءها يهودَ، والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى، وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده. 2114- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال عطاء:"صبغةَ الله" صبغت اليهودُ أبناءَهم خالفوا الفِطْرة. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"صبغة الله". فقال بعضهم: دينُ الله. ذكر من قال ذلك: 2115- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"صبغة الله" قال: دينَ الله. 2116- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله،"ومن أحسن من الله صِبغةً"، ومن أحسنُ من الله دينًا. 2117- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع مثله. 2118- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله. 2119- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله. 2120- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2121- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فُضَيل بن مرزوق، عن عطية قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 2122- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة"، يقول: دينَ الله، ومن أحسن من الله دينًا. 2123- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله. 2124- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله:"صبغةَ الله" قال: دين الله. 2125- حدثني ابن البرقي قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سألت ابن زيد عن قول الله:"صبغةَ الله"، فذكر مثله. * * * وقال أخرون:"صبغة الله" فطرَة الله. (1) ذكر من قال ذلك: 2126- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"صبغة الله" قال: فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها. 2127- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال: حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن مجاهد:"ومن أحسنُ من الله صبغة" قال: الصبغة، الفطرةُ. 2128- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "صبغةَ الله"، الإسلام، فطرةَ الله التي فطر الناس عليها. قال ابن جريج: قال لي عبد الله بن كثير:"صبغةَ الله" قال: دين الله، ومن أحسنُ من الله دينًا. قال: هي فطرة الله. * * *   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 59. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 ومن قال هذا القول، فوجَّه"الصبغة" إلى الفطرة، فمعناه: بل نتبع فطرة الله وملَّته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة الأنعام: 14] . بمعنى خالق السماوات والأرض (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) } قال أبو جعفر: وقوله تعالى ذكره:"ونَحنُ له عَابدون"، أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود والنصارى، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه:"كونوا هودًا أو نَصارَى". فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بل نتبعُ ملة إبراهيم حنيفًا، صبغةَ الله، ونحنُ له عابدون. يعني: ملة الخاضعين لله المستكينين له، في اتّباعنا ملة إبراهيم، وَديْنُونتنا له بذلك، غير مستكبرين في اتباع أمره، والإقرار برسالته رسلَه، كما استكبرت اليهودُ والنصارَى، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكبارًا وبغيًا وحسدًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"قُلْ أتُحاجُّونَنا في الله"، قل يا محمد = لمعاشر اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هُودًا   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 59. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 أو نَصَارَى تَهتدوا"، وزعموا أن دينهم خيرٌ من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم، لأنه كان قبلَ كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم =:"أتحاجوننا في الله وهو رَبنا وربكم"، بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقابُ، والجزاءُ على الأعمال - الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أوْلى منا، من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربّكم وربّنا واحدٌ، وأنّ لكلّ فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، يجازى [عليها] فيثابُ أو يعاقبُ، (1) - لا على الأنساب وقدمَ الدِّين والكتاب. * * * ويعني بقوله:"قُلْ أتحاجوننا"، قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ كما- 2129- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قل أتحاجوننا في الله"، قل: أتخاصموننا؟ 2130- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"قل أتحاجُّونَنا"، أتخاصموننا؟ 2131- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أتحاجوننا"، أتجادلوننا؟ * * * فأما قوله:"ونحن له مُخلصون"، فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد غيره أحدًا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ، وأصحاب العِجل معه العجلَ. * * * وهذا من الله تعالى ذكره توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: قولوا -أيها المؤمنون، لليهود   (1) في المطبوعة: "ويجازى فيثاب أو يعاقب". وكأن الصواب يقتضي حذف"الواو"، وزيادة: "عليها". وقوله: "لأعلى الأنساب" معطوف على قوله: "والجزاء على الأعمال". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 والنصارى الذين قالوا لكم:"كونوا هودًا أو نصارى تَهتدوا"-:"أتحاجوننا في الله"؟ يعني بقوله:"في الله"، في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدينه به، وربنا وربكم واحدٌ عدلٌ لا يجور، وإنما يجازي العبادَ عَلى ما اكتسبوا. وتزعمون أنّكم أولى بالله منا، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحنُ مُخلصون له العبادةَ، لم نشرك به شَيئًا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى تكونون خيرًا منا، وأولى بالله منا؟ (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} قال أبو جعفر: في قراءة ذلك وجهان. أحدهما:"أمْ تَقولون" ب"التاء". فمن قرأ كذلك، فتأويله: قل يا محمد -للقائلين لَك من اليهود والنصارى:"كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا"-: أتجادلوننا في الله، أم تقولون إن إبراهيم؟ فيكون ذلك معطوفًا على قوله:"أتحاجوننا في الله". والوجه الآخر منهما:"أم يَقولون" ب"الياء". ومن قرأ ذلك كذلك وجّه قوله:"أم يقولون" إلى أنه استفهام مُستأنَف، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: 3] ، وكما يقال:"إنها لإبل أم شَاءٌ". (2) وإنما جعله استفهامًا مستأنَفًا، لمجيء خبر مستأنف، كما يقال:"أتقوم أم يقوم أخوك؟ " فيصير قوله:"أم يقوم أخوك" خبرًا مستأنفًا لجملة ليست من الأول واستفهامًا   (1) في المطبوعة: "وأنى تكونوا خيرًا منا"، والصواب ما أثبت. "أنى" استفهام بمعنى: كيف. (2) انظر ما سلف في خبر"أم" 2: 492-494، وهذا الجزء 3: 97. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 مبتدأ. ولو كان نَسقًا على الاستفهام الأول، لكان خبرًا عن الأول، فقيل:"أتقوم أم تقعد؟ " وقد زعم بعض أهل العربية أنّ ذلك، إذا قرئ كذلك ب"الياء"، فإن كان الذي بعد"أم" جملة تامة، فهو عطفٌ على الاستفهام الأول. لأن معنى الكلام: قيل: أيّ هذين الأمرين كائنٌ؟ هذا أم هذا؟ * * * قال أبو جعفر: والصواب من القرَاءة عندنا في ذلك:"أم تقولون""بالتاء" دون"الياء" عطفًا على قوله:"قل أتحاجُّوننا"، بمعنى: أيّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله، فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا -وأمرنا وأمركم ما وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا (1) - أمْ تزعمون أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو نصارَى على ملتكم، فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم، (2) لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه. وغير جائزة قراءة ذلك ب"الياء"، لشذوذها عن قراءة القراء. * * * وهذه الآية أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيّه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى، الذين ذكر الله قَصَصهم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد -لهؤلاء اليهود والنصارى-: أتحاجُّوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضلُ من ديننا، وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان من الله تعالى ذكره، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا -على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك- برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد جَعلهم أئمة يقتدى بهم.   (1) في المطبوعة: "أيضًا"، والصواب ما أثبت. (2) أخشى أن يكون الصواب"فيتضح للناس"، والذي في الأصل لا بأس به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُل لهم يا محمد - إن ادَّعوا أن إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصَارَى: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟ * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني: فإنْ زَعمتْ يا محمد اليهودُ والنصَارى - الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نصارى"، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى، فمن أظلمُ منهم؟ يقول: وأيُّ امرئ أظلم منهم؟ وقد كتموا شهادةً عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: 2132- فحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شَهادةً عندهُ من الله" قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما، إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقول الله: لا تكتموا منّي شهادةً إن كانت عندكم فيهم. وقد عَلم أنهم كاذبون. 2133- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما: إنهم كانوا يهود أو نصارَى. فقال الله لهم: لا تكتموا مني الشهادة فيهم، إن كانت عندكم فيهم. وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 2134- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني إسحاق، عن أبي الأشهب، عن الحسن أنه تلا هذه الآية:"أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل" إلى قوله:"قل أأنتم أعلمُ أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله"، قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنّ أنبياءَه بُرَآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شَهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام، فبم استحلُّوها؟ 2135- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان. * * * وإنما عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارَى، (1) إن ادَّعوْا أنَّ إبراهيم ومن سمِّي مَعه في هذه الآية، كانوا هودًا أو نصارى، تبيّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم، (2) كذبُهم وادّعاؤهم على أنبياء الله الباطلَ = لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم = وإن هم نَفوْا عنهم اليهودية والنصرانية، (3) قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين، فإنا وأنتم مقرُّون جميعًا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون فيما خالف الدّين الذي كانوا عليه. * * * وقال آخرون: بل عَنى تعالى ذكره بقوله:"ومَنْ أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله"، اليهودَ في كتمانهم أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّتَه، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم.   (1) في المطبوعة: "وأنه عنى تعالى ذكره. . . " والسياق مختل، فاستظهرت إصلاحه كما سترى في التعليق الآتي: (2) في المطبوعة"بين لأهل الشرك". والسياق يوجب ما أثبت. (3) سياق هذه الجملة من أول الفقرة: "وإنما عنى تعالى ذكره أن اليهود والنصارى، إن ادعوا أن إبراهيم. . . تبين لأهل الشرك. . . وإن نفوا عنهم اليهودية قيل لهم:. . . "، وبذلك يتبين أن الذي أثبتنا أحق بسياق الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 ذكر من قال ذلك: 2136- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"أم تَقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصارَى"، أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. 2137- حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ومَنْ أظلمُ ممن كتم شهادة عنده من الله" قال: الشهادةُ، النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مكتوبٌ عندهم، وهو الذي كتموا. 2138- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو حديث بشر بن معاذ، عن يزيد. (1) 2139- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عند منَ الله" قال: هم يهودُ، يُسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله عندهم، فيكتمون الصفة. * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القولَ الذي قلناه في تأويل ذلك، لأن قوله تعالى ذكره:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، في إثر قصة من سمَّى الله من أنبيائه، وأمامَ قصته لهم. فأوْلى بالذي هو بَين ذلك أن يكون من قَصصهم دون غَيره. * * * فإن قال قائل: وأية شهادة عندَ اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ؟   (1) الأثر: 2138- كان في المطبوعة"حدثني المثنى قال حدثني ابن أبي جعفر"، أسقط من الإسناد"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 117. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 قيل: الشهادةُ التي عندهم من الله في أمرهم، مأ أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، وأمرُهم فيها بالاستنان بسُنَّتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حُنفاء مسلمين. وهي الشهادةُ التي عندهم من الله التي كتموها، حين دعاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا له: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [سورة البقرة: 111] ، وقالوا له ولأصحابه:"كونوا هُودًا أوْ نصارى تَهتدوا"، فأنزلَ الله فيهم هذه الآيات، في تكذيبهم، وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطلَ والزُّورَ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقل -لهؤلاء اليهود والنصارَى، الذين يحاجُّونك يا محمد-:"وما اللهُ بغافل عما تعملون"، من كتمانكم الحق فيما ألزَمكم في كتابه بيانَه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ في أمر الإسلام، وأنهم كانُوا مسلمين، وأنّ الحنيفية المسلمة دينُ الله الذي على جميع الخلق الدينُونةُ به، دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل- ولا هُو سَاهٍ عن عقابكم على فعلكم ذلك، (1) بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهلٌ في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلا في الدنيا، بقتل بعضهم، وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مُجازيهم في الآخرة العذابَ المهين. * * *   (1) انظر تفسير"غافل" فيما سلف 2: 243-244 / ثم: 316. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك أمة"، إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ. كما:- 2140- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله تعالى:"تلك أمة قَد خَلت"، يعني: إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ. 2141- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مضى أن"الأمة"، الجماعة (1) . * * * فمعنى الآية إذًا: قلْ يا محمد = لهؤلاء الذين يُجادلونك في الله من اليهود والنصارى، إن كتموا ما عندَهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سَمَّينا مَعه، وأنهم كانوا مسلمين، وزعموا أنهم كانوا هودًا أو نصارى، فكذبوا =: إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ أمَّةٌ قد خَلتْ -أي مضت لسبيلها (2) - فصارت إلى ربها، وخَلتْ بأعمالها وآمالها، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شر، لا ينفعها غيرُ صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيِّئها. فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك، فإنكم، إنْ كان هؤلاء - (3) وهم الذين   (1) انظر ما سلف 1: 221 ثم هذا الجزء 3: 74، 100 / ثم انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء 3: 101 والمراجع هناك. (2) انظر ما سلف 1: 221 ثم هذا الجزء 3: 74، 100 / ثم انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء 3: 101 والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "هم الذين بهم. . . "، والصواب"وهم. . . ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 بهم تَفتخرون، وتزعمون أنّ بهم تَرجُون النجاةَ من عذاب ربكم، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم - لا يَنفعهم عند الله غيرُ ما قدَّموا من صالح الأعمال، ولا يضرهم غير سيئها، فأنتم كذلك أحرَى أنْ لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال، (1) ولا يضرّكم غيرُ سَيئها. فاحذروا على أنفسكم، وبادروا خروجَها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفِرية على الله وعلى أنبيائه ورُسُله، ودَعُوا الاتكالَ على فَضَائل الآباء والأجداد، فإنما لكم ما كسبتم، وعليكم ما اكتسبتم، ولا تُسألون عما كان إبراهيم وإسماعيلُ وإسحاقُ ويعقوبُ والأسباط يَعملون من الأعمال، لأن كل نفس قَدِمت على الله يوم القيامة، فإنما تُسأل عما كسبت وأسلفت، دون ما أسلفَ غيرُها. * * *   (1) سياق هذه العبارة: "إن كان هؤلاء. . . لا ينفعهم عند الله غير ما قدموا. . . فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم غير صالح الأعمال. . . ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيقول السفهاء"، سيقول الجهال"منَ الناس"، وهم اليهود وأهل النفاق. وإنما سماهم الله عز وجل"سُفهاء"، لأنهم سَفِهوا الحق. (1) فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل، وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا. * * * وبما قلنا في"السفهاء" -أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل التأويل. ذكر من قال: هم اليهود:   (1) سفه الحق: جهله. وانظر ما سلف في معنى"السفه" 1: 293-294 / ثم هذا الجزء 3: 90. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 2142- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم" قال، اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس. 2143- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2144- حدثت عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن البَراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود. (1) 2145- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود. 2146- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قوله:"سيقول السفهاء من الناس" قال، أهل الكتاب 2147- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: اليهودُ. * * * وقال آخرون:"السفهاء"، المنافقون. * ذكر من قال ذلك. 2148- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نزلت"سَيقول السفهاء من الناس"، في المنافقين. * * *   (1) الأثر: 2144- هذا إسناد ليس بذاك، فإن الطبري رواه عن شخص مبهم، عن أحمد بن يونس، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي. وهو ثقة، أخرج له الجماعة، وقد ينسب إلى جده. ولد سنة 133، أو 134، ومات سنة 227. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/6، والصغير، ص: 239، وابن أبي حاتم 1/1/57. وابن سعد 6: 283. زهير: هو ابن معاوية أبو خيثمة الكوفي. ثقة ثبت معروف. وأبو إسحاق: هو السبيعي، عمرو بن عبد الله. التابعي الكبير المشهور، البراء: هو ابن عازب الصحابي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 القول في تأويل قوله تعالى: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ما ولاهم": أيُّ شيء صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل:"ولاني فلان دُبُره"، إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله:"ما ولاهم"؟ أيّ شيء حَوَّل وُجُوههم؟ (1) * * * وأما قوله:"عن قبلتهم"، فإن"قبلة" كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما هي"فِعْلة" بمنزلة"الجلسة والقِعْدة"، (2) من قول القائل."قابلت فلانًا"، إذا صرتُ قُبالته أقابله، فهو لي"قبلة" وأنا له"قبلة"، إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا -إذْ كان ذلك معناه (3) -: سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله، - إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام -: أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟ فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مَا اليهودُ والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشأم إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم:"لله المشرقُ والمغرب يَهدي مَنْ يَشاء إلى صرَاط مستقيم". * * *   (1) انظر ما سلف في معنى"ولي" 2: 162، وهذا الجزء 3: 115. (2) انظر ما قال من ذلك في"الحكمة" في هذا الجزء 3: 87. (3) في المطبوعة: "إذ كان معناه" بإسقاط"ذلك"، ولا يقوم الكلام إلا بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وكان سببُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه، وما الذي ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. * * * ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟ اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:- 2149- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة -شكّ محمد-، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى الكعبة -وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ- أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بنُ قيس، وقَرْدَم بن عمرو، وكعبُ بن الأشرف، ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد، وقال أبو كريب: ورَافع بن أبي رافع (1) - والحجاج بن عمرو = حليفُ كعب بن الأشرف = والربيعُ بن الربيعُ بن [أبي] الحقيق، وكنانةُ بن أبي الحقيق، (2) فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 111 تعليق: 1. (2) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام. وفيها: "وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 الله فيهم:"سيقول السفهاءُ من الناس مَا ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"إلا لنعلمَ مَنْ يَتَّبع الرسول ممن يَنقلبُ عَلى عَقبَيْه". (1) 2150- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، قال البراء: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر شهرًا، وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي ذاتَ يوم، فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا، وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه أبو إسحاق؟ فسكت. (2) 2151- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس. (3) 2152- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو   (1) الأثر: 2149- نص ما في سيرة ابن هشام 2: 198-199. (2) الحديث: 2150- أبو بكر بن عياش: ثقة معروف، إلا أنهم أخذوا عليه بعض الأخطاء، لأنه لما كبر ساء حفظه وتغير. وهو هنا يروى الحديث -منقطعًا- عن البراء، لأنه لم يدركه. وقد سأله بعض سامعيه، كما حكى أبو كريب في آخر الحديث: "فيه: أبو إسحاق"؟ يريد السائل أن يستوثق منه: أسمعه من أبي إسحاق السبيعي عن البراء؟ فسكت ولم يجبه. ولو كان هذا وحده كان الحديث ضعيفًا. ولكنه ثابت من رواية أبي إسحاق السبيعي عن البراء، في الأسانيد الثلاثة التالية -وأولها من رواية ابن عياش نفسه- ومن مصادر الحديث الأخر، كما سيأتي. (3) الحديث: 2151- هذا إسناد ضعيف، لضعف سفيان بن وكيع - شيخ الطبري. ولكنه يتقوى بالروايات الآتية وغيرها. وقد رواه ابن ماجه: 1010، عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، مطولا. وذكر فيه أن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت"ثمانية عشر شهرًا". وعلقمة بن عمرو الدارمي: ثقة. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: "حديث البراء صحيح، ورجاله ثقات". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر شهرًا -شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة. (1) 2153- حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نزلَ على أجداده -أو أخواله- من الأنصار، وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت المقدس وأهلُ الكتاب، فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك. (2) 2154- حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر شهرًا، ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين. (3) * * *   (1) الحديث: 2152- هذا إسناد صحيح جدًا. يحيى: هو ابن سعيد القطان. سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر. وهكذا رواه البخاري 8: 132 (فتح الباري) ومسلم 1: 148 - كلاهما من طريق يحيى، عن سفيان، به، مختصرًا. (2) الحديث: 2153- وهذه رواية مفصلة. والإسناد صحيح جدًا. رواه الإمام أحمد في المسند 4: 283 (حلبي) ، عن حسن بن موسى، عن زهير وهو ابن معاوية. بهذا الإسناد نحوه. بأطول منه. ورواه ابن سعد في الطبقات 1/2/5، عن الحسن بن موسى، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البخاري 1: 89-90، عن عمرو بن خالد، عن زهير، به. ورواه أيضًا 8: 130، عن أبي نعيم، عن زهير، مختصرًا قليلا. ورواه أيضًا البخاري 1: 421-422، و 13: 202. ومسلم 1: 148، من أوجه، عن البراء بن عازب. وسيأتي باقيه بهذا الإسناد: 2222. (3) الحديث: 2154- عمران بن موسى بن حيان القزاز الليثي، شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/305-306. عبد الوارث: هو ابن سعيد بن ذكوان، أحد الأعلام، يحيى بن سعيد: هو الأنصاري البخاري ثقة حجة، من شيوخ الزهري ومالك والثوري وغيرهم. ابن المسيب: هو سعيد بن المسيب الإمام التابعي الكبير، ووقع في المطبوعة"المسيب"، بحذف"ابن"! وهو خطأ واضح من الناسخين. وهذا الحديث مرسل، كما هو مبين، وكذلك رواه مالك في الموطأ، ص 196، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا. وكذلك رواه الشافعي عن مالك، في الرسالة، بتحقيقنا، رقم 366. وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات 1/2/4، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد. وقد وصله العطاردي. من حديث سعد بن أبي وقاص: فرواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 3، من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي: "حدثنا محمد بين الفضيل، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال، سمعت سعدًا يقول. . . ". فذكر الحديث. ثم قال البيهقي: "هكذا رواه العطاردي عن ابن فضيل. ورواه مالك، والثوري، وحماد بن زيد - عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، مرسلا دون ذكر سعد". وهذا إسناد جيد، يصلح متابعة جيدة للرواية المرسلة. فإن"أحمد بن عبد الجبار العطاردي": قد مضى في: 66 أن أبا حاتم قال فيه: "ليس بقوي". ولكن المتأمل في ترجمته في التهذيب 1: 51-52، وتاريخ بغداد 4: 262-265 - يرى أن توثيقه أرجح، وأن الكلام فيه لم يكن عن بينة. ولذلك قال الخطيب: "كان أبو كريب من الشيوخ الكبار، الصادقين الأبرار وأبو عبيدة السري ابن يحيى شيخ جليل أيضًا ثقة، من طبقة العطاردي. وقد شهد له أحدهما بالسماع، والآخر بالعدالة. وذلك يفيد حسن حالته، وجواز روايته. إذ لم يثبت لغيرهما قول يوجب إسقاط حديثه، واطراح خبره". وهذا كاف في قبول زيادته في هذا الحديث، بوصله من رواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وقال آخرون بما:- 2155- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس، انصرف بوَجْهه إلى الكعبة، فقال السفهاء:"ما وَلاهُم عن قبلتهم التي كانوا عَليها". (1) * * *   (1) الحديث: 2155- عمرو بن علي: هو الفلاس، مضت ترجمته: 1989. أبو عاصم: هو النيل، واسمه"الضحاك بن مخلد"، وهو فقيه ثقة حافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم من الأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/337، والصغير: 231، وابن سعد 7/2/49، وابن أبي حاتم2/1/463، والجمع بين رجال الصحيحين 228-229. وكان نبيلا حقًا، صفة ولقبًا. قال البخاري في الكبير: "سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها". ولد سنة 122، ومات سنة 212 وهو ابن 90 سنة و 4 أشهر ولدته أمه وعمرها 12 سنة. رحمهما الله. عثمان بن سعد التميمي الكاتب المعلم: ثقة، وثقه أبو نعيم، والحاكم وغيرهما، وتكلم فيه بعضهم بغير حجة، ونقل بعضهم عن النسائي أنه قال: "ليس بثقة"، ونقل الحافظ أنه رأى بخط ابن عبد الهادي: "الصواب في قول النسائي: أنه ليس بالقوي". وهذا هو الصواب عن النسائي، وهو الذي في كتاب الضعفاء له، ص: 22. وترجمه ابن أبي حاتم 3/1/153، وقال: "سمع أنس بن مالك". وسماعه من أنس ثابت عندنا في حديث آخر في المسند: 13201. فهذا الإسناد -عندنا- صحيح. والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 143، ونسبه البزار وابن جرير. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 13، وقال: "رواه البزار، وفيه عثمان بن سعد، ضعفه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابو نعيم الحافظ، وقال أبو حاتم: شيخ". وقال الهيثمي أيضًا: "حديث أنس في الصحيح، إلا أنه جعل ذلك في صلاة الصبح، وهنا: الظهر". يشير بذلك إلى أن أصله في الصحيح، وهو الحديث في صحيح مسلم 1: 148، من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، بنحوه، وفيه: "فمر رجل من بني سلمة، وهم ركوع في صلاة الفجر، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت! فمالوا كما هم نحو القبلة". وكذلك رواه ابن سعد 1/2/4، من طريق حماد بن سلمة. ومن الواضح أن هذه قصة غير التي رواها الطبري هنا. فإن الذي هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي انصرف بوجهه إلى الكعبة. فهذا أول تحويل القبلة. وأما رواية مسلم فتلك بشأن جماعة آخرين، في مسجد قباء، جاءهم مخبر فأخبرهم وهم في الصلاة بتحويل القبلة، فاستداروا إليها. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر. وهو في المسند: 4642، 4794، 5934، 5827. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 وقال آخرون بما:- 2156- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا. (1)   (1) الحديث: 2156- أبو داود: هو الطيالسي الإمام الحافظ، واسمه: "سليمان بن داود بن الجارود". مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/11، وابن سعد 7/2/51، وابن أبي حاتم 2/1/111-113، مات سنة 203 عن 92 سنة لم يستكملها، كما قال ابن سعد. المسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد لله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، تغير حفظه في آخر عمره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/250-252. وترجمنا له في شرح المسند مرارًا، آخرها في الحديث: 7105. ابن أبي ليلى: هو عبد الرحمن، التابعي المشهور. ولكنه لم يسمع من معاذ بن جبل، كما جزم بذلك علي بن المديني والترمذي وابن خزيمة، لأنه ولد سنة وفاة معاذ أو قبلها أو بعدها بقليل. فهذا الإسناد منقطع. والحديث بهذا الإسناد، مختصرًا، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 566، بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فصلى سبعة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم نزلت عليه هذه الآية: "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، إلى آخر الآية قال، فوجهه الله إلى الكعبة". وهو جزء من حديث طويل، رواه أبو داود السجستاني في سننه: 507، بإسنادين: عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- عن أبي داود، وهو الطيالسي - ثم رواه عن نصر بن المهاجر، عن يزيد بن هارون، كلاهما عن المسعودي. ولكن بين أبو داود أن رواية محمد بن المثنى مختصرة، كالرواية التي في مسند الطيالسي، ولكن ذكر أن صلاتهم نحو بيت المقدس كانت"ثلاثة عشر شهرًا"، كرواية الطبري هنا عن ابن المثنى. وأنا أرجح أن تكون رواية ابن المثنى عن الطيالسي. أرجح من الرواية التي في مسند الطيالسي، إذ أنه ليس من جمعه، بل هو من جمع أحد الرواة عنه. ثم إن حديث معاذ -بطوله- رواه أحمد في المسند 5: 246-247، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي، بهذا الإسناد. ولكن فيه"سبعة عشر شهرًا"، كرواية مسند الطيالسي. وقد أشار الحافظ في الفتح 1: 89-90 إلى كثير من الروايات في ذلك، وحاول الجمع بينهما أو الترجيح. وعندي أن مثل هذا لا يستطاع ضبطه إلا أن يكتبوه في حينه، أو تتجه همّتهم إلى العناية بحفظه. وقال الحافظ ابن كثير 1: 345-346: "والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس، بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة. واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرًا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة. التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام. فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق". وانظر أيضًا تاريخ ابن كثير 3: 252-254. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 2157- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا، أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد. * * * ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة. * * * اختلف أهلُ العلم في ذلك. فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم ذكرُ من قال ذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 2158- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن عكرمة -وعن يزيد النحويّ، عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ، فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهرًا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعو بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 115] . 2159- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم عَن قبلتهم التي كانوا عليها"، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع. قال أبو العالية: إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب، فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا، وهو في ذلك يقلِّب وَجهه في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام. * * * وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك -من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم. * ذكر من قال ذلك: 2160- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما هاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان [أكثرَ] أهلها اليهودُ، أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بضْعة عَشر شَهرًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام، وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنزل الله عز وجل: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 السَّمَاءِ) [سورة البقرة: 144] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا:"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ فأنزل الله عز وجل:"قُلْ لله المشرق والمغرب". (1) 2161- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما صلى إلى الكعبة، ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا، ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة. * * * ذكر السبب الذي من أجله قال من قال"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ * * * اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان. أحدهما ما:- 2162- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه. (2) والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل. (3) * * * 2163- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عَليها"؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل قُدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت   (1) الأثر: 2160- مضى برقم: 1833 ويأتي برقم: 2236، والزيادة بين القوسين من الموضعين. (2) الأثر: 2162- هو بعض الأثر السالف رقم: 2149. (3) يعني الأثر رقم: 2160. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس:"ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل:"قلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم". * * * وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام. * ذكر من قال ذلك: 2164- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما وُجِّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبَلَ المسجد الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟ فأنزل الله في المنافقين:"سَيقول السفهاءُ من الناس"، الآية كلها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) } قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد -لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي كنتم على التوجُّه إليها، إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟ -: لله مُلك المشرق والمغرب = يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ مشرق الشمس، وقُطرَيْ مغربها، وما بينهما من العالم (1) = يَهدي من يشاء من خلقه، (2) فيُسدده، ويوفِّقه إلى الطريق القويم، وهو"الصراط   (1) انظر تفسير"المشرق والمغرب" فيما سلف 2: 526-530. (2) انظر تفسير"هدى" فيما سلف1: 166- 169، وفي فهرس اللغة في الجزء الأول والثاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 المستقيم" (1) -ويعني بذلك: إلى قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق. * * * وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله:"يَهدي من يَشاء إلى صراط مُستقيم"، قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم -أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وسطًا"، كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا. * * * وقد بينا أن"الأمة"، هي القرن من الناس والصِّنف منهم وغَيرهم. (2) * * * وأما"الوسَط"، فإنه في كلام العرب الخيارُ. يقال منه:"فلان وَسَطُ الحسب في قومه"، (3) أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه، و"هو وَسَطٌ في قومه، وواسطٌ"، (4) كما يقال:"شاة يابِسةُ اللبن ويَبَسةُ اللبن"، وكما قال جل ثناؤه:   (1) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170-177. (2) انظر ما سلف1: 221 / ثم هذا الجزء 3: 74، 100، 128. (3) يقولون أيضًا: "هو وسيط الحسب في قومه"، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعم مجدًا. (4) شاهد قولهم"واسط" من شعرهم، قول جابر بن ثعلب الطائي: وَمَنْ يَفْتَقِرْ فِي قَوْمِهِ يَحْمَدِ الغِنَى ... وَإنْ كَانَ فِيهِمْ وَاسِطَ العَمِّ مُخْوِلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) [سورة طه: 77] ، وقال زُهير بن أبي سُلمى في"الوسط": هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نزلَتْ إحْدَى الليَالِي بِمُعْظَمِ (1) * * * قال أبو جعفر: وأنا أرى أن"الوسط" في هذا الموضع، هو"الوسط" الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين، مثل"وسَط الدار" محرَّك الوَسط مثقَّله، غيرَ جائز في"سينه" التخفيف. وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم"وسَط"، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها. * * * وأما التأويل، فإنه جاء بأن"الوسط" العدلُ. وذلك معنى الخيار، لأن الخيارَ من الناس عُدولهم. ذكر من قال:"الوسطُ" العدلُ. 2165- حدثنا سَلْم بن جُنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله   (1) كأنه من قصيدته المعلقة، ديوانه 2: 27، ولكن رواية صدر البيت في الديوان: لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصِمُ النَّاسَ أَمْرُهُمْ ولم أجد هذه الرواية فيما طبع من روايات ديوانه. ولكن البيت بهذه الرواية أنشده الجاحظ في البيان 3: 225 غير منسوب. وهو منسوب إلى زهير في أساس البلاغة"وسط". ورواية الديوان، والجاحظ: "إذا طرقت إحدى الليالي". وهما سواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 عليه وسلم في قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا" قال، عُدولا. (1) 2166- حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا حدثنا جعفر بن عون، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. 2167- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري:"وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا" قال،"عدولا. 2168- حدثني علي بن عيسى قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن حفص بن غياث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"جعلناكم أمَّة وسطًا" قال، عدولا. (2)   (1) الحديث: 2165- سلم بن جنادة، شيخ الطبري، مضت ترجمته في: 48، وكثرت رواية الطبري عنه، وهو أبو السائب. وفي المطبوعة هنا"سالم"، وهو خطأ تكرر فيها. ولا حاجة بنا إلى التنبيه عليه بعد ذلك. يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى: 237. وهذا الإسناد والإسنادان بعده، لحديث واحد، مختصر من حديث سيأتي: 2179. ورواه مختصرًا أيضًا، أحمد في المسند: 11084، عن أبي معاوية، عن الأعمش، به. ورواه بنحوه أيضًا: 11291، عن وكيع، عن الأعمش. (المسند 3: 9، 32 حلبي) . ونقله ابن كثير 1: 348، عن المسند. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 316، وقال: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". وقد وهم صاحب الزوائد في إدخاله فيها، لأنه مختصر من الحديث المطول الآتي، وقد أخرجه البخاري وغيره، فليس من الزوائد. وهذه الروايات المختصرة عند الطبري - أشار إليها الحافظ في الفتح 8: 131، أثناء شرحه الرواية المطولة. وكل الروايات التي رأينا، فيها"عدلا" بدل"عدولا". ولعل ما هنا من تحريف الناسخين، لأن الأجود صيغة الإفراد. على الوصف بالمصدر، يستوي فيه المذكر والمؤنث والمثنى والجمع. وفي اللسان: "فإن رأيته مجموعًا أو مثنى أو مؤنثًا - فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذي ليس بمصدر". والذي نقله الحافظ في الفتح، والسيوطي في الدر المنثور 1: 144 - بلفظ"عدلا" أيضًا بل عبارة أبي جعفر نفسه، قبل هذا الحديث تدل على ذلك، إذ قال: "ذكر من قال: الوسط العدل". (2) الحديث: 2168- علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي: ثقة، من شيوخ الترمذي وابن خزيمة، مترجم في التهذيب، بغداد 12: 12-13. قال الخطيب: "وما علمت من حاله إلا خيرًا". مات سنة 247. سعيد بن سليمان: هو أبو عثمان الواسطي البزاز، لقبه"سعدويه"، سبق توثيقه في شرح: 611. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/440 وابن سعد 7/2/81، وابن أبي حاتم 2/1/26، وتاريخ بغداد 9: 84-87. مات سنة 225، وله 100 سنة. حفص بن غياث: مضى في: 1037، ولكن روايته هنا عن أبي صالح ذكوان السمان، منقطعة يقينًا، فإن أبا صالح مات سنة 101، وحفص ولد سنة 117. وإنما يروي عن الأعمش وطبقته، عن أبي صالح، كما في الإسناد الماضي: 2165. ولعله سقط من نسخة الطبري في هذا الموضع بينهما: "عن الأعمش" - فيستقيم الإسناد، ويكون صحيححًا. ولم أستطع الجزم بشيء في ذلك، لأني لم أجد حديث أبي هريرة هذا في كتاب آخر ذي إسناد. وإنما ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 144، ونسبه الطبري وحده. وقد يرجح سقوط"الأعمش" من الإسناد في هذا الموضع: أن الحافظ حين أشار في الفتح 8: 131- إلى روايات الطبري المختصرة لحديث أبي سعيد، السابق، ذكر منها أن الطبري رواه"من طريق وكيع عن الأعمش، بلفظ: والوسط العدل، مختصر مرفوعا. ومن طريق أبي معاوية عن الأعمش، مثله". فهذان إسنادان لحديث أبي سعيد، نقلهما الحافظ ابن حجر - وهو من هو، دقة وتحريًا - عن هذا الموضع من الطبري، وليسا في النسخة بين أيدينا. فلا يبعد أن يكون في هذا الإسناد أيضًا نقص قوله"عن الأعمش" بين حفص بن غياث وأبي صالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 2169- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد:"وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال، عدولا. * * * 2170- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال، عدولا. 2171- حدثنا المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2172- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أمة وسَطًا" قال، عُدولا. 2173- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا. 2174- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 2175- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكذلك جعلناكم أمة وَسَطًا"، يقول: جعلكم أمةً عُدولا. 2176- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن رِشْد بن سعد قال، أخبرنا ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا" قال، الوسطُ العدل. (1) 2177- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير:"أمة وَسَطًا"، قالوا: عُدولا. قال مجاهد: عَدْلا. (2) 2178- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وكذلك جَعلناكم أمهً وسطًا" قال، هم وَسَطٌ بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأمم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} قال أبو جعفر:"والشهداء" جمع"شَهيد". (3) فمعنى ذلك: وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا عُدولا [لتكونوا]   (1) الحديث: 2176- هو قطعة من حديث مطول، سيأتي: 2195. و"رشدين بن سعد" ثبت في المطبوعة هنا"راشد بن سعد". وهو خطأ، كما سنبين هناك إن شاء الله. (2) في المطبوعة: "وقال مجاهد: عدولا"، وكأن الصواب ما أثبت، وإلا كان كلاما زائدا، لا معنى له. (3) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف 1: 376-378 / وهذا الجزء 3: 97. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 شُهداءَ لأنبيائي ورسُلي على أممها بالبلاغ، (1) أنها قد بلغت ما أُمرَت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكونَ رسولي محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي، كما:- 2179- حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ ما أرسِلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقول: ما جاءنا ممن نذير! فيقال له: من يعلم ذاك؟ فيقول: محد وأمته. فهو قوله:"وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". (2) 2180- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه - إلا أنه زاد فيه: فيُدعون ويَشهدون أنه قد بلَّغ. 2181- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد:"وكذلك جعلناكم أمة وسَطًا لتكونوا شُهداءَ عَلى الناس" -بأن الرسل قد بلَّغوا-"ويكونَ الرسول عليكم   (1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، بدلالة الآية، ودلالة ما سيأتي من قوله: "ويكون رسولي". (2) الحديث: 2179- هو والإسنادان بعده، لحديث واحد، مضى بعضه بهذه الأسانيد: 2165-2167، إلا أن هناك زيادة شيخين للطبري في الإسنادين الأولين منا. والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، بنحوه: 1130، عن وكيع عن الأعمش، و 11579، عن أبي معاوية عن الأعمش. (3: 32، 58 حلبي) . ورواه البخاري 6: 264، من طريق عبد الواحد بن زياد، و 8: 130-131، من طريق جرير وأبي أسامة، و 13: 266، من طريق أبي أسامة وجعفر بن عون - كلهم عن الأعمش، بهذا الإسناد نحوه. ونقله ابن كثير في التفسير 1: 347-348، من روايتي الإمام أحمد، وقال: "رواه البخاري والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طرق، عن الأعمش". ونسبه السيوطي 1: 144 لهؤلاء ولغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 شهيدًا". بما عملتم، أو فعلتم. 2182- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس: أن مُكاتبًا لهم حَدّثهم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني وأمتي لعلى كَوْمٍ يومَ القيامة، مُشرفين على الخلائق. ما أحدٌ من الأمم إلا ودَّ أنه منها أيَّتُها الأمة، (1) ومَا من نبيّ كذّبه قومُه إلا نحن شُهداؤه يومَ القيامة أنه قد بلَّغ رسالات ربه ونصحَ لهُم. قال:"ويكونَ الرسول عليكم شَهيدًا". (2)   (1) في حديث كعب بن مالك: "فتخلفنا أيتها الثلاثة" - يريد تخلفهم عن غزوة تبوك، وتأخر توبتهم. وهذه اللفظة تقال في الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب. تقول: "ما أنا فأفعل كذا أيها الرجل"، يعني نفسه. فمعنى قول كعب: "أيتها الثلاثة"، أي المخصوصين بالتخلف. (لسان العرب، مادة: أيا) . (2) الحديث: 2182- هذا إسناد ضعيف، لجهالة التابعي الذي رواه عن جابر، وفي اسم الراوي عن التابعي بحث يحتاج إلى تحقيق. ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان، مضى: 1840. أبو مالك الأشجعي: هو سعد بن طارق بن أشيم، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 2/2/59، وابن أبي حاتم 2/1/86-87. المغيرة بن عتيبة بن النهاس: ثبت في الطبري هنا"عيينة"، بدل"عتيبة". ولم يترجم في التهذيب ولا ذيوله. وترجمه ابن أبي حاتم 4/1/227 هكذا: "مغيرة بن عتيبة بن نهاس العجلي. وكان قاضيًا لأهل الكوفة. روى عن سعيد بن جبير، وموسى بن طلحة، وعن مكتب عن جابر"، إلخ، وترجمه البخاري في الكبير 4/1/322-323 هكذا: "مغيرة بن عيينة بن عابس. قال ابن المبارك: ابن النحاس، عن. . . وعن مكتب بن جابر. . . ". وحقق العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني، مصحح الكتابين - ترجيح ما يفي كتاب ابن أبي حاتم، لموافقته ما ثبت في الثقات لابن حبان، والإكمال لابن ماكولا. وهو الصحيح. وللمغيرة هذا روايات كثيرة في تاريخ الطبري، وثبت اسم أبيه في كثير منها على الصواب، وذكر اسمه ونسبه كاملا هناك 4: 81"المغيرة بن عتيبة بن النهاس العجلي". وأما قوله هنا"أن مكاتبًا لهم حدثهم عن جابر" - فيفهم منه أن التابعي المبهم الراوي عن جابر، هو من موالي آل المغيرة الراوي عنه، وأنه مكاتب لهم. ولكن الذي في كتابي البخاري وابن أبي حاتم - كما ترى: "وعن مكتب عن جابر". فقال العلامة عبد الرحمن في تعليقه على ابن أبي حاتم: " أراه سعيد بن زياد المكتب" ولكنه قبل ذلك في تعليقه على التاريخ الكبير، ذكر ذلك احتمالا فقط، بل كاد يرده بأن"سعيد بن زياد المكتب مولى زياد المكتب مولى بني زهرة" ترجمه البخاري - يعني في 2/1/433"ولكن لم يذكر روايته عن جابر ولا غيره من الصحابة". وهو كما قال، وكذلك ترجمه في التهذيب وغيره. فلذلك أنا أستبعد جدًا أن يكون هو المراد بقول البخاري وابن أبي حاتم في شيوخ المغيرة"عن مكتب عن جابر". بل أكاد أرجح ما هنا في الطبري: أنه عن"مكاتب"، وأن يكون ذكر في بعض الروايات هكذا، ولعل بعض الناسخين القدماء نقلها حين نسخها محذوفة الألف. ولم أجد هذا الحديث في كتاب آخر ذي إسناد، حتى أستطيع أن أتجاوز هذا الحد في التحقيق. ولكن ذكره السيوطي 1: 114 -دون إسناد طبعًا- ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، فقط. وذكره ابن كثير 1: 348، نقلا عن ابن مردويه وابن أبي حاتم، من طريق عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، بهذا الإسناد. وفيه"عن مغيرة بن عتيبة بن نياس"! وهو غلط واضح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 2183- حدثني عصام بن روَّاد بن الجرّاح العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي الفضل، عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما صلى على الميت قال الناس: نِعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت! ثم خرجت مَعه في جنازة أخرى، فلما صلوا على الميت قال الناس: بئس الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت. فقام إليه أبيّ بن كعب فقال: يا رسولَ الله، ما قولك وجبت؟ قال:" قول الله عز وجل:"لتكونوا شُهداء على الناس". (1) 2184- حدثني عليّ بن سَهل الرملي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال،   (1) 2183- عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/26، وقال: "روى عنه أبي، وكتبت أنا عنه"، ثم قال: "سئل أبي عنه؟ فقال: صدوق". وفي لسان الميزان: "لينه الحاكم أبو أحمد. وذكره ابن حبان في الثقات". أبوه"رواد بن الجراح": مضت ترجمته: 126. ونزيد هنا: مترجم أيضًا في ميزان الاعتدال. ومجموع الكلام فيه يؤيد ضعفه. وقد روى له الطبري - فيما يأتي (22: 72-73) حديثًا مكذوبًا لا أصل له. وروى ما يدل على أن هذا الشيخ أدخل عليه ذلك الحديث، فلئن كان ذاك إن فيه لغفلة شديدة ما يجوز معها أن يقبل شيء من روايته. أما هذا الحديث -الذي هنا- فإنه لم ينفرد بروايته، كما سيجيء في الإسناد التالي لهذا. وقد وقع المطبوعة هنا"عصام بن وراد" بتقديم الواو على الراء؛ وهو خطأ ظاهر. عبد الله بن أبي الفضل المديني: ترجمه ابن أبي حاتم 2/2/137، وروى عن أبيه قال: "لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير، ولا نعرفه". وعن ذلك قال الذهبي في الميزان: "مجهول". وقال الحافظ في لسان الميزان: "ذكره ابن حبان في الثقات". وهذا - عندنا كاف في الاحتجاج بحديثه، إذ هو تابعي عرف شخصه، ووثقه ابن حبان. والتابعون -عندنا- على القبول، حتى يثبت في أحدهم جرح مقبول. ووقع هنا في المطبوعة"عبد الله بن الفضل" بحذف كلمة"أبي"، وهو خطأ. وثبت على الصواب في الإسناد بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 حدثني أبو عمرو، عن يحيى قال، حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني قال، حدثني أبو هريرة قال: أُتي رَسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال الناس: نعم الرجل! ثم ذكر نحو حديث عصَام عن أبيه. (1) 2185- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمُرّ عليه بجنازة، فأثنِيَ عليها بثناء حَسن، فقال: وجبت! ومُرَّ عليه بجنازة أخرى، فأثنِيَ عليها دون ذلك، فقال: وجبت! قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: الملائكة شُهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فما شهدتم عليه وجب. ثم قرأ: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) الآية [سورة التوبة: 105] . (2) * * *   (1) الحديث: 2184- هو إسناد آخر للحديث السابق. علي بن سهيل الرملي: مضى: 1384. الوليد بن مسلم الدمشقي، عالم الشأم: ثقة متقن صحيح العلم صحيح الحديث، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما، مات سنة 195. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/152-153، وابن سعد 7/2/173، وابن أبي حاتم 4/2/16-17، وروى عن مروان بن محمد قال، "كان الوليد بن مسلم عالمًا بحديث الأوزاعي". وشيخه في هذا الإسناد"أبو عمرو"-: هو الأوزاعي. والحديث -من هذا الوجه- صحيح، وذكره السيوطي، 1: 145، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم. وأصله ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند: 7543. ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، كما بينا هنا. ولكن لم يذكر فيه سؤال أبي بن كعب، ولا الاستشهاد بالآية. وفي مجمع الزوائد 3: 4 رواية أخرى له مطولة، وفيها أن السائل هو عمر. وذكر أنه"رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح". (2) الحديث: 2185- وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم. زيد بن الحباب -بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحدة- العكلي: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما من الأئمة، وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/358، وابن سعد 6: 281، وابن أبي حاتم 1/2/561-562. عكرمة بن عمار العجلي: ثقة، روى عنه شعبة والثوري ووكيع وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4/1/50، وابن سعد 5: 404، وابن أبي حاتم 3/2/10-11. إياس بن سلمة بن الأكوع: تابعي ثقة كثير الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو قد سمع من أبيه الصحابي، وروى له الشيخان وغيرهما أحاديث من روايته عنه. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/1/439، وابن سعد 5: 184، وابن أبي حاتم 1/1/279-280. ورجال الصحيحين، ص: 47. والحديث ذكره السيوطي 1: 145، باختصار في آخره. ونسبه لابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير والطبراني. ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 4-5، عن إسنادين للطبراني في الكبير، في كل منهما رجل ضعيف. فيستفاد تصحح الحديث بهذا الإسناد الصحيح عند ابن جرير. وفي المطبوعة: "فما شهدتم عليه وجبت"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 2186- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لتكونوا شهداء على الناس"، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس. 2187- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 2188- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو] عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح قال: يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة نَادِيَهُ ليس معه أحد، فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم. (1) 2189- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله. 2190- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني ابن أبي نجيح، عن أبيه قال، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فذكر مثله، ولم يذكر عبيد بن عمير، مثله. 2191- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن   (1) الأثر: 2188- كان في المطبوعة"حدثنا عاصم"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه: 2186. أما قوله: "ناديه" فهكذا جاءت في المطبوعة، وفي مطبوعات أخرى، وفي المخطوطات، وفي الدر المنثور 1: 146: "بإذنه"، وهذه الأخيرة لا معنى لها. أما قوله: "ناديه"، فكأنه أراد موقفه يوم القيامة. والنادي: مجتمع القوم وأهل المجلس. ولكني أرجح أن اللفظ محرف عن كلمة معناها"وحده - أو منفردًا"، فإن سياقه يقتضي ذلك. وقوله: "يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ناديه" أرجح أن قوله: "صلى الله عليه وسلم" زيادة ناسخ، والسياق يقتضي أن يكون: "يأتي النبي يوم القيامة ناديه ليس معه أحد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 قتادة"لتكونوا شُهداء على الناس"، أي أنّ رسلهم قد بلغت قومَها عن ربّها،"ويكون الرسول عليكم شَهيدًا"، على أنه قد بلغ رسالات ربِّه إلى أمته. 2192- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ قوم نوح يَقولونَ يوم القيامة: لم يبلِّغنا نوحٌ! فيدعَى نوح عليه السلام فيسأل: هل بلغتهم؟ فيقول: نعم. فيقال: من شُهودك؟ فيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتدعون فتُسألون فتقولون: نعم، قد بلّغهم. فتقول قوم نوح عليه السلام: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم، وأنزل عليه أنه قد بلغكم، فصدَّقناه. قال: فيصدّق نوح عليه السلام ويكذبونهم. قال:"لتكونوا شُهداء على الناس ويَكونَ الرسول عليكم شهيدًا" 2193- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"لتكونوا شُهداء على الناس"، لتكون هذه الأمة شُهداء على الناس أنّ الرسل قد بلَّغتهم، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدًا، أن قد بلَّغ ما أرسل به. 2194- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ الأمم يقولُون يوم القيامة: والله لقد كادت هذه الأمَّة أن تكون أنبياءَ كلهم! لما يرون الله أعطاهم. 2195- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن رِشْدين بن سعد، قال أخبرني ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة يُسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جمع الله عباده يوم القيامة، كان أوَّلَ من يدعى إسرافيلُ، فيقول له ربه: ما فعلتَ في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم رَبّ، قد بلغته جبريل عليهما السلام، فيدعى جبريل، فيقال له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 هل بَلغك إسرافيلُ عهدي! (1) فيقول: نعم ربّ، قد بلغني. فيخلَّى عن إسرافيلُ، ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، قد بلغتُ الرسل. فتُدعى الرسل فيقال لهم: هل بلَّغكم جبريلُ عهدي؟ فيقولون: نعم ربَّنا. فيخلَّى عن جبريل، ثم يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلَّغنا أممنا. فتدعى الأمم، فيقال: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذّب ومنهم المصدِّق، فتقول الرسل: إن لنا عليهم شهودًا يَشهدون أنْ قد بلَّغنا مع شَهادتك. فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمَّة محمد. فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أتشهدون أنّ رسُلي هؤلاء قد بلَّغوا عهدي إلى من أرسِلوا إليه؟ فيقولون: نعم ربَّنا شَهدنا أنْ قد بلَّغوا. فتقول تلك الأمم. كيف يشهد علينا من لم يُدركنا؟ فيقول لهم الرب تباركَ وتعالى: كيف تشهدون عَلى من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصَصَت علينا أنّهم قد بلَّغوا، فشهدنا بما عهدْتَ إلينا. فيقول الرب: صدَقوا. فذلك قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا" -والوسطُ العَدْل-"لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من كان في قلبه حِنَةٌ على أخيه. (2) 2196- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لتكونوا شُهداء على الناس"، يعني بذلك. الذين استقاموا على الهُدى، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة، لتكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم بآيات الله.   (1) في المطبوعة: "هل بلغت إسرافيل"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبت. (2) الحديث: 2195- هذا حديث ضعيف، من ناحيتين: من ناحية أنه مرسل، رواه تابعي لم يسنده عن صحابي. ومن ناحية ضعف"رشدين بن سعد"، كما سيأتي. وقد مضت قطعة منه بهذا الإسناد: 2176. وأحلنا تخريجها على هذا الموضع. رشدين بن سعد: ضعيف جدًا، سبق بيانه في: 1938. ووقع في المطبوعة هنا، وفي: 2176: "راشد"، كما كان ذلك في: 1938. وهو خطأ. ابن أنعم المعافري: هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم -بفتح الهمزة وسكون النون وضم العين المهملة- المعافري الإفريقي القاضي. وهو ثقة، تكلم فيه كثير من العلماء بغير حجة، سمع من أجلة التابعين، وكان شجاعًا في الحق. وكان أحمد بن صالح يقول: هو ثقة، وينكر على من تكلم فيه. قاله أبو بكر المالكي في رياض النفوس: "كان من جلة المحدثين، منسوبًا إلى الزهد والورع، صلبًا في دينه، متفننًا في علوم شتى". وغلا فيه ابن حبان غلوًا فاحشًا، فقال في كتاب المجروحين، ص: 283-284: "كان يروي الموضوعات عن الثقات، ويأتي عن الأثبات ما ليس من أحاديثهم، وكان يدلس عن محمد بن سعيد بن أبي قيس المطلوب". ثم روى حديثًا من طريقه يستدل به على ما قال. وهو حديث موضوع، ولكن ابن أنعم بريء من عهدته، فإن الحمل فيه على أحد الكذابين، وهو يوسف بن زياد البصري. وقد تعقب الدارقطني على ابن حبان ذلك، فيما ثبت بهامش مخطوطة المجروحين. والمشارقة أخطأوا معرفة ابن أنعم، فعن ذلك جاء ما جاء من جرحه، بل أخطأوا تاريخ وفاته، فأرخوه سنة 156. والمغاربة أعرف به، وأرخوه سنة 161. وله تراجم وافية: في التهذيب 6: 173-176، والصغير للبخاري، ص: 180، وابن أبي حاتم 2/2/334-335. والمجروحين لابن حبان: 283-284، والميزان للذهبي 2: 104-105، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب: 27-32. ورياض النفوس لأبي بكر المالكي 1: 96-103، وتاريخ بغداد 10: 214-218. حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أبي جبلة المصري: تابعي ثقة. وهو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز، ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/83، وابن أبي حاتم 1/2/269. وهذا الحديث مرسل، إذ حكى راويه عن التابعي أنه"يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، لم يذكر من حدثه به. وقوله"يسنده" - كتب في المطبوعة هنا وفي: 2176"بسنده" بالباء الموحدة. وهو تصحيف. والحديث ذكره السيوطي 1: 145، ولم ينسبه لغير الطبري وابن المبارك في الزهد. وكان في المطبوعة"حقد على أخيه". وفي الدر المنثور 1: 146"إحنة"، والذي أثبته من القرطبي، وبعض المخطوطات. والحنة: الحقد، من"وحن يحن حنة" مثل: "وعد يعد عدة" (بكسر الحاء وفتح النون) . وقال الأزهري: ليست من كلام العرب، إنما هي إحنة: أي حقد. وأنكر الأصمعي"حنة"، وحكى عنه أبو نصر أنه قال: "كنا نظن الطرماح شيئًا حتى قال: وَأَكرَهُ أنْ يَعِيبَ عَلَيَّ قَوْمِي ... ِجَائِي الأَرْذَلِينَ ذَوِي الحِنَاتِ لأنها إحنة وإحن، ولا يقال حنات" (ديوان الطرماح: 134) . وقال الزمخشري في الفائق (أحن) : "أما ما حكى عن الأصمعى. . . فاسترذال منه! "وحن"، وقضاء على الهمزة بالأصالة، أو برفض الواو في الاستعمال". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 2197- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"، يقول: لتكونوا شهداء على الأمم الذين خَلَوا من قبلكم، بما جاءتهم رسلهم، وبما كذّبوهم، فقالوا يوم القيامة وعَجِبوا: إنّ أمة لم يكونوا في زماننا، فآمنوا بما جاءتْ به رسلنا، وكذبنا نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب. قوله:"ويكُون الرسولُ عليكم شهيدًا"، يعني بإيمانهم به، وبما أنزل عليه. 2198- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لتكونوا شُهداء على الناس"، يعني: أنهم شَهدوا على القرون بما سمَّى الله عز وجل لَهم. 2199- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"؟ قال: أمة محمد، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمانُ والهدى، ممن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثير. قال: وقال عطاء: شهداء على مَنْ ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين، جاء ذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم،"ويكون الرسولُ عليكمْ شهيدًا" على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم، وصَدَّقوا به. 2200- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"لتكونوا شُهداء عل الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا" قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمَّته، وهم شهداء على الأمم، وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) [سورة غافر: 51] الأربعة: الملائكة الذين يُحصُون أعْمالنا، لنا وعلينا، وقرأ قوله: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [سورة ق: 21] ، وقال: هذا يوم القيامة. قال: والنبيون شُهداء على أممهم. قال: وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شُهداء على الأمم. قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 [والأطوار] الأجساد والجلود. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، ولم نجعل صَرْفك عَن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفْناك عنها، إلا لنعلم من يَتَّبعك ممن لا يتَّبعك، ممن يَنقلبُ على عقبيه. * * * والقبلة التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها، التي عناها الله بقوله:"وما جعلنا القبلة التي كنت عليها"، هي القبلة التي كنت تتوجَّه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة، كما:- 2201- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، يعني: بيت المقدس. 2202- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن   (1) الأثر: 2200- ذكره السيوطي في الدر المنثور 5: 352 في تفسير [سورة غافر الآية: 51] ، بغير هذا اللفظ، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما. ونصه: "عن زيد بن أسلم: الأشهاد أربعة: الملائكة الذين يحصون علينا أعمالنا، وقرأ: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد"، والنبيون، شهداء على أممهم، وقرأ: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، شهداء على الأمم، وقرأ: "لتكونوا شهداء على الناس"، والأجساد والجلود، وقرأ: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الذي أنطق كل شيء". أما ما جاء في نص الطبري، ووضعته بين قوسين، فهو خطأ لا شك فيه، وأخشى أن يكون صوابه"الأطراف والأجساد والجلود"، ويعني بالأطراف، الجوارح، يريد بذلك الأيدي والأرجل، في قوله تعالى في [سورة يس: 65] : (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتُكَلّمنَا أَيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 ابن جريج قال: قلت لعطاء:"وما جَعلنا القِبلة التي كنتَ عليها". قال: القِبلة بيتُ المقدس. * * * قال أبو جعفر: وإنما ترك ذكر"الصرف عنها"، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نَظائره. (1) وإنما قُلنا: ذلك معناه، لأن محنةَ الله أصحابَ رسوله في القِبلة، إنما كانت -فيما تظاهرت به الأخبار- عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة، حتى ارتدَّ -فيما ذكر- رجالٌ ممن كان قد أسلمَ واتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهرَ كثيرٌ من المنافقين =من أجل ذلك= نفاقَهم، وقالوا: ما بَالُ محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالُنا وأعمالُهم وضاعت! وقال المشركون: تحيَّر محمد [صلى الله عليه وسلم] في دينه! فكان ذلك فتنةً للناس، وتمحيصًا للمؤمنين. فلذلك قال جل ثناؤه:"ومَا جَعلنا القِبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عَقبيه"، أي: ومَا جعلنا صَرْفك عن القبلة التي كنت عليها، وتحويلك إلى غيرها، كما قال جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [سورة الإسراء: 60] بمعنى: وما جعلنا خَبرَك عن الرؤيا التي أريناك. وذلك أنه لو لم يكن أخبَر القوم بما كان أُرِي، لم يكن فيه على أحد فتنةٌ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس، لو لم يكن صرفٌ عنها إلى الكعبة، لم يكن فيها على أحد فتنةٌ ولا محْنة. * * * ذكر الأخبار التي رُويت في ذلك بمعنى ما قلنا:   (1) انظر ما سلف 1: 139-141، 179، وغيرها كثير، اطلبه في الفهارس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 2203- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قَال: كانت القبلةُ فيها بلاءٌ وتمحيصٌ. صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حوْلين قَبل قدوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قُدومه المدينةَ مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعةَ عشر شهرًا، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام، فقال في ذلك قائلون من الناس:"مَا وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق الرجُل إلى مولده! قال الله عز وجل:"قُلْ لله المشرقُ والمغربُ يَهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم". فقال أناسٌ -لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله عز وجل:"ومَا كانَ الله ليُضيعَ إيمانكم". وقد يَبتلي الله العبادَ بما شَاءَ من أمره، الأمرَ بعدَ الأمر، ليعلم مَنْ يطيعه ممن يَعصيه، وكل ذلك مقبول، إذْ كان في [ذلك] إيمان بالله، وإخلاصٌ له، وتسليم لقضائه. (1) 2204- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي قِبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، (2) اختلف الناس فيها، فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال   (1) الأثر: 2203- في الدر المنثور 1: 143، وقد مضى شطره في رقم: 2163. وكان في المطبوعة: "وكل ذلك مقبول، وإذا كان في إيمان بالله. . . "، عبارة ركيكة، فجعلت"إذا"، "إذ" وزدت"ذلك": لتستقيم العبارة. أما في الدر المنثور فعبارته أشد سقمًا ونصها: "وكل ذلك مقبول، في درجات في الإيمان بالله، والإخلاص، والتسليم لقضاء الله". (2) في المطبوعة: "فلما توجه قبل المسجد"، والصواب من رقم: 2164، والدر المنثور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد دينُهُ، فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أنْ يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين:"سَيقول السفهاء من الناس مَا ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"وإنْ كانتْ كبيرةً إلا على الذين هَدى الله"، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها. (1) 2205- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلبُ على عَقبيه"؟ فقال عطاء: يبتليهم، ليعلم من يُسلم لأمره. قال ابن جريج: بلغني أنّ ناسًا ممن أسلم رَجعوا فقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا! * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ مَا كان الله عالمًا بمن يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، إلا بعد اتباع المتّبع، وانقلاب المنقلب على عقبيه، حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتّبعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه؟ قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قَبل كونها، وليس قوله:"وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن يَنقلب على عَقبيه" يخبر [عن] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجُوده. (2) فإن قال: فما معنى ذلك؟ قيل له: أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رَسولي وحزبي وأوليائي مَنْ يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه:"إلا لنعلم"، ومعناه: ليعلمَ رَسولي وأوليائي. إذْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) الأثر: 2204- مضى بعضه في رقم: 2164، وهو في الدر المنثور 1: 142-143. (2) في المطبوعة: "يخبر أنه لم يعلم ذلك. . . "، والصواب ما أثبت، مع الزيادة بين القوسين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وأولياؤهُ من حزبه، وكان من شَأن العرب إضافة ما فعلته أتباعُ الرئيس إلى الرئيس، ومَا فعل بهم إليه، نحو قولهم:"فتح عُمر بن الخطاب سَوادَ العراق، وجَبى خَرَاجها"، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك. وكالذي رُوي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله جل ثناؤه: مَرضْتُ فلم يَعدني عَبدي، واستقرضته فلم يقرضني، وشتمني ولم يَنبغِ له أن يُشتمني. 2206- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالَ الله: استقرضتُ عَبدي فلم يُقرضني، وشتمني ولم يَنبغ له أن يشتُمني! يقول: وادَهراه! وأنا الدهر، أنا الدهر. 2207- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1) * * * فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه، وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه. وقد حكي عن العرب سماعًا:"أجوع في غَيْر بَطني، وأعرى في غير   (1) الحديثان: 2206، 2207- هما حديث واحد بإسنادين صحيحين. خالد- في أولهما: هو خالد بن مخلد القطواني، بفتح القاف والطاء. وهو ثقة من شيوخ البخاري، أخرج له هو ومسلم في الصحيحين، تكلم فيه من جهة إفراطه في التشيع، ولكنه صدوق في الرواية. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/160، وابن سعد 6: 283، وابن أبي حاتم 1/2/354. وشيخه محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 1: 418، من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، بالإسناد الثاني، بنحوه. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. والنهي عن سب الدهر، في الحديث القدسي، من حديث أبي هريرة-: ثابت من أوجه، في الصحيحين وغيرهما. فانظر المسند: 7244، 7509. والبخاري 8: 441، و 10: 465، و 13: 389. وصحيح مسلم 2: 196-197. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ظهْري"، بمعنى: جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم، فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2208- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وما جَعلنا القبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه"، قال ابن عباس: لنميّز أهلَ اليقين من أهل الشرك والريبة. * * * وقال بعضهم: إنما قيل ذلك، من أجل أن العرَب تَضع"العلم" مكان"الرؤية"، و"الرؤية" مكان"العلم"، كما قَال جلّ ذكره: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [سورة الفيل: 1] ، فزعم أن معنى"ألم تر"، ألم تعلم؟ وزعم أن معنى قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أنّ قول القائل:"رأيتُ، وعَلمت، وشَهدت"، حروفٌ تتعاقب، فيوضَع بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَو بن عَمْرٍو إذْ دَعَا يَالَ دَارِمِ (1) بمعنى: كأنك لم تعلم لَقيطًا، لأنّ بين هُلْك لَقيط وحاجب وزمان جرير، ما لا يخفى بُعده من المدة. وذلك أنّ الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية، وجريرٌ كان بعد بُرْهة مَضَت من مجيء الإسلام. * * *   (1) ديوانه: 563، والنقائض: 409، من قصيدته الفالقة، في نقض قصيدة الفرزدق. وقد عدد فيها أيام قومه. والخطاب في قوله: "كأنك" للفرزدق، ويذكر"يوم جبلة"، وهو من أعظم أيامهم، وكان قبل الإسلام بأربعين سنة، عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لعامر وعبس، على ذبيان وتميم. وقتل يومئذ لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس، وهم من بني عبد الله بن دارم، وهم عمومة الفرزذق، وهو من بني مجاشع بن دارم. ورواية الديوان والنقائض: "إذا دعوا"، وكلتاهما صحيحة المعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 قال أبو جعفر: وهذا تأويل بعيدٌ، من أجل أنّ"الرؤية"، وإن استعملت في موضع"العلم"، من أجل أنه مستحيلٌ أن يرى أحدٌ شيئًا، فلا توجب رؤيته إياه علمًا بأنه قد رآه، إذا كان صحيح الفطرة. فجاز من الوجه الذي أثبته رؤيةً، أن يُضَاف إليه إثباتُهُ إياه علمًا، (1) وصحّ أن يدلّ بذكر"الرؤية" على معنى"العلم" من أجل ذلك. فليس ذلك، وإن كان [جائزا] في الرؤية -لما وصفنا- بجائز في العلم، (2) فيدلّ بذكر الخبر عن"العلم" على"الرؤية". لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها، ويستحيل أن يَرَى شيئًا إلا علمه، كما قد قدمنا البيان [عنه] . (3) مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال:"علمت كذا"، بمعنى رأيته. وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم منَ الكلام، إلى ما كان موجودًا مثله في كلام العرب، دون ما لم يكن موجودًا في كلامها. فموجود في كلامها"رأيت" بمعنى: علمت، وغير موجود في كلامها"علمت" بمعنى: رأيت، فيجوز توجيه:"إلا لنعلم" إلى معنى: إلا لنرى. * * * وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، من أجل أنّ المنافقين واليهودَ وأهلَ الكفر بالله، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يَعلم الشيءَ قبل كونه. وقالوا - إذ قيل لهم: إن قومَا من أهل القبلة سيرتدُّون على أعقابهم، إذا حُوِّلت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة-: ذلك غير كائن! أو قالوا: ذلك باطل! فلما فَعل الله ذلك، وحوَّل القبلة، وكفر من أجل ذلك من كفر، قال الله جل   (1) أثبت الشيء: عرفه حق المعرفة. (2) الزيادة بين القوسين، لا بد للسياق منها، وإلا اختل الكلام. (3) زيادة يقتضيها سياقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 ثناؤه: ما فعلتُ إلا لنعلم ما علمه غَيركم- أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه-: أنّي عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد. (1) فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله:"إلا لنعلم": إلا لنبيّن لكم أنّا نعلمُ من يَتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. وهذا وإن كان وَجهًا له مَخرج، فبعيدٌ من المفهوم. * * * وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال، على وجه الترفّق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته، (2) كما قال جل ثناؤه: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (3) [سورة سبأ: 24] ، وقد علم أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين، ولكنه رَفقَ بهم في الخطاب، فلم يقل: أنّا على هدى، وأنتم على ضلال. فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، معناه عندهم: إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جُهالا به قبل أن يكونَ. فأضاف العلم إلى نفسه، رفقًا بخطابهم. * * * وقد بيَّنا القول الذي هو أوْلى في ذلك بالحقّ. * * * وأما قوله:"مَنْ يتَّبع الرسول". فإنه يعني: الذي يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به، فيوجِّه نحو الوَجه الذي يتوَجَّه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم. * * *   (1) كان في المطبوعة: "إلا لنعلم ما عندكم. . . " وهذا يجعل الجملة غير مستقيمة، غير مفهومة المعنى. ورأيت أن سياق الكلام قبله يدل على أن ذلك كما أثبت، فإن المؤمنين علموا أن قومًا سيرتدون إذا حولت القبلة، وأنكر اليهود والمنافقون أن يكون ذلك كائنًا. فاقتضى السياق أن يكون التأويل جامعًا لهذا العلم من هؤلاء، وذلك الإنكار من أولئك. ثم جاء الطبري بعبارة تصحح ما ذهبت إليه في قوله: "إلا لنبين لكم أننا نعلم". فكأن معنى الآية عند قائل هذا القول: ما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وإلا للعلم بأننا نعلم من يتبع الرسول. . . (2) في المطبوعة: "على وجه الترفيق بعباده"، وهو خطأ. (3) كان في الأصل: "قل الله" أول الآية المستشهد بها، فآثرت إتمامها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وأما قوله:"ممن يَنقلب على عَقبيه"، فإنه يعني: من الذي يرتدُّ عن دينه، فينافق، أو يكفر، أو مخالف محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذلك، ممن يظهر اتِّباعه، كما:- 2209- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما جَعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" قال، مَنْ إذا دخلتْه شُبهة رجع عن الله، وانقلب كافرًا على عَقبيه. * * * وأصل"المرتد على عقبيه"، هو:"المنقلب على عقبيه"، الراجع مستدبرًا في الطريق الذي قد كان قطعه، منصرفًا عنه. فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه، من دين أو خير. ومن ذلك قوله: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: 64] ، بمعنى: رَجعا في الطريق الذي كانا سَلكاه، وإنما قيل للمرتد:"مرتد"، لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها. وإنما قيل:"رجع عَلى عقبيه"، لرجوعه دُبُرًا على عَقبه، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مَرْجعه عنه. فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرًا وآخذٍ آخرَ غيره، إذا انصرف عما كان فيه، إلى الذي كان له تاركًا فأخذه. فقيل:"ارتد فلان على عَقِبه، وانقلب على عَقبيه". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في التي وصفها الله جل وعز بأنها كانت"كبيرة إلا على الذين هَدى الله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه ب"الكبيرة"، التوليةُ من بيت المقدس شطرَ المسجد الحرام والتحويلُ. وإنما أنَّث"الكبيرة"، لتأنيث"التولية". * ذكر من قال ذلك: 2210- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال الله:"وإن كانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله"، يعني: تحويلَها. 2211- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، ما أمِروا به من التحوُّل إلى الكعبة من بيت المقدس. 2212- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2213- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لكبيرة إلا على الذين هَدى الله" قال، كبيرة، حين حُولت القبلة إلى المسجد الحرام، فكانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله. * * * وقال آخرون: بل"الكبيرة"، هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجَّه إليها من بيت المقدس قبلَ التحويل. * ذكر من قال ذلك. 2214- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"وإن كانت لكبيرة"، أي: قبلةُ بيت المقدس -"إلا على الذين هدى الله". (1)   (1) في المطبوعة: "عن أبيه عن أبي العالية"، بإسقاط"عن الربيع"، وهو إسناد دائر في الطبري، أقربه رقم: 1886. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وقال بعضهم: بل"الكبيرة" هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى. * ذكر من قال ذلك. 2215- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله" قال، صلاتكم حتى يهديَكم اللهُ عز وجل القِبلةَ. (1) 2216- وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لَكبيرة" قال، صلاتك هاهنا -يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا- وانحرافُك هاهنا * * * وقال بعض نحويي البصرة: أنِّثت"الكبيرة" لتأنيث القبلة، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله:"وإن كانت لكبيرة". وقال بعض نحويي الكوفة: بل أنثت"الكبيرة" لتأنيث التولية والتحويلة فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة: وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنتَ عليها وتوليتُناك عنها، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت تحويلتُنا إياك عنها وتوليتُناكَ"لكبيرة إلا على الذين هدى الله". * * * وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب. لأن القوم إنما كبُر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وَجْهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى، لا عين القبلة، ولا الصلاة. لأن القبلة الأولى والصلاة، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم. إلا أن يوجِّه موجِّه تأنيث"الكبيرة" إلى"القبلة"، ويقول: اجتُزئ بذكر"القبلة" من ذكر"التولية والتحويلة"، لدلالة الكلام على معنى ذلك، كما قد وصفنا لك في نظائره. (2) فيكون ذلك وجهًا صحيحًا، ومذهبًا مفهومًا. * * *   (1) الأثر: 2215- سيأتي تامًا برقم: 2217، وفيه"يهديكم إلى القبلة"، وهما صواب. (2) انظر ما سلف في فهارس الأجزاء الماضية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 ومعنى قوله:"كبيرة"، عظيمة، (1) . كما:- 2217- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لكبيرة إلا عَلى الذين هدى الله" قال، كبيرة في صدور الناس، فيما يدخل الشيطانُ به ابنَ آدم. قال: ما لهم صلُّوا إلى هاهنا ستةَ عشر شهرًا ثم انحرفوا! فكبُر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا، فثبَّت الله جل ثناؤه ذلك قي قلوبهم، وقرأ قول الله"وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، صَلاتكم حَتى يهديكم إلى القبلة. (2) * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"إلا على الذين هَدى الله"، فإنه يعني به: وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنتَ عليها، لعظيمة إلا على من وّفَّقه الله جل ثناؤه، فهداهُ لتصديقك والإيمان بك وبذلك، واتباعِك فيه، وفيما أنزل الله تعالى ذكره عليك، كما:- 2218- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله"، يقول: إلا على الخاشعين، يعني المصدِّقين بما أنزل الله تبارك وتعالى. (3) * * *   (1) انظر تفسير"كبيرة" فيما سلف 2: 15. (2) الأثر: 2217- انظر ما سلف رقم: 2115، والتعليق عليه. (3) الأثر 2218- أخشى أن يكون هذا الأثر، هو نفس الأثر السالف برقم: 856. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال أبو جعفر: قيل: عنى ب"الإيمان"، في هذا الموضع: الصلاةَ. * * * ذكر الأخبار التي رُويت بذلك، وذكر قول من قاله: 2219- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وعبيد الله -وحدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا عبيد الله بن موسى- جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، لما وُجِّه رَسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتَ من إخواننا قبل ذلك، وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله جل ثناؤه:"وما كانَ الله ليضيعَ إيمانكم". (1) 2220- حدثني إسماعيل بن موسى قال، أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قول الله عز وجل:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم نحوَ بَيت المقدس. 2221- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء نحوه. (2) 2222- وحدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحرّاني قال، حدثنا زهير قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: مات على القبلة قبلَ أن تحوّل إلى البيت   (1) الحديث: 2219- هو بإسنادين معًا: أولهما صحيح، وهو رواية أبي كريب، عن وكيع وعبيد الله بن موسى. وثانيهما ضعيف، وهو رواية سفيان بن وكيع عن عبيد الله بن موسى. وعبيد الله بن موسى العبسي: مضى في 2092. والحديث رواه أحمد في المسند: 3249، عن وكيع، عن إسرائيل، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه أيضًا مطولا ومختصرًا، من طرق عن إسرائيل: 2691، 2776، 2966. وخرجناه هناك في: 2691. (2) الحديثان: 2220-2221- هما حديث واحد بإسنادين. وذكره السيوطي 1: 146، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 رجالٌ وقُتلوا، فلم ندر ما نَقول فيهم. فأنزل الله تعالى ذكره:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم". (1) 2223- حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، قال أناسٌ من الناس -لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نَعملُ في قبلتنا؟ فأنزل الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليضيع إيمانكم". 2224- حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما وُجِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَل المسجد الحرام، (2) قال المسلمون: ليتَ شِعْرنا عن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم قبَلَ بيت المقدس: يقول: إنّ تلك طاعة وهذه طاعة. (3) 2225- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال ناسٌ -لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"وما كانَ الله ليضيع إيمانكم" الآية. 2226- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصم قال، لما صُرف رسولُ الله صلى الله   (1) الحديث: 2222- عبد الله بن محمد بن نفيل: هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل، أبو جعفر النفيلي الحراني، الثقة المأمون الحافظ. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/159. زهير: هو ابن معاوية الجعفي أبو خيثمة. مضى: 2144. وأبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني. والحديث هو باقي الحديث الماضي لهذا الإسناد: 2153. وقد بينا تخريجه هناك. (2) في المطبوعة: "لما توجه. . . "، وانظر ما سلف رقم: 2204، والتعليق عليه. (3) الأثر: 2224- مضى برقم: 2164، ثم: 2204، وفيه هنا زيادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 عليه وسلم إلى الكعبة، قال المسلمون: هَلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس! فنزلت:"وما كان الله ليضيع إيمانكم". 2227- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"، يقول: صَلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة. فكان المؤمنون قد أشفقوا على مَن صلى منهم أن لا تُقبلَ صلاتهم. 2228- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"، صلاتكم. 2229- حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال، أخبرنا المؤمل قال، حدثنا سفيان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم نحو بيت المقدس. * * * قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على أن"الإيمان" التصديق. وأن التصديقَ قد يكون بالقول وحده، وبالفعل وحده، وبهما جميعًا. (1) فمعنى قوله:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم" -على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة-: وما كان الله ليُضيع تصديقَ رَسوله عليه السلام، بصَلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي، واتِّباعًا لأمْري، وطاعةً منكم لي. * * * قال:"وإضاعته إياه" جل ثناؤه -لو أضاعه-: تركُ إثابة أصْحابه وعامليه عليه، فيذهب ضياعًا، ويصير باطلا كهيئة"إضاعة الرجل ماله"، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضًا في عاجل ولا آجل. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 234-235، وغيره، فالتمسه في فهرس اللغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يُبطل عَمل عاملٍ عمل له عملا وهو له طاعة، فلا يُثيبه عليه، وإن نُسخ ذلك الفرضُ بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله. * * * فإن قال قائل: وكيفَ قال الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم"، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقومُ المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟ قيل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك، فإنهم أيضًا قد كانوا مشفقين من حُبُوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة، وظنّوا أنّ عملهم ذلك قد بطلَ وذهب ضياعًا؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ، فوجّه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم. لأن من شأن العرب -إذا اجتمع في الخبر المخاطبُ والغائبُ- أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب. فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر:"فعلنا بكما وصنعنا بكما"، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران، ولا يستجيزون أن يقولوا:"فعلنا بهما"، وهم يخاطبون أحدهما، فيردّوا المخاطب إلى عِدَاد الغَيَب. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } قال أبو جعفر: ويعني بقوله جل ثناؤه:"إنّ الله بالناس لَرَءوفٌ رحيمٌ": أن الله بجميع عباده ذُو رأفة. * * *   (1) الغيب (بفتحتين) جمع غائب، مثل خادم وخدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 و"الرأفة"، أعلى مَعاني الرحمة، وهي عَامَّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة. * * * وأما"الرحيم": فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على ما قد بينا فيما مضى قبل. (1) * * * وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أنّ الله عز وجل أرْحمُ بعباده منْ أن يُضيع لهم طاعةً أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها، وأرأفُ بهم من أن يُؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم -أيْ ولا تأسوا عَلى مَوْتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس-، فإني لهم =على طاعتهم إياي بصَلاتهم التي صلوها كذلك= مثيبٌ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي؛ ولا تحزنوا عليهم، فإني غيرُ مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله. * * * وفي"الرءوف" لغات. إحداها"رَؤُف" على مثال"فَعُل"، كما قال الوليد بن عقبة: وَشرُّ الطالِبِينَ -وَلا تَكُنْه- ... بقَاتِلِ عَمِّه، الرَّؤُفُ الرَّحِيم (2)   (1) انظر ما سلف 1: 126-134. (2) كان في المطبوعة: "الرءوف الرحيما". وجاء على الصواب في القرطبي 2: 145، وأبي حيان 1: 427، وفيهما خطأ آخر، الأول فيه"يقاتل"، والثاني"يقابل"، وكأن هذا البيت من شعر الوليد بن عقبة، الذي كتب به إلى معاوية يحض معاوية على قتال علي رضي الله عنهما. وهي في أنساب الأشراف: 140، وتاريخ الطبري 5: 236-237، وحماسة البحتري: 30، واللسان (حلم) وغيرها، وليس فيها هذا البيت، وكأنه قبل البيت الذي يقول فيه: لَكَ الْوَيْلاتُ! أَقْحِمْهَا عَلَيْهِمْ ... فخيرُ الطَّالبي التِّرَةِ الغَشُومُ وقوله: "لا تكنه"، دعاء له، واستنكار أن يكون كهذا الطالب الثائر الذي يطالب بدم عمه، وهو رؤوف رحيم بعدوه وقاتل عمه، وهو شر طالب ثأر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة. والأخرى"رَؤوف" على مثال"فعول"، وهي قراءة عامة قراء المدينة، و"رَئِف"، وهي لغة غطفان، على مثال"فَعِل" مثل حَذِر. و"رَأْف" على مثال"فَعْل" بجزم العين، وهي لغة لبني أسد. والقراءة على أحد الوجهين الأوَّلين. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ تقلُّبَ وجهك في السماء. * * * ويعني: ب"التقلب"، التحوُّل والتصرُّف. ويعني بقوله:"في السماء"، نحو السماء وقِبَلها. * * * وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا- لأنه كان =قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة= يرفع بصره إلى السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة، كما:- 2230- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء" قال، كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها. 2231- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء"، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي نحو بيتَ المقدس، يَهوى وَيشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام، فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها وَيشتهيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 2232- حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء"، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس، وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام، فولاه الله قبلةً كان يهواها. 2233- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس، فلما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر، وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنزل الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء" الآية. * * * ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة. قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس، من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا! * ذكر من قال ذلك: 2234- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويَستفرض للقبلة، (1) فنزلت:"قد نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام"، -وانقطع قول يهود:   (1) في المطبوعة: "يستعرض للقبلة"، وأثبت ما في الدر المنثور 1: 147 وقوله: "يستفرض" أي يطلب فرضها عليه وعلى المؤمنين. وهذا ما لم تشبه كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية. أما قوله: "يستعرض للقبلة"، فليست بشيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر، (1) . فجعل الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال. 2235- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته -يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"فأينما تولوا فثمَّ وجه الله". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت الله -لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! (2) فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام" الآية. (3) * * * وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام. * ذكر من قال ذلك: 2236- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهودُ. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُحب قبلةَ إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل:"قد نرى تقلُّبَ وجهك في السماء" الآية. (4) * * *   (1) سياق عبارته: "فنزلت. . . في صلاة الظهر". (2) في المطبوعة: "ما درى محمد صلى الله عليه وسلم"، ولا تقوله يهود، فرفعته. وكذلك جاء في رقم: 1838. (3) الأثر: 2235- مضى برقم: 1838. (4) الأثر: 2236- مضى برقم: 1833، ورقم: 2160. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 فأما قوله:"فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها"، فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة"ترضاها": تَهواها وتُحبها. (1) * * * وأما قوله:"فوَلِّ وجهك"، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله. * * * وقوله:"شَطرَ المسجد الحَرَام"، يعني: ب"الشطر"، النحوَ والقصدَ والتّلقاء، كما قال الهذلي: (2) إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ (3) يعني بقوله:"شَطْرَها"، نحوها. وكما قال ابن أحمر: تَعْدُو بِنَا شَطْر جَمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ، ... قَدْ كَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبَا (4) * * *   (1) انظر معاني"ولى" فيما سلف 2: 162، 535، وهذا الجزء 3: 131. (2) هو قيس بن العيزارة الهذلي. والعيزارة أمه، واسمه قيس بن خويلد بن كاهل. (3) ديوانه في أشعار الهذليين للسكري: 261 (أوربة) ، ورسالة الشافعي: 35، 487، وسيرة ابن هشام 2: 200، والكامل 1: 12، 2: 3 ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 60، واللسان (شطر) (حسر) ، وغيرها. ورواية الشافعي في الرسالة: "إن العسيب" بالباء في آخره، ورواية ديوانه وابن هشام: "إن النعوس". والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، من شراستها. والنعوس: التي تغمض عينيها عند الحلب. والعسيب: جريد النخل إذا كشط عنه خوصه. وأرى أنه لم يرد صفة الناقة بأحد هذه الألفاظ الثلاثة، وإنما هو اسم ناقته. وكلها صالح أن يكون اسما للناقة. وقد قال ابن هشام: "النعوس: ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من قوله: "وهو حسير". ويروى: "داء يخامرها فنحوها. . . "، ورواية ديوانه"مخزور". ومحسور، هو الحسير: الذي قد أعيى وكل. ومخزور: من قولهم: "خزر بصره": إذا دانى بين جفنيه ونظر بلحاظه. وهو يصف ناقته، ويذكر حزنه وحبه لها، فهو من الداء الذي خامرها مشفق عليها، يطيل النظر إليها حتى تحسر عيناه ويكل. (4) سيرة ابن هشام 2: 199، والروض الأنف 2: 38، والخزانة 3: 38، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 60. وفي المطبوعة: "من إنفادها"، وهو خطأ. وقال: قبله: أَنْشَأتُ أَسْأَلُه عَنْ حَالِ رُفْقَتِهِ ... فقال: حَيَّ، فَإِنَّ الرَّكْبَ قَدْ نَصَبَا حي: اعجل. ونصب: جد في السير: وقوله: "جمع"، هي مزدلفة، يريد الحج. وقوله: عاقدة، أي: قد عطفت ذنبها بين فخذيها. وقوله: كارب، أي أوشك وكاد وقارب ودنا. وأوفدت الناقة إيفادًا: أسرعت. والحقب: الحزام يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله لئلا يؤذيه التصدير. يقول: قد أسرعوا إسراعًا إلى مزدلفة، فجعلت تعطف ذنبها تسد به فرجها حتى كاد عقد ذنبها يبلغ الحقب. والناقة تسد فرجها بذنبها في إسراعها، يقول المخبل السعدي: وإذَ رَفَعْتُ السَّوْطَ، أفْزَعَهَا ... تَحْتَ الضُّلُوعِ مُرَوِّعٌ شَهْمُ وتَسُدُّ حَاذَيْهَا بِذِي خُصَلٍ ... عُقِمَتْ فناعَمَ، نَبْتَهُ العُقْمُ ويقول المثقب العبدي، يصف ناقته مسرعة: تَسُدُّ بِدَائِمِ الخَطَرَانِ جَثْلٍ ... خَوايَةَ فَرْجِ مِقْلاَتٍ دَهِينِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 ءوبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2237- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية:"شَطْرَ المسجد الحَرَام"، يعني: تلقاءه. 2238- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"شطر المسجد الحرام"، نحوَه. 2239- حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، نَحوَه. 2240- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 2241- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَ المسجد الحرام. 2242- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام" قال، نحو المسجد الحرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 2243- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَه. 2244- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال:"شطرَه"، نحوَه. 2245- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء:"فولوا وجُوهكم شَطره" قال، قِبَله. 2246- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"شَطْره"، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه:"شُطوره". (1) * * * ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام. فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله:"فلنولينَّك قبلة تَرْضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة. * ذكر من قال ذلك: 2247- حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة، عن عبد الله بن عمرو:"فلنولينَّك قبلة ترضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة. (2)   (1) الخبر: 2246- هو وما قبله من الأخبار، في تفسير (شطره) بأنه: قبله، أو: نحوه. وانظر مؤيدًا ذلك، ما قاله الشافعي في الرسالة، بتحقيقنا: 105-111، 1378-1381. (2) الحديث: 2247- عبد الله بن أبي زياد، شيخ الطبري: نسب إلى جده. وهو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني"، واسم"أبي زياد": "سليمان". وعبد الله هذا: ثقة، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/38. وشيخه"عثمان": ما أدري من هو؟ وأغلب الظن أنه محرف، وصوابه"عفان". يحيى بن قمطة: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 4/2/229، وابن أبي حاتم 4/2/181، وذكر أنه حجازي، ولم يذكرا فيه جرحًا. وذكر البخاري أنه يروي"عن ابن عمر". وذكر ابن أبي حاتم أنه يروي"عن عبد الله بن عمرو". وذكره ابن حبان في الثقات، ص: 371، وقال: "يروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو". روى عنه يعلى بن عطاء. واسم أبيه: "قمطة" بالقاف ثم الميم ثم الطاء المهملة. ولم أجد ما يدل على ضبط هذه الحروف. لكنه ثبت هكذا في الطبري وتفسير عبد الرزاق ومراجع الترجمة. ووقع في ابن كثير والمستدرك"قطة" بدون الميم. وهو خطأ، لمخالفته ما ذكرنا عن المراجع. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 269، من طريق مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، بهذا الإسناد، مطولا بنحو الرواية التي بعد هذه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 2248- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب، وتلا هذه الآية:"فلنولينك قِبلة ترضاها" قال، هذه القبلة، هي هذه القبلة. 2249- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم -بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه:"فلنولينك قبلة تَرضاها". (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ، وقبلةُ البيت الباب. * ذكر من قال ذلك:   (1) الحديثان: 2248، 2249- وهذان إسنادان آخران للحديث قبلهما. وأولهما من رواية عبد الرزاق، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء. وهشيم- بالتصغير: هو ابن بشير، بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة. وهو أبو معاوية بن أبي خازم، وهو حافظ ثقة ثبت. مترجم في التهذيب. والكبير 4/2/242، وابن سعد 7/2/61، 70. وابن أبي حاتم 4/2/115-116. وتذكرة الحفاظ 1: 229-230. والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: 13، بهذا الإسناد. وليس فيه كلمة"هي" المزادة هنا بعد قوله: "هذه القبلة". وأخشى أن تكون زيادتها غير جيدة ولا ثابتة. وذكر ابن كثير 1: 352، أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم"عن الحسن بن عرفة، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء". ووقع اسم"هشيم" فيه محرفًا، فيصحح من هذا الموضع. والحديث في الدر المنثور أيضًا 1: 147، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن المنذر، والطبراني في الكبير. وهو في مجمع الزوائد 6: 316، وقال: "رواه الطبراني من طريقين، ورجال إحداهما ثقات". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 2250- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: البيت كله قبلةٌ، وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه، كما أن على من ائتمِّ بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه، وإن كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة، وإنْ لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها، أو قَرُب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووَجهه، كما: 2251- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي، عن علي:"فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال، شطُره، قبله. (2) * * *   (1) الخبر: 2250- نقله السيوطي 1: 147، عن الطبري وحده، بلفظ: "البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب". (2) الحديث: 2251- أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني. عميرة -بفتح العين- بن زياد الكندي: تابعي ثقة، ترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 141، وقال: "روى عن عبد الله". أراد بذلك عبد الله بن مسعود. وترجمه البخاري في الكبير 4/1/69. وابن أبي حاتم 3/2/24. ولم يذكرا فيه جرحًا، ولا رواية عن غير ابن مسعود. وذكرا أن الراوي عنه أبو إسحاق. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 269، من طريق محمد بن كثير، عن سفيان -وهو الثوري- عن أبي إسحاق بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ج 2 ص 3، عن الحاكم. وذكره السيوطي 1: 147، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدينوري في المجالسة. وذكره ابن كثير 1: 268، نقلا عن الحاكم. ولفظه عندهم جميعًا: "قال: شطره قبله"، كما أثبتنا. ووقع في المطبوعة هنا: "قال: شطره فينا قبلة"!! وهو خطأ سخيف، من ناسخ أو طابع. ووقع في الإسناد في ابن كثير"محمد بن إسحاق" بدل"أبي إسحاق". وهو خطأ يخالف ما ثبت هنا، وما ثبت في سائر المراجع. ووقع فيه في ابن كثير والمستدرك ومختصره للذهبي -المطبوع والمخطوط-"عمير بن زياد". وهو خطأ أيضًا. وثبت على الصواب في رواية البيهقي عن الحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:- 2252- حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ، هذه القبلة. (1) 2253- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال، حدثني أسامة بن زيد قال: خرج النبي صلى   (1) الحديث: 2252- الفضل بن الصباح البغدادي: ثقة، وثقه ابن معين. وقال أبو القاسم البغوي: "كان من خيار عباد الله". مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/2/63. عبد الملك: هو ابن أبي سليمان العرزمي، مضى في: 1455. عطاء: هو ابن أبي رباح، التابعي الكبير، الإمام الحجة، القدوة العلم، مفتي أهل مكة ومحدثهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/1/330-331. وتذكرة الحفاظ 1: 92: 93، وتاريخ الإسلام 4: 278-280، وابن سعد 2/2/133-134، و 5: 344-346. أسامة بن زيد بن حارثة: هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه. وقد زعم أبو حاتم -فيما حكاه عنه ابنه في المراسيل: ص: 57- أن عطاء لم يسمع من أسامة. ولكن الرواية التالية لهذه، فيها تصريح عطاء بالسماع منه. ثم المعاصرة كافية في ثبوت الاتصال، كما هو الراجح عند أهل العلم بالحديث. وعطاء ولد سنة 27 ومات سنة 114. بل ذكر الذهبي أنه مات عن 90 سنة. وأسامة بن زيد مات سنة 54. بل أرخ مصعب الزبيري وفاته في آخر خلافة معاوية سنة 58 أو 59. وهذا الحديث رواه أحمد في المسند (5: 209) ، عن هشيم، بهذا الإسناد واللفظ. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه مطولا، بنحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 الله عليه وسلم من البيت، فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة، فقال: هذه القبلةُ مرتين. (1) 2254- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. (2) 2255- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج، فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة. (3) * * *   (1) الحديث: 2253- ابن حميد: هو محمد بن حميد بن حيان الرازي الحافظ. سبقت رواية الطبري عنه مرارًا كثيرة، ووثقناه في 2028. ونزيد هنا أنه وثقه ابن معين وغيره. وأنكروا عليه أحاديث، وأجاب عنه ابن معين بأن"هذه الأحاديث التي يحدث بها، ليس هو من قبله، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم". وقال الخليلي: "كان حافظًا عالمًا بهذا الشأن، رضيه أحمد ويحيى". وعرض عبد الله بن أحمد على أبيه ما كتبه عنه، فقال: أما حديثه عن ابن المبارك وجرير، فصحيح، وأما حديثه عن أهل الري، فهو أعلم". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/69-70، وابن أبي حاتم 3/2/232-233، والخطيب 2: 259-264، وتذكرة الحفاظ 2: 67-69. جرير: هو ابن عبد الحميد بن قرط الرازي، وهو ثقة حجة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/214، وابن سعد 7/2/110. وابن أبي حاتم 1/1/505-507، والخطيب 7: 253-261، وتذكرة الحفاظ 1: 250. فهذا إسناد صحيح، صرح فيه عطاء بالسماع من أسامة بن زيد، كما أشرفا في الإسناد السابق. والحديث رواه أحمد في المسند (5: 210 ح) ، ضمن قصة، عن يحيى -وهو القطان- عن عبد الملك"حدثنا عطاء، عن أسامة بن زيد". (2) الحديث: 2254- عبد الرحيم بن سليمان: هو المروزي الأشل، مضت ترجمته: 2030. والحديث تكرار لسابقه، لكن لم يصرح في هذا الإسناد بسماع عطاء من أسامة. (3) الحديث 2255- سعيد بن يحيى بن سعيد، الأموي: ثقة ثبت، بل قال علي بن المديني: "جماعة من الأولاد أثبت عندنا من آبائهم. . . وهذا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: أثبت من أبيه". وهو من شيوخ البخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم، مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/477، وابن أبي حاتم 2/1/74، والخطيب 9: 90-91. أبوه، يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص: حافظ ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/277، وابن سعد 6: 277-278، و 7/2/80-81. وابن أبي حاتم 4/2/151-152، والخطيب 14: 132-135، وتذكرة الحفاظ 1: 298. والحديث رواه أحمد في المسند (5: 208ح) ، عن عبد الرزاق، وروح - كلاهما عن ابن جريج، بهذا الإسناد نحوه. رواه قبل ذلك (ص: 201 ح) عن عبد الرزاق وحده، مختصرًا، طوى القصة فلم يذكرها. وليس في هذا الحديث ما ينفي أن يكون عطاء سمع الحديث من أسامة بن زيد، لأنه -هنا- إنما يجيب السائل عن قوا ابن عباس، وينفي أن يكون ابن عباس ينهى عن دخول البيت. فهو يذكر رواية ابن عباس عن أسامة، من أجل هذا. ولا يمنع هذا أن يكون الحديث عند عطاء عن أسامة مباشرة. والحديث رواه أيضًا مسلم 1: 376-377، من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج، بهذا الإسناد، نحو هذه القصة، أطول منها قليلا. ورواه البخاري 1: 420- 421 (فتح الباري) ، من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، مختصرًا. لم يذكر القصة، ولم يذكر أنه عن أسامة، جعله من حديث ابن عباس. وذكر الحافظ أنه رواه الإسماعيلي وأبو نعيم، في مستخرجيهما، من طريق إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق، بإسناد هذا: "فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد". قال الحافظ: "وهو الأرجح". والخلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة أو لم يصل - مذكور في الدواوين. والراجح صلاته فيها. المثبت مقدم على النافي. وانظر نصب الراية 2: 319-322. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه. و"الهاء" التي في"شطرَه"، عائدة إلى المسجد الحرام. فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو المسجد الحرام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى. وأدخلت"الفاء" في قوله:"فولوا"، جوابًا للجزاء. وذلك أن قوله:"حيثما كنتم" جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني بقوله جل ثناؤه:"وإنّ الذين أوتُوا الكتاب" أحبارَ اليهود وعلماء النصارى. * * * وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً. * ذكر من قال ذلك: 2256- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن الذين أوتوا الكتاب"، أنزل ذلك في اليهود. * * * وقوله:"ليعلمون أنه الحق من ربهم"، يعني هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده. * * * ويعني بقوله:"من رَبِّهم" أنه الفرضُ الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه، (1) ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئتَ، يا محمد، اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة - وهي"الآية"- (2) بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا -مع قيام الحجة عليهم بذلك- قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام. * * * قال أبو جعفر: وأجيبت"لئن" بالماضي من الفعل، وحكمها الجوابُ بالمستقبل تشبيهًا لها ب"لو"، فأجيبت بما تجاب به"لو"، لتقارب معنييهما.   (1) انظر تفسير"غافل" فيما سلف 2: 243-244، 315، وهذا الجزء 3: 127. (2) انظر تفسيره"آية" فيما سلف 1: 106/2: 553. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وقد مضى البيان عن نَظير ذلك فيما مضى. (1) وأجيبت"لو" بجواب الأيمان. ولا تفعل العربُ ذلك إلا في الجزاء خاصة، لأن الجزاء مُشابه اليمين: في أن كل واحد منهما لا يتم أوّله إلا بآخره، ولا يتمُّ وحده، ولا يصحّ إلا بما يؤكِّد به بعدَه. فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء، صَارَت"اللام" الأولى بمنزلة يَمين، والثانية بمنزلة جواب لها، كما قيل:"لعمرك لتقومَنَّ" إذ كثرت"اللام" من"لعمرك"، حتى صارت كحرف من حروفه، فأجيب بما يجاب به الأيمان، إذ كانت"اللام" تنوب في الأيمان عن الأيمان، دون سائر الحروف، غير التي هي أحقُّ به الأيمان. فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان. (2) فشبهت"اللام" التي في جواب الأيمان بالأيمان، لما وصفنا، فأجيبت بأجوبَتها. * * * فكانَ مَعنى الكلام -إذ كان الأمر على ما وصفنا-: لو أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك. * * * وأما قوله:"وما أنتَ بتابع قِبلتهم"، يقول: وما لك من سبيل يا محمد إلى اتّباع قبلتهم. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرقَ، فأنَّى يكون لك السبيل إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي أمِرت بالتوجه إليها، ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها. * * * وأما قوله:"وما بعضهم بتابع قبلة بعض"، فإنه يعني بقوله: وما اليهود بتابعةٍ   (1) انظر ما سلف 2: 458، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 84. (2) قوله: "أجوبة الأيمان لنا على الأيمان" هذه عبارة غامضة، لم أظفر لها بوجه أرتضيه، وأنا لا أشك في تحريفها أو نقصها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 قبلةَ النصارى، ولا النصارى بتابعةٍ قبلة اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها، كما:- 2257- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما بعضهم بتاع قبلة بعض"، يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال: وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو صاحبَنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم:"وإنّ الذين أوتوا الكتابَ ليعلمون أنه الحق من ربهم" إلى قوله:"ليكتمون الحق وهم يعلمون". (1) 2258- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما بعضهم بتابع قبلةَ بعض"، مثل ذلك. * * * وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة، مع إقامة كل حزب منهم على مِلَّتهم. فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تُشعر نفسك رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه. لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لكَ إلى إرضاء كل حزب منهم. من أجل أنك إن اتبعت قبلةَ اليهود أسخطتَ النصارى، وإن اتّبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعُهم إلى ما لهم السبيل إليه، من الاجتماع على مِلَّتك الحنيفيّة المسلمة، وقبلتِك قبلةِ إبراهيم والأنبياء من بعده. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولئن اتبعت أهواءهم"، ولئن التمست يا محمد رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هُودًا أو نصارى تهتدوا"، فاتبعتَ قبلتهم - يعني: فرَجعت إلى قبلتهم.   (1) الأثر: 2257- انظر ما مضى رقم: 2204. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 ويعني بقوله:"من بَعد مَا جَاءك من العلم"، من بعد ما وصَل إليك من العلم، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل، وعلى عنادٍ منهم للحق، ومعرفةٍ منهم أنّ القبلة التي وجهتُك إليها هي القبلةُ التي فرضتُ على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجُّهَ نحوها،"إنك إذًا لمن الظالمين"، يعني: إنك إذا فعلت ذلك، من عبادي الظَّلمةِ أنفسَهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، وأحدُهم وفي عِدادِهم. (1) * * *   (1) السياق: من عبادي الظلمة. . . وأحدهم، وفي عدادهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه"، أحبارَ اليهود وعلماء النصارى: يقول: يعرف هؤلاء الأحبارُ من اليهود، والعلماءُ من النصارى: أن البيتَ الحرام قبلتُهم وقبلة إبراهيم وقبلةُ الأنبياء قبلك، كما يعرفون أبناءَهم، كما:- 2259- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يَعرفونه كما يَعرفون أبناءهم"، يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلةُ. 2260- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قول الله عز وجل:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونهُ كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني: القبلةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 2261- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، عرفوا أن قِبلة البيت الحرام هي قبلتُهم التي أمِروا بها، كما عرفوا أبناءهم. 2262- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني بذلك: الكعبةَ البيتَ الحرام. 2263- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء، كما يعرفون أبناءهم. (1) 2264- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال، اليهود يعرفون أنها هي القبلة، مكة. 2265- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال، القبلةُ والبيتُ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وإنّ طائفةً من الذين أوتوا الكتاب -وهُمُ اليهود والنصارى. وكان مجاهد يقول: هم أهل الكتاب. 2266- حدثني محمد بن عمرو -يعني الباهلي- قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بذلك.   (1) في المطبوعة: "يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 2267- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله. 2268- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح مثله. * * * قال أبو جعفر: وقوله:"ليكتمون الحق"، - وذلك الحق هو القبلة =التي وجَّه الله عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم. يقول: فَولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام= التي كانت الأنبياء من قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتوجَّهون إليها. فكتمتها اليهودُ والنصارى، فتوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم نحو بيتَ المقدس، ورفضُوا ما أمرهم الله به، وكتموا مَعَ ذلك أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونَه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. فأطلع الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه على خيانتهم اللهَ تبارك وتعالى، وخيانتهم عبادَه، وكتمانِهم ذلك، وأخبر أنهم يفعلون ما يَفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيرُه، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافُه، فقال:"ليكتمونَ الحق وهم يعلمون"، أنْ لَيس لَهم كتمانه، فيتعمَّدون معصية الله تبارك وتعالى، كما:- (1) 2269- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله:"وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهُمْ يعلمون"، فكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم. 2270- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليكتمون الحق وَهمْ يعلمون" قال، يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.   (1) من أول قوله: "كما حدثنا بشر بن معاذ"، إلى حيث نذكر في ص 207 تعليق: 2 موجود في ست عشرة صفحة بقيت من القسم المفقود من النسخة العتيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 2271- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون"، يعني القبلةَ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره (1) اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده، لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى. وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: (2) عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل. يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين. * * * يعني بقوله:"فلا تكونن من الممترين"، أي: فلا تكونن من الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما: 2272- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام:"الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين"، يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك. (3)   (1) في المطبوعة: "يقول الله جل ثناؤه"، وأثبت نص المخطوطة. (2) في المطبوعة"وهذا من الله تعالى ذكره خبر"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فلا تكن في شك أنها"، بإسقاط الفاء من"فإنها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 2273- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فلا تكونن من الممترين" قال، من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك. * * * قال أبو جعفر: وإنما"الممتري" (1) "مفتعل"، من"المرْية"، و"المِرْية" هي الشك، ومنه قول الأعشى: تَدِرُّ عَلَى أَسْوُقِ المُمْتَرِينَ ... رَكْضًا، إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنّ (2) * * * ءقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه، أو في أن القبلة التي وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في ذلك، فقيل له:"فلا تكونن من الممترين"؟ قيل: ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره، كما قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) [سورة الأحزاب: 1] ، ثم قال: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ   (1) في المطبوعة: "والممتري"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) ديوانه: 20 واللسان (رجحن) من قصيدة سلف بيت منها في 1: 345، 346، يصف خيلا مغاوير لقيس بن معديكرب الكندي، أغارت على قوم مسرعة حثيثة، فبينا القوم يتمارون فيها إذا بها: - تُبَارِي الزِّجَاجَ مَغَاوِيرُهَا ... شَمَاطِيط في رَهَجٍ كالدَّخَنْ تَدِرُّ عَلَى أسوُق. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . در الفرس يدر دريرًا ودرة: عدا عدوًا شديدًا. لا يثنيه شيء. والأسوق جمع ساق، ويجمع أيضًا على سوق وسيقان. يقول: بيناهم يتمارون إذ غشيتهم الخيل فصرعتهم، فوطئتهم وطئًا شديدًا، ومرت على سيقانهم عدوًا. وارجحن السراب: ارتفع واتسع واهتز، وذلك في وقت ارتفاع الشمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [سورة الأحزاب: 2] . فخرج الكلام مخرج الأمرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والنهيِ له، والمراد به أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما أغنَى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولكلّ"، ولكل أهل ملة، (2) فحذف"أهل الملة" واكتفى بدلالة الكلام عليه، كما:- 2274- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولكلِّ وِجْهة" قال، لكل صاحب ملة. 2275- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ولكلٍّ وجهة هو موليها"، فلليهوديّ وجهة هو موليها، وللنصارى وجهة هو موليها، وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمَّة للقِبلة التي هي قبلة. (3) 2276- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قلت لعطاء قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لكل أهل دين، اليهودَ والنصارَى. قال ابن جريج، قال مجاهد: لكل صاحب مِلة. 2277- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لليهود قبلة، وللنصارى قبلة، ولكم قبلة. يريد المسلمين. 2278- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،   (1) انظر ما سلف 2: 484- 488. (2) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . تعالى ذكره ولكل أهل ملة"، والصواب ما أثبت. (3) في المطبوعة: " فلليهود وجهة هو موليها"، و"وللنصارى قبلة هو موليها"، والصواب من المخطوطة. وفيها أيضًا: "التي هي قبلته" وأثبت ما في المخطوطة، وهو جبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها"، يعني بذلك أهلَ الأديان: يقول: لكلٍّ قبلةٌ يرضَونها، ووجهُ الله تبارك وتعالى اسمه حيثُ تَوَجَّه المؤمنون. وذلك أن الله تعالى ذكره قال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 115] 2279- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكلٍّ وجْهة هو موليها"، يقول: لكل قوم قبلة قد ولَّوْها. * * * فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية: ولكل أهل ملة قبلةٌ هو مستقبلها، ومولٍّ وجهه إليها. * * * وقال آخرون بما:- 2280- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولكل وجهة هو موليها" قال، هي صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة. * * * وتأويل قائل هذه المقالة: ولكلّ ناحية وجَّهك إليها ربّك يا محمد قبلة، اللهُ عز وجل مُولِّيها عبادَه. * * * وأما"الوِجهة"، فإنها مصدر مثل"القِعدة" و"المِشية"، من"التوجّه". وتأويلها: مُتوَجِّهٌ، يتوجَّه إليه بوَجهه في صلاته، (1) كما:- 2281- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجهة" قبلةٌ.   (1) في المطبوعة: "يتوجه إليها"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر معاني القرآن للفراء: 90"وجهة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 2282- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2283- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ولكل وجهة" قال، وَجْه. 2284- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وِجْهه"، قِبلة. 2285- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، قلت لمنصور:"ولكل وجْهة هو مولِّيها" قال، نحن نقرؤها، ولكلٍّ جَعلنا قِبلة يرضَوْنها. (1) * * * وأما قوله:"هو مُولِّيها"، فإنه يعني هو مولٍّ وجهه إليها ومستقبلها، (2) كما:- 2286- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هو موليها" قال، هو مستقبلها. 2287- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * ومعنى"التوْلية" هاهنا الإقبال، كما يقول القائل لغيره:"انصرِف إليّ" بمعنى: أقبل إليّ."والانصراف" المستعمل، إنما هو الانصراف عن الشيء، ثم يقال:"انصرفَ إلى الشيء"، بمعنى: أقبل إليه منصرفًا عن غيره. وكذلك يقال:"ولَّيت عنه"، إذا أدبرت عنه. ثم يقال:"ولَّيت إليه"، بمعنى أقبلت إليه مولِّيًا عن غيره. (3) * * *   (1) قوله: "نقرؤها"، لا يعني أنها قراءة في قراآت القرآن، وإنما يعني دراستها والتفقه في معانيها. (2) في المطبوعة: "مستقبلها" بحذف الواو، وهي جيدة. (3) انظر معنى"التولية" فيما سلف 2: 535، وهذا الجزء 3: 175 وانظر أيضًا 2: 162، ثم هذا الجزء 3: 115، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 85. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 والفعل -أعني"التولية"- في قوله:"هو موليها" لل"كل". و"هو" التي مع"موليها"، هو"الكل"، وحُدَّت للفظ"الكل". * * * فمعنى الكلام إذًا: ولكل أهل مِلة وجهة، الكلُّ. منهم مولُّوها وجُوهَهم. (1) * * * وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها:"هو مُولاها"، بمعنى أنه مُوجَّهٌ نحوها. ويكون"الكل" حينئذ غير مسمًّى فاعله، (2) ولو سُمي فاعله، لكان الكلام: ولكلّ ذي ملة وجهةٌ، اللهُ مولِّيه إياها، بمعنى: موجِّهه إليها. * * * وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك:"ولكُلٍّ وِجهةٍ" بترك التنوين والإضافة. وذلك لحنٌ، ولا تجوز القراءةُ به. لأن ذلك -إذا قرئ كذلك- كان الخبرُ غير تامٍّ، وكان كلامًا لا معنى لَه. وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه. * * * والصواب عندنا من القراءة في ذلك:"ولكلٍّ وِجهةٌ هُوَ مُولِّيها"، بمعنى: ولكلٍّ وجهةٌ وقبلةٌ، ذلك الكُلّ مُولّ وجهه نحوها. لإجماع الحجة من القرّاء على قراءة ذلك كذلك، وتصويبها إياها، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره. وما جاءَ به النقلُ مستفيضًا فحُجة، وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، (3) فغيرُ جائز الاعتراضُ به على الحجة. * * *   (1) في المطبوعة: "لكل منهم مولوها"، وهو كلام مختل، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ويكون الكلام حينئذ"، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "السهو والخطأ"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فاستبقوا"، فبادروا وسَارعوا، من"الاستباق"، وهو المبادرة والإسراع، كما:- 2288- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: فسارعوا في الخيرات. (1) * * * وإنما يعني بقوله:"فاستبقوا الخيرات"، أي: قد بيّنت لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم، فبادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم، وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، (2) فإني قد بيّنت لكم سبُل النجاة، (3) فلا عذر لكم في التفريط، وحافظوا على قبلتكم، فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، (4) فتضلُّوا كما ضلت؛ كالذي:- 2289- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: لا تُغلَبُنَّ على قبلتكم. 2290- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فاستبقوا الخيرات" قال، الأعمال الصالحة. * * *   (1) في المطبوعة: "يعني: فسارعوا"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "لأخراكم"، وهما سواء في المعنى. (3) في المطبوعة: "سبيل النجاة"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "ولا تضيعوها كما ضيعها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهي أجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 القول في تأويل قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) } قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا"، في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه، (1) يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة، إن الله على كل شيء قدير، كما:- 2291- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أينما تكونوا يَأت بكمُ الله جميعًا"، يقول: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة. 2291م- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أينما تكونوا يَأت بكم الله جميعًا"، يعني: يومَ القيامة. * * * قال أبو جعفر: وإنما حضَّ الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزوُّد في الدنيا للآخرة، فقال جل ثناؤه لهم: استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالفَ قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعًا يوم القيامة، من حيث كنتُم من بقاع الأرض، حتى يوفِّيَ المحسنَ منكم جزاءه بإحسانه، (2) والمسيء عقابه بإساءته، أو يتفضّل فيصفح. * * * وأما قوله:"إنّ الله على كل شيء قدير"، فإنه تعالى ذكره يعني: إنّ الله تعالى على جَمْعكم -بعد مماتكم- من قبوركم إليه، من حيث كنتم وكانت قبوركم كمن وعلى غير ذلك مما يشاء، قديرٌ. (3) فبادروا خروجَ أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليومَ بعثكم وَحشركم. * * *   (1) انظر القول في تفسير"أينما" في معاني القرآن للفراء 1: 85-89. (2) في المخطوطة: "حتى يؤتي المحسن منكم جزاءه"، ولا بأس بها. (3) في المطبوعة: "من قبوركم من حيث كنتم وعلى غير ذلك"، أسقط منها الناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن حيث خرجت"، ومن أيّ موضع خرَجْت إلى أي موضع وجَّهتَ، فولِّ يا محمد وَجهك - يقول: حوِّل وَجْهك. وقد دللنا على أن"التولية" في هذا الموضع شطر المسجد الحرام، إنما هي: الإقبالُ بالوجه نحوه. وقد بينا معنى"الشطر" فيما مضى. (1) * * * وأما قوله:"وإنه للحق من ربك"، فإنه يعني تعالى ذكره: وإنّ التوجه شَطرَه للحق الذي لا شكّ فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله. * * * وأما قوله:"ومَا الله بغافل عَما تَعملون"، فإنه يقول: فإن الله تعالى ذكره لَيس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة. (2) * * *   (1) انظر ما سلف في"التولية" في هذا الجزء 3: 194 تعليق: 3، وما سلف في تفسير: "شطر" في هذا الجزء 3: 175. (2) انظر معنى"غافل" فيما سلف من هذا الجزء 3: 174 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ومن حَيثُ خرجت فول وَجهك شطر المسجد الحرام": من أيّ مكان وبُقعة شَخصتَ فخرجت يا محمد، فولِّ وجهك تلقاء المسجد الحرام، وهو شَطره. ويعني بقوله:"وحيث ما كنتم فولُّوا وُجوهكم"، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم تُجاهه وقِبَله وقَصْدَه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} قال أبو جعفر: فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى ب"الناس" في قوله:"لئلا يكون للناس"، أهلَ الكتاب. * ذكر من قال ذلك: 2292- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهلَ الكتاب. قالوا -حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه! 2293- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) في المخطوطة: "فولوا في صلاتكم"، أسقط"وجوهكم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لئلا يكونَ للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهلَ الكتاب، قالوا -حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه! * * * فإن قال قائل: فأيّةُ حُجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحوَ بيت المقدس، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك. قيل: إنهم كانوا يقولون: ما درَى مُحمد وأصحابهُ أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم: يُخالفنا مُحمد في ديننا ويتبع قبلتنا! (1) فهي الحجة التي كانوا يحتجُّون بها عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم، والتمويه منهم بها على الجهالّ وأهل الغباء من المشركين. (2) وقد بينا فيما مضى أن معنى حِجاج القوم إيَّاه، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه، إنّما هي الخصومات والجدال. فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وَحسمه، بتحويل قبلة نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام. وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه:"لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني ب"الناس"، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت. * * * وأما قوله:"إلا الذين ظَلموا منهم"، فإنهم مُشركو العرب من قريش، فيما تأوَّله أهلُ التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2294- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا الذين ظَلموا منهم"، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم.   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء رقم: 2234، 2235. (2) في المطبوعة: "وأهل العناد من المشركين"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 2295- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هم المشركون من أهل مكة. 2296- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إلا الذين ظلموا منهم"، يعني مشركي قريش. 2297- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا الذين ظلموا منهم" قال، هم مشركو العرب. 2298- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركو قريش. 2299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء: هم مشركو قريش - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقولُ مثل قول عطاء. * * * فإن قال قائل: وأيّةُ حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين -فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه- حُجة؟ (1) قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمتَ وذهبتَ إليه. وإنما"الحجة" في هذا الموضع، الخصومة والجدال. (2) ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خُصُومةٌ ودعوى باطلٌ غيرَ مشركي قريش، فإن لهم عليكم دعوى بَاطلا وخصومةً بغير حق، (3) بقيلهم لكم:"رَجَع محمدٌ إلى قبلتنا، وسيرجع إلى   (1) في المطبوعة: ". . . على المؤمنين حجة فيما أمرهم الله تعالى ذكره به، أو نهاهم عنه"، قدم"حجة" وزاد الثناء على الله. (2) انظر ما سلف في تفسير: "أتحاجوننا"، في هذا الجزء 3: 121. (3) في المطبوعة: "دعوى باطلة" في الموضعين، ولا بأس بها. يقال: "دعوى باطل وباطلة" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 ديننا". فذلك من قولهم وأمانيّهم الباطلة، هي"الحجة" التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره"الذين ظلموا" من قريش من سائر الناس غيرهم، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجّههم إليها حُجة. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2300- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"لئلا يكون للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: يقول: حُجتهم، قولهم: قد راجعتَ قبلتنا! 2301- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: قولهم: قد رَجَعت إلى قبلتنا! 2302- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، قالا هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل:"فلا تَخشوْهم واخشوْني". 2303- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركُو قريش. يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك، فكانت حجتهم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم =انصرافَهُ إلى البيت الحرام= (1) أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله   (1) في المطبوعة والدر المنثور 1: 148"بانصرافه" وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير 1: 358، وقوله: "انصرافه" منصوب على الظرفية أي عند انصرافه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 تعالى ذكره في ذلك كله. (1) 2304- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 2305- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما يذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما صُرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نحوَ الكعبة، بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال المشركون من أهل مكة: تحيّر على محمد دينه! فتوجّه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويُوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"لئلا يَكونَ للناس عليكم حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني". (2) 2306- حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"لئلا يَكون للناس عَليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم" قال، قالت قريش - لما رَجَع إلى الكعبة وأمِر بها:- ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حُجتهم، وهم"الذين ظلموا" - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول مثل قول عطاء، فقال مجاهد: حُجتهم، قولهم: رجعت إلى قبلتنا! * * *   (1) الأثر: 2303- في تفسير ابن كثير 1: 358، والدر المنثور 1: 148. والذي في المخطوطة والمطبوعة سواء"فأنزل الله في ذلك كله". أما في الدر المنثور: "فأنزل الله في ذلك كله: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". والذي في الطبري يكاد لا يستقيم، والذي في الدر المنثور لا يستقيم، وكأن صواب العبارة: "فأنزل الله في ذلك، ذلك كله إلى قوله: "يا أيها الذين آمنوا. . . ". (2) الأثر: 2305- انظر الأثر السالف: 2204. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 فقد أبان تأويلُ من ذكرنا تأويلَه من أهل التأويل قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، عن صحّة ما قلنا في تأويله، وأنه استثناءٌ على مَعنى الاستثناء المعروف، الذي ثبتَ فيهم لما بعدَ حرف الاستثناء ما كان منفيًّا عما قبله. (1) كما قولُ القائل (2) "ما سَارَ من الناس أحدٌ إلا أخوك"، إثباتٌ للأخ من السير ما هو مَنفيٌّ عن كل أحد من الناس. فكذلك قوله:"لئلا يكونَ للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"، نَفى عن أن يكون لأحد خُصومةٌ وجدلٌ قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطلٍ عليه وعَلى أصحابه، بسبب توجُّههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش، فإن لهم قبلهم خصومةً ودعوى باطلا بأن يقولوا: (3) إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل. وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل، فبيِّنٌ خطأُ قول من زعم أن معنى قوله:"إلا الذين ظلموا منهم": ولا الذين ظلموا منهم، وأن"إلا" بمعنى"الواو". (4) لأن ذلك لو كان معناه، لكان النفيُ الأول عن جميع الناس - أنْ يكون لهم حُجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحوُّلهم نحو الكعبة بوجوههم - مبيِّنًا عن المعنى المراد، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يُضافَ إليه أو يوصف به. (5) هذا مع خروج معنى الكلام =إذا وجّهت"وإلا" إلى معنى"الواو"، ومعنى   (1) في المطبوعة: "الذي يثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيًا عما قبلهم"، وهو خطأ صرف، والصواب ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "كما أن قول القائل"، زادوا"أن" لتكون دارجة على نهجهم، والصواب ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "ودعوى باطلة" في الموضعين. وانظر ما سلف: 201 تعليق: 3. (4) زاعم هذا القول هو أبو عبيدة في مجاز القرآن: 60-61، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 89-90. (5) رد الطبري على أبي عبيدة أمثل من رد الفراء وأقوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 العطف= من كلام العرب. وذلك أنه غيرُ موجودة"إلا" في شيء من كلامها بمعنى"الواو"، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها. كقول القائل:"سار القوم إلا عمرًا إلا أخاك"، بمعنى: إلا عمرًا وأخاك، فتكون"إلا" حينئذ مؤدّية عما تؤدي عنه"الواو"، لتعلق"إلا" الثانية ب"إلا" الأولى. (1) ويجمع فيها أيضًا بين"إلا" و"الواو" فيقال:"سار القوم إلا عمرًا وإلا أخاك"، فتحذف إحداهما، فتنوب الأخرى عنها، فيقال: (2) "سار القوم إلا عمرًا وأخاك - أو إلا عمرًا إلا أخاك"، لما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لمدَّعٍ من الناس أن يدَّعي أنّ"إلا" في هذا الموضع بمعنى"الواو" التي تأتي بمعنى العطف. * * * وواضحٌ فسادُ قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم لا حجة لهم، فلا تخشوْهم. كقول القائل في الكلام: (3) "الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [لك] المعتدي عليك"، فإن ذلك لا يعتدّ بعُداوَنه ولا بتركه الحمد، (4) لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له، وقد سُمي ظالمًا = (5) لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادَّعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهدًا على خطأ مقالته إجماعُهم على تخطئتها. * * * وظاهر بُطُول قول من زَعَم: (6) أنّ"الذين ظلموا" هاهنا، ناسٌ من العرب   (1) في المخطوطة: "إلى الأول"، وكأنه غير صواب. (2) في المخطوطة: "ويجمع أيضًا فيها إلا والواو فيها فيقول: " ولم أستبن ما يقول، والذي في المطبوعة سياق صحيح. (3) في المطبوعة: "في كلامه"، والصواب من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء، فهو نص كلامه. (4) في المطبوعة، وفي معاني القرآن للفراء: "بعداوته"، والصواب ما في المخطوطة. (5) السياق: "وواضح فساد قول من زعم. . . لإجماع جميع أهل التأويل". (6) في المطبوعة: "بطلان" صحيحة المعنى، وفي المخطوطة: "دخول" تصحيف وتحريف لما أثبت. والبطول والبطلان مصدران من الباطل. وهما سواء في المعنى، وقد سلف أن استعملها الطبري مرارًا. انظر ما سلف 2: 426، تعليق: 1 / 439 س: 11/479 س: 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 كانوا يَهودًا ونصارَى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائرُ العرب، فلم تكن لهم حجة، وكانت حُجة من يحتجُّ منكسرة. لأنك تقول لمن تريد أن تَكسِر عليه حجته:"إنّ لك عليّ حجة ولكنها منكسرة، وإنك لتحتج بلا حجة، وحجتك ضعيفة". ووَجَّه معنى:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلى معنى: إلا الذينَ ظلموا منهم، منْ أهل الكتاب، فإنّ لَهُم عليكم حُجة وَاهية أو حجة ضعيفة. * * * ووَهْيُ قَولِ من قال:"إلا" في هذا الموضع بمعنى"لكن". وضَعْفُ قولِ من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم. (1) لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأنّ ذلك من الله عز وجل خَبرٌ عن الذين ظلموا منهم: أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا، ولم يقصِد في ذلك إلى الخبر عن صفة حُجتهم بالضعف ولا بالقوة -وإن كانت ضعيفةً لأنها باطلة- وإنما قصد فيه الإثباتَ للذين ظلموا، ما قد نَفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة. 2307- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال الربيع: إنّ يهوديًّا خاصم أبا العالية فقال: إن مُوسَى عليه السلام كان يصلِّي إلى صخرة بيت المقدس. فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال: قال: فبيني وبينك مسجدُ صالح، فإنه نحته من الجبل. قال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقِبلتُه إلى البيت الحرام. قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مرّ على مسجد ذي القرنين، وقِبلتُه إلى الكعبة. * * * وأما قوله:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يعني: فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لَكم أمرهم من الظَّلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون (2) في أنّ محمدًا صلى   (1) قوله"ووهي قول. . . "، و"وضعف قول. . . " معطوف على قوله آنفًا: "وظاهر بطول قول من زعم. . . ". (2) في المطبوعة: "من الظلم في حجتهم"، والصواب من المخطوطة. ثم فيها: "وقولهم ما يقولون من أن محمدًا"، وصوابه من المخطوطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يَقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدِّكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق، ولكن اخشوني، فخافوا عقابي، في خلافكم أمري إن خالفتموه. وذلك من الله جل ثناؤه تقدُّمٌ إلى عباده المؤمنين، (1) بالحضّ على لزوم قبلتهم والصلاة إليها، وبالنهي عن التوجُّه إلى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوْني أيها المؤمنون، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شَطرَ المسجد الحرام. وقد حكي عن السدي في ذلك ما:- 2308- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يقول: لا تخشوا أن أردَّكم في دينهم (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولأتمَّ نعمتي عليكم"، ومن حيث خرجتَ من البلاد والأرض، وإلى أيّ بقعة شخصت (3) فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثُ كنت، يا محمد والمؤمنون، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم شَطرَه،   (1) تقدم إليه بكذا: أمره به. (2) إلى هنا انتهى ما عثرنا عليه من الأوراق التي ذكرناها في ص: 189 تعليق: 1، وفي آخره ما نصه: "تَمَّ المجلد الثاني بعون الله تعالى، والصلاة على نبيّه محمد وآله وصحبه وسلم. يتلوهُ في الثالث إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله تعالى: (ولأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون) إن شاء الله تعالى، وهو بقية الجزء السادس والعشرون؟؟ " (3) في المطبوعة: "إلى أي بقعة"، بحذف الواو، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 واتخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس -سوى مشركي قريش- حجةٌ، ولأتمّ بذلك =من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إمامًا للناس= نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيتُ بها نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمُّها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه. * * * وقوله:"ولعلكم تهتدون"، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. (1) و"لعلكم" عطف على قوله:"ولأتم نعمتي عليكم"،"ولأتم نعمتي عليكم" عطف على قوله:"لئلا يكون". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كما أرسلنا فيكم رسولا"، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية، وأهديَكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام، فأجعل لكم دَعوتَه التي دعاني بها ومسألتَه التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة: 128] ، كما جعلت لكُم دعوته التي دعاني بها، ومسألته التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو   (1) انظر ما سلف في معنى"لعل" بمعنى"كي" 1: 364 / ثم 2: 69، 72، 161. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة البقرة: 129] ، فابتعثت منكم رَسولي الذي سألني إبراهيمُ خليلي وابنُهُ إسماعيل، أنْ أبعثه من ذرّيتهما. ف"كما" -إذ كان ذلك معنى الكلام- صلةٌ لقول الله عز وجل:"ولأتم نعمتي عليكم". ولا يكون قوله:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، متعلقًا بقوله:"فاذكروني أذكركم". * * * وقد قال قوم: إنّ معنى ذلك: فاذكرُوني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، (1) فأغرقوا النزع، (2) وبعدوا من الإصابة، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف، وسِوَى وجهه المفهوم. وذلك أنّ الجاريَ من الكلام على ألسن العرب، المفهومَ في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض:"كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن" - أن لا يَشترطوا للآخر، لأن"الكاف" في"كما" شرطٌ معناه: افعل كما فعلت. ففي مجيء جواب:"اذكروني" بعده، وهو قوله:"أذكركم"، أوضحُ دليل على أن قوله:"كما أرسلنا" من صلة الفعل الذي قبله، وأن قوله:"اذكروني أذكركم" خبرٌ مبتدأ منقطعٌ عن الأول، وأنه =من سبب قوله:"كما أرْسلنا فيكم"= بمعزل. * * * وقد زعم بعض النحويين أن قوله:"فاذكروني" -إذا جُعل قوله:"كما أرسلنا فيكم" جوابًا له، مع قوله:"أذكركم"- نظيرُ الجزاء الذي يجاب بجوابين، كقول القائل: إذا أتاك فلانٌ فأته تَرْضَه"، فيصير قوله:"فأته" و"ترضه" جوابين لقوله:"إذا أتاك"، وكقوله:"إن تأتني أحسِن إليك أكرمك". (3)   (1) هو الفراء، انظر معاني القرآن 1: 92. (2) أغرق النازع في القوس: إذا شدها، وجاوز الحد في مد القوس، وبلغ النصل كبد القوس، فربما قطع يد الرامي. ونزع الرامي في قوسه نزعًا: جذب السهم بالوتر. وقولهم: "أغرق في النزع"، مثل في الغلو والإفراظ. (3) هو من قول الفراء أيضًا، انظر معاني القرآن 1: 92. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهب، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجِّه إليه من اللغات، الأفصح الأعرفُ من كلام العرب، دون الأنكر الأجهل من منطقها. هذا، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل. * * * ذكر من قَال: إنّ قوله:"كما أرسلنا"، جوابُ قوله:"فاذكروني". 2309- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، كما فعلتُ فاذكروني. 2310- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * قوله:"كما أرسلنا فيكم رَسولا منكم"، فإنه يعني بذلك العرب، قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العربُ طاعتي، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجُّه إليها، لتنقطع حُجة اليهود عنكم، فلا تكون لهم عليكم حجَة، ولأتم نعمتي عليكم، وتهتدوا، كما ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت فيكم رسولا منكم. وذلك الرسول الذي أرسلَه إليهم منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، كما:- 2311- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كما أرْسلنا فيكم رسولا منكم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم. * * * وأمّا قوله:"يتلو عليكم آياتنا"، فإنه يعني آيات القرآن، وبقوله:"ويزكيكم" ويطهّركم من دَنَس الذنوب، و"يعلمكم الكتاب" وهو الفرقان، يعني: أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 يعلمهم أحكامه. ويعني: ب"الحكمة" السننَ والفقهَ في الدين. وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده. (1) * * * وأمّا قوله:"ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون"، فإنه يعني: ويعلمكم من أخبار الأنبياء، وقَصَص الأمم الخالية، والخبر عما هو حادثٌ وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها، فعلِموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أنّ ذلك كله إنما يدركونه برَسوله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكرْكم برحمتي إياكم ومغفرَتي لكم، كما:- 2312- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير:"فاذكروني أذكركم" قال، اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي. * * * وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح. * ذكر من قال ذلك: 1313- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون"، إن الله ذاكرُ من ذكره، وزَائدُ من شكره، ومعذِّبُ من كفَره.   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 86-88 والمراجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 2314- حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"اذكروني أذكركم" قال، ليس من عبد يَذكر الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي،"ولا تكفرون"، يقول: ولا تجحدوا إحساني إليكم، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رَضيت عنه من عبادي، فإنّي وعدت خلقي أنّ من شكر لي زدته، ومن كفرني حَرمته وسلبته ما أعطيتُه. * * * والعرب تقول:"نَصحتُ لك وشكرتُ لك"، ولا تكاد تقول:"نصحتك"، وربما قالت:"شكرتك ونصحتك"، من ذلك قول الشاعر: (1) هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ ... فَهَلا شَكَرْتَ القَوْمَ إذْ لَمْ تُقَاتِلِ (2) وقال النابغة في"نصحتك": نَصَحْتُ بَنِي عَوَفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا ... رَسُولِي ولَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وسَائِلِي (3) * * *   (1) نسبه أبو حيان في تفسيره 1: 447 لعمر بن لجأ، ولم أجد الشعر في مكان. (2) معاني القرآن للفراء: 1: 92. وكان في المطبوعة: "إن لم تقاتل"، وأثبت ما في الفراء والبؤسى والبأساء: البؤس. والنعمى والنعماء: النعمة. (3) ديوانه: 89، ومعاني القرآن للفراء 1: 92، وأمالي ابن الشجري 1: 362، وهي في غزو عمرو بن الحارث الأصغر لبني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. ورواية ديوانه: "فلم يتقبلوا وصاتي". الوصاة: الوصية. وقوله: "رسولي". الرسول: الرسالة. والوسائل جمع وسيلة: وهي ما يتقرب به المرء إلى غيره من حرمة أو آصرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 وقد دللنا على أن معنى"الشكر"، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة، وأن معنى"الكفر" تغطية الشيء، فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) } قال أبو جعفر: وهذه الآية حضٌّ من الله تعالى ذكره على طاعته، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال، فقال:"يا أيها الذينَ آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة" على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي، والانصراف عَما أنسخه منها إلى الذي أحدِثه لكم من فرائضي، وأنقلكم إليه من أحكامي، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه، والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه -وإن لحقكم في ذلك مكروهٌ من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل، أو مشقةٌ على أبدانكم في قيامكم به، أو نقصٌ في أموالكم- (2) وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومَشقته عليكم، واحتمال عنائه وثقله، ثم بالفزع منكم فيما يَنوبكم من مُفظِعات الأمور إلى الصلاة لي، فإنكم بالصبر على المكاره تُدركون مرضاتي، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبَلي، وتدركون حاجاتكم عندي، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيَّ، أنصرهُم وأرعاهم وأكلَؤُهم، حتى يظفروا بما طلبوا وأمَّلوا قِبَلي. * * *   (1) معنى"الشكر" 1: 135-138 وتفسير معنى"الكفر" فيما سلف 1: 255، 382، 522، ومواضع كثيرة. اطلبها في فهرس اللغة. (2) هذه جمل متداخلة، والعطف سياقه في هذه الجملة: استعينوا بالصبر والصلاة على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي. . والانصراف عما أنسخه. . والتسليم لأمري. . والتحول عنه. . وعلى جهاد أعدائكم. . بالصبر. . ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وقد بينت معنى"الصبر" و"الصلاة" فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته، (1) كما: 2315- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"واستعينوا بالصبر والصلاة"، يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله. 2316- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة"، اعلموا أنهما عَونٌ على طاعة الله. * * * وأما قوله:"إن الله مع الصابرين"، فإن تأويله: فإن الله نَاصرُه وظَهيرهُ وراضٍ بفعله، كقول القائل:"افعل يَا فلان كذا وأنا معك"، يعني: إني ناصرُك على فعلك ذلك ومُعينك عليه. * * *   (1) انظر فيما سلف تفسير"الصلاة" 1: 242-243 / ثم 2: 11. وتفسير"الصبر" في 2: 11، 124، وانظر فهرس اللغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوّكم، وترك معاصيَّ، وأداء سائر فرائضي عليكم، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: هو ميت، فإن الميت من خَلقي مَنْ سلبته حياتَه وأعدمتُه حواسَّه، فلا يلتذّ لذة ولا يُدرك نعيما، فإنّ من قُتل منكم ومن سائر خَلقي في سبيلي، أحياءٌ عندي، في حياة ونعيم، وعيش هَنِيّ، ورزق سنيّ، فَرحين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 بما آتيتهم من فضلي، وَحبوتهم به من كرامتي، كما:- 2317- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بل أحياء" عند ربهم، يرزقون من ثمر الجنة، ويَجدون ريحها، وليسوا فيها. 2318- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2319- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تقولوا لمن يقتل في سَبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون"، كنَّا نُحَدَّثَ (1) أن أرواح الشهداء تعارف في طَير بيض يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سِدرة المنتهى، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاثُ خصال من الخير: مَن قُتل في سبيل الله منهم صار حيًّا مرزوقًا، ومن غُلب آتاه الله أجرًا عظيمًا، ومن مات رَزَقه الله رزقًا حسنًا. 2320- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء" قال، أرواحُ الشهداء في صُوَر طير بيضٍ. 2321- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء"، في صُوَر طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا. 2322- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث. قال، سمعت عكرمة يقول في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون" قال، أرواح الشهداء في طير خُضر في الجنة. * * *   (1) في المطبوعة: "كما يحدث"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء"، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعمَّ به غيره؟ وقد علمت تظاهُر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى الجنة يَشمون منها رَوْحها، ويستعجلون الله قيام الساعة، ليصيروا إلى مساكنهم منها، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها = وعن الكافرين أنهم يُفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى النار يَنظرون إليها، ويصيبهم من نَتنها ومكروهها، ويُسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يَقمَعُهم فيها، ويسألون الله فيها تأخيرَ قيام الساعة، حِذارًا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها، مع أشباه ذلك من الأخبار. وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما الذي خُصَّ به القتيل في سبيل الله، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة، وسائرُ الكفار والمؤمنين غيرُه أحياءٌ في البرزخ، أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك، وأما المؤمنون فمنعَّمون بالروح والريحان ونَسيم الجنان؟ قيل: إنّ الذي خَصّ الله به الشهداء في ذلك، وأفادَ المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في بَرْزَخِهم قَبل بعثهم، ومنعَّمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر، من لذيذ مطاعمها الذي لم يُطعمها الله أحدًا غيرَهم في برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيلة التي فضَّلهم بها وخصهم بها من غيرهم، والفائدة التي أفادَ المؤمنين بالخبر عنهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة آل عمران: 169-170] ، وبمثل الذي قُلنا جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2323- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وَعَبدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشهداءُ على بَارق، نهر بباب الجنة، في قبة خضراء -وقال عبدة: في روضة خضراء- يخرُج عليهم رزقهم من الجنه بُكرة وَعشيًّا. (1) 2324- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي، عن ابن بشار السلمي -أو أبي بشار، شكّ أبو جعفر- قال: أرواح الشهداء في   (1) الحديث: 2323- عبدة بن سليمان الكلابي الكوفي: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 272، وابن أبي حاتم 3/1/89. الحارث بن فضيل الأنصاري المدني: ثقة، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/277، وابن أبي حاتم 1/2/86. محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأشهلي، الأوسي، الأنصاري: صحابي على الراجح الذي جزم به البخاري، مات سنة 96 أو 97. قال الواقدي: مات وهو ابن 99 سنة. قال الحافظ في التهذيب: "على مقتضى قول الواقدي في سنة، يكون له يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم 13 سنة. وهذا يقوي قول من أثبت الصحبة". وروى البخاري في الكبير 4/1/402، بإسناد صحيح: "عن محمود بن لبيد قال، أسرع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقطعت نعالنا، يوم مات سعد بن معاذ". وهذا حجة كافية في إثبات صحبته. فقال ابن أبي حاتم 4/1/289-290: "قال البخاري: له صحبة. فخط أبي عليه، وقال لا يعرف له صحبة"! وهو نفي دون دليل، لا يقوم أمام إثبات عن دليل صحيح. ولذلك قال ابن عبد البر - كما في التهذيب: "قول البخاري أولى". وهو مترجم أيضًا في ابن سعد 5: 55-56. والإصابة 6: 66-67. والحديث رواه أحمد في المسند: 2390، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 7: 69 (من مخطوطة الإحسان) ، من طريق يعقوب، به. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 74، من طريق يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير في التفسير 2: 292، عن رواية المسند. قال: "تفرد به أحمد". ثم أشار إلى رواية الطبري هذه، وقال: "وهو إسناد جيد". وهو في مجمع الزوائد 5: 298، ونسبه لأحمد، والطبراني، وقال: "ورجال أحمد ثقات". وذكره السيوطي 2: 96. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر والبيهقي في البعث. وقوله: "وقال عبدة. . . "، يريد أن"عبدة بن سليمان" قال: "في روضة" بدل"في قبة". ووقع في المطبوعة"أو قال عبدة". ووضع"أو" هنا بدل واو العطف - خطأ غير مستساغ. ونرجح أنه من ناسخ أو طابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 قباب بيض من قباب الجنة، في كل قبة زوجتان، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثَورٌ وحُوت، فأما الثور، ففيه طعم كلّ ثمرةٍ في الجنة، وأما الحوت ففيه طَعمُ كل شراب في الجنة. (1) * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإنّ الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكرُه أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصّهم بها في البرزخ غيرُ موجود في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، وإنما فيه الخبرُ عن حَالهم، أمواتٌ هم أم أحياءٌ. قيل: إنّ المقصود بذكر الخبر عن حياتهم، إنما هو الخبر عَمَّا هم فيه من النِّعمة، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عبادَه عما خَصّ به الشهداء في قوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران: 169] ، وعلموا حالهم بخبره ذلك، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله:"ولا تقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، نَهْيُ خَلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى (2) = تَرَك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم. * * * وأما قوله:"ولكنْ لا تَشعرُون"، فإنه يعني به: ولكنكم لا تَرونهم فتعلموا أنهم أحياءٌ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به. * * * وإنما رفع قوله:"أمواتٌ" بإضمار مكنيّ عن أسماء"من يُقتل في سبيل الله"، ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات. ولا يجوز النصب في   (1) الخبر: 2324- هذا خبر لا أدري ما هو؟! ورأسه"ابن بشار السلمي؛ أو أبو بشار" - الذي شك فيه ابن جرير: لم أهتد إلى شيء يدل عليه. وقد ذكره السيوطي 2: 96، عن هذا الموضع من الطبري، ثم لم يصنع شيئًا! (2) سياق الكلام: ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده. . . ترك أعادة ذكر. . . ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 "الأموات"، لأن القول لا يعمل فيهم، وكذلك قوله:"بل أحياء"، رفعٌ، بمعنى: هُمْ أحياء. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) } قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباعَ رَسوله صلى الله عليه وسلم، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن أصفياءَه قَبلهم. ووَعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [سورة البقرة: 214] ، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيرُه يقول. 2325- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع"، ونحو هذا، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم فقال:"وبشر الصابرين"، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) . * * *   (1) في المطبوعة: "إنهم أحياء"، والسياق يقتضي ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 93-94، فقد استوفى ما اختصره الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 ومعنى قوله:"وَلنبلونكم"، ولنختبرنكم. وقد أتينا على البيان عن أن معنى"الابتلاء" الاختبار، فيما مضى قبل. (1) * * * وقوله:"بشيء من الخوف"، يعني من الخوف من العدو، وبالجوع -وهو القحط- يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسَنه تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، (2) فتنقص لذلك أموالكم، وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموتُ ذراريكم وأولادكم، وجُدوب تحدُث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب. كل ذلك خطابٌ منه لأتباع رَسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما: 2326- حدثني هارون بن إدريس الكوفيّ الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" قال، هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. (3) * * * وإنما قال تعالى ذكره:"بشيء من الخوف" ولم يقل بأشياء، لاختلاف أنواع ما أعلم عبادَه أنه مُمتحنهم به. فلما كان ذلك مختلفًا - وكانت"مِن" تَدلّ على أنّ كل نوع منها مُضمر"شيء"، فإنّ معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر"الشيء" في أوله، من إعادته مع كل نوع منها. ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم، وامتحنهم بضروب المحَن، كما:- 2327- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) انظر ما سلف 2: 48، 49، ثم هذا الجزء 3: 7. (2) في المطبوعة: "وتعذر المطالب" والصواب ما أثبت. (3) الخبر: 2326- سبق هذا الإسناد: 1455، ولما نعرف شيخ الطبري فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" قال، قد كان ذلك، وسيكونُ ما هو أشد من ذلك. قال الله عند ذلك:"وبشر الصابرين الذين إذا أصَابتهم مُصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عَلمهم صَلواتٌ من رَبهم وَرَحمة وأولئك هُمُ المهتدون". * * * ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، بشّر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به، (1) والحافظين أنفسهم عن التقدم على نَهْيي عما أنهاهم عنه، والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به، (2) القائلين إذا أصابتهم مصيبة:"إنا لله وإنا إليه رَاجعون". فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ -بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد- أهلَ الصبر، الذين وصف الله صفتهم. * * * وأصل"التبشير": إخبار الرجل الرجلَ الخبرَ، يَسرّه أو يسوءه، لم يسبقه به إلى غيره (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي، فيُقرون بعبوديتي، ويوحِّدونني بالربوبية،   (1) في المطبوعة: "بما امتحنتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) في المطبوعة: "بما ابتليتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) انظر ما سلف 1: 383/2: 393. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي، ويقولون -عند امتحاني إياهم ببعض مِحَني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أنْ أبتليهم به من الخوف والجوع ونَقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا مُمتحنهم بها-: إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياءً، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مَماتنا صائرون = تسليمًا لقضائي ورضًا بأحكامي. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، هؤلاء الصابرون، الذين وصفهم ونَعتهم -"عليهم"، يعني: لَهم،"صلوات"، يعني: مغفرة."وصلوات الله" على عباده، غُفرانه لعباده، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 2328- "اللهم صَلِّ على آل أبي أوْفى". (1) * * * يعني: اغفر لَهم. وقد بينا"الصلاة" وما أصلها في غير هذا الموضع. (2) وقوله:"ورحمة"، يعني: ولهُم مع المغفرة، التي بها صَفح عن ذنوبهم وتغمَّدها، رحمة من الله ورأفة.   (1) الحديث: 2328- هو جزء من حديث صحيح. رواه البخاري 3: 286 (من الفتح) . ومسلم 1: 297- كلاهما من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن أبي أوفى قال، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى". قال الحافظ: "يريد أبا أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء. . . وقيل لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر". وهذه فائدة نفيسة، من الحافظ ابن حجر، رحمه الله. (2) انظر ما سلف 1: 242 / ثم 2: 505 / ثم 2: 37، 213، 214. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 ثم أخبر تعالى ذكره -مع الذي ذكر أنه مُعطيهم على اصطبارهم على محنه، تسليمًا منهم لقضائه، من المغفرة والرحمة- أنهم هم المهتدون، المصيبون طريق الحقّ، والقائلون مَا يُرْضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب. وقد بينا معنى"الاهتداء"، فيما مضى، فإنه بمعنى الرشد للصواب. (1) * * * وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2329- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"الذين إذا أصابتهم مُصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه رَاجعون أولئكَ عليهم صَلوات من ربهم وَرحمه وأولئك هم المهتلون" قال، أخبر الله أنّ المؤمن إذا سَلّم الأمرَ إلى الله، ورَجع واسترْجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاةُ من الله، والرحمة، وتحقيق سَبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن استرْجع عند المصيبة، جبر الله مُصيبته، وأحسن عُقباه، وَجعل له خَلفًا صالحًا يرضاه. (2) 2330- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) انظر ما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551 / ثم 2: 211/ ثم هذا الجزء 3: 101، 140، 141. (2) الحديث: 2329- ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 330-331، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه علي بن أبي طلحة، وهو ضعيف". وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 156، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان. وعلي بن أبي طلحة: سبق في: 1833 أنه ثقة، وأن علة هذا الإسناد -وهو كثير الدوران في تفسير الطبري-: انقطاعه، لأن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، ولم يره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة"، يقول: الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا. 2331- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان العُصفُريّ، عن سعيد بن جبير قال: مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة:"الذينَ إذا أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صَلواتٌ من رَبهم وَرحمة"، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمعْ إلى قوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) [سورة يوسف: 84] . (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قال أبو جعفر:"والصفا" جمع"صَفاة"، وهي الصخرة الملساء، ومنه قول الطرمَّاح: أَبَى لِي ذُو القُوَى وَالطَّوْلِ ألا ... يُؤَبِّسَ حَافِرٌ أَبَدًا صَفَاتِي (2)   (1) الخبر: 2331- سفيان العصفري: هو سفيان بن زياد العصفري، وهو ثقة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة. مترجم في التهذيب 4: 111، برقم: 198. وابن أبي حاتم 2/1/221، برقم: 966. والكبير للبخاري 2/2/93، برقم: 2076، لكن لم يذكر نسبته"العصفري". وهو يشتبه على كثير من العلماء بآخر، هو"سفيان بن دينار، أبو الورقاء الأحمري". فقد ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/220-221، برقم: 695، وثبت في بعض نسخه زيادة"العصفري" في نسبته. والبخاري ترجم"الأحمري" 2/2/92، برقم: 2073. ولم يذكر فيه"العصفري" أيضًا. وترجم في التهذيب 4: 109، برقم: 193- مع شيء من التخليط في الترجمتين، يظهر بالتأمل. ومع هذا التخليط فقد رجح الحافظ أنهما اثنان، وقال في ترجمة"سفيان بن دينار"-: "والتحقيق فيه: أن سفيان بن دينار التمار هذا، يقال له: العصفري، أيضًا، وأن سفيان بن زياد العصفري: آخر، بينه الباحي". وقال في ترجمة الآخر: "والصحيح أنهما اثنان، كما قال ابن معين وغيره". وأيا ما كان فالاثنان قتان. (2) ديوانه: 134، وكان في المطبوعة: "يونس حافر أبدي"، وهو خطأ، والطول: القدرة والغنى. وهو ذو الطول والقوة، هو الله سبحانه. وأبس الشيء يؤبسه: ذلله ولينه، أو كسره، ومثله قول عباس بن مرداس: إنْ تَكُ جُلْمُودَ صَخْرٍ لاَ أُؤَبِّسُهُ ... أُوقِدْ عَلَيْهِ، فأْحمِيهِ، فينصَدِعُ السَّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وقد قالوا إن"الصفا" واحد، وأنه يثنى"صَفَوان"، ويجمع"أصفاء" و"صُفِيًّا، وصِفِيًّا"، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز (1) كأنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (2) وقالوا: هو نظير"عَصَا وعُصِيّ [وعِصِيّ، وأَعْصاء] ، ورَحَا ورُحِيّ [وَرِحِيّ] وأرْحاء". (3) * * * وأما"المروة"، فإنها الحصاةُ الصغيرة، (4) يجمع قليلها"مَرَوات"، وكثيرها"المرْو"، مثل"تمرة وتمَرات وتمر"، قال الأعشى ميمون بن قيس:   (1) هو الأخيل الطائي. (2) سيأتي في التفسير 6: 142 والجمهرة 3: 135، والمخصص 10: 90، ومجالس ثعلب: 249، والحيوان 2: 339، والقالي 2: 8، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه"متنيه" إلا ابن دريد فإنه أنشده: كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ ... مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى"متني" فكأنه عنى أن الأخيل يصف نفسه. وأما من روى"متنيه"، فإنه عنى غيره. وهو الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري: "هذا ساق كان أسود الجلدة، استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش. لأنه كان ملحًا". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه"من طول إشراف" بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و"الطوي" البئر المطوية بالحجارة. (3) الزيادة بين الأقواس لا بد منها، ليستقيم تمثيل المتمثل بهذه الجموع، على نظيرها. وهو قوله آنفًا: صفا وأصفاء وصفى وصفى. (4) بيان الطبري عن معنى"المرو" ليس بجيد، والأجود ما قاله أصحاب اللغة: المرو، حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، وتقدح منها النار، ويتخذ أداة كالسكين يذبح بها، وهي صلبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وَتَرَى بالأرْضِ خُفًّا زائِلا ... فَإِذَا مَا صَادَفَ المَرْوَ رَضَح (1) يعني ب"المرو": الصخرَ الصغار، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي: حَتَّى كأنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا المُشَرِّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ (2) ويقال"المشقِّر". * * * وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إنّ الصفا والمروة"، في هذا الموضع: الجبلين المسمَّيَين بهذين الاسمين اللذين في حَرَمه، دون سائر الصفا والمرو. ولذلك أدخل فيهما"الألف واللام"، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر الأصفاء والمرْوِ. * * * وأما قوله:"منْ شَعائر الله"، فإنه يعني: من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده مَعلمًا ومَشعَرًا يعبدونه عندها، إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها. ومنه قول الكميت: نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فَجِيلا تَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ (3)   (1) ديوانه: 161، وفي الشطر الأول تصحيف لم أتبين صوابه، ورواية الديوان: وَتُولِّي الأَرْضَ خُفًّا مُجْمَرًا وهو يصف ناقته وشدتها ونشاطها، والخف المجمر: هو الوقاح الصلب الشديد المجتمع، نكبته الحجارة فصلب. رضح الحصا والنوى رضحًا: دقه فكسره. يعني من شدة الخف وصلابته، وذلك محمود في الإبل. (2) ديوانه: 3، والمفضليات: 587، من قصيدة البارعة في رثاء أولاده، يقول عن المصائب المتتابعة تركته كهذه الصخرة التي وصف. والمشرق: المصلي بمنى. قال ابن الأنباري: "وإنما خص المشرق، لكثرة مرور الناس به". ثم قال: "ورواها أبو عبيدة: "المشقر": يعني سوق الطائف. يقول: كأني مروة في السوق يمر الناس بها، يقرعها واحد بعد واحد". (3) الهاشميات: 21، واللسان (شعر) ، وغيرهما. والضمير في قوله: "نقتلهم"، إلى الخوارج الذين عدد أسماءهم في بيتين قبل: عَلاَمَ إذًا زُرْنَا الزُّبَيْر وَنَافِعًا ... بغارتنا، بَعْدَ المقَانِبِ مِقْنَبُ وَشَاطَ عَلَى أَرْمَاحِنَا بِادِّعَائِهَا ... وَتَحْوِيلهَا عَنْكُمْ شَبِيبٌ وقَعْنَبُ والجيل: الأمة، أو الصنف من الناس. وفي المطبوعة واللسان: "تراهم" بالتاء، وهو خطأ. والشعائر هنا جمع شعيرة: وهي البدنة المهداة إلى البيت، وسميت بذلك لأنه يؤثر فيها بالعلامات. وإشعار البدن: إدماؤها بطعن أو رمي أو حديدة حتى تدمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وكان مجاهد يقول في الشعائر بما:- 2332- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله" قال، من الخبر الذي أخبركم عنه. (1) 2333- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * فكأن مجاهدًا كان يرى أن الشعائر، إنما هو جمع"شعيرة"، من إشعار الله عباده أمرَ الصفا والمروة، وما عليهم في الطواف بهما. فمعناه: إعلامُهم ذلك. وذلك تأويل من المفهوم بعيد. وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله:"إن الصفا والمروة مِنْ شعائر الله" عبادَه المؤمنين أن السعي بينهما من مَشاعر الحج التي سنَّها لهم، وأمرَ بها خليله إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، إذ سَأله أن يُريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مَخرجُه مَخرجَ الخبر، فإنه مرادٌ به الأمر. لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [سورة النحل: 123] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيمَ إمامًا لمنْ بَعده. فإذْ كان صحيحًا أن الطوافَ والسعيَ بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مَناسك الحج، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله   (1) في المطبوعة: "من الخير" بالياء المثناة التحتية، وليس يستقيم، والصواب ما أثبت، وكلام الطبري في تعليقه على قول مجاهد، دال على الصواب من ذلك أنها من الإشعار، وهو الإخبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 عليه وسلم قد عَمل به وسنه لمن بعده، وقد أُمرَ نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"فمن حج البيت"، فمن أتاه عائدًا إليه بَعدَ بدء. وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو"حَاجٌّ إليه"، ومنه قول الشاعر: (1) لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولا كثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا (2)   (1) هو المخبل السعدي، وهو مخضرم. (2) المعاني الكبير: 478، والاشتقاق لابن دريد: 77، 156، وتهذيب الألفاظ: 563، وإصلاح المنطق: 411، والبيان والتبيين 3: 97، وشرح أدب الكاتب للجواليقي: 313، وللبطليوسي: 405، واللسان (سبب) (حجج) ، (قهر) (زبرق) ، والجمرة لابن دريد: 1: 31، 49/3: 434، وسمط اللآلي: 191، والخزانة 3: 427. وفي المطبوعة: "بيت الزبرقان" والصواب ما أثبت. وقد ذهب الطبري في تفسير البيت، كما ذهب ابن دريد وابن قتيبة والجاحظ وغيرهم إلى أن"السب" هاهنا العمامة، وأن سادات العرب كانوا يصبغون عمائمهم بالزعفران، ومنهم حصين بن بدر، وهو الزبرقان، وسمي بذلك لصفرة عمامته وسيادته. وذهب أبو عبيدة وقطرب إلى أنه"السب" هنا هي الاست، وكان مقروفًا، وزعموا أن قول قطرب قول شاذ، والصواب عندي أن أبا عبيدة وقطرب قد أصابا، وأنهم أخطأوا في ردهم ما قالا. فقد كان المخبل بذيء اللسان، حتى نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما هو عذاب يصبه الله على من يشاء من عباده" (النقائض: 1048) قال أبو عبيدة في النقائض: "كان المخبل القريعي أهجى العرب. . . ثم كان بعده حسان بن ثابت، ثم الحطيئة، والفرزدق، وجرير، والأخطل. هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام لهم نظير". هذا وقد كان من أمر المخبل والزبرقان بن بدر ما كان في ضيافة الحطيئة (انظر طبقات فحول الشعراء: 96-100) ، وهجاؤه له، ثم ما استشرى من هجاء المخبل له، لما خطب إليه أخته خليدة، فأبى الزبرقان أن يزوجها له، وذمه. فهجاء وهجا أخته مقذعًا، وحط منه حتى قال له: يَا زِبْرِقَانُ أخَابَنِي خَلَفٍ ... مَا أنْتَ وَيبَ أبِيكَ والفَخْرُ مَا أنْتَ إلاّ فِي بَنِي خَلَفٍ ... كالإسْكَتَينِ عَلاَهُمَا البَظْرُ وكل شعره في الزبرقان وأخته مقذع. وهذا البيت الذي استشهد به الطبري من قذعه. وقبل البيت: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ أنَّنِي ... تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لأَكْبَرَا لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذَاعَهُ ... فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذِلَّ وأُقْهِرَا وفي سيرة ابن هشام 2: 275-276 قول عتبة بن ربيعة في أبي جهل: "سيعلم مصفراسته من انتفخ سحره، أنا أم هو! " فرماه بمثل ذلك من القبيح، الذي قاله المخبل السعدي. ومن زعم أن المخبل يقول إنه: "كره أن يعيش ويعمر حتى يرى الزبرقان من الجلالة والعظمة بحيث يحج بنو عوف عصابته"، فقد أخطأ، وقد نقض عليه البيت الثالث ما زعم، فإنه يصفه بأنه تمنى السيادة، ولكن ذلك لم يزده إلا ذلا وقهرًا، فكيف يتأتى أن يقول ما زعم هذا أنه أراده؟ بل أراد المخبل أن يسخر به ويتهكم، كما فعل في سائر هجائه له. وقوله: "وأشهد" منصوب، عطفًا على قوله: "لأكبرا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 يعني بقوله:"يحجون"، يكثرون التردد إليه لسُودده ورياسته. وإنما قيل للحاج"حاجّ"، لأنه يَأتي البيت قَبل التعريف، ثم يعود إليه لطَواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطوَاف الصَّدرَ. (1) فلتكراره العودَ إليه مرّة بعد أخرى قيل له:"حاجٌّ". * * * وأما"المعتمر"، فإنما قيل له:"معتمر"، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنما يعني تعالى ذكره بقوله:"أو اعتمر"، أو اعتمرَ البيت، ويعني ب"الاعتمار" الزيارة. فكل قاصد لشيء فهو له"معتمر"، ومنه قول العجاج: لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... غْزًى بَعِيدًا من بَعِيدٍ وَضَبَرْ (2) يعني بقوله:"حين اعتمر"، حين قصده وأمَّه. * * *   (1) عرف يعرف تعريفًا: وقف بعرفات. و"طواف الصدر" من قولهم: صدر الناس من حجهم، أي رجعوا بعد أن يقضوا نسكهم. (2) ديوانه: 19 من قصيدة مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، مضى منها في 1: 190، 2: 157. وقوله"مغزى"، أي غزوًا. وضبر: جمع قوائمه ليثب ثم وثب. وهو يصف بعده جيش عمر بن عبيد الله، وكان فتح الفتوح الكثيرة، وعظم أمره في قتال الخوارج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، يقول: فلا حَرَج عليه ولا مَأثم في طَوَافه بهما. * * * فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا، إن قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"، وإن كان ظاهرهُ ظاهرَ الخبر، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرًا بالطواف، ثم يقال: لا جُناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجُناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناحُ والحرجُ؟ والأمر بالطواف بهما، والترخيصُ في الطواف بهما، غيرُ جائز اجتماعهما في حال واحدة؟ قيل: إنّ ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ. (1) وإنما معنى ذلك عند أقوام: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عُمرة القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف نَطوف بهما، وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ ذلك، (2) لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له! فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"،   (1) في المطبوعة: "إليه ذهب"، والصواب ما أثبت، لأن الطبري ساق قول القائل، على أنه خطاب له إذ قال للطبري: "وقد قلت لنا". فالصواب أن يصرف الرد عليه خطابًا له كما خاطبه. (2) في المطبوعة: "أحد ذلك"، ولا معنى له، وفيه تحريف لا شك فيه. فإنهم لم يذكروا متعددًا من الآثام حتى يجعلوا له"أحدًا". وإنما أرادوا: أكبر الإثم والشرك. و"ذلك"، إشارة إلى الشرك. ولو قرئت أيضًا: "أخوف ذلك" لكاتب صوابًا، لأنه سيذكر أنهم كانوا يتخوفون الطواف بهما. ويعني: أخوف الشرك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 يعني: إن الطوافَ بهما، فترك ذكر"الطواف بهما"، اكتفاء بذكرهما عنه. وإذْ كان معلومًا عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله التي جعلها علَمًا لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر،"فمن حَج البيتَ أو اعتمر" فلا يتخوَّفنَّ الطواف بهما، من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري، فلا جُناح عليكم في الطواف بهما. * * * و"الجناح"، الإثم، كما:- 2334- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما"، يقول: ليس عليه إثم، ولكن له أجر. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين. ذكر الأخبار التي رويت بذلك: 2335- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن وَثَنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى"إسافًا"، (1) ووثنًا على المرْوة يسمى"نائلة"، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مَسحوا الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان، قال المسلمون: إنّ الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر،"فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوّف بهما". 2336- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر قال: كان صنم بالصفا يدعى"إسافًا"، (2) ووثَن بالمروة يدعى"نائلة"،   (1) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من الصرف. (2) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من الصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه، قال: فذكِّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأنِّت المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثًا. (1) 2337- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد، وزاد فيه - قال: فجعله الله تطوُّعَ خير. 2338- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني عاصم الأحول قال، قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمرْوة حَتى نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بَينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، حتى نزلت هذه الآية:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله". (2) 2339- حدثني علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال، سألت أنسًا عن الصفا والمروة، فقال: كانتا من مَشاعر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما، فنزلت:"إن الصفا والمرْوَة من شَعائر الله". (3)   (1) الأثر: 2336- هكذا جاء هذا الأثر في الدر المنثور 1: 160، وصواب عبارته فيما أرجح، أن يحذف"مؤنثًا"، أو أن يقال: "من أجل أن الوثن الذي كان عليه كان مذكرًا، وأنث المروة من أجل أن الوثن الذي كان عليه كان مؤنثًا". (2) الحديث: 2338- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي. ابن أبي زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي، وهو حافظ ثقة، يقرن بابن المبارك. يقولون: إنه أول من صنف الكتب بالكوفة، مات سنة 183. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/273-274. والصغير، ص: 206، وابن سعد: 6: 274، وابن أبي حاتم 4/2/144-145، وتذكرة الحفاظ 1: 226-247. عاصم: هو ابن سليمان الأحول، مضى في: 184، وهو من صغار التابعين. وعده سفيان الثوري أحفظ ثلاثة في البصرة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/2/20-65، وابن أبي حاتم 3/1/343-344. والحديث رواه البخاري 3: 402 (فتح) ، من طريق عبد الله، وهو ابن المبارك، عن عاصم الأحول، بنحوه. ورواه أيضًا مسلم، والترمذي، والنسائي. كما في القسطلاني 3: 153-154. (3) الحديث: 2339- سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر ما قبله. ورواه البخاري مختصرًا 8: 132 (فتح) ، عن محمد بن يوسف، عن سفيان. ورواه الحاكم 2: 270، من طريق حسين بن حفص، عن سفيان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأخطأ الحاكم في استدراكه، فقد رواه البخاري. كما ذكرنا قبل. وسيأتي بعض معناه مختصرًا: 2346، 2347، من رواية جرير، عن عاصم، عن أنس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 2340- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبو الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو معاوية، عن جابر الجعفي، عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن عمر:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناحَ عليه أنْ يَطَّوَّف بهما" قال، انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنامٌ، فلما حُرِّمْن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهما" (1) .   (1) الحديث: 2340- عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري: ثقة، من شيوخ مسلم والترمذي والنسائي وأبي حاتم وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/76. حسين المعلم: هو حسين بن محمد بن بهرام التميمي المروذي، المؤدب، كما لقب بذلك في التهذيب، وهو"المعلم" أيضًا، كما لقبه بذلك البخاري وابن أبي حاتم، وهو ثقة من شيوخ أحمد ويحيى والأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/386-387، وابن سعد 7/2/79، وابن أبي حاتم 1/2/64. وتاريخ بغداد 8: 88-90، وكان معروفًا برواية"تفسير شيبان النحوي". فروى ابن أبي حاتم عن أبيه قال، "أتيته مرارًا بعد فراغه من تفسير شيبان، وسألته أن يعيد على بعض المجلس، فقال: بكر، بكر. ولم أسمع منه شيئًا". ومما يوقع في الوهم، الاشتباه بين"عبد الوارث بن عبد الصمد". وشيخه"حسين المعلم" هذا - وبين"عبد الوارث بن سعيد"، وشيخه"حسين المعلم" أيضًا. ف"عبد الوارث" -شيخ الطبري- هو الذي ترجمنا له هنا. وشيخه"حسين بن محمد المروذي". و"عبد الوارث بن سعيد" - هو جد"عبد الوارث" هذا. و"حسين المعلم" هو"حسين بن ذكوان المعلم"، وهو قديم، يروي عن التابعين. شيبان أبو معاوية: "هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي؛ وهو إمام حجة حافظ، حدث عند أبو حنيفة، وهو من أقرانه. وروى عنه الأئمة: الطيالسي، وابن مهدي، وغيرهما. مترجم في التهذيب. والكبير 2/2/255، وابن سعد 6: 262، و 7/2/67-68 وابن أبي حاتم 1/1/355-356، وتاريخ بغداد 9: 271-274، وتذكرة الحفاظ 1: 202-203. ووقع في المطبوعة غلط في اسمه واسم الراوي عنه: فذكر"أبو الحسين المعلم"! وهو تخليط، وذكر"سنان أبو معاوية"! وهو فوق ذلك تصحيف. جابر الجعفي، بضم الجيم وسكون العين المهملة: وهو جابر بن يزيد بن الحارث، وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/210، والضعفاء للبخاري، ص: 7. والنسائي، ص: 7، وابن أبي حاتم 1/1/497-498، والمجروحين لابن حبان، رقم: 175، ص 140-141. والميزان 1: 176-178. عمرو بن حبشي، بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/1/226. وهذا الحديث -الضعيف الإسناد- لم أجده إلا في هذا الموضع. وذكره السيوطي 1: 159، ولم ينسبه إلا إلى الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 2341- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"، وذلك أنّ ناسًا كانوا يتحرجون أن يَطوفوا بين الصفا والمروة، فأخبر الله أنهما من شعائره، والطواف بينهما أحبُّ إليه، فمضت السُّنة بالطَّواف بينهما. 2342- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما" قال، زعم أبو مالك، عن ابن عباس: أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة، فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله:"فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما". (1)   (1) الحديث: 2342- هذا الإسناد، هو من أسانيد تفسير السدي الثلاثة، وقد فصلنا القول فيها، في: 168. والحديث رواه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، ص: 100-101، عن الحسين بن علي بن مهران، عن عامر بن الفرات، عن أسباط، بهذا الإسناد، نحوه. وفي إسناد ابن أبي داود فائدة جديدة: أن هناك راويًا لتفسير السدي، غير"عمرو بن طلحة القناد" راويه عن أسباط بن نصر. فها هو ذا عامر بن الفرات يروي شيئًا منه عن أسباط أيضًا. و"عامر بن الفرات": لم أجد له ترجمة أصلا. ومن عجب أن يذكره ابن أبي حاتم، في ترجمة"الحسين بن علي بن مهران" 1/2/56 - شيخًا له، ثم لا يترجم له في بابه! ورواه أيضًا الحاكم 2: 271، من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط. بهذا الإسناد نحوه. وزاد في آخره: "يقول: عليه إثم ولكن له أجر". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ولنا على الحاكم والذهبي في هذا استدراك، هو: أن أبا مَالك -التابعي راويه عن ابن عباس - وهو"غزوان الغفاري": لم يرو له مسلم في صحيحه أصلا. فلا يكون الحديث على شرط مسلم، في اصطلاح الحاكم! وفي رواية الحاكم -هذه- فائدة أيضًا: أنا ظننا عند الكلام على أسانيد تفسير السدي الثلاثة، أن الحاكم اختار منها إسنادين فقط، ولكن أظهرنا هذا الإسناد على أنه صحح الثلاثة الأسانيد. والحديث ذكره السيوطي 1: 159، وزاد نسبته لابن أبي حاتم أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 2343- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله" قال، قالت الأنصار: إنّ السَّعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله" 2344- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 2345- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما" قال، كان أهل الجاهلية قد وَضَعوا على كل واحد منهما صَنمًا يعظمونهما، فلما أسلم المسلمون كرِهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين، فقال الله تعالى:"إن الصفا والمروةَ من شَعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، وقرأ: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [سورة الحج: 32] ، وسَن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما. 2346- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال، قلت لأنس: الصفا والمروة، أكنتم تكرَهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نُهيتم عنها؟ قال: نعم، حتى نزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله". 2347- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، أخبرنا عاصم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: إنّ الصفا والمروة من مَشاعر قُريش في الجاهلية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 فلما كان الإسلام تَركناهما. (1) * * * وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، في سَبب قوم كانوا في الجاهلية لا يَسعوْن بينهما، فلما جاء الإسلام تخوَّفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوَّفونه في الجاهلية. * ذكر من قال ذلك: 2348- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله" الآية، فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما. 2349- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، كان ناس من أهل تِهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله". 2350- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير قال، سألت عائشة فقلت لها: أرأيتِ قول الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"؟ وقلت لعائشة: وَالله ما على أحدٍ جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنّ هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها كانت: لا جُناح عليه أن لا يطوَّف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار: كانوا قبل أن يُسلموا يُهلُّون لمَناةَ، الطاغيةَ التي كانوا يعبدون بالمشلَّلِ، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يَطُوف بين   (1) الحديثنان: 2346-2347- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، وهو ثقة حجة حافظ. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/214، وابن سعد 7/2/110، وابن أبي حاتم 1/1/505-507. وتاريخ بغداد 7: 253-261، وتذكرة الحفاظ 1: 250. والحديثان مضى معناهما، من رواية عاصم عن أنس: 2338، 2339. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - فقالوا: يا رسول الله إذا كنا نتحرج أن نَطُوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروَة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما". قالت عائشة: ثم قد سَن رَسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يَترك الطواف بَينهما. (1) 2351- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجالٌ من الأنصار مِمَّن يُهلُّ لمناةَ في الجاهلية -و"مناةُ" صنمٌ بين مكة والمدينة- قالوا: يا نبيّ الله، إنا كنا لا نطوفُ بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حَرَج أن نَطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمرَ فلا جناح عليه أن يطوف بهما". قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة! قال الله:"فلا جُناح عليه". قالت: يا ابن أختي، ألا ترى أنه يقول:"إن الصفا والمروة من شَعائر الله"! قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: هذا العلم! قال أبو بكر: ولقد سمعتُ رجالا من أهل العلم يقولون: لما أنزل الله الطوافَ بالبيت ولم يُنزل الطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوفُ في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإنّ الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطوافَ بين الصفا والمروةَ، فهل علينا من حرج أن لا نَطوفَ بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله" الآية كلها، قال أبو بكر: فأسمعُ أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، فيمن طَافَ وفيمن لم يَطُف. (2)   (1) الحديث: 2350- عقيل- بضم العين: هو ابن خالد الأيلي، وهو ثقة ثبت حجة، قال ابن معين: "أثبت من روى عن الزهري: مالك، ثم معمر، ثم عقيل". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/94، وابن أبي حاتم 3/2/43. عروة بن الزبير بن العوام: تابعي ثقة فقيه عالم ثبت مأمون، قال أبو الزناد: "كان فقهاء أهل المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". وأمه أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وعائشة أم المؤمنين خالته، رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/31-32، وابن سعد 2/2/134-135، و 5: 132-135، وابن أبي حاتم 3/1/395-396، وتذكرة الحفاظ 1: 58-59، وتاريخ الإسلام 3: 31-34. والحديث -من هذا الوجه- رواه مسلم 1: 362، من طريق عقيل، عن ابن شهاب، وهو الزهري ولم يذكر لفظه كله، إحالة على روايات قبله. ورواه البخاري 3: 397-401، مطولا، من طريق شعيب، عن الزهري، باللفظ الذي هنا، إلا خلافًا في أحرف يسيرة: "فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا. . . أنزل الله. . . " ففي البخاري: "فلما أسلموا سألوا. . . قالوا. . . فأنزل الله. . . ". ولكن زاد البخاري في آخره قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن - الذي سيأتي في الرواية التالية لهذه، بنحو معناه. وثبت من أوجه كثيرة، عن الزهري، عن عروة، مطولا ومختصرًا: فرواه مالك في الموطأ، ص: 373، عن هشام بن عروة، عن أبيه. ورواه البخاري 8: 132. وابن أبي داود في المصاحف، ص 100 -ولم يذكر لفظه- كلاهما من طريق مالك. ورواه أحمد في المسند 6: 144، 227 (حلبي) ، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري. وكذلك رواه ابن أبي داود، ص: 100 -ولم يذكر لفظه- من طريق إبراهيم بن سعد. ورواه مسلم مطولا 1: 361-362، من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري. وكذلك رواه البخاري 8: 472، من طريق سفيان. ولكنه اختصره جدًا. ورواه مسلم وابن أبي داود - قبل ذلك وبعده: من أوجه كثيرة. وذكره السيوطي 1: 159، وزاد نسبته إلى أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن الأنباري في المصاحف، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن. وانظر الحديث التالي لهذا. قوله"يهلون لمناة": أي يحجون. ومناة، بفتح الميم والنون الخفيفة: صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل، وكانوا يعبدونها. والطاغية: صفة لها إسلامية. قاله الحافظ في الفتح. "المشلل": بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولامين، الأولى مفتوحة مثقلة، هي الثنية المشرفة على قديد، وقديد، بضم القاف ودالين مهملتين، مصغرًا: قرية جامعة بين مكة والمدينة، كثيرة المياه. عن الفتح. (2) الحديث: 2351- هو تكرار للحديث السابق بمعناه، من وجه آخر صحيح، عن الزهري. وفيه زيادة قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، إلخ. وهذه الزيادة ذكرها البخاري، في روايته من طريق شعيب عن الزهري، كما قلنا آنفًا. ورواية معمر عن الزهري - هذه: ذكر البخاري بعضها تعليقًا 8: 472، فقال: "قال معمر عن الزهري. . . ". وقال الحافظ: "وصله الطبري، عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، مطولا". فهذه إشارة إلى الرواية التي هنا، وأشار إليها في الفتح 3: 399، وذكر أنه وصلها أحمد وغيره. وقد رواها أيضًا ابن أبي داود في المصاحف، ص: 100، عن"خشيش بن أصرم، والحسن بن أبي الربيع، أن عبد الرزاق أخبرهم عن معمر. . . ". ولم يسق لفظ الحديث، إحالة على ما قبله. و"خشيش": بضم الخاء وفتح الشين وآخره شين، معجمات كلها. و"الحسن بن أبي الربيع": هو"الحسن بن يحيى" شيخ الطبري، كنية أبيه"أبو الربيع". وخلط المستشرق طابع كتاب المصاحف: فكتب"حشيش" بالحاء المهملة! وكتب"الحسن بن أبي الربيع بن عبد الرزاق"!! و"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" المخزومي القرشي المدني: من كبار التابعين الأئمة، ومن سادات قريش. وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري، رقم: 51، وابن سعد 2/2/133، و 5: 153-154، وتذكرة الحفاظ 1: 59-60، وتاريخ الإسلام 4: 72-73. وقول أبي بكر بن عبد الرحمن"فأسمع أن هذه الآية نزلت. . . " - إلخ: هو في رواية البخاري أيضًا 3: 401، وقال الحافظ: "كذا في معظم الروايات، بإثبات الهمزة وضم العين، بصيغة المضارعة للمتكلم. وضبطه الدمياطي في نسخته [يعني من صحيح البخاري] بالوصل وسكون العين. بصيغة الأمر، والأول أصوب، فقد وقع في رواية سفيان المذكورة: فأراها نزلت. وهو بضم الهمزة، أي أظنها". وانظر كثيرًا من طرق هذا الحديث أيضًا، في السنن الكبرى للبيهقي 5: 96-97. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 2352- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانَ ناسٌ من أهل تهامة لا يَطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله". (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره. فأما قوله:"فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف بهما"، فجائزٌ أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوَّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي، وبَعضُهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما رُوي عن عائشة.   (1) الأثر: 2352- كان في المطبوعة: "حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا معمر" بإسقاط"أخبرنا عبد الرزاق قال"، وهو إسناد دائر في التفسير، وهو مكرر رقم: 2349 بنصه، وأخشى أن يكون زيادة ناسخ سها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وأيُّ الأمرين كان من ذلك، فليس في قول الله تعالى ذكره:"فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، الآية، دلالةٌ على أنه عَنى به وَضعَ الحرَج عَمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائزٍ بحظر الله ذلك، ثم جُعل الطواف بهما رُخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظُر ذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما". * * * وإنما الاختلافُ في ذلك بين أهل العلم على أوجُهٍ. فرأى بعضُهم أن تارك الطواف بينهما تاركٌ من مَناسك حجه ما لا يُجزيه منه غيرُ قَضَائه بعينه، كما لا يُجزى تارك الطواف -الذي هو طَواف الإفاضة- إلا قضَاؤه بعينه. وقالوا: هما طَوافانَ: أمرَ الله بأحدهما بالبيت، والآخرُ بينَ الصفا والمروة. * * * ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يُجزيه من تَركه فِدية، ورأوا أن حُكم الطواف بهما حُكمُ رَمي بعض الجمرات، والوقوف بالمشعر، وطَواف الصَّدر وما أشبه ذلك، مما يُجزى تاركه من تَرْكه فِديةٌ، ولا يلزمه العَوْد لقضَائه بعينه. * * * ورأى آخرون أنّ الطواف بهما تطوع، إن فعله صاحبه كان مُحسنًا، وإن تَرَكه تاركٌ لم يلزمه بترْكه شيء. (1) * * * ذكر من قال: إن السعي بين الصفا والمروة واجبٌ ولا يجزي منه فدية، ومن تركه فعليه العَوْد. (2)   (1) في المطبوعة: "لم يلزمه بتركه شيء والله تعالى أعلم"، وهذه لا شك زيادة من ناسخ. (2) في المطبوعة: "فعليه العودة"، والأجود ما أثبت، وهو أشبه بعبارة الطبري وأقرانه من فقهاء عصره. وسيأتي كذلك بعد مرات في عبارته الآتية، وكأن هذه من تصرف ناسخ أو طابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 2353- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لَعمري ما حَجّ من لم يَسع بين الصفا والمروة، لأن الله قال:"إن الصفا والمروة من شعائر الله". 2353م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس: مَنْ نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة، فليرجع فَليسْع، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرَة والهدي. (1) * * * وكان الشافعي يقول: عَلى مَنْ تَرَك السعي بين الصفا والمروةَ حتى رجع إلى بلده، العود إلى مكة حتى يَطوف بينهما، لا يجزيه غير ذلك. (2) 2354- حدثنا بذلك عنه الربيع. * * * ذكر من قال: يجزي منه دم، وليس عليه عودٌ لقضائه. قال الثوري بما:- 2355- حدثني به علي بن سهل، عن زيد بن أبي الزرقاء، عنه، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن عَاد تاركُ الطوافَ بينهما لقضائه فحسن، وإن لم يعُدْ فعليه دمٌ. * * * ذكر من قال: الطوافُ بينهما تطوّعٌ، ولا شيء على من تركه، ومنْ كان يقرأ: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) 2356- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: لو أن حاجًّا أفاضَ بعدما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يَسع، فأصابها -يعني: امرأته- لم يكن عليه شيء، لا حجٌّ ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود:"فمنْ حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما". فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ألا تسمعه يقول:"فمن تَطوَّع خَيرًا"، فأبى أن يجعل عليه شيئًا؟ 2357- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك،   (1) انظر لفظ مالك في الموطأ: 374-375. (2) انظر لفظ الشافعي في الأم 2: 178. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"إن الصفا والمروَة منْ شعائر الله" الآية"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما". 2358- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال: سمعت أنسًا يقول: الطواف بينهما تطوع. 2359- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، قال أنس بن مالك: هما تطُّوع. 2360- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 2361- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الصفا والمروة من شعائر الله فمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوفَ بهما" قال، فلم يُحرِّج من لم يَطُفْ بهما. 2362- حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أحمد، عن عيسى بن قيس، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير قال: هما تطوع. (1)   (1) الخبر: 2362- عيسى بن قيس، الراوي عن عطاء: لم أستطع اليقين به. ففي ابن أبي حاتم 3/1/284 ترجمتان: "عيسى بن قيس"، روى عن سعيد بن المسيب، وروى عنه الليث. و"عيسى بن قيس السلمي"، روى عنه هشيم. ولم يذكر عنهما شيئا آخر. إلا أن الأول مجهول. فمن المحتمل أن يكون الراوي هنا أحدهما. فإن عطاء بن أبي رباح مات سنة 114، فالراوي عن سعيد بن المسيب -المتوفي سنة 73- محتمل جدًا أن يروي عن عطاء. والليث وهشيم متقاربا الطبقة، مات الليث سنة 175، وهشيم سنة 183. وأما"أحمد" الراوي هنا عن"عيسى بن قيس" - فلم أستطع معرفته. ثم ترجح عندي أن"حجاجًا" - في هذا الإسناد: هو"حجاج بن الشاعر". وهو: حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي البغدادي، عرف بابن الشاعر، لأن أباه يوسف كان شاعرًا صحب أبا نواس، وحجاج هذا: ثقة، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما، قال ابن أبي حاتم: "كان من الحفاظ، ممن يحسن الحديث ويحفظه. مترجم في التهذيب، وابن أبي جاتم 1/2/168، وتاريخ بغداد 8: 240-241، وتذكرة الحفاظ 2: 117-118. وأن شيخه"أحمد": هو أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة متقن حافظ، من شيوخ البخاري ومسلم، سماه الإمام أحمد"شيخ الإسلام". وقد مضت الإشارة إليه: 2144. فإن يكن الإسناد هكذا، على ما رجحنا، يكن"عيسى بن قيس" محرفًا، صوابه"عمر بن قيس"، وهو المكي المعروف بـ "سندل" - بفتح السين والدال المهملتين بينهما نون ساكنة. وهو ضعيف جدًا، منكر الحديث كما قال البخاري. وقال ابن عدي: "هو ضعيف بإجماع، لم يشك أحد فيه، وقد كذبه مالك". وهو مترجم في التهذيب. والصغير للبخاري، ص: 190، والضعفاء له، ص: 25، والنسائي ص: 24، وابن سعد 5: 358، وابن أبي حاتم 3/1/129-130. وأنا أرجح أن يكون هذا الإسناد على هذا النحو، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، ولا تغيير اسم"عيسى بن قيس" - حتى أستبين بدليل آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 2364- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بين الصفا والمروة تطوُّع؟ قال: تطوعٌ. * * * والصواب من القول في ذلك عندنا أنّ الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العوْد لقضائه، ناسيًا كان، أو عامدًا. لأنه لا يُجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حَجّهم الطوافُ بهما. * * * ذكر الرواية عنه بذلك: 2365- حدثني يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا فرَقِيَ عليه. (1) . 2366- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن، عن أبي بكر بن عياش، عن ابن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، فأتى الصفا فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها، وطاف وسَعى. (2) * * *   (1) الحديث: 2365- هو قطعة من حديث جابر - الطويل، في صفة حجة الوداع. وقد مضت قطعة منه، بهذا الإسناد: 2003. وأخرى من رواية يحيى القطان، عن جعفر الصادق: 1989. (2) الحديث: 2366- محمود بن ميمون أبو الحسن: لا أدري من هو، ولا ما شأنه. لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا. ابن عطاء، عن أبيه: هو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة، بينا ذلك في المسند: 1809. مترجم في التهذيب والكبير 4/2/298، وابن أبي حاتم 4/2/211. وهذا الحديث لم أجده في شيء من المراجع. وإن كان لابن عباس أحاديث أخر في شأن الصفا والمروة والسعي بينهما. من ذلك الحديث الماضي: 2342. وحديث في المستدرك 2: 270-271، وصححه الحاكم والذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 فإذ كان صحيحًا بإجماع الجميع من الأمة - أنّ الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته في مناسكهم، وعمله في حَجَّه وعُمرته = وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمَّته جُمَلَ ما نَصّ الله في كتابه، وفَرَضه في تنزيله، وأمرَ به مما لم يُدْرَك علمه إلا ببيانه، لازمًا العمل به أمته، كما قد بينا في كتابنا"كتاب البيان عن أصول الأحكام" - إذا اختلفت الأمة في وُجُوبه، (1) ثم كان مُختلفًا في الطواف بينهما: هل هو واحبٌ أو غير واجب = كان بينًا وجُوب فرضه على مَنْ حجَّ أو اعتمر، (2) لما وصفنا. وكذلك وُجوب العوْد لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلَفًا فيما عَلى مَنْ تركه، مع إجماع جَميعهم على أنّ ذلك مما فَعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علَّمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم، إذ علَّمهم مناسك حجهم وعُمْرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تُجْزي منه فديةٌ ولا بَدلٌ، ولا يجزي تاركه إلا العودُ لقضائه = كان نظيرًا له الطوافُ بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية وَلا جزاءٌ، ولا يجزي تاركَه إلا العودُ لقضائه، إذ كانا كلاهما طَوافين: أحدهما بالبيت، والآخرُ بالصفا والمروة.   (1) كان في المطبوعة: "لما قد بينا"، وهو خطأ يختل به الكلام. وقوله: "وكان بيانه. . . " إلى قوله: "إذا اختلفت الأمة في وجوبه" جملة فاصلة معطوفة على التي قبلها وسياقها وسياق معناها: وكان بيانه لأمته جمل ما نص الله في كتابه. . -مما لا يدرك علمه إلا ببيانه- لازمًا العمل به أمته. . . إذا اختلفت الأمة في وجوبه. (2) وهذه الجملة من تمام قوله ومن سياقها: "وإذا كان صحيحًا بإجماع الأمة. . . كان بينًا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 ومن فَرَّق بين حكمهما عُكس عليه القولُ فيه، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما. فإن اعتل بقراءة من قرأ:"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوف بهما". قيل: ذلك خلافُ ما في مصاحف المسلمين، غيرُ جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها. وسواء قَرَأ ذلك كذلك قارئ، أو قرأ قارئ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج: 29] ،"فَلا جناح عليهم أنْ لا يَطَّوَّفوا به". (1) فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف، (2) كانت الأخرى نظيرَتها، وإلا كان مُجيزُ إحداهما - إذا منع الأخرى - مُتحكمًا، والتحكم لا يعجِزُ عنه أحدٌ. وقد رُوي إنكار هذه القراءة، وأن يكون التنزيل بها، عن عائشة. 2367- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السِّن: أرأيت قول الله عز وجل:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله فَمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما"، فما نرَى على أحد شَيئًا أنْ لا يَطَّوَّف بهما! فقالت عائشة: كلا! لو كانت كما تقول، كانت:"فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّف بهما"، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلّون لمناة -وكانت مَناة حَذوَ قَديد-، وكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوةَ من شَعائر الله فمن حَجّ   (1) كان في المطبوعة: "فلا جناح عليه"، وهو خطأ بين. ويعني: أن يجعل القارئ قوله: "فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا بهما" من تمام آية سورة الحج السالفة، فيزيد في القرآن ما ليس فيه. (2) في المطبوعة: "فإن جاءت إحدى الزيادتين" تصحيف، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 البيت أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوف بهما". * * * قال أبو جعفر: وقد يحتمل قراءة من قرأ:"فلا جُناحَ عَليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما"، أن تكون"لا" التي مع"أن"، صلةً في الكلام، (1) إذْ كان قد تقدَّمها جَحْدٌ في الكلام قبلها، وهو قوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: 12] ، بمعنى ما منعك أن تسجدَ، وكما قال الشاعر: (2) مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا ... والطَّيِّبَانِ أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (3) ولو كان رسمُ المُصحف كذلك، لم يكن فيه لمحتجّ حجة، مع احتمال الكلام ما وصفنا. لما بيَّنا أن ذلك مما عَلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته في مناسكهم، على ما ذكرنا، ولدلالة القياس على صحته، فكيف وهو خلافُ رُسوم مصاحف المسلمين، ومما لو قَرَأه اليوم قارئ كان مستحقًّا العقوبةَ لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه؟ * * *   (1) قوله: "صلة"، أي زيادة ملغاة، وانظر ما سلف 1: 190، 405 وفهرس المصطلحات، وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 95، فقد ذكر هذا الوجه. (2) هو جرير. (3) سلف تخريجه في 1: 191-192. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) } قال أبو جعفر: اختلف القرَأء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قُراء أهل المدينة والبصرة:"ومن تَطوَّع خَيرًا" على لفظ المضيّ ب"التاء" وفتح"العين". وقرأته عامة قراء الكوفيين:"وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيرًا" ب"الياء" وجَزم"العين" وتشديد"الطاء"، بمعنى: ومن يَتطوع. وذُكر أنها في قراءة عبد الله:"ومَنْ يَتطوَّعْ"، فقرأ ذلك قُرّاء أهل الكوفة، على ما وصفنا، اعتبارًا بالذي ذكرنا من قراءَة عبد الله -سوى عَاصم، فإنه وافق المدنيين- فشددوا"الطاءَ" طلبًا لإدغام"التاء" في"الطاء". وكلتا القراءتين معروفة صحيحة، متفقٌ معنياهما غيرُ مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل. فبأيّ القراءتين قرأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ. * * * (1) [والصواب عندنا في ذلك، أن] معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قَضَاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكرٌ له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاءَ وجهه، فمجازيه به، عليمٌ بما قصد وأراد بتطُّوعه بما تطوع به. وَإنما قُلنا إنّ الصوابَ في معنى قوله:"فمن تطوَّع خيرًا" هو ما وصفنا، دون قول من زَعم أنه معنيٌّ به: فمن تَطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعًا بالسعي بينهما، إلا في حَج تطوع أو عُمرة تطوع، لما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك كان معلومًا أنه إنما عنى بالتطوع بذلك، التطُّوعَ بما يعملُ ذلك فيه من حَجّ أو عمرة. * * *   (1) زدت ما بين القوسين، استظهارًا من قوله بعد: "وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله. . . " والظاهر أنها مما سقط من ناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وأما الذين زعموا أنّ الطواف بهما تطوُّع لا واجب، فإنّ الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوَّع بالطواف بهما، فإنّ الله شاكر =لأن للحاج والمعتمِر على قولهم الطوافَ بهما إن شاء، وتركَ الطواف. فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة، فإنّ اللهَ شَاكرٌ تطوُّعَه ذلك= عليمٌ بما أراد ونَوَى الطائف بهما كذلك، كما:- 2368- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكرٌ عَليمٌ" قال، من تطوع خيرًا فهو خيرٌ له، تطوَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من السنن. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوع خَيرًا فاعتمر. * ذكر من قال ذلك: 2369- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكر عليم"، من تطوع خيرًا فاعتمر فإن الله شاكر عليمٌ. قال: فالحج فريضةٌ، والعمرةُ تطوع، ليست العمرة واجبةً على أحد من الناس. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله: (1) "إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات"، علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. * * * و"البينات" التي أنزلها الله: (2) ما بيّن من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما. * * * ويعني تعالى ذكره ب"الهدى" ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، (3) في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم،"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا" الآية. كما:- 2370- حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن   (1) في المطبوعة: يقول: "إن الذين يكتمون. . . "، وهو خطأ ناسخ، صوابه ما أثبت. (2) في المطبوعة: "من البينات"، كأنه متصل بالكلام قبله، وهو لا يستقيم، وكأن الصواب ما أثبت. (3) كان في المطبوعة"ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم"، وهي عبارة لا تستقيم وسياق معنى الآية يقتضي ما أثبت، من جعل"يعلمون""يعلنونه"، وزيادة"بعد"، وجعل"إيضاحي""إيضاحيه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه، وأبوْا أن يُخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون". (1) 2371- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى" قال، هم أهل الكتاب. 2372- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2373- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع في قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" قال، كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، فكتموه حسدًا وبغيًا.   (1) الأثر رقم: 2370- في سيرة ابن هشام 2: 200 كما في رواية ابن حميد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 2374- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، أولئكَ أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. 2374م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الذين يَكتمونَ ما أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، (1) قال له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! = قال: مُحمد:"البينات". (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من بعد ما بيناه للناس"] ، (3) بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله:"للناس في الكتاب"، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل. * * * وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس. وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال   (1) في سيرة ابن هشام، وغيرها بالغين المعجمة غير مضبوط باللفظ، ولكن ابن حجر ضبطه في الإصابة، وقال: "بفتح المهملة والنون"، ولم يذكر شكًا ولا اختلافًا في ضبطه بالغين المعجمة. (2) قوله: "قال: محمد البينات" من تفسير السدي، ليس من الخطاب بين ثعلبة بن غنمة واليهودي. ويعني أن البينات التي يكتمونها هي محمد صلى الله عليه وسلم، أي صفته ونعته في كتابهم. (3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وقد استظهرتها من نهج أبي جعفر في جميع تفسيره. وهذا سقط من الناسخ بلا ريب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 2375- من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه، ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار." (1) * * * وكان أبو هريرة يقول ما:- 2376- حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني، عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا"إنّ الذين يكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون"، (2) 2377- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب، قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدَّثت شيئًا: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) إلى آخر الآية، والآية الأخرى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية [سورة آل عمران: 178] . (3) * * *   (1) الحديث: 2375- هذا حديث صحيح. ذكره الطبري هنا معلقًا دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 7561، من حديث أبي هريرة. وخرجناه في شرح المسند، وفي صحيح ابن حبان بتحقيقنا، رقم: 95. (2) الحديث: 2376- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: ثقة، من شيوخ أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/106، وابن أبي حاتم 4/1/471. حاتم بن وردان السعدي: ثقة، روى له الشيخان. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/72، وابن أبي حاتم 1/2/260. أيوب السختياني: مضى في: 2039. ولكن روايته هنا عن أبي هريرة منقطعة، فإنه ولد سنة 66، وأبو هريرة مات سنة 59 أو نحوها. ومعنى الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة، بروايات أخر متصلة، كما سنذكر في الحديث بعده. (3) الحديث: 2377- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: الإمام الحافظ المصري، فقيه عصره، قال ابن خزيمة: "ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين - منه". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/2/300-301، وتذكرة الحفاظ 2: 115-116. أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري، مؤذن الفسطاط: ثقة، قال أبو حاتم: "محله الصدق". ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/27، وقال: "روى عنه عبد الرحمن، ومحمد، وسعد، بنو عبد الله بن عبد الحكم". وترجم أيضًا في لسان الميزان 6: 235، ونقل عن ابن يونس، أنه مات في ربيع الأول سنة 211"وكانت القضاة تقبله"، وروى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. في فتوح مصر مرارًا، منها في ص: 182 س 3-4: "حدثنا وهب الله بن راشد، أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب. . . ". وهذا الإسناد ثابت في تاريخ ولاة مصر للكندي، ص 33، عن علي بن قديد، عن عبد الرحمن: "حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد". وذكره الدولابي في الكنى والأسماء 1: 182، وروى: "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان الجيزى، قالا: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، إلخ". ورواية الربيع الجيزى عنه، ثابتة في كتاب الولاة، ص 313، أيضًا. وهذا الاسم"وهب الله": من نادر الأسماء، لم أره -فيما رأيت- إلا لهذا الشيخ، ولم يذكره أصحاب المشتبه، بل لم يذكره الزبيدي في شرح القاموس، على سعة اطلاعه. واشتبه أمره على ناسخي الطبري أو طابعيه، فثبت في المطبوعة هكذا: "ثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد"؛ فحرفوا"وهب الله" إلى"وعبد الله" - فجعلوه راويين! يونس: هو ابن يزيد الأيلي، وهو ثقة، عرف بالراوية عن الزهري وملازمته. قال أحمد بن صالح: "نحن لا نقدم في الزهري أحدًا على يونس"، وقال: "كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/406، وابن أبي حاتم 4/2/247-249، وابن سعد 7/2/206. وهذا الحديث جزء من حديث مطول، رواه مسلم 2: 261-262، من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب -فذكر حديثًا عن عائشة- ثم: "قال ابن شهاب: وقال ابن المسيب: إن أبا هريرة قال. . . ". ورواه عبد الرزاق في تفسيره، ص 14-15، عن معمر، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، بنحوه مطولا. ورواه أحمد في المسند: 7691، عن عبد الرزاق. ورواه البخاري 5: 21 (فتح) ، بنحوه، من رواية إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن الأعرج. ورواه البخاري أيضًا 1: 190-191 (فتح) من رواية مالك، عن الزهري، عن الأعرج وكذلك رواه ابن سعد 2/2/118، وأحمد في المسند: 7274- كلاهما من طريق مالك. وروى الحاكم في المستدرك 2: 271، نحوه مختصرًا، من طريق أبي أسامة، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك يَلعنهم الله"، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزلهُ الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفَته وأمر دينه، أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 الحق -من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس. * * * و"اللعنة""الفَعْلة"، من"لعنه الله" بمعنى أقصاه وأبعده وأسْحَقه. وأصل"اللعن": الطرْد، (1) كما قال الشماخ بن ضرار، وذكر ماءً ورَد عليه: ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ الَّلعِينِ (2) يعني: مقامَ الذئب الطريد. و"اللعين" من نعت"الذئب"، وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل. (3) * * * فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق الله مَا لَعنوا أن يقولوا:"اللهم العنه" إذْ كان معنى"اللعن" هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد. وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم أن يَلعَنهم، وقولهم:"لعنه الله" أو"عليه لعنة الله"، لأن:- 2378- محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم، قال: إذا أسنَتَتِ السَّنة، (4) قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة بني آدم، لعنَ الله عُصَاة بني آدم! * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب"اللاعنين". فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها.   (1) انظر ما سلف 2: 328. (2) سلف تخريجه وشرحه في 2: 328. وفي التعليق هناك خطأ صوابه"مجاز القرآن: 46". (3) كان في المطبوعة: "الطريد واللعين"، والصواب طرح الواو. (4) أسنتت الأرض والسنة: أجدبت، وعام مسنت مجدب. والسنة: القحط والجدب. وكان في المطبوعة: "أسنت"، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور 1: 162: "إذا اشتدت السنة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 * ذكر من قال ذلك: 2379- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم. 2380- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون" قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ بخطايا بني آدم. 2381- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض، تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم. 2382- حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله:"أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون" قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ، يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم. (1) 2383- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، اللاعنون: البهائم. 2383م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، البهائمُ، تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم. 2384- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله   (1) الخبر: 2382- مشرف بن أبان الحطاب البغدادي: ثبت هنا على الصواب، كما ظهر في: 1951. وقد مضى ذلك مغلوطًا"بشر بن أبان": 1383. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم: الإبل والبقرُ والغنم، فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض. * * * فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض، وقد علمتَ أنّها إذا جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، (1) فإنما تجمعه بغير"الياء والنون" وغير"الواو والنون"، وإنما تجمعه ب"التاء"، وما خالفَ ما ذكرنا، فتقول:"اللاعنات" ونحو ذلك؟ قيل: الأمر وإن كان كذلك، فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب"التاء" وبغير صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم، كما قال تعالى ذكره: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) [سورة فصلت: 21] ، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها، وكما قال: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) [سورة النمل: 18] ، وكما قال: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [سورة يوسف: 4] . * * * وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"ويَلعنهم اللاعنون"، الملائكة والمؤمنين. * ذكر من قال ذلك: 2385- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويَلعنهم اللاعنون"، قال، يَقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين. (2)   (1) الضمير في قوله: "أنها إذا جمعت"، للعرب، وإن لم يجر لها ذكر في الكلام. (2) في المطبوعة: "يزيد بن زريع عن قتادة" بإسقاط"قال حدثنا سعيد"، والصواب ما أثبته، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه رقم: 2374. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 2386- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، الملائكة. 2387- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"اللاعنون"، من ملائكة الله والمؤمنين. * * * وقال آخرون: يعني ب"اللاعنين"، كل ما عدا بني آدم والجنّ. * ذكر من قال ذلك: 2388- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويلعنهم اللاعنون" قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته، إلا الثقلين الجن والإنس. 2389- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق (1) فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شَيء إلا لعنه. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال:"اللاعنون"، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، (2) فكذلك   (1) المطرق والمطرقة: وهي أداة الحداد التي يضرب بها الحديد. (2) هي الآية رقم: 161، تأتي بعد قليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، (1) هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، (2) وهم"اللاعنون"، لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر. * * * وأما قول من قال إن"اللاعنين" هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، (3) فإنه قول لا تدرك حَقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة، ولا خبرَ بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك. وإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [قول] أهل التأويل، (4) وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته، بعد علمهم به، وتلعن معهم جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى ب"اللاعنين" البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض، إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على خلافه. (5) * * *   (1) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو سهو ناسخ. (2) في المطبوعة: "هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة. . . "، والصواب ما أثبت. (3) كل ماش على وجه الأرض يقال له: دابة ودبيب. (4) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون سقطت من ناسخ. (5) في المطبوعة: "وكتاب الله الذي ذكرناه"، وهو كلام لا يقال. والصواب ما أثبت. والذي ذكره آنفًا: "إن الدليل من ظاهر كتاب الله. . . ". هذا، ورد قول هؤلاء القائلين بما قالوه، مبين لك عن نهج الطبري وتفسيره، وكاشف لك عن طريقته في رد الأخبار التي رواها عن التابعين، في كل ما يحتاج إلى خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطع بالبيان عما ذكروه. والطبري قد يذكر مثل هذه الأخبار، ثم لا يذكر حجته في ردها، لأنه كره إعادة القول وتريده فيما جعله أصلا في التفسير، كما بين ذلك في"رسالة التفسير"، ثم في تفسيره بعد، ورد أشباهه في مواضع متفرقة منه. أما إذا كان في شيء من ذلك خبر قاطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يدع ذكره، فإذا لم يذكر -فيما أشبه ذلك- خبرًا عن رسول الله، فاعلم أنه يدع لقارئ كتابه علم الوجه الذي يرد به هذا القول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبَيَّنه للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه ="فأولئك"، يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي. ثم قال تعالى ذكره:"وَأنا التواب الرحيم"، يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عنّى إليَّ، والرادُّها بعد إدبارها عَن طاعتي إلى طلب محبتي، والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إليَّ، أتغمدهم مني بعفو، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم، بفضل رحمتي لهم. * * * فإن قال قائل: وكيف يُتاب على من تاب؟ وما وَجه قوله:"إلا الذينَ تابوا فأولئك أتوب عليهم"؟ وهل يكون تائبٌ إلا وهو مَتُوب عليه، أو متوب عليه إلا وهو تائب؟ قيل: ذلك مما لا يكون أحدُهما إلا والآخر معه، فسواء قيل: إلا الذين تِيبَ عليهم فتابوا - أو قيل: إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم. وقد بيَّنا وَجه ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 فيما جاء من الكلام هذا المجيء، في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2390- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إلا الذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنوا"، يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله، وبيَّنوا الذي جاءهم من الله، فلم يكتموه ولم يجحدوا به: أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم. 2391- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا الذين تَابوا وأصلحوا وبَينوا" قال، بيّنوا ما في كتاب الله للمؤمنين، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كله في يهود. * * * قال أبو جعفر: وقد زعم بعضهم أن معنى قوله:"وبيَّنوا"، إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، (2) على كتمانهم ما أنزلَ الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان، فأخرجهم من عِداد مَنْ يَلعنه الله ويَلعنه اللاعنون (3) = ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل. والذين استثنى اللهُ من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد   (1) انظر ما سلف 2: 549. (2) في المطبوعة: "في مثل هذه الآية"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. (3) في المطبوعة: "فأخرجهم من عذاب من يلعنه الله"، وهو تصحيف، صوابه ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 ما بيَّنه للناس في الكتاب، (1) عبدُ الله بن سلام وذَووه من أهل الكتاب، (2) الذين أسلموا فحسن إسلامهم، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن الذين جَحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به = من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان ="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا وهم على جُحودهم ذلك وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم،"أولئك عَليهم لَعنةُ الله والملائكة"، يعني: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله، يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته،"والملائكة"، يعني ولَعنهم الملائكةُ والناس أجمعون. ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم:"عليهم لعنة الله". * * * وقد بينا معنى"اللعنة" فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (3) * * * فإن قال قائل: وكيف تَكونُ على الذي يموت كافرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم [لعنةُ الناس أجمعين] من أصناف الأمم، (4) وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه؟   (1) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو خطأ وسهو. (2) قوله: "وذووه"، أي أصحابه وأهل ملته، بإضافة"ذو" إلى الضمير، وللنحاة فيه قول كثير، وزعموا أن ذلك يكون في ضرورة الشعر، وليس كذلك، بل هو آت في النثر قديمًا، بمثل ما استعمله الطبري. (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 254، والتعليق: 1، ومراجعه. (4) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام والسؤال، ولم يكن لهما معنى محدود مفهوم، واستظهرت الزيادة من جواب هذا السؤال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى الله بقوله:"والناس أجمعين"، أهلَ الإيمان به وبرسوله خاصة، دون سائر البشر. * ذكر من قال ذلك: 2392- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والناس أجمعين"، يعني: ب"الناس أجمعين"، المؤمنين. 2393- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والناس أجمعين"، يعني بـ "الناس أجمعين"، المؤمنين. * * * وقال آخرون: بل ذلك يومَ القيامة، يُوقَفُ على رءوس الأشهاد الكافرُ فيلعنه الناس كلهم. * ذكر من قال ذلك: 2394- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: أن الكافر يُوقَف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون. * * * وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنًا من كان:"لَعنَ الله الظالم"، فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظَّلمة. * ذكر من قال ذلك: 2395- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أولئك عليهم لَعنة الله والملائكة والناس أجمعين"، فإنه لا يتلاعن اثنان مُؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما:"لعن الله الظالم"، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر، لأنه ظالم، فكل أحد من الخلق يلعنه. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قولُ من قال: عنى الله بذلك جَميعَ الناس، بمعنى لعنهم إياهم بقولهم:"لعن الله الظالم - أو الظالمين". فإن كلّ أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنًا من كان، (1) ومن أي أهل ملة كان، فيدخل بذلك في لعنته كلّ كافرٍ كائنًا من كان. وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية. لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شَهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18] وأما ما قاله قتادة، من أنه عنى به بعضَ الناس، فقولٌ ظاهرُ التنزيل بخلافه، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظن أن المعنيَّ به المؤمنون، من أجل أن الكفار لا يَلعنون أنفسهم ولا أولياءهم، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يَلعنونهم في الآخرة. ومعلومٌ منهم أنّهم يَلعنون الظَّلمة، وداخلٌ في الظَّلمة كل كافر، بظلمه نفسه، وجحوده نعمةَ ربه، ومخالفته أمرَه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) } * * * قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما الذي نصب"خالدين فيها"؟ قيل: نُصب على الحال من"الهاء والميم" اللتين في"عليهم". وذلك أنّ معنى قوله:"أولئكَ عَليهم لعنة الله"، أولئك يلعنهم الله والملائكةُ والناس أجمعون خالدين فيها. ولذلك قرأ ذلك:"أولئك عَليهم لعنة الله والملائكةُ والناس أجمعون"   (1) في المطبوعة: "لا يمنع من قيل ذلك"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 مَنْ قرأَهُ كذلك، (1) توجيهًا منه إلى المعنى الذي وصفتُ. وذلك وإن كان جائزًا في العربية، فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به، لأنه خلافٌ لمصاحف المسلمين، وما جاء به المسلمون من القراءة مستفيضًا فيهم. فغير جائز الاعتراضُ بالشاذّ من القول، على ما قد ثبتت حُجته بالنقل المستفيض. * * * وأما"الهاء والألف" اللتان في قوله:"فيها"، فإنهما عائدتان على"اللعنة"، والمرادُ بالكلام: ما صار إليه الكافر باللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس. والذي صار إليه بها، نارُ جهنم. وأجرى الكلام على"اللعنة"، والمراد بها ما صار إليه الكافر، كما قد بينا من نظائر ذلك فيما مضى قبل، كما:- 2396- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"خالدين فيها"، يقول: خالدين في جهنم، في اللعنة. * * * وأما قوله:"لا يخفّف عنهم العذاب"، فإنه خبرٌ من الله تعالى ذكره عن دَوَام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف، كما قال تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) [سورة فاطر: 36] ، وكما قال: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [سورة النساء: 56] * * * وأما قوله:"ولا هم يُنظرون"، فإنه يعني: ولا هُم يُنظرون بمعذرة يَعتذرون، كما:- 2397- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا هم ينظرون"، يقول: لا يُنظرون فيعتذرون،   (1) في المطبوعة: "والناس أجميعن"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت، برفع"الملائكة والناس أجمعون"، وهي قراءة الحسن. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 96-97، وتفسير هذه الآية في سائر كتب التفسير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 كقوله: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) . [سورة المرسلات: 35-36] * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى"الألوهية"، وأنها اعتباد الخلق. (1) فمعنى قوله:"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم": والذي يستحق عَليكم أيها الناس الطاعةَ له، ويستوجب منكم العبادة، معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحد، فلا تعبدوا غيرَه، ولا تشركوا معه سواه، فإنّ من تُشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خَلقٌ من خلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثلَ لهُ وَلا نَظير. * * * واختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره، فقال بعضهم: معنى وحدانية الله، معنى نَفي الأشباه والأمثال عنه، كما يقال:"فلان واحدُ الناس - وهو وَاحد قومه"، يعني بذلك أنه ليسَ له في الناس مثل، ولا له في قومه شبيه ولا نظيرٌ. فكذلك معنى قول:"اللهُ واحد"، يعني به: الله لا مثل له ولا نظير. فزعموا أن الذي دلَّهم على صحة تأويلهم ذلك، أنّ قول القائل:"واحد" يفهم لمعان أربعة. أحدها: أن يكون"واحدًا" من جنس، كالإنسان"الواحد" من الإنس. والآخر: أن يكون غير متفرِّق، كالجزء الذي لا ينقسم. (2) والثالث:   (1) انظر ما سلف 1: 122-126. (2) في المطبوعة: "غير متصرف"، وهو تصحيف، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 أن يكون معنيًّا به: المِثلُ والاتفاق، كقول القائل:"هذان الشيئان واحد"، يراد بذلك: أنهما متشابهان، حتى صارَا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد. والرابع: أن يكون مرادًا به نفي النظير عنه والشبيه. قالوا: فلما كانت المعاني الثلاثةُ من معاني"الواحد" منتفيةً عنه، صح المعنى الرابع الذي وَصَفناه. * * * وقال آخرون: معنى"وحدانيته" تعالى ذكره، معنى انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنما كان منفردًا وحده، لأنه غير داخل في شيء ولا داخلٌ فيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول القائل:"واحد"، من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعةَ التي قالها الآخرون. * * * وأما قوله:"لا إله إلا هو"، فإنه خبرٌ منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيرُه، ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه، وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه، والواجبُ على جميعهم طاعته والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجْر الأوثان والأصنام. لأنّ جميع ذلك خلقُه، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تَنبغي الألوهة إلا له، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك؛ (1) وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا ينفعُ في عاجل ولا في آجل، ولا في دنيا ولا في آخرة. وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهلَ الشرك به على ضلالهم، ودعاءٌ منه لهم إلى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم.   (1) الأشراك جمع شريك، كما يقال: شريف وأشراف، ونصير وأنصار، ويجمع أيضًا على"شركاء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها، موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حُججي وفكروا فيها، فإن من حُججي خَلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلكُ التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثتُ فيها من كل دابة، والسحاب الذي سَخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي الذي سميتُ لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ، وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غَيري. فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة فضْل حكمة الله وبَيانه. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} * * * قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هُو الرحمنُ الرحيم" فتلا ذلك عَلى أصحابه، وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك، ونحن نزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك:"إن في خَلق السموات والأرض"، احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم. * ذكر من قال ذلك: 2398- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار"، إلى قوله:"لآياتٍ لقوم يَعقلون"، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [آية] ، (1) فأنزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح. * ذكر من قال ذلك: 2399- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه،   (1) الزيادة بين القوسين لا يتم الكلام إلا بها، ويدل عليها ما سيأتي في الآثار بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 عن أبي الضحى قال: لما نزلت"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار"، الآية. 2400- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية. 2401- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال، حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ، فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنزل الله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية. 2402- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنزلت هذه الآية:"إنّ في خلق السموات والأرض". 2403- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات، فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنزداد يقينًا، ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه، فأوحى إليه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 إنّي مُعطيهم، فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا، ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنزل الله عليه:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، الآية: إن في ذَلك لآية لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا، فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا. 2404- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (1) غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده = على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء = بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نزلت فيما قاله عطاء، وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى، ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت. * * *   (1) في المطبوعة: "فقال المشركون للنبي. . . "، والصواب طرح هذه الفاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما. * * * ومعنى"خلق" الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة. وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل:"الأرض"، ولم تجمع كما جُمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته (1) * * * فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال:"إنّ في خلق السموات والأرض"؟ قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية، وبالتي في سورة: الكهف: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف: 51] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله، والإرادة خلق لها. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 431-437. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وقال آخرون: خلق الشيء صفة له، لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا -بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون. * * * وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره. فمعنى قوله:"إن في خلق السموات والأرض": إنّ في السموات والأرض. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واختلاف الليل والنهار"، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس. * * * وإنما"الاختلاف" في هذا الموضع"الافتعال" من"خُلوف" كل واحد منهما الآخر، (2) كما قال تعالى ذكره: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [سورة الفرقان: 62] . بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده، وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل:"خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء"، ومنه قول زهير: بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَم (3) * * *   (1) لم يتبع أبو جعفر في هذا الموضع ما درج عليه من ترجيح القول الذي يختاره. وهذا مما يدل على ما ذهبنا إليه، أنه كان يختصر كلامه أحيانًا، مخافة الإطالة. هذا إذا لم يكن في المخطوطات خرم أو اختصار من ناسخ أو كاتب. (2) "خلوف" مصدر"خلف"، ولم أجده في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق في قياسه. (3) ديوانه: من معلقته العتيقة. والهاء في"بها" إلى"ديار أم أوفى" صاحبته. والعين جمع عيناء: وهي بقر الوحش، واسعة العيون جميلتها. والآرام جمع رئم: وهي الظباء الخوالص البياض، تسكن الرمل. "خلفة" إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه. يصف مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة. والأطلاء جمع طلا: وهو ولد البقرة والظبية الصغير. ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في هذه الرملة، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه. يصف اختلاف الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى، وقد وقف بها من بعد عشرين حجة -، كما ذكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وأما"الليل". فإنه جَمْع"ليلة"، نظيرُ"التمر" الذي هو جمع"تمرة". وقد يجمع"ليالٍ"، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم"الياء" في ذلك نظير زيادتهم إياها في"ربَاعية وثَمانية وكرَاهية". * * * وأما"النهار"، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه"النُّهُر"، قال الشاعر: لَوْلا الثّرِيدانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ (1) ءولو قيل في جمع قليله"أنهِرَة" كان قياسًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر. * * * و"الفلك" هو السُّفن، واحدُه وجمعه بلفظ واحد، ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [سورة يس: 41] ، فذكَّره. * * * وقد قال في هذه الآية:"والفلك التي تجري في البحر"، وهي مُجْراة، لأنها   (1) تهذيب الألفاظ: 422، والمخصص 9: 51، واللسان (نهر) ، والأزمنة والأمكنة 1: 77، 155 وغيرها. ورواية اللسان والمخصص"لمتنا بالضمر". والضمر (بضم الميم وسكونها) مثل العسر والعسر: الهزال ولحاق البطن من الجوع وغيره. والثريد: خبز يهشم ويبل بماء القدر ويغمس فيه حتى يلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 إذا أجريت فهي"الجارية"، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها. (1) * * * وأما قوله:"بما ينفع الناس"، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وما أنزل اللهُ من السماء من مَاء"، وفيما أنزلهُ الله من السماء من ماء، وهو المطر الذي يُنزله الله من السماء. وقوله:"فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها"، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و"الهاء" التي في"به" عائدة على"الماء" و"الهاء والألف" في قوله:"بعد موتها" على الأرض. و"موت الأرض"، خرابها، ودُثور عمارتها، وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله:"وبث فيها منْ كلّ دَابة"، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 196. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 ومعنى قوله:"وبَث فيها"، وفرَّقَ فيها، من قول القائل:"بث الأميرُ سراياه"، يعنى: فرَّق. و"الهاء والألف" في قوله:"فيها"، عائدتان على"الأرض". * * * "والدابة""الفاعلة"، من قول القائل:"دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة"."والدابة"، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وتصريف الرياح"، وفي تصريفه الرياح، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول، كما تقول: (1) "يعجبني إكرام أخيك"، تريد: إكرامُك أخَاك. * * * "وتصريف" الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ، ومرة يجعلها عَقيما، ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:- 2405- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخر" قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك، إذا شَاء [جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح، إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "كما قال: يعجبني. . يريد"، والصواب ما أثبت. (2) الزيادة بين القوسين من نص الدر المنثور 1: 164، من نص تفسير قتادة الذي أخرجه الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله:"وتصريف الرياح"، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. (1) وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها، لأن"تصريفها" تصريفُ الله لها،"وتصرفها" اختلافُ هُبوبها. وقد يجوز أن يكون معنى قوله:"وتصريف الرياح"، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والسحاب المسخر"، وفي السحاب، جمع"سحابة". يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) [سورة الرعد: 12] فوحّد المسخر وذكره، كما قالوا:"هذه تَمرة وهذا تمر كثير". في جمعه،"وهذه نخلة وهذا نخل". (2) وإنما قيل للسحاب"سحاب" إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه، من قول القائل:"مرّ فلان يَجر ذَيله"، يعني:"يسحبه". * * * فأما معنى قوله:"لآيات"، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ. (3) * * *   (1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 97. (2) في المطبوعة: "كما قال: هذه ثمرة. . . "، والصواب ما أثبته. (3) انظر معنى"آية" فيما سلف 1: 106، وفهارس اللغة. وقد ترك الطبري تفسيره"المسخر"، وكأن في الأصول اختصارًا من ناسخ أو كاتب، إن لم يكن من الطبري نفسه، كما أشرت إليه فيما مضى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 "لقوم يعقلون"، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب، وعليهم العقاب. * * * فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟ قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه، وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [شيء] ، وبارئًا لا مِثْل له. (1) وذلك وإن كان كذلك، فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم، غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. (2) فحاجَّهم تعالى ذكره فقال -إذ أنكروا قوله:"وإلهكم إلهٌ واحد"، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة-: [إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر] (3) وذلك هو معنى قوله:"والفلك التي تجري في البحر بما   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها هنا. (2) انظر ما سلف في 1: 371، والرد على من ظن أن العرب كانت غير مقرة بالوحدانية. (3) هذه الجملة قد سقط منها شيء كثير، فاختلت واضطربت، وكأن صوابها ما يأتي: [إنّ إلهكم الذي خلق لَكم السَّموَات والأرض، فخلق الأرض وقَدّر لكم فيها أرزاقكم وأقواتكم، وخلق السَّمَوات وأجرى فيها الشمس والقمر دائبين في سيرهما - وذلك هو معنى: (واختلاف الليل والنهار) -وخلق الرياح التي تسوق السفن التي تحملكم فتجريها في البحر لتبتغوا من فضله]- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 ينفع الناس" - وأنزل إليكم الغيثَ من السماء، فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه، وأمرعه بعد دُثوره، فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم (1) -، وذلك هو معنى قوله:"وَمَا أنزل الله من السماء من مَاء فأحيا به الأرض بعد موتها" - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل، ومنها جمالٌ ومراكبُ، ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله:"وبث فيها من كل دابة" - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودَقْه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض". فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم، وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء، ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية. * * * والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة، المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.   (1) أمرع الأرض: صيرها خصبة بعد الجدب. والدثور: الدروس، يريد خرابها وانمحاء آثار عمارتها من النبات وغيره. وكان في المطبوعة: "فينعثكم"، والصواب ما أثبت. ونعشه الله ينعشه: رفعه وتداركه برحمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له = وقد بينا فيما مضى أن"الندّ"، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته. (1) * * * = وأن الذين اتخذوا هذه"الأنداد" من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم. * * * واختلف أهل التأويل في"الأنداد" التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟ * * * فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. * ذكر من قال ذلك. 2406- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم. 2407- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى ذكره:"يحبونهم كحب الله"، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد،"والذين آمنوا أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم. 2408- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.   (1) انظر ما سلف 1: 368-370. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 2409- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله،"والذين آمنوا أشد حبًا لله"، أي من الكفار لأوثانهم. 2410- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتُهم. * * * وقال آخرون: بل"الأنداد" في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره. * ذكر من قال ذلك: 2411- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله. (1) * * * فإن قال قائل: وكيف قيل:"كحب الله"؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال:"يُحيونهم كحب الله"؟ قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما ذلك نظير قول القائل: (2) "بعت غُلامي كبيع غلامِك"، بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك   (1) الأثر: 2411- في المطبوعة: "حدثني موسى قال حدثنا أسباط"، أسقط منه"قال حدثنا عمرو"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقر به رقم: 2404. ثم انظر ص: 288 س: 11 فسيأتي تأويله وبيانه عن قول السدي. (2) في المطبوعة: "وإنما نظير ذلك"، وأثبت أولى العبارتين بالسياق والمعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 غُلامَك،"واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك"، بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في"الغلام" و"الحق"، كما قال الشاعر: فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيَّا ... عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيم الأمِيرِ (1) يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير. * * * فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم:"ولوْ ترى الذين ظَلموا" بالتاء"إذ يَرون العذابَ" بالياء"أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب" بفتح"أنّ" و"أنّ" كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد   (1) لم أعرف قائله. وسيأتي في هذا الجزء 3: 311، وهو من أبيات أربعة في البيان والتبيين 4: 51، ومعاني القرآن للفراء 1: 100، وأمالي الشريف 1: 215. وبعد البيت: أَميرٌ يأكُلُ الفَالُوذَ سِرًّا ... ويُطْعِمُ ضيفَهُ خُبْزَ الشَّعِير! أتذكُرُ إذْ قَبَاؤك جلْدُ شاةٍ ... وَإِذْ نَعْلاَكَ من جِلْدِ البَعِيرِ? فسُبْحان الذي أعطاك مُلْكًا ... وعَلَّمك الجلوسَ على السَّرِير!! (2) في المطبوعة: "كحب الله"، وليس هذا تفسيرًا على سياق كلامه وتفسيره، بل هو نص الآية، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه"أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب". ثم في نصَبْ"أنّ" و"أنّ" في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا -ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا، وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ -إذا فتحت"أن" على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح"أن"، على قراءة من قرأ:"ولو ترى" ب"التاء". والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 يَرى الذين ظلموا عذابَ الله، لأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب، لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف"اللام"، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها. * * * وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء:"ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب". بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال:"إن القوة لله جميعًا" في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة،"وإن الله شديد العذاب" لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا. * * * وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر"إن" في"ترى" بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ"القول" وتَكتفي منه بالمقول. * * * وقرأ ذلك آخرون:"ولو يَرَى الذين ظلموا" بالياء"إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب" بفتح"الألف" من"أنّ""وأنّ"، بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب، إذ يرون العذاب. فتكون"أن" الأولى منصوبة لتعلقها بجواب"لو" المحذوف، ويكون الجواب متروكًا، وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة. * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ:"ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب" بالياء في"يرى" وفتح"الألفين" في"أن""وأن"-: ولو يعلمون، (1) لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم، فإذا قال:"ولو ترى"، فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم. ولو كسر"إنّ" على الابتداء، إذا قال:"ولو يرى" جاز، لأن"لو يرى"، لو يعلم. وقد تكون"لو" في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. (2) تقول للرجل:"أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم" (3) كما قال الشاعر: (4) إنْ يكُنْ طِبَّكِ الدّلالُ، فلَوْ فِي ... سَالِفِ الدَّهْرِ والسِّنِينَ الخَوَالِي! (5)   (1) يريد أن"يرى" بمعنى: يعلم. وقاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: 62. (2) في المطبوعة: "وقد تكون"لو يعلم" في معنى لا يحتاج. . . "، والصواب حذف"يعلم" فإنه أراد"لو" وحدها، وذلك ظاهر في استدلاله بعد. (3) في المطبوعة: "لو يعلم" في الموضعين، والصواب جعل إحداهما بالياء. والأخرى بالتاء. (4) هو عبيد بن الأبرص. (5) ديوانه: 37، من قصيدة جيدة يعاتب امرأته وقد عزمت على فراقه، وقبله: تلكَ عِرْسِي تَرُومُ قِدْمًا زِيَالِي ... أَلِبَيْنٍ تُرِيد أَمْ لِدَلاَلِ? والزيال: المفارقة. وقوله: "طبك"، أي شهوتك وإرادتك وبغيتك. يقول لها: إن كنت الدلال على تبغين وترومين، فقد مضى حين ذلك، أيام كنا شبابًا في سالف دهرنا وليالينا الخوالي! إذ-: أنْت بَيْضَاءُ كالمهاة، وإِذْا ... آتِيكِ نَشْوَانَ مُرْخِيًا أَذْيالِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 هذا ليس له جواب إلا في المعنى، وقال الشاعر (1) وَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ، وَلا ... تَذْهَبْ بِكَ التُّرَّهَاتُ فِي الأهْوَالِ (2) فأضمر: فعيشي. (3) قال: وقرأ بعضهم:"ولو تَرى"، وفتح"أن" على"ترى". وليس بذلك، (4) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: 3] ، ليخبر الناس عن جهلهم، وكما قال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة البقرة: 107] . (5) * * * قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون"أنّ" عاملا فيها قوله:"ولو يرى". وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا، فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في"أن" جواب"لو" الذي هو بمعنى"العلم"، لتقدم"العلم" الأول. (6) * * *   (1) هو عبيد بن الأبرص أيضًا من قصيدته السالفة. (2) ديوانه: 37، وسيأتي في التفسير 7: 117، وهو في الموضعين مصحف. كان هنا"وبحظ ما تعيش". قال لها ذلك بعد أن ذكر أنها زعمت أنه كبر وقل ماله، وضن عنه إخوانه وأنصاره. ثم أمرها أن ترفض مقالة العاذلين، ويعظها أن تعيش معه بما يعيش به. والترهات جمع ترهة: وهي أباطيل الأمور. والأهوال جمع هول: وهو الأمر المخيف. ثم ذكر لها أمر أهلها إذا فارقته إليهم وما تلقاه من أهوال، فقال: مِنْهُمُ مُمْسِكٌ، ومِنْهم عَدِيمٌ، ... وبَخِيلُ عَلَيْكِ فِي بُخّالِ (3) في المطبوعة: "فأضمر: عش"، والصواب ما أثبت، وستأتي على الصواب في الجزء السابع. (4) قوله: "ليس بذلك"، أي قول ضعيف ليس بذلك القوي. (5) انظر ما سلف 2: 484-488. (6) يعني بالعلم الأول"لو يرى" بمعنى"لو يعلم"، والآخر الجواب المحذوف: "لعلموا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب:"أن القوة لله وأن الله شديد العذاب" ممن قرأ:"ولو يَرَى" بالياء، فإنما نصبها بإعمال"الرؤية" فيها، وجعل"الرؤية" واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ:"ولو ترى" بالتاء، فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا، ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر. * * * وقال آخرون منهم: فتح"أنّ" في قراءة من قرأ:"ولو يَرَى الذين ظلموا" بالياء، بإعمال"يرى"، وجوابُ الكلام حينئذ متروك، كما ترك جواب: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ) [سورة الرعد: 31] ، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. (1) وقالوا: جائز كسر"إن"، في قراءة من قرأ ب"الياء"، وإيقاع"الرؤية" على"إذ" في المعنى، وأجازوا نصب"أن" على قراءة من قرأ ذلك ب"التاء"، لمعنى نية فعل آخر، وأن يكون تأويل الكلام:"ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب"، [يرَون] أنّ القوة لله جميعا، (2) وزعموا أن كسر"إنّ" الوجهُ، إذا قرئت:"ولو تَرَى" ب"التاء" على الاستئناف، لأن قوله:"ولو ترى" قد وَقع على"الذين ظلموا". (3) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"ولو تَرَى الذين ظلموا" -بالتاء من"ترى"-"إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب" بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله:"لرأيت" الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله:"ولو ترى الذين ظلموا"، عن ذكره، وإن   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 97، وفيه"معاني الجنة. . . "، والصواب ما في الطبري وإحدى نسخ معاني القرآن. (2) الذي بين القوسين زيادة لا بد منها، وإلا اختل الكلام، واستدركتها من معاني القرآن للفراء 1: 98. (3) هذا قول الفراء في معاني القراء 1: 97-98، مع بعض التصرف في اللفظ. وقوله: "وقع"، و"الوقوع" يعني به تعدي الفعل إليه. وانظر فهرس المصطلحات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 كان جوابًا ل"لو". (1) ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة البقرة: 107] وقد بيناه في موضعه. (2) وإنما اخترنا ذلك على قراءة"الياء"، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب، فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال:"لو رأيت"، لمن لم يرَ، فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له:"لو رأيت". * * * ومعنى قوله:"إذ يَرون العذاب"، إذ يُعاينون العذاب، كما:- 2412- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب"، يقول: لو عاينوا العذاب. * * * وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"ولو تَرَى الذين ظلموا"، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي، حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم، لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة، وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا، ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم، وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري. * * *   (1) في المطبوعة: "وإن كان جوابًا. . . "، والصواب ما أثبت. (2) انظر ما سلف 2: 484-488. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 القول في تأويل قوله تعالى {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب"، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا"، فقال بعضهم بما:- 2413- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ تبرأ الذين اتُّبعوا"، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك،"من الذين اتَّبعوا"، وهم الأتباع الضعفاء،"ورأوا العذاب". 2414- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة. 2415- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء:"إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا" قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم. * * * وقال آخرون بما:- 2416- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "من الذين اتبعوا" مرة أخرى، والصواب"اتبعوهم" كما أثبت، وإلا لم يكن ذلك إلا تكرارًا بلا معنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 أسباط، عن السدي:"إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا"، أما"الذين اتُّبعوا"، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض، بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة. * * * وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا"، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله:"ومنَ الناس مَن يَتخذُ من دُون الله أندادًا"، هم الذين يتبرأون من أتباعهم. وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: (1) "ومن الناس مَنْ يَتخذ من دون الله أندادًا"، أن"الأنداد" في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر، ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم، كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره = وفسد تأويل قول من قال: (2) "إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا"، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد. * * *   (1) انظر الأثر رقم: 2411. (2) قوله: "وفسد" معطوف على قوله: "صح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (166) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا، وإذ تَقطعت بهم الأسباب. * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الأسباب". فقال بعضهم بما:- 2417- حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير،- عن عبيد المكتب، عن مجاهد:"وتَقطعت بهمُ الأسباب" قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا. (1) 2418- حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد:"وتقطَّعت بهم الأسباب" قال، تواصلهم في الدنيا. (2) 2419 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد بمثله.   (1) الخبر: 2417- فضيل بن عياض بن مسعود التميمي الزاهد الخراساني: ثقة، قال ابن سعد: "كان ثقة ثبتًا فاضلا عابدًا ورعًا كثير الحديث". مات في أول المحرم سنة 187 بمكة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/123، والصغير: 209، وابن سعد 5: 366، وابن أبي حاتم 3/2/73. وهذا الخبر يرويه أبو جعفر بإسنادين: من طريقي الفضيل بن عياض، ثم من طريقي جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي - كلاهما عن عبيد المكتب. ثم سيرويه عقب ذلك، بإسنادين آخرين: 2418، 2419، من رواية سفيان، وهو الثوري، عن عبيد المكتب. و"عبيد المكتب"، بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء المثناة، من"الإكتاب"، أي تعليم الكتابة: هو عبيد بن مهران الكوفي، وهو ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 237، وابن أبي حاتم 3/1/2. (2) الخبر: 2418- إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، شيخ الطبري: ثقة مأمون. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/211، وتاريخ بغداد 6: 370. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 2420- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، المودّة. 2421- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2422- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا. 2423- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"وتقطّعت بهم الأسباب" قال، المودة. 2424- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وتقطعت بهم الأسباب"، أسبابُ الندامة يوم القيامة، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها، فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثم يوم القيامة يكفر بعضُكم ببعض، ويلعن بعضُكم بعضًا، ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) [سورة الزخرف: 67] ، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين. 2425- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا. 2426- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول: الأسبابُ، الندامة. * * * وقال بعضهم: بل معنى"الأسباب"، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 * ذكر من قال ذلك: 2427- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ. 2428- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، الأسباب المنازل. * * * وقال آخرون:"الأسباب"، الأرحام. * ذكر من قال ذلك: 2429- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، وقال ابن عباس:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، الأرحام. * * * وقال آخرون:"الأسباب"، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا. * ذكر من قال ذلك: 2430- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"وتقطعت بهم الأسباب"، فالأعمال. 2431- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، أسباب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون، والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 قال أبو جعفر: (1) "والأسباب"، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و"السبب" الحبل."والأسباب" جمع"سَبب"، وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل"سبب"، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق"سبب"، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة"سبب"، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة"سَبب"، للوصول بها إلى الحاجة، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو"سبب" لإدراكها. فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: "وتقطعت بهم الأسباب" أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم -من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ = عند معاينتهم عذابَ الله = المتبوعُ من التابع، وتتقطع بهم الأسباب. وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [سورة إبراهيم: 22] ، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا، فقال تعالى ذكره: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ) [سورة الصافات:24-25] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه، وإن كان نسيبه لله وليًّا، فقال تعالى ذكره في ذلك: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [سورة التوبة: 114] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات. وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب، فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة   (1) من أول هذه الفقرة، كلام أبي جعفر، وأخشى أن يكون سقط شيء قبله. وهذا الابتداء على كل حال، جار على غير النهج الذي سار عليه كتابه من قبل ومن بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم، (1) ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة. فلا مَعْنِىَّ أبلغُ -في تأويل قوله:"وتقطعت بهم الأسباب"- من صفة الله [ذلك] وذلك ما بيَّنا من [تقطّع] جَميع أسبابهم دون بَعضها، (2) على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه، وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"وقَال الذين اتَّبعوا"، وقال أتباع الرجال -الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله، ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم، إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة-:"لو أن لنا كرة". * * * يعني"بالكرة"، الرجعةَ إلى الدنيا، من قول القائل:"كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا"، و"الكرَّة" المرة الواحدة، وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:   (1) في المطبوعة: "ينفعهم"، والصواب ما أثبت، فالأفعال قبله وبعده كلها ماضية. والخلال مصدر خاله (بشديد اللام) يخاله مخالة وخلالا: وهي الصداقة والمودة، يقول امرؤ القيس: صَرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ... فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الخِلالِ وَلاَ قَالي (2) الزيادة التي بين الأقواس، لا بد منها حتى يستقم صدر الكلام وآخره، في الجملة التالية. ويعني بقوله"صفة الله": ما وصف الله سبحانه من تقطع أسباب الكافرين يوم القيامة، كالذي عدده آنفًا في الفقرة السالفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً ... كَرَّ الْمَنِيحِ، وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالا (1) وكما:- 2432- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا"، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا. 2433- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة" قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا. * * * وقوله:"فنتبرأ منهم" منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب"الفاء". لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، (2) فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، و (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأنعام: 27] * * *   (1) ديوانه 48، ونقائض جرير والأخطل: 79. وفي المطبوعة: "كر المشيح"، وهو خطأ وفي الديوان"على قدارة"، وهو خطأ. وفزارة بن ذبيان بن بغيض. والمنيح: قدح لاحظ له في الميسر، وأقداح الميسر سبعة دوات أنصباء، وأربعة لا نصيب لها مع السبعة، ولكنها تعاد معها في كل ضربة. وقوله: "عطفن" يعني الخيل، ذكرها في بيت قبله. وقد مضى من هذه القصيدة أبيات في 2: 38، 39، 492، 496. (2) في المطبوعة: "إذا عاينوا"، وهو خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"كذلك يُريهمُ الله أعمالهم"، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله:"ورأوا العذاب"، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا، فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله"حسرات عليهم" يعني: نَدامات. * * * "والحسرات" جَمع"حَسْرة". وكذلك كل اسم كان واحده على"فَعْلة" مفتوح الأول ساكن الثاني، فإن جمعه على"فَعَلات" مثل"شَهوة وتَمرة" تجمع"شَهوات وتَمرات" مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل"ضخمة"، تجمعها"ضخْمات" و"عَبْلة" تجمعها"عَبْلات"، وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر: (1) عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِهَا ... يُدِلْنَنَا اللَّمَّة مِنْ لَمَّاتِهَا ... فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا (2) فسكنّ الثاني من"الزفرات"، وهي اسم. وقيل: إن"الحسرة" أشد الندامة. * * *   (1) لم أعرف قائله. (2) سيأتي في التفسير 24: 43 / 30: 34 (بولاق) بزيادة بيت. والعيني 4: 396 واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها. والدولة (بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال) : العقبة في المال والحرب وغيرهما، وهو الانتقال من حال إلى حال، هذا مرة وهذا مرة. ودالت الأيام: دارت بأصحابها. ويروي: "تديلنا" وأداله: جعل له العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه، بتغيره وانتقاله عنه إلى حال أخرى. واللمة: النازلة من نوازل الدهر، كالملمة. والبيت الرابع الذي زاده الطبري: وَتَنْقَعُ الغُلّة من غُلاّتِها والغلة: شدة العطش وحرارته. ونقع الغلة: سكنها وأطفأها وأذهب ظمأها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم، وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه، فيريهم الله قليلَه! (1) بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله، ولا حسرةَ عليهم في ذلك، وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟ قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون، فنذكر في ذلك ما قالوا، ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله. فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب =ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم= غيرُهمْ بطاعته ربَّه. (2) فصار ما فاتهم من الثواب -الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه (3) عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم. * ذكر من قال ذلك: 2434- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم"، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين، فيرثونهم. فذلك حين يندمون. 2435- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء، عن عبد الله -في   (1) قوله: "فيريهم الله قليله"، يعني به: فيريهم الله أنه قليل، فيتمنون أن لو كانوا ازدادوا من فعله حتى يكثر. (2) سياق هذه الجملة: حتى استوجب غيرهم بطاعته ربه، ما كان الله أعد لهم. . . " فقدم وأخر وفصل، كعادته. (3) في المطبوعة: "إذا عاينوه"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار، وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة، فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار، فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم! (1) * * * فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟ قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [له] قبل أن يعمله: (2) هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله، كما يقال للرجل يَحضُر   (1) الحديث: 2435- سفيان: هو الثوري. سلمة بن كهيل الحضرمي. سبق توثيقه: 439، ونزيد هنا أن الثوري قال: "كان ركنًا من الأركان". وقال أحمد: "سلمة متقن الحديث". وقال أبو زرعة: "كوفي ثقة مأمون ذكي". مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/75، وابن سعد 6: 221، وابن أبي حاتم 2/1/170-171، وتاريخ الإسلام 5: 81-82. أبو الزعراء - بفتح الزاي والراء بينهما عين مهملة ساكنة؛ هو عبد الله بن هانئ أبو الزعراء الكبير، وهو خال سلمة بن كهيل. وهو ثقة من كبار التابعين. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 119، وابن أبي حاتم 2/2/195. وهذا الحديث قطعة من حديث طويل - كما قال الطبري هنا: "في قصة ذكرها" وستأتي قطعة أخرى منه في الطبري 15: 97 (بولاق) . وهو حديث موقوف من كلام ابن مسعود ولكنه -عندنا- وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنه مرفوع حكمًا، لأنه في صفة آخر الزمان، وما يأتي من الفتن، ثم فناء الدنيا، ثم البعث والنشور والشفاعة، وما إلى ذلك، مما لا يعلم بالرأي. وقد رواه -بطوله كاملا- الحاكم في المستدرك 4: 496-498، من طريق الحسين بن حفص الإصبهاني، عن سفيان، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 328-330، بطوله، وقال: رواه الطبراني وهو موقوف، مخالف للحديث الصحيح وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع"! هكذا قال الهيثمي ولم يذكر شيئًا عن إسناده. وليس هذا موضع التعقب على تعليله. وروى أبو داود الطيالسي: 389- قطعة أخرى منه، عن يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه. و"يحيى بن سلمة". ضعيف جدًا. قال البخاري في الصغير، ص: 143"منكر الحديث" ولا يضر ضعف الإسناد عند الطيالسي، إذ جاء الحديث -كما ترى- بإسناد صحيح، من رواية سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل. (2) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 غَداؤه قبل أن يَتغدى به: (1) هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم. * * * وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟ * ذكر من قال ذلك: 2436- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة. 2437- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أعمالهم حسرات عليهم" قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [فجعلها] حسرات عليهم. (2) قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم، وقرأ قول الله: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) [سورة الحاقة: 24] * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله:"كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم"، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، (3) لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.   (1) في المطبوعة: "كما يقال للرجل"، وزيادة الواو لازمة. (2) الزيادة بين القوسين مما يستقيم به معنى الكلام، ليطابق القول الذي قاله هؤلاء. ويوافق الشطر الثاني من هذا الخبر في ذكر أعمال أهل الجنة. (3) في المطبوعة: "إذا رأوا جزاءها"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. (1) والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية، فإنه مَنزع بعيد. ولا أثر -بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، (2) ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنزيل إلى باطن تأويل. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار =وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله، فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة، وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها، ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها = بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا، ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ، ولكنهم فيها مخلدون. * * * وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية. * * *   (1) انظر تفسير معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف 2: 15، واطلبه في فهرس المصطلحات. (2) في المطبوعة: "تقوم له حجة"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت. (3) في المطبوعة: "فإذا كان الأمر. . . "، والصواب ما أثبت. وقوله: "لم يحل" من أحال الشيء يحيله: إذا حوله من مكان إلى مكان، أو من وجه إلى وجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم = دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها، إنه = يعني بقوله:"إنه" إنّ الشيطان، و"الهاء" في قوله:"إنه" عائدة على الشيطان = لكم أيها الناس"عدو مُبين"، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة، وأكل من الشجرة. يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة، ودعوا ما يأمركم به، والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم، دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره. * * * ومعنى قوله:"حَلالا"، طِلْقًا. (1) وهو مصدر من قول القائل:"قد حَلَّ لك هذا الشيء"، أي صار لك مُطلقًا، (2) "فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا"، ومن   (1) الطلق (بكسر فسكون) . الحلال. يقال: هو لك طلق، أي حلال. وفي الحديث: "الخيل طلق"، أي أن الرهان عليها حلال. (2) هكذا في المطبوعة، وأخشى أن يكون الصواب فيما كتب الطبري"طلقًا" كما سلف، وكما سيأتي في عبارته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 كلام العرب:"هو لك حِلٌّ"، أي: طِلْق. (1) . * * * وأما قوله:"طيبًا" فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم. * * * وأما"الخطوات" فإنه جمع"خُطوة"، و"الخطوة" بعد ما بين قدمي الماشي. و"الخطوة" بفتح"الخاء""الفعلة" الواحدة من قول القائل:"خَطوت خَطوة واحدةً". وقد تجمع"الخُطوة""خُطًا" و"الخَطْوة" تجمع"خَطوات"،"وخِطاء". * * * والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته، النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره. * * * واختلف أهل التأويل في معنى"الخطوات". فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله. * ذكر من قال ذلك: 2438- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"خطوات الشيطان"، يقول: عمله. * * * وقال بعضهم:"خطوات الشيطان"، خَطاياه. * ذكر من قال ذلك: 2439- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"خُطُوات الشيطان" قال، خطيئته. 2440- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.   (1) في المطبوعة: "من كلام العرب. . . "، وأثبت الواو، وحذفها جيد أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 2441- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان" قال، خطاياه. 2442- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"خطوات الشيطان" قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها. * * * وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، طاعته. * ذكر من قال ذلك: 2443- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تتبعوا خطوات الشيطان"، يقول: طاعته. * * * وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، النذورُ في المعاصي. * ذكر من قال ذلك: 2444- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله:"ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان" قال، هي النذور في المعاصي. * * * قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله:"خطوات الشيطان"، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها"بعد ما بين قَدميه"، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنما يأمرُكم"، الشيطانَ،"بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا تعلمون". * * * "والسوء": الإثم، مثل"الضُّرّ"، من قول القائل:"ساءك هذا الأمر يَسوءك سُوءًا"، وهو ما يَسوء الفاعل. * * * وأما"الفحشاء"، فهي مصدر مثل"السراء والضراء"، (1) وهي كل ما استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه. وقيل: إن"السوء" الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك كذلك، فإنما سَمَّاها الله"سوءًا" لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل: إن"الفحشاء"، الزنا: فإن كان ذلك كذلك، فإنما يُسمى [كذلك] ، (2) لقبح مسموعه، ومكرُوه ما يُذْكَر به فاعله. * ذكر من قال ذلك: 2445- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنما يأمركم بالسوء والفحشاء"، أمّا"السوء"، فالمعصية، وأما"الفحشاء"، فالزنا. * * * وأما قوله:"وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون"، فهو ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي، ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى   (1) لعل الصواب، "فهي اسم مصدر". (2) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 ذكره لهم: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة المائدة: 103] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، (1) أنّ قيلهم:"إنّ الله حرم هذا! " من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه، ولم يحرم أكله عليهم، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا منهم خطواته، واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم، كما أنزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ذكره:"وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قَالوا بَلْ نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا". * * *   (1) في المطبوعة، "وأخبرهم" بالواو، والصواب الجيد ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) } قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل. أحدهما: أن تكون"الهاء والميم" من قوله:"وإذا قيلَ لهم" عائدة على"من" في قوله:"ومنَ الناس مَنْ يَتخذُ من دون الله أندادًا"، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون الله أندادًا، وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا. والآخر: أن تكون"الهاء والميم" اللتان في قوله:"وإذا قيل لهم"، من ذكر"الناس" الذين في قوله:"يا أيها الناسُ كلوا مما في الأرض حَلالا طيبًا"، فيكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس: 22] * * * قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية (1) أن تكون"الهاء والميم" في قوله:"لهم"، من ذكر"الناس"، وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله:"يا أيها الناس كلوا مما في الأرض". فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم"مَنْ يَتخذ من دُون الله أندادًا"، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها = وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك، (2) إذ دعوا إلى الإسلام، كما:- 2446- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه، وحذرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنزل الله في ذلك من قولهما (3) "وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه   (1) في المطبوعة: "وأشبه عندي وأولى بالآية"، وهو كلام مختل، ورددته إلى عبارة الطبري في تأويل أكثر الآيات السالفة. (2) في المطبوعة: "وإنما نزلت في قوم من اليهود"، وهو خطأ ناطق، واضطراب مفسد للكلام. والصواب ما أثبت. يقول أبو جعفر إن أولى الأقوال بالصواب أن تكون الآية نزلت في ذكر عرب الجاهلية الذين حرموا ما حرموا على أنفسهم، كما ذكر في تفسير الآيتين السالفتين (168، 169) ، ويستبعد أن يكون المعنى بها من ورد ذكرهم في الآية (165) ، كما يستبعد قول من قال إنها نزلت في اليهود، في الخبر الذي سيرويه بعد. فقوله: "وأنها نزلت" عطف على قوله"خبرًا" في قوله: "أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبر أن منهم من يتخذ. . . ". (3) في المطبوعة: "فأنزل الله من قولهم ذلك". وهو خطأ محض، ورددتها إلى نصها في سيرة ابن هشام، كما سيأتي مرجعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون". (1) 2447- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف. (2) * * * وأما تأويل قوله:"اتبعوا ما أنزلَ الله"، فإنه: اعملوا بما أنزل الله في كتابه على رسوله، فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به، وقائدًا تَتبعون أحكامه. * * * وقوله:"ألفينا عَليه آباءنا"، يعني وَجدنا، كما قال الشاعر: (3) فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلا ذَاكِرِ اللهَ إلا قَلِيلا (4)   (1) الأثر رقم: 2446- في سيرة ابن هشام 2: 200-201، مع اختلاف يسير في لفظه. (2) الأثر رقم: 2447- انظر الأثر: 2446. (3) هو أبو الأسود الدؤلي. (4) ديوانه: 49 (نفائس المخطوطات) ، سيبوبه 1: 85، والأغاني 11: 107، وأمالي بن الشجرى 1: 283 والصدقة والصديق: 151، والخزانة 4: 554، وشرح شواهد المغني: 316، واللسان (عتب) . وهو من أبيات قالها في امرأة كان يجلس إليها بالبصرة، وكانت برزة جميلة، فقالت له يومًا: يا أبا الأسود، هل لك أن أتزوجك؟ فإني امرأة صناع الكف، حسنة التدبير، قانعة بالميسور. قال: نعم. فجمعت أهلها وتزوجته. ثم إنه وجدها على خلاف ما قالت، فأسرعت في ماله، ومدت يدها في خيانته، وأفشت عليه سره، فغدا على من كان حضر تزويجه، فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا. فقال لهم: أَرَيْتَ امْرءًا كنتُ لَمْ أَبْلُهُ ... أتَانِي، فَقَالَ: اتّخِذْنِي خليلاَ فخالَلْتَهُ، ثُمَّ صَافيْتُه ... فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ لَدُنْهُ فتيلاَ وَأَلفَيْتُهُ حِينَ جَرَّبْتُه ... كَذُوبَ الحَدِيثِ سَرُوقًا بَخِيلاَ فَذَكَّرْتُه، ثُمَّ عَاتبتُهُ ... عِتَابًا رَفِيقًا وَقَوْلاً جَمِيلاَ فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلاَ ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قَلِيلاَ أَلسْتُ حَقِيقًا بِتَوْدِيعِهِ ... وَإتْبَاع ذلِكَ صَرْمًا طَوِيلاَ?! قالوا: بلى والله يا أبا الأسود! قال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها، وأنا أحب أن أستر ما أنكرت من أمرها. ثم صرفها معهم. قال ابن الشجرى: "والذي حسن لقائل هذا البيت حذف التنوين لالتقاء الساكنين، ونصب اسم الله تعالى، واختيار ذلك على حذف التنوين للإضافة وجر اسم الله - أنه لو أضاف لتعرف بإضافته إلى المعرفة، ولو فعل ذلك لم يوافق المعطوف المعطوف عليه في التنكير، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وأعمل اسم الفاعل". واستعجب الرجل: رجع عن الإساءة وطلب الرضا، فهو مستعتب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 يعني: وجدته، وكما:- 2448- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا"، أي: ما وجدنا عليه آباءنا. 2449- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون. * * * قال الله تعالى ذكره:"أوَ لو كانَ آباؤهم" -يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم-"لا يعقلون شيئًا" من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه، فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم -"ولا يَهتدون" لرشد، فيهتدي بهم غيرهم، ويَقتدي بهم من طَلب الدين، وأراد الحق والصواب؟ يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه -فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. * * * فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر =في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به= مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا تعقلُ ما يقال لها. * ذكر من قال ذلك: 2450- حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله:"ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً" قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول. 2451- حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع" قال، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. (1) .   (1) الخبر: 2451- هذا خبر منهار الإسناد. أما"محمد بن عبد الله بن زريع" شيخ الطبري فلم أجد ترجمته. والطبري يروي عن"محمد بن عبد الله بن بزيع"، ولا أستطيع الترجيح بأنه هو، حرف اسم جده. وأما"يوسف بن خالد السمتي": فهو ضعيف جدًا، قال فيه ابن معين: "كذاب، زنديق، لا يكتب حديثه". ولا يشتغل بمثله. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/388، وابن سعد 7/2/47، وابن أبي حاتم 4/2/221-222. و"السمتي": بفتح السين وسكون الميم، نسبة إلى السمت والهيئة. قال ابن سعد: "وقيل له: السمتي - للحيته وهيئته وسمته"!! نافع بن مالك: هو الأصبحي، أبو سهيل، وهو عم الإمام مالك بن أنس، وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/86، وابن أبي حاتم 4/1/453. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 2452- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً"، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضها"كُلْ" - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك. 2453- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل. 2454- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق بما لا يسمع" قال، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل. 2455- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعِق"، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل. 2456- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً"، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 2457- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً" قال، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له. 2458- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له. 2459- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له: يقال: لا تعقل -يعني البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها، فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد:"الذي ينعِق"، الراعي"بما لا يسمع" من البهائم. 2460- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق" الراعي"بما لا يسمع" من البهائم. 2461- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط، عن السدي:"كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً"، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب. وأما"الذي ينعق"، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له، إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [سورة البقرة: 18] * * * قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم -: ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 ونعيقِه بها. فأضيف"المثل" إلى الذين كفروا، وترك ذكر"الوعظ والواعظ"، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال:"إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان"، يراد به: كما تعظم السلطانَ، وكما قال الشاعر: فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا ... عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير (1) يراد به: كما يُسلِّم على الأمير. وقد يحتمل أن يكون المعنى -على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء-: ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له:"اعتلف، أورِدِ الماء"، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر، مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه -بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق، كما قال نابغة بني ذبيان: وَقَدْ خِفْتُ، حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَة عَاقِلِ (2) والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي، وكما قال الآخر: (3)   (1) مضى تخريج هذا البيت في هذا الجزء: 281 تعليق: 1، وهذا القول في تفسير الآية ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 100. (2) ديوانه: 90، وسيأتي في التفسير 30: 146 (بولاق) ، ومجاز القرآن: 65، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، ومشكل القرآن: 151، والإنصاف: 164، وأمالي بن الشجرى 1: 52، 324، وأمال الشريف 1: 202، 216، ومعجم ما استعجم: 1238. وهو من قصيدة مضى منها تخريج بيت في هذا الجزء: 213. وقوله: "ذي المطارة" (بفتح الميم) ، وهو اسم جبل. وعاقل: قد عقل في رأس الجبل، لجأ إليه واعتصم به وامتنع. والوعل: تيس الجبل: يتحصن بوزره من الصياد. وقد ذكر البكري أنه رأى لابن الأعرابي أنه يعني بذي المطارة (بضم الميم) ناقته، وأنها مطارة الفؤاد من النشاط والمرح. ويعني بذلك: ما عليها من الرحل والأداة. يقول: كأني على رحل هذه الناقة وعلى عاقل من الخوف والفرق. (3) النابغة الجعدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ، كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ (1) والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم، لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر: إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُه ... تَحْلَى بِهِ العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (2) والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. (3) ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه، فتقول:"اعرِض الحوضَ على الناقة"، وإنما تعرض الناقة على الحوض، وما أشبه ذلك من كلامها. (4) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً، وذلك الصدى الذي يسمع صوته، ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا. فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم -في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً، أي: لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه. * ذكر من قال ذلك:   (1) سيأتي في التفسير 2: 198، 327 (بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، 131، ومشكل القرآن: 153، والإنصاف: 165، وأمالي الشريف 1: 216، والصاحبي: 172، وسمط اللآلي: 368، واللسان (زنا) . وقال الطبري في 2: 327، "يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا". (2) سيأتي في التفسير: (2؛ 198 بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، 131، وأمالي الشريف 1: 216، واللسان (حلا) . يقال: "ما في الحي أحد تجهره عيني"، أي تأخذه عيني فيعجبني. وفي حديث صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول علي: "لم يكن قصيرًا ولا طويلا، وهو إلى الطول أقرب. من رآه جهره"، أي عظم في عينه. (3) هذا الذي مضى أكثر من قول الفراء في معاني القرآن 1: 99. (4) هذا من نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن: 63-64. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 2462- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً" قال، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له"الصَّدى". فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى. * * * وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء، فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها، ولا ينفعه شيء. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه، فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل. فأما وَجه جَواز حذف"وعظ" اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على البيان عنه في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [سورة البقرة: 17] ، وفي غيره من نظائره من الآيات، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) . * * * وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن هذه الآية نزلت في اليهود، وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها، ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه -إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من   (1) انظر ما سلف 1: 318-328، واطلب ذلك في فهرس العربية من الجزاء السالفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها. * * * فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟ قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها، فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت، والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم. (1) وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها   (1) هذا موضع مشكل في كلام أبي جعفر رضي الله عنه، كان ينبغي أن يبينه فضل بيان. فإن صدر عبارته قاض بأن كل الآيات التي قبل هذه الآية نزلت في يهود، وليس كذلك. ثم عاد بعد قليل يقول: "هذا مع الرواية التي رويناها عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم" -يعني في يهود. ولو كان الأمر كما يفهم من صدر عبارته، لم يكن لنصه بعد ذلك على أن الآية التي"قبل هذه الآية" نزلت فيهم، فيما روي عن ابن عباس- معنى مفهوم. والظاهر أن أبا جعفر كان أراد أن يقول: إن الآيات السالفة نزلت في اليهود - إلا الآيات الأخيرة من أول قوله: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار" إلى قوله: "وإلهكم إله وحد" (163-170) ، فهي قد نزلت في كفار العرب، وذكر ابن عباس أن الآية الأخيرة: (170) نزلت في يهود أيضًا. ثم إن الآيات بعدها هي ولا شك في يهود وأهل الكتاب، فلذلك حمل معنى الآية هذه أنه مراد به اليهود. فكأنه جعل الآيات من (163-169) اعتراضًا في سرد قصة واحدة، هي قصة يهود. فإن لم يكن ذلك كذلك، فلست أدري كيف يتسق كلامه. فهو منذ بدأ في تفسير هذه الآيات من 163-169 لم يذكر إلا أهل الشرك وحدهم، وبين أن المقصود بقوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا" - هم الذين حرموا على أنفسهم البحائر والسوائب والوصائل (ص 300) ، ثم عاد في تأويل قوله تعالى: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" فقال: فهو ما كانوا يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (ص 303) . واليهود، كما أنهم لم يكونوا أهل أوثان يعبدونها، أو أصنام يعظمونها كما قال أبو جعفر، فهم أيضًا لم يحرموا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة كما ذكر في تفسير الآيات السالفة. فهذا تناقض منه ر حمه الله - إلا إذا حمل كلامه على استثناء الآيات التي ذكرت أنه فسرها على أنه مراد بها مشركوا العرب الذين حرموا على أنفسهم ما حرموا من البحائر والسوائب والوصائل. والصواب من القول عندي، أن هذه الآية تابعة للآيات السالفة، وأن قصتها شبيهة بقصة ما قبلها في ذكر المشركين الذي قال الله لهم: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا"، وأن العود إلى قصة أهل الكتاب هو من أول قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" والآيات التي تليها. وانظر ما سيأتي: 317، فإنه قد عاد هناك، فجعل الآية خاصة بالمشركين من أهل الجاهلية، بذكره ما حرموا على أنفسهم من المطاعم، وهو تناقض شديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 اليهود، كان عطاء يقول: 2463- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا) إلى قوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [سورة البقرة: 174-175] . * * * وأما قوله:"يَنعِق"، فإنه: يُصوِّت بالغنم،"النَّعيق، والنُّعاق"، ومنه قول الأخطل: فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ، فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسَكَ فِي الخَلاءِ ضَلالا (1) يعني: صوِّت به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ"، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً"صُمٌ" عن الحق فهم لا يسمعون -"بُكمٌ" يعني: خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، فلا ينطقون به ولا يقولونه، ولا يبينونه للناس -،"عُميٌّ"   (1) ديوانه: 50، ونقائض جرير والأخطل: 81، وطبقات فحول الشعراء: 429، ومجاز القرآن: 64، واللسان (نعق) وقد مضت أبيات منها في 2: 38: 39، 492، 496، وهذا الجزء 3: 294، وقد ذكر قبله حروب رهطه بني تغلب، ثم قال لجرير: إنما أنت راعي غنم، فصوت بغنمك، ودع الحروب وذكرها. فلا علم لك ولا لأسلافك بها. وكل ما تحدث به نفسك من ذلك ضلال وباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، (1) . كما:- 2464- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"صُمٌ بكم عمي"، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به. 2465- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"صم بكم عمي" يقول: عن الحق. 2466- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"صم بكم عمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. * * * وأما الرفع في قوله:"صم بكم عمي"، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف، يدل على ذلك قوله:"فهم لا يعقلون"، كما يقال في الكلام:"هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم". (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا لله بالعبودية، وأذعنوا له بالطاعة، كما:- 2467- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن   (1) انظر تفسير: "صم""بكم""عمي" فيما سلف 1: 328-331. وقد حمل أبو جعفر معنى الآية هنا على أنه عنى به اليهود وأهل الكتاب. وانظر التعليق السالف ص: 314، رقم: 1. (2) انظر إعرابه في الآية الأخرى فيما سلف 1: 329-330. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يقول: صدَّقوا. * * * "كلوا من طيبات ما رَزَقناكم"، يعني: اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم، ولم أكن حرمته عليكم، من المطاعم والمشارب."واشكروا لله"، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله منكم، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم."إن كنتم إياه تعبدون"، يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين، فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان. وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم، وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه، إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم، وفصَّله لهم مُفسَّرًا. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك، بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير، ومَا أهلّ به لغيري. * * * ومعنى قوله:"إنما حَرَّم عليكم الميتة"، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.   (1) في المطبوعة: "وفصل لهم"، والصواب ما أثبت. وهذا الذي قاله هنا برهان آخر على أن أبا جعفر قد اضطرب في قصة هذه الآيات، فهو قد عاد وجعل بعض الآيات السالفة، في مشركي العرب في جاهليتهم، كما ترى، وهو بين أيضًا في تفسيرة الآية التالية. انظر ص: 314، تعليق: 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 "وإنما": حرف واحدٌ، ولذلك نصبت"الميتة والدم"، وغير جائز في"الميتة" إذا جعلت"إنما" حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت"إنما" حرفين، وكانت منفصلة من"إنّ"، لكانت"الميتة" مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير، لا غير ذلك. (1) وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا =وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه. * * * ولو قرئ في"حرّم" بضم الحاء من"حرّم"، لكان في"الميتة" وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى،"وإنما" حرفٌ واحد. والآخر:"إن" و"ما" في معنى حرفين، و"حرِّم" من صلة"ما"،"والميتة" خبر"الذي" مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت. * * * وأما"الميتة"، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد، ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في:"هو هيّن ليّن""الهيْن الليْن"، (2) كما قال الشاعر: (3) لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ (4)   (1) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 102-103. (2) في المطبوعة: "القائلون وهو هين لين. . . "، وكأن الصواب ما أثبت. (3) هو عدي بن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه. (4) الأصمعيات: 5، ومعجم الشعراء: 252، وتهذيب الألفاظ: 448، واللسان (موت) وحماسة ابن الشجرى: 51، والخزانة 4: 187، وشرح شواهد المغني: 138. من أبيات جيدة صادقة، يقول بعده: إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً ... كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرّجَاءِ فَأُنَاسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمَادًا ... وَأُنَاسٌ حُلُوقُهُمْ فِي المَاء الثماد الماء القليل يبقى في الحفر. وما أصدق ما قال هذا الأبي الحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد. وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل، وقالوا: إنما هو"مَيْوِت"،"فيعل"، من الموت. ولكن"الياء" الساكنة و"الواو" المتحركة لما اجتمعتا،"والياء" مع سكونها متقدمة، قلبت"الواو""ياء" وشددت، فصارتا"ياء" مشددة، كما فعلوا ذلك في"سيد وجيد". قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في"ياء""الميتة" لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما. * * * وأما قوله:"وَمَا أهِلَّ به لغير الله"، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام. وإنما قيل:"وما أهِلَّ به"، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، (1) جهر بالتسمية أو لم يجهر-:"مُهِلٌّ". فرفعهم أصواتهم بذلك هو"الإهلال" الذي ذكره الله تعالى فقال:"وما أهِلَّ به لغير الله". ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة"مُهِلّ"، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه"استهلال" الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه،"واستهلال" المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض، كما قال عمرو بن قميئة:   (1) في المطبوعة: "يسمي بذلك أو لم يسم"، والصواب ما أثبت، فعل ماض كالذي يليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ ... فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ (1) واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما أهِلَّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله. * ذكر من قال ذلك: 2468- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله. 2469- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما أهلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه. 2470- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما أهلّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله. 2471- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما أهِلّ به للطواغيت. 2472- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"وما أُهلّ به لغير الله" قال، ما أهل به للطواغيت. 2473- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أهِلّ به لغير الله"، يعني: ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى. 2474- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، هو ما ذبح لغير الله. * * *   (1) سلف تخريج هذا البيت في 1: 523-524، وأن صواب نسبته إلى الحادرة الذبياني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله. * ذكر من قال ذلك: 2475- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وما أهلّ به لغير الله"، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله. 2476- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد -وسألته عن قوله الله:"وما أهلّ به لغير الله"- قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون:"باسم فلان"، كما تقول أنت:"باسم الله" قال، فذلك قوله:"وما أهلّ به لغير الله". 2477- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لحم، فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله:"وما أهِلّ به لغير الله"؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اضطر"، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله -وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وقوله: فمن"اضطر""افتعل" من"الضّرورة". * * * و"غيرَ بَاغ" نُصِب على الحال مِنْ"مَنْ"، فكأنه. قيل: فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله، فهو له حلال. * * * وقد قيل: إن معنى قوله:"فمن اضطر"، فمن أكره على أكله فأكله، فلا إثم عليه. * ذكر من قال ذلك: 2478- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم الأفطس، عن مجاهد قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال: الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله. * * * وأما قوله:"غيرَ بَاغ ولا عَاد"، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون. فقال بعضهم: يعني بقوله:"غير باغ"، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ عليهم السبيلَ. * ذكر من قال ذلك: 2479- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد" قال، غيرَ قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة. 2480- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد"، يقول: لا قاطعًا للسبيل، ولا مفارقًا للأئمة، ولا خارجًا في معصية الله، فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه. 2481- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"غير باغ ولا عاد" قال، هو الذي يقطع الطريق، فليس له رخصة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر. 2482- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم -يعني الأفطس- عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة. 2483- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب، وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له. 2484- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال:"غيرَ باغ" على الأئمة،"ولا عاد" قال، قاطع السبيل. 2485- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال، غير قاطع السبيل، ولا مفارق الأئمة، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة. 2486- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مجاهد:"فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد" قال، غير باغ على الأئمة، ولا عاد على ابن السبيل. * * * وقال آخرون في تأويل قوله:"غيرَ باغ ولا عاد": غيرَ باغ الحرامَ في أكله، ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه. * ذكر من قال ذلك. 2487- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 عن قتادة قوله:"فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد" قال، غير باغ في أكله، ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مَندوحة. 2488- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها. 2489- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الحسن يقول ذلك. 2490- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، (1) عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قوله:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"،"غير باغ" يَبتغيه،"ولا عادٍ": يتعدى على ما يُمسك نفسه. 2491- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، يقول: من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [سورة المؤمنون: 7\ سورة المعارج: 31] 2492- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ" قال، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام، ويترك الحلال وهو عنده، ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين، ويقول: هذا وهذا واحد! * * * وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه. * ذكر من قال ذلك: 2493- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "أبو نميلة"، والصواب بالتاء. مضت ترجمته برقم: 392، 461. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 أسباط، عن السدي:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد". أمَّا"باغ"، فيبغي فيه شهوته. وأما"العادي"، فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله -بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى. وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما =: من خروج هذا على من خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض، = فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما -ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما، (1) فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا] . فإذ كان ذلك كذلك، فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبةُ إلى طاعة الله، والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثمًا، وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا. (2)   (1) في المطبوعة: "وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا". وهو تصحيف مفسد قد آذى من أراد أن يفهم عن الطبري ما يقول. و"المحارم": كل ما حرم الله سبحانه علينا فهو من محارم الله. وانظر التعليق التالي. (2) هذه الفقرة رد على القول الأول، قول من ذهب إلى أن"الباغي" هو الخارج على الأئمة، وأن"العادي" هو قاطع الطريق، وأنهما لفعلهما ذلك مستثنيان من حكم الآية في الترخيص للمضطر أن يأكل مما حرم الله عليه. ولكن العبارة في الأصل فاسدة، لا يكاد يكون لها معنى. ولم أستجز أن أدعها في الأصل على ما هي عليه. وهكذا كانت في الأصل: [بل ذلك من فعلهما، وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما] . وهو كلام لا يستقيم، وقد اجتهدت فرأيت أنه سقط من ناسخ كلامه سطر كامل فيما أرجح، بين قوله: "من قتل أنفسهما" وقوله: "قبل ذلك من فعلهما" فبقيت"قبل" وحدها، فجاء ناسخ آخر فلم يستبن معنى ما يكتب، فجعل"قبل""بل"، ظنًا منه أن ذلك يقيم المعنى على وجه من الوجوه. فاضطرب الكلام كما ترى اضطرابًا لا يخلص إلى شيء مفهوم. وزاده فسادًا واضطرابًا تصحيف قوله: "وإن لم نر ردهما" بما كتب: "وإن لم يؤدهما"، فخلص إلى كلام ضرب عليه التخليط ضربًا! وقد ساق الطبري في هذه الفقرة حجتين لرد قول من قال إن الباغي هو الخارج على الإمام، وإن العادي هو قاطع السبيل. فالحجة الأولى: أن الباغي والعادي، وإن كان كلاهما قد أتى فعلا محرمًا، فإن إتيان هذا الفعل المحرم، لا يجعل قتل أنفسهما مباحًا لهما، إذ هو محرم عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من محارم الله عليهما. والحجة الأخرى: أن الله قد رخص لكل مضطر أن يأكل مما حرم عليه، فاستثناء الباغي والعادي من رخصة الله للمضطر. لا يعد عنده تحريمًا، بل هو رد إلى ما كان محرمًا عليهما قبل البغي أو العدوان. ومع ذلك فإن هذا الرد إلى ما كان محرمًا عليهما، وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصًا لهما ولكل مضطر قبل البغي والعدوان، فإنه لا يرخص لهما قتل أنفسهما، وهو حرام عليهما قبل البغي والعدوان. وإذن، فالواجب عليهما أن يتوبا، لا أن يقتلا أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إثمًا إلى إثمهما، وخلافًا إلى خلافهما بالبغي والعدوان أمر الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك -مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله، وإن كان للفظه مخالفًا. فأما توجيه تأويل قوله:"ولا عاد"، ولا آكل منه شبعه، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه. فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة. * * * وأما تأويل قوله:"فلا إثم عليه"، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) } قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إنّ الله غَفور رحيم"،"إنّ الله غَفورٌ" =إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم = لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية، فصافحٌ عنكم، وتارك عقوبتكم عليه،"رحيم" بكم إن أطعتموه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذينَ يَكتمون ما أنزل الله من الكتاب"، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:- 2494- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره. 2495- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويَشترون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 به ثمنًا قليلا) قال: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم. 2496- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يكتمون مَا أنزل الله منَ الكتاب"، فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم. 2497- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إنّ الذين يكتمونَ ما أنزل الله من الكتاب"، والتي في"آل عمران" (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [سورة آل عمران: 77] نزلتا جميعًا في يهود. * * * وأما تأويل قوله:"ويَشترون به ثمنًا قليلا"، فإنه يعني: يبتاعون به."والهاء" التي في"به"، من ذكر"الكتمان". فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن = على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم الحق في ذلك = اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:- 2498- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويشترون به ثمنًا قليلا" قال، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل. * * * وقد بينت فيما مضى صفة"اشترائهم" ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها، فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها ="ما يأكلون في بطونهم" - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة، (1) وما أخذوا عليه من الأجر ="إلا النار" - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها، كما قال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: 10] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر"النار" وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر"ما يوردهم، أو يدخلهم". وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2499- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار"، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر. * * * فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال:"ما يأكلون في بطونهم"؟ قيل: قد تقول العرب:"جُعت في غير بطني، وشَبعتُ في غير بطني"، فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال:"فعل فُلان هذا نفسُه". وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى. (2)   (1) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا. (2) انظر ما سلف 2: 272، وهذا الجزء 3: 159-160. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وأما قوله:"ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة"، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) الآيتين [سورة المؤمنون: 107-108] . * * * وأما قوله:"ولا يُزكِّيهم"، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، (1) "ولهم عذاب أليم"، يعني: مُوجع (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى"، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر"العذاب" و"المغفرة"، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (3) وكذلك بينا وجه"اشتروا الضلالة بالهدى" باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته. (4) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 573-574، وهذا الجزء 3: 88. (2) انظر ما سلف 1: 283. ثم 2: 140، 377، 506، 540. (3) انظر ما سلف فهارس مباحث العربية. (4) انظر ما سلف 1: 311-315. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار. * ذكر من قال ذلك: 2500- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار. 2501- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم عليها. 2502- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بشر، عن الحسن في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار. 2503- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر =، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه:"فما أصبرهم على النار"، ما أجرأهم. 2504- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فما أصبرهم على النار"، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 * ذكر من قال ذلك: 2505- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، ما أعملهم بالباطل. 2506- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * واختلفوا في تأويل"ما" التي في قوله:"فما أصبرهم على النار". فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟ (1) * ذكر من قال ذلك: 2507- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما أصبرَهم على النار"، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟ 2508- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء:"فما أصبرهم على النار" قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟ 2509- حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال:"فما أصبرُهم"، رفعًا. قال: يقال للرجل:"ما أصبرك"، ما الذي فعل بك هذا؟ 2510- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟ * * *   (1) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 64. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار! * ذكر من قال ذلك: 2511- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما أصبرهم على النار" قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار! وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. (1) * * * فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى:"أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة"، فما أشد جراءتهم -بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [سورة عبس: 17] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه. * * * فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار -والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟ * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب:"ما أصبرَ فلانًا على الله"، بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! (2) وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا   (1) انظر ما سلف رقم: 2501، 2502. (2) انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 103. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. (1) مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه. وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم علي عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر"النار" من ذكر"عذابها"، كما يقال:"ما أشبه سخاءك بحاتم"، بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم،"وما أشبه شَجاعتك بعنترة". (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) } قال أبو جعفر: أما قوله:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، فإنه اختلف في المعنيِّ ب"ذلك". * * * فقال بعضهم: معنيُّ"ذلك"، فعلُهم هذا الذي يفعلون = من جراءتهم على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناسَ ما أنزل الله في كتابه، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه = من أجل أن الله تبارك تعالى"نزل الكتاب بالحق"، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [سورة البقرة: 6-7] فهم -مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.   (1) قدم، وتقدم، وأقدم، واستقدم، كلها بمعنى واحد، إذا كان جرئيًا فاقتحم. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 103، أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 وقال آخرون: معناه:"ذلك" معلومٌ لهم، بأن الله نزل الكتاب بالحق، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم، والكتابُ حَق. كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب = الذي قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه = معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين، وتنزيله حق، فالخبر عن"ذلك" عندهم مُضمر. * * * وقال آخرون: معنى"ذلك"، أن الله وصف أهل النار، فقال:"فما أصبرهم على النار"، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و"هذا" هاهنا عندهم، هي التي يجوز مكانها"ذلك"، (1) كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون"ذلك" -إذا كان ذلك معناه- نصبًا، ويكون رفعًا بالباء. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله:"ذلك"، إلى جميع ما حواه قوله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلَ الله من الكتاب"، إلى قوله:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك، فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود = بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس -وبخلافهم أمري وطاعتي= وذلك -من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم، وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. فيكون في"ذلك" حينئذ وجهان من الإعراب: رفعٌ ونصب. والرفع ب"الباء"، والنصب بمعنى: فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر"فكفروا به واختلفوا"، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 225-227 في بيان"ذلك"، و"هذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وأما قوله:"وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه، وكفروا جميعًا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب، كما قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) [سورة البقرة: 137] كما: 2512- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى"الشقاق"، فيما مضى. (1) * * *   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 115، 116. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم. 2513- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا، فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة، ونزلت الفرائض، وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها. 2514- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله. 2515- حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2516- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس قال: هذه الآية نزلت بالمدينة:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد:"ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب"، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله. 2517- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، (1) عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها، قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة، فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها. * * * وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب، والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق، فأنزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "أبو نميلة" بالنون، والصواب ما أثبت. وانظر الأثر رقم: 2490 والتعليق عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 2518- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب". 2519- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر"، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنزل الله:"ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب". وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق -"ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر" الآية. 2520- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس =: أن يكون عنى بقوله:"ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها، إذْ كان الأمر كذلك، -"ليس البر"، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب،"ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب" الآية. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 فإن قال قائل: فكيف قيل:"ولكن البر من آمن بالله"، وقد علمت أن"البر" فعل، و"مَنْ" اسم، فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟ قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته، وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، (1) فوضع"مَنْ" موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة، فتقول:"الجود حاتم، والشجاعة عنترة"، و"إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة"، ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر"حاتم" إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر"الجود" بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع"جوده"، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (2) كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) [سورة يوسف: 82] والمعنى: أهل القرية، وكما قال الشاعر، وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي: حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! ... وَمَا هي، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (3) يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [عناق] ، (4) كما يقال:"حسبت صياحي أخاك"، يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك. * * * وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله، فيكون"البر" مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (5) * * *   (1) في المطبوعة: "ولكن البر كمن آمن بالله" وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت. (2) انظر ما سلف: 2: 61، 359 وهذا الجزء 3: 334. (3) سلف تخريجه في هذا الجزء 3: 103 تعليق: 3. (4) الزيادة بين القوسين لا بد منها. (5) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 65، وذكره الفراء في معاني القرآن 1: 104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وآتى المالَ على حُبه"، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، (1) . كما:- 2521- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل البكيلي، عن عبد الله بن مسعود:"وآتَى المالَ على حُبه"، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (2) 2522- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا، عن سفيان، عن زُبيد الياميّ،   (1) انظر معنى"الإيتاء" فيما سلف 1: 574/2: 160، 317. (2) الخبر: 2521- ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي، مضى في: 438، 2030. ليث: هو ابن أبي سليم، مضى في شرح: 1497. زبيد- بالباء الموحدة مصغرًا: هو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي، وهو ثقة ثبت. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/411، وابن سعد 6: 216، وابن أبي حاتم 1/2/623. مرة بن شراحيل: وهو الهمداني الكوفي، من كبار التابعين، كما مضى توثيقه: 168، وهو مترجم في التهذيب 10: 88-89، والكبير 4/2/5، وابن سعد 6: 79، وابن أبي حاتم 4/1/366. و"البكيلي" - بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف: نسبه إلى"بكيل"، وهم بطن من همدان. انظرالاشتقاق لابن دريد، ص: 250، 256، 312، وجمهرة الأنساب لابن حزم ص: 372-373. وكذلك نسب مرة إلى"بكيل" في كتاب ابن أبي حاتم، وهو الصواب. ووقع في التهذيب بدلها"السكسكي"؛ وهو تصحيف لا شك فيه، فإن"السكسك": هو ابن أشرس بن كندة. وشتان بين همدان وكندة، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود، في"زيد بن كهلان بن سبأ". انظر جمهرة الأنساب، ص: 405، وما قبلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 عن مرة، عن عبد الله:"وآتى المالَ على حُبه" قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر. (1) 2523- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن زبيد اليامي، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية:"وآتى المال على حبه" قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر. 2524- حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين، عن شعبة بن الحجاج، عن زبيد اليامي، عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله:"وآتى المال على حبه ذوي القربى"، قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (2)   (1) الخبر: 2522- عبد الرحمن: هو ابن مهدي الإمام. وسفيان هو الثوري. فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي. ومن طريق عبد الرزاق - كلاهما عن سفيان. والخبر في تفسير عبد الرزاق، ص: 15، وفيه: "وأنت صحيح شحيح"، بزيادة"شحيح". (2) الخبر: 2524- شيخ الطبري"أحمد بن نعمة المصري": لم أجد له ترجمة. أبو صالح: هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث. الليث: هو ابن سعد إمام أهل مصر. إبراهيم بن أعين الشيباني البصري، نزل مصر: ضعيف: قال البخاري: "فيه نظر في إسناده". وقال أبو حاتم: "هذا شيخ بصري، ضعيف الحديث، منكر الحديث وقع إلى مصر". مترجم في التهذيب وفرق بينه وبين"إبراهيم بن أعين" آخر ثقة. وترجم ابن أبي حاتم 1/1/87 ثلاث تراجم. والبخاري 1/1/272 ترجمة واحدة. وهذه الأسانيد الثلاثة: 2521-2523، لخبر موقوف اللفظ على ابن مسعود. وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا، إذ مثل هذا لا يعرف بالرأي. وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا: 2529، 2531. وكذلك رواه الحاكم 2: 272، من رواية منصور، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونسبه السيوطي 1: 170-171 لابن المبارك، ووكيع، وغيرهما. ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا"عن ابن مسعود، مرفوعًا". وكذلك نقل ابن كثير 1: 388 أن الحاكم رواه مرفوعًا. ولم أجده مرفوعًا في المستدرك. ثم ذكر ابن كثير الرواية الموقوفة، وزعم أنها أصح. وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سئل: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ - فقال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان". رواه أحمد في المسند: 7159، 7401. ورواه البخاري ومسلم وأبو داود، كما بينا هناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 2525- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية:"وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة". 2526- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية:"ليس البر أنْ تُولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب" إلى"وآتى المال على حُبه" إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك. (1) 2527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (2) 2528- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي حيان   (1) الحديث: 2526- سويد بن عمرو الكلبي: ثقة من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/149، وابن أبي حاتم 2/1/239. أبو حمزة: هو ميمون الأعور القصاب، وهو ضعيف جدًا. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/343، وابن أبي حاتم 4/1/235-236. وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر. وقد روى قريب من معناه، بإسناد آخر أشد ضعفًا. فروى الدارقطني في سننه، ص: 205، من طريق أبي بكر الهذلي، عن شعيب بن الحبحاب، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، خذ منه الفريضة، فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال". وقال الدارقطني: "أبو بكر الهذلي: متروك، ولم يأت به غيره". وقد مضى بيان ضعف الهذلي هذا: 597. (2) الحديث: 2527- شريك: هو ابن عبد الله بن أبي شريك، النخعي القاضي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/238، وابن أبي حاتم 2/1/365-367. وقوله: "عن فاطمة بنت قيس: أنها سمعت": يعني النبي صلى الله عليه وسلم. كما هو ظاهر من سياق القول، ومن الروايات الأخر. وسيأتي الحديث أيضًا: 2530- وتخريجه هناك، إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو، وطُروق الفحل، والحلَب. (1) 2529- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، ذكره عن مرة الهمداني في:"وآتى المالَ على حُبه" قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة. 2530- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"في المال حق سوى الزكاة، وتلا هذه الآية:"ليس البر" إلى آخر الآية. (2)   (1) في المطبوعة: "عارية الذلول"، وهو خطأ. في حديث عبد الله مسعود: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية الدلو والقدر"، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما حق الإبل؟ قال: تعطى الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقى اللبن". وفي حديث عبيد بن عمير قال قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل -فذكره نحوه- زاد: "وإعارة دلوها". (سنن أبي داود 2: 167، 168 باب حقوق المال) . وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا: قعا عليها وضربها. وإطراق الفحل: إعارته للضراب. والحلب (بفتحتين) : اللبن المحلوب، سمي بمصدره من: حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا. (2) الحديث: 2530- أسد: هو ابن موسى، الذي يقال له"أسد السنة". مضى في: 23. سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة. وعندي أنه خطأ، صواب"شريك بن عبد الله"، الذي مضى في الإسناد السابق: 2527. فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك. ثم ليس في الرواة -الذين رأينا تراجمهم- من يسمى"سويد بن عبد الله" إلا رجلا له شأن لا بهذا الإسناد، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر، وهو مترجم في لسان الميزان. وهذا الحديث تكرار للحديث: 2527 بأطول منه قليلا. ورواه أيضًا الدارمي 1: 385، عن محمد بن الطفيل. والترمذي 2: 22، من طريق الأسود بن عامر، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل. وابن ماجه: 1789، من طريق يحيى بن آدم. والبيهقي في السنن الكبرى 4: 84، من طريق شاذان - كلهم عن شريك، بهذا الإسناد، مطولا ومختصرًا. قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك. أبو ميمون الأعور يضعف". وقال البيهقي: "فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور، كوفي، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث". ونقل ابن كثير 1: 389-390 أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن يحيى بن عبد الحميد. ورواه ابن مردويه، من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك، ثم ذكر أنه أخرجه ابن ماجه، والترمذي. ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا، بنقيض معناه. بلفظ: "ليس في المال حق سوى الزكاة"! وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه. وحاول بعض العلماء الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر، ص 177، وشرح الجامع الصغير للمناوي: 7641. ولكن رواية الطبري الماضية: 2527- وهي من طريق يحيى بن آدم، التي رواه منها ابن ماجه: تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في سائر الروايات. ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه، معًا، ولم يفرق بين روايتهما، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث: 11699، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا. ويؤيد أيضًا أن البيهقي، بعد أن رواه قال: "والذي يرويه أصحابنا في التعاليق: ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادًا. والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره". ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ، لما قال ذلك، إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 2531- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن زبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله في قوله:"وآتى المالَ على حُبه" قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه، شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم. وإنما قلت عنى بقوله:"ذوي القرْبى"، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس= 2532- وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (1) * * *   (1) الحديث: 2532- معناه ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند: 8687 (2: 358 حلبي) : "عن أبي هريرة: أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول". وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 28، وقال: "رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم". وروى الحاكم في المستدرك 1: 406، عن أم كلثوم بنت عقبة، قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 116، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه. والكاشح: المبغض: قال ابن الأثير: "العدو الذي يضمر عداوته، ويطوي عليهما كشحه، أي باطنه". والكاشح الذي يضمر لك العداوة، كأنه يطويها في كشحه. وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وأما"اليتامى""والمساكين"، فقد بينا معانيهما فيما مضى. (1) * * * وأما"ابن السبيل"، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك. * ذكر من قال ذلك: 2533- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابن السبيل" قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت. قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال، فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (2) * * *   (1) انظر ما سلف في معنى"مسكين" 2: 137، 293، ومعنى: "ذي القربى"، و"اليتامى" 2: 292. (2) الحديث: 2533- هو حديث مرسل، يقول قتادة -وهو تابعي-: "قد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول. . "، فذكره. و"سعيد" الذي يروي عن قتادة: هو سعيد بن أبي عروبة. و"يزيد" الراوي عنه: هو يزيد بن زريع. والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم 2: 45، من حديث أبي شريح العدوي الخزاعي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". ورواه أيضًا أحمد، وسائر أصحاب الكتب الستة، كما في الفتح الكبير 3: 231. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك. * ذكر من قال ذلك: 2534- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر:"وابن السبيل" قال، المجتاز من أرض إلى أرض. 2535- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة في قوله:"وابن السبيل" قال، الذي يمر عليك وهو مسافر. 2536- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عمن ذكره، عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله. * * * وإنما قيل للمسافر"ابن السبيل"، لملازمته الطريق -والطريق هو"السبيل"- فقيل لملازمته إياه في سفره:"ابنه"، كما يقال لطير الماء"ابن الماء" لملازمته إياه، وللرجل الذي أتت عليه الدهور"ابن الأيام والليالي والأزمنة"، ومنه قول ذي الرمة: وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (1) * * *   (1) ديوابنه: 401، وهو متعلق ببيت قبله: وَمَاءٍ قَدِيمِ العَهْدِ بالناسِ جنٍ ... كَأَنَّ الدَّبَى مَاءَ الغَضَا فِيهِ يَبْصُقُ الآجن المتغير. والدبى: صغار الجراد. والغضى: شجر. كأن الجراد رعته، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود. والاعتساف: الاقتحام والسير على غير هدى. والمحلق: العالي المرتفع. وابن الماء: هو طير الغرانيق، يعرف بالكركي، والإوز العراقي، وهو أبيض الصدر، أحمر المنقار، أصفر العين. يقول الأقيشر، يصف مجلس شراب: كَأَنَّهُنَّ وأَيْدِي الشَّرْبِ مُعْمَلَةٌ ... إِذَا تَلأْلأَْنَ فِي أَيْدِي الغَرَانِيقِ بَنَاتُ ماءِ، تُرى بيضًا جَاجِئُها ... حُمْرًا مَنَاقِرُهَا، صُفْرَ الحَمَالِيقِ والثريا: نجوم كثيرة مجتمعة، سميت بالمفرد. جعلها"على قمة"، وذلك في جوف الليل، ترى بيضاء زاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 وأما قوله:"والسائلين"، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:- 2537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن عكرمة في قوله:"والسائلين" قال، الذي يسألك. * * * وأما قوله:"وفي الرقاب"، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة، وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، (1) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأقامَ الصلاة"، أدام العمل بها بحدودها، وبقوله"وآتى الزكاة"، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه. (2) * * *   (1) العبودة والعبودية واحد، ولا فعل له عند أبي عبيد. وقال اللحياني فعله"عبد" على زنة"كرم". (2) انظر معنى"إقامة الصلاة" و"إيتاء الزكاة" فيما سلف 1: 572-574، ومواضع أخرى، اطلبها في فهرس اللغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك: فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة = واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية، وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى:"وآتَى المالَ على حُبه ذَوي القربى"، ومن سمى الله معهم، ثم قال بعد:"وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة"، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى، ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له، علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك. وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة، ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده -بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك:"وآتى الزكاة"، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ =كانت= عليهم، إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم. * * * وأما قوله:"والموفون بَعهدهم إذا عاهدوا"، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة، ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:- 2538- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة. * * * وقد بينت"العهد" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل"الصبر" فيما مضى قبل. (2) فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم -في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى"البأساء والضراء" بما:- 2539- حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (3) قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر، وأما الضراء فالسقم. 2540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البأساء الجوع، والضراء المرضُ. 2541- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة، والضراءُ المرضُ. 2542- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة قال:   (1) انظر ما سلف 1: 410-415، 557 / ثم هذا الجزء 3: 20. (2) انظر ما سلف 2: 10-11، 124 / ثم هذا الجزء 3: 214. (3) في المطبوعة"العبقري"، والصواب ما أثبته، وقد ترجم له فيما سلف رقم: 1625. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر، وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [سورة الأنبياء: 83] . 2543- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البؤس: الفاقة والفقر، والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده. 2544- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"البأساء والضراء" قال، البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد. 2545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك قال:"البأساء والضراء"، المرض. (1) 2546- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البأساء: البؤس والفقر، والضراء: السقم والوجع. 2547- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية:"والصابرين في البأساء والضراء"، أما البأساء: الفقر، والضراء: المرض. (2) * * * قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم:   (1) الأثر: 2545- أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء. وهو تفسير"البأساء"، وذكر"الضراء" قبل قوله: "المرض"، وسيأتي على الصواب في الأثر الذي يليه. (2) الخبر: 2547- عبيد بن الطفيل: كنيته: "أبو سيدان"، بكسر السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة، كما سيأتي باسمه وكنيته: 2555. وهو الغطفاني، يروي عنه أيضًا وكيع، وأبو نعيم الفضل بن دكين، قال أبو حاتم: "صالح، لا بأس به". وهو مترجم في التقريب، والخلاصة وابن أبي حاتم 2/2/409. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 "البأساء والضراء"، مصدر جاء على"فعلاء" ليس له"أفعل" لأنه اسم، كما قد جاء"أفعل" في الأسماء ليس له"فعلاء"، نحو"أحمد". وقد قالوا في الصفة"أفعل"، ولم يجيء له"فعلاء"، فقالوا:"أنت من ذلك أوْجل"، ولم يقولوا:"وجلاء". وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن"البأساء"، البؤس،"والضراء" الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير: فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ، كُلُّهُمْ ... كَأَحْمَرِ عَادٍ، ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (1) يعني فتنتج لكم غلمان شؤم. وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء"أفعل" في النكرة، ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله:"لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ"، (2) بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر. وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير، ولو وَقَع   (1) ديوانه: 20، من معلقته الفريدة. وهي من أبياته في صفة الحرب، التي قال في بدئها، قبل هذا البيت: وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيث المُرَجَّمِ مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً، ... وتَضْرَ، إذا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ فَتَعْرُكَكُم عَرْكَ الرَّحَا بِثِفَالِهَا ... وَتلْقَحْ كِشافًا، ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ يقول: إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة، فتأتي بتوأمين في بطن. وقوله: "أحمر عاد" يعني أحمر ثمود، فأخطأ ولم يبال أيهما قال. وأحمر ثمود، هو قدار، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا. يقول: إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر. (2) يقال"فلان غير أبعد"، أي لا خير فيه. ويقال: "ما عند فلان أبعد" أي لا طائل عنده. قال رجل لابنه: "إن غدوت على المربد ربحت عنا، أو رجعت بغير أبعد"، أي بغير منفعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب"أفعل" لم يصرف إلى"فُعلى"، ومن سُمي ب"فُعلى" لم يصرف إلى"أفعل"، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره، ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر"أشأم"، وإذا وقع"البأساء والضراء"، (1) وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على"الضراء"،"الأضر"، ولا على"الأشأم"،"الشأماء". لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث، كما قالوا:"امرأة حسناء"، ولم يقولوا:"رجل أحسن". وقالوا:"رجل أمرد"، ولم يقولوا:"امرأة مرداء". فإذا قيل:"الخصلة الضراء" و"الأمر الأشأم"، دل على المصدر، ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا، وإن كان قد كَفَى من المصدر. وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل"البأساء والضراء"، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا"البأساء" بمعنى: البؤس،"والضراء" بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا"البأساءَ والضراء" إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب"البأساء والضراء"، على قول أهل التأويل، أن تكون"البأساء والضراء" أسماء أفعال، فتكون"البأساء" اسمًا"للبؤس"، و"الضراء" اسمًا"للضر". * * * وأما"الصابرين" فنصبٌ، وهو من نعت"مَن" على وجه المدح. (2) لأن من شأن العرب -إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، (3) كما قال الشاعر: (4)   (1) يعني: إذا وقع بالتأنيث: وقع بمعنى: الخلة البأساء والخلة الضراء. (2) يريد"من" في قوله تعالى: "ولكن البر من آمن. . . " (3) انظر ما سلف 1: 329. (4) لم أعرف قائله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (1) وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُ ... بِذَاتِ الصَّلِيلِ وذَاتِ اللُّجُمْ (2) فنصب"ليث الكتيبة" وذا"الرأي" على المدح، والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر: (3) فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَت ... عَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ (4) غيُوثَ الوَرَى فِي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ ... أُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ (5) * * * وقد زعم بعضهم أن قوله: (6) "والصابرين في البأساء"، نصبٌ عطفًا على"السائلين".   (1) معاني القرآن للفراء 1: 105، والإنصاف: 195، وأمالي الشريف 1: 205، وخزانة الأدب 1: 216. والقرم. السيد المعظم المقدم في المعرفة وتجارب الأمور. والمزدحم: حومة القتال حيث يزدحم الكماة. يمدحه بالجرأة في القتال. (2) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم، وصار المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه. والصليل: صوت الحديد. يعني بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها. وذات اللجم: كتيبة من الفرسان. يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت. فقوله: "بذات الصليل" متعلق بقوله: "تغم الأمور". (3) لم أعرف قائلهما. (4) معاني القرآن للفراء 1: 106، وأمالي الشريف 1: 206. وقوله: "تواضعت"، هو عندي"تفاعل" من قولهم: وضع الباني الحجر توضيعًا: نضد بعضه على بعض. ومنه التوضع: وهو خياطة الجبة بعد وضع القطن. ومنه أيضًا: وضعت النعامة بيضها: إذا رثدته ووضعت بعضه فوق بعض، وهو بيض موضع: منضود بعضه على بعض. يقول: ليت السماء قد انضمت على جميعهم، فكانوا من نجومها. وقوله: "غث منهم وسمين"، مدح، يعني: ليس فيهم غث، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل العلاء. (5) المحل: الجدب والقحط. ورواية الفراء والشريف: "ولزبة". والأزمة والأزبة واللزبة، بمعنى واحد: وهي شدة السنة والقحط. وروايتهما أيضًا: "غيوث الحيا". والحيا: الخصب، ويسمى المطر حيا، لأنه سبب الخصب. والثرى: موضع تأوي إليه الأسود. (6) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 108، ورده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول، وذلك أنّ"الصابرين في البأساء والضراء"، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء -مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله:"والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين"، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل"البأساء والضراء"، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء، وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة"المساكين" الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله:"والصابرين في البأساء". وإذا كان كذلك، ثم نصب"الصابرين في البأساء" بقوله"وآتى المال على حبه"، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء."والموفون" رفعٌ لأنه من صفة"مَنْ"، و"مَنْ" رفعٌ، فهو معرب بإعرابه."والصابرين" نصب -وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَحِينَ الْبَأْسِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وحين البأس"، والصابرين في وقت البأس، وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:- 2548- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله في قول الله:"وحين البأس" قال، حين القتال. (1) 2549- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله مثله. 2550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وحين البأس" القتال. 2551- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وحين البأس"، أي عندَ مواطن القتال. 2552- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وحين البأس"، القتال. 2553- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"وحين البأس"، عند لقاء العدو. 2554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك:"وحين البأس"، القتال 2555- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"وحين البأس" قال، القتال. (2) * * *   (1) الأثر: 2548- في المطبوعة: "العبقري"، وقد مضى مرارا خطأ، وصححناه. وانظر ترجمته في رقم: 1625. (2) الخبران: 2554-2555 أبو نعيم في أولهما؛ هو الفضل بن دكين. وأبو أحمد في ثانيهما: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير. وباقي الإسناد، مضى في: 2547. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين صدقوا"، من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله. * * * وأما قوله:"وأولئك هُم المتقون"، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه، فقاموا بأداء فرائضه. * * * وبمثل الذي قلنا في قوله:"أولئك الذين صَدقوا"، كان الربيع بن أنس يقول: 2556- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك الذين صدقوا" قال، فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل، فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى"، فُرض عليكم. * * * فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟ قيل: لا ولكنه مباح له ذلك، والعفو، وأخذُ الدية. فإن قال قائل: وكيف قال:"كتب عليكم القصاص"؟ قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ، فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل، والقصاصُ منه دون غيره من الناس، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله. والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله:"فَمن عُفي لهُ من أخيه شيء"، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال:"فمن عفي له من أخيه شيء". * * * وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بعضهم بعضًا، فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين، ودياتُ رجالهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 بديات رجالهم، وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى"القصاص" في هذه الآية. * * * فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال:"كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟ قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) [سورة الإسراء: 33] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: 2557- المسلمون تتكافأ دماؤهم. (1) * * * فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟ قيل: اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله، من أجل أنه عَبد، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنزل الله هذه الآية، فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص. * ذكر من قال ذلك: 2558- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد -وحدثني المثنى   (1) الحديث: 2557- رواه الطبري هنا معلقًا، دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 6797، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص: "المسلمون تكافأ داؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". ورواه بنحوه أيضًا ابن ماجه: 2685. ورواه أحمد، بألفاظ مختلفة، مطولا ومختصرًا: 6692، 6970، 7012. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 قال، حدثنا الحجاج- قالا حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة، فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان، وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنزل الله:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى". (1) 2559- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان، فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة، فقيل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا! فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [سورة المائدة: 45] . 2560- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنما هُو القتل، أو العفوُ إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا: لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا. فأنزل الله:"الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى".   (1) العمية (بضم العين أو كسرها، وتشديد الميم وتشديد الياء) : الغواية والكبر واللجاجة في الباطل والفتنة والضلالة. وفي الحديث: "من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو ينصر عصبة، أو يدعو لعصبة، فقتل، قتل قتلة جاهلية". وقال أحمد بن حنبل: هو الأمر الأعمى للعصبية، لا تستبين ما وجهه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 2561- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر في هذه الآية:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، إنما ذلك في قتال عُمية، (1) إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ، تكافآ، وفي المرأتين كذلك، وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله. 2562- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، دخل في قول الله تعالى ذكره:"الحر بالحر"، الرجل بالمرأة، والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء: ليس بينهما فَضل. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء، فأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر، وديات الرجال بالرجال، وديات العبيد بالعبيد، فذلك معنى قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى". * ذكر من قال ذلك: 2563- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم -وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصَّهم بعضَهم من بعض. 2564- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا عبد الله   (1) سلف شرح"عمية" في ص: 359، تعليق: 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 بن المبارك، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ (1) فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية:"الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. 2566- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، نزلت في قتال عُمية. قال شعبة: كأنه في صلح. قال: اصطلحوا على هذا. 2567- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت في قتال عُمية"، (2) قال: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. * * * وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد، ودية الذكر ودية الأنثى، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه. * ذكر من قال ذلك: 2568- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه   (1) الطول: الفضل والعلو. (2) سلف شرح"عمية" في ص: 359، تعليق: 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 كان يقول: أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه، وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ، وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحرّ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ، فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ، فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شَاءوا عفوْا. 2569- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن: أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته، قال: إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية. 2570- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الحسن قال: لا يُقتل الرجل بالمرأة، حتى يُعطوا نصف الدية. 2571- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، عن الشعبي، قال، في رجل قَتل امرأته عمدًا، فأتوا به عليًّا فقال: إن شئتم فاقتلوه، ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في حال مَا نزلت، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: 45] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض. * ذكر من قال ذلك: 2572- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والأنثى بالأنثى"، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى:"النفس بالنفس"، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤُهم. * * * قال أبو جعفر: (1) فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ، فيما نزلت فيه هذه الآية، فالواجب علينا استعمالها، فيما دلت عليه من الحُكم، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العامِّ: أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة -على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره- كان واضحًا (2) فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين، بإجماع جميع أهل الإسلام: على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه، فدعْ جميعَه = وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه -مثل الذي حُرِّم من ذلك- بعوَض يُعطيه عليه. (3) فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا. وإذ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ، وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا: من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني، فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر: وهو أن تكون   (1) قوله: "فإذا كان مختلف" هو تمام قوله في رد السؤال في ص: 358 س: 11. "قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. . ". (2) في المطبوعة: "وكان واضحًا"، والصواب حذف الواو. (3) سياق العبارة: "كان واضحًا فساد من قال بالقصاص. . . بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حرامًا على الرجل. . . وعلى أن حرامًا على غيره. . . ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله. وقد أجمع الجميع -لا خلاف بينهم- على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك، وكان قوله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصَاص" ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا. * * * فإن قال قائل: = إذْ ذكرتَ أن معنى قوله:"كتب عليكم القصاص" - بمعنى: فُرض عليكم القصاص =: لا يعرف (1) لقول القائل:"كتب" معنًى إلا معنى: خط ذلك، فرسم خطًّا وكتابًا، فما برهانك على أن معنى قوله:"كتب" فُرِض؟ قيل: إن ذلك في كلام العرب موجودٌ، وفي أشعارهم مستفيض، ومنه قول الشاعر: (2) كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ (3)   (1) في المطبوعة: "ولا يعرف. . . " والصواب حذف الواو. والسياق: فإن قال قائل. . - لا يعرف" وما بينهما فصل. والذي ذكره في معنى"كتب" قد سلف في ص: 357. (2) هو عمر بن أبي ربيعة، أو عبد الله بن الزبير الأسدي. (3) ديوان عمر: 421، والبيان والتبيين 2: 236، والكامل 2: 154، وتاريخ الطبري 7: 158، وأنساب الأشراف 5: 264، والأغاني 9: 229. ولهذا الشعر خبر. وذلك أن مصعب بن الزبير، لما خرج إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي المتنبئ فظفر به وقتله، كان فيمن أخذ امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير، فلما سألها عنه قالت: رحمة الله عليه، إن كان عبدًا من عباد الله الصالحين: فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله إنها تزعم أنه نبي! فأمر بقتلها. وقتلها الذي تولى قتلها قتلا فظيعًا، فاستنكره الناس، وقالوا فيه، وممن عمر: إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَائِبِ عِنْدي ... قَتْلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ قُتِلَتْ هكذا عَلَى غَيْرِ جُرْم ... إِنَّ لِلهِ دَرَّهَا من قَتِيلِ كُتِبَ القتل. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 وقولُ نَابغةَ بني جعدة: يَا بِنْتَ عَمِّي، كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُم، فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلا! (1) وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك، وإن كان بمعنى: فُرض، فإنه عندي مأخوذ من"الكتاب" الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ، فقال تعالى ذكره في القرآن: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [سورة البروج: 21-22] وقال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) [سورة الواقعة: 77-78] . فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ. فمعنى قوله: -إذ كان ذلك كذلك-"كُتب عليكم القصاص"، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى، فَرضًا، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله. * * * وأما"القصاص" فإنه من قول القائل:"قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي، قصاصًا ومُقاصَّة". فقتل القاتل بالذي قتله"قصاص"، لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله، وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل   (1) اللسان (كتب) وأساس البلاغة (كتب) ، والمقاييس 5: 159، ويروي"يا ابنة عمي"، وفي الأساس: "أخرني"، فأخشى أن تكون خطأ من ناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا، إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله، فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله، فاقتص منه. * * * وأما"القتلى" فإنها جمع"قتيل" كما"الصرعى" جمع"صريع"، والجرحى جمع"جريح". وإنما يجمع"الفعيل" على"الفعلى"، إذا كان صفة للموصوف به، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه، (1) نحو القتلى في معاركهم، والصرعى في مواضعهم، والجرحى، وما أشبه ذلك. * * * فتأويل الكلام إذًا: فُرض عليكم، أيها المؤمنون، القصاصُ في القتلى: أن يُقتص الحر بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر"أن يقتص" اكتفاءً بدلالة قوله:"كُتب عليكم القصاص" = عليه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص -وهو الشيء الذي قال الله:"فمن عُفي له من أخيه شيء"- فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر ما سلف في تفسير"أسرى" 2: 311. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 2573- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس:"فمن عفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدِّي هذا بإحسان. 2574- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنه قال في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، فقال: هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أُمر به الطالب = وأداء إليه بإحسان من المطلوب. 2575- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي -وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر- قالا جميعًا، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال، الذي يقبل الدية، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف، ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان. (1) 2576- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان"، وهي الدية: أن يحسن الطالبُ الطلبَ = وأداء إليه بإحسان: وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ. 2577- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف   (1) الخبر: 2575- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، شيخ الطبري، مضت الرواية عنه أيضًا: 1591. وسيأتي أيضًا: 2594. ووقع في المطبوعة هنا"سفيان" بدل"شقيق". وهو خطأ وتصحيف. فلا يوجد في الرواة من يسمى"محمد بن علي بن الحسن بن سفيان"، ولا باسم أبيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وأداء إليه بإحسان"، والعَفُوُّ: الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية. 2578- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء" قال، الدية. 2579- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد، عن إبراهيم، عن الحسن:"وأداء إليه بإحسان" قال، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان. 2580- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف"، والعفوُّ: الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية. 2581- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، هو العمد، يرضى أهله بالدية. 2582- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن داود، عن الشعبي مثله. 2583- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: قُتل عمدًا فعُفي عنه، وقبلت منه الدية. يقول:"فاتباع بالمعروف"، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف، وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص، لا عَقل فيه، (1) إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية، فمئة خَلِفَة. (2) فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.   (1) العقل: الدية، سميت عقلا، لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا، لأنها كانت أموالهم. فكان القاتل يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه. (2) الخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) : الحامل من النوق. وليس لها جمع من لفظها، بل يقال هي"مخاض"، كما يقال: امرأة ونساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 2584- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، يتبع به الطالبُ بالمعروف، ويؤدي المطلوب بإحسان. 2585- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: فمن قتل عمدًا فعفي عنه، وأخذت منه الدية، يقول:"فاتباع بالمعروف"، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف، وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان. 2586- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفوٌ. 2587- حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص، فذلك قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، قال ابن جريج: وأخبرني الأعرج، عن مجاهد مثل ذلك، وزاد فيه: - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف، وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان. 2588- حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، قال الحسن: أخذ الدية عفوٌ حَسن. 2589- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وأداء إليه بإحسان" قال، أنتَ أيها المعفوُّ عنه. 2590- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، وهو الدية، أن يحسن الطالب = وأداء إليه بإحسان: هو أن يُحسن المطلوب الأداء. * * * وقال آخرون معنى قوله:"فمن عُفي"، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا: معنى قوله:"من أخيه شيء": من دية أخيه شيء، أو من أرْش جراحته، (1) فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف، وأداء = من القاتل أو الجارح = إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان. وهذا قول من زعم أن الآية نزلت - أعني قوله:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عَليكم القصاص في القتلى" - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل"العفو" -في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: (حَتَّى عَفَوْا) [سورة الأعراف: 95] . فكأنّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبَل أخيه القاتل. * ذكر من قال ذلك: 2591- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمنَ عُفي له من أخيه شيء"، يقول: بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته، فليتبع بمعروف، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان. * * * والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله:"كُتب عليكم القصاص" أنه بمعنى: مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى، والعبد من الحر، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله:   (1) الأرش: دية الجنايات والجراحات كالشجة ونحوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 "فمنْ عُفي له من أخيه شيء"، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول، فاتباع من الوليّ بالمعروف، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء": فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب، على دية يأخذها منه، فاتباعٌ بالمعروف = من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه = وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل: من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصاص"، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك"العفو" أيضًا عن ذلك. وأما معنى قَوله:"فاتباع بالمعروف"، فإنه يعني: فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك (1) - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما:- 2592- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من زاد أو ازداد بعيرًا" - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية. (2) * * * وأما إحسان الآخر في الأداء، فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل، على   (1) الفرائض جمع فريضة: وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة في غير الزكاة. (2) الحديث: 2592- هذا حديث مرسل، إذ يرويه"قتادة"، وهو تابعي. ولم أجده في مكان آخر ولا ذكره السيوطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك، أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان، كما قال: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [سورة محمد: 4] ؟ قيل: لو كان التنزيل جاء بالنصب، وكان: فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان- كان جائزًا في العربية صحيحًا، على وجْه الأمر، كما يقال:"ضربًا ضَربًا = وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا"، غير أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل- لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فالأمر فيه: اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان، أو فالقضاء والحكم فيه: اتباع بالمعروف. وقد قال بعض أهل العربية: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [سورة المائدة: 95] ، وقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة: 229] . وأما قوله: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ، فإن الصواب فيه النصب، وهو وجه الكلام، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو، كما يقال:"إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا"، على وجه الحضّ على التكبير، لا على وجه الإيجاب والإلزام. (1) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 109-110. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا (1) الذي حكمت به وسَننته لكم، من إباحتي لكم -أيتها الأمة- العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة ="تخفيف من ربكم"، يقول: تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم، بتحريم ذلك عليهم ="ورحمة"، مني لكم. كما:- 2593- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية، فقال الله في هذه الآية:"كُتب عليكم القصاصُ في القتلى الحر بالحر" إلى قوله:"فمَن عُفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد ="ذلك تخفيف من ربكم". يقول: خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان. (2)   (1) انظر"ذلك" بمعنى"هذا"1: 235-237 / ثم هذا الجزء 3: 335. (2) الحديث: 2593- أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الرازي الدولابي: هو والد"أبي بشر محمد بن أحمد الدولابي" صاحب كتاب الكنى والأسماء. وقد رفعنا نسبه نقلا عن تذكرة الحفاظ 2: 291في ترجمة ابنه الحافظ. وأحمد بن حماد هذا: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم1/1/49، فلم يذكر فيه جرحًا، وذكر أن أباه أبا حاتم سمع منه. سفيان: هو ابن عيينة. والحديث رواه عبد الرزاق في تفسيره، ص: 16، بنحوه. بإسنادين: عن معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وعن ابن عيينة -كالإسناد هنا إلى مجاهد- عن ابن عباس. ورواه البخاري 12: 183 (فتح) ، عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان. بهذا الإسناد. وذكره السيوطي1: 173، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وغيرهم. وذكره ابن كثير 1: 394، من رواية سعيد بن منصور، عن سفيان. ثم قال: "وقد رواه غير واحد عن عمرو. وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار". فقد سها -رحمه الله- عن أن البخاري رواه في صحيحه، فنسبه لصحيح ابن حبان، ولم يذكر البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 2594- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدّية، فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر" إلى آخر الآية،"ذلك تخفيفٌ من ربكم"، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل، فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ. 2595- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" - مما كان على بني إسرائيل، يعني: من تحريم الدية عليهم. 2596- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح، وذلك قول الله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) الآية كلها [سورة المائدة: 45] ، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة، وذلك قوله تعالى:"ذلك تخفيفٌ من ربكم" بينكم. 2597- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة"، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة، أطعمهم الدية، وأحلَّها لهم، ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، وليس بينهما أرْش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم. 2598- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 أبيه، عن الربيع بمثله سواء، غير أنه قال: ليس بينهما شيء. 2599- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا دية، إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم. 2600- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، وأخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص، وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار:"ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة". * * * وأما على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاصُ الديات بعضها من بعض، على ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون = من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته = تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية، ورحمة مني لكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه، عذابٌ أليم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 وقد بينت معنى"الاعتداء" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2601- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فقتل،"فله عذابٌ أليم". 2602- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى"، بعد أخذ الدية،"فله عذاب أليم". 2603- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل، فله عذاب أليم. قال: وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية. (2)   (1) انظر ما سلف 2: 307. (2) الحديث: 2603- وهذا رواه أيضًا قتادة -التابعي- مرفوعًا، فهو مرسل. وكذلك ذكره السيوطي 1: 173، عن قتادة، ونسبه للطبري وابن المنذر فقط. وقد روى المرفوع منه - عبد الرزاق في تفسيره، ص: 16، عن معمر، عن قتادة مرسلا أيضًا. ثم ذكر السيوطي اللفظ المرفوع، ونسبه لسمويه في فوائده، عن سمره. وقد قصر فيه جدًا، كما قصر في الجامع الصغير: 9701، إذ ذكره أيضًا، ونسبه للطيالسي -فقط- عن جابر، يعني جابر بن عبد الله. وحديث الطيالسي -عن جابر-: هو في مسنده: 1763، عن حماد بن سلمة، عن مطر الوراق، عن رجل، عن جابر، فذكره مرفوعًا. وقد رواه أحمد في المسند: 14968، عن عفان، عن حماد بن سلمة: "أخبرنا مطر، عن رجل، أحسبه الحسن، عن جابر بن عبد الله". وكذلك رواه أبو داود في السنن: 4507، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به. فتقصير السيوطي: أن نسبه للطيالسي وحده، وهو في أحد الكتب الستة ومسند أحمد. وعلى كل حال، فحديث جابر ضعيف، لأن إسناده رجلا مبهمًا، أو رجل شك فيه مطر الوراق. وحديث الحسن عن سمرة، ذكره أيضًا ابن كثير 1: 395 قال، "وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. . . "، فذكره مرفوعًا. فهذا إسناد يمكن أن يكون صحيحًا، لو علمنا إسناده إلى سعيد بن أبي عروبة، ومن الذي رواه من طريقه؟ إذا لم أجده بعد طول البحث. ولو وجدناه لكان وصلا لهذا المرسل الذي رواه الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 2604- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك" قال، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ، لا تُقبلُ منه الدية. (1) 2605- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ، فله عذاب أليم. 2606- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية، فذلك"الاعتداء". 2607- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن في هذه الآية:"فمن عُفي لهُ من دم أخيه شيء" قال، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه، وأُخِذ من أوليائه الدية، ثم أمن، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن: ما أكل عُدوانٌ. 2608- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان قال، قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول:"فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم"؟ 2609- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،   (1) الخبر: 2604- رواه الطبري من طريق عبد الرزاق. وهو في تفسيره، ص 16، بهذا الإسناد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 عن السدي:"فمن اعتدى بعد ذلك"، بعد مَا يأخذ الدية، فيقتل"فلا عذابٌ أليم". 2610- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن اعتدى بعد ذلك"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فله عذاب أليم. 2611- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، أخذ العَقْل، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله، فله عذاب أليم. * * * واختلفوا في معنى"العذاب الأليم" الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه. فقال بعضهم: ذلك"العذابُ" هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه. * ذكر من قال ذلك: 2612- حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" قال، يقتل، وهو العذاب الأليم = يقول: العذاب المُوجع. 2613- حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم قال، حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك. 2614- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان، عن عكرمة:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، القتلُ. * * * وقال بعضهم: ذلك"العذابُ" عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 * ذكر من قال ذلك: 2615- حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الليث = غير أنه لم ينسبه، وقال: ثقة =: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عَدا فَقتل، قال ابن جريج: وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب لعمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، و"الاعتداء" الذي ذكر الله: أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح، ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال: ولو عفا عنه، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [يعفو] (1) لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء: 59] . (2) 2616- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس،   (1) الذي بين القوسين، هكذا في الأصل. وصوابه فيما أرجح"أن يقتله". ولم أجد الخبر، ولا كتاب عمر الذي ذكره. (2) الحديث: 2615- هو في الحقيقة حديثان، رواهما ابن جريج، ولم أجدهما في مكان آخر. ولكني لا أسيغ لفظهما أن يكون من ألفاظ النبوة، ولا عليه شيء من نورها. وهو بألفاظ الفقهاء أشبه! فأولهما: رواه ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل اسمه"الليث": "غير أنه لم ينسبه" - فلا أعرف من"الليث" هذا؟ وأما إسماعيل بن أمية: فإنه ثقة، يروي عن التابعين. مترجم في التهذيب. والكبير 1/51/34، وابن أبي حاتم 1/1/159، ونسب قريش: 182، وجمهرة الأنساب لابن حزم: 74. وثانيهما: رواه ابن جريج، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن"كتاب لعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم". والظاهر أنه يريد كتابًا لعمر بن عبد العزيز. ومن المحتمل أن يكون كتابًا لعمر بن الخطاب. وعبد العزيز بن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/389. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 عن الحسن: في رجل قُتل فأخذت منه الدية، ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم"، تأويلُ من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فَقتلَ قاتلَ وليه، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليه، فقال تعالى ذكره (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [سورة الإسراء: 33] . فإذ كان ذلك كذلك: وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. (2) وَإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابُه، لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)   (1) الخبر: 2616- بشر بن معاذ، شيخ الطبري، مضى في: 352. ونزيد هنا أنه ثقة معروف، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/368، وذكر أن أباه كتب عنه، وأنه سئل عنه، فقال: "صالح الحديث صدوق". وهو يروي عن قدماء الشيوخ، مثل"حماد بن زيد" المتوفى سنة 179، وعبد الواحد بن زياد، شيخه هنا، المتوفى تلك السنة. عبد الواحد بن زياد العبدي البصري: أحد الأعلام الثقات. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري: 202، وذكر أنه مات سنة 179، وابن أبي حاتم 3/1/20-21، وابن سعد 7/2/44. يونس: هو ابن عبيد بن دينار العبدي، وهو ثقة، من أوثق أصحاب الحسن وأثبتهم. مترجم في التهذيب. والكبير 4/2/402، والصغير: 160، وابن سعد 7/2/23-24، وابن ابي حاتم 4/2/242. (2) في هذه العبارة غموض، وأخشى أن يكون قد سقط من الكلام شيء، ولكن المعنى العام ظاهر. (3) كالذي رواه البخاري من حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط فقال: أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" (البخاري: كتاب الحدود 8: 162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وأما ما قاله ابن جريج: من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول، فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير، وعُكِس عليه القول فيه، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب"، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة. (1) * * * واختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك:   (1) قدعه يقدعه قدعًا: كفه. ومنه: "اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة"، أي كفوها عما تشتهي وتريد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 2617- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب" قال، نكالٌ، تَناهٍ. 2618- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، نكالٌ، تَناهٍ. 2619- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2620- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"ولكم في القصاص حياة"، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه. 2621- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" قال، قد جعل الله في القصاص حياة، إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل. 2622- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولكم في القصاص حياة" الآية، يقول: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص. 2623- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، نكالٌ، تناهٍ. قال ابن جريج: حَياةٌ. مَنعةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 2624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، حياةٌ، بقية. (1) إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني، لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي، فيذكر أن يُقْتَل في القصاص، فيخشى أن يقتل بي، فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا. 2625- حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، بقاء. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر، وبالعبد الحرّ. * ذكر من قال ذلك: 2626- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكم في القصاص حياة"، يقول: بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته. * * * وأما تأويل قوله:"يا أولي الألباب"، فإنه: يا أولي العقول."والألباب" جمع"اللب"، و"اللب" العقل. * * * وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم. * * *   (1) بقية: أي إبقاء. وأخشى أن تكون"تقية" بالتاء، أي اتقاء، كما يدل عليه سائر الأثر. وكلتاهما صحيحة المعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 القول في تأويل قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) } قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"لعلكم تتقون"، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما:- 269- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لعلكم تتقون" قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) } قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"كُتب عليكم"، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية = إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال = للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه، بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته = حقًّا على المتقين = يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه، وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به. * * * فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصى لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟ قيل: نعم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟ قيل: نعم. فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: قول الله تعالى ذكره:"كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين"، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه، كما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [سورة البقرة: 183] ، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه، مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل. فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟ قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه. وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين. * ذكر من قال ذلك: 2628- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية. 2629- حدثني سَلم بن جنادة. (1) قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش،   (1) في المطبوعة: "سالم بن جنادة". وهو خطأ. وقد مضى مرارًا، وانظر ترجمته في رقم: 48. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 عن مسلم، عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم، وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه، أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه. 2630- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين. 2631- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم! 2632- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن رجل، عن الشعبي قال: لم يكن له [مَوَال] ، ولا كرامة. (1) 2633- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "لم يكن له حال ولا كرامة". وهو خطأ بلا شك عندي. فإن هذا الخبر تعليق على الخبر السالف الذي تعجب فيه المغيرة من فعل أبي العالية: أعتقته امرأة من بني رياح، وأوصى بماله لبني هاشم! فرد الشعبي تعجب المغيرة فقال: إن أبا العالية لا موالي له، ولا كرامة لأحد. وخبر ذلك أن أبا العالية اشترته امرأة، ثم ذهبت به إلى المسجد، فقبضت على يده. فقالت: اللهم اذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف. قال أبو العالية: والسائبة يضع نفسه حيث شاء. (ابن سعد 7/1/81) . والسائبة: العبد يعتق على أن لا ولاء له. واختلف الفقهاء في ميراث السائبة، إذا ترك ميراثًا: أيرثه معتقه، أم لا يحل له أن يرزأ من ماله شيئًا؟ قيل: لما هلك أبو العالية أتى مولاه بميراثه، فقال: هو سائبة! وأبى أن يأخذه. وفي حديث عمر: "السائبة والصدقة ليومهما" قال أبو عبيدة: أي ليوم القيامة، واليوم الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقة فيه. يقول: فلا يرجع إلى الانتفاع بشيء منها بعد ذلك في الدنيا. وانظر ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (ابن سعد 3/1/60) فقد كان سائبة، وقتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر، فأرسل أبو بكر ماله لمولاته فأبت أن تقبله، فجعله عمر في بيت المال. فهذا ما أراد الشعبي أن يقول: إن أبا العالية سائبة، فهو لا موالي له، وماله يضعه حيث شاء، ولا كراهة في ذلك لأحد من الموالي، لأن ذلك هو حكم السائبة. هذا ما رأيت في تصحيح هذه الجملة، ولم أجدها في مكان آخر، فأسأل الله أن أكون قد بلغت التوفيق، وجنبت الزلل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 أيوب، عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته. 2634- حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير (1) قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا. 2635- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير (2) قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا. * * * واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية. فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها، وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب، والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله، وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم. ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك: 2636- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون، قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم، وثلث الثلث لمن أوصى له به. 2637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي   (1) في المطبوعة: "عمران بن جرير"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري، صلى على جنازة خلف أنس. روى عن أبي مجلز، وأبي قلابة، وغيرهما وعنه وأبو مجلز، هو لاحق بن حميد، المذكور في الإسناد التالي. (2) في المطبوعة: "عمران بن جرير"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري، صلى على جنازة خلف أنس. روى عن أبي مجلز، وأبي قلابة، وغيرهما وعنه وأبو مجلز، هو لاحق بن حميد، المذكور في الإسناد التالي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لمن أوصى له به. 2638- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد، عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث، وثلثا الثلث لقرابته. 2639- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته. * * * وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه، وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه. * ذكر من قال ذلك: 2640- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون، وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم، ولا تجوز وصية لوارث. 2641- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، نسخ الوالدان منها، وترك الأقربون ممن لا يرث. 2642- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 والأقربين" قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون. 2643- حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين، فلما نزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. (1) . 2644- حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل المكي، عن الحسن في قوله:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون. 2645- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية:"الوصية للوالدين والأقربين" قال، للوالدين منسوخة، والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ. 2646- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين،   (1) الخبر: 2643- يحيى بن نصر، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد في الرواة من يدعي بهذا، إلا رجلا قديمًا لم يدركه الطبري، وهو"يحيى" بن نصر بن حاجب القرسي"، مات سنة 215 قبل أن يولد أبو جعفر. وهو مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/193، وتاريخ بغداد 14: 159-160، ولسان الميزان 6: 278-279. وفي تاريخ بغداد 14: 225-226 ترجمة"يحيى بن أبي نصر، أبو سعد الهروي"، واسم أبيه منصور بن الحسن". وهذا توفي سنة 287. ولكن يبعد أن يسمع من"يحيى بن حسان" المتوفى سنة 208. وفي التهذيب 11: 292-293 ترجمة ثالثة: "يحيى بن النضر بن عبد الله الأصبهاني الدقاق"، يروي عن أبي داود الطيالسي، ويروي عنه أبو بكر بن أبي داود السجستاني. وهو مترجم أيضًا في تاريخ إصبهان 2: 257-258. فهذا من هذه الطبعة. ومن المحتمل جدًا أن يكون هو الذي روى عنه الطبري هنا. وأما شيخه"يحيى بن حسان": فهو التنيسي البكري، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/269، والصغير: 229، وابن أبي حاتم 4/2/135. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 فأنزل الله بعد هذا: (وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ) [سورة النساء: 11] ، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين، وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت. 2647- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون. 2648- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف" قال، كان هذا من قبل أن تُنزل"سورة النساء"، فلما نزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين، فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون. 2649- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار، والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى:"إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، قالا في القرابة. 2650- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن إياس بن معاوية قال: في القرابة. * * * وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ. * ذكر من قال ذلك: 2651- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 "إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين" الآية، قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض. 2652- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا، فقرأ عليهم"سورة البقرة" ليبين لهم منها، فأتى على هذه الآية:"إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين" قال، نُسخت هذه. 2653- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ. 2654- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن جهضم، عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين" قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه. 2655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث. 2656- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة، عن شريح في هذه الآية:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نزلت آية الميراث. 2657- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في"سُورة النساء"، الآيةَ في"سُورة البقرة" في شأن الوصية. 2658- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين" قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة. 2659- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في"سورة النساء": (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [سورة النساء: 11] 2660- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، أما الوالدان والأقربون، فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ، إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها"النساء"، فقال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) . 2661- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد. 2662- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة -يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: (1) أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: 75] . 2663- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد، عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية، فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ، وأوصَى أبو بكر، أيِّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.   (1) في المطبوعة: "بن خثيم"، وأثبت ما في التهذيب، وانظر ترجمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 2664- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله. * * * وأما"الخير" الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:- 2665- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرك خيرًا"، يعني مالا. 2666- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن ترك خيرًا"، مالا. 2667- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة (1) قال، حدثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن تَرَك خيرًا"، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، (لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [سورة العاديات: 8] ، الخير: المال - (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [سورة ص: 32] ، المال - (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [سورة النور: 33] ، المال = و (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) ، المالُ. 2668- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن ترك خيرًا الوصية"، أي: مالا. (2) 2669- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "أبو جعفر" والصواب"أبو حذيفة"، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم: 2659. (2) الأثر: 2668- في المطبوعة: "حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا سعيد" أسقط"حدثنا يزيد"، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم: 2640. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 أسباط عن السدي:"إن تَرك خيرًا الوصية"، أما"خيرًا"، فالمالُ. 2670- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إن ترك خيرًا" قال، إن ترك مالا. 2671- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله:"إن ترك خيرًا" قال، الخيرُ المال. 2672- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك في قوله:"إن ترك خيرًا الوصية" قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) [سورة هود: 84] يعني الغني. 2673- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، تلا"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا"، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال. * * * ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية. فقال بعضهم: ذلك ألف درهم. * ذكر من قال ذلك: 2674- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة في هذه الآية:"إن تَرَك خيرًا الوصية" قال، الخيرُ ألف فما فوقه. 2675- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة، عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده، فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي. قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 2676- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي (1) وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض، فذكر لهُ الوصية، فقال: لا تُوص، إنما قال الله:"إن تَرك خيرًا"، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك. 2677- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور بن صفية، عن عبد الله بن عيينة -أو: عتبة، الشك مني-: أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير، وترك أربعمئة دينار، فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا. 2678- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم، فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله:"إن ترك خيرًا"، وليس لك كثير مال. * * * وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف. * ذكر من قال ذلك: 2679- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله:"إن ترك خيرًا" قال، ألف درهم إلى خمسمئة. * * * وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره. * ذكر من قال ذلك:   (1) ضبطه في الخلاصة"بكسر المهملة" وفي التهذيب والميزان"الجذامي" بجيم مضمومة، ثم ذال معجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 2680- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية" ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه"خيرٌ"، ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف، كما قال الله جل ذكره وأمرَ به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي -من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه- بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته. * * * فإن قال لنا قائل: وعلامَ عادت"الهاء" التي في قوله:"فمن بدّله"؟ قيل: على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له. ومعنى الكلام:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا عَلى المتقين"، فأوصوا لهم، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم، فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وإنما قلنا إن"الهاء" في قوله:"فمن بدله" عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ، لأن قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية" من قول الله، وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله، فيجوز أن تكون"الهاء" في قوله:"فمن بدله" عائده على"الوصية". وأما"الهاء" في قوله:"بعد ما سمعه"، فعائدة على"الهاء" الأولى في قوله:"فمن بَدَّله". وأما"الهاء" التي في قوله:"فإنما إثمه"، فإنها مكنيُّ"التبديل"، كأنه قال: فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2681- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن بدَّله بَعد ما سمعه" قال، الوصية. 2682- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 2683- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه"، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه، وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته، كما قال الله: (غَيْرَ مُضَارٍّ) [سورة النساء: 12] 2684- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه"، قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 2685- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا: عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه"، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف، فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم. 2686- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قتادة: أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه"، قال: يُمضَى كما قال. 2687- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"فمن بدّله بعد ما سمعه"، قال: من بدل وصية بعد ما سمعها. 2688- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في هذه الآية:"فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه"، قال: هذا في الوصية، من بدَّلها من بعد ما سمعها، فإنما إثمه على من بَدَّله. 2689- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا: تُمضى الوصية لمن أوصَى له به = إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى، وزاد ابن بشار في حديثه = قال قتادة: وقال عبد الله بن معمر: أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته، وما يعجبني أن أنزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة: وأعجبه إليّ لمن أوصى له به، قال الله عز وجل:"فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه". * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن الله سميع" = لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها، أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف، أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ ="عليمٌ" بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل، أم الجور والحيْف. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية. فقال بعضهم: تأويلها: فمن حضر مريضًا وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له، أو أن يعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به، فلا حرج على من حَضره فسمع ذلك منه أنْ يصلح بينه وبين وَرَثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وأن ينهاهم عن مَنعه مما أذن الله له فيه وأباحه له. * ذكر من قال ذلك: 2690- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو يموت، فإذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصَّر قالوا: افعل كذا، أعطِ فلانًا كذا. 2691- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فمن خَافَ من مُوص جَنفا أو إثما"، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو في الموت، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل، (1) وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعط فلانًا كذا. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خافَ - من أولياء ميت، (2) أو وَالِي أمر المسلمين - من مُوص جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت، فأصلح بين وَرَثته وبين الموصى لهم بما أوصَى لهم به، فرد الوصية إلى العدل والحقّ، فلا حرج ولا إثم. * ذكر من قال ذلك: 2692- حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فمن خاف من مُوص جَنفًا" -يعني: إثْمًا- يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرجٌ أن يردوا خطأه إلى الصواب. 2693- حدثنا الحسن بن يحيى، (3) حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: هو الرجل يُوصي   (1) في المطبوعة: "فإذا أشرف على الموت أمروه بالعدل"، وهو لا يستقيم مع سياق الخبر، ولا مع الخبر الذي قبله عن مجاهد أيضًا. ورجحت أن يكون الناسخ صحف"الجور" فجعلها"الموت" أو سها أو سبق قلمه. أو لعله أخطأ وصحف وزاد، وأن أصل عبارته كالسياق قبله: "فإذا أسرف أمروه بالعدل". وكلاهما جائز، وصواب في المعنى. (2) في المطبوعة: "أوصياء ميت"، وهما سواء. (3) في المطبوعة: "الحسن بن عيسى" وهو خطأ صرف، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه إلينا رقم: 2684. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 فيحيف في وصيته، فيردها الوليّ إلى الحقّ والعدل. (1) 2694- حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، وكان قتادة يقول: من أوصى بجورٍ أو حيْف في وصيته فردها وَليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين، إلى كتاب الله وإلى العدل، فذاك له. 2695- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، فمن أوصى بوصية بجور، فردَّه الوصيُّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه - قال عبد الرحمن في حديثه:"فاصلح بينهم"، يقول: رده الوصيّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه. 2696- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصْلح بينهم"، قال: رده إلى الحق. 2697- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم قال، سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث؟ قال: اردُدها. ثم قرأ:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا". 2698- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: رده الوصي إلى الحق بعد موته، فلا إثم على الوصي. * * * وقال بعضهم: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا في عطيته   (1) في المطبوعة: "الوالي"، والصواب ما أثبت، أي ولي الميت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 عند حضور أجله بعضَ ورثته دون بعض، فلا إثم على من أصلح بينهم = يعني: بين الورثة. * ذكر من قال ذلك: 2699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله:"فمن خاف من موص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الرجل يحيف أو يأثم عند موته، فيعطي ورثته بعضَهم دون بعض، يقول الله: فلا إثم على المصلح بينهم. فقلت لعطاء: أله أن يُعطي وارثه عند الموت، إنما هي وصية، ولا وصية لوارث؟ قال: ذلك فيما يَقسم بينهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من مُوص جنفًا أو إثمًا في وصيته لمن لا يرثه، بما يرجع نفعه على من يَرثه، فأصلح بينَ وَرَثته، فلا إثم عليه. * ذكر من قال ذلك: 2700- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يَقول: جَنفُه وإثمه، أنْ يوصي الرجل لبني ابنه ليكونَ المالُ لأبيهم، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها؛ وذو الوارث الكثير والمالُ قليل، فيوصي بثلث ماله كله، فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير. قلت: أفي حياته أم بعد موته؟ قال: ما سمعنا أحدًا يقول إلا بعد موته، وإنه ليوعظ عند ذلك. 2701- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"فمن خافَ من موص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم"، قال: هو الرجل يوصي لولد ابنته. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جَنفًا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه. * ذكر من قال ذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 2702- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه". أما"جنفًا": فخطأ في وصيته، وأما"إثمًا": فعمدًا يَعمد في وصيته الظلم. فإن هذا أعظمُ لأجره أن لا يُنفذها، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق، ينقص بعضًا ويزيد بعضًا. قال: ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين. 2703- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال:"الجنَف" أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية،"والإثم" أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض،"فأصلح بينهم" الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين - الابن والبنون هُم"الأقربون" - فلا إثم عليه. فهذا الموصَى الذي أوْصى إليه بذلك، وجعل إليه، فرأى هذا قد أجنفَ لهذا على هذا، فأصلح بينهم فلا إثم عليه، فعجز الموصِي أن يوصي كما أمره الله تعالى، وعجز الموصَى إليه أن يصلح، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم، ففرضَ الفرائض. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا = وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثمًا في وصيته، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الوَرَثة كثرةٌ = فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم، وبين ورثة الميت، وبين الميت، بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه:"كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، وذلك هو"الإصلاح" الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 قال الله تعالى ذكره:"فأصلح بينهم فلا إثم عليه". وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه، فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف. وإنما اخترنا هذا القول، لأن الله تعالى ذكره قال:"فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا"، يعني بذلك: فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم، بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم، ولوْ كان ذلك معناه لقيل: فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا -أو أيقن أو علم- ولم يقل: فمن خَافَ منه جَنفًا. * * * فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟ قيل: إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح، فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين، (1) فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن"الإصلاح"، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه. فإن قال قائل: فكيف قيل:"فأصلح بينهم"، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين، أو المخوف اختلافهم، ذكرٌ؟   (1) في المطبوعة: "فمن الإصلاح بين الفريقين. . "، والصواب زيادة، "الإصلاح"، كما يدل عليه السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 قيل: بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم، وهم والدا المُوصي وأقربوه، والذين أمروا بالوصية في قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَركَ خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، ثم قال تعالى ذكره:"فمن خافَ من مُوص" -لمن أمرته بالوصية له-"جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم" -وبين من أمرته بالوصية له-"فلا إثم عليه". والإصلاح بينه وبينهم، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي. * * * قال أبو جعفر: وقد قرئ قوله:"فمنْ خَافَ منْ مُوص" بالتخفيف في"الصاد" والتسكين في"الواو" - وبتحريك"الواو" وتشديد"الصاد". فمن قرأ ذلك بتخفيف"الصاد" وتسكين"الواو"، فإنما قرأه بلغة من قال:"أوصيتُ فلانًا بكذا". ومن قرأ بتحريك"الواو" وتشديد"الصاد"، قرأه بلغة من يقول:"وصَّيت فلانًا بكذا". وهما لغتان للعرب مشهورتان:"وصَّيتك، وأوصيتك" (1) وأما"الجنف"، فهو الجورُ والعدول عن الحق في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: (2) هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ (3) يقال منه:"جَنف الرجل على صاحبه يَجنَف" -إذا مال عليه وجَار-"جَنفًا". * * *   (1) انظر تفسير (وصى) فيما سلف من هذا الجزء 3: 93-96. (2) هو عامر الخصفي، من بني خصفة بن قيس عيلان. (3) مجاز القرآن لأبي عبيدة: 66، 67، ومشكل القرآن: 219، واللسان (جنف) (ولي) . والمولى: ابن العم، وأقام المفرد مقام الجمع، وأراد"المولى"، قال أبو عبيدة هو كقوله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) وزور جمع أزور: وهو المائل عن الشيء. يقول: هم أبناء عمنا، ونحن نكره أن نلاقيهم فنقاتلهم، لما لهم من حق الرحم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 فمعنى الكلام من خاف من موص جَنفًا له بموضع الوصية، وميلا عن الصواب فيها، وجورًا عن القصد أو إثمًا بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك، فأصلح بينهم، فلا إثم عليه. * * * وبمثل الذي قلنا في معنى"الجنف""والإثم"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2704- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"فمن خاف من موص جَنفًا"، يعني بالجنف: الخطأ. 2705- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عبد الملك، عن عطاء:"فمن خاف من موص جَنفًا"، قال: ميلا. 2706- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله. 2707- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن الحارث ويزيد بن هارون قالا حدثنا عبد الملك، عن عطاء مثله. 2708- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الجنفُ الخطأ، والإثم العمد. 2709- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن عطاء مثله. 2710- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، أما"جَنفًا" فخطأ في وصيته، وأما"إثمًا": فعمدًا، يعمد في وصيته الظلم. (1) 2711- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) الأثر: 2710- مضى رقم: 2702 مطولا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فمن خَافَ من مُوص جنفًا أو إثمًا"، قال: خطأً أو عمدًا. (1) 2712- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع:"فمن خَاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد. 2713- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس مثله. 2714- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الجنف: الخطأ، والإثم العمد. 2715- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"فمن خاف من مُوص جَنفًا"، قال: خطأ،"أو إثمًا" متعمدًا. 2716- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا"، قال: ميلا. 2717- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"جَنفًا" حَيْفًا،"والإثم" ميله لبعض على بعض. وكلّه يصير إلى واحد، كما يكون"عفوًّا غَفورًا" و"غَفورًا رَحيمًا". 2718- حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن   (1) الأثر: 2711- كان في المطبوعة: "فمن خاف من موص جنفًا" قال: جنفًا إثما"، وهي عبارة مضطربة فاسدة، فلم أستجز تركها على فسادها ونقلت قول مجاهد الذي أخرجه سفيان بن عيينة وعبد بن حميد فيما نقله السيوطي في الدر المنثور 1: 175. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 جريج قال، قال ابن عباس: الجنف" الخطأ، والإثم: العمد. 2719- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد. (1) * * * وأما قوله:"إنّ الله غَفورٌ رَحيم"، فإنه يعني: والله غَفورٌ للموصي (2) = فيما كان حدَّث به نفسه من الجنف والإثم، إذا تَرَك أن يأثم ويَجنف في وصيته، فتجاوزَ له عما كان حدَّث به نفسه من الجور، إذ لم يُمْضِ ذلك فيُغْفِل أن يؤاخذه به (3) ="رحيمٌ" بالمصلح بينَ المُوصي وبين من أراد أن يَحيف عليه لغيره، أو يَأثَم فيه له. * * *   (1) الخبر: 2719- الحسين بن الفرج الخياط البغدادي: شيخ لا يعبأ بروايته، قال فيه ابن معين: "كذاب، صاحب سكر، شاطر"؛ مترجم في ابن أبي حاتم 1/2/62-63، وتاريخ إصبهان 1: 266-267، وتاريخ بغداد 8: 84-86، ولسان الميزان 2: 307. والطبري يروي عنه في التفسير كثيرًا بإسناد مجهول، يقول: "حدثت عن الحسين بن الفرج". ولعل ذلك من أجل ضعف حديثه، فلا يصل الإسناد إليه. وصرح في بعض مرات في التاريخ باسم من حدثه عنه، انظر التاريخ 1: 30، 42. ويقع اسمه في المطبوعة على الصواب، كما في 2898. وكثيرًا ما يقع خطأ مصفحًا: "الحسن بن الفرج"، كما في هذا الموضع، وكما في: 2750. ومن ذلك ما مضى: 691، وقلت هناك: "لم أعرف من هو؟ ". فيصحح في ذاك الموضع، وحيثما جاء في التفسير. الفضل بن خالد: مضت ترجمته: 691. (2) كان في المطبوعة: "غفور رحيم للموصى. . "، وليس صوابًا، وسياق عبارته دال على صواب ما أثبتنا. (3) في المطبوعة: "فيفعل أن يؤاخذه به"، ولعل الصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا. (1) ويعني بقوله:"كتب عليكم الصيام"، فرض عليكم الصيام. (2) و"الصيام" مصدر، من قول القائل:"صُمت عن كذا وكذا" -يعني: كففت عنه-"أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا". ومعنى"الصيام"، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل:"صَامت الخيل"، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان: خَيْلٌ صِيَامٌ، وخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ، وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا (3) ومنه قول الله تعالى ذكره: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [سورة مريم: 26] يعني: صمتًا عن الكلام. * * * وقوله:"كما كُتب على الذين من قبلكم"، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم. * * *   (1) انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف 1: 234-235، والمراجع في فهرس اللغة. (2) انظر تفسير"كتب" فيما سلف في هذا الجزء 3: 357، 364، 365. (3) ديوانه: 106 (زيادات) واللسان (علك) (صام) . ولكنه من قصيدته التي أولها: بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى حَبْلُهَا انْجَذَمَا وقد فسر"صامت الخليل" بأنها الإمساك عن السير، وعبارة اللغة، "صام الفرس" إذا قام في آريه لا يعتلف، أو قام ساكنًا لا يطعم شيئًا. وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير، فهو صائم. والعجاج: الغبار الذي يثور، يعني أنها في المعركة لا تقر. وعلك الفرس لجامه: لاكه وحركه في فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا. فقال بعضهم: الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا، أنه كمثل الذي كان عليهم، هم النصارى. وقالوا: التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه. * ذكر من قال ذلك: 2720- حدثت عن يحيى بن زياد، عن محمد بن أبان [القرشي] ، عن أبي أمية الطنافسي، عن الشعبي أنه قال: لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. (1) ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. (2) فذلك قوله:"كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم"، (3) * * *   (1) في معاني القرآن للفراء: "فعدوه ثلاثين يومًا". (2) في معاني القرآن: "يستن سنة الأول حتى صارت. . ". (3) الخبر: 2720- يحيى بن زياد أبو زكرياء: هو الفراء الإمام النحوي، وهو ثقة معروف مترجم في التهذيب. وتاريخ بغداد 14: 149-155. وفي دواوين كثيرة. محمد بن ابان: نقل أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذا الخبر مذكور في كتاب"معاني القرآن" للفراء رواه عن"محمد بن أبان القرشي". ومحمد بن أبان القرشي: هو"محمد بن أبان بن صالح بن عمير"، مولى لقريش. ترجمه البخاري في الكبير 1/1/34، برقم 50. وقال: "يتكلمون في حفظه" وذكر في الصغير مرتين، ص: 188، 214. وقال في أولاهما: "يتكلمون في حفظ محمد بن أبان، لا يعتمد عليه". وقال في الضعفاء، ص: 30"ليس بالقوي". وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/199، برقم: 1119، وروى تضعيفه عن يحيى بن معين. والراجح عندي أنه هو الذي روى عنه الفراء، فإن ابن أبي حاتم ذكر من الرواة عن القرشي هذا - أبا داود الطيالسي، وهو من طبقة الفراء. وأما ترجمته في التهذيب 9: 2-3 فإنها مختلة مضطربة، خلط فيها بين هذا وبين"محمد بن أبان الواسطي"، وشتان بينهما. والواسطي مترجم عند البخاري، برقم: 48، وعند ابن ابي حاتم، برقم: 1121. وكلاهما لم يذكر فيه جرحًا. "عن أبي أمية الطنافسي": كذا ثبت هنا. وليس لأبي أمية الطنافسي ترجمة ولا ذكر، فيما رأينا من المراجع. وإنما المترجم ابنه"عبيد بن أبي أمية". وهو الذي يروي عن الشعبي. وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2/2/401. وهذا الخبر في معاني القرآن للفراء 1: 111، ونقله السيوطي 1: 176، ولم ينسبه لغير الطبري. ولكنه اختصره جدًا. +كأنه تلخيص لا نقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 وقال آخرون: بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ: أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، النصارى. * ذكر من قال ذلك: 2721- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، (1) فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر.   (1) سيأتي خبر أبي صرمة وعمر في الآثار رقم: 2935-2952. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 2722- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة. * * * وقال آخرون: الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب. * ذكر من قال ذلك: 2723- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب. * * * وقال بعضهم: بل ذلك كان على الناس كلهم. * ذكر من قال ذلك: 2724- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب شهرُ رمضان على الناس، كما كُتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر. 2725- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، رمضانُ، كتبه الله على من كان قَبلهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب،"أيامًا معدودات"، وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا باتباع إبراهيم، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ، فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء. وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان، مثل الذي فُرض علينا سواء. * * * وأما تأويل قوله:"لعلكم تَتقون"، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. (1) يقول: فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم. * * * وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل: * ذكر من قال ذلك: 2726- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"لعلكم تتقون"، يقول: فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره، كتب عليكم أيها الذين آمنوا - الصيامُ أيامًا معدودات. ونصبَ"أيامًا" بمضمر من الفعل، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم، أن تصوموا أيامًا معدودات، كما يقال:"أعجبني الضربُ، زيدًا". * * *   (1) انظرتفسير"لعل" بمعنى"لكي" 1: 364، 365 / ثم 2: 69، 161، واطلبه في الفهرس أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 وقوله:"كما كتب على الذين من قبلكم" من الصيام، كأنه قيل: كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم: أن تصوموا أيامًا معدودات. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيما عَنى الله جل وعز بقوله:"أيامًا معدودات". فقال بعضهم:"الأيام المعدودات"، صومُ ثلاثة أيام من كل شهر. قال: وكان ذلك الذي فُرض على الناس من الصيام قبل أن يُفرض عليهم شهرُ رمضان. * ذكر من قال ذلك: 2727- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان عليهم الصيامُ ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يُسمِّ الشهرَ أيامًا معدودات. قال: وكان هذا صيام الناس قبل، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهرَ رمصان. 2728- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، وكان ثلاثةَ أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان. فهذا الصوم الأول، من العتمة. 2729- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة. عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يومَ عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أنزل الله جل وعزّ فرضَ شهر رمضان، فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم" حتى بلغ:"وَعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مِسكين". (1)   (1) الحديث: 2729- يونس بن بكير: مضت ترجمته، في: 1605. ووقع في المطبوعة هنا"بشر بن بكير"، وهو خطأ واضح. وسيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد -بأطول مما هنا- على الصواب، برقم: 2733. عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة: هو المسعودي، وهو ثقة، تكلموا فيه بأنه تغير في آخر حياته قبل موته بسنة أو سنتين. مات سنة 160. مترجم في التهذيب. وابن سعد 6: 254، وابن أبي حاتم 2/2/250-252. وهذا الحديث قطعة من حديث مطول، في أحوال الصلاة، وفي أحوال الصيام. مضت قطعة صغيرة منه، في شأن الصلاة إلى بيت المقدس: 2156، من طريق أبي داود الطيالسي، عن المسعودي. ورواه أحمد في المسند بطوله 5: 246-247 (حلبي) ، عن أبي النضر، يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي. وكذلك رواه أبو داود السجستاني: 507، من طريق أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون. وروى الحاكم في المستدرك 2: 274، شطره الذي في أحوال الصيام، من طريق أبي النضر، عن المسعودي. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونقله ابن كثير 1: 402-404، كاملا، عن رواية المسند. بإسنادها. وذكره السيوطي، كاملا أيضًا 1: 175-176، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 2730- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قد كتب الله تعالى ذكره على الناس، قَبل أن ينزل رمضان، صومَ ثلاثة أيام من كل شهر. * * * وقال آخرون: بل الأيام الثلاثةُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُها قبل أن يفرض رمضان، كان تَطوعًا صوْمهُنّ، وإنما عنى الله جل وعز بقوله:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم أيامًا معدودات"، أيامَ شَهر رمضان، لا الأيامَ التي كان يصومهن قبل وُجوب فرض صَوم شهر رمضان. * ذكر من قال ذلك: 2731- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال، حدثنا أصحابنا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرَهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا لا فريضةً. قال: ثم نزل صيام رمضان - قال أبو موسى: قوله:"قال عمرو بن مرة: حدثنا أصحابنا" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 يريد ابن أبي ليلى، كأنّ ابنَ أبي ليلى القائلُ:"حدثنا أصحابنا". (1) 2732- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى، فذكر نحوه. * * *   (1) الحديث: 2731- وهذه قطعة من الحديث السابق، الطويل، الذي أشرنا إليه في: 2729، ولكنه هنا مروي من طريق آخر، طريق شعبة عن عمرو بن مرة. ويقول هنا عمرو بن مرة"حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، إلخ. فلو أخذ هذا على ظاهره، لكان مرسلا. فلذلك فسره أبو موسى -وهو محمد بن المثنى شيخ الطبري- بأن الذي قال هذا هو عبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم تلاه المثنى بالرواية بعده: 2732، عن أبي داود -وهو الطيالسي- عن شعبة"قال: سمعت عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى". وهذا هو الإسناد الذي أشرنا آنفًا إلى رواية الطبري قطعة أخرى من الحديث، به، في: 2156. والظاهر أن ابن المثنى سمع الحديث من محمد بن جعفر مرتين أو أكثر، إحداها على هذا الوجه الذي هنا، وبعضها على الوجه الواضح الصريح، بذكر ابن أبي ليلى. فقد روى الحديث -كله- أبو داود السجستاني في السنن: 506، بإسنادين، أحدهما إسناد الطبري هذا، أعني عن محمد بن المثنى. فقال أبو داود: "حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى -ح- وحدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت ابن أبي ليلى، قال، أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وحدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. . . ". فأعاد في الإسناد الثاني -في طريق شعبة- قول عمرو بن مرة: "سمعت ابن أبي ليلى". ولعله أراد بهذه الإعادة، التي فيها التصريح باسم ابن أبي ليلى، رفع التوهم أن يظن أن تلك الرواية التي لم يصرح فيها محمد بن جعفر باسم"ابن أبي ليلى" تعلل هذه الرواية الصريحة. أو يؤيد هذا قول الطبري -عقب الحديث-: "قال أبو موسى: قوله"قال عمرو بن مرة حدثنا أصحابنا" - يريد ابن أبي ليلى، كأن ابن أبي ليلى القائل: حدثنا أصحابنا". وأبو موسى: هو محمد بن المثنى نفسه، شيخ الطبري وأبي داود. فحين حدث بالرواية المبهمة -التي في الطبري هنا- فسرها بالرواية الأخرى الموضحة، وصرح في تفسيره بأن القائل"حدثنا أصحابنا" هو ابن أبي ليلى، لا عمرو بن مرة. تحرزًا من إيهام أن الإسناد يكون مرسلا إذا كان القائل ذلك هو عمرو بن مرة. وقد عقب الطبري على ذلك، بالإسناد من طريق أبي داود الطيالسي، الذي فيه التصريح بسماع عمرو بن مرة ذلك من ابن أبي ليلى: 2732. وقول ابن أبي ليلى"حدثنا أصحابنا" - يريد به الصحابة، مثل معاذ وغيره. وابن أبي ليلى من كبار التابعين. ويؤيد هذا رواية البخاري 4: 164 (فتح) ، قطعة من الحديث نفسه المطول، رواية معلقة بصيغة الجزم. فقال: "وقال ابن نمير: حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرة، حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم". وقال الحافظ: "وصله أبو نعيم في المستخرج، والبيهقي من طريقه. . . وهذا الحديث أخرجه أبو داود، من طريق شعبة والمسعودي، عن الأعمش مطولا، في الأذان، والقبلة، والصيام. واختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا. وطيق ابن نمير هذه أرجحها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من قال: عنى بقوله:"كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، شهرَ رمضان. * * * وأولى ذلك بالصواب عندي قولُ من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله:" (أيامًا معدودات) ، أيامَ شهر رمضان. وذلك أنه لم يأت خبرٌ تَقوم به حُجة بأنّ صومًا فُرِض على أهل الإسلام غيرَ صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قَد بيَّن في سياق الآية، (1) أنّ الصيامَ الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومَها بقوله:"شهرُ رَمضان الذي أنزلَ فيه القرآن". فمن ادعى أن صومًا كان قد لزم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه -ثم نسخ ذلك- سئل البرهانَ على ذلك من خبر تقوم به حُجة، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذرَ. وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا، فتأويل الآية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أيامًا معدودات هي شهر رمضان. وجائز أيضًا أن يكون معناه:"كتب عليكم الصيام"، كتب عليكم شهر رمضان. * * * وأما"المعدودات": فهي التي تعدّ مبالغها وساعاتُ أوقاتها. ويعني بقوله:"معدودات"، مُحْصَيَاتٍ. * * *   (1) في المطبوعة: "وبأن الله تعالى. . . "، وهو خطأ. ليس معطوفًا على قوله: "بأن صومًا. . " بل هو عطف على قوله: "وذلك أنه لم يأت خبر. . . " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فمن كان منكم مريضًا"، (1) من كان منكم مريضًا، ممن كلِّف صَومه أو كان صحيحًا غير مريض وكان على سَفر،"فعدة من أيام أخر"، يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره،"من أيام أخر"، يعني: من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره. * * * والرفع في قوله:"فعدةٌ منْ أيام أخر"، نظير الرفع في قوله:"فاتباع بالمعروف". وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وأما قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طَعامُ مسكين"، فإنّ قراءة كافة المسلمين:"وعلى الذين يُطيقونه"، وعلى ذلك خطوط مصاحفهم. وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافُها، لنقل جميعهم تصويبَ ذلك قرنًا عن قرن. وكان ابن عباس يقرؤها فيما روي عنه:"وعلى الذين يُطوَّقونه". (3) * * * ثم اختلف قُرّاء ذلك:"وَعلى الذين يُطيقونه" في معناه. فقال بعضهم: كان ذلك في أول ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين صامَه إن شاء، وإن شاء أفطره وَافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا، حتى نُسخ ذلك. * ذكر من قال ذلك:   (1) نص هذا الجزء من الآية لم يكن في المطبوعة، وأثبته على نهجه في التفسير. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 373. (3) انظر رفض هذه القراءة فيما سيأتي: 438. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 2733- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إنّ الله جل وعز فرض شهر رَمضان، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام" حتى بلغ"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين"، فكان من شاء صامَ، ومن شاء أفطر وأطعمَ مسكينًا. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله عز وجل:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو عَلى سفر" إلى آخر الآية. (1) 2734- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال حَدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا غيرَ فريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان. قال: وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام. قال: وكان يشتد عليهم الصوم. قال: فكان من لم يصم أطعمَ مسكينًا، ثم نزلت هذه الآية:"فمن شهد منكم فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام. قال محمد بن المثنى قوله:"قال عمرو: حدثنا أصحابنا"، يريد ابنَ أبي ليلى. كأن ابن أبي ليلى القائل:"حدثنا أصحابنا". 2735- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه. (2)   (1) الحديث: 2733- هو قطعة من الحديث الذي خرجناه في: 2729- أطول من الرواية الماضية. (2) الحديثان: 2734، 2735- وهذان أيضًا قطعتان من الحديث الذي أشرنا إليه في: 2731، 2732، وقد صرح الطبري في أولهما -هنا- باسم"محمد بن المثنى"، الذي ذكره هناك بكنيته"قال أبو موسى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 2736- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينًا، فنسخها:"شهرُ رَمَضَان" إلى قوله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه". 2737- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه - وزاد فيه، قال: فنسختها هذه الآية، وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم، يتصدق مكانَ كل يوم على مسكين نصفَ صاع. 2738- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، فكان من شاء منهم أن يصومَ صَام، ومن شاء منهم أن يَفتدي بطعام مسكين افتدى وتَمَّ له صومه. ثم قال:"فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه"، ثم استثنى من ذلك فقال:"ومنْ كان مريضًا أوْ عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر". 2739- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن إدريس قال: سألت الأعمش عن قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، فحدثنا عن إبراهيم، عن علقمة. قال: نسختها:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه". (1) 2740- حدثنا عمر بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: نَسَخت هذه الآية - يعني:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين" - التي بَعدها:"فمن شَهد منكم الشهرَ فَليصمه ومن كان   (1) الأثر: 2739- أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة العجلي، قاضي بغداد، روى عن عبد الله بن إدريس وحفص بن غياث، روى عنه مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويخالف. وقال ابن أبي حاتم. سالت أبي عنه فقال: ضعيف يتكلمون فيه، وله كتاب في القراءات، مات سنة 248. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر". (1) 2741- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله:"وعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، قال: نسختها:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه". 2742- حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مُسهر، عن عاصم، عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، كان الرجل يُفطر فيتصدق عن كل يوم على مسكين طعامًا، ثم نزلت هذه الآية:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر"، فلم تنزل الرّخصةُ إلا للمريض والمسافر. 2743- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم،   (1) الحديث: 2740- عمر بن المثنى: هكذا في المطبوعة، وأنا أرجح أن يكون صوابه"محمد بن المثنى" شيخ الطبري الذي يروي عنه كثيرًا. ولم أجد من يسمى"عمر بن المثنى" إلا رجلا واحدًا، ذكر في التهذيب ولسان الميزان على أنه من التابعين. ثم لم أجترئ على تصحيحه هنا، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذين لم نجد تراجمهم. عبد الوهاب: هو ابن عمر المجيد الثقفي، مضت ترجمته في: 2029. عبد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عرف بلقب"العمري"، وهو ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/109-110. ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ، وأن يكون صوابه"عبيد الله" بالتصغير، وهو أخو عبد الله أكبر منه وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل، وهو أحد الفقهاء السبعة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/326-327. وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ، منهم"نافع مولى ابن عمر". وإنما ظننت هذا الاحتمال، لأن الحديث مروي من حديث"عبيد الله"، كما سنذكر، إن شاء الله: فرواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 200، من طريق عبد الوهاب الثقفي، "عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر". ورواه البخاري مختصرا 4: 164، و 8: 136، من طريق عبد الأعلى، وهو ابن عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه البيهقي أيضًا من أحد طريقي البخاري. والحديث صحيح بكل حال. وذكره السيوطي 1: 178، وزاد نسبته إلى وكيع، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية للناس عامة:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين، ثم نزلت هذه الآية:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، قال: فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر. 2744- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان، فقال: إني شيخ كبيرٌ، إن الصومَ نزل، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، حتى نزلت هذه الآية:" فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فوجب الصوم على كل أحد، إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي يَفتدي. 2745- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيامُ كما كتب عَلى الذين منْ قبلكم"، قال ابن شهاب: كتب الله الصيام علينا، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيامَ من صحيح أو مريض أو مسافر، ولم يكن عليه غير ذلك. فلما أوجب الله على من شهد الشهرَ الصيامَ، فمن كان صحيحًا يُطيقه وضع عنه الفدية، وكان من كان على سفر أو كان مريضًا فعدة من أيام أخر. قال: وبقيت الفديةُ التي كانت تُقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يُطيق الصيام، والذي يعرض له العطشُ أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام. 2746- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، جعل الله في الصوم الأوّل فدية طعام مسكين، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطر، كان ذلك رخصةً له. فأنزل الله في الصوم الآخِر:"فعدة من أيام أخر"، ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين، فنُسِخت الفدية، وَثبت في الصوم الآخر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 "يُريد الله بكم اليسرَ ولا يُريد بكم العسر"، وهو الإفطار في السفر، وجعله عدةً من أيام أخَر. 2747- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، بكَيْر بن عبد الله، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة بن الأكوع أنه قال: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه". (1) 2748- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الشعبي في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"،   (1) الحديث: 2747- أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، المصري، ابن أخي عبد الله بن وهب ثقة من شيوخ مسلم وابن خزيمة. تكلم فيه بعضهم فلم ينصفه. وأهل بلده أعرف به. فقال ابن أبي حاتم: "سألت محمد بن عبد الحكم عنه؟ فقال: ثقة، ما رأينا إلا خيرًا، قلت: سمع من عمه؟ قال: إي والله". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/59-60. "بكير بن عبد الله بن الأشج" المدني نزيل مصر: تابعي ثقة، قال ابن وهب: "ما ذكر مالك بن أنس بكير بن الأشج إلا قال: كان من العلماء". مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/113، وابن أبي حاتم 1/1/403-404. "بكير": بالتصغير. ووقع في المطبوعة"بكر" بغير الياء، وهو خطأ. فليس لبكر بن عبد الله المزني رواية في هذا الحديث. والحديث حديث"بكير بن عبد الله". يزيد مولى سلمة بن الأكوع: هو يزيد بن أبي عبيد الحجازي، وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/348-349، وابن أبي حاتم 4/2/280. وقال البخاري في الصحيح -بعد روايته هذا الحديث-: "مات بكير قبل يزيد". وهو كما قال، فإن بكير بن عبد الله مات سنة 127، وقيل غير ذلك، إلى سنة 127. وأما يزيد مولى سلمة فإنه مات سنة 146 أو 147. فسمع عمرو بن الحارث هذا الحديث من بكير عن يزيد - في حياة يزيد. والحديث رواه مسلم 1: 315، عن عمرو بن سواد العامري، عن ابن وهب، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البيهقي 4: 200، من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب. ورواه البخاري 8: 136، ومسلم 1: 315، والبيهقي 4: 200 - كلهم من حديث قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير. وذكره السيوطي 1: 177-178، وزاد نسبته للدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 قال: كانت للناس كلهم: فلما نزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، أمِروا بالصوم والقضاء، فقال:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر". 2749- حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: نسختها الآية التي بعدها: وأن تصوموا خيرٌ لكم إنْ كنتم تعلمون. 2750- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن محمد بن سليمان، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: نسختها الآية التي تليها:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه". 2751- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"كتب عليكم الصيام" الآية، فُرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة، فإذا صلى الرجل العتمة حَرُم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخِر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله، وهو قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ) إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، وأحل الجماع أيضًا فقال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، وكان في الصوم الأول الفدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطرَ فعل ذلك، ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الآخر الفديةَ، وقال:"فعدةٌ من أيام أخر"، فنسخ هذا الصومُ الآخِرُ الفديةَ. (1) * * * وقال آخرون: بل كان قوله:"وَعلى الذينَ يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"، حُكمًا خاصًّا للشيخ الكبير والعجوز الذين يُطيقان الصوم، كان مرخصًا لهما   (1) الخبر: 2751-"الحسين بن الفرج": ثبت في المطبوعة هنا"الحسن". وهو خطأ، كما بينا في: 2719. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 أن يَفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله:"فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه"، فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبلَ النسخ ثابتًا لهما حينئذ بحاله. * ذكر من قال ذلك. 2752- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الشيخُ الكبير والعجوزُ الكبيرةُ وهما يطيقان الصوم، رُخص لهما أن يفطرَا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكينًا، ثم نَسخَ ذلك بعد ذلك:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر"، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا. 2753- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة، عن عروة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وَعلى الذين يُطيقونه"، قال: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد. (1)   (1) الحديثان: 2752-2753- سعيد: هو ابن أبي عروبة. عزرة - بفتح العين والراء بينهما زاي ساكنة: هو ابن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/65، وابن أبي حاتم 3/2/21-22. ووقع في المطبوعة هنا، وفي سنن أبي المطبوعة"عروة" بدل"عزرة"، وهو تصحيف. والتصويب من السنن مخطوطة الشيخ عابد السندي، ومن السنن الكبرى للبيهقي. والحديث رواه أبو داود: 2318 (2: 266 عون المعبود) ، من طريق ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 230، من طريق روح بن عبادة، ومن طريق مكي بن إبراهيم - كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، به. ثم رواه من طريق أبي داود في السنن، قال: "عن سعيد، فذكره". يعني بهذا الإسناد. فلو كانت رواية أبي داود من طريق"عروة" لذكر ذلك، ولم يحل إسناد أبي داود على إسناده السابق الذي فيه"عن عزرة". وذكره السيوطي 1: 177 - وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وروى البخاري 8: 135، نحو معناه، من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس وكذلك رواه النسائي 1: 318-319، من طريق عمرو بن دينار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 2754- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويُطعما بقوله:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين". قال: فكانت لهم الرخصة، ثم نسخت بهذه الآية:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم، وبقيت الحاملُ والمرضعُ أن يفطرَا ويُطعما. 2755- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة يقول في قوله:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصومَ أن يطعما مكانَ كل يوم مسكينًا ويفطرا، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال:"شهرُ رَمضَانَ" إلى قوله:"فعدةٌ من أيام أخر"، فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلم يُرَوْن ويرجُون الرخصةَ تثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصومَ أن يفطرا ويُطعما عن كل يوم مسكينًا، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها. 2756- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان، فأحل الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك، وعليهما الفدية لكل يَوم يفطرانه طعامُ مسكين، فأنزل الله بعد ذلك:"شهرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 رَمضانَ الذي أنزل فيه القرآن"، إلى قوله:"فعدةٌ من أيام أخر". * * * وقال آخرون ممن قرأ ذلك:"وَعلى الذين يُطيقونه"، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين = لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا. * ذكر من قال ذلك: 2757- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له. 2758- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عَزْرَة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا. (1)   (1) الخبر: 2758- هناد: هو ابن السري، مضت ترجمته: 2058. وعبدة: هو ابن سليمان الكلابي، مضت ترجمته: 2323. وهذا الخبر في معنى الحديثين الماضيين: 2751، 2752، من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذانك حديثان، لأنهما إخبار من ابن عباس عن نسخ الفدية وجواز الإفطار عامة، وإثباتهما في حق الشيخ الكبير ومن ذكر معه هناك. وأما هذا فإنه فتوى من ابن عباس. ووقع هنا في المطبوعة"عروة" بدل"عزرة"، كما كان في ذينك الحديثين. فأثبتنا الصواب هنا كما أثبتناه هناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 2759- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، ... ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا، فقال: أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا، ولا قَضَاء عليك. (1) 2760- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن نافع، عن علي بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع. (2)   (1) الخبر: 2759- وهذا الخبر كسابقه، فتوى أخرى من ابن عباس لأم ولده، بمعنى التي قبلها. ولكن وقع هنا في المطبوعة سقط في الإسناد، بين"عبدة" و"سعيد بن جبير" نرجع أن صوابه كالإسناد السابق. ولكن لم نستجز أن نثبته عن غير ثبت، فوضعنا أصفارًا موضع السقط. ويدل على صحة هذا السقط: أن الدارقطني روى هذا الخبر، في سننه، ص: 250، من طريق روح، وهو ابن عبادة: "حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس قال لأم ولد له. . ". ثم قال الدارقطني عقبه: "إسناد صحيح". وذكره السيوطي 1: 179، وزاد نسبته لعبد بن حميد. (2) الخبر: 2760- وهذا إسناد صحيح، موقوف على ابن عمر. علي بن ثابت بن عمرو بن أخطب البصري الأنصاري: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/177، ولم أجد ترجمته في موضع آخر. وملخص ما قال: روى عن نافع، ومحمد بن يزيد، ومحمد بن زياد. روى عنه سعيد بن أبي عروبة، وعمران القطان، وحماد بن سلمة، وسويد بن إبراهيم. ثم روى عن أحمد بن حنبل، قال: "علي بن ثابت بن أبي زيد الأنصاري: ثقة، حدث عنه سعيد بن أبي عروبة، وحماد زيد، وأخوه عزرة بن ثابت، وأخوه محمد بن ثابت". ثم ذكر ابن أبي حاتم، أنه سأل أباه"عن علي بن ثابت، أخي عزرة ومحمد ابني ثابت؟ فقال: لا بأس به". ووجدت البخاري ذكره في الكبير 1/1/50، والصغير، ص: 171، في ترجمة أخيه محمد بن ثابت". وجدهم"عمرو بن أخطب الأنصاري"، كنيته: أبو زيد، وقد اشتهر بكنيته. ترجمه ابن سعد 7/17-18، قال: "وله مسجد ينسب إليه بالبصرة". وبقية الإسناد -قبل علي بن ثابت وبعده- ثقات معروفون، كما هو ظاهر. ولم يذكر الطبري لفظ خبر ابن عمر: وذكره السيوطي 1: 179، عن نافع: "قال: أرسلت إحدى بنات ابن عمر تسأله عن صوم رمضان وهي حامل؟ قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكينًا"، ونسبه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني. والدارقطني رواه ص: 250، بإسنادين: من طريق حماد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر: "أن امرأته سألته وهي حبلى؟ فقال: أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا، ولا تقضي". ثم رواه من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع قال: "كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملا، فأصابها عطش في رمضان، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 2761- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن ابن عباس قال، لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت بمنزلة الذين لا يطيقونه، عليك الفداءُ ولا صومَ عليك. هذا إذا خافت على نفسها. 2762- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومَه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر. 2763- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس نحوه - غير أنه لم يقل: حين يُفطر وحين يَتسحر. 2764- حدثنا هناد قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب أنه قال في قول الله تعالى ذكره:"فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام. فعلى كل واحد منهما طعامُ مسكين: مُدٌّ من حنطة لكلّ يوم حتى يمضيَ رَمضان. * * * وقرأ ذلك آخرون:"وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ"، وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة. * ذكر من قال ذلك: 2765- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"يُطوَّقونه". 2766- حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عصام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"وَعلى الذين يُطوقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: فكان يقول: هي للناس اليوم قائمة. 2767- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وَعلى الذين يُطوَّقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: وكان يقول: هي للناس اليوم قائمة. 2768- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وعلى الذين يُطوَّقونه"، ويقول: هو الشيخ الكبير يُفطر ويُطعِم عنه. 2769- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية:"وعلى الذين يُطوَّقونه"، -وكذلك كان يقرؤها-: إنها ليست منسوخة، كلِّف الشيخُ الكبير أن يُفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينًا. 2770- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ:"وعلى الذين يُطوَّقونه". 2771- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمران بن حدَير، عن عكرمة قال:"الذين يُطيقونه" يصومونه، ولكن الذين"يُطوَّقونه"، يعجزون عنه. 2772- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي عمرو مولى عائشة، أن عائشة كانت تقرأ:"يُطوَّقونه". 2773- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء أنه كان يقرؤها"يطوَّقونه". قال ابن جريج: وكان مجاهد يقرؤها كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 2774- حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا خالد، عن عكرمة:"وعلى الذين يُطيقونه" قال، قال ابن عباس: هو الشيخُ الكبير. (1) 2775- حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وعلى الذين يُطوَّقونه" قال: يَتجشمونه يَتكلفونه. (2) 2776- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مسلم الملائي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يُطيق فيفطر ويُطعم كل يوم مسكينًا. 2777- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس في قول الله:"وَعلى الذين يُطيقونه"، قال: يُكلَّفونه، فديةٌ طعامُ مسكين واحد. قال: فهذه آية منسوخةٌ لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يُطيق الصيام، أو مريض يعلم أنه لا يُشفى. 2778- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"الذين يطيقونه"، يتكلَّفونه، فديةٌ طعام مسكين واحد، ولم يُرخَّص هذا إلا للشيخ الذي لا يُطيق الصوم، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى - هذا عن مجاهد. 2779- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) الأثر: 2774- أخشى أن يكون الصواب هنا: "يطوقونه". (2) الأثر: 2775- إسماعيل بن موسى السدي الفزاري، قيل: هو ابن بنت السدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، مات سنة 245. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقول: ليست بمنسوخة. 2780- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، يقول: من لم يطق الصوم إلا على جَهد، فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا، والحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ والذي به سُقمٌ دائم. 2781- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هو الشيخ الكبير، والمرء الذي كان يصومُ في شبابه فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموتَ، فهو يطعم كل يوم مسكينًا - قال هناد: قال عبيدة: قيل لمنصور: الذي يطعم كل يوم نصف صاعٍ؟ قال: نعم. (1) 2782- حدثنا هناد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود قال: سألتُ مجاهدًا عن امرأة لي وافقَ تاسعها شهرَ رَمضان، ووافق حرًّا شديدًا، فأمرني أن تُفطر وتُطعم. قال: وقال مجاهد: وتلك الرخصة أيضًا في المسافر والمريض، فإن الله يقول:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين". 2783- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، يفطرون في رمضان، ويطعمون عن كل يوم مسكينًا، ثم قرأ:"وعلى الذينَ   (1) الخبر: 2781- عبيدة، بفتح العين: هو ابن حميد، بضم الحاء، بن صهيب الحذاء، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له البخاري في الصحيح. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري، ص: 212، وابن سعد 7/2/72-73، وابن أبي حاتم 3/1/92-93، وتاريخ بغداد 11: 120-123. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين". (1) 2784- حدثنا علي بن سَعيد الكندي قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوَم، يُفطر ويطعم مكانَ كل يوم مسكينًا. (2) 2785- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه، الشيخُ والشيخة. 2786- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حَماد، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: هو الشيخُ والشيخة. 2787- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حُدير، عن عكرمة أنه كان يقرؤها:"وَعلى الذين يُطيقونه" فأفطروا. 2788- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم، عمن حدثه عن ابن عباس قال: هي مثبتةٌ للكبير والمرضع والحامل، وعلى الذين يُطيقونَ الصيام. 2789- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله:"وعلى الذين يطيقونه"؟ قال: بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين. قلت: الكبيرُ الذي   (1) الأثر 2783- أبو معاوية الضرير محمد بن خازم التميمي السعدي. قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث، يدلس، كان مرجئا. مات سنة 193. (2) الأثر 2784- في المطبوعة: "علي بن سعد". علي بن سعيد بن مسروق الكندي أبو الحسن الكوفي روى عن حفص بن غياث وابن المبارك وغيرهما. وروى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم، قال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة 249. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 لا يستطيعُ الصوم، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد؟ قال: بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء، فأما مَن استطاع بجهد فليصمه، ولا عذر له في تركه. 2790- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن أبي يزيد:"وَعلى الذين يُطيقونه" الآية، كأنه يعني الشيخَ الكبير - قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يقول: نزلت في الكبير الذي لا يَستطيع صيامَ رمضان، فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له: كم طعامه؟ قال: لا أدري، غير أنه قال: طعام يوم. 2791- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك في قوله:"فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصومَ، يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره:"فمن شَهد منكم الشهر فَليصمه". لأن"الهاء" التي في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه"، من ذكر"الصيام" ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ. هذا، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 وسُقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فألزموا فرضَ صومه، وبطل الخيار والفديةُ. * * * فإن قال قائل: وكيف تدَّعي إجماعًا من أهل الإسلام = على أنّ من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت، فغير جائز له إلا صومُه = وقد علمت قول من قال: الحامل والمرضعُ إذا خافتا على أولادهما، لهما الإفطار، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي: 2792- حدثنا به هناد بن السري قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَتغدَّى، فقال:" تعالَ أحدِّثك، إن الله وَضع عن المسافر والحامل والمرضع الصومَ وشَطرَ الصلاة"؟ (1)   (1) الحديث: 2792- قبيصة: هو ابن عقبة السوائي، مضت ترجمته: 489، وأشرنا هناك إلى الكلام في روايته عن سفيان الثوري، وأنه غير مقبول، ونزيد هنا أن الشيخين أخرجا له في الصحيحين من روايته عن الثوري، كما في كتاب رجال الصحيحين، ص: 422. أبو قلابة - بكسر القاف وتخفيف اللام: هو عبد الله بن زيد الجرمي -بفتح الجيم وسكون الراء- أحد الأعلام الحفاظ من التابعين. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/1/133-135. وابن أبي حاتم 2/2/57-58، ورجال الصحيحين: 251، وتذكرة الحفاظ 1: 88-89. أنس - في هذا الحديث فقط: هو أنس بن مالك الكعبي، من بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان. وهو صحابي ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد. وبعضهم يذكر في نسبته"القشيري" يذهبون إلى أن"قشيرًا" هو ابن كعب بن ربيعة. وهذا هو الثابت في بعض كتب الأنساب، مثل الاشتقاق لابن دريد، ص: 181، وجمهرة الأنساب لابن حزم، ص: 271، 272، وقلدهم الحافظ في التهذيب. ولكن البخاري قال في ترجمته في التاريخ الكبير 1/2/30: "وكعب إخوة قشير". وقال ابن أبي حاتم في ترجمته 1/2/286: "من بني عبد الله بن كعب، وكعب أخو قشير". وفي رواية أبي داود لهذا الحديث - كما سيأتي في التخريج إن شاء الله -: "عن أنس بن مالك، رجل من بني عبد الله بن كعب، إخوة بني قشير". وقال الحافظ في الإصابة 1: 73"وهذا هو الصواب، وبذلك جزم البخاري في ترجمته. وعلى هذا فهو كعبي، لا قشيري ولأن قشيرًا هو ابن كعب، ولكعب ابن اسمه عبد الله. فهو من إخوة قشير، لا من قشير نفسه". و"أنس بن مالك"- في الرواة، خمسة نفر: "أنس بن مالك" بن النضر الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو المراد في أكثر الأحاديث عند إطلاق اسم"أنس". ثم"أنس بن مالك الكعبي" - هذا الذي هنا. وهذان صحابيان. و"أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي"، "والد الإمام"مالك بن أنس"، وهو تابعي. ثم"أنس بن مالك الصيرفي"، شيخ خلاد بن يحيى. و"أنس بن مالك" شيخ لأبي داود الطيالسي. وهذان متأخران، يرويان عن التابعين. وقد ترجم ابن أبي حاتم لهؤلاء الخمسة. وترجم البخاري في الكبير الثلاثة الأول فقط. وذكرهم كلهم ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر، ص: 320. وقال في شأن"الكعبي" هذا، وأشار إلى حدجيثه الذي هنا-: روى هذا الحديث الثوري، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس [يعني الكعبي] . وعند الثوري بهذا الإسناد عن أنس الأنصاري أحاديث". وهذا حق. ولذلك كان إطلاق اسم"أنس" هنا غير مستساغ ممن أطلقه، سواء أكان الطبري أم أحد شيوخ الإسناد، لما فيه من الإيهام. والحديث رواه البخاري في الكبير 1/2/30، عن قبيصة -شيخ هناد في هذا الإسناد- وعن محمد بن يوسف، كلاهما عن الثوري، به. موجزًا كعادته. وصرح في الإسناد بأنه"عن أنس بن مالك الكعبي". ورواه النسائي 1: 315-316، عن عمر بن محمد بن الحسن -هو ابن التل- عن أبيه، عن الثوري، به، بلفظ: "إن الله وضع عن المسافر، يعني نصف الصلاة، والصوم، وعن الحامل والمرضع". ورواه أحمد في المسند 5: 29 (حلبي) عن ابن علية، عن أيوب، قال: "كان أبو قلابة حدثني بهذ الحديث، ثم قال لي: هل لك في الذي حدثنيه؟ قال: فدلني عليه، فأتيته، فقال: حدثني قريب لي يقال له أني بن مالك. . ". فذكره بقصة في أوله. ففي هذه الرواية أن بين أبي قلابة وأنس الكعبي رجلا مبهمًا هو الذي حدثه به عنه. وكذلك ذكر البخاري أن بينهما رجلا: فرواه عقب ذاك، عن يحيى بن موسى، عن عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة"عن رجل من بني عامر: أن رجلا يقال له أنس حدثه: أنه قدم المدينى - نحوه". وأنا أرى ترجيح رواية قبيصة ومحمد بن يوسف، التي ليس فيها الرجل المبهم، وقد تابعهما عليها محمد بن الحسن التل. فإن الثوري أحفظ من معمر ومن ابن علية معًا، وهو المقدم على من خالفه في الحفظ والإتقان. وللحديث إسناد آخر، من وجه آخر. رواه أبو هلال محمد بن سليم الراسبي، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس الكعبي، وهو إسناد جيد، بل صحيح، وأبو هلال الراسبي: ثقة لا بأس به. وعبد الله بن سوادة بن حنظلة القشيري: ثقة أيضًا. فرواه أحمد في المسند 4: 347 (حلبي) ، عن وكيع، وعن عفان. ورواه عقبة ابنه عبد الله عن شيبان. ورواه أحمد أيضًا 5: 29 (حلبي) ، عن عبد الصمد. ورواه ابن سعد في الطبقات 7/1/30، عن وكيع وعفان. ورواه أبو داود: 2408، عن شيبان بن فروخ. ورواه الترمذي 2: 42، عن أبي كريب ويوسف بن عيسى، عن وكيع. ورواه ابن ماجه: 1667، عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، عن وكيع. ورواه البيهقي 4: 231، من طريق عبيد الله بن موسى، وأبي نعيم. كل هؤلاء وكيع، وعفان، وشيبان، وعبد الصمد، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم - رووه عن أبي هلال الراسبي، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس الكعبي، به مطولا، في قصة. وهذا إسناد متصل بالسماع، لأن ابن سعد قال عقب روايته: "قال عفان في الحديث كله: حدثنا قال: حدثنا، إلى آخره". فهذا نص على سماع كل شيخ ممن قبله إلى الصحابي. وقال الترمذي: "حديث أنس بن مالك الكعبي: حديث حسن. ولا نعرف لأنس بن مالك هذا، عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد". ونقل الحافظ في التهذيب 1: 379، عن الترمذي أنه"صححه". ولكن الذي في أيدينا من نسخ الترمذي قوله"حديث حسن" فقط. فتستفاد زيادة تصحيحه من نقل الحافظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 قيل: إنّا لم ندَّع إجماعًا في الحامل والمرضع، وإنما ادعينا في الرجال الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع، فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله: (وعلى الذين يطيقونه) وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به، (1) لأنهن لو كن معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال، لقيل: وعلى اللواتي يُطقنه فدية طعامُ مسكين، لأن ذلك كلام العرب، إذا أفرد الكلامُ بالخبر عنهنّ دُون الرجال. فلما قيل:"وعلى الذين يُطيقونه"، كان معلومًا أنّ المعنيَّ به الرجالُ دون النساء، أو الرجالُ والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع - على أنّ من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صومُ شهر رمضان، فغيرُ مرخص له في الإفطار والافتداء، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية، وعُلم أن النساء لم يُردن بها لما وصفنا: من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلامُ بالخبر عنهن:"وعلى اللواتي يطقنه"، والتنزيل بغير ذلك. وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إن كان صحيحًا، فإنما معناه: أنه وضَع عن الحامل والمرضع الصومَ ما دامتا عاجزتين عنه، حتى تُطيقا فتقضيا، كما وُضع عن المسافر في سفره، حتى يقيم فيقضيه - لا أنهما أُمِرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء، ولو كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع عن المسافر والمرضع والحامل الصوم"، دلالةٌ على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله:"وعلى الذين يُطيقونه   (1) "خلا الرجال" أي خرجوا من قولهم: "أنا منك خلاء، وخلي"، أي بريء منك. ويقال: "هو خلو من هذا الأمر" أي خارج، أو خال منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 فدية طعامُ مسكين"، لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حُكمه وبين حكم الحامل والمرضع. وذلك قولٌ، إن قاله قائلٌ، خلافٌ لظاهر كتاب الله، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام. * * * وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنّ معنى قوله:"وعلى الذين يطيقونه"، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالفٌ. * * * وأما قراءة من قرأ ذلك:"وعلى الذين يُطوَّقونه" فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلافٌ، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وِرَاثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلا ظاهرًا قاطعًا للعذر. لأن ما جاءت به الحجة من الدين، هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله. ولا يُعترض على ما قد ثَبت وقامت به حُجة أنه من عند الله، بالآراء والظنون والأقوال الشاذة. * * * وأما معنى"الفدية" فإنه: الجزاء، من قولك:"فديت هذا بهذا"، أي جزيته به، وأعطيته بدلا منه. * * * ومعنى الكلام: وعلى الذين يُطيقون الصيام جزاءُ طعام مسكين، لكلّ يوم أفطرَه من أيام صيامه الذي كتب عليه. * * * وأما قوله:"فدية طعامُ مسكين"، فإنّ القرأة مختلفةٌ في قراءته. فبعضٌ يقرأ بإضافة"الفدية" إلى"الطعام"، وخفض"الطعام" - وذلك قراءة عُظْم قراء أهل المدينة (1) - بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعامَ مسكين.   (1) في المطبوعة: "معظم قراء"، وصواب لفظ الطبري ما أثبت، كما مضى مرارًا، وكما سيأتي بعد قليل على الصواب. ومعنى الحرفين سواء، على كل حال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 فلما جعل مكان"أن يفديه""الفدية" أضيف إلى"الطعام"، كما يقال"لزمني غَرامةُ درهم لك"، بمعنى: لزمني أن أغرَم لك درهمًا. وآخرون يقرأونه بتنوين"الفدية"، ورفع"الطعام"، بمعنى الإبانة في"الطعام" عن معنى"الفدية" الواجبة على من أفطر في صومه الواجب، كما يقال:"لزمني غرامةٌ، درهمٌ لك"، فتبين"بالدرهم" عن معنى"الغرامة" ما هي؟ وما حدُّها؟ وذلك قراءةُ عُظْم قُراء أهل العراق. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بين الصواب قراءة من قرأ"فديةُ طعام" بإضافة"الفدية" إلى"الطعام"، لأن"الفدية" اسم للفعل، وهي غير"الطعام" المفديّ به الصوم. وذلك أن"الفِدْية" مصدر من قول القائل:"فَديت صَوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية"، كما يقال:"جلست جِلْسة، ومَشيتُ مِشْية"."والفدية" فعل، و"الطعام" غيرها. فإذْ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن أصَحّ القراءتين إضافة"الفدية" إلى"الطعام"، (1) وواضحٌ خطأ قول من قال: إن ترك إضافة"الفدية" إلى الطعام، أصح في المعنى، من أجل أن"الطعام" عنده هو"الفدية". فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن"الفدية" مقتضية مفديًّا، ومفديًّا به، وفدية. فإن كان"الطعام" هو"الفدية""والصوم" هو المفديّ به، فأين اسم فعل المفتدي الذي هو"فدية" إنّ هذا القول خطأ بين غير مشكل. * * * وأما"الطعام" فإنه مضاف إلى"المسكين". والقرأة في قراءة ذلك مختلفون. فقرأه بعضهم بتوحيد"المسكين"، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام   (1) في المطبوعة: "فتبين أن أصح القراءتين. . "، ومثل هذا التحريف كثير فيما مضى، والصواب ما أثبت، وقوله بعد: "وواضح خطأ قول القائل. . "، معطوف عليه. فهذا هو صواب السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 مسكين واحد لكل يوم أفطره، كما:- 2793- حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن أبي عمرو أنه قرأ:"فديةٌ" -رفع منون-"طعام" -رفع بغير تنوين-"مسكين"، وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قراء أهل العراق. * * * وقرأه آخرون بجمع"المساكين"،"فدية طعام مَساكين" بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر، إذا أفطر الشهر كله، كما:- 2794- حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي، عن يعقوب، عن بشار، عن عمرو، عن الحسن:"طعام مساكين"، عن الشهر كله. * * * قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ:"طعام مسكين" على الواحد، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين. لأن في إبانة حُكم المفطر يومًا واحدًا، وصُولا إلى معرفة حُكم المفطر جميع الشهر -وليس في إبانة حكم المفطر جميعَ الشهر، وصولٌ إلى إبانة حكم المفطر يومًا واحدًا، وأيامًا هي أقل من أيام جميع الشهر -، وأن كل"واحد" يُترجم عن"الجميع"، وأن"الجميع" لا يترجم به عن"الواحد". فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد. (1) * * * واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا. فقال بعضهم: كان الواجبُ من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح. وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم، مدًّا من قمح ومن سائر أقواتهم.   (1) الترجمة: البدل، كما سلف مرارًا. انظر 2: 340، وفهرس المصطلحات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح، أو صاعًا من تمر أو زبيب. وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوَّته يومَه الذي أفطرَه. وقال بعضهم: كان ذلك سحورًا وَعشاءً، يكون للمسكين إفطارًا. وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل، فكرهنا إعادة ذكرها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:- 2795- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس:"فمن تطوع خيرًا"، فزاد طعامَ مسكين آخر،"فهو خيرٌ له وأن تصومُوا خيرٌ لكم". 2796- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس مثله. 2797- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"فمن تطوع خيرًا"، قال: من أطعم المسكين صاعًا. 2798- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فمن تطَوع خيرًا فهو خيرٌ له"، قال: إطعامُ مَساكين عن كل يوم، فهو خير له. 2799- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن طاوس:"فمن تطوع خيرًا"، قال: طعامُ مسكين. 2800- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 حنظلة، عن طاوس نحوه. 2801- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس:"فمن تطوع خيرًا"، قال: طعام مسكين. 2802- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن ليث عن طاوس مثله. 2803- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن هارون قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء أنه قرأ:"فمن تطوع" -بالتاء خفيفة [الطاء]-"خيرًا"، قال: زاد على مسكين. (1) 2804- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن تَطوع خيرًا فهو خيرٌ له"، فإن أطعم مسكينين فهو خير له. 2805- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه:"فمن تطوع خيرًا فهو خير له"، قال: من أطعم مسكينًا آخر. * * * وقال آخرون: معنى ذلك، فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية. * ذكر من قال ذلك: 2806- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب:"فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له"، يريد أن من صامَ مع الفدية فهو خير له. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوع خيرًا فزاد المسكين على قَدر طعامه. * ذكر من قال ذلك:   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا فسد الكلام. والقراءة الأخرى في هذه الكلمة: "يَطَّوَّعْ" بياء الغيبة، وفتح الياء، وتشديد الطاء وفتحها، وتشد الواو وفتحها، وجزم العين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 2807- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد:"فمن تطوع خيرًا"، فزاد طعامًا،"فهو خير له". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله:"فمن تطوع خيرًا"، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله:"فمن تطوع خيرًا"، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه، فهو خير له. لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأنْ تَصوموا"، ما كتب عليكم من شهر رمضان،"فهو خير لكم" من أن تفطروه وتفتدوا، كما:- 2808- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأنْ تَصوموا خيرٌ لكم"، ومن تكلف الصيامَ فصامه فهو خيرٌ له. 2809- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب:"وأن تَصُوموا خيرٌ لكم"، أي: إن الصيامَ خير لكم من الفدية. 2810- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تصومُوا خيرٌ لكم" .... (1) * * * وأما قوله:"إن كنتم تعلمون"، فإنه يعني: إن كنتم تعلمون خيرَ الأمرين لكم أيها الذين آمنوا، من الإفطار والفدية، أو الصوم على ما أمركم الله به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} قال أبو جعفر:"والشهر"، فيما قيل، أصله من"الشهرة". يقال منه:"قد شَهر فلانٌ سَيْفه" -إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه-"يشهرُه شهرًا". وكذلك"شَهر الشهر"، إذا طلع هلاله،"وأشهرْنا نحن"، إذا دخلنا في الشهر. * * * وأما"رمضان"، فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمى بذلك لشدة الحرِّ الذي كان يكون فيه، حتى تَرْمَض فيه الفِصَال، (2) كما يقال للشهر الذي يُحجّ فيه"ذو الحجة"، والذي يُرتبع فيه"ربيع الأول، وربيع الآخر". * * * وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال:"رمضان"، ويقول: لعله اسمٌ من أسماء الله. 2811- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن   (1) الأثر: 2810- سقط آخره، ولم أجده في المراجع. ولكن صوابه كالذي قبله: من الإفطار والفدية، كما هو ظاهر. (2) الفصال جمع فصيل: وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه. ورمض الفصال: أن تحترق الرمضاء -وهو الرمل- فتبرك الفصال من شدة حرها، وإحراقها أخفافها وفراسنها. ورمضت قدمه من الرمضاء: احترقت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 مجاهد: أنه كره أن يقال:"رمضان"، ويقول: لعله اسم من أسماء الله لكن نقول كما قال الله:"شهر رمضان". * * * وقد بينت فيما مضى أن"شهر" مرفوع على قوله:"أيامًا معدودات"، هن شهر رمضان. (1) وجائز أن يكون رفعه بمعنى: ذلك شهر رمضان، وبمعنى: كتب عليكم شهرُ رمضان. وقد قرأه بعض القراء"شهرَ رَمضان" نصبًا، بمعنى: كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهرَ رمضان. وقرأه بعضهم نصبًا بمعنى: أن تصوموا شهرَ رمضان خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون وقد يجوز أيضًا نصبه على وجه الأمر بصومه، كأنه قيل: شهرَ رمضان فصومُوه. وجائز نصبه على الوقت، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام في شهر رمضان. * * * وأما قوله:"الذي أنزل فيه القرآن"، فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، في ليلة القدر من شهر رمضان. ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه، كما:- 2812- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حسان بن أبي الأشرَس عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملةً من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان، فجُعل في بيت العزَّة - قال أبو كريب: حدثنا أبو بكر، وقال ذلك السدي. 2813- حدثني عيس بن عثمان قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حسان، عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدةً في ليلة القدر في شهر رمضان، فجعل في سماء الدنيا. (2)   (1) انظر ما سلف آنفًا: 415، 417. (2) الأثر: 2813- في المطبوعة: "يحيى عن عيسى"، وهو خطأ. وانظر التعليق على الأثر رقم: 300. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 2814- حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نزلت صُحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراةُ لست مَضَين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاثَ عَشرة خلت، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان. (1) 2815- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن". أما"أنزل فيه القرآن"، فإن ابن عباس قال: شهر رمضان، والليلةُ المباركة ليلةُ القدر، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي في رمضان، نزل القرآن جملةً واحدة من الزُّبُر إلى البيت المعمور، وهو"مواقع النجوم" في السماء الدنيا حيث وقع القرآن، ثم نزل محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلا رَسَلا. (2) 2816- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يُوحِيَ منه شيئًا أوحاه، فهو قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [سورة القدر: 1] .   (1) الحديث: 2814- عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني: ثقة من شيوخ البخاري. و"الغداني": بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة. عمران القطان: هو عمران بن داور، مضى في: 126. وكنيته"أبو العوام". أبو المليح: هو ابن أسامة الهذلي، وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ووقع في المطبوعة"عن ابن أبي المليح". وزيادة"ابن" خطأ واضح. واثلة - بالثاء المثلثة: هو ابن الأسقع، صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: 17051 (4: 107 حلبي) ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن عمران أبي العوام، بهذا الإسناد، وهو إسناد صحيح. ونقله ابن كثير 1: 406، عن المسند. وكذلك السيوطي 1: 189، وزاد نسبته إلى محمد بن نصر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب. (2) رسلا رسلا: أي قطعة قطعة، وفرقة فرقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 2817- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر نحوه - وزاد فيه: فكان من أوله وآخره عشرون سنة. 2818- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل القرآنُ كله جملةً واحدةً في ليلة القدر في رمضان، إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شَيئًا أنزله منه، حتى جمعه. 2819- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة، ثم فرَّق في السنين بعدُ. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [سورة الواقعة:75] ، قال: نزل مفرَّقًا. 2820- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا. 2821- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، قرأه ابن جريج في قوله: (1) "شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن"، قال: قال ابن عباس: أنزل القرآن جملةً واحدة على جبريل في ليلة القدر، فكان لا ينزل منه إلا بأمر. قال ابن جريج: كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كلُّ شيء ينزل من القرآن في تلك السنة. فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، فلا ينزل جبريلُ من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه. ومثل ذلك (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) و (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [سورة الدخان: 3] .   (1) هكذا في المطبوعة، ولم أدر ما هو، وأخشى أن يكون صوابه"قرأ ابن جريج قوله. . ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 2822- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن محمد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال له رجل: إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله:"شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن"، وقوله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، وقد أنزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره! قال: إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدةً، ثم أنزل على مَواقع النجوم رَسَلا في الشهور والأيام. * * * وأما قوله:"هُدى للناس"، فإنه يعني رَشادًا للناس إلى سبيل الحقّ وقَصْد المنهج. (1) * * * وأما قوله:"وَبيِّنات"، فإنه يعني: وواضحات"من الهدى" - يعني: من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه. (2) * * * وقوله:"والفرقان" يعني: والفصل بين الحق والباطل، (3) كما:- 2823- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدى: أما"وبينات من الهدى والفرقان"، فبينات من الحلال والحرام. * * *   (1) انظر تفسير"هدى" فيما سلف في فهرس اللغة. (2) انظر تفسير"بينات" فيما سلف في فهرس اللغة. (3) انظر تفسير"فرقان" فيما سلف 1: 98-99. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"شهود الشهر". فقال بعضهم: هو مُقام المقيم في داره. قالوا: فمن دخل عليه شهرُ رمضان وهو مقيم في داره، فعليه صوم الشهر كله، غابَ بعدُ فسافر، أو أقام فلم يبرح. * ذكر من قال ذلك: 2824- حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا حدثنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: هو إهلاله بالدار. يريد: إذا هلَّ وهو مُقيم. 2825- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال. في قوله:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سَفر، فإن شاء صامَ وإن شَاء أفطر. 2826- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة -في الرجل يُدركه رمضان ثم يُسافر - قال: إذا شهدتَ أوله فصُمْ آخره، ألا تراه يقول:"فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه"؟ 2827- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام القردوسي، عن محمد بن سيرين قال، سألت عَبيدة: عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم؟ قال: من صام أول الشهر فليصم آخره، ألا تراه يقول: فَمنْ شهد منكم الشهرَ فليصمه". (1)   (1) الأثر: 2827- في المطبوعة: "الفردوسي"، والصواب بالقاف المضمومة، هشام بن حسان الأزدي القردوسي أبو عبد الله البصري، روي عن حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد وأنس وحفص بني سيرين وغيرهم، وروى عنه عكرمة بن عمار وسعيد بن أبي عروبة وابن علية وغيرهم. يقال هو منسوب إلى درب بالبصرة يقال له"القراديس"، وهو جمع قردوس، وهو أبو حي من اليمن، سمى الدرب بهم. ويقال: هو مولى لهذ الحي. قال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. ومات سنة 146. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 2828- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"منْ شَهد منكم الشهر فليصمه"، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصُمه، وإن خَرج فيه فليصُمه، فإنه دَخل عليه وهو في أهله. 2829- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا قتادة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي -فيما يحسب حماد- قال: من أدرك رَمضان وهو مقيم لم يَخرج، فقد لزمه الصوم، لأن الله يقول:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه". 2830- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبد الرحمن، عن إسماعيل بن مسلم، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: من كان مقيمًا فليصُمه، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه. 2831- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: من شهد أول رمضان فليصم آخرَه. 2832- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن عليًّا كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيمٌ ثم سافر، فعليه الصوم. 2833- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن عُبيدة الضبي، عن إبراهيم قال: كان يقول: إذا أدركك رمضانُ فلا تسافر فيه، فإن صمت فيه يومًا أو اثنين ثم سافرت، فلا تفطر، صُمه. 2834- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري. قال: كنا عند عُبيدة فقرأ هذه الآية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 "فَمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: من صام شيئًا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج. قال: وكان ابن عباس يقول: إن شاء صَام وإن شَاء أفطر. 2835- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب -وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- قالا جميعًا، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد، عن أم ذرة، قالت: أتيت عائشه في رمضان، قالت: من أين جئتِ؟ قلت: من عند أخي حنين. قالت: ما شأنه؟ قالت: ودَّعته يُريد يرتحل. قالت: فأقرئيه السلام ومُريه فليُقم، فلو أدركني رمضانُ وأنا ببعض الطريق لأقمت له. (1) 2836- حدثنا هناد قال، حدثنا إسحاق بن عيسى، عن أفلح، عن عبد الرحمن، قال: جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يُسلّم عليها، قالت: وأين تريد؟ قال: أردتُ العمرة. قالت: فجلستَ حتى إذا دخل عليك الشهر خرجتَ فيه! قال: قد خرج ثَقَلي! قالت: اجلس، حتى إذا أفطرت فاخرج - يعني شهرَ رمضان. (2) * * *   (1) الخبر: 2835- أبو زيد: هو المدني، يعد في أهل البصرة. وهو تابعي ثقة، وثقه ابن معين. وترجمه البخاري في الكنى، رقم: 784، وقال: "سمع ابن عمر". وابن أبي حاتم 4/2/458-459. وفي التهذيب عن الآجري، عن أبي داود: "سألت أحمد عنه، فقال: تسأل عن رجل روى عنه أيوب؟ " أم ذرة -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- مولاة عائشة: تابعية ثقة. مترجمة في التهذيب. وابن سعد 8: 357، وذكر لها روايتين أخريين عن عائشة، روى أحدهما مطولا قبل ذلك في ترجمة عائشة 8: 46. أما أخوها"حنين": فإني لم أجد له ذكرًا في غير هذا الموضع. والخبر ذكره السيوطي 1: 191، بنحو معناه، ونسبه لعبد بن حميد فقط. ولم يسم فيه"حنين" أخو"أم ذرة"، بل ذكر أنه أخوها فقط. (2) الخبر: 2836- إسحاق بن عيسى: هو ابن الطباع البغدادي، ثقة من الرواة عن مالك وطبقته. أفلح: هو ابن حميد بن نافع المدني، وهو ثقة معروف، روى له الشيخان. عبد الرحمن هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ثقة إمام، من خيار المسلمين. ولد في حياة عائشة. إبراهيم بن طلحة: هو إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، نسب هنا إلى جده. وهو تابعي ثقة رفيع الشأن. وهذا الخبر نقله السيوطي 1: 191، ونسبه لعبد بن حميد فقط. وفيه أنه"عن عبد الرحمن بن القاسم: أن إبراهيم بن محمد جاء إلى عائشة. . "، فذكر نحو مما هنا، بمعناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 وقال آخرون: معنى ذلك: فمن شهد منكم الشهر فليصُمْ ما شهد منه. * ذكر من قال ذلك: 2837- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق: أن أبا مَيسرة خرج في رمضان، حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب. 2838- حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا، فمرّ بالفرات وهو صائم، فأخذ منه كفًّا فشربه وأفطر. 2839- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرثد: أن أبا مَيسرة سافرَ في رمضان، فأفطر عند باب الجسر - هكذا قال هناد، عن مرثد، وإنما هو أبو مَرثد. 2840- حدثني محمد بن عمارة الأسديّ قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرثد: أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان، فلما انتهى إلى الجسر أفطر. (1)   (1) الخبران: 2839، 2840- هما من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن"مرثد"، عن"أبي ميسرة". وقال الطبري في أولهما: "هكذا قال هناد: عن مرثد، وإنما هو: عن أبي مرثد"! يعني أن شيخه في أولهما، وهو"هناد"، أخطأ في ذلك، ومن عجب أنه يرويه عقبه في الرواية الثانية، عن شيخ آخر، بإسناد آخر إلى أبي إسحاق -كرواية هناد، التي زعم أنه أخطأ فيها! وعندي أن أبا جعفر -رحمه الله- هو الذي وهم، أصاب الصواب فأخطأه: أما أولا: فلاتفاق روايين حافظين ثقتين، هما سفيان الثوري في الإسناد الأول، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في الإسناد الثاني - كلاهما عن أبي إسحاق أنه"عن مرثد". وأما ثانيًا: فلأنا لا نعرف في الرواة من كنيته"أبو مرثد"، إلا"أبا مرثد الغنوي كناز بن الحصين"، وهو صحابي قديم الوفاة، مات سنة 12. إلا أن يكون الطبري يعرف راويًا آخر بهذه الكنية لم يصل إلينا خبره. وما أظن. وأبو ميسرة، صاحب الخبر في الروايتين: هو عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، وهو تابعي كبير ثقة، من شيوخ أبي إسحاق السبيعي. مات سنة 63، وشهد السبيعي جنازته. ولو شاء أبو إسحاق أن يروي هذا الخبر عنه دون واسطة، لما دفع عن ذلك، إذ عرف بالرواية عنه. ولكنه لم يشأ أن يدلس في خبر لم يشهده بنفسه، فرواه عمن شهده. وهو"مرثد". والراجح عندي: أنه"مرثد بن عبد الله اليزني"، وهو تابعي أقدم قليلا من السبيعي. مات مرثد سنة 90. ومات السبعي -وهو تابعي أيضًا- سنة 126 أو بعدها بقليل. فعن هذا كله رجحت -بل استيقنت- أن أبا جعفر رحمه الله، هو الذي وهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 2841- حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان، وعليٌّ راكبٌ وأنا ماشٍ، قال: فصام - قال هناد: وأفطرت- قال أبو هشام: وأمرني فأفطرتُ. 2842- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن عبد الرحمن بن عتبة، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب وهو جَاءٍ من أرض له، فصام، وأمرني فأفطرت، فدخل المدينة ليلا وكان راكبًا وأنا ماشٍ. 2843- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع -وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي- قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي: أنه سافر في شهر رمضان فأفطر عند باب الجسر. 2844- حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، قال لي سفيان: أحبُّ إليّ أن تُتمه. 2845- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة قال: سألت الحكمَ وحمادًا، وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي: اخرج. وقال حماد، قال إبراهيم: أما إذا كان العَشر، فأحبُّ إليَّ أن يقيم. 2846- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا من أدركه الصومُ وهو مقيم رمضان ثم سافر، قالا إن شَاءَ أفطر. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 وقال آخرون:"فَمن شهد منكم الشهر فليصمه"، يعني: فمن شهده عاقلا بالغًا مكلفًا فليصمه. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه، كانوا يقولون: من دخل عليه شهرُ رمضان وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ فعليه صومه، فإن جُنّ بعد دُخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا، ثم أفاقَ بعد انقضائه، لزمه قضاءُ ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبًا على عقله، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فُرض. قالوا: وكذلك لو دخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنونٌ، إلا أنه ممن لو كان صحيحَ العقل كان عليه صَوْمه، فلن ينقضي الشهر حتى صَح وَبرأ، أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك، فإنّ عليه قضاءُ صوْم الشهر كله، سوى اليوم الذي صامه بَعد إفاقته، لأنه ممن قد شَهد الشهر. قالوا: ولو دَخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنون، فلم يفق حتى انقضى الشهرُ كله، ثم أفاق، لم يلزمه قضاء شيء منه، لأنه لم يكن ممن شَهده مكلَّفًا صَوْمَه. قال أبو جعفر: وهذا تأويل لا معنى له، لأنّ الجنون إن كانَ يُسقط عمن كان به فَرْضَ الصومِ، من أجل فقد صاحبه عَقله جميع الشهر، فقد يجب أن يكونَ ذلك سبيلَ كل من فقد عقله جميع شهر الصوم. وقد أجمع الجميعُ على أن من فقد عقله جميع شَهر الصوم بإغماء أو بِرْسام، (1) ثم أفاق بعد انقضاء الشهر، أن عليه قضاءُ الشهر كله. ولم يخالف ذلك أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأمة. وإذ كان إجماعًا، فالواجب أن يكون سبيلُ كل من كان زائلَ العقل جميع شهر الصوم، سبيلَ المغمى عليه. وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن تأويل الآية غير الذي تأوَّلها قائلو هذه المقالة: من أنه شُهود الشهر أو بعضه مكلفًا صومَه. وإذا بطل ذلك، فتأويل المتأوِّل الذي زعم أن معناه: فمن شهد أوله مقيما حاضرًا   (1) البرسام: علة يهذي فيها صاحبها. قالوا: هو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، ثم يتصل إلى الدماغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 فعليه صَوْم جميعه، أبطلُ وأفسدُ، لتظاهر الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عَام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صَام بعضه، وأفطرَ وأمر أصحابه بالإفطار. 2847- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"سافرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة، حتى إذا أتى عُسْفان نزل به، فدعا بإناء فوضعه على يَده ليراه الناسُ، ثم شربه. 2848- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه 2849- حدثنا هناد، حدثنا عبيدة، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1) 2850- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان، فصامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصامَ الناسُ معه، حتى إذا أتى الكُدَيْد -ما بين عُسْفان وأَمَج- أفطر. 2851- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال خرج رسول الله   (1) الأحاديث: 2847-2849، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. فأولها فيه"عن مجاهد، عن ابن عباس"، وفي الآخرين بينها"طاوس". والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، بأطول مما هنا: 2350، عن عبيدة، عن منصور، بالإسناد الثاني هنا، ورواه أيضًا: 2251، عن حسين، عن شيبان، عن منصور. ورواه أيضًا -مطولا- الشيخان، كما في المنتقى: 2175. فهو حديث صحيح متفق عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 صلى الله عليه وسلم لعشرٍ -أو لعشرين- مضت من رَمضان عام الفتح، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر. (1) 2852- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا عمر بن عامر، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرَةَ مضتْ من رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يَعِب المفطرُ على الصائم، ولا الصائم على المفطر. (2) * * * فإذ كانا فاسدين هذان التأويلان، (3) بما عليه دَللنا من فسادهما - فَبيِّنٌ أن الصحيح من التأويل هو الثالث، (4) وهو قول من قال: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، جميعَ ما شهد منه مقيمًا، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر. * * *   (1) الحديثان: 2850، 2851- هما إسنادان آخران صحيحان، للحديث السابق، بلفظ أطول، ومن وجه آخر، من رواية ابن إسحاق، عن الزهري. وهو في سيرة ابن هشام، (ص 810 أوربة - 4: 42 طبعة الحلبي) ، بلفظ أطول مما هنا. وكذلك رواه أحمد في المسند: 2392، من طريق ابن إسحاق. ورواه أحمد أيضًا: 1892، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، مختصرًا، ورواه بأطول منه: 3089، عن عبد الزاق، عن معمر، عن الزهري. وانظر تاريخ ابن كثير 4: 285-287. (2) الحديث: 2852- سالم بن نوح، أبو سعيد العطار: ثقة من شيوخ أحمد. عمر بن عامر السلمي البصري القاضي: ثقة ثبت في الحديث، كما قال أحمد. والحديث رواه مسلم في صحيحه 1: 308، بأسانيد كثيرة، منها إسناد عن محمد بن المثنى، عن سالم بن نوح، عن عمر بن عامر، عن قتادة، بهذا الإسناد. ثم رواه بأسانيد أخر 1: 308-309، عن أبي نضرة عن أبي سعيد. ونسبه السيوطي 1: 190-191 أيضًا للترمذي والنسائي. (3) في المطبوعة: "فإذا كان فاسدين. . . "، والصواب ما أثبته. (4) في المطبوعة: "فتبين"، وهو خطأ، والصواب ما أثبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر في الشهر فأفطر، فعليه صيامُ عدة الأيام التي أفطرها، من أيام أخرَ غير أيام شهر رمضان. * * * ثم اختلف أهل العلم في المرَض الذي أباح الله معه الإفطار، وأوجب معه عده من أيام أخر. فقال بعضهم: هو المرض الذي لا يُطيق صاحبه معه القيام لصَلاته. * ذكر من قال ذلك: 2853- حدثنا معاذ بن شعبة البصري قال، حدثنا شريك، عن مغيره، عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم، عن الحسن أنه قال: إذا لم يستطع المريضُ أن يُصَلِّي قائمًا أفطر. (1) 2854- حدثني يعقوب قال حدثنا هشيم، عن مغيرة -أو عبيدة- عن إبراهيم، في المريض إذا لم يستطع الصلاةَ قائمًا فليفطر. يعني: في رمضان. 2855- حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن إسماعيل قال: سألت الحسن: متى يُفطر الصائم؟ قال: إذا جَهده الصوم. قال: إذا لم   (1) الخبر: 2853- معاذ بن شعبة البصري، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم 4/1/251، قال: "معاذ بن شعبة أبو سهل البصري، روى عن عباد بن العوام، وعثمان بن مطر. روى عنه موسى بن إسحاق الأنصاري". ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهو شيخ قديم من شيوخ الطبري، لأنه يروي عن"عباد بن العوام" المتوفى سنة 185، و"شريك بن عبد الله النخعي" المتوفى سنة 188. وتلميذه الذي ذكره ابن أبي حاتم، وهو"موسى بن إسحاق بن موسى الأنصاري الخطمي، قاضي الري"، من شيوخ ابن أبي حاتم، كما في ترجمته عنده 4/1/135. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 يستطع أن يُصلي الفرائض كما أمِر. (1) * * * وقال بعضهم: وهو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةُ في علته زيادة غير مُحتملة. (2) وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي، حدثنا بذلك عنه الربيع. * * * وقال آخرون: وهو [كلّ] مرض يسمى مرَضًا. (3) * ذكر من قال ذلك: 2856- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الحسن بن خالد الربعي قال، حدثنا طريف بن شهاب العُطاردي: أنه دخل على محمد بن سيرين في رَمضان وهو يأكل، فلم يسأله. فلما فرغ قال: إنه وَجعتْ إصبعي هذه. (4) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن"المرض" الذي أذن   (1) في المطبوعة: "كما مر"، وكأن الصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "زيادة غير المحتملة" وهو كلام ليس بعربي. ونص عبارة الشافعي في الأم 1: 89"وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر، وإن كان زيادة محتملة لم يفطر". (3) في المطبوعة: "هو مرض يسمى مرضًا"، والصواب زيادة [كل] . (4) الخبر: 2856- الحسن بن خالد الربعي: ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/10 قال: "الحسن بن خالد بن باب القريعي. روي عن طريف بن شهال العطاردي. روى عنه محمد بن المثنى". فهو الشيخ الذي هنا، ولم أجد له ترجمة غيرها. وقد علق العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني-مصحح الكتاب- عند قوله"القريعي"، بأن في بعض النسخ"القرايعي"، وأنه سيأتي في باب"خالد""خالد بن باب الربعي"، وأنه"يمكن أن يكون هو والد الحسن هذا". وهذا نظر دقيق منه -حفظه الله- يؤيده نسبته هنا في الطبري"الربعي". و"خالد بن باب الربعي": مترجم في الكبير 2/1/130-131، وابن أبي حاتم 1/2/322، ولسان الميزان 2: 374. طريف بن شهاب العطاردي: ذكر في المطبوعة اسم أبيه"تمام"، وهو خطأ. وطريف هذا: هو أبو سفيان الأشل. وهو ضعيف. وقيل في اسم أبيه"سعد". والذي جود اسمه ونسبته هو البخاري في ترجمته. وهو مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/358، وابن أبي حاتم 2/1/492-493، والضعفاء للبخاري، ص: 18-19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان، من كان الصومُ جاهدَه جَهدًا غير محتمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر. وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمرَ، فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلِّف عُسرًا، ومُنع يُسرًا. وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله:"يُريد اللهُ بكم اليسرَ وَلا يُريد بكم العسر". وأما من كان الصوم غيرَ جَاهدِه، فهو بمعنى الصحيح الذي يُطيق الصوم، فعليه أداءُ فرضه. * * * وأما قوله:"فعدة من أيام أخر"، فإنّ معناها: أيامًا معدودة سوى هذه الأيام. وأما"الأخَر"، فإنها جمع"أخرى" كجمعهم"الكبرى" على"الكُبَر" و"القُربى" على"القُرَب". (1) * * * فإن قال قائل: أوَليست"الأخر" من صفة الأيام؟ قيل: بلى. فإن قال: أوَليس واحدُ"الأيام""يوم" وهو مذكر؟ قيل: بلى. فإن قال: فكيف يكون واحدُ"الأخر""أخرى"، وهي صفة ل"اليوم"، ولم يكن"آخر"؟ قيل: إن واحد"الأيام" وإن كان إذا نُعت بواحد"الأخر" فهو"آخر"، فإن"الأيام" في الجمع تصير إلى التأنيث، فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث، كما يقال:"مضت الأيامُ جُمعَ"، ولا يقال: أجمعون، ولا أيام آخرون. * * * فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى قال:"فمن كانَ منكم مريضًا أو عَلى   (1) في المطبوعة: "بجمعهم الكبرى"، وكأن الصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 سفر فعدةٌ من أيام أخر"، ومعنى ذلك عندك: فعليه عدةٌ من أيام أخر، كما قد وصفت فيما مضى. فإن كان ذلك تأويله، فما قولك فيمن كان مريضًا أو عَلى سَفر فَصَام الشهر، وهو ممن له الإفطار، أُيجزيه ذلك من صيام عدة من أيام أخر، أو غيرُ مُجزيه ذلك، وفَرْضُ صوم عدة من أيام أخر ثابتٌ عليه بهيئته، وإن صام الشهر كله؟ وهل لمن كان مريضًا أو على سَفر صيامُ شهر رمضان، أم ذلك محظور عليه، وغير جائز له صومه، والواجب عليه الإفطار فيه، حتى يقيم هذا ويبرأ هذا؟ قيل: قد اختلف أهل العلم في كل ذلك، ونحن ذاكرُو اختلافهم في ذلك، ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله. فقال بعضهم: الإفطارُ في المرض عَزْمة من الله واجبةٌ، وليسَ بترخيص. * ذكر من قال ذلك: 2857- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- جميعًا، عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: الإفطارُ في السفر عَزْمة. 2858- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى، عن يوسف بن الحكم قال: سألتُ ابن عمر -أو: سئل- عن الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك، ألم تغضب؟ فإنها صَدقة من الله تصدق بها عليكم. (1)   (1) الخبر: 2858- شعبة: هو ابن الحجاج؛ إمام أهل الجرح والتعديل. وثبت في المطبوعة"سعيد". وهو خطأ ناسخ أو طابع في هذا الإسناد، كما يتبين مما سيأتي. يعلى: هو ابن عطاء العامري، ثقة معروف. يوسف بن الحكم أبو الحكم: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات. وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/220 قال: "روى عن ابن عمر. روى عنه يعلى بن عطاء". وترجمه البخاري في الكبير 4/2/376 باسم"يوسف أبو الحكم، سمع ابن عمر. روى عنه يعلى بن عطاء". وثبت عقب ذلك في بعض نسخ الكبير: "هذا هو الأول أظنه". يريد المترجم قبله"يوسف بن مهران". وهذا الظن من البخاري ليس في موضعه، ولعله ظن ذلك إذ لم يقع له منسوبًا لأبيه، بل وقع له باسم"يوسف" وكنية"أبي الحكم". والذي يقطع في ذلك، ويرفع كل شبهة: أن الدولابي روى هذا الخبر، في الكنى والأسماء 1: 154-155"حدثنا محمد بن بشار. قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال، سمعت يوسف بن الحكم أبا الحكم يقول: سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الصوم في السفر. . . " فذكر نحوًا مما هنا. ووهب بن جرير يروي عن شعبة. ويعلى بن عطاء يروي عنه شعبة. فلا موضع في هذا الإسناد لاسم"سعيد". إلى ثبوت الخبر من رواية شعبة عند الدولابي، كما ذكرنا. وهذا الرأي لابن عمر -ثم لغيره من الصحابة- إنما هو فيمن أبى أن يقبل رخصة الله في الإفطار في السفر. قال ابن كثير 1: 410-411"فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه - فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام والحالة هذه. لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر، وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة". يشير ابن كثير في ذلك إلى حديث ابن عمر في المسند: 5392. وانظر حديثين آخرين لابن عمر، في المسند: 5750، 5866. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 2859- حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد قال، قال أبو جعفر: كان أبي لا يَصُوم في السفر، ويَنهى عنه. (1) 2860- وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك: أنه كره الصومَ في السفر. * * * وقال أهل هذه المقالة: من صام في السفر فعليه القضاءُ إذا قام. * ذكر من قال ذلك: 2861- حدثنا نصر بن علي الجهضميّ قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، عن أبيه، عن رجل: أن عمرَ أمرَ الذي صام في السفر أن يُعيد. (2) . 2862- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سعيد   (1) الخبر: 2859- نصر بن عبد الرحمن الأزدي. مضى في: 423، 875. ووقع في المطبوعة هنا - كما وقع هناك: "الأودي". وهو خطأ. (2) الخبر: 2861- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: مضى في: 2376. ووقع في المطبوعة هنا"الخثمعي". وهو تصحيف واضح. وشيخه"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي": مضى في: 1219. وقد ثبت في ترجمتيهما رواية نصر عن مسلم. ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري: ثقة، تكلم فيه بعضهم. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/2/35، والكبير 2/1/266، وابن أبي حاتم 1/2/477-478. أبوه"كلثوم بن جبر": ثقة من صغار التابعين، لم يدرك عمر بن الخطاب. ولذلك روى عنه هنا بواسطة رجل مبهم. فالإسناد لذلك ضعيف. وانظر الخبر الآتي: 2866. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 بن عمرو بن دينار، عن رجل من بني تميم، عن أبيه قال: أمر عمر رجلا صام في السفر أن يعيدَ صَوْمه. 2863- حدثني ابن حميد الحمصي قال، حدثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرَّر بن أبي هريرة قال: كنت مع أبي في سفر في رمضان، فكنت أصوم ويُفطر. فقال لي أبي: أما إنك إذا أقمتَ قَضيت. (1) 2864- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة، عن عاصم مولى قريبة، قال: سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يَقضي. 2865- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عاصم مولى قريبة: أن رجلا صامَ في السفر، فأمرَهُ عروة أن يَقضي. 2866- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن صبيح قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، عن أبيه كلثوم: أنّ قومًا قدموا على عُمرَ بن الخطاب وقد صاموا رمضانَ في سفر، فقال لهم: والله لكأنكم كنتم تصُومون! فقالوا: والله يا أمير المؤمنين   (1) الخبر: 2863- المحرر- براءين مع فتح الأولى مشددة: هو ابن أبي هريرة. وهو تابعي معروف، يروي عن أبيه، وعن ابن عمر. وله في المسند أحاديث عن أبيه، منها: 212، 9562. وهذا الخبر ذكر السيوطي 1: 191، نحو معناه. ونسبه لعبد بن حميد فقط. وثبت فيه اسم"المحرر": "محرز" بالزاي في آخره، وهو تصحيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 لقد صمنا! قال: فأطقتموه! قالوا: نعم. قال: فاقضوه، فاقضوه. (1) * * * وعلة مَنْ قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره فرَضَ بقوله:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه" صومَ شهر رمضان على من شهده مُقيمًا غير مسافر، وجعل على من كان مريضًا أو مسافرًا صومَ عدة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله:"ومَنْ كان مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر". قالوا: فكما غيرُ جائز للمقيم إفطارُ أيام شهر رمضان وَصَوم عدة أيام أخر مكانها -لأن الذي فرضَه الله عليه بشهوده الشهرَ صومُ الشهر دون غيره- فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيمًا، صوْمُه. لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر. واعتلوا أيضًا من الخبر بما:- 2867- حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن موسى، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عوف قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الصائم في السفر كالمفطر في الحضر." (2) 2868- حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد قال، حدثنا يزيد بن عياض،   (1) الخبر: 2866- إسناده ضعيف، لانقطاعه، فإن كلثوم بن جبر لم يدرك عمر بن الخطاب، كما بينا ذلك في: 2861. (2) الحديث: 2867- محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي - شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة. وسيأتي بهذا الاسم أيضًا في: 2888. ولكن سيأتي في الإسناد الذي عقب هذا باسم"محمد بن عبيد الله بن سعيد" - بجعل أبيه"عبيد الله" بدل"عبد الله". وأنا أرجح الذي في إسنادين على الذي في إسناد واحد، ترجيحًا بدائيًا غير محقق. يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري: مختلف فيه، والظاهر أنه ثقة، وإنما أخذوا عليه الرواية عن رجال مجهولين غير معروفي العدالة - مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/398، وابن أبي حاتم 4/2/214-215، وتاريخ بغداد 14: 269-271. عبد الله بن موسى بن إبراهيم - من ولد طلحة بن عبيد الله التيمي: مختلف فيه. وضعف أحمد جدًا. وقال ابن حبان: "يرفع الموقوف، ويسند المرسل، لا يجوز الاحتجاج به". ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله بن موسى". وهو خطأ، فإن الحديث معروف من رواية"عبد الله بن موسى التيمي". ثم هو الذي يروي عن أسامة بن زيد. أسامة بن زيد: هو الليثي المدني، مختلف فيه. وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند: 1098. وهذا الحديث رواه ابن ماجه: 1666، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن عبد الله بن موسى التيمي بهذا الإسناد. وقد أطال الحافظ الزيلعي في نصب الرواية 2: 461-463 في تخريج رواياته. ورجح أنه موقوف من كلام عبد الرحمن بن عوف، إلى انقطاع إسناده بين أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيه. فقد رجح الحافظ أنه لم يسمع من أبيه شيئا. وقد رجحنا في شرح المسند: 1660 أنه سمع ذاك الحديث من أبيه - وكان صغيرًا حين مات عبد الرحمن. وليس معنى هذا أنه سمع منه كل ما يرويه عنه. وذكر ابن أبي حاتم في كتاب العلل، رقم 694، أنه سأل أباه عن هذا الحديث، فقال أبو زرعة: "رواه أبو أحمد الزبيري، ومعن بن عيسى، وحماد بن خالد الخياط، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، قوله. ورواه عنبسة بن خالد، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن لهيهة، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه بقية، عن آخر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو زرعة: الصحيح عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه. موقوف". ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص، ص: 195 أن الدارقطني في العلل والبيهقي، صححا أيضًا أنه موقوف. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 4: 244، وتعقيب ابن التركماني عليه. والرواية الموقوفة على عبد الرحمن بن عوف رواها النسائي 1: 316، بثلاثة أسانيد. هذا وسيأتي قول الطبري في ص: 474 عن هذا الخبر والذي يليه وأشباههما، أنها: "واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاج بها في الدين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصائمُ في السفر كالمفطر في الحضر. (1) * * * وقال آخرون: إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره، رخصها لعباده، والفرضُ الصوم. فمن صام فرضَه أدَّى، ومن أفطر فبرُخصة الله له أفطر. قالوا: وإن صام في سفر فلا قَضاءَ عليه إذا أقام. * ذكر من قال ذلك:   (1) الحديث: 2868- هو إسناد آخر للحديث السابق. وهذا إسناد مشكل: فشيخ الطبري ذكر هنا باسم"محمد عبيد الله بن سعيد". وذكر في الإسناد السابق باسم"محمد بن عبد الله". وثانيًا: قوله"حدثنا يزيد بن عياض" - غير معقول. يجب أن يكون بينهما راو على الأقل. فإن يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدبة الليثي قديم الوفاة، مات في خلافة المهدي. وذكره البخاري في التاريخ الصغير، ص: 172، في فصل (من مات بين سنتي: 140-150) . فليس من المعقول أن يسمع منه أي شيخ للطبري المتوفى سنة 310. وأنا أرجح أن يكون بينهما"يزيد بن هارون"، لما سنذكر، إن شاء الله. ويزيد بن عياض هذا: ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 4/2/351-352، والصغير: "منكر الحديث". ورماه مالك وابن معين والنسائي وغيرهم بالكذب. و"جعدبة" بضم الجيم والدال المهملة بينهما عين مهملة ساكنة. ونقل الزيلعي في نصب الراية 2: 462، أن هذا الحديث"رواه ابن عدي في الكامل، من حديث يزيد بن هارون: حدثنا يزيد بن عياض، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، مرفوعًا. قال ابن عدي: وهذا الحديث لا يرفعه عن الزهري - غير يزيد بن عياض، وعقيل من رواية سلامة بن روح عنه، ويونس بن يزيد من رواية القاسم بن مبرور عنه، وأسامة بن زيد من رواية عبد الله بن موسى التيمي عنه. والباقون من أصحاب الزهري - رووه عنه، عن أبي سلمة، عن أبيه، من قوله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 2869- حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب قال، حدثنا عروة وسالم: أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أميرٌ على المدينة، فتذاكروا الصومَ في السفر، قال سالم: كان ابن عمر لا يصُوم في السفر. وقال عروة. وكانت عائشة تصوم. فقال سالم: إنما أخذت عن ابن عمر. وقال عروة: إنما أخذتُ عن عائشة. حتى ارتفعت أصواتهما. فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم عفوً! اإذا كان يُسرًا فصوموا، وإذا كان عُسرًا فأفطروا. 2870- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال، حدثني رجل قال: ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار. 2871- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق - عن الزهري، عن سالم بن عبد الله قال: خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان، فقال: إن الشهر قد تشعشع - قال أبو كريب في حديثه: أو: تَسعسع، ولم يشك يعقوب -فلو صمنا! فصام وصام الناس مَعه. ثم أقبل مرَّة قافلا حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلالُ شهر رمضان، فقال: إن الله قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 قَضَى السفر، فلو صمنا ولم نَثْلم شهرنا! قال: فصام وصام الناس معه. (1) . 2872- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير، قال، حدثني أبي - وحدثنا محمد بن بشار قال، أخبرنا عبيد الله قال، أخبرنا بشير بن سلمان -عن خيثمةَ قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر، قال: قد أمرتُ غلامي أن يَصوم فأبى. قلت: فأين هذه الآية:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"؟ قال: نزلت ونحن يومئذ نرتحلُ جياعًا وننزل على غير شِبَع، وإنا اليوم نرتحل شِباعًا وننزل على شِبَع (2) . 2873- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بشير بن سلمان، عن خيثمة، عن أنس نحوه. 2874- حدثنا هناد وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية، عن عاصم،   (1) تسعسع الشهر: أدبر وفنى إلا أقله من قولهم: "تسعسع الرجل": إذا اضطرب من الكبر أو الهرم. وتشعشع الشهر: رق وتقضى وبقى أقله. ذهب به إلى رقة الشهر وقلة ما بقي، كما يشعشع اللبن بالماء أي يمزج ويخلط. وقوله"لم نثلم شهرنا" من ثلم الإناء أو السيف: كسر شفة الإناء أو حد السيف. أي لم ندخل الخلل على صومنا ونجرح شهرنا. (2) الخبر: 2872- الحكم بن بشير بن سلمان: مضى في: 1497. أبوه"بشير بن سلمان النهدي": ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وأبوه: "سلمان"، بفتح السين وسكون اللام. ووقع في كثير من المراجع المطبوعة"سليمان". وهو خطأ مطبعي. وفي التهذيب وفروعه"الكندي" بدل"النهدي". وهو خطأ، صوابه في الكبير للبخاري 1/2/99، وابن أبي حاتم 1/1/374، وابن سعد 6: 251، ورجال الصحيحين، ص: 55. خيثمة: هو ابن أبي خيثمة البصري، وهو تابعي ثقة. وقال ابن معين: "ليس بشيء". كما في ابن أبي حاتم 1/2/394، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 2/1/197، فلم يذكر فيه جرحًا، وأشار إلى هذا الحديث من روايته، كعادته في إشاراته الدقيقة -لله دره- فقال: "وقال أبو نعيم، عن بشير بن سلمان، عن خيثمة. قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر". ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء. وهذا كاف في توثيقه والاحتجاج بروايته، دون الجرح المجمل من ابن معين. وهذا الخبر ذكره السيوطي 1: 191، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والنسائي. ولم أجده في النسائي، ولعله في السنن الكبرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 عن أنس: أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من أفطر فبرُخصة الله، ومن صام فالصومُ أفضل. 2875- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن أشعث بن عبد الملك، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص قال: الفطر في السفر رخصة، والصوم أفضل. 2876- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو الفيض، قال: كان علي علينا أميرًا بالشام، فنهانا عن الصوم في السفر، فسألت أبا قِرْصافة - رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث، قال عبد الصمد: سمعتُ رجلا من قومه يَقول: إنه واثلة بن الأسقع - قال: لو صمتَ في السفر ما قضيت. (1) .   (1) الخبر: 2876- أبو الفيض: هو موسى بن أيوب المهري الحمصي، ويقال: ابن أبي أيوب، وهو شامي ثقة، وثقه ابن معين، والعجلي. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/134. أبو قرصافة، بكسر القاف وسكون الراء بعدها صاد مهملة: هو"واثلة بن الأسقع" الصحابي، من بني ليث بن عبد مناة. يكنى"أبا الأسقع"، ويقال"أبو قرصافة"، كما في ترجمته في الإصابة والتهذيب وغيرهما. وهذا الخبر يؤيد هذه الكنية، لأن عبد الصمد بن عبد الوارث يذكر في أثنائه، أنه سمع رجلا من قومه يقول"إنه واثلة بن الأسقع". وقد أوقعهم هذا الخبر -أو نحوه- في وهم عجيب؛ لأن هناك رجلا آخر له صحبة، يكنى"أبا قرصافة اسمه جندرة بن خيشنة" كنابي له صحبة، مترجم في التهذيب 2: 119، والكبير 1/2/249، وابن أبي حاتم 1/1/545، وأسد الغابة 1: 307. فانتقل نظر صاحب التهذيب، في ترجمة"أبي الفيض موسى بن أيوب" 10: 337 فذكر أنه يروي عن"أبي قرصافة جندرة بن خيشنة". ثم ذكر صاحب أسد الغابة، في ترجمة"جندرة" هذا أنه"جعله ابن ماكولا ليثيًا، وليس بشيء!! ". ولم يذكر صاحب التهذيب في ترجمة"جندرة" أنه يروي عنه"أبو الفيض"!! فالظاهر عندي أن ابن ماكولا حين ذكر أن"أبا قرصافة" من بني ليث، أراد به"واثلة بن الأسقع"، كما تدل عليه الرواية في هذا الخبر. وأن صاحب التهذيب وهم حين ذكر أن أبا الفيض يروي عن"أبي قرصافة جندرة بن خيشنة"، لأن روايته إنما هي عن"أبي قرصافة واثلة"، وهو ليثي بلا خلاف فيه. وأما قول أبي الفيض هنا: "كان على علينا أميرا بالشأم" - فلا أدري ما هو؟ وإنما اليقين أنه لا يريه به"علي بن أبي طالب"، إذ لم يكن ذلك قط. ولعله كان لهم أمير بالشأم يدعي"عليا". ويحتمل أن يكون ما هنا فيه تحريف، وأن يكون صوابه"كان علينا أمير بالشأم، فنهانا. . " إلخ. ثم وجدت ما يؤيد ذلك: ففي مجمع الزوائد 3: 161-162"عن أبي الفيض" قال: خطبنا مسلمة بن عبد الملك، فقال: لا تصوموا رمضان في السفر، فمن صام فليقضه. قال أبو الفيض: فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع، فسألته؟ فقال: لو ما صمت ثم صمت ما قضيته. رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات". فهذه الرواية تماثل رواية الطبري هنا، وتدل على أن الأمير الذي نهاهم هو"مسلمة بن عبد الملك". فأكبر الرأي أن يكون الصواب في رواية الطبري"كان عليا أمير بالشأم"، كما ظننا من قبل. ولفظ آخر الحديث -في رواية الزوائد- أراه محرفًا، وأوضح منه وأصوب لفظ أبي جعفر. و"جندرة" و"خيشنة" - كلاهما بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 2877- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بسطام بن مسلم، عن عطاء قال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرُخصة. 2878- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن كهمس قال: سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر، فقال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرخصة. 2879- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: من صام فحقٌّ أدَّاه، ومن أفطر فرُخصة أخذ بها. 2880- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، قال: الفطر في السفر رُخصة، والصومُ أفضل. 2881- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، قال: هو تَعليم، وليس بعَزم - يعني قول الله:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، إن شاء صام وإن شاء لم يصم. 2882- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: في الرجل يسافر في رمضان، قال: إن شاء صام وإن شاء أفطر. 2883- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا العوّام بن حوشب قال: قلت لمجاهد: الصوم في السفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر. قال: قلت: فأيهما أحب إليك؟ قال: إنما هي رُخصة، وأن تصوم رمضان أحب إليّ. 2884- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 عن حماد، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد، أنهم قالوا: الصومُ في السفر، إن شاء صَام وإن شاء أفطر، والصوم أحب إليهم. 2885- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال لي مجاهد في الصوم في السفر -يعني صوم رمضان-: والله ما منهما إلا حلال، الصومُ والإفطار، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده. 2886- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: صحبت أبا الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة، وكانوا يصومون رمضان وغيرَه في السفر. 2887- حدثنا علي بن حسن الأزدي قال، حدثنا معافى بن عمران، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير: الفطرُ في السفر رُخصة، والصوم أفضل. 2888- حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا صالح بن محمد بن صالح، عن أبيه قال: قلت للقاسم بن محمد: إنا نسافر في الشتاء في رمضان، فإن صمتُ فيه كان أهوَنَ عليَّ من أن أقضيه في الحر! فقال: قال الله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ما كان أيسرَ عليك فافعلْ (1) . * * *   (1) الخبر: 2888- محمد بن عبد الله بن سعيد، شيخ الطبري: مضى في: 2867، 2868. صالح بن محمد بن صالح بن دينار التمار المدني: ترجمه البخاري في الكبير 2/2/292، ولم يذكر فيه جرحا، وذكر أنه يروي عن أبيه. ولم يترجم له ابن أبي حاتم، ولا التهذيب، ولا لسان الميزان ولكن ذكر في التهذيب في ترجمة أبيه، أنه يروي عنه. أبوه محمد بن صالح بن دينار التمار: ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 1/1/117، وروى حدثنا آخر من رواية ابنه صالح، عنه، وابن أبي حاتم 3/2/287. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 قال أبو جعفر: وهذا القول عندنا أولى بالصواب، لإجماع الجميع على أن مريضًا لو صام شهرَ رمضان -وهو ممن له الإفطار لمرضه- أنّ صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلومًا بذلك أن حكم المسافر حكمه في أنْ لا قضاءَ عليه إن صامه في سفره. لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمرَ به من قضاء عدة من أيام أخر، مثلُ الذي جعل من ذلك للمريض وأمرَ به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفايةٌ مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها. وذلك قول الله تعالى ذكره: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، ولا عُسرَ أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عدةً من أيام أخر، وقد تكلف أداءَ فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدَّاه. فإن ظن ذو غَباوة أنّ الذي صامه لم يكن فرضَهُ الواجبَ، فإن في قول الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام""شهرُ رَمضَان الذي أنزل فيه القرآن"، ما ينبئ أن المكتوبَ صومُه من الشهور على كل مُؤمن، هو شهرُ رمضان مسافرًا كان أو مقيمًا، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكمُ الصيام""شهر رمضان" = وأن قوله:"ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر" معناه: ومن كان مريضًا أو على سفر فأفطرَ برُخصة الله، فعليه صوم عدة أيام أخر مكانَ الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه = ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله - إذْ سئل عن الصوم في السفر:"إن شئتَ فصم، وإن شئت فأفطر" - الكفايةُ الكافيةُ عن الاستدلال على صحة ما قُلنا في ذلك بغيره. 2889- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن حَمزة سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر -وكانَ يسرُد الصوم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 شئتَ فصُمْ وإن شئت فأفطر. (1) . 2890- حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهبّاري قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. (2) .   (1) الحديث: 2889- هو حديث صحيح. رواه الإمام أحمد، وأصحاب الكتب الستة، كما في المنتقى: 2171. و"حمزة" هذا: هو حمزة بن عمرو الأسلمي، صحابي معروف. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/43، وابن سعد 4/2/45، وابن أبي حاتم 1/2/212، والاستيعاب، ص: 105، وأسد الغابة 2: 50-51، وتاريخ الإسلام للذهبي 3: 14. ومن عجب بعد هذا كله: أن يسهو الحافظ ابن حجر عن ترجمته في الإصابة، في حين أنه أشار إليه في ترجمة"حمزة بن عمر" بضم العين وفتح الميم. وهي ترجمة أخطأ فيها بعض من سبقه، وبين هو هذا الخطأ كما بينه ابن الأثير!! وانظر الإسنادين بعد هذا. سرد الصوم يسرده سردًا: إذا والاه وتابعه بعضه في إثر بعض. (2) الحديث: 2990- عبيد بن إسماعيل الهباري، شيخ الطبري: ثقة من شيوخ البخاري. ترجمه في الصغير، ص: 247، وهو مترجم أيضًا في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/402. ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي، مضى في: 438، 2030. ووقع في التهذيب 7: 59، في شيوخ"عبيد بن إسماعيل" -" وأبي إدريس". وهو خطأ مطبعي. وهذا الإسناد ظاهره أنه مرسل، لأن عروة بن الزبير تابعي، كما هو واضح. والظاهر أن هشام بن عروة، أو أباه عروة - كان أحدهما يصل هذا الحديث تارة ويرسله تارة. وعروة سمعه من خالته عائشة أم المؤمنين، كما في الإسناد السابق، وسمعه أيضًا من أبي مراوح عن حمزة الأسلمي نفسه، كما في الإسناد التالي لهذا. ومالك قد روى هذا الحديث في الموطأ، ص: 295، "عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن حمزة بن عمرو الأسلمي. . " - فذكره مرسلا، كرواية ابن إدريس هنا، عن هشام. فقال ابن عبد البر في التقصي، رقم: 643"هكذا رواه يحيى، لم يذكر عائشة. وخالفه أكثر رواة الموطأ، فذكروا فيه عائشة". وقد رواه البخاري 4: 157، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك - موصولا. وكذلك رواه غيره من الأئمة. والظاهر عندي أن الذي كان يرسله ويصله - هو هشام أو أبوه، وأن مالكًا رواه عن هشام على الوجهين. بدلالة رواية عبد الله بن إدريس المرسلة -هنا- عن هشام. ورواه البخاري أيضًا 4: 156، ومسلم 1: 309 - 310، بأسانيد، موصولا، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 2891- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال: أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح، عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم، فأصومُ في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي رُخْصة من الله لعباده، فمن فعلها فحسنٌ جميل، ومن تركها فلا جُناح عليه. فكان حمزة يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر، حتى إنْ كان ليمرضُ فلا يُفطر. وكان أبو مُرَاوح يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. (1) . * * * ففي هذا، مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا: من أن الإفطارَ رخصةٌ لا عزم، والبيانُ الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله:"وَمن كانَ مريضًا أو عَلى سَفر فعدةٌ من أيام أخر". * * *   (1) الحديث: 2891- أبو زرعة وهب الله بن راشد: مضى في: 2377. ووقع في المطبوعة هنا - كما كان هناك: "أبو زرعة وعبد الله بن راشد قالا. . ". وهو خطأ، كما بينا آنفًا. حيوة -بفتح الحاء المهملة والواو بينهما ياء تحتية ساكنة- بن شريح التجيبي، أبو زرعة المصري: فقيه عالم ثقة ثقة. أبو الأسود: هو"يتيم عروة"، واسمه"محمد بن عبد الرحمن بن نوفل"، وقيل له"يتيم عروة" لأن أباه كان أوصى إليه. أبو مراوج الغفاري المدني: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما. والحديث رواه مسلم 1: 310، والنسائي 1: 243 - والبيهقي 4: 43، ثلاثتهم من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، بهذا الإسناد. وقصر السيوطي جدًا، فذكره 1: 190، ونسبه للدارقطني"وصححه"، فقط. وهو في أحد الصحيحين وأحد السنن الأربعة. فظهر من هذا الإسناد أن عروة بن الزبير له في هذا الحديث طريقان: فسمعه من خالته عائشة. وسمعه مطولا من أبي مراوح، عن حمزة الأسلمي نفسه، صاحب السؤال. فليس هذا اختلافًا على عروة، إنما هو توكيد رواية صحيحة، بأخرى مثلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرةً، فقد تظاهرت أيضًا بقوله:"ليس من البر الصيامُ في السفر"؟ قيل: إن ذلك إذا كان الصيامُ في مثل الحال التي جَاء الأثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في ذلك لمن قال له. 2892- حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجُلا في سفره قد ظُلِّل عليه، وعليه جماعة، فقال:"من هذا؟ قالوا: صائم. قال: ليس من البر الصوم في السفر. * * * =قال أبو جعفر: أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط، وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن، شعبة. (1) . * * * 2892م- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّل عليه، فقالوا: هذا رجل صائم! فقال رسول الله صلى الله   (1) الحديث: 2892- الحسين بن يزيد السبيعي، شيخ الطبري: هكذا ثبت هنا. وأخشى أن يكون نسبته"السبيعي" سهوا أو خطأ من الناسخين. والذي في هذه الطبقة، ويروي عن عبد الله بن إدريس - هو"الحسين بن يزيد بن يحيى الطحان الأنصاري" وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/67. روى عنه أبو داود، والترمذي، وأبو زرعة، وذكر الحافظ أنه روى عنه مسلم خارج الصحيح. والذي يرجح عندي هذا: أن الطبري روى خبرًا آخر، في التاريخ 1: 135 - 136: "حدثنا الحسين بن يزيد الطحان قال: حدثنا ابن إدريس. . . ". إلا أن يكون هذا شيخًا آخر للطبري، لم تصل إلينا معرفته. وقد نبه الطبري إلى غلط هذا الشيخ، في إسقاط"شبعة" بين"ابن إديس" و"محمد بن عبد الرحمن"، وهو كما قال. فإن عبد الله بن إدريس لم يدرك أن يروي عن محمد بن عبد الرحمن. وسيأتي تخريج هذا الحديث، في الإسناد التالي له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 عليه وسلم: ليس من البر أن تَصوموا في السفر. (1) . * * * فمن بلغ منه الصوم ما بَلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك، فليس من البر صومه. لأن الله تعالى ذكره قد حرّم على كل أحد تعريضَ نفسه لما فيه هلاكها، وله إلى نجاتها سبيل. وإنما يُطلب البر بما نَدب الله إليه وَحضَّ عليه من الأعمال، لا بما نهى عنه. وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" (2) فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظُلِّل عليه، إن كان قبل ذلك. وغيرُ جائز عليه أن يُضَاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيلُ ذلك، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى   (1) الحديث: 2892م - محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وبعضهم ينسبه لجده لأمه، فيقول: "محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة". و"سعد بن زرارة"، وأخوه"أسعد بن زرارة"- صحابيان معروفان، أنصاريان، من بني النجار. ووقع في هذا الإسناد في المطبوعة"شعبة عن عبد الرحمن بن سعد. . "، وهو خطأ واضح من الناسخين سقط منهم"محمد بن" قبل"عهد الرحمن". محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما. والحديث رواه مسلم 1: 308، بأسانيد، منها: عن محمد بن المثني، شيخ الطبري هنا، عن محمد بن جعفر، بهذا الإسناد. ورواه أحمد في المسند: 14242 (3: 299حلبي) ، عن محمد بن جعفر، به. ورواه أبو داود الطيالسي: 1721، عن شعبة، به. ورواه البخاري 4: 161-162 (فتح) ، عن آدم، عن شعبة. ورواه أيضًا -مختصرًا- في الكبير 1/1/189-190، عن آدم. ورواه أبو نعيم في الحلية 7: 159، بأسانيد من طريق شعبة، ثم قال: "صحيح متفق عليه. واختلف في محمد بن عبد الرحمن: فأخرجه سليمان في ترجمة: شعبة عن أبي الرجال، وغيره أخرجه في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة". وقد حقق الحافظ في الفتح أن الصحيح ما ذكرنا. وهو الثابت في صحيح مسلم، وسنن أبي داود: 2407، وغيرهما. وقصر السيوطي جدًا، إذ نسبه في الدر المنثور 1: 191 لابن أبي شيبة، وأبي داود، والنسائي، فقط؛ وهو في الصحيحين كما ترى. (2) انظر الأثرين رقم: 2867، 2868، والتعليق عليهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 الله عليه وسلم واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاجُ بها في الدين. * * * فإن قال قائل: وكيف عطف على"المريض"، وهو اسم بقوله:"أوْ على سفر" و"على" صفة لا اسم. (1) . قيل: جاز أن ينسق ب"على" على"المريض"، لأنها في معنى الفعل. وتأويل ذلك: أو مسافرًا، كما قال تعالى ذكره: (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) [يونس: 12] ، فعطف ب"القاعد، والقائم" على"اللام" التي في"لجنبه"، لأن معناها الفعل، كأنه قال: دعانا مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يريد الله بكم، أيها المؤمنون -بترخيصه لكم في حال مرضكم وسَفركم في الإفطار، وقضاء عدة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد بُرئكم من مرضكم- التخفيفَ عليكم، والتسهيل عليكم، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال (2) ="ولا يُريد بكم العسر"، يقول: ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم، فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال، مع علمه شدة ذلك عليكم، وثقل حمله عليكم لو حمّلكم صومه، كما:- 2893- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، قال: اليسر: الإفطار في السفر، والعسر الصيام في السفر. 2894- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا   (1) قوله: "صفة" يعني حرف جر. وحروف الصفات هي حروف الجر. وقد مضى بيان ذلك في 1: 299 تعليق: 1. (2) في المطبوعة: "بشقة ذلك عليكم"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 شعبة، عن أبي حمزة، قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر، فقال: يُسرٌ وعُسرٌ. فخذ بيسر الله. 2895- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر. قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يريد الله بكم اليسر" -قال: هو الإفطار في السفر، وَجعل عدةً من أيام أخر-"ولا يريد بكم العسر". 2896- حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يريد الله بكمُ اليسر ولا يُريد بكم العسر"، فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم. 2897- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس، عن ابن عباس قال: لا تَعِبْ على من صام ولا على من أفطر -يعنِي في السفر في رمضان-"يريد الله بكم اليسر ولا يُريد بكم العسر". 2898- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضيل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمانَ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله:"يريد الله بكمُ اليسر" -الإفطار في السفر-"ولا يريد بكم العسر"، الصيام في السفر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (1) "ولتكملوا العدة"، عدةَ ما أفطرتم، من أيام أخر، أوجبت عليكم قضاءَ عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم، كما:   (1) في المطبوعة: "بذلك" مكان"بقوله"، وسياق الكلام يدل على صواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 2899- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولتكملوا العدة"، قال: عدة ما أفطر المريض والمسافر. 2900- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولتكملوا العدة"، قال: إكمالُ العدة: أنَ يصومَ ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض [إلى] أنْ يُتمه، فإذا أتمه فقد أكمل العدة. (1) . * * * فإن قال قائل: ما الذي عليه = بهذه"الواو" التي في قوله:"ولتكملوا العدة" = عَطَفَتْ؟ (2) . قيل: اختلف أهل العربية في ذلك. فقال بعضهم: هي عاطفة على ما قبلها، كأنه قيل: ويُريد لتكملوا العدة ولتكبروا الله. وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه"اللام" التي في قوله:"ولتكملوا" لام"كي" لو ألقيتْ كان صوابًا. قال: والعرب تُدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها، ولا تكون شرطًا للفعل الذي قبلها وفيها"الواو"، ألا ترى أنك تقول:"جئتك لتحسن إلي"، ولا تقول:"جئتك ولتحسن إليّ"، فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن جئتك. قال: وهذا في القرآن كثيرٌ، منه قوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) [سورة الأنعام: 113] ، وقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: 75] ، ولو لم تكن فيه"الواو" كان شرطًا على قولك: أريْناهُ ملكوت السموات والأرض   (1) الزيادة بين القوسين لا غنى عنها هنا. (2) السياق: وما الذي عليه عطفت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 ليكون. فإذا كانت"الواو" فيها فلها فعل"مضمر" بعدها، و"ليكون من الموقنين"، أريناه. (1) . * * * قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب في العربية. لأن قوله:"ولتكملوا العدة"، ليس قبله"لام" بمعنى"اللام" التي في قوله:"ولتكملوا العدة" فتعطف بقوله:"ولتكملوا العدة" عليها - وإن دخول"الواو" معها، يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها، إذ كانت"الواو" لو حذفت كانت شرطًا لما قبلها من الفعل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولتعظِّموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به، من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثلَ الذي كتب عليكم فيه، فضلُّوا عنه بإضلال الله إياهم، وخصَّكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتبَ الله عليكم من صومه، وتشكروه على ذلك بالعبادة لهُ. * * * والذكر الذي حضهم الله على تعظيمه به،"التكبير" يوم الفطر، فيما تأوله جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2901- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن داود بن قيس، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول:"ولتكبروا الله على   (1) هذا قول الفراء، وهو نص كلامه في معاني القرآن 1: 113. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 ما هداكم"، قال: إذا رأى الهلال، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام، في الطريق والمسجد، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره. 2902- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول:"ولتكبِّروا الله على ما هداكم"، قال: بلغنا أنه التكبير يوم الفطر. 2903- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان ابن عباس يقول: حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبرِّوا الله حتى يفرغوا من عيدهم، لأن الله تعالى ذكره يقول:"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم". قال ابن زيد: يَنبغي لهم إذا غَدوا إلى المصلَّى كبروا، فإذا جلسوا كبروا، فإذا جاء الإمام صَمتوا، فإذا كبر الإمام كبروا، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد. قال يونس: قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: والجماعةُ عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلَّى. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق، وتيسير ما لو شاء عسر عليكم. و"لعل" في هذا الموضع بمعنى"كي" (1) ولذلك عطف به على قوله:"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله عَلى ما هَداكم ولَعلكم تَشكرون". * * *   (1) انظر ما سلف 1: 364، والمراجع في فهرس مباحث العربية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سَألك يا محمد عبادي عَني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم. * * * وقد اختلف فيما أنزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله:"وإذا سألك عبادي عَني فأني قريبٌ أجيبُ" الآية. 2904- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبدة السجستاني، عن الصُّلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. (1) .   (1) الحديث: 2904- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، مضى في: 2028، 2346. عبدة السجستاني: هو عبدة بن أبي برزة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/90، ولم يذكر فيه جرحًا. ولم أجد له ترجمة عند غيره. "السجستاني": هذا هو الصحيح، الثابت هنا، وفي المصادر المعتمدة، كما سيأتي. ووقع في بعض المراجع"السختياني"، وهو خطأ مطبعي واضح. الصلب بن حكيم: نص الحافظ عبد الغني الأزدي المصري، في كتاب المؤتلف والمختلف، ص 79، على أنه"صلب": "بالياء معجمة من تحتها وضم الصاد". وترجم له فقال: "صلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. روى حديثه محمد بن حميد، عن جرير، عن عبدة بن أبي برزة السجستاني". وكذلك قال الذهبي في المشتبه، ص: 316"وصلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. يشتبه بالصلت بن حكيم". وفي هامشه، نقلا عن هامش إحدى مخطوطاته: "قال الخطيب: قيل إنه أخ لبهز بن حكيم، ولا يصح ذلك. ويشتبه أيضًا بالصلت بن حكيم، بضم الحاء. ويقال: الحكيم بن الصلت" وكذلك قال الحافظ بن حجر، في"تبصير المنتبه" (مخطوط مصور عندي) ، ونص على أنه"قيل: إن الصلب بن حكيم، المتقدم ذكره - أخو بهز بن حكيم، ولا يصح". ولكنه -مع هذا- ترجم له في لسان الميزان 3: 195، في باب"الصلت"، نقلا عن الميزان، وذكر هذا الحديث له. وذكر رواية الذهبي إياه بإسناده إلى"محمد بن حميد". ثم ذكر -نقلا عن الذهبي أيضًا- أنه رواه ابن أبي خثيمة، في جزء فيمن روي عن أبيه عن جده، وأنه"أخرجه العلائي في كتاب الوشي، عن إبراهيم بن محمد. وقال: لم أر للصلت ذكرًا في كتب الرجال". ثم عقب الحافظ على ذلك بقوله: "قلت: ذكره الدارقطني في المؤتلف، وحكى الاختلاف: هل آخره بالموحدة، أو بالمثناة؟ وقال إنه ابن حكيم بن معاوية بن حيدة، فهو أخو بهز بن حكيم، المحدث المشهور. وليس للصلت ولا لأبيه ولا لجده - ذكر في كتب الرواة، إلا ما قدمت من ذكر ابن أبي خيثمة، ولم يزد في التعريف به على ما ها هنا". وهذا اضطراب شديد من الحافظ ابن حجر. ثم إن هذه التي نقلها عن ميزان الاعتدال للذهبي لم تذكر في النسخة المطبوعة منه. فالظاهر أنها سقطت من الأصول التي طبع عنها الميزان. والراجح عندي ما ذهب إليه الذهبي وابن حجر وابن أبي خيثمة وعبد الغني الأزدي: أنه"صلب" بضم الصاد وبالوحدة في آخره. وأنه مجهول هو وأبوه وجده. أما"حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري-: فإنه تابعي معروف، وأبوه صحابي معروف. وقد روي عن حكيم بن معاوية بن حيدة - أبناؤه: بهز، وسعيد ومهران. فلا صلة للذي يسمى"الصلب" هذا - بهؤلاء. وهذا الحديث ضعيف جدًا، منهار الإسناد بكل حال. وقد وهم الحافظ ابن كثير، حين ذكره 1: 413-414، وجعله من حديث"معاوية بن حيدة القشيري". وذكره السيوطي أيضًا 1: 194، وأخطأ فيه خطأ آخر: فجعله"من طريق الصلت بن حكيم، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده"!! وقد تكون زيادة" عن رجل من الأنصار" خطأ من الناسخين، لا من السيوطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 2905- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن قال: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أين ربُّنا؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية (1) . * * *   (1) الحديث: 2905- جعفر بن سليمان: هو الضبعي، بضم الضاد المعجمة، وفتح الباء الموحدة. وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. عوف: هو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وقد مضت له رواية في: 645. وهو معروف بالرواية عن الحسن البصري. وهذا الإسناد صحيح إلى الحسن. ولكن الحديث ضعيف، لأنه مرسل، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة. وقد رواه أبو جعفر هنا، من طريق عبد الرزاق، ولم أجده في تفسير عبد الرزاق. فلعله في موضع آخر من كتبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لمسألة قومٍ سَألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ ساعة يدعون الله فيها؟ * ذكر من قال ذلك: 2906- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لما نزلت: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر: 60] قالوا: في أي ساعة؟ قال: فنزلت:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب" إلى قوله:"لعلهم يَرُشدون". 2907- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:"أجيب دَعوَة الداع إذا دعان"، قالوا: لو علمنا أيَّ ساعة نَدْعو! فنزلت:"وإذا سَأَلكَ عِبَادي عَنّي فإني قريب" الآية. 2908- حدثني القاسم. قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: زعم عطاء بن أبي رباح أنه بلغه: لما نزلت: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو! فنزلت:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون". 2909- حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا سَألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دَعان"، قال: ليس من عَبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذَخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروهًا. 2910- حدثني المثني قال، حدثنا الليث بن سعد عن ابن صالح، عمن حدثه: أنه بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أعطى أحدٌ الدعاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 ومُنع الإجابة، لأن الله يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) . * * * ومعنى متأوِّلي هذا التأويل: وإذا سألك عبادي عني: أي ساعة يدعونني؟ فإني منهم قريب في كل وقت، أجيب دعوة الداع إذا دعان. * * * وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لقول قوم قالوا - إذْ قالَ الله لهم: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) -: إلى أين ندعوه! * ذكر من قال ذلك: 2911- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 115] . * * * وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لقوم قالوا: كيف ندعو؟ * ذكر من قال ذلك: 2912- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما أنزل الله"ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، قال رجال: كيف ندعو يا نبي الله؟ فأنزل الله:"وإذا سَألك عبادي عَنّي فإنّي قريبٌ" إلى قوله:"يرشدون". * * * وأما قوله:"فليستجيبوا لي"، فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة. يقال منه:"استجبت له، واستجبته"، بمعنى أجبته، كما قال كعب بن سعد الغنويّ: وَدَاعٍ دَعَا يَامَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيب (1)   (1) سلف هذا البيت في1: 320، ونسيت هناك أن أشير إليه أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير، ثم في 4: 144 (بولاق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 يريد: فلم يجبه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد وجماعةٌ غيره. 2913- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"فليستجيبوا لي"، قال: فليطيعوا لي، قال:"الاستجابة"، الطاعة. 2914- حدثني المثني قال، حدثنا حبان بن موسى قال: سألت عبد الله بن المبارك عن قوله:"فليستجيبوا لي"، قال: طاعة الله. * * * وقال بعضهم: معنى"فليستجيبوا لي": فليدعوني *ذكر من قال ذلك: 2915- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني، قال"فليستجيبوا لي"، فليدعوني. * * * وأما قوله:"وليؤمنوا بي" فإنه يعني: وَليصدِّقوا. أي: وليؤمنوا بي، إذا همُ استجابوا لي بالطاعة، أني لهم من وَرَاء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزالي الكرامةَ لهم عليها. * * * وأما الذي تأوَّل قوله:"فليستجيبوا لي"، أنه بمعنى: فليدعوني، فإنه كان يتأوّل قوله:"وليؤمنوا بي"، وليؤمنوا بي أني أستجيب لهم. * ذكر من قال ذلك: 2916- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني:"وليؤمنوا بي"، يقول: أني أستجيب لهم. * * * وأما قوله:"لعلهم يَرشُدُون" فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة، وليؤمنوا بي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 فيصدِّقوا على طاعتهم إياي بالثواب مني لهم، وليهتدوا بذلك من فعلهم فيرشدوا، كما:- 2917- حدثني به المثني قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله:"لعلهم يَرشدون"، يقول: لعلهم يهتدون. * * * فإن قال لنا قائل: وما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره؟ فأنت ترى كثيرًا من البشر يدعون الله فلا يجابُ لهم دُعاء، وقد قال:"أجيبُ دَعوة الداع إذا دَعان"؟ قيل: إن لذلك وجهين من المعنى: أحدهما: أن يكون معنيًّا"بالدعوة"، العملُ بما نَدب الله إليه وأمر به. فيكون تأويل الكلام. وإذا سألك عبادي عَني فإنى قريبٌ ممن أطاعني وعَمل بما أمرته به، أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني. فيكون معنى"الدعاء": مسألة العبد ربَّه وما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته، ومعنى"الإجابة" من الله التي ضمنها له، الوفاءُ له بما وعد العاملين له بما أمرهم به، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:"إنّ الدعاء هو العبادة". 2918- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جويبر، عن الأعمش، عن ذر، عن يُسَيْع الحضرمي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدعاءَ هُوَ العبادة. ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [سورة غافر: 60] (1) . * * *   (1) الحديث: 2918- أما الحديث في ذاته - فإنه حديث صحيح. وأما هذا الإسناد بعينه، فلا أدري كيف يستقيم؟ مع ضعفه! فإن ابن حميد - شيخ الطبري- هو: محمد بن حميد الرازي، سبق توثيقه: 2028، 2253. ولكن من المحال أن يقول: "حدثنا جويبر"، لأن ابن حميد مات سنة 248، وجويبر بن سعيد الأزدي مات قبل ذلك بنحو مائة سنة، فقد ذكره البخاري في الصغير، ص: 176، فيمن مات بين سنتي: 140 - 150. فلا بد أن يكون قد سقط بينها شيخ، خطأ من الناسخين. ثم إن "جويبرا" هذا: ضعيف جدًا، كما بينا في: 284. الأعمش: هو سليمان بن مهران، الإمام المعروف. ذر، بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء: هو ابن عبد الله المرهبي، بضم الميم وسكون الراء وكسر الهاء بعدها ياء موحدة. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. يسيع - بضم الياء الأولى وسكون الثانية بينهما سين مهملة مفتوحة: هو ابن معدان الحضرمي، في التهذيب، والكبير 4/2/425 - 426، وابن أبي حاتم 4/2/313. ووقع هنا في المطبوعة"سبيع"! وهو تصحيف. والحديث سيأتي في الطبري 24: 51 - 52 (بولاق) ، بستة أسانيد. ووقع اسم "ذر" هناك مصحفًا إلى "زر"، بالزاي بدل الذال. وهو حديث صحيح. رواه أحمد في المسند 4: 271 (الحلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد. فليس فيه "جويبر" الضعيف المذكور هنا. ونقله ابن كثير 7: 309، عن ذلك الموضع من المسند، وقال: وهكذا رواه أصحاب السنن: الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير - كلهم من حديث الأعمش، به. وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير أيضًا، من حديث شعبة، عن منصور الأعمش- كلاهما عن ذر، به، ثم ذكر أنه رواه ابن حبان والحاكم أيضا. وهو عند الحاكم 1: 490 - 491 بأسانيد، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي 5: 355، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 فأخبر صَلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته، بالعمل له والطاعة. وبنحو الذي قلنا في ذلك ذُكِر أن الحسن كان يقول: 2919- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني منصور بن هارون، عن عبد الله بن المبارك، عن الربيع بن أنس، عن الحسن أنه قال فيها: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حقٌّ على الله أنَ يستجيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 للذين آمنوا وعَملوا الصالحات ويزيدُهم من فضله. * * * والوجه الآخر: أن يكون معناه: أجيب دعوة الداع إذا دَعان إن شئت. فيكون ذلك، وإن كان عامًّا مخرُجه في التلاوة، خاصًّا معناهُ. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 القول في تأويل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أحل لكم"، أطلق لكم وأبيح (1) . * * * ويعني بقوله:"ليلة الصيام"، في ليلة الصيام. * * * فأما"الرفث" فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع، يقال:"هو الرفثُ والرُّفوث". (2) . * * * وقد روي أنها في قراءة عبد الله:"أحل لكم ليلة الصيام الرفوثُ إلى نسائكم". * * * وبمثل الذي قلنا في تأويل"الرفث" قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 2920- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر عن عبد الله المزني، عن ابن عباس قال: الرفث، الجماعُ، ولكن الله كريم يَكني.   (1) انظر تفسير"الحلال" فيما سلف من هذا الجزء 3: 300، 301. (2) انظر ما سيأتي في معنى"الرفث" في هذا الجزء (2: 153 - 155 بولاق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 2921- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، مثله. 2922- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث، النكاح. 2923- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الرفث: غِشيانُ النساء. 2924- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، قال: الجماع. 2925- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 2926- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: الرفث: هو النكاح. 2927- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكبير البصري قال، حدثنا الضحاك بن عثمان قال، سألت سالم بن عبد الله عن قوله:"أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، قال: هو الجماع. 2928- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، يقول: الجماع. * * * "والرفث" في غير هذا الموضع، الإفحاشُ في المنطق، كما قال العجاج: عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (1) * * *   (1) ديوانه: 59، وسيأتي مع البيت قبله في التفسير 2: 246 (بولاق) ، من رجز له طويل، حمد فيه الله ومجده بقوله: فَالحَمْد ِللهِ العَلِيِّ الأَعْظَمِ ... ذِي الجَبَرُوتِ والجَلاَلِ الأَفْخَمِ وَعَالِمِ الإِعْلاَنِ والمُكَتَّمِ ... وربّ كُلِّ كَافِرٍ ومُسْلِمِ ثم عطف على قوله: "ورب كل كافر ومسلم" عطوفًا كثيرة، حتى انتهى إلى ما أنشده الطبري: وربِّ أسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغَا وَرفَثِ التَّكَلُّمِ والأسراب جمع سرب: وهو القطيع أو الطائفة من القطار الظباء والشاء والبقر والنساء، وجعله هذا للحجاج. والحجيج: الحجاج. وكظم جمع كاظم: وهو الساكت الذي أمسك لسانه وأخبت، من الكظم (بفتحتين) وهو مخرج النفس. واللغا واللغو: السقط ومالا يعتد به من كلام أو يمين، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع. هذا، ومما يدل على أن أبا جعفر كان يختصر القول اختصارًا في بعض المواضع، أنه لم يفسر تعدية"الرفث" بحرف الجر"إلى"، ولولا الاختصار لقال فيه مقالا على ما سلف من نهجه. وقد عدي"الرفث"بـ "إلى"، لأنه في معنى الإفضاء. يقال: "أفضيت إلى امرأتي"، فلما أراد هذا المعنى جاء بحرفه ليضمنه معناه، إيذانًا بأن ذلك ما أراد بهذه الكناية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 القول في تأويل قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم لباسٌ لكمُ وأنتم لباسٌ لهن. * * * فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا، ونحن لهن لباسًا و"اللباس" إنما هو ما لبس؟ قيل: لذلك وجهان من المعاني: أحدهما: أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسًا، لتخرُّدهما عند النوم، (1) واجتماعهما في ثوب واحد، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه،   (1) في المطبوعة: "لتخرجهما عند النوم"، وأخشى أن يكون تصحيفًا. جعل الجيم خاء، وألصق الدال بالهاء، فظنها الناسخ خاء، لتشابههما. ولم أجد في مادة"خرج""خرج" بتشديد الراء بمعنى التجرد من الثياب، وإن كانوا يقولون: "خرج فلان من ثيابه" ولكنه هنا لا يظهر معناه لسقوط ذكره اللباس في عبارته. وإن كنت أظنها بعيدة، ولو ذكر معها اللباس. ورجح هذا التصحيح عندي قوله بعد البيت الآتي: "متجردين في فراش واحد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 بمنزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما: هو"لباس" لصاحبه، كما قال نابغة بني جعدة: إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَدَاعَتْ، فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا (1) ويروي:" تثنت" فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحد ب"اللباس"، كما يكنى ب"الثياب" عن جسد الإنسان، كما قالت ليلى، وهي تصف إبلا ركبها قومٌ: رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ، فَلا تَرَى ... لَهَا شَبَهًا إلا النَّعَامَ المُنَفَّرَا (2) يعني: رموها بأنفسهم فركبوها. وكما قال الهذليّ (3) تَبَرَّأُ مِنْ دَمِ القَتيلِ وَوَتْرِهِ ... وَقَدْ عَلِقَتْ دَمَ القَتِيلِ إزَارُهَا (4)   (1) الشعر والشعراء: 255 من أبيات جياد، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 67، وتأويل مشكل القرآن 107، وغيرها، وقبله أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا ... أَغَرَّ مُلْتَبِسًا بِالفُؤَاءِ الْتِبَاسَا يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فِيه نُحَاسَا بِآنسَةٍ غَيْرِ أنْسِ القِرَافِ وَتَخْلِطُ ... بالأُنْسِ مِنْها شِمَاسَا وهو شعر كما ترى (2) المعاني الكبير 1: 486، وتأويل مشكل القرآن: 107 وغيرهما. وقولهما: "رموها بأثواب" قالوا: تعني بأجسام خفاف (المعاني) والصواب في ذلك أن يقال: أن هؤلاء الركب قد لوحتهم البيد وأضتتهم، فلم يبق فيهم إلا عظام معروقة عليها الثياب، لا تكاد ترى إلا ثوبًا يلوح على كل ضار وضامر، ولذلك شبهت الإبل عليها ركبها بالنعام المنفر. والمنفر: الذي ذعر فانطلق هاربًا يخفق في الأرض. (3) هو أبو ذؤيب الهذلي. (4) ديوانه: 26، والمعاني الكبير: 483، ومشكل القرآن: 108 وغيرها. من قصيدة له عجيبة، يرثى بها صديقه وحميمه نشيبة بن محرث، استفتحها متغزلا مشببًا بصاحبته أم عمرو، واسمها فطيمة، وقال قبل هذا البيت، يلوم نفسه على هجرها ويقول: فَإنَّكَ مِنْهَا والتَّعَذُّرَ، بَعْدَ مَا ... لَجِجْتَ، وشطَّتْ مِنْ فُطَيْمَةَ دَارُهَا كَنَعْتِ الَّتِي ظَلَّت تُسَبِّع سُؤْرَهَا ... وَقَالتْ: حَرَامٌ أنْ يرَجَّلَ جَارُهَا تبرَّأُ مِنْ دَم القَتِيل. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يقول أنت في انتفاءك من حبها بعد اللجاجة فيه، كهذه المرأة التي قتلت قتيلا وحازت بزه، أي سلاحه، وأخفته. قال الأصمعي في خبر هذه المرأة: هذه امرأة نزل بها رجل فتحرجت أن تدهنه وترجل شعره، ثم جاء كلب فولغ في إنائها فغسلته سبع مرات. وذلك بعين الرجل، فتعجب منها ومن ورعها. فبينا هو كذلك، أتاها قوم يطلبون عندها قتيلا، فانتفلت من ذلك -أي أنكرت- وحلفت. ثم فتشوا منزلها، فوجدوا القتيل وسلاحه في بيتها". يقول أنت كهذه المرأة، تجحد حب صاحبتك، وتظهر أنك قد كبرت وانتهيت عن الجهل والصبا، ولو فتش قلبك. لرأوا حبك لها لا يزال يتأجج ويشتعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 يعني ب"إزارها"، نفسها. وبذلك كان الربيع يقول: 2929- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهنّ"، يقول: هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. (1) . * * * والوجه الآخر: أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه"لباسًا"، لأنه سَكنٌ له، كما قال جل ثناؤه: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا) [سورة الفرقان: 47] ، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [سورة الأعراف: 189]   (1) الأثر: 2929- في المطبوعة: "عبد الرحمن بن سعيد"، وقد مضى برقم: 2917، على الصواب كما أثبته. وعبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤدب، روي عن أبيه وعمه محمد وبني أعمامه. وجماعة من أهله، وأبي الزناد وصفوان بن سليم، وروي عنه إسحاق بن راهويه وإبراهيم بن المنذر وغيرهما. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: فيه نظر. وقال الحاكم أبو أحمد حديثه ليس بالقائم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 فيكون كل واحد منهما"لباسًا" لصاحبه، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك. وقد يقال لما سَتر الشيء وَواراه عَن أبصار الناظرين إليه:"هو لباسه، وغشاؤه"، فجائز أن يكونَ قيل:"هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن"، بمعنى: أنّ كل واحد منكم ستر لصاحبه -فيما يكون بينكم من الجماع- عن أبصار سائر الناس. وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما:- 2930- حدثنا به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هن لباس لكم وأنتم لباسٌ لهن"، يقول: سكنٌ لهن. 2931- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال قتادة: هُنّ سكنٌ لكم، وأنتم سكنٌ لهنّ. 2932- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هن لباسٌ لكم" يقول: سكن لكم،"وأنتم لباس لهن"، يقول: سكن لهن. 2933- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عبد الرحمن بن زيد في قوله:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال: المواقعة. 2934- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم، عن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قوله:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال: هن سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 القول في تأويل قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذه الخيانة التي كانَ القوم يختانونها أنفسهم، التي تابَ الله منها عليهم فعفا عنهم؟ قيل: كانت خيانتُهم أنفسَهم التي ذكرها الله في شيئين، أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشربُ في الوقت الذي كانَ حرامًا ذلك عليهم، كما:- 2935- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبه، عن عمرو بن مرة قال، حدثنا ابن أبي ليلى: أن الرجل كان إذا أفطرَ فنام لم يأتها، وإذا نام لم يطعم، حتى جاء عمر بن الخطاب يُريد امرأته، فقالت امرأته: قد كنتَ نمتَ! فظنّ أنها تعتلُّ فوقع بها. قال: وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم، فقالوا: نسخّن لك شيئًا؟ ...... (1) قال: ثم نزلت هذه الآية:"أحِلَ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" الآية.   (1) الأثر: 2935- موضع هذه النقط خرم في النسخ. وخبر عبد الرحمن بن أبي ليلى هذا أخرجه وكيع وعبد بن حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو في الدر المنثور 1: 198، بغير هذا اللفظ. ولو أريد إتمامه لكان: [نسخن لك شيئًا تفطِرُ عليه؟ فغلبته عيناهُ فنام. فجاءوا وقد نام، فقالوا: كُلْ! فقال: قد كنتُ نمتُ! فترك الطعام وبات ليلته يتقلّبُ. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، إني أردتُ أهلي البارحة على ما يريدُ الرجلُ أهله، فقالت: إنها قد نامت! فظننتها تعتَلُُّ، فواقعتها، فأخبرتني أنّها كانت نامت] . هذا لفظ آخر، ولكنه دال على المعنى الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي ليلى، والذي استدل به الطبري. ثم انظر الآثار التالية 2936-2938 عن ابن أبي ليلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 2936- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، فلما دخل رَمضان كانوا يصومون، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام، لم يأكل إلى مثلها، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخٌ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك، فقال لأهله: أطعموني. فقالت: حتى أجعل لك شيئًا سخنًا! قال: فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته: إني قد نمت! فلم يعذرها، وظن أنها تعتلّ، فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرًا وبطنًا، فأنزل الله في ذلك:"وكلوا واشرَبوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر"، وقال:"فالآن بَاشروهن"، فعفا الله عن ذلك، وكانت سُنَّةً. 2937- حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صِرْمة يعمل في أرض له، قال: فلما كان عند فطره نام، فأصبح صائمًا قد جُهد. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لي أرى بكَ جهدًا! فأخبره بما كان من أمره. واختان رَجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، إلى آخر الآية. (1) .   (1) الحديث: 2937- هو قطعة من حديث طويل، سبق بعضه بهذا الإسناد: 2729، 2733. ووقع في المطبوعة هنا تحريف في الإسناد، هكذا: "حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله عن عتبة"! وصوابه: "عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة"، وهو المسعودي، كما بينا فيما مضى. وقد أشرنا فيما مضى إلى أن أبا داود روى هذا الحديث المطول: 507، من طريق يزيد بن هارون، عن المسعودي. ولكنه لم يذكر فيه القسم الذي هنا كاملا، بل أشار إليه، إحالة على الرواية قبله، فقال: "وجاء صرمة وقد عمل يومه. وساق الحديث". والحديث مطول في مسند أحمد 5: 246-247، من رواية أبي النضر ويزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي، به. كما أشرنا إليه مفصلا، فيما مضى: 2156. وفيه القسم الذي هنا. ولكن فيه أن الرجل الأنصاري"يقال له صرمة"، كما في رواية أبي داود. وقد مضى في الرواية السابقة: 2936. أنه"صرمة بن مالك". وفي هذه الرواية -هنا-: "يدعى أبا صرمة". والرواية السابقة مرسلة. وهذه الرواية منقطعة، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذ بن جبل. وسيأتي مزيد بيان عن اسم هذا الأنصاري، في الرواية الآتية: 2939. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 2938- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حَدّث به عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - قال: كانوا إذا صاموا ونام أحدهم، لم يأكُل شيئًا حتى يكون من الغد. فجاء رجلٌ من الأنصار وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلَّ، فغلبته عينه فنام، وأصبح من الغد مجهودًا، فنزلت هذه الآية:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". (1) . 2939- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، وكان توجَّه ذلك اليوم فعمِل في أرضه، فلما حضر الإفطارُ أتى امرأته فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته قالت: قد نمت! فلم ينتصف النهارُ حتى غُشي عليه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيه هذه الآية:"أحِلَ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" إلى"من الخيط الأسود" ففرحوا بها فرحًا شديدًا (2) .   (1) الحديث: 2938- هذا إسناد صحيح، لولا ضعف سفيان بن وكيع -كما قلنا مرارًا- ولكنه ثابت في تفسير وكيع، كما ذكره السيوطي. والطبري لم يذكر لفظه كاملا، أحال على الروايات قبله. وسيذكره كاملا عقب هذا. (2) الحديث: 2939- وهذا إسناد صحيح. عبد الله بن رجاء الغذائي: سبق توثيقه: 2814. والحديث ثابت من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب الأنصاري: فرواه أحمد في المسند 4: 295 (حلبي) ، عن أسود بن عامر، وأبي أحمد الزبيري. والبخاري 4: 111-112 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى. وأبو داود: 2314، من طريق أبي أحمد. والترمذي 4: 71-72، من طريق عبيد الله بن موسى - كلهم عن إسرائيل، عن جده أبي إسحاق. السبيعي. ورواه النسائي 1: 305، من طريق زهير، عن أبي إسحاق. ورواه البخاري أيضًا 8: 136، مختصرًا. عن عبيد الله بن موسى، وبإسناد آخر عن أبي إسحاق. وذكره السيوطي 1: 197، وزاد نسبته إلى وكيع، وعبد بن حميد، والنحاس في ناسخه، وابن المنذر، والبيهقي في السنن. وقد أطال الحافظ في الفتح 4: 111-112، في بيان الاختلاف في اسم الأنصاري، والروايات في ذلك. ورجح أنه"أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي. . . ". وأنه عن هذا جاء الاختلاف فيه: فبعضهم أخطأ اسمه وسماه بكنيته، وبعضهم نسبه لجده، وبعضهم قلب نسبه. وبعضهم صفحه"ضمرة بن أنس"، وأن صوابه"صرمة بن أبي أنس". وكذلك صنع في الإصابة بأطول من ذلك 3: 241-243، 280. "صرمة": بكسر المهملة وسكون الراء وفتح الميم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 2940- حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم فالآن باشروهن" يعني انكحوهن،"وكلوا واشربوا حَتى يَتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". (1) 2941- حدثني المثني قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، قال: حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة: أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناسُ في رمضان إذا صامَ الرجل فأمسَى فنام، حُرِّم عليه الطعام والشراب والنساءُ حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن   (1) الحديث: 2940- ذكره ابن كثير 1: 418-419، من غير تخريج. والسيوطي 1: 197، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر، فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها فقالت: إني قد نمت! فقال: ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى ذكره:"علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عَليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" ... الآية (1) . 2942- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا ثابت: أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله: (أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) (2) . 2943- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال،   (1) الحديث: 2941- سويد: هو ابن نصر بن سويد المروزي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، ونص البخاري في الكبير 2/2/149 على أنه سمع ابن المبارك. وذكر أنه مات سنة 240 عن 91 سنة. ابن لهيعة - بفتح اللام وكسر الهاء: هو عبد الله، الفقيه القاضي المصري. مختلف فيه كثيرا، والتحقيق أنه ثقة صحيح الحديث. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: 87، 6613. موسى بن جبير المدني الحذاء: ثقة، يخطئ في بعض حديثه. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/281، وابن أبي حاتم 4/1/139، ولم يذكرا فيه جرحا. وهو مولى"بني سلمة" بفتح السين وكسر اللام، من الأنصار. انظر المشتبه للذهبي، ص: 270. عبد الله كعب بن مالك الأنصاري السلمي -بفتح اللام، نسبة إلى"بني سلمة" بكسرها: تابعي ثقة، كان قائد أبيه حين عمي، أخرج له الشيخان وغيرهما. والحديث رواه أحمد في المسند: 15860 (3: 460 حلبي) ، عن عتاب بن زياد، عن عبد الله بن المبارك، بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 1: 420. عن الطبري، فقط. وذكره السيوطي 1: 197، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم"بسند حسن". وإنما حسن إسناده، من أجل ابن لهيعة -فيما أرجح- وعندي أنه إسناد صحيح. (2) الحديث: 2942- ثابت: هو ابن أسلم البناني، بضم الباء الموحدة وتخفيف النون الأولى. وهو تابعي ثقة، ولكنه يروي عن صغار الصحابة، كأنس، وابن الزبير، وابن عمر لم يدرك أن يروي عن عمر بن الخطاب. فهذا إسناد منقطع، ضعيف لذلك. والحديث ذكره السيوطي 1: 197، ولم ينسبه لغير ابن جرير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم هُنّ لباسٌ لَكم وأنتم لباسٌ لهن" إلى:"وعفا عَنكم". كان الناس أوّلَ ما أسلموا إذا صام أحدُهم يصوم يومه، حتى إذا أمسى طَعِم من الطعام فيما بينه وبين العتمة، حتى إذا صُليت حُرّم عليهم الطعامُ حتى يمسي من الليلة القابلة. وإنّ عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سوّلت له نفسه فأتى أهله لبعض حاجته، فلما اغتسلَ أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيتَ من الملامة. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، فانها زيَّنت لي فواقعتُ أهلي! هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ قال: لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعُذره في آية من القرآن، وأمر الله رسوله أن يَضَعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال:"أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" إلى"علم الله أنكم كنتم تَختانون أنفسكم" يعني بذلك: الذي فعل عمر بن الخطاب فأنزل الله عفوه. فقال:"فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن بَاشرُوهن" إلى:"من الخيط الأسود" فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح (1) . 2944- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال: كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رَقَد حرَّم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يَختانون أنفسهم في ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل [ذلك] لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله (2) .   (1) الحديث: 2943- هذا الحديث بالإسناد المسلسل بالضعفاء، الذي شرحناه مفصلا في: 305. وقد ذكره السيوطي 1: 197، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم. ولم تكن بنا حاجة للكلام عليه هنا، إلا أننا أردنا أن نمهد به لحديث لأبي هريرة في معناه. نقله السيوطي 1: 197، ونسبه للطبري فقط، قال: "وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة. . ". وذكره ابن كثير 1: 419 مع أواخر إسناده، ولم يذكر من خرجه. والظاهر من تتبع صنيعه أنه نقله عن الطبري أيضًا. ولم نجده في الطبري، فإما سقط من الناسخين، وإما هو في موضع آخر من الطبري لما تصل إلينا معرفته. فرأينا إثباته - تماما للفائدة، وحفظا لما ينسب لهذا التفسير العظيم. قال ابن كثير: "وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، في قول الله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامُ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى قوله (ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية - إذا صلُّوا العشاءَ الآخِرَةَ حَرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفْطروا. وإن عمر بن الخطاب أصاب أهلَه بعد صلاة العشاء، وإن صِرْمَةَ بن قيس الأنصاري غَلَبَتْهُ عيناه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتَى رسولَ الله صلى الله عليه سلم، فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك: (أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيَامَ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، يعني بالرفث مجامعةَ النساء، (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم) ، يعني: تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء، (فَتَاب عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآنبَاشِرُوهُنَّ) يعني: جامعوهن، (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُم) ، يعني: الولد، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ) ، فكان ذلك عَفْوًا من الله ورَحْمَةً". هذا لفظ رواية ابن كثير. والسيوطي اختصره قليلا. فهذا إسناد صحيح من سعيد بن أبي عروبة إلى أبي هريرة. أما ما وراه سعيد بن أبي عروبة، فلا ندري ما حاله، حتى نعرف رواته. وقيس بن سعد: هو المكي، أبو عبد الملك، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/154. وابن أبي حاتم 3/2/99، وابن سعد 5: 355، ولكن ذكر أن كنيته"أبو عبيد الله". وقال: "كان قد خلف عطاء بن أبي رباح في مجلسه". وكنية قيس عند البخاري"أبو عبد الله". والظاهر أن هذا هو الصحيح، لأن الدولابي ذكره في الكنى 2: 59، في باب"أبو عبد الله". (2) الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من الأثر الذي يليه ومن السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 2945- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان، فإذا أمسى -ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه: وكان منهم رجال يختانون أنفسهم، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه، فعفا الله عنهم، وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله، وفي الليل كله. 2946- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني إسماعيل بن شَرُوس، عن عكرمة مولى ابن عباس: أن رجلا -قد سَمَّاه [فنسيته]- من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، جاء ليلةً وهو صائم، فقالت له امرأته: لا تَنمْ حتى نصنعَ لك طعامًا! فنام، فجاءت فقالت: نمت والله! فقال: لا والله! قالت: بلى والله! فلم يأكل تلك الليلة، وأصبح صائمًا فَغُشى عليه، فأنزلت الرخصة فيه (1) .   (1) الحديث: 2946- إسماعيل بن شروس، أبو المقدام الصنعاني: ذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات، كما في لسان الميزان. وذكره ابن سعد في الطبقات 5: 397، ولم يذكر فيه أكثر من قوله"قد روى عنه". وترجمه ابن أبي حاتم 1/1/177، ولم يذكر فيه جرحا، والبخاري في الكبير 1/1/359-360، وذكر أنه يروي عن عكرمة، من قوله - يعني غير متصل، فهو إشارة إلى هذه الرواية، لأنها من قول عكرمة، مرسلة، لم يسندها عن أحد من الصحابة، ثم قال البخاري: "قال عبد الرزاق، عن معمر: كان يثبج الحديث". ونقل مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني، عن هامش إحدى نسخ التاريخ الكبير: "أي لا يأتي به على الوجه". وهذا هو الصواب في هذا الحرف، أنه"يثبج" من"التثبيج" بالثاء المثلثة والجيم، ففي شرح القاموس 2: 13"يقال ثبج الكتاب والكلام تثبيجا: لم يبينه. وقيل: لم يأت به على وجهه. وقال الليث: التثبيج التخليط". ونقلت هذه الكلمة في لسان الميزان 1: 411 محرفة إلى"يضع الحديث"! وهو تحريف قبيح. فما رمى هذا الرجل بالوضع قط. ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء. و"شروس": من الأسماء النادرة، ولم أجد نصا على ضبطه، إلا أنه ضبط بالقلم في تفسير عبد الرزاق بفتحة فوق الشين المعجمة وضمة فوق الراء وكسرتين تحت السين المهملة في آخره. ونقل الشيخ عبد الرحمن اليماني هذا الضبط أيضًا عن إحدى نسخ التاريخ الكبير، وأن بهامشها نسخة أخرى مضبوطة بفتحة فوق الشين وأخرى فوق الواو مع سكون فوق الراء. وهذا الحديث مرسل - كما ترى. وهو في تفسير عبد الرزاق، ص: 18. ولم أجده في غير هذين الموضعين. وقد زدنا كلمة [فنسيته] ، بعد كلمة"سماه" - من تفسير عبد الرزاق. وكان في المطبوعة"وأنزلت الرخصة"، بالواو بدل الفاء. وأثبتنا الفاء من تفسير عبد الرزاق، إذ هي أجود هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 2947- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"علم الله أنكم كُنتُم تَختانون أنفسكم" وكان بدءُ الصيام أمِروا بثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين غدوة، وركعتين عشية، فأحلّ الله لهم في صيامهم - في ثلاثة أيام، وفي أول ما افترض عليهم في رمضان - إذا أفطروا، وكان الطعام والشرابُ وغشيان النساءَ لهم حلالا ما لم يرقدوا، فإذا رَقَدوا حُرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يُصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، ثم أحل الله لهم [بعد] ذلك الطعام والشراب وغشيانَ النساء إلى طلوع الفجر (1) . 2948- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال: كان الناس قبل هذه الآية إذا رَقَد أحدُهم من الليل رَقْدًة، لم يحلَّ له طعامٌ ولا شرابٌ ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة، فوقع بذلك بعض المسلمين، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب، ومنهم من وقع على امرأته، فرخص الله ذلك لهم. 2949- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: كُتب على النصارى رَمَضان، وكُتب عليهم أن لا   (1) الأثر: 2947- الذي بين القوسين زيادة لا بد منها. وسياق هذا الأثر فيه بعض الغرابة، ولم أجده بنصه هذا في مكان آخر. ولكن جاء في الدر المنثور 1: 198 أثر مثله، قال في صدره: "وأخرج عبد حميد وابن جرير عن قتادة"، وساق أثرا يخالفه كل المخالفة في أكثر لفظه، وإن وافقه في بعض المعنى: قال. [كان هذا قبل صوم رمضان، أمروا بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوما. وأمروا بركعتين غدوة وركعتين عشية. فكان هذا بدء الصلاة والصوم. فكانوا في صومهم هذا، وبعد ما فرض الله رمضان، إذا رقدوا لم يمسوا النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. وكان أناس من المسلمين يصيبون من النساء والطعام بعد رقادهم، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، فأنزل الله في ذلك من القرآن: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"، الآية] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 يأكلوا ولا يَشربوا بَعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان، فكتب على المؤمنين كما كُتب عليهم، فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة، وكان يَعمل في حيطان المدينة بالأجر (1) فأتى أهله بتمر فقال لامرأته: استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سَخينةً، لعليّ أن آكله، فإن التمر قد أحرق جَوْفي! فانطلقت فاستبدلت له، ثم صنعتْ فأبطأتْ عليه فنام، فأيقظته، فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، وأصبح صائما; فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشيّ، فقال: ما لك يا أبا قيس! أمسيتَ طليحا؟ (2) فقص عليه القصة. وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية لهُ -في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم- فلما سمع عمر كلام أبي قيس، رَهبَ أن ينزل في أبي قيس شيء، فتذكّرُ هُو، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أعوذُ بالله إنّي وقعتُ على جاريتي، ولم أملك نفسي البارحة! فلما تكلم عُمر، تكلم أولئك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنتَ جديرًا بذلك يا ابن الخطاب! فنُسِخ ذلك عنهم، فقال:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفث إلى نسائكم هُن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن عَلم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"، -يقول: إنكم تقعون عليهن خيانةً-"فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآنَ باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم" -يقول: جامعوهن، ورجع إلى أبي قيس فقال-:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". 2950- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال:   (1) الحيطان جمع حائط: وهو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، فإذا لم يكن عليه حائط فهو ضاحية، وجمعه الضواحي. (2) الطليح: الساقط من الإعياء والجهد والهزال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 كانوا في رمضان لا يمسُّون النساءَ ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة، فإن مسُّوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام، فقال: قد اختنت نفسي! فنزل القرآن، فأحل لهم النساء والطعام والشرابَ حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال: وقال مجاهد: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائمُ منهم في رمضان، فإذا أمسى أكل وشرب وَجامع النساء، فإذا رَقد حرُم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة: وكان منهم رجال يختانون أنفسَهم في ذلك، فعفا عنهم وأحلَّ لهم بعد الرقاد وَقبله في الليل، فقال:"أحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" ... الآية. 2951- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" مثل قول مجاهد -وزاد فيه: أن عمر بن الخطاب قال لامرأته: لا ترقدي حتى أرْجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرقدت قبل أن يرجع، فقال لها: ما أنت براقدة! ثم أصابها، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة: نزلت:"وكلوا واشربوا" الآية في أبي قيس بن صرْمة، من بني الخزرج، أكل بعد الرقاد. 2952- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، قال، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخٌ كبيرٌ، وهو صائم فلم يُهيئوا له طعاما، فوضع رأسه فأغفى، وجاءته امرأته بطعامه فقالت له: كل. فقال: إني قد نمتُ! قالت: إنك لم تنم! فأصبح جائعا مجهودا، فأنزل الله:"وكلوا واشربوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر". * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 فأما"المباشرة" في كلام العرب، فإنه مُلاقاة بَشَرة ببَشرة، و"بشرة" الرجل: جلدته الظاهرة. * * * وإنما كنى الله بقوله:"فالآنَ باشروهن" عن الجماع. يقول: فالآن إذ أحللتُ لكم الرفثَ إلى نسائكم، فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر، وهو تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. * * * وبالذي قلنا في"المباشرة" قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 2953- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان= وحدثنا عبد الحميد بن سنان، قال، حدثنا إسحاق، عن سفيان= وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان =، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكنّ الله كريمٌ يكني. 2954- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس نحوه. 2955- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فالآن باشرُوهن" انكحُوهنّ. 2956- حدثني محمد بن سعد، قال حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: المباشرة النكاحُ. 2957- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله:"فالآن باشرُوهن" قال: الجماع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 وكل شيء في القرآن من ذكر"المباشرة" فهو الجماع نفسه، وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء: في الطعام والشراب والنساء. 2958- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة= عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (1) . 2959- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، قال أبو بشر، أخبرنا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. 2960- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فالآن بَاشروهن" يقول: جامعوهن. 2961- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المباشرةُ الجماع. 2962- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء مثله. 2963- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: سمعت مجاهدا يقول: المباشرة، في كتاب الله، الجماع. 2964- حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، قال الأوزاعي: حدثنا من سمع مجاهدا يقول: المباشرة في كتاب الله، الجماع. * * *   (1) الأثر: 2958- في المطبوعة: "محمد بن مسعدة"، والصواب ما أثبت، وقد سلف في رقم 2774، 2883، وهو حميد بن مسعدة بن المبارك الباهلي البصري. ذكره ابن حبان في الثقات. وتوفي سنة 244. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 واختلفوا في تأويل قوله:"وابتغوا مَا كتب الله لكم" فقال بعضهم: الولد. * ذكر من قال ذلك: 2965- حدثني عبدة بن عبد الله الصفَّار البصري قال، حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد (1) . 2966- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود، عن شعبة قال: سمعت الحكم:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد. 2967- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد الله، عن عكرمة قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد. 2968- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد. 2969- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"وابتغوا ما كتب الله لكم" فهو الولد. 2970- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني: الولدَ. 2971- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثني   (1) الخبر: 2965- عبدة بن عبد الله بن عبدة الصفار: ثقة من شيوخ البخاري. وهو من نوادر الشيوخ الذين روى عنهم في صحيحه وهم أحياء. لأنه مات سنة 258، أي بعد البخاري بسنتين. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/90، ورجال الصحيحين، ص: 336. إسماعيل بن زياد الكاتب: لم أعرف من هو يقينا، وفي هذه الترجمة بضع شيوخ في التهذيب 1: 298-301، ولسان الميزان 1: 405-407، ولكني أكاد أرجح أنه هو الذي روى له ابن ماجه حديثا: 1314، عن ابن جريج، باسم"إسماعيل بن زياد" دون لقب أو وصف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد، فإنْ لم تلد هذه فهذه. 2972- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. 2973- حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: هو الولد. 2974- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ما كتب لكم من الولد. 2975- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الجماع. 2976- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد (1) . * * * وقال بعضهم: معنى ذلك ليلة القدر. * ذكر من قال ذلك: 2977- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلةُ القدر. قال أبو هشام: هكذا قرأها معاذ. 2978- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء، عن ابن   (1) الخبر: 2976-"الحسين بن الفرج": ثبت هنا في المطبوعة"الحسن بن الفرج"، وهو خطأ تكرر مرارا، منها: 2719. ولا نرى داعيا لتكرار التنبيه عليه بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 عباس في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلة القدر (1) . وقال آخرون: بل معناه: ما أحله الله لكم ورخصه لكم. * ذكر من قال ذلك: 2979- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابتغوا ما كتب الله لكم" يقول: ما أحله الله لكم. 2980- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة في ذلك: ابتغوا الرخصة التي كتبتُ لكم. * * * وقرأ ذلك بعضهم: (وَاتَّبِعُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) * ذكر من قال ذلك: 2981- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الآية:"وابتغوا" أو"اتبعوا"؟ قال: أيتهما شئت! قال: عليك بالقراءة الأولى. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال:"وابتغوا" - بمعنى: اطلبوا-"ما كتب الله لكم" يعني" الذي قَضَى الله تعالى لَكم. وإنما يريد الله تعالى ذكره: اطلبوا الذي كتبتُ لكم في اللوح المحفوظ أنه يُباح فيطلقُ لكم وطلب الولد إنْ طلبه الرجل بجماعه المرأةَ، مما كتب الله له   (1) الخبران: 2977-2978- عمرو بن مالك، في الإسنادين: هو النكري، بضم النون وسكون الكاف، نسبة إلى"بني نكرة" من عبد القيس. وهو ثقة. أبو الجوزاء: هو أوس بن عبد الله الربعي، وهو تابعي ثقة معروف، أخرج له الشيخان، وسائر أصحاب الكتب الستة. وقد بينا حاله وحال عمرو بن مالك الراوي عنه، في شرح المسند: 2623. "الربعي": بفتح الراء والباء، نسبة إلى"ربعة الأزد"، كما في اللباب لابن الأثير 1: 459. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 في اللوح المحفوظ، وكذلك إن طلب ليلةَ القدر، فهو مما كتب الله له، وكذلك إن طلب ما أحلَّ الله وأباحه، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ. وقد يدخل في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" جميعُ معاني الخير المطلوبة، غيرَ أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال: معناه وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد، لأنه عَقِيبُ قوله:"فالآن باشرُوهن" بمعنى: جامعوهنّ، فَلأنْ يكون قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" بمعنى: وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل، أشبهُ بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل، ولا خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود من الفجر". * * * فقال بعضهم: يعني بقوله:"الخيط الأبيض"، ضوءَ النهار، وبقوله:"الخيطِ الأسود" سوادَ الليل. فتأويله على قول قائلي هذه المقالة: وكلوا بالليل في شهر صَوْمكم، واشربوا، وبَاشروا نساءكم مبتغينَ ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوءُ النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 * ذكر من قال ذلك: 2982- حدثني الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أشعث، عن الحسن في قول الله تعالى ذكره:"حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال: الليل من النهار. 2983- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال: حتى يتبين لكم النهار من الليل،"ثم أتموا الصيام إلى الليل". 2984- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكلوا واشرَبوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" فهما عَلَمان وحدَّان بَيِّنان فلا يمنعكم أذانُ مُؤذِّن مُراءٍ أو قليل العقل من سَحُوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل. وقد يُرى بياضٌ ما على السحر يقال له:"الصبح الكاذب" كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سَحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقةٌ مُعترِضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا (1) . 2985- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود منَ الفجر" يعني الليل من النهار، فأحلَّ لكم المجامعة والأكل والشربَ حتى يتبين لكم الصبح، فإذا تبين الصبحُ حرِّم عليهم   (1) الأثر: 2984- الهجيع: الطائفة من الليل. يقال: مر هجيع -أو هزيع- من الليل، أي ساعة وطائفة منه. والسحر الثلث الآخر من الليل قبيل طلوع الفجر. والطريقة: الخط الممتد في الشيء يكون ظاهرا باختلاف لون، أو اختلاف ظاهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 المجامعة والأكل والشربُ حتى يُتمُّوا الصيامَ إلى الليل. فأمر بصوم النهار إلى الليل، وأمر بالإفطار بالليل. 2986- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، وقيل له: أرأيتَ قولَ الله تعالى:"الخيط الأبيضُ من الخيط الأسْود من الفجر"؟ قال: إنك لعريض القفا، قال: هذا ذهابُ الليل ومجيءُ النهار. قيل له: الشعبي عن عدي بن حاتم؟ قال: نعم، حدثنا حصين (1) . * * * وعلَّة من قال هذه المقالة، وتأوَّل الآية هذا التأويل ما:   (1) الحديث: 2986- حصين: هو ابن عبد الرحمن السلمي، الثقة المأمون، من كبار أئمة الحديث. مضت له رواية في: 579. وهذا الحديث اختصره أبو بكر بن عياش جدا، وحذف إسناده حين حدث به، ثم سئل عنه، فبين أنه سمعه من حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم. وسيأتي: 2987، 2989 مختصرا، و 2988 مطولا، ولكنه ثابت في الصحيحين وغيرهما، مطولا بسياق صحيح واضح: فرواه أحمد في المسند 4: 377 (حلبي) عن هشيم: "أخبرنا حصين، عن الشعبي، أخبرنا عدي بن حاتم، قال: لما نزلت هذه الآية (فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ، قال: عمدت إلى عقالين، أحدهما أسود، والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادي، قال: ثم جعلت أنظر إليهما، فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن كان وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل". وقول عدي: "لما نزلت هذه الآية"، يريد: لما تليت عليه عند إسلامه، لأن فرض الصوم كان في أوائل الهجرة، وعدي أسلم بعد ذلك بدهر، في السنة التاسعة أو العاشرة. ورواه البخاري 4: 113 (فتح) ، من طريق هشيم، ورواه مسلم 1: 301، وأبو داود: 2349- كلاهما من طريق عبد الله بن إدريس، عن حصين. ورواه البخاري 8: 137 (فتح) مختصرا، من طريق أبي عوانة، عن حصين. وذكره ابن كثير 1: 421، من رواية أحمد، ثم قال: "أخرجاه في الصحيحين من غير وجه، عن عدي". وذكره السيوطي 1: 199، وزاد نسبته لسفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والترمذي، وابن المنذر، والبيهقي. قوله: "عريض القفا"، كناية عن السمن وطول النوم. وذلك دليل على الغفلة والركود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 2987- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت يا رسول الله، قول الله:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر"؟ قال: هو بياض النهار وسوادُ الليل. (1) . 2988- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلَّمني الإسلام، ونَعت ليَ الصلوات، كيفَ أصَلي كلَّ صلاة لوقتها، ثم قال: إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتم الصيامَ إلى الليل. ولم أدر ما هو، ففعلتُ خَيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواءً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظتُ، غير"الخيط الأبيض من الخيط الأسود"! قال: وما منعك يا ابن حاتم؟ وتبسَّم كأنه قد علم ما فعلت. قلتُ: فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرتُ فيهما من الليل فوجدتهما سواء! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نَواجذُه، ثم قال: ألم أقلْ لك"من الفجر"؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل (2) . 2989- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مالك بن إسماعيل قال، حدثنا داود وابن علية جميعا، عن مطرِّف، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما"الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود" أهما   (1) الحديث: 2987- مجالد بن سعيد: مضت ترجمته في: 1614. والحديث تكرار للذي قبله في معناه. (2) الحديث: 2988- مجالد بن سعيد، ثبت في المطبوعة هنا محرفا: "مجالد عن سعيد"؛ وهذا السياق المطول ذكره السيوطي 1: 199، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، فقط. ورواه أحمد في المسند 4: 377 (حلبي) ، عن يحيى، وهو القطان، عن مجالد، عن عامر، وهو الشعبي. ولكنه مختصر قليلا عما هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 خيطان أبيض وأسود؟ فقال: وإنك لعَريضُ القفا إن أبصرْت الخيطين. ثم قال: لا ولكنه سوادُ الليل وبياضُ النهار. (1) . 2990- حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: نزلت هذه الآية:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود" فلم ينزل"من الفجر" قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبَّين له. فأنزل الله بعد ذلك:"من الفجر" فعلموا إنما يعني بذلك الليلَ والنهارَ (2) . * * * وقال متأولو قول الله تعالى ذكره:"حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" أنه بياض النهار وسواد الليل-: صفة ذلك البياض أن يكون   (1) الحديث: 2989- مالك بن إسماعيل بن زياد بن درهم، أبو غسان النهدي: حافظ ثقة. من شيوخ البخاري وغيره من الأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/315، وابن سعد 6: 282، وابن أبي حاتم 4/1/206-207. داود، شيخ مالك بن إسماعيل: لم أستطع معرفته، ففي هذه الطبقة ممن يسمى"داود" كثرة. وأيا ما كان فالحديث صحيح، من جهة رواية ابن علية معه عن مطرف. مطرف: هو ابن طريف الحارثي، مضت ترجمته في: 224. والحديث مختصر - كما أشرنا آنفًا. وقد رواه البخاري 8: 137، عن قتيبة بن سعيد، عن جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي، عن مطرف، بهذا الإسناد، نحوه. (2) الحديث: 2990- أحمد بن عبد الرحيم البرقي: هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، مضى في: 22، 160. ابن أبي مريم: هو سعيد بن الحكم، ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة، مضى في: 22. أبو غسان: هو محمد بن مطرف -بكسر الراء المشددة- الليثي المدني، أحد العلماء الأثبات، روى له أصحاب الكتب الستة. أبو حازم: هو سلمة بن دينار الأعرج التمار، المدني، تابعي ثقة، لم يكن في زمانه مثله. والحديث رواه البخاري 4: 114-115، و 8: 137، عن ابن أبي مريم، بهذا الإسناد. ورواه مسلم 1: 301، عن شيخين، عن ابن أبي مريم. ورواه أيضًا النسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، كما في الدر المنثور 1: 199. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءُهُ الطرق، فأما الضوء الساطع في السماء، فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله:"الخيط الأبيض من الخيط الأسود". * ذكر من قال ذلك: 2991- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز: الضوء الساطعُ في السماء ليس بالصبح، ولكن ذاك"الصبح الكاذب"، إنما الصبح إذا انفضح الأفق (1) . 2992- حدثني سَلْم بن جنادة السوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: لم يكونوا يعدُّون الفجر فجرَكم هذا، كانوا يعدُّون الفجرَ الذي يملأ البيوتَ والطرُق (2) . 2993- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن مسلم: ما كانوا يرون إلا أنّ الفجر الذي يَستفيض في السماء. 2994- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطَع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرّم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرِّم الشراب. 2995- حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن محمد بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: [قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم] : الفجر فجران، فالذي كأنه ذنَب السِّرحان لا يحرّم شيئا، وأما   (1) فضحه الصبح: دهمته فضحة الصبح، وهي بياضه فكشفه وبينه للأعين بضوئه. والأفضح: الأبيض ليس شديد البياض. (2) الأثر: 2992- في المطبوعة: "مسلم بن جنادة" والصواب ما أثبت، وانظر ما سلف رقم: 48، ومواضع أخرى كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يُحل الصلاة ويُحرّم الصوم. (1) . 2996- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة، عن أبي هلال، عن سَوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يمنعكم من سَحُوركم أذانُ بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجرُ المستطيرُ في الأفق" (2) .   (1) الخبر: 2995- الحسن بن الزبرقان النخعي، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/15، قال: "الحسن بن الزبرقان الكوفي، سكن قزوين، ويكنى بأبي الخزرج. روى عن مندل بن علي، وشريك، وفضيل بن عياض، والمطلب بن زياد، ومحمد بن صبيح السماك. روى عنه أبي، والفضل بن شاذان. سئل أبي عنه، فقال: هو شيخ". ولم أجد له ترجمة عند غيره. أبو أسامة: هو حماد بن أسامة بن زيد الكوفي، ثقة حافظ ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة. محمد بن أبي ذئب: هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، القرشي العامري المدني، نسب إلى جده الأعلى، وهو إمام ثقة حافظ، يقرن بمالك أو يفضل عليه. وثبت في المطبوعة هنا"محمد بن أبي ذؤيب"؛ وهو خطأ بين. الحارث بن عبد الرحمن القرشي العامري -من أنفسهم- المدني: ثقة، وهو خال"ابن أبي ذئب"، وهو أيضًا ابن عم أبيه، كما في نسب قريش، ص: 423. محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري -مولاهم- المدني: تابعي ثقة معروف، قال أبو حاتم"لا يسأل عن مثله". وقد زدنا بين قوسين، عقب قوله"عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال" - (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، لأنه هكذا نقله ابن كثير 1: 424، عن هذا الموضع من الطبري، بهذه الزيادة، فيكون حديثا مرسلا. وهكذا قال ابن كثير، عقب نقله: "وهذا مرسل جيد". يريد: جيد الإسناد إلى ابن ثوبان التابعي، ولكنه لا يكون صحيحا مرفوعا، لأن المرسل لا تقوم به حجة. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 215، من طريق ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد. من رواية ابن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرفوعا، مرسلا. وكذلك ذكره السيوطي 1: 200"عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. . ". ثم قال السيوطي: "وأخرجه الحاكم من طريقه، عن جابر، موصولا"، وكذلك ذكر البيهقي أنه"قد روى موصولا، بذكر جابر بن عبد الله فيه". وقد جهدت أن أجده في المستدرك، فخفي على موضعه. ويكون ما وقع من الناسخين، في الطبري هنا، من حذف (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) - خطأ يقينا. إذ يكون حينئذ موقوفا على ابن ثوبان. وقد تضافرت الدلائل على أنه عن ابن ثوبان، مرفوعا مرسلا، في رواية الطبري ورواية غيره. والسرحان: الذئب. وذلك كناية عن استطالته وامتداده. (2) الحديث: 2996- إسماعيل بن صبيح- بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة - اليثكري الكوفي: ثقة مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/178. أبو هلال: هو الراسبي محمد بن سليم، وهو ثقة. سوادة بن حنظلة القشيري البصري: تابعي ثقة. والحديث رواه أحمد في المسند 5: 13-14 (حلبي) ، عن وكيع، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه الترمذي 2: 39، من طريق وكيع. . وسيأتي مزيد تخريجه، في الحديث بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 2997- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام الأسدي قال، حدثنا شعبة، عن سوادة قال: سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول:"لا يغرنّكم نداء بلال ولا هذا البياضُ حتى يبدوَ الفجرُ وَينفجر" (1) . * * *   (1) الحديث: 2997- معاوية بن هشام الأسدي القصار: ثقة، وثقه أبو داود وابن حبان. و"الأسدي" بفتح السين، لأنه"مولى بني أسد"، كما في ابن سعد 6: 282، والتقريب، وكذلك ثبت في الصحيحين: 92. ووقع في التهذيب والخلاصة"الأزدي" بالزاي، هو خطأ. وهذا الحديث في معنى الذي قبله. وقد رواه أبو داود الطيالسي: 897، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه النسائي 1: 305، من طريق الطيالسي. ورواه أحمد في المسند 5: 7 (حلبي) : "حدثنا محمد بن جعفر، وروح، قالا: حدثنا شعبة، عن شيخ من بني قشير، قال روح: قال (يعني شعبة) : سمعت سوادة القشيري، وكان إمامهم" فذكر الحديث. ورواه مسلم 1: 302، من طريق معاذ، وهو العنبري، ومن طريق أبي داود، وهو الطيالسي - كلاهما عن شعبة. وقد سقط في هذا الموضع إسنادان آخران لهذا الحديث، ذكرهما ابن كثير 1: 423. فرأينا إثباتهما، تماما لنص أبي حعفر ما استطعنا: قال ابن كثير: "وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنَّى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن شيخ من بني قُشَيْر سمعت سمُرة بن جَندُب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَغُرنَّكم نداءُ بلال وهذا البياض، حتى ينفجر الفجر، أو يطلع الفجر". "ثم رواه من حديث شعبة وغيره، عن سَوادَةَ بن حنظلة، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنعنَّكم من سَحُوركم أذانُ بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطيرُ في الأفق". وهذا هو لفظ الحديث: 2996 هنا، ولكنه من غير طريق شعبة. ثم قال ابن كثير، نقلا عن أبي جعفر: "قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، [عن] ابن علية، عن عبد الله بن سَوَادَةَ القُشَيْرِي، عن أبيه، عن سَمُرة بن جُنْدَُب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، ولا هذا البياض، لِعَمُود الصبح، حتى يَسْتَطِيرَ". فهذان الإسنادان اللذان لم يذكرا هنا، ثابتان في ابن كثير نقلا عن ابن جرير. والأول منهما يوافق رواية أحمد في المسند -التي ذكرنا آنفًا- عن محمد بن جعفر عن شعبة، التي أبهم فيها"شيخ من بني قشير". والثاني منهما: وقع فيه خطأ مطبعي في ابن كثير، لأن الطبري يرويه عن يعقوب بن إبراهيم، وهو الدورقي الحافظ، عن ابن علية، عن عبد الله بن سوادة، عن أبيه. فسقط في مطبوعة ابن كثير حرف [عن] فزدناه ضرورة. لأن الحديث ثابت من رواية ابن علية، وهو"إسماعيل بن إبراهيم" المعروف بابن علية. والحديث ثابت من رواية ابن علية: فرواه مسلم 1: 302، عن زهير بن حرب، "حدثنا إسماعيل ابن علية. . ". وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1: 425، من طريق مسدد، "حدثنا ابن علية". وعبد الله بن سوادة القشيري -شيخ ابن علية في هذا الإسناد-: ثقة، كما بينا في تخريج حديث آخر مضى، برقم: 2792. والحديث رواه أيضًا أحمد في المسند 5: 18 (حلبي) ، عن يزيد بن هارون، عن شعبة. ورواه الطيالسي أيضًا: 898، عن محمد بن مسلم، قال: "حدثنا سوادة بن حنظلة القشيري. . ". ورواه أيضًا مسلم 1: 302، وأبو داود: 2346، والبيهقي 4: 215- ثلاثتهم من طريق حماد بن زيد، عن عبد الله بن سوادة، عن أبيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 وقال آخرون: الخيطُ الأبيض: هو ضوء الشمس، والخيط الأسود: هو سوادُ الليل. * ذكر من قال ذلك: 2998- حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأعمش، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 عن إبراهيم التيمي، قال: سافر أبي مع حُذيفة قال: فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجرُ قال: هل منكم من أحد آكلٍ أو شاربٍ؟ قال: قلت له: أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: بلى! قال: ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحَّر (1) . 2999- حدثنا هناد وأبو السائب، قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان، فلما طلع الفجر، قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قلنا: أمَّا رجل يريدُ أن يصوم فلا. قال: لكنّي! قال: ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة، قال: هل منكم أحد يريد أن يتسحَّر؟ قال: قلنا أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: لكنّي! ثم نزل فتسحَّر، ثم صلى (2) . 3000- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ربما شربت بعد قول المؤذن - يعني في رمضان -:"قد قامت الصلاة". قال: وما رأيت أحدًا كان أفعلَ له من الأعمش، وذلك لما سمع، قال: حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا مع حذيفة نسير ليلا فقال: هل منكم متسحِّرٌ الساعة؟ قال: ثم   (1) الخبر: 2998- هذا موقوف على حذيفة بن اليمان، وإسناده صحيح. إلا أنه وقع في المطبوعة خطأ في موضعين. وسيأتي عقب هذا موقوفا بإسنادين آخرين. ثم يأتي معناه مرفوعا، من حديث حذيفة نفسه: 3011-3014. هناد بن السري - شيخ الطبري في هذا الإسناد: وقع في المطبوعة"هشام بن السري"؛ وهو خطأ يقينا، ليس من راو بهذا الاسم -فيما علمنا- وإنما هو"هناد". وقد ترجمنا له في: 2058. عبيدة -بفتح العين- بن حميد، بضم الحاء المهملة: مضى في: 2781، ووقع في المطبوعة"عبادة بن حميد"؛ وهو خطأ أيضًا. إبراهيم التيمي: هو إبراهيم بن يزيد بن شريك، وهو وأبوه تابعان ثقتان، أخرج لهما أصحاب الكتب الستة. وظاهر هذا الإسناد الانقطاع، لأن إبراهيم التيمي لم يدرك حذيفة، ولم يشهد سفر أبيه معه. ولكن تبين من الإسنادين بعده أنه روى ذلك عن أبيه، فاتصل الإسناد. (2) الخبر: 2999- إسناده صحيح متصل. وقوله: "لكني"، اختصار قوله: لكني أريد الصوم، مثل ذلك كثير في كلامهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 سار، ثم قال حذيفة: هل منكم متسحِّر الساعة؟ قال: ثم سار حتى استبطأنا الصلاة، قال: فنزل فتسحّر (1) . 3001- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق عن هبيرة، عن علي: أنه لما صلى الفجرَ قال: هذا حين يتبيّن الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) .   (1) الخبر: 3000- هذا إسناد صحيح متصل أيضًا. أبو بكر: هو ابن عياش، وقد مضى مرارا، منها: 2150. وهذا الإسناد صريح في سماعه من الأعمش، ورؤيته إياه يفعل ما حكى من سحوره بعد الأذان. وقال الحافظ في الفتح 4: 117"وذهب جماعة من الصحابة، وبه قال الأعمش من التابعين، وصاحبه أبو بكر بن عياش -: إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر". وقال أيضًا: "وقد روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق - ذلك عن حذيفة، من طرق صحيحة". وانظر لهذه المسألة - المحلى لابن حزم، في المسألة: 756 (ج 7 ص 229-235) . وسيأتي مزيد تخريج، عند حديثه المرفوع: 3011-3013، إن شاء الله. (2) الخبر: 3001- هارون بن إسحاق الهمداني، شيخ الطبري: كوفي حافظ ثقة، من شيوخ البخاري في غير الصحيح، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من الأئمة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 289، وابن أبي حاتم 4/2/87-88. وهو من الشيوخ الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء، مات سنة 258، بعد البخاري بسنتين. مصعب بن المقدام: مضت ترجمته: 1291. هبيرة - بضم الهاء: هو ابن يريم، بفتح الياء التحتية وكسر الراء، الشبامي، بكسر الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف ميم، نسبة إلى"شبام"، وهو"عبد الله بن أسعد بن جثم بن حاشد"، قال ابن سعد: "وسمي شبام، بجبل لهم". ووقع في التهذيب والتقريب والخلاصة"الشيباني"، وهو تصحيف. وهبيرة: تابعي ثقة، تكلم فيه بعضهم، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي، وهو خال العالية امرأة أبي إسحاق. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/241، وابن سعد 6: 118، وابن أبي حاتم 4/2/109-110. وهذا الخبر سيأتي بإسناد آخر، بنحوه: 3010. وقد ذكره الحافظ في الفتح 4: 117، قال: "روى ابن المنذر بإسناد صحيح، عن علي: أنه صلى الصبح ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود". ولكن ذكره السيوطي 1: 199، بنحوه، بلفظ"أنه قال حين طلع الفجر. . "! ونسبه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير. وأنا أكاد أرجح أن قوله"طلع الفجر" تحريف من الناسخين، لأن روايتي الطبري، هذه والآتية، فيهما"صلى الفجر"، وأيده ما نقله الحافظ من رواية ابن المنذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 3002- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن الصلت قال، حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار، عن أبيه، عن البراء، قال: تسحرت في شهر رمضان، ثم خرجت فأتيت ابن مسعود، فقال: اشربْ. فقلت: إنّي قد تسحَّرت! فقال: اشرب! فشربنا، ثم خرجنا والناس في الصلاة (1) . 3003- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني، عن جبله بن سحيم، عن عامر بن مطر، قال: أتيت عبد الله بن مسعود في داره، فأخرجَ فضلا من سَحُوره، فأكلنا معه، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا (2) . 3004- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي   (1) الخبر: 3002- هذا إسناد مشكل، لا أدري ما هو؟ فابن الصلت: يدور بين اثنين في هذه الطبقة، "محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي"، و"محمد بن الصلت التوزي". فلا أدري أيهما هو؟ أم هو غيرهما. وإسحاق بن حذيفة العطار، وأبوه: لم أجد لهما ترجمة، ولا ذكرا، في شيء مما بين يدي من المراجع. وأخشى أن يكون فيهما معا تحريف، فلئن تركوا ترجمة"إسحاق" ليبعدن أن يتركوا ترجمة أبيه، وهو في ظاهر هذا الإسناد تابعي، يروي عن صحابي، وهو البراء بن عازب. وانظر الخبر الذي بعده. (2) الخبر: 3003- أما هذا فإسناده صحيح. الشيباني: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان، مضت ترجمته: 1037. جبلة بن سحيم - بضم السين المهملة، التيمي الشيباني: تابعي ثقة، ينسب إلى"تيم بن شيبان"، فهو"تيمي"، و"شيباني". عامر بن مطر الشيباني: تابعي ثقة. مترجم في ابن سعد 6: 82، وابن أبي حاتم 3/1/328، ولسان الميزان 3: 225. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الحكم بن بشير، قال: "أبو مطر، الذي يروي عنه جبلة بن سحيم: هو عامر بن مطر، شيباني، رجل له شأن في المسلمين". وهذا الخبر رواه ابن حزم في المحلى 7: 233، من طريق ابن أبي شيبة: "حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني - هو أبو إسحاق. . " فذكره، بهذا الإسناد، نحوه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 154 مختصرا، هكذا: "وعن مطر الشيباني، قال: تسحرنا مع عبد الله، ثم خرجنا فأقيمت الصلاة، رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". فسمى التابعي"مطر الشيباني". وهو تحريف -فيما أرجح- فليس في الرواة من هذا اسمه. وما أدري: التحريف من رواة الطبراني، أم من الهيثمي، أم من ناسخ أو طابع؟ ولكنه -عندي- تحريف على كل حال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 إسحاق، عن عبد الله بن معقل، عن سالم مولى أبي حذيفة قال، كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان، فأتيت ذات ليلة فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده: أنْ كُفَّ، ثم أتيته مرة أخرى، فقلت له: ألا تأكلُ يا خليفة رسول الله؟ فأومأ بيده: أنْ كُف. ثم أتيته مرة أخرى، فقلت: ألا تأكل يا خليفةَ رسول الله؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده: أنْ كُفّ. ثم أتيته فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله؟ قال: هات غَداءك! قال: فأتيته به فأكل، ثم صلى ركعتين، ثم قام إلى الصلاة (1) . 3005- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الوتر بالليل والسَّحور بالنهار. وقد رُوي عن إبراهيم غير ذلك: 3006- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد، عن إبراهيم، قال: السحور بليل، والوتر بليل. 3007- حدثنا حكام، عن ابن أبي جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: السحور والوتر ما بين التَّثْويب والإقامة. 3008- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،   (1) الخبر: 3004- هذا إسناد ضعيف، لانقطاعه. خلاد بن أسلم، أبو بكر الصفار، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ عبد الله بن أحمد، والترمذي والنسائي، مات في جمادى الآخرة سنة 249. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري ص: 237، وتاريخ بغداد 8: 342-343. عبد الله بن معقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف - بن مقرن - بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة- المزني: تابعي ثقة، يروي عن أبيه، وهو صحابي، وعن علي، وابن مسعود، وغيرهم. ولكنه لم يدرك أن يروي عن سالم مولى أبي حذيفة، لأنه مات سنة 88، وسالم قتل باليمامة سنة 12 في خلافة أبي بكر. ولذلك تعقب الحافظ ابن حجر في التهذيب، ما ذكره أصله، فقال: "وأطلق المؤلف روايته عن سالم مولى أبي حذيفة. والظاهر أنها مرسلة، لأنه قتل باليمامة". وابن معقل هذا مترجم في التهذيب. والصغير للبخاري، ص: 93-94، وابن سعد 6: 121-122، والإصابة 5: 144. ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله"، بالتصغير، وهو خطأ. سالم مولى أبي حذيفة: صحابي قديم الموت، كما قلنا آنفًا. وهو الذي وردت في شأنه سنة إرضاع الكبير. وهو مولى ثبيتة بنت يعار الأنصارية زوج أبي حذيفة، هي التي أعتقته، فتولى أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي زوجها. قال ابن سعد: "فسالم يذكر في الأنصار في بني عبيد، لعتق ثبيتة بنت يعار إياه، ويذكر في المهاجرين، لموالاته لأبي حذيفة". وهو مترجم في الكبير 2/2/108، والصغير، ص: 21، 22، وابن سعد 3/1/60-62، وابن أبي حاتم 2/1/189، والإصابة 3: 56-57. وقال ابن أبي حاتم: "لا أعلم روى عنه". وتعقبه الحافظ في الإصابة، فذكر له رواية حديثين مرفوعين، ثم قال: "وفي السندين جميعا ضعف وانقطاع. فيحمل كلام ابن أبي حاتم على أنه لم يصح عنه شيء". ولم يذكر الحافظ رواية الطبري هذه، وهي منقطعة أيضًا. وهذا الخبر ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 154، مختصرا قليلا، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". هكذا قال، فلم يشر إلى علته بالانقطاع، إلا أن يكون إسناد الطبراني متصلا براو آخر فوق عبد الله بن معقل، فلعل. ولكني لا أظن ذلك. نعم ذكر الحافظ في الفتح 4: 117، أن ابن المنذر"روى بإسناد صحيح، عن سالم بن عبيد الأشجعي، وله صحبة: أن أبا بكر قال له: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت ثم أتيته، فقلت: قد ابيض وسطع، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض، فقال: الآن أبلغني شرابي". فهذا سالم بن عبيد صحابي معروف من أهل الصفة. والرواية عنه تأتي من وجه آخر غير رواية سالم مولى أبي حذيفة. فإن كان الإسناد إليه صحيحا كما قال الحافظ، فهو ذلك، إلا أن يكون ذكر سالم بن عبيد" خطأ من بعض الرواة، فليس عندي بيان آخر عن إسناد ابن المنذر. وقد روى ابن حزم في المحلى 6: 232، نحو هذا المعنى، بألفاظ أخر، عن أبي بكر: فقال ابن حزم: "روينا من طريق معمر، عن أبان، عن أنس، عن أبي بكر الصديق، أنه قال: إذا نظر الرجلان إلى الفجر، فشك أحدهما، فليلأكلا حتى يتبين لهما". "ومن طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن سالم بن عبيد، قال: كان أبو بكر الصديق يقول لي: قم بيني وبين الفجر حتى أتسحر". ومن طريق ابن أبي شيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن سالم بن عبيد الأشجعي، قال: قم فاسترني من الفجر، ثم أكل". وهذا اللفظ الأخير مختصر، يفهم مما قبله أنه حكاية عن أبي بكر أيضًا، ولعله سقط منه شيء من ناسخي المحلى. ثم قال ابن حزم: "سالم بن عبيد هذا: أشجعي كوفي، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه أصح طريق يمكن أن تكون". وأنا أرجح أن يكون طريق ابن المنذر -الذي نقله الحافظ في الفتح- مثل هذين الطريقين الأخيرين، اللذين نقلهما ابن حزم، فيكون من رواية هلال بن يساف عن سالم بن عبيد. واستبعد جدا أن يكون طريق الطبراني، الذي ذكره الهيثمي-: من هذا الوجه. ثم روى ابن حزم 6: 233، نحو هذا المعنى، من رواية أبي السفر، ومن رواية أبي قلابة - كلاهما عن أبي بكر. وهما إسنادان منقطعان، فإن أبا السفر وأبا قلابة لم يدركا أبا بكر يقينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 عن شبيب بن غرقدة، عن عروة، عن حبان، قال: تسحرنا مع عليّ، ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة، فصلينا (1) . 3009- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن   (1) الخبر: 3008- شبيب بن غرقدة السلمي: تابعي ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/232، وابن أبي حاتم 2/1/357. عروة: هو ابن أبي الجعد الأزدي البارقي: صحابي معروف. قال البخاري: "وبارق: جبل، نزله بعض الأزد". حبان - بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: هو ابن الحارث، أبو عقيل، وهو تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2/1/77، وابن أبي حاتم 1/2/269، والدولابي في الكنى 2: 33. وهكذا وقع في الطبري عن شيخه محمد بن المثنى -في هذا الإسناد- زيادة"عروة البارقي" بين"شبيب" و"حبان بن الحارث". وسيأتي الخبر عقب هذا: 3009، من رواية سفيان بن عيينة، عن شبيب، عن حبان، مباشرة دون واسطة، وهو الثابت المحفوظ عن شبيب. فلعل ابن المثنى -شيخ الطبري- وهم في هذه الزيادة، أو لعله كان من رواية شبيب، عن عروة وعن حبان، كلاهما عن علي، ثم اختلط في الإسناد على الناسخين. فإن البخاري روى هذا الخبر، في ترجمة"حبان" في التاريخ الكبير، موجزا بالإشارة كعادته - على الصواب، من الوجه الذي رواه الطبري هنا: فقال البخاري: "حدثنا محمد، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن شبيب، عن حبان: تسحرنا مع علي". فحمد - شيخ البخاري: هو محمد بن بشار الحافظ. وغندر: هو هو محمد بن جعفر شيخ ابن المثنى في إسناد الطبري هذا. وهو قد رواه -كما ترى- دون واسطة بين شبيب وحبان. وكذلك رواه البخاري بثلاثة أسانيد عن شبيب عن حبان، فقال: "قال ابن محبوب، عن عمر الأبار، عن منصور، عن شبيب، عن حبان بن الحارث: تسحرنا مع علي. وقال جرير، عن منصور، عن شبيب، عن أبي عقيل. قال حسين، عن زائدة، عن شبيب، عن طارق بن قرة، وحبان بن الحارث، بهذا". وقد زاد في الإسناد الأخير للبخاري: أن شبيبا رواه عن طارق بن طارق بن قرة، عن علي، كمثل روايته إياه عن حبان، عن علي. و"طارق بن قرة": تابعي، لم يترجمه البخاري في الكبير، ولكن ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/486، قال: "طارق بن قرة: روى عن علي، روى عنه شبيب بن غرقدة". وبذلك ترجمه أيضًا ابن حبان في الثقات، ص: 229. ورواية البخاري، من طريق جرير عن منصور - رواها ابن حزم في المحلى 6: 233 مفصلة، قال: "ومن طريق ابن أبي شيبة: حدثنا جرير، هو ابن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن شبيب بن غرقدة، عن أبي عقيل، قال: تسحرت مع علي بن أبي طالب، ثم أمر المؤذن أن يقيم الصلاة". فهذه أسانيد تدل على أن ذكر"عروة البارقي" في إسناد الطبري هنا - إما سهو من ابن المثنى، وإما إضافة في الرواية مع حبان -لا رواية عنه- ثم حرفت من الناسخين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 شبيب، عن حبان بن الحارث، قال: مررت بعليّ وهو في دار أبي موسى وهو يتسحَّر، فلما انتهيتُ إلى المسجد أقيمت الصلاة (1) . 3010- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: صلى عليُّ بن أبي طالب الفجرَ، ثم قال: هذا حين يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) . * * * وعلة من قال هذا القول: أنَّ القول إنما هو النهارُ دون الليل. قالوا: وأول النهار طلوعُ الشمس، كما أنّ آخرَه غروبُها. قالوا: ولو كان أوله طلوعُ الفجر، لوَجب أن يكون آخرَه غروبُ الشفق. قالوا: وفي إجماع الحجة على أنَّ آخر النهار غروب الشمس، دليلٌ واضح على أن أوله طلوعها. قالوا: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طُلوع الفجر، أوضحُ الدليل على صحة قولنا. ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: 3011- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: قلت: تسحَّرتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لو أشاءُ لأقولُ هو النهارُ إلا أنّ الشمس لم تطلع (3) .   (1) الخبر: 3009- سفيان: هو ابن عيينة. والخبر تكرار في معناه للخبر قبله. ورواه أيضًا ابن حزم في المحلى 6: 233، قال: "وعن سفيان بن عيينة، عن شبيب بن غرقدة، عن حبان بن الحارث: أنه تسحر مع علي بن أبي طالب، وهما يريدان الصيام، فلما فرغ قال للمؤذن: أقم الصلاة". (2) الخبر: 3010- أبو السفر -بفتح الفاء-: هو سعيد بن محمد، بضم الياء التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الميم، وهو تابعي ثقة، يروي عن متوسطي الصحابة، كابن عباس وابن عمر. وهذا الإسناد منقطع، لأن أبا السفر لم يدرك أن يروي عن علي بن أبي طالب. وقد مضى معناه عن علي، بإسناد آخر متصل: 3001. (3) الحديث: 3011- عاصم: هو ابن بهدلة، وهو ابن أبي النجود -بفتح النون- الكوفي المقرئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتاب الستة. زر - بكسر الزاي وتشديد الراء: هو ابن حبيش، التابعي الثقة. مضى في: 274. حذيفة: هو ابن اليمان العبسي، صحابي مشهور، مناقبه كثيرة معروفة. وهذا الحديث رواه ابن ماجه: 1695، عن علي بن محمد، هو الطنافسي، عن أبي بكر بن عياش، بهذا الإسناد نحوه، مختصرا. وسيأتي مزيد تخريج له في الثلاثة بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 3012- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ما كذب عاصمٌ على زرّ، ولا زرّ على حذيفة، قال: قلتُ له: يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم هو النهارُ إلا أن الشمس لم تطلع (1) . 3013- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحَّر وأنا أرى مواقعَ النَّبل. قال: قلت أبعدَ الصبح؟ قال: هو الصبح، إلا أنه لم تطلع الشمس (2) . 3014- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: أصبحت ذات يوم فغدوتُ إلى المسجد، فقلت: لو مررت على باب حذيفة! ففتح لي فدخلتُ، فإذا هو يسخّن له طعامٌ، فقال: اجلس حتى تطعَم. فقلت: إنّي أريد الصوم. فقرّب طعامه فأكل وأكلت معه، ثم قام إلى لِقْحة في الدار، فأخذ يحلُب من جانب وأحلُب أنا من جانب، فناولني، فقلت: ألا ترى الصبح؟ فقال: اشرب! فشربتُ، ثم جئتُ إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة، فقلت له: أخبرني بآخر   (1) الحديث: 3012- هو الحديث السابق بمعناه، بالإسناد نفسه. ولكن هذا جاء بصيغة في التوكيد موثقة، قصد بها أبو بكر بن عياش رفع شبهة الخطأ أو التزيد في الرواية. (2) الحديث: 3013- سفيان: هو الثوري. والحديث في معنى الحديثين قبله. وقد رواه أحمد في المسند 5: 400 (حلبي) ، عن وكيع، عن سفيان، بهذا الإسناد نحوه. وكذلك رواه النسائي 1: 303، وابن حزم في المحلى 6: 232 - كلاهما من طريق وكيع. وفي الفتح 4: 117 أنه رواه"سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو والله النهار، غير أن الشمس لم تطلع" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 سَحور تسحَّرته مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمسُ (1) . 3015- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يضعه حتى يقضيَ حاجته منه" (2) .   (1) الحديث: 3014- الحكم بن بشير النهدي: مضت ترجمته: 1497. وعمرو بن قيس هو الملائي، مضت ترجمته: 886. خلاد الصفار: هو خلاد بن عيسى العبدي، ويقال: خلاد بن مسلم. وهو ثقة. مترجم في التهذيب والكبير 2/1/171، وابن أبي حاتم 1/2/367. وهذا الحديث تكرار للثلاثة قبله في معناها، إلا أنه مطول في قصة. وقد روى نحو هذه القصة - حماد بن سملة، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة: فرواها أحمد 5: 396 (حلبي) ، عن عفان، عن حماد بن سلمة. وكذلك رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 324، وابن حزم في المحلى 6: 231: 232، كلاهما من طريق روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة. ورواه أحمد أيضًا 5: 405 (حلبي) ، من طريق شريك بن عبد الله -هو النخعي القاضي- عن عاصم، عن زر، قال: "قلت، يعني لحذيفة: يا أبا عبد الله، تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: أكان الرجل يبصر مواقع نبله؟ قال: نعم، هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع". وقد ذكر ابن كثير 1: 422 رواية حماد بن سلمة عن عاصم - مختصرة، ونسبها لأحمد، والنسائي وابن ماجه، وقال: "وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود، قاله النسائي". ولم أجده في النسائي من رواية حماد ولم أجد كلمة النسائي أيضًا. فلعل ذلك في السنن الكبرى. وقال الحافظ في الفتح 4: 117، بعد نقله رواية سعيد بن منصور وإشارته إلى رواية الطحاوي عن حذيفة: "روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة، من طرق صحيحة". "اللقحة": الناقة القريبة العهد بالولادة، فهي من ذوات الألبان. (2) الحديث: 3015- هذا إسناد صحيح. روح بن عبادة القيسي، من بني قيس بن ثعلبة: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ووثقه ابن معين وغيره. تكلم فيه بعضهم بغير حجة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/282-283، وابن سعد 7/2/50، وابن أبي حاتم 1/2/498-499، وتاريخ بغداد 8: 401-406. "عبادة": بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة. ووقع في المطبوعة، في هذا الإسناد والذي بعده"روح بن جنادة"! وهو تصحيف، ولا يوجد راو بهذا الاسم. حماد: هو ابن سلمة. محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي: ثقة، أخرج له الجماعة أيضًا. أبو سلمة: هو ابن عبد الرحمن بن عوف. والحديث رواه أحمد في المسند: 10637 (2: 510 حلبي) ، عن روح بن عبادة، بهذا الإسناد واللفظ. ورواه أحمد أيضًا: 9468 (2: 423 حلبي) ، عن غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. وقرن إليه إسنادا آخر مرسلا، عن يونس، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أبو داود: 2350، عن عبد الأعلى بن حماد النرسي. عن حماد بن سلمة، به. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1: 426، من طريق عبد الأعلى، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وانظر تعليقنا على الحديث، فيما كتبنا على مختصر السنن للمنذري: 2249 (3: 233، 234) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 3016- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله- وزاد فيه: وكان المؤذن يؤذن إذا بَزَغ الفجر (1) . 3017- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين = وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد = قالا جميعا، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: أقيمت الصلاة والإناءُ في يد عمر، قال: أشرَبُها يا رسول الله؟ قال: نعم!، فشربها (2) .   (1) الحديث: 3016- عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم: تابعي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. والحديث رواه أحمد في المسند: 10638، عن روح بن عبادة، بهذا الإسناد، عقب الحديث السابق، كما صنع الطبري تماما. وذكره ابن حزم في المحلى 6: 232، من رواية حماد بن سلمة، به، وساق لفظه كاملا. وزاد في آخره: وقال حماد، عن هشام بن عروة: كان أبي يفتي بهذا". (2) الحديث: 3017- رواه الطبري بإسنادين: فرواه عن بن حميد، عن يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد - ثم استأنف إسنادا آخر، فرواه عن محمد بن علي بن الحسن، عن أبيه، عن الحسين بن واقد، فاجتمع الطريقان في الحسين بن واقد، عن أبي غالب، إلخ. ويحيى بن واضح: هو أبو تميلة، مضت ترجمته: 392. أبو غالب: هو صاحب أبي أمامة، وقد اختلف في اسمه: فقيل: "حزور"، بفتح الحاء المهملة والزاي والواو المشددة وآخره راء. وقيل: "سعيد بن الحزور"، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 7/2/7. واختصر البخاري في الكبير 2/1/124 على"حزور". وترجمه ابن أبي حاتم في الترجمتين 1/2/315-316، ثم 2/1/13، وقال في الموضع الثاني: "وحزور أصح". وهو ثقة، وتكلم فيه بعضهم. ووثقه الدارقطني، وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها. مترجم في التهذيب 12: 197-198. أبو أمامة: هو الباهلي، واسمه: "صدي" بضم الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء"بن عجلان". وهو صحابي معروف مات سنة 86 وقد جاوز المئة، لأنه ثبت أنه كان ابن 30 سنة أو 33. ووقع في ابن سعد 7/2/131-132 أنه مات وهو ابن 61 سنة! وهو خطأ فاحش. وهذا الحديث صحيح الإسناد. ولم أجده في غير هذا الموضع من تفسير الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 3018- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال بلال:"أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أُوذِنه بالصلاة وهو يريد الصوم، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرج إلى الصلاة (1) . 3019- حدثني محمد بن أحمد الطوسي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل، عن بلال قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرجنا إلى الصلاة (2) . * * *   (1) الحديث: 3018- يونس: هو ابن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/408، وابن سعد 6: 252، وابن أبي حاتم 4/2/243-244. عبد الله: هو ابن معقل بن مقرن المزني، مضت ترجمته: 3004. بلال: هو ابن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين الأولين، مات في طاعون عمواس، سنة: 17، أو 18. ولم يدركه عبد الله بن معقل المتوفى سنة: 88. فالإسناد إليه ضعيف لانقطاعه. وسيأتي تخريج الحديث في الإسناد التالي. (2) الحديث: 3019- محمد بن أحمد الطوسي، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ "عبد الله بن معقل": بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف. وثبت في المطبوعة هنا"مغفل"، وهو تصحيف. والحديث رواه أحمد في المسند 6: 12 (حلبي) عن يحيى بن آدم، وأبي أحمد الزبيري - كلاهما عن إسرائيل، بهذا الإسناد، نحوه. ثم رواه 6: 13، عن حسين بن محمد، عن إسرائيل، به. وهو حديث ضعيف، لانقطاعه بين ابن معقل بن مقرن وبلال، كما بينا. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 152، من رواية أحمد الأولى، وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير". ثم ذكر رواية أحمد الثانية، ثم قال: "ورجالهما رجال الصحيح". ففاته أن يعلمه بالانقطاع. وروى أحمد أيضًا 6: 13، عن وكيع، عن جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال: "أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته". وهذا ذكره الهيثمي أيضًا عن المسند، ثم قال: "وشداد مولى عياض: لم يدرك بلالا". وهو كما قال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، التأويلُ الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الخيط الأبيض" بياض النهار،"والخيط الأسود" سوادُ الليل. وهو المعروف في كلام العرب، قال أبو دُؤاد الإياديّ: فَلَمَّا أضَاءت لَنَا سُدْفَةٌ ... وَلاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا (1) * * * وأما الأخبارُ التي رويتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحَّر، ثم خرج إلى الصلاة، فإنه غير دافع صحةَ ما قلنا في ذلك؛ لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم شَرب قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة، إذ كانت الصلاةُ -صلاة الفجر- هي على عهده كانت تُصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبيَّن طلوعه ويؤذَّن لها قبل طلوعه. وأما الخبر الذي رُوي عن حذيفة:"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مَواقعَ النَّبل"، فإنه قد استُثبتَ فيه فقيل له: أبعد الصبح؟ فلم يجب   (1) الأصمعيات: 28 من أبيات. يصف فرسا خرج عليه للصيد، واللسان (خيط) . وفي الأصمعيات: "خير أنارا" ولا معنى لها. والسدفة: ظلمة الليل في لغة نجد، والضوء في لغة قيس، وهي أيضًا: اختلاط الضوء والظلمة جميعا، كوقت ما بين صلاة الفجر إلى أولى الإسفار. قال عمارة: ظلمة فيها ضوء من أول الليل وآخره، ما بين الظلمة إلى الشفق، وما بين الفجر إلى الصلاة. وأراد أبو دؤاد اختلاط الظلمة والضوء. ولاح: بدا وظهر من بعيد. والخيط: اللون هنا يكون ممتدا كالخيط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 في ذلك بأنه كان بعد الصبح، ولكنه قال:"هو الصبح". وذلك من قوله يُحتمل أن يكون معناهُ: هو الصبح لقربه منه، وإن لم يكن هو بعينه، كما تقول العرب:"هذا فلان" شبها، وهي تشير إلى غير الذي سمَّته، فتقول:"هو هو" تشبيها منها له به، فكذلك قول حذيفة:"هو الصبح"، معناه: هو الصبح شبها به وقربا منه. * * * وقال ابن زيد في معنى"الخيط الأبيض والأسود" ما: 3020- حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال:"الخيط الأبيض" الذي يكون من تحت الليل، يكشف الليل -"والأسود" ما فوقه. * * * وأما قوله:"من الفجر" فإنه تعالى ذكره يعني: حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود الذي هو من الفجر. وليس ذلك هوَ جميعَ الفجر، ولكنه إذا تبيَّن لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل، فمن حينئذ فصُوموا، ثم أتِمُّوا صيامكم من ذلك إلى الليل. وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول: 3021- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"منَ الفجر" قال: ذلك الخيط الأبيضُ هو من الفجر نسبةً إليه، وليس الفجر كله، فإذا جاء هذا الخيط، وهو أوله، فقد حلت الصلاةُ وحَرُم الطعام والشراب على الصائم. * * * قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيامَ إلى الليل" أوضحُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 الدلالة على خطأ قول من قال: حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس؛ لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدًّا لمن لزَمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة. فمن زعم أنّ له أنْ يتجاوز ذلك الحدّ، قيل له: أرأيتَ إن أجازَ له آخَرُ ذلك ضحوةً أو نصف النهار؟ فإن قال: إنّ قائلَ ذلك مخالف للأمة. قيل له: وأنتَ لما دلَّ عليه كتاب الله ونقلُ الأمة مخالفٌ، فما الفرق بينك وبينه من أصْل أو قياس؟ فإن قال: الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل، والنهارُ من طلوع الشمس. قيل له: كذلك يقول مخالفوك، والنهار عندهم أوَّله طلوع الفجر، وذلك هو ضوء الشمس وابتداءُ طلوعها دون أن يتتامَّ طلوعها، كما أن آخر النهار ابتداءُ غروبها دون أن يتتامَّ غروبها. ويقال لقائلي ذلك (1) إن كان"النهار" عندكم كما وصفتم، هو ارتفاع الشمس، وتكامل طُلوعها وذهاب جميعُ سدْفة الليل وَغبَس سواده -فكذلك عندكم"الليل": هو تتامُّ غروب الشمس، وذهاب ضيائها، وتكامل سواد الليل وظلامه؟ فإن قالوا: ذلك كذلك! قيل لهم: فقد يجبُ أن يكون الصوم إلى مَغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!   (1) جمع القائلين، بعد الإفراد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 فإن قالوا: ذلك كذلك! أوجبوا الصومَ إلى مغيب الشفق الذي هوَ بياضٌ. وذلك قولٌ إنْ قالوه مدفوعٌ بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مُجمعةً عليه -الخطأُ والسهوُ، [وكفى بذلك شاهدا] على تخطئته (1) . وإن قالوا:"بل أول الليل" ابتداء سُدْفته وظلامه ومَغيبُ عَين الشمس عنا. قيل لهم: وكذلك"أول النهار": طلوع أوّل ضياء الشمس ومغيب أوَائل سُدفة الليل. ثم يعكس عليه القول في ذلك، (2) ويُسأل الفرقَ بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * وأما"الفجر" فإنه مصدر من قول القائل:"تفجَّر الماءُ يتفجَّرُ فجرًا"، (3) إذا انبعثَ وجرى، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس"فجر"، لانبعاث ضوئه عليهم، وتورُّده عليهم بطرُقهم ومحاجِّهم، تفجُّرَ الماء المتفجِّر من منبعه. * * * وأما قوله:"ثم أتموا الصيام إلى الليل" فإنه تعالى ذكره حَدَّ الصوم بأن آخرَ وقته إقبالُ الليل - كما حدَّ الإفطارَ وإباحةَ الأكل والشرب والجماع وأوَّل الصوم بمجيء أول النهار وأوَّل إدبار آخر الليل، فدلّ بذلك على أن لا صومَ بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم = وعلى أنّ المواصل مجوِّعٌ نفسه في غير طاعة ربه. كما: -   (1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها لسياق الجملة. (2) عاد مرة أخرى فأفرد القائل بعد جمع القائلين. ولولا الضمائر الكثيرة التي تمنع ظن التحريف أو التصحيف في جمل متتابعة. لغيرتها. ولعل أبا جعفر كان يسهو أحيانا عن مثل ذلك. لجوازه في العربية. (3) هكذا جاء في المطبوعة، ولم أملك أن أغيره، لأن كلامه دال على أنه يجعله مصدرا، لقولهم: "تفجر" بالتاء وتشديد الجيم. وكأنه يحمله على أنه من المصادر التي جاءت على غير بناء أفعالها. كما مضى ذلك آنفًا في 1: 116-118. وانظر تفسير"التفجر" فيما سلف 2: 238. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 3022- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاصم بن عمر، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل وأدبر النهارُ وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم. (1) . 3023- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني = وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن الشيباني = وحدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو معاوية = وحدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني = قالوا جميعا في حديثهم، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم، فلما غَرَبت الشمسُ قال لرجل: انزل فاجدَحْ لي. قالوا: لو أمسيت يا رسول الله! فقال: انزل فاجدح. فقال الرجل: يا رسول الله لو أمسيت! قال: انزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله إن علينا نهارا! فقال له الثالثة، فنزل فجدح له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا - وضرب بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم (2) .   (1) الحديث: 3022- عبدة: هو ابن سليمان. عاصم: هو ابن عمر بن الخطاب، وهو تابعي ثقة، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في المطبوعة هنا عاصم بن عمرو"، وهو خطأ. والحديث رواه بنحوه، أحمد في المسند: 192، 383، عن وكيع، عن هشام، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 231، عن ابن نمير، و 338، عن سفيان بن عيينة - كلاهما عن هشام. ورواه البخاري 4: 171 (فتح) ، من طريق ابن عيينة. ورواه مسلم 1: 303، من طريق أبي معاوية، وابن نمير، وأبي أسامة - ثلاثتهم عن هشام. ورواه أبو داود: 2351، عن أحمد بن حنبل، عن وكيع، وعن مسدد. عن عبد الله بن داود - كلاهما عن هشام بن عروة. (2) الحديث: 3023- رواه الطبري بأسانيد، تجتمع كلها في أبي إسحاق الشيباني. فرواه عن هناد بن السري، عن ثلاثة شيوخ: عن أبي بكر بن عياش، وأبي عبيدة، وأبي معاوية. ورواه عن محمد بن المثنى، عن أبي معاوية. ورواه عن أبي السائب سلم بن جنادة، عن عبد الله بن إدريس الأودي - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني، واسمه: سليمان بن أبي سليمان، عن عبد الله بن أبي أوفى. أبو عبيدة: هو عبد الواحد بن واصل الحداد، وهو ثقة من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/24، وتاريخ بغداد 11: 3-5. ووقع في المطبوعة في هذا الجزء من الإسناد: "حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن شيبان". وهو خطأ واضح، ليس لشيبان صلة بهذا الإسناد. صوابه: "عن الشيباني"، كما أثبتناه. والحديث رواه البخاري 4: 156، من طريق سفيان بن عيينة، و 171-172، من طريق خالد بن عبد الله الواسطي، و 172، من طريق عبد الواحد بن زياد العبدي، و 173، من طريق أبي بكر بن عياش. ورواه مسلم 1: 303، من طريق هشيم، وعلي بن مسهر، وعباد بن العوم، وعبد الواحد بن زياد، وسفيان، وجرير، وشعبة. ورواه أبو داود: 2352، من طريق عبد الواحد بن زياد - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني، به، نحوه. جدح السويق في اللبن أو الماء: إذا خاضه وحركه حتى يختلط ويستوي. وقوله: "ضرب بيده"، يعني أشار بيده مادا يده كفعل الضارب. و"ضرب" فعل من الأفعال التي تقع على كثير من الأعمال إلا قليلا. يقال: "ضرب في الأرض"، و"ضرب بيده إلى الشيء"، أهوى إليه، و"ضرب على يده"، و"ضرب يده إلى عمل كذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 3024- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رفيع، قال: فرض الله الصيام إلى الليل، فإذا جاء الليل فأنت مفطر إن شئت فكل، وإن شئت فلا تأكل (1) . 3025- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية: أنه سُئل عن الوصال في الصوم فقال: افترض الله على هذه الأمَّة صومَ النهار، فإذا جاءَ الليل فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل. 3026 - حدثني يعقوب، قال: حدثني ابن علية، عن داود بن أبي هند، قال: قال أبو العالية في الوصال في الصوم، قال: قال الله:"ثم أتموا الصيام إلى الليل" فإذا جاء الليل فهو مفطر، فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل. 3027- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين، عن مسعر، عن قتادة، قال: قالت عائشة: أتموا الصيامَ إلى الليل - يعني: أنها كرهت الوصال. * * *   (1) الأثر: 3024- رفيع، هو رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي، ذكر مئات من المرات بكنيته. أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين. مات سنة 90. وداود هو ابن أبي هند. وانظر الإسنادين التاليين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه وصال مَنْ واصَل؟ فقد علمت بما: 3028- حدثكم به أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، قال: كان عبد الله بن الزبير يُواصل سبعة أيام، فلما كبِر جعلها خمسا، فلما كبِر جدًّا جعلها ثلاثا. 3029- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن عبد الملك، قال: كان ابن أبي يعمر يفطر كل شهر مرة. 3030 - حدثنا ابن أبي بكر المقدّمي قال، حدثنا الفروي، قال: سمعت مالكا يقول: كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل ليلةَ ستَّ عشرة وليلة سبعَ عشرة من رمضان لا يفطر بينهما، فلقيته فقلت له: يا أبا الحارث ماذا تجدُه يقوِّيك في وصَالك؟ قال: السمْن أشرُبه أجده يُبلّ عروقي، فأما الماء فإنه يخرج من جسدي (1) . = وما أشبه ذلك ممن فعل ذلك، ممن يطولُ بذكرهم الكتاب؟ قيل: وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوة (2) لا على طلب البرّ لله بفعله. وفعلهم ذلك نظيرُ ما كان عمر بن الخطاب يأمرهم به بقوله: "اخشَوشِنوا وَتمعْددوا، وانزوا على الخيل نزوًا، واقطعوا الرُّكُب وامشوا حُفاة" (3) .   (1) الخبر: 3030- ابن أبي بكر المقدمي: هو أبو عثمان أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي، شيخ الطبري. و"الفروي" بفتح الفاء وسكون الراء: هو إسحاق بن محمد بن أبي فروة، وقد سبق مثل هذا الإسناد إلى مالك: 876. ولكن قال الطبري هناك: "حدثنا أبو عثمان المقدمي". وهنا لم يذكر اسمه ولا كنيته، بل نسبه إلى جده. (2) "الخموصة" مصدر خمص بطنه خمصا (بسكون الميم وفتحها) وخماصة. ولم يذكروا"الخموصة" في كتب اللغة، وهو عربي عريق كقولهم: الفسالة والفسولة، والرذالة والرذولة، وفارس بين الفراسة والفروسة، ورجل جلد بين الجلادة والجلودة، وبطل بين البطالة والبطولة، وأشباه ذلك. (3) اخشوشن الرجل: لبس الخشن وتعوده، وأكل الخشن، وعاش عيشا خشنا وبالغ في التخشن. وتمعدد الرجل: تشبه بعيش معد بن عدنان في التشظف وترك التزيي بزي العحم. يعني: اصبروا على عيش معد في الحضر والسفر، وتشبهوا بلباسه، ودعوا زي الأعاجم. النزو: الوثب، يأمرهم أن يثبوا على الخيل وثبا بلا استعانة بركاب. والركب جمع ركاب: وهو ما يكون في سرج الفرس يضع الراكب فيه رجله، فإذا كان مثله في رحل البعير سمي"الغرز". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 يأمرهم في ذلك بالتخشن في عيشهم، لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خَفْض العيش ويميلوا إلى الدعة فيجبُنوا ويحتموا عن أعدائهم. = وقد رَغِب - لمن واصل - عن الوصال كثيرٌ من أهل الفضل: 3032- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أنّ ابن أبي نُعم كان يواصل من الأيام حتى لا يستطيع أن يقومَ، فقال عمرو بن ميمون: لو أدرَك هذا أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم رَجمُوه (1) . = ثم في الأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوصال التي يطول بإحصائها الكتاب تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها، إذ كان في ذكر ما ذكرنا مُكتفًى عن الاستشهاد على كراهة الوصال بغيره. 3033 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن الوصال، قالوا: إنك تُواصلُ يا رَسول الله! قال: إني لست كأحدٍ منكم، إني أبيت أُطعَم وأسقَى (2) . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذنُ بالوصال من السحر إلى السَّحر. 3034 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا   (1) الأثر: 3032- ابن أبي نعم، هو"عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي" الكوفي العابد. قال بكير بن عامر: لو قيل لعبد الرحمن: "قد توجه ملك الموت إليك يريد قبض روحك! " ما كانت عنده زيادة على ما هو فيه. وكان صبورا على الجوع الدائم، وهو الذي دخل على الحجاج في أيام الجماجم فوعظه. وأخذه الحجاج ليقتله، وأدخله بيتا مظلما، وسد الباب خمسة عشر يوما، ثم أمر بالباب ففتح ليخرج فيدفن. فدخلوا عليه فإذا هو قائم يصلي. فقال له الحجاج: سر حيث شئت. (2) الحديث: 3033- يحيى بن سعيد: هو القطان. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم، مضت ترجمته: 2740. ووقع في المطبوعة هنا"عن عبد الله" - يعني بالتكبير. و"عبد الله": هو العمري، وهو أخو"عبيد الله". بالتصغير - في هذا الإسناد، لأن القطان رواه عن"عبيد الله"، ولأن القطان كان لا يحدث عن"عبد الله"، كما روي ذلك عند ابن أبي حاتم 2/2/109 في ترجمة"عبد الله"، وكذلك نقل في التهذيب في ترجمته. والحديث رواه أحمد في المسند: 4721، عن يحيى القطان، عن عبيد الله، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 5795، عن محمد بن عبيد، و 6299، عن ابن نمير - كلاهما عن عبيد الله. وكذلك رواه مسلم 1: 303، من طريق ابن نمير. ورواه مالك في الموطأ، ص: 300، عن نافع، عن ابن عمر. وكذلك رواه أحمد: 5917، 6125. والبخاري 4: 177 - كلاهما من طريق مالك. ورواه أحمد أيضًا: 6416، ومسلم 1: 303- كلاهما من طريق عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع. وأما رواية"عبد الله" العمري - فقد رواه أحمد: 4752، عن وكيع، عن العمري، عن نافع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 شعيب، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصل فليواصل حتى السَّحر. قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إنّي أبيت لي مُطعم يُطعمني، وَساقٍ يسقيني (1) . 3035- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو إسرائيل   (1) الحديث: 3034- شعيب: هو ابن الليث بن سعد الإمام، وهو ثقة معروف، أخرج له مسلم وغيره. ووقع في المطبوعة"أبو شعيب"! وزيادة"أبو" خطأ، لا معنى لها ولا موضع. يزيد بن الهاد: هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، مضت ترجمته في: 2031. عبد الله بن خباب -بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة- مولى بني عدي بن النجار: تابعي ثقة، وثقه أبو حاتم والنسائي، وروى له أصحاب الكتب الستة. والحديث رواه البخاري 4: 177، عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، بهذا الإسناد. ورواه أحمد في المسند: 11070 (3: 8 حلبي) ، عن قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد - وكذلك رواه أبو داود: 2361، عن قتيبة. ورواه أحمد أيضًا: 11845 (3: 87 حلبي) ، عن أبي سعيد، عن عبد الله بن جعفر عن ابن الهاد. ورواه البخاري أيضًا 4: 181، من طريق ابن أبي حازم، عن ابن الهاد. وذكره السيوطي 1: 200، ونسبه للبخاري وأبي داود؟ وذكره أيضًا ابن كثير 1: 426، وقال: "أخرجاه في الصحيحين" فوهم وهما شديدا، رحمه الله فإن مسلما لم يخرجه في صحيحه. وقد نص الحافظ في الفتح 4: 217، في آخر كتاب الصيام، على أنه من أفراد البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 العبسي، عن أبي بكر بن حفص، عن أمِّ وَلد حاطب بن أبي بَلتعة: أنها مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحَّر، فدعاها إلى الطعام فقالت: إنّي صَائمة، قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من وصال آل محمد صلى الله عليه وسلم من السَّحر إلى السَّحر. (1) . * * * فتأويل الآية إذًا: ثم أتموا الكفَّ عما أمركم الله بالكفّ عنه، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى الليل، ثم حَلّ لكم ذلك بعدَه إلى مثل ذلك الوقت. كما: 3036- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ثم أتمُّوا الصيامَ إلى الليل" قال: من هذه الحدود الأربعة، فقرأ:"أحِلّ لكم   (1) الحديث: 3035- أبو نعيم: هو الفضل بن دكين -بضم الدال المهملة وفتح الكاف- ثقة حافظ من شيوخ أحمد، قال أحمد: "هو على قلة روايته أثبت من وكيع"، وقال أيضًا: "كان يقظان في الحديث، عارفا به". أبو إسرائيل العبسي: هو إسماعيل بن خليفة الملائي - بضم الميم وتخفيف اللام وهمزة بعد الألف. وهو ضعيف، بينا ضعفه في شرح المسند: 974. أبو بكر بن حفص: هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. أم ولد حاطب بن أبي بلتعة: لم أعرف من هي، ولا وجدت لها ترجمة ولا ذكرا. ولو صح الإسناد إليها لم يكن بذلك بأس، لأن جهالة الصحابي لا تضر. ولكن الإسناد ضعيف. وهذا الحديث لم أجده عند أحد غير الطبري. وقد نقله عنه ابن كثير 1: 426، بإسناده. ولم يزد شيئا في تخريجه. ولم يذكره السيوطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" فقرأ حتى بَلغ:"ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل" وكان أبي وغيره من مَشيختِنا يقولون هذا ويتلونه علينا (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره - بقوله:"ولا تباشرُوهن" لا تجامعوا نساءكم (2) . * * * = وبقوله:"وأنتم عَاكفونَ في المساجد" يقول: في حال عُكوفكم في المساجد، وتلك حال حَبْسهم أنفسَهم على عبادة الله في مساجدهم. * * * "والعكوف" أصله المقام، وحبسُ النفس على الشيء (3) كما قال الطِّرِمَّاح بن حَكيم: فَبَاتَ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكفًّا ... عُكُوفَ البَواكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ (4)   (1) الأثر: 3036- أبوه، هو زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة الفقيه مولى عمر. روى عن أبيه وابن عمر وأبي هريرة وعائشة وطائفة من أصحاب رسول الله، كان ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن. مات سنة 136. (2) انظر تفسير"المباشرة" فيما سلف قريبا: 503-505. (3) انظر تفسير"العكوف" فيما سلف من هذا الجزء 3: 41، 42. (4) ديوانه: 153، واللسان (بنو) غير منسوب عن ثعلب، ورواه: "بينهن قتيل". وقال الثعالبي في المضاف والمنسوب: 219: "بنات الليل": الأحلام، والنساء، وأهوال الليل، والمنى، وبكلها جاء الشعر". وأراد الطرماح: ما يعالج من ذكرى صاحبته، وما يخالط ذلك من منى وهموم وشقاء يشقى به من حسرة وشوق ولهفة. وهو بيت جميل المعنى، جيد التصوير. جعل ذكرياته قد استدارت حوله تبكي عليه، وهو بينهن صريع قد قضى نحبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 يعني بقوله:"عكفا"، مقيمة، وكما قال الفرزدق: تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كأنَّهُمْ ... عَلَى صَنَمٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ (1) * * * وقد اختلف أهل التأويل في معنى"المباشرة" التي عنى الله بقوله:"ولا تُباشروهن". فقال بعضهم: معنى ذلك الجماعُ دون غيره من معاني"المباشرة". * ذكر من قال ذلك: 3037- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"ولا تُباشروهنّ وأنتم عَاكفون في المساجد" - في رمضان أو في غير رمضان، فحرَّم الله أن يَنكح النساء ليلا ونهارا حتى يَقضي اعتكافه. 3038- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: الجماع.   (1) ديوانه: 561، والنقائض: 563، من أبيات جياد يصف فيها قدور أهله الكرام، يقول قبله: وَقَدْ عَلِمَ الأَقْوامُ أنّ قُدُورنَا ... ضَوَامِنُ للأرْزَاقِ والرِّيحُ زَفْزَفُ نَعَجِّلُ للضِّيفَانِ في المَحْلِ بالقِرَى ... قُدُروًا بمَعْبُوطٍ، تُمَدُّ وتُعْزَفُ تُفَرَّغُ فِي شِيزَىَ كأنَّ جِفَانَهَا ... حِيَاضُ جِبًي، منها مِلاَءٌ ونُصَّفُ الشيزى: خشب منه القدور تصنع. حياض جبي: حياض يجمع فيها الماء فهي ملأى أبدا. والمعتفون: الذين جاءوا يطلبون الرزق. يصفهم جياعا قد ثبتوا في أماكنهم ينتظرون، متلهفين وهم يكظمون أنفسهم، قد ماتت أصواتهم، كأنهم عباد قد خشعوا وخضعوا وأملوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 3039- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك، قال: كانوا يُجامعون وهم مُعتكفون، حتى نزلت:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد". 3040 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك في قوله:"ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد" قال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فقال الله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" يقول: لا تقرَبوهن ما دمتم عاكفين في مسجد ولا غيره. 3041 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه. 3042 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: كان أناس يُصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك. 3043 - وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأخبرهم أنّ ذلك لا يصلح حتى يَقضيَ اعتكافه. 3044 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" يقول: من اعتكف فإنه يصوم، لا يَحل له النساء ما دام معتكفا. 3045 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: الجوارُ، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 3046 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان ابن عباس يقول: من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرَب النساء. 3047 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الناس إذا اعتكفوا يخرُج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك. 3048 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته، ثم اغتسل، ثم رجع إلى اعتكافه، فنُهوا عن ذلك = قال ابن جريج: قال مجاهد: نُهوا عن جماع النساء في المساجد، حيث كانت الأنصار تجامِع، فقال:"لا تباشروهن وأنتم عاكفون" قال:"عاكفون"، الجوارُ = قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجماعُ المباشرة؟ قال: الجماع نفسه! فقلت له: فالقُبلة في المسجد والمسَّة؟ فقال: أما ما حُرِّم فالجماع، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد. 3049 - حدثت عن حسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"ولا تباشروهن" يعني الجماع. * * * وقال آخرون: معنى ذلك على جميع معاني"المباشرة" من لَمْس وقُبلة وجماع. * ذكر من قال ذلك: 3050 - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال مالك بن أنس: لا يمس المعتكف امرأته، ولا يباشرُها، ولا يتلذذ منها بشيء، قُبلةٍ ولا غيرها (1) .   (1) في الموطأ: 318 بنصه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 3051- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: المباشرة الجماعُ وغيرُ الجماع، كلُّه محرم عليه، قال:"المباشرة" بغير جماع، إلصاقُ الجلد بالجلد. * * * قال أبو جعفر: وعلة من قال هذا القول: أن الله تعالى ذكره عمّ بالنهي عن المباشرة، ولم يخصص منها شيئا دون شيء. فذلك على ما عمَّه، حتى تأتي حُجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرةً دون مباشرةٍ. * * * وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: الجماعُ، أو ما قام مقامَ الجماع، مما أوجبَ غسلا إيجابَه. وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين: إما جعل حكم الآية عامًّا، أو جَعل حكمها في خاصٍّ من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نساءه كنّ يُرجِّلنه وهو معتكف، فلما صح ذلك عنه، عُلم أنّ الذي عنى به من معاني المباشرة، البعض دون الجميع. 3052 - حدثنا علي بن شعيب قال، حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال، أخبرنا مالك. عن الزهري، عن عروة وعن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يُدني إليّ رأسه فأرَجِّله (1) .   (1) الحديث: 3052- هكذا رواه مالك في الموطأ، ص: 312، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة. فزاد في الإسناد"عمرة" بين عروة وعائشة. وكذلك رواه مسلم 1: 95، وأبو داود: 2467 - كلاهما من طريق مالك. وكذلك رواه الترمذي 2: 72، من طريقه، مع خطأ من الناسخين. وقال أبو داود: "لم يتابع أحد مالكا على"عروة عن عمرة". ورواه معمر وزياد بن سعد وغيرهما: عن الزهري: عن عروة، عن عائشة". وقال الترمذي: "هكذا رواه غير واحد: عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة. والصحيح: عن عروة وعمرة، عن عائشة. هكذا روى الليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة". وقال الحافظ في الفتح 4: 236"واتفقوا على أن الصواب قول الليث، وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في رواية مالك - من المزيد في متصل الأسانيد". وهذا من الحافظ -عندي- تكلف لا داعي له. ومالك، على إمامته وعلمه وحفظه. يخطئ كما يخطئ الناس، فالظاهر أنه نسي في بعض أحيانه، فجعل"عروة عن عمرة" بدل"عروة وعمرة". وقد ثبت عن مالك أنه كان يرويه أحيانا على الصواب، كما يظهر مما يأتي في: 3056. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 3053- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة: أن عائشة قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان يدخل عليّ رأسَه وهو في المسجد فأرجِّلُه (1) . 3054- حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُدني إليَّ رأسه وهو مُجاورٌ في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض، فأغسله وأرَجِّله (2) . 3055- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم   (1) الحديث: 3053- يونس، شيخ الطبري: هو ابن عبد الأعلى الصدفي - بفتح الصاد والدال المهملتين. مضت ترجمته: 1679. ويونس - شيخ ابن وهب: هو ابن يزيد الأيلي. مضت ترجمته: 2377. وهذا الحديث تكرار للذي قبله. وقد رواه يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن -معا- عن عائشة، على الصواب. وقد تابعه على ذلك الليث بن سعد عن الزهري. فرواه البخاري 4: 236، ومسلم 1: 95-96. وأبو داود: 2468، والترمذي 2: 72 - كلهم من طريق الليث، عن الزهري، عن عروة وعمرة -معا- عن عائشة. (2) الحديث: 3054- سفيان بن وكيع: فيه ضعف، كما قدمنا مرارا. ولكنه لم ينفرد بروايته من هذا الوجه، كما سنذكر. فقد رواه ابن ماجه: 1778، عن علي بن محمد، عن وكيع، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البخاري 4: 236، من طريق يحيى و 10: 310، من طريق مالك. ورواه مسلم 1: 96، من طريق أبي خيثمة. ورواه أبو داود: 2469. من طريق حماد بن زيد. والنسائي 1: 68، من طريق مالك أيضًا - كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والحديث مكرر ما قبله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 يعتكفُ فيخرجُ إليَّ رأسه من المسجد وهو عاكفٌ، فأغسِله وأنا حائض (1) . 3056- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا، عن عروة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُخرج رَأسه فأرجّله وهو معتكف (2) . * * * فإذْ كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غَسل عائشة   (1) الحديث: 3055- سفيان: هو ابن وكيع. ابن فضيل: هو محمد. تميم بن سلمة السلمي الكوفي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. والحديث رواه أيضًا النسائي 1: 68، من طريق الفضيل بن عياض، عن الأعمش. بهذا الإسناد. وهو مكرر ما قبله. (2) الحديث: 3056- محمد بن معمر، شيخ الطبري: مضت ترجمته: 241. حماد بن مسعدة البصري: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق، وثقه ابن سعد، وأبو حاتم. وغيرهما. والحديث مكرر ما قبله. وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك - على الصواب: أنه من رواية مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة، وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، دون وساطة"عمرة" بين عروة وخالته عائشة. خلافا للرواية التي في الموطأ بإثبات الوساطة. والتي مضى مثلها: 3052 من رواية معن بن عيسى عن مالك. فكأن مالكا سها في تلك الرواية، حين جعل"عمرة" بين عروة وعائشة، وكان يذكر الصواب أحيانا، فيرويه من حديث عروة عن عائشة مباشرة. والحديث ثابت من رواية عروة عن عائشة، ومن رواية عمرة عن عائشة، سمعه الزهري كذلك من عروة، ومن عمرة، كما بينا في: 3053. وسمعه هشام بن عروة من أبيه عن عائشة، كما مضى في 3054، وفي طرقه التي خرجناها هناك. وكذلك رواه البخاري من هذا الوجه، ولكنه فرقه حديثين بإسناد واحد: فرواه 10: 310، عن عبد الله بن يوسف: "أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة" - فذكره مختصرا. ثم قال: "حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - مثله". وقد تابعه على ذلك معمر - في الزهري. فرواه البخاري 4: 246، من طريق هشام بن يوسف. ورواه النسائي 1: 68، من طريق عبد الأعلى - كلاهما عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. ويؤيده هذه الرويات - في أن عروة رواه عن عائشة مباشرة: رواية مسلم إياه 1: 96، من رواية عمرو بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، دون واسطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن المراد بقوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، غيرُ جميع ما لزمه اسم"المباشرة" = وأنه معنيٌّ به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذا كان ذلك كذلك، وكان مجمَعًا على أنّ الجماع مما عُني به، كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه، وذلك كلُّ ما قام في الالتذاذ مقامه منَ المباشرة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هذه الأشياء التي بيّنتها: من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد، يقول: هذه الأشياءَ حدّدتها لكم، وأمرْتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرَّمتها فيها عليكم، فلا تقرَبوها، وابعُدوا منها أن تركبوها، فتستحقُّوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدّى حُدودي، وخالف أمري وركب معاصيَّ. * * * وكان بعض أهل التأويل يقول:"حدود الله": شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا، غيرَ أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة. وذلك أن"حد" كل شيء: ما حَصره من المعاني وميَّز بينه وبين غيره، فقوله:"تلك حدود الله" من ذلك، يعني به المحارم التي ميّزها من الحلال المطلق فحدَّدها بنعوتها وصفاتها، وعرَّفها عبادَه. * * * ذكر من قال إنّ ذلك بمعنى الشُّروط: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 3057 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: أما"حدود الله" فشروطه. * * * وقال بعضهم:"حدود الله" معاصيه. * ذكر من قال ذلك: 3058 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"تلك حدود الله" يقول: معصية الله - يعني المباشرةَ في الاعتكاف. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: كما بينت لكم أيها الناس واجبَ فرائضي عليكم من الصوم، وعرّفتكم حدودَه وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنُّبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميعَ ذلك لكم - فكذلك أبيِّن أحكامي، وحلالي وحرامي، وحدودي، وأمري ونهيي، في كتابي وتنزيلي، وعلى لسان رسولي صلى الله عليه وسلم للناس. * * * ويعني بقوله:"لعلهم يتقون" يقول: أبيِّن ذلك لهم ليتقوا مَحارمي ومعاصيَّ، ويتجنَّبوا سَخطي وَغضبي، بتركهم رُكوبَ ما أبيِّن لهم في آياتي أني قد حرَّمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل. فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل. ونَظيرُ ذلك قولهُ تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة الحجرات: 11] وقوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النساء: 29] بمعنى: لا يلمزْ بعضكم بعضا، ولا يقتُلْ بعضكم بعضا (1) لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزُه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها، فتقول:"أخي وأخوك أيُّنا أبطش". يعني: أنا وأنت نصْطرع، فننظر أيُّنا أشدّ (2) - فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عندها كنفسه، ومن ذلك قول الشاعر: (3) أخِي وَأَخُوكَ بِبَطْنِ النُّسَيْرِ ... لَيْسَ بِهِ مِنْ مَعَدٍّ عَرِيبْ (4) * * *   (1) انظر ما سلف مثل ذلك في 2: 300، ثم الآية: 85 من سورة البقرة 2: 303 لم يذكر فيها شيئا من ذلك. ولم يبين هذا البيان فيما سلف. وهذا دليل على أنه كان أحيانا يختصر الكلام اختصارا، اعتمادا على ما مضى من كلامه، أو ما يستقبل منه. كما قلت في مقدمة التفسير. (2) انظر تأويل مشكل القرآن: 114، هذا بنصه. (3) هو ثعلبة بن عمرو (حزن) العبدي، ابن أم حزنة. ويقال هو من بني شيبان حليف في عبد القيس. وكان من الفرسان (الاشتقاق لابن دريد: 197) . وانظر التعليق التالي. (4) المفضليات: 513، وتأويل مشكل القرآن: 114، معجم ما استعجم: 1038. وفي المطبوعة: "ليس لنا"، وأثبت ما في المراجع، وكأنها الصواب. ويقال: ليس بالدار عريب، أي ليس بها أحدا. و"النسير"، تصغير"النسر"، وهو مكان بديار بني سليم. بيد أن ياقوت نقل عن الحازمي أنه بناحية نهاوند، واستشهد بهذا البيت. فإن يكن ذلك فابن أم حزنة هذا إسلامي: قال ياقوت، قال سيف: "سار المسلمون من مرج القلعة نحو نهاوند، حتى انتهوا إلى قلعة فيها قوم، ففتحوها، وخلفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة. وفتحها بعد فتح نهاوند، ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي، لأنهم أقاموا مع النسير على القلعة، فسميت به" (انظر تاريخ الطبري 4: 243، 251) . فإن صح أن ابن أم حزنة كان في بعث المسلمين، كان هذا البيت مؤيدا لهذا القول. فإنه يقول له: أنا وأنت ببطن النسير، ليس معنا فيه من أبناء معد (وهم العرب) أحد. وأما عن الحازمي إذا كان الموضع ببلاد العرب، فهو يقول: ليس به أحد، وقوله"من معد" فضول من القول. وقد ترجح عندي أنه شاعر إسلامي، من بعض شعره في المفضليات رقم 74، وفي الوحشيات رقم: 217، (وانظر من نسب إلى أمه رقم: 22، 32) ، وله شعر في حماسة البحتري: 97، 103. وإن صحت رواية الطبري: "ليس لنا من معد عريب". فعريب، في هذا البيت، هو صاحبه الذي ذكره في أول الشعر فقال: إِنَّ عَرِبيًا وَإِنْ سَاءَني ... أَحَبُّ حَبِيبٍ وَأَدْنَى قَرِيبْ فيكون قوله: "معد" مصدر"عد يعد". يقول: أنا وأنت ببطن النسير وحدنا، لا يعد معنا أحد، يعني أنهما خاليين بالمكان، ليس لك من ينصرك ولا لي من ينصرني، فهناك يظهر صاحب للبأس منهما، وقال بعد البيت: فأقْسَم بِاللهِ لاَ يَأتَلِي ... وأقْسَمْتُ إِنْ نلتُهُ لاَ يَؤُوبْ فَأَقْبَلَ نَحْوِي عَلَى قُدْرةٍ ... فَلَمَّا دَنَا صَدَقَتْه الكَذُوبْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 فتأويل الكلام: ولا يأكلْ بعضكم أموال بعضٍ فيما بينكم بالباطل. "وأكله بالباطل": أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه. * * * وأما قوله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" فإنه يعني: وتخاصموا بها - يعني: بأموالكم - إلى الحكام"لتأكلوا فريقا" = طائفة = (1) من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.   (1) انظر ما سلف في تفسير"فريق" 2: 224، 402. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 ويعني بقوله:"بالإثم" بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم (1) "وأنتم تعلمون"، أي: وأنتم تتعمَّدون أكل ذلك بالإثم، على قصد منكم إلى ما حَرّم الله عليكم منه، ومعرفةٍ بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم. (2) . كما: 3059 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام" فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم: آكلٌ حراما. 3060 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تخاصم وأنت ظالم. 3061 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 3062 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالم، فهو آثم حتى يرجع إلى الحق. واعلم يَا ابن آدم أن قَضاء القاضي لا يُحلّ لك حراما ولا يُحقّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرَى ويشهدُ به الشهود، والقاضي بَشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قُضي له بالباطل، فإن خصومته لم تنقض حتّى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبُطل للمحق، بأجود مما قُضي به للمبطل على المحقّ في الدنيا (3) .   (1) انظر ما سلف في تفسير"الإثم" من هذا الجزء 3: 399-408. (2) في المطبوعة: "معصية الله"، خطأ. (3) في المطبوعة: "ويأخذ مما قضي به. . "، والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير 1: 430. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 3063 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنتَ تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يُحلّ لك شيئا كان حراما عليك. 3064 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" أما"الباطل" يقول: يظلم الرجل منكم صاحبَه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام". 3065- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني خالد الواسطي، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال: هو الرجل يشتري السِّلعة فيردُّها ويردُّ معها دَرَاهم. 3066 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بَينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" يقول: يكون أجدل منه وأعرَف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [سورة النساء: 29] قال: هذا القِمار الذي كان يَعمل به أهل الجاهلية. * * * وأصل"الإدلاء": إرسال الرجل الدلو في سَبب متعلقا به في البئر. (1) فقيل للمحتج لدعواه:"أدلَى بحجة كيت وكيت" إذا كان حجته التي يحتج بها سببا   (1) السبب: الحبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 له، هو به متعلقٌ في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدَلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فيهما جميعا - أعني من الاحتجاج، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب:"أدلى فلان بحجته، فهو يُدلي بها إدلاء = وأدلى دلوه في البئر، فهو يدليها إدلاء". * * * فأما قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام"، فإن فيه وَجهين من الإعراب: أحدهما: أن يكون قوله:"وتُدْلوا" جزما عطفا على قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" أي: ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة أُبَيٍّ بتكرير حرف النهي:"وَلا تدلوا بها إلى الحكام". والآخر منهما: النصب على الصرْف، (1) فيكون معناه حينئذ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام، كما قال الشاعر: لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (2) يعني: لا تنه عن خلق وأنتَ تأتي مثله. وهو أنْ يكون في موضع جزم - على ما ذُكر في قراءة أبيّ - أحسن منه أن يكون نَصبا. * * *   (1) في المطبوعة: "على الظرف"، وهو محض خطأ. وقد مضى تفسير معنى"الصرف" في 1: 569-570، واالتعليق: 1. (2) سلف تخريج هذا البيت في 1: 569، إلا أني سهوت فلم أذكر أنه آت في هذا الموضع من التفسير، وفي 9: 146 (بولاق) ، فقيده. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 115. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} قال أبو جعفر: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، جوابا لًهُم فيما سألوا عنه. ذكر الأخبار بذلك: 3067 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قوله:"يَسألُونك عن الأهلة قُلْ هيَ مواقيت للناس"، قال قتادة: سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لم جُعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تَسمعون:"هي مَواقيتُ للناس"، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجّهم، ولعدة نسائهم وَمحلّ دَينهم في أشياء، والله أعلم بما يُصلح خلقه. 3068 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم خُلقت الأهلة؟ فأنزل الله تعالى:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج" جعلها الله مواقيتَ لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وَحلّ ديونهم (1) . 3069- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا   (1) هكذا جاء في هذه الآثار 3068، 3070، 3072، 3073"حل ديونهم". والذي في كتب اللغة: "حل الدين يحل حلولا ومحلا (بكسر الحاء) ": أي وجب. وأستظهر أن يكون هذا المصدر"حلا" بفتح الحاء كنظائرها من اللغة كقولهم: "صد يصد صدا وصدودا"، ولو كسرت الحاء لكان وجها. وهذه الرواية قاضية على صحة هذا المصدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 معمر، عن قتادة في قوله:"مواقيتُ للناس والحج" قال: هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونُسكهم. 3070 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال الناس: لم خلقت الأهلة؟ فنزلت:"يسألونك عن الأهلة قُل هي مواقيت للناس"، لصَومهم وإفطارهم وَحجهم وَمَناسكهم - قال: قال ابن عباس: ووقتَ حجهم، وعدة نسائهم، وَحلّ دَينهم. 3071- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس" فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج. 3072 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، يعني: حَلّ دينهم، ووقت حجهم، وعدة نسائهم. 3073- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حَلّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم. 3074 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي: أنه سئل عن قوله:"مواقيت للناس"، قال: هي مواقيتُ الشهر: هكذا وهكذا وهكذا - وقبض إبهامه - فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثَلاثين (1) . * * *   (1) الخبر: 3074- جابر: هو ابن يزيد الجعفي، بينا أنه ضعيف جدا، في: 2340. وأما شيخه"عبد الله بن يحيى": فما عرفت من هو؟ وأكبر ظني أن الاسم محرف، لم أستطع الوصول إلى صحته. وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير، ولا السيوطي. وإنما أشار إليه ابن كثير إشارة 1: 430. وقد ورد معناه مرفوعا، في حديث صحيح، رواه الحاكم 1: 423، من حديث عبد الله بن عمر. وصححه ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 1: 430، من رواية عبد الرزاق، ثم أشار إلى رواية الحاكم إياه. وذكره السيوطي 1: 203-204، ونسبه أيضًا للبيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 قال أبو جعفر: فتأويل الآية - إذا كان الأمرُ على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنهُ قوله في ذلك-: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ - فقلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة = التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه = مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حَلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس. * * * وأما قوله"والحج"، فإنه يعني: وللحجِّ، يقول: وجعلها أيضًا ميقاتًا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) } قال أبو جعفر: قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون - إذا أحرموا - بيوتَهم من قبل أبوابها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 * ذكر من قال ذلك: 3075- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حَجوا ورَجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظُهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية:"وليسَ البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها" (1) . 3076 - حدثني سفيان بن وكيع، قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كانوا في الجاهلية إذا أحرموا، أتُوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها، فنزلت:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها"..الآية (2) . 3077 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال، سمعت داود، عن قيس بن حبتر: أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه، ولا دارا من بابها أو بيتا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا، وكان رجل من الأنصار يقال له:"رفاعة بن تابوت" فجاء فتسوَّر الحائط، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرَج من باب الدار - أو قال: من باب البيت - خرج معه رفاعة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، رأيتُك خرجتَ منه، فخرجت منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي رجلٌ أحْمس! فقال: إن تكن رَجلا أحْمس، فإنّ ديننا واحد! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليسَ البر بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورها ولكن   (1) الحديث: 3075- رواه أبو داود الطيالسي: 717، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه البخاري مطولا 3: 494، عن أبي الوليد، عن شعبة، بهذا الإسناد. وذكره السيوطي 1: 204، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وسيأتي معناه بإسناد آخر، عقبه. (2) الحديث: 3076- هو مكرر ما قبله. وهو في تفسير وكيع، كما ذكر السيوطي 1: 204. ورواه البخاري 8: 137، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، بهذا الإسناد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" (1) . 3078 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظُهورها" يقول: ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كُوَّات في ظهور البيوت، وأبواب في جنوبها، تجعلها أهل الجاهلية. فنُهوا أن يدخلوا منها، وأمِروا أن يدخلوا من أبوابها. 3079- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3080 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم،   (1) الحديث: 3077- داود: هو ابن أبي هند، مضت ترجمته: 1608. قيس بن حبتر النهشلي التميمي: تابعي ثقة، وثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما. "حبتر": بفتح الحاء المهملة والتاء المثناة بينهما باء موحدة ساكنة. ووقع في المطبوعة هنا"جبير"، وهو تصحيف. ووقع أيضًا هكذا مصحفا في المواضع التي سنشير إليها من الفتح والإصابة والدر المنثور، في هذا الحديث. وهذا إسناد مرسل، لأنه عن تابعي مرفوعا، فهو ضعيف. والحديث ذكره السيوطي 1: 204، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر. وذكره الحافظ في الإصابة 2: 209، من تفسير عبد بن حميد. وذكره أيضًا في الفتح 3: 494، مختصرا، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، وصرح في الموضعين بأنه حديث مرسل. الأحمس: هو المتشدد فيه دينه الصلب. ثم كانت الحمس (جمع أحمس) هم قريش. وخزاعة، لنزولها مكة ومجاورتها قريشا، وكل من ولدت قريش من العرب وكنانة، وجديلة قيس - وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، وبنو عامر بن صعصعة، وكل من نزل مكة من قبائل العرب. فكانت الحمس قد شددوا في دينهم على أنفسهم، فكانوا إذا نسكوا لم يسلأوا سمنا، ولم يطبخوا أقطا، ولم يدخروا لبنا، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا، ولا يبتنون في حجهم شعرا ولا وبرا ولا صوفا ولا قطنا، ولا يأكلون لحما، ولا يلبسون إلا جديدا، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم، ولا يمشون المسجد بأقدامهم تعظيما لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات، يقولون: "نحن أهل الله"، ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم، ويطوفون بالصفا والمروة إذا انصرفوا من مزدلفة، ويسكنون في ظعنهم قباب الأدم الحمر (المحبر لابن حبيب: 178-180، ثم سيرة ابن هشام 1: 211-216 / والطبري في التفسير رقم: 3840) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 قال: كان ناسٌ من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها، فنزلت:"ولكن البر من اتقى" الآية. 3081 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" قال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نَقب كُوَّة في ظهر بيته فجعل سُلَّمًا، فجعل يدخل منها. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين، قال: فأتى الباب ليدخل، فدخل منه. قال: فانطلق الرجل ليدخل من الكوة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فقال: إنّي أحمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أحمس. 3082- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كان ناسٌ من الأنصار إذا أهلُّوا بالعمرة لم يَحل بينهم وبين السماء شيء يتحرَّجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سَقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من وَرَائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. فتخرج إليه من بيته، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ زمنَ الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره، من الأنصار من بني سَلِمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! قال الزهري: وكانت الحُمس لا يبالون ذلك. فقال الأنصاري: وأنا أحمس! يقول: وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها". 3084 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت" الآية كلها. قال قتادة: كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية، إذا أهلَّ أحدُهم بحجّ أو عمرة لا يدخلُ دارا من بابها، إلا أن يتسور حائطا تسوُّرًا، وأسلموا وهم كذلك. فأنزل الله تعالى ذكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها. 3085 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" فإن ناسا من العرَب كانوا إذا حجُّوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا يَنقبون في أدبارِها، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل، قال: يا رسول الله، إني أحمس! - يقول: إنّي محرم - وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون"الحُمس"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أيضا أحمس! فادخل. فدخل الرجل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وأتوا البيوت من أبوابها". 3086 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها"، وأنّ رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدُهم من عَدوِّه شيئا أحرم فأمِن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نَقبا من ظَهر بيته. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجلٌ محرم كذلك - وأنّ أهل المدينة كانوا يُسمُّون البستان"الحُشّ" - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخل بُستانًا، فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجلٌ من ورائه: يا فلان، إنك محرم وقد دخلت! فقال: أنا أحمس! فقال: يا رسول الله، إن كنت محرما فأنا محرم، وإن كنت أحمسَ فأنا أحمسُ! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها"، إلى آخر الآية، فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها. 3087 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 عن أبيه، عن الربيع قوله:"وليسَ البر بأنْ تأتوا البيوتَ من ظهورها ولكن البر مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال: كان أهل المدينة وغيرُهم إذا أحرمُوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوَّرُوها، فكان إذا أحرم أحدُهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قِبَل ظَهره. وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجلٌ على أثره ممن قد أحرم، فأنكروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجل فاجرٌ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت من الباب وقد أحرمت؟ فقال: رأيتك يا رسول الله دخلتَ فدخلتُ على أثرك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! - وقريش يومئذ تُدعى الحُمس - فلما أن قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال الأنصاري: إن ديني دينك! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها" الآية. 3088 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" قال: كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرَوْنه برًّا، فقال:"البر"، ثم نعت"البر" وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها = قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: كانت هذه الآية في الأنصار، يأتون البيوت من ظهورها، يتبرَّرُون بذلك. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البر من اتقى الله فخافه وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيانُ البيوت من ظهورها فلا برَّ لله فيه، فأتوها من حيثُ شئتُم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غيرُ جائزٍ لكم اعتقادُه، لأنه مما لم أحرمه عليكم. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واتقوا الله أيها الناس، فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، واجتناب ما نهاكم عنه، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاءَ في جَنَّاته والخلودَ في نعيمه. * * * وقد بينا معنى"الفلاح" فيما مضى قبلُ بما يدل عليه (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) } قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية. فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كفّ عنهم، ثم نُسخت ب"براءة". * ذكر من قال ذلك: 3089 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله:"وقاتلُوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين" قال: هذه أوّل آية نزلت في القتال   (1) انظر ما سلف 1: 249-250. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله، ويكفُّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت"براءة"- ولم يذكر عبد الرحمن:"المدينة". 3090 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" إلى آخر الآية، قال: قد نسخ هذا! وقرأ قول الله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] ، وهذه الناسخة، وقرأ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) حتى بلغ: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: 1-5] . * * * وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار، لم ينسخ. وإنما الاعتداءُ الذي نهاهم الله عنه، هو نهيه عن قتل النساء والذَّراريّ. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابتٌ حُكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية. * ذكر من قال ذلك: 3091 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن صَدقة الدمشقي، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله:"وقاتلوا في سَبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحب المعتدين"، قال: فكتب إليّ:"إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم". 3092 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بقتال الكفار. 3093- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 3094 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم. 3095- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة:"إني وَجَدتُ آية في كتاب الله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد. * * * وقد دَللنا على معنى"النسخ"، والمعنى الذي من قبَله يَثبت صحة النسخ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) . * * * فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا -: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله = وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده = يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال (2) من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا، فذلك معنى قوله:"قاتلوا في سبيل الله الذين   (1) انظر ما سلف 2: 471-483، وهذا الجزء 3: 385. (2) في المطبوعة في الموضعين: "فيه قتال"، وهو خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 يقاتلونكم" لأنه أباح الكف عمّن كف، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا. فمعنى قوله:"ولا تعتدوا": لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابَين والمجوس،"إنّ الله لا يُحب المعتدين" الذين يجاوزون حدوده، فيستحلُّون ما حرَّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حَرَّم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم (1) . * * *   (1) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 376 ثم: 573. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مَقاتلهم وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله:"حيث ثقفتموهم". * * * ومعنى"الثِّقْفَة" بالأمر (1) الحِذق به والبصر، يقال:"إنه لثَقِفَ لَقفٌ"، إذا كان جيد الحَذر في القتال، بصيرا بمواقع القتل. وأما"التَّثْقيف" فمعنى غير هذا، وهو التقويم. * * * فمعنى:"واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم، وأبصرتم مقاتلهم. * * *   (1) هذا مصدر لم أجده في كتب اللغة، وكأنه كما ضبطته بكسر الثاء على وزن"حكمة ونشدة". والذي ذكروه: "ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 وأما قوله:"وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" فإنه يُعنى بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة، فقال لهم تعالى ذكره: أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم - وقد أخرجوكم من دياركم - من مساكنهم وديارهم كما أخرجوكم منها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والفتنة أشد من القتل"، والشرك بالله أشدُّ من القتل. * * * وقد بينت فيما مضى أن أصل"الفتنة" الابتلاءُ والاختبار (1) * * * فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجعَ عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتل مقيمًا على دينه متمسكا عليه، مُحقًّا فيه. كما: 3096 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: ارتداد المؤمن إلى الوَثن أشدُّ عليه من القتل. 3097- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 3098 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والفتنة أشدُّ من القتل" يقول: الشرك أشدُّ من القتل.   (1) انظر ما سلف 2: 444. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 3099- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. 3100- حدثت عن عمار بن الحسن، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والفتنة أشدُّ من القتل" يقول: الشرك أشدُّ من القتل. 3101 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الشرك. 3102- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد في قوله:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الفتنة الشركُ. 3103- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الشرك أشدُّ من القتل. 3104- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله جل ذكره:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: فتنة الكفر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) } قال أبو جعفر: والقَرَأةُ مختلفة في قراءة ذلك. فقرأته عامَّة قراء المدينة ومكة:"ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" بمعنى: ولا تبتدئوا - أيها المؤمنون - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 المشركين بالقتال عند المسجد الحرام، حتى يبدأوكم به، فإن بدأوكم به هناك عند المسجد الحرَام في الحرم، فاقتلوهم، فإن الله جعل ثَواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة، القتلُ في الدنيا، والخزي الطويل في الآخرة، كما: 3105- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه" كانوا لا يُقاتلون فيه حتى يُبدأوا بالقتال، ثم نسخ بعدُ ذلك فقال:"وَقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" = حتى لا يكون شركٌ ="ويكون الدين لله" = أن يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل نبيُّ الله، وإليها دعا. 3106- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم"، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدأوا فيه بقتال، ثم نسخ الله ذلك بقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: 5] فأمر الله نبيَّه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحِلِّ والحرَم وعند البيت، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسولُ الله. 3107- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" فكانوا لا يقاتلونهم فيه، ثم نسخ ذلك بعدُ فقال:"قاتلوهم حتى لا تكون فتنة". * * * وقال بعضُهم: هذه آيةٌ محكمة غيرُ منسوخة. * ذكر من قال ذلك: 3108- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن قاتلوكم" في الحرم فَاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين، ل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 اتقاتل أحدا فيه، فمن عَدا عليك فقاتلك فقاتِله كما يقاتلك. * * * وقرأ ذلك عُظْم قراء الكوفيين:"ولا تَقْتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يَقْتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم" بمعنى: ولا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به. * ذكر من قال ذلك: 3109 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن أبي حماد، عن حمزة الزيات قال: قلت للأعمش: أرأيت قراءتك:"ولا تَقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم كذلك جَزاءُ الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رَحيم"، إذا قَتلوهم كيف يقتلونهم؟ قال: إن العرب إذا قُتل منهم رجل قالوا:"قُتلنا"، وإذا ضُرب منهم رجل قالوا:"ضربنا" (1) . * * * قال أبو جعفر: وأولى هاتين القراءتين بالصواب، قراءةُ من قرأ:"ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حالٍ = إذا قاتلهم المشركون = بالاستسلام لهم حتى يَقتلوا منهم قتيلا بعد ما أذن لَهُ ولهم بقتالهم، فتكونَ القراءة بالإذن بقتلهم بعد أن يَقتلوا منهم، أولى من القراءة بما اخترنا. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه قد كان تعالى ذكره أذِن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من المشركين قَبل أن يقتلوا منهم قتيلا وبعد أن يقتلوا منهم قتيلا. وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"،   (1) الخبر: 3109- عبد الرحمن بن أبي حماد سكين الكوفي: ترجمه ابن الجزري في طبقات القراء 1: 369-370، وذكر أنه أخذ القراءة عن حمزة الزيات، "وهو أحد الذين خلفوه في القيام بالقراءة". وأما شيخه -في هذا الإسناد-"أبو حماد": فلا ندري من هو؟ والظن أنه زيادة خطأ من الناسخين. وهكذا ظن أخي السيد محمود، أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 وقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: 5] ونحو ذلك من الآيات. * * * وقد ذكرنا بعضَ قول من قال هي منسوخة، وسنذكر قول من حضرنا ذكرُه ممن لم يُذكر. 3110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" قال: نسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . 3111- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه" قال: حتى يبدأوكم، كان هذا قد حُرِّم فأحل الله ذلك له، فلم يزل ثابتا حتى أمره الله بقتالهم بعدُ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) } قال أبوجعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله، فتركوا ذلك وتابوا،"فإن الله غفور" لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه، وأناب إلى الله من معاصيه التي سلفت منه وأيامه التي مَضت ="رحيم" به في آخرته بفضله عليه، وإعطائه ما يعطى أهل طاعته من الثواب بإنابته إلى محبته من معصيته. كما: 3112 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن انتهوا" = فإن تابوا ="فإن الله غفورٌ رَحيم". * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة = يعني: حتى لا يكون شركٌ بالله، وحتى لا يُعبد دونه أحدٌ، وتضمحلَّ عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكونَ العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، كما قال قتادة فيما: 3113- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون شرك. 3114- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وقاتلوهم حَتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون شرك. 3115 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: الشرك"ويكون الدِّين لله". 3116- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 3117 - حدثني موسى بن هارون، قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: أما الفتنة فالشرك. 3118 - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنة"، يقول: قاتلوا حتى لا يكون شِرك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 3119 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وقاتلوهم حَتى لا تكونَ فتنة" أي شركٌ. 3120- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون كفر، وقرأ (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [سورة الفتح: 16] . 3121- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" يقول: شركٌ. * * * وأما"الدين"، الذي ذكره الله في هذا الموضع (1) فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه، من ذلك قول الأعشى: هُوَ دَانَ الرِّبَابَ، إِذْ كَرِهُوا الدِّي ... نَ، دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (2) يعني بقوله:"إذ كرهوا الدين"، إذ كرهوا الطاعة وأبوْها. * * *   (1) انظر معنى"الدين" فيما سلف 1: 155، 221. (2) ديوانه: 12 وسيأتي في التفسير 3: 141 (بولاق) ، قالها في مدح الأسود بن المنذر اللخمي، أخي النعمان بن المنذر لأمه، وأم الأسود من تيم الرباب. هذا قول أبي عبيدة، والصواب ما قال غيره: أنه قالها في مدح المنذر بن الأسود، وكان غزا الحليفين أسدا وذبيان، ثم أغار على الطف، فأصاب نعما وأسرى وسبيا من رهط الأعشى بني سعد بن ضبيعة بن ثعلبة، والأعشى غائب. فلما قدم وجد الحي مباحا. فأتاه فأنشده، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم، ففعل. والرباب (بكسر الراء) هم بنو عبد مناة بن أد: تيم وعدي وعوف وثور، اجتمعوا فتحالفوا مع بني عمهم ضبة بن أد، على بني عمهم تميم بن أد. فجاؤوا برب (تمر مطبوخ) فغمسوا فيه أيديهم، فسموا"الرباب"، ثم خرجت ضبة عنهم، واكتفت بعددها. وقوله: "دان الرباب" أي أذلهم واستعبدهم وحملهم على الطاعة. وقوله: "دراكا"، متتابعا يدرك بعضه بعضا. والصيال: السطرة. صال على عدوه: وثب عليه وسطا. يقول تابع غزوهم والسطو حتى دانو بالطاعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 3122- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ويكونَ الدِّينُ لله" يقول: حتى لا يُعبد إلا الله، وذلك"لا إله إلا الله"، عليه قاتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّي أمرتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عَصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله". 3123- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويكون الدِّينُ لله" أن يقال:"لا إله إلا الله". ذُكِر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إنّ الله أمرَني أن أقاتِل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله". ثم ذكر مثل حديث الربيع. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن انتهوا" فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودَخلوا في ملّتكم، وأقرُّوا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجهادَهم، فإنه لا ينبغي أن يُعتدى إلا على الظالمين -وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غيرَ خالقهم. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال:"فَلا عُدوان إلا على الظالمين"؟ (1) . قيل: إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة، لما كان من المشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم، كما يقال:"إن تَعاطيتَ منّي ظلما تعاطيته منك"، والثاني ليس بظلم، كما قال عمرو بن شأس الأسديّ: جَزَيْنَا ذَوِى العُدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ ... قِصَاصًا، سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ (2) وإنما كان ذلك نظير قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة: 15] و (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: 79] وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مَضى قبلُ (3) . * * * وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 3124 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فلا عُدوان إلا على الظالمين" والظالم الذي أبى أن يقول:"لا إله إلا الله". 3125 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع."فلا عُدوان إلا على الظالمين" قال: هم المشركون. 3126 - حدثني المثنى، قال، ثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث، قال، سمعت عكرمة في هذه الآية:"فلا عدوان إلا على الظالمين"،   (1) انظر معنى"العدوان" فيما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 376، 564. (2) لم أجد البيت، وشعر عمرو بن شأس على كثرته وجودته، قد ضاع أكثره. (3) انظر ما سلف 1: 301-306. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 قال: هُم من أبى أن يقول:"لا إله إلا الله". * * * وقال آخرون: معنى قوله:"فلا عدوان إلا على الظالمين" فلا تقاتل إلا من قاتل. * ذكر من قال ذلك: 3127 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين" يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم. 3128- حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3129 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال:"فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين" فإنّ الله لا يحب العُدوان على الظالمين ولا على غيرهم، ولكن يقول: اعتدُوا عليهم بمثل ما اعتدوْا عليكم. * * * قال أبو جعفر: فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله:"فإن انتهوْا فلا عُدوان إلا على الظالمين" لا يجوز أن يقول:"فإن انتهوا" إلا وقد علم أنهم لا يَنتهون إلا بعضهم، فكأنه قال: فإن انتهى بعضُهم، فلا عُدوان إلا على الظالمين منهم، فأضمر كما قال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة: 196] يريد: فعليه ما استيسر من الهدي، وكما يقول:"إلى مَن تقصد أقصد" يعني: إليه. وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله: فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيم لمن انتهى، ولا عُدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 القول في تأويل قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"الشهر الحرام بالشهر الحرام" ذا القعدة، وهو الشهر الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فيه عُمرة الحديبية، فصدّه مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة، سنة ست من هجرته، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنة، على أن يعود من العام المقبل، فيدخل مكة ويقيم ثلاثا، فلما كان العامُ المقبل، وذلك سنة سبع من هجرته، خرج معتمرا وأصحابه في ذي القَعدة - وهو الشهر الذي كان المشركون صدُّوه عن البيت فيه في سنة ست- وأخلى له أهل مكة البلد حتى دخلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقضى حاجته منها، وأتم عمرته، وأقام بها ثلاثا، ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة، فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين مَعه"الشهرُ الحرام" = يعني ذا القَعدة، الذي أوصَلكم الله فيه إلى حَرمَه وبيته، على كراهة مشركي قُريش ذلك، حتى قضيتم منه وَطَركم ="بالشهر الحرام"، الذي صدكم مشركو قريش العامَ الماضيَ قَبله فيه حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم، فلم تدخلوه، ولم تصلوا إلى بيت الله، فأقصَّكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصدّ والمنْع من الوصول إلى البيت. كما: 3130 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف - يعني: ابن خالد السَّمْتيّ - قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"والحرمات قصاص" قال: هم المشركون، حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 في ذي القَعدة، فَرَجَعه الله في ذي القَعدة فأدخله البيتَ الحرام، فاقتص له منهم (1) . 3131 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرماتُ قِصَاص" قال: فخرت قريش بردِّها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية محرِما في ذي القَعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القَعدة، فقضى عُمرته، وأقصَّه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية. 3132- حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3133 - حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قِصَاص" أقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا في ذي القَعدة ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدّهم المشركون، فصالحهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فنحروا الهدْي بالحديبية، وحلَّقوا وَقصَّروا. حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبيُّ الله وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، فأقاموا بها ثلاث ليال، فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فأقصَّه الله منهم، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القَعدة، فقال الله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص".   (1) الخبر: 3130- محمد بن عبد الله بن بزيع -بفتح الباء الموحدة وكسر الزاي- شيخ الطبري: ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره، وروى عنه مسلم في صحيحه. وقد مضى مثل هذا الإسناد، ولكن حرف فيه اسم جده إلى"زريع"، وذكرنا أنه غير معروف، واحتمال أن يكون صوابه"بن بزيغ" في: 2451- فقد تبين الصواب هنا. يوسف بن خالد السمتي: ضعيف جدا كذاب، كما ذكرنا في ذاك الإسناد، ووقع في المطبوعة هنا"السهمي"، بدل"السمتي". وهو خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 3134 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن عثمان، عن مقسم في قوله:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص" قالا كان هذا في سَفر الحديبية، صدَّ المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام، فقاضوا المشركين يومئذ قضيّة: (1) أنّ لكم أن تعتمروا في العام المقبل - في هذا الشهر الذي صدُّوهم فيه، فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرًا حرامًا يعتمرون فيه، مكانَ شهرهم الذي صُدُّوا، فلذلك قال:"والحُرمات قصَاص". 3135 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاص" قال: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستٍّ من مُهاجَره، صدَّه المشركون وأبوا أن يتركوه، ثم إنهم صالحوه في صُلحهم على أن يُخْلوا له مكة من عام قابل ثلاثةَ أيام، يخرجون ويتركونه فيها، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خَيْبر من السنة السابعة، فخَلَّوْا له مكة ثلاثة أيام، فنكح في عُمرته تلك مَيمونة بنت الحارث الهلالية. 3136 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الشهرُ الحرَام بالشهر الحرام والحرماتُ قِصاص"، أحصَرُوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدة عن البيت الحرام (2) فأدخله الله البيت الحرامَ العامَ المقبلَ، واقتصَّ له منهم، فقال:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصاص". 3137 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) قاضي الرجل يقاضيه قضاء وقضية. حاكمه في مخاصمة، وانتهى معه إلى قضاء فصل وحكم يتراضيانه. وفي صدر صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد" أي صالح. وبذلك سميت عمرة الحديبية هذه"عمرة القضية"، و"عمرة الصلح. (2) أحصره المرض وغيره: منعه وحبسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 عن أبيه، عن الربيع، قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرَموا بالعمرة في ذي القَعدة ومعهم الهدْي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع ذلك العامَ حتى يرجع العامَ المقبل، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة. فنحروا الهديَ بالحديبية وحلَّقوا وقصَّروا. حتى إذا كانوا من العام المقبل، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، وأقاموا بها ثلاثة أيام، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فقاصَّ الله له منهم، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القعدة. قال الله جل ثناؤه:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص". 3138- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والحُرمات قصاص" فهم المشركون، كانوا حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت، ففخروا عليه بذلك، فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله الله البيت الحرام واقتصَّ له منهم. 3139 - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام" حتى فرغ من الآية، قال: هذا كله قد نُسخ، أمرَه أن يجاهد المشركين. وقرأ: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] وقرأ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [سورة التوبة: 123] العرب، فلما فرغ منهم، قال الله جل ثناؤه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) حتى بلغ قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29] قال: وهم الروم. قال: فوَجَّه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3140 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 والحرماتُ قصاص" قال: أمركم الله بالقصاص، [ويأخذ] منكم العدوان (1) . 3141 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال، قلت لعطاء، وسألته عن قوله:"الشهر الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصاص" قال: نزلت في الحديبية، مُنعوا في الشهر الحرام، فنزلت:"الشهر الحرام بالشهر الحرام": عمرة في شهر حرام، بعمرة في شهر حرام. * * * قال أبو جعفر: وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القَعدة"الشهرَ الحرام"، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرِّم فيه القتال والقتل، وتضع فيه السلاح، ولا يقتل فيه أحدٌ أحدًا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه. وإنما كانوا سموه"ذا القَعدة" لقعودهم فيه عن المغازي والحروب، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تُسمِّيه به. * * * وأما"الحرمات" فإنها جمع"حُرْمة"،"كالظلمات" جمع"ظلمة"،"والحجرات" جمع"حُجرة". وإنما قال جل ثناؤه:"والحرمات قصاص" فجمع، لأنه أراد: الشهرَ الحرام، والبلد الحرام وحُرمة الإحرام. * * * فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه: دخولكم الحرَم، بإحرامكم هذا، في شهركم هذا الحرام، قصاصُ مما مُنعتم من مثله عامَكم الماضي، وذلك هو"الحرمات" التي جعلها الله قصَاصًا. * * * وقد بينا أن"القصاص" هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البَدن، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل (2) . * * *   (1) ما بين القوسين هكذا في الأصل. ولم أجد الخبر في مكان. وهو خطأ لا شك فيه، أو بين الكلامين خرم لم أتبينه. والمعنى على كل حال: أمركم الله بالقصاص، وكره منكم العدوان، أي أمرهم أن يقتصوا ولا يعتدوا. هذا ما أرجحه إن شاء الله. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 357-366. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما نزل فيه قوله:"فمن اعتدَى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم". فقال بعضهم بما: 3142- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل، وليس لهم سلطانٌ يقهرُ المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين، مَنْ يجازي منهم أن يجازِيَ بمثل ما أُتي إليه أو يصبر أو يعفوَ فَهو. أمثل فلما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأعزّ الله سلطانه أمرَ المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سُلطانهم، وأن لا يعدوَ بعضهم على بعض كأهل الجاهلية. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن قاتلكم أيها المؤمنون من المشركين، فقاتلوهم كما قاتلوكم. وقالوا: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبعد عُمرة القضيَّة. * ذكر من قال ذلك: 3143 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم. * * * قال أبو جعفر: وأشبه التأويلين بما دلّ عليه ظاهر الآية، الذي حُكي عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 مجاهد، لأن الآيات قبلها إنما هي أمرٌ من الله للمؤمنين بجهاد عدوهم على صفة، وذلك قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" والآيات بعدها، وقوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" إنما هو في سياق الآيات التي فيها الأمرُ بالقتال والجهاد، واللهُ جل ثناؤه إنما فرض القتال على المؤمنين بعد الهجرة. فمعلوم بذلك أن قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" مدنيّ لا مكيّ، إذ كان فرضُ قتال المشركين لم يكن وَجَب على المؤمنين بمكة، وأنّ قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" نظيرُ قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" وأن معناه: فمن اعتدى عليكم في الحَرم فقاتَلكم فاعتدوا عليه بالقتال نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم، لأني قد جعلتُ الحُرمات قصاصًا، فمن استحلّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمي، فاستحلوا منه مثله فيه. وهذه الآية منسوخة بإذن الله لنبيه بقتال أهل الحرَم ابتداءً في الحرم وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] * * * ... (1) على نحو ما ذكرنا، من أنه بمعنى: المجازاة وإتباع لفظٍ لفظًا، وإن   (1) وضعت هذه النقط، وفصلت بين قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" وقوله: "على نحو ما ذكرنا" لوجود خرم لا شك فيه. فإنه سيقول بعد أسطر: "والآخر: أن يكون بمعنى العدو". فهو بصدد تفسير قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"، من جهة اللغة. ولا صلة بين كلامه في الآية أهي منسوخة أم غير منسوخة. وقوله: "والآخر" دليل على أنه يذكر وجهين من تفسير"اعتدى" أهي من"العدوان"، أم من"العدو". وكأن كلام الطبري في موضع هذا الخرم كان: [وأما قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) . ففي"الاعتداء" وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون"الاعتداء" من"العُدْوَان"، وَهوَ مجاوزة الحدّ ظُلْمًا وَبغيًا. ويكون معنى الآية: فمن جاوز حدّه ظُلْمًا وَبغيًا، فقاتلكم في الشهر الحرام فكافِئُوه بمثل ما فعل بكم، على نحو ما ذكرنا من أنه. .] هذا ما استظهرته من تفسير الطبري فيما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 375، 376، 564، 573 ثم يبقى خرم قبل ذلك في كلامه عن الآية، منسوخة هي أم غير منسوخة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 اختلف معنياهما، كما قال: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) [سورة آل عمران: 54] وقد قال: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: 79] وما أشبه ذلك مما أتبع لفظٌ لفظًا واختلف المعنيان (1) . * * * والآخر: أن يكون بمعنى"العدو" الذي هو شدٌّ ووثوب. من قول القائل:"عدا الأسد على فَريسته". فيكون معنى الكلام: فمن عَدا عليكم - أي فمن شد عليكم وَوثب - بظلم، فاعدوا عليه - أي فشُدُّوا عليه وثبُوا نحوَه - قصاصًا لما فعل عليكم لا ظلمًا. ثم تُدخل"التاء""في عدا"، فتقال:"افتعل" مكان"فعل"، كما يقال:"اقترب هذا الأمر" بمعنى"قرب"، و"اجتلب كذلك" بمعنى"جَلب" وما أشبه ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: واتقوا الله أيها المؤمنون في حُرُماته وحدوده أن تعتَدُوا فيها، فتتجاوزوا فيها ما بيَّنه وحدَّه لكم، واعلموا أن الله يُحب المتقين، الذين يتقونه بأداء فَرائضه وتجنب محارمه. * * *   (1) انظر ما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 3: 375، 376، 564، 573. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية، ومن عَنى بقوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة". فقال بعضهم: عنى بذلك:"وأنفقوا في سبيل الله" - و"سبيل الله" (1) طريقه الذي أمر أن يُسلك فيه إلى عدوِّه من المشركين لجهادهم وَحرْبهم ="ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" - يقول: ولا تتركوا النفقة في سبيل الله، فإن الله يُعوِّضكم منها أجرًا ويرزقكم عاجلا (2) . * ذكر من قال ذلك: 3144 - حدثني أبو السائب سلم بن جُنادة والحسن بن عرفة قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سفيان، عن حذيفة:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: يعني في ترك النفقة. 3145- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة = وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة = وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الأعمش = وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم = جميعا، عن شقيق، عن حذيفة، قال: هو ترك النفقة في سبيل الله.   (1) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 2: 497، وهذا الجزء 3: 564. (2) هكذا في المطبوعة: "أجرًا" وأخشى أن تكون محرفة عن"آجلا"، ليكون السياق مطردا على وجهه، وذلك أحب إلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 3146- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: تنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا مِشْقَصٌ - أو: سَهمٌ - شعبة الذي يشك في ذلك (1) . 3147- حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن منصور، عن أبي صالح الذي كان يحدث عنه الكلبي، عن ابن عباس قال: إن لم يكن لَكَ إلا سَهم أو مشقصٌ أنفقته. 3148- حدثني ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: في النفقة. 3149- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله. 3150 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عكرمة، قال: نزلت في النفقات في سبيل الله، يعني قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة". 3151- حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب، قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة" قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزوَّد الرجل، فكان أفضل زادًا من الآخر. أنفقَ البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء، أحبَّ أن   (1) المشقص: نصل السهم، إذا كان طويلا غير عريض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 يواسيَ صاحبه، فأنزل الله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة". 3152- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شيبان، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: لا يقولنَّ أحدكم إنّي لا أجد شيئًا، إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهَّز به في سبيل الله. 3153 - حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر، قال: سمعت داود - يعني: ابنَ أبي هند - عن عامر: أن الأنصارَ كان احتبس عليهم بعضُ الرزق، وكانوا قد أنفقوا نَفقاتٍ، قال: فَساءَ ظنُّهم (1) وأمسكوا. قال: فأنزل الله:"وأنفقوا في سَبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم. 3154 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: تمنعكم نَفقةً في حقٍّ خيفةُ العَيْلة (2) . 3155 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: وكان قتادة يحدِّث أن الحسن حَدَّثه -: أنهم كانوا يُسافرون ويَغزُون ولا ينفقون من أموالهم = أو قال: ولا ينفقون في ذلك = فأمرهم الله أن يُنفقوا في مَغازيهم في سبيل الله.   (1) قوله: "ساء ظنهم"، أي خامرتهم الظنون السيئة القبيحة، وشكوا. والعرب تستعمل"ساء ظنه" في مواضع كثيرة للدلالة على معاني مختلفة، وقد بينت ذلك في مجلة الرسالة، العدد: 910 (20 صفر سنة 1370، ديسمبر 1950) وفي طبقات فحول الشعراء: 510، تعليق: 1. (2) عال الرجل يعيل عيلا وعيلة: افتقر. وفي كتاب الله: (وَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) العائل: الفقير المحتاج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 3156 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يقول: لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله. 3157 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأنفقوا في سبيل الله" = أنفق في سبيل الله ولو عقالا ="ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" - تقول: ليس عندي شيء (1) . 3158 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن عكرمة في قوله:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: لما أمر الله بالنفقة، فكانوا - أو بَعضُهم - يقولون: ننفق فيذهبُ مالنا ولا يبقى لما شيء! قال: فقال: أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: أنفقوا وأنا أرزقكم. 3159 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: نزلت في النفقة. 3160 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن همام الأهوازي، قال، أخبرنا يونس، عن الحسن في"التهلكة" قال: أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله، وأخبرهم أن تَرك النفقة في سبيل الله التهلكة. 3161 - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: يقول: أنفقوا في سبيل الله ما قل وكثر - قال: وقال لي عبد الله بن كثير: نزلت في النفقة في سبيل الله. 3162- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي   (1) العقال: الحبل الذي يعقل به البعير، أي يشد به وظيفه مع ذراعه، حتى لا يقدر على الحركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 صالح، عن ابن عباس، قال: لا يقولنّ الرجل لا أجد شيئا! قد هَلكتُ! فليتجهَّز ولو بمشقَص. 3163- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثنى عمي، قال، حدثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يقول: أنفقوا مَا كان من قليل أو كثير. ولا تستسلموا ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا. 3164- حدثني المثنى، قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال:"التهلكة": أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله. 3165- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، فتدعوا النفقة في سبيل الله. * * * وقال آخرون ممن وجَّهوا تأويل ذَلك إلى أنه معنيَّة به النفقة: معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة. * ذكر من قال ذلك: 3166- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: إذا لم يكن عندك ما تنفق، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة: فتلقي بيدَيك إلى التهلكة. * * * وقال آخرون: بل معناه: أنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم - فيما أصبتم من الآثام - إلى التهلكة، فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رَحمته واعملوا الخيرات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 * ذكر من قال ذلك: 3167 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: هو الرجل يُصيبُ الذنوبَ فيُلقي بيده إلى التهلكة، يقول: لا توبة لي. 3168- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: سأله رجل: أحْمل على المشركين وَحدي فيقتلوني، أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟ فقال: لا إنما التهلكة في النفقة. بعثَ الله رسوله، فقال: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ) [سورة النساء: 84] . 3169- حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع، قالا حدثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب في قول الله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: هو الرجل يُذنب الذنبَ فيقول: لا يغفر الله لهُ. 3170- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء = وسأله رجل فقال: يا أبا عُمارة، أرأيتَ قول الله:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، أهو الرجل يتقدم فيقاتل حَتى يُقتل؟ = قال: لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي، ثم يلقي بيده ولا يتوب. 3171- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، وسأله رَجل فقال: الرجلُ يحمل على كتيبةٍ وحده فيقاتل، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال: لا ولكن التهلكة أن يُذنب الذنبَ فيلقي بيده، فيقول: لا تقبل لي توبة. 3172- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن الجراح، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة، الرجل يَلقى ألفًا من العدو فيحمل عليهم، وإنما هو وحده، أيكون ممن قال:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 فقال: لا ليقاتل حتى يُقتل! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ) . 3173 - حدثنا مجاهد بن موسى، قال، أخبرنا يزيد، قال، أخبرنا هشام = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام = عن محمد قال: وسألت عبيدة عن قول الله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الآية. فقال عبيدة: كان الرجل يذنب الذنبَ - قال: حسبْته قال: العظيم - فيلقي بيده فيستهلك = زاد يعقوب في حديثه: فنُهوا عن ذلك، فقيل:"أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". 3174- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: هو الرجل يذنب الذنبَ فيستسلم، ويلقي بيده إلى التهلكة، ويقول: لا توبة له! يعني قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة". 3175- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، أخبرنا أيوب، عن محمد، عن عبيدة في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده. 3176- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: القُنوط. 3177- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن يونس وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم، يقول: لا توبة لي! فيلقي بيده. 3178- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، قال، حدثني أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: هي في الرجل يصيبُ الذنبَ العظيم فيلقي بيده، ويَرى أنه قد هلك. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تتركوا الجهاد في سبيله. * ذكر من قال ذلك: 3179 - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني حَيْوَة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: غَزونا المدينة، يريد بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عُقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال: فصففنا صفَّين لم أر صَفين قط أعرضَ ولا أطولَ منهما، والروم مُلصقون ظهورهم بحائط المدينة، قال: فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: مَهْ! لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأوّلونَ هذه الآية هكذا، أنْ حَمل رجلٌ يُقاتل يلتمس الشهادة، أو يُبلي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا مَعشرَ الأنصار! إنا لما نَصرَ الله نبيه وأظهرَ الإسلام، قُلنا بَيننا معشرَ الأنصار خَفيًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبرَ من السماء:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نُقيم في أموالنا ونُصلحها، وندعُ الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يُجاهدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية (1) . 3180- حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد قالا حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، قال، أخبرني حيوة وابن لهيعة، قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب، قال، حدثني أسلم أبو عمران مولى تُجِيب، قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله   (1) الحديث: 3179- حيوة: هو ابن شريح. أسلم أبو عمران: نسبه التهذيب بأنه"أسلم بن يزيد" وهو تابعي ثقة، كان وجيها بمصر. وهو مولى تجيب. وسيأتي تخريج الحديث، في الرواية التالية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 عليه وسلم، وعلى أهل الشام فَضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة صفٌّ عظيم من الروم، قال: وصففنا صفًّا عظيمًا من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صَفّ الروم حتى دخلَ فيهم، ثم خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار! إنا لما أعزّذ الله دينه وكثَّر ناصريه، قلنا فيما بيننا بعضُنا لبعض سرًّا من رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضَاع منها! فأنزل الله في كتابه يرُدُّ علينا ما هممنا به، فقال:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها، فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب غازيًا في سبيل الله حتى قبضَه الله (1) . * * *   (1) الحديث: 3180- أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ: ثقة معروف، من شيوخ أحمد والبخاري، وكان إماما في الحديث، مشهورا في القراءات، أقرأ القرآن بالبصرة 36 سنة، ثم بمكة 35 سنة. وهو مولى آل عمر بن الخطاب. ووهم ابن حزم فيه وهمًا عجيبًا، فأخطأ خطأ طريفا: جعله عربيا حميريا، ثم من"بني سبيع"! ثم نسبه إلى حي زعم أن اسمه"مقر"، بضم الميم وسكون القاف! فقال في جمهرة الأنساب، ص: 409"ومن ولد سبيع المذكور: مقر، حي ضخم، إليه ينسب عبد الله بن يزيد المقري (يعني بدون همزة) ، ولم يكن مقرئا للقراءات، وإنما كان محدثا"!! وأخطأ ابن حزم وشبه له، فأتى بقبيلة لم يذكرها أحد قط - فيما نعلم. وإنما انتقل نظره إلى شيء آخر بعيد، إلى"عبد الرحمن بن عبد القاري" بتشديد الياء دون همزة، من ولد"القارة بن الديش". وهو تابعي، ولم يك مقرئا. فإلى هذا ذهب وهمه. ثم لا ندري كيف وضع القبيل الذي اخترعه، في"بني سبيع"!! ووقع في المطبوعة هنا"ثنا أبو عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد". وهو خطأ في زيادة"عن". و"أبو عبد الرحمن" كنية"عبد الله بن يزيد"، ليس راويا آخر. والحديث رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 599، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة. ورواه أبو داود السجستاني: 2512، من طريق ابن وهب، عن حيوة وابن لهيعة. ورواه الترمذي 4: 72-73، من طريق أبي عاصم النبيل، عن حيوة. وقال: "حديث حسن غريب صحيح". ورواه الحاكم في المستدرك 2: 275، من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة، وحده. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر: 269-270، بإسنادين: رواه عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد. ورواه عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة بن شريح - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، به. وقوله في الرواية الماضية"غزونا المدينة، يريد القسطنطينية" - هكذا ثبت في المطبوعة هنا. ولفظ أبي داود السجستاني: "غزونا من المدينة، نريد القسطنطينية". ولعل ما هنا أجود وأصح، فإن أسلم أبا عمران مصري. والظاهر من السياق أن الجيش كان من مصر والشام. وقوله في تلك الرواية: "وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد" يدل على أن هذه الغزوة كانت في سنة 46 أو قبلها، لأن عبد الرحمن مات تلك السنة. وهذه الغزوة غير الغزوة المشهورة التي مات فيها أبو أيوب الأنصاري. وقد غزاها يزيد بن معاوية بعد ذلك سنة 49، ومعه جماعات من سادات الصحابة. ثم غزاها يزيد سنة 52، وهي التي مات فيها أبو أيوب رضي الله عنه، وأوصى إلى يزيد أن يحملوه إذا مات، ويدخلوه أرض العدو، ويدفنوه تحت أقدامهم حيث يلقون العدو. ففعل يزيد ما أوصى به أبو أيوب. وقبره هناك إلى الآن معروف. انظر طبقات ابن سعد 3/2/49-50، وتاريخ الطبري 6: 128، 130، وتاريخ ابن كثير 8: 30-31، 32، 58-59. وتاريخ الإسلام للذهبي 2: 231، 327-328. وقوله في هذه الرواية الثانية"وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد" - هذا هو الصواب الثابت في رواية الطيالسي، وابن عبد الحكم، والحاكم. ووقع في رواية الترمذي"وعلى الجماعة فضالة بن عبيد". وهو وهم، لعله من الترمذي أو من شيخه عبد بن حميد. والحديث ذكره ابن كثير 1: 437-438، من رواية الليث بن سعد، ولم ينسبها. ثم خرجه من أبي داود، والترمذي، والنسائي، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، وأبي يعلى، وابن حبان، والحاكم. ثم ذكر رواية منه، على أنها لفظ أبي داود - ولا توافق لفظه، وفيها تحريف كثير. وذكره السيوطي 1: 207-208، وزاد نسبته للطبراني، والبيهقي في سننه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنْ يُقال: إنّ الله جل ثناؤه أمرَ بالإنفاق في سبيله بقوله:"وأنفقوا في سبيل الله" - وسبيلُه: طريقه الذي شَرَعه لعباده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعتُه لكم، بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحربَ على الكفر بي، ونَهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة". * * * وذلك مثلٌ، والعرب تقول للمستسلم للأمر:"أعطَى فلان بيديه"، وكذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 يقال للممكن من نفسه مما أريد به:"أعطى بيديه". * * * فمعنى قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، ولا تستسلموا للهلكة، فتُعطوها أزمَّتكم فتهلكوا. والتارك النفقةَ في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه، مستسلم للهلكة بتركه أداءَ فرضِ الله عليه في ماله. وذلك أن الله جل ثناؤه جَعل أحد سِهام الصدقات المفروضات الثمانية"في سبيله"، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) إلى قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ) [سورة التوبة: 60] فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه، كان للهلكة مستسلما، وبيديه للتهلكة ملقيا. وكذلك الآئسُ من رحمة الله لذنب سلف منه، مُلق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [سورة يوسف: 87] . وكذلك التارك غزوَ المشركين وجهادَهم، في حال وجوب ذلك عليه، في حال حاجة المسلمين إليه، مُضيعٌ فرضا، مُلقٍ بيده إلى التهلكة. فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ولم يكن الله عز وجلّ خصَّ منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها، فتهلكوا باستحقاقكم - بترككم ذلك -عذابي. كما: 3181 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: التهلكة عذابُ الله. * * * قال أبو جعفر: فيكون ذلك إعلاما منه لهم - بعد أمره إياهم بالنفقة - ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله، منَ العقوبة في المعاد. * * * فإنْ قال قائل: فما وجه إدخال الباء في قوله:"ولا تلقوا بأيديكم"، وقد علمت أن المعروف من كلام العرب:"ألقيت إلى فلان درهما"، دون"ألقيتُ إلى فلان بدرهم"؟ قيل: قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل"الباء" في قوله:"جذبتُ بالثوب، وجذبت الثوب""وتعلَّقتُ به وتَعلَّقته"، و (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [سورة المؤمنون: 20] وإنما هو: تُنبت الدهنَ (1) . * * * وقال آخرون:"الباء" في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم" أصلٌ للكنية (2) لأن كل فعل وَاقع كُنِي عنه فهو مضطرٌّ إليها (3) نحو قولك في رجل"كلَّمته" فأردت الكناية عن فعله، فإذا أردت ذلك قلت:"فعلت به" قالوا: فلما كان"الباء" هي الأصل، جاز إدخال"الباء" وإخراجها في كل"فعلٍ" سبيلُه سبيلُ كُنْيته (4) . * * * وأما"التهلكة" فإنها"التفعُلة" من"الهلاك". * * *   (1) انظر الإنصاف لابن الأنباري: 128. (2) في المطبوعة: "أصل للكلمة"، وهو تحريف، وانظر التعليقات الآتية. (3) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، ضريع الفعل اللازم. ويقال له أيضًا "الفعل المجاوز" (انظر بغية الوعاة 2: 81) . (4) في المطبوعة: "سبيل كلمته"، وهو تحريف كأخيه السالف. وأراد الطبري بالكناية عن الفعل: أن تستبدل به لفظ"فعل". و"الفعل": كناية عن كل عمل. تقول: "ضربت الرجل" ثم تريد الكناية عن الفعل فتقول: "فعلت به"، وهذا الذي تقوله هو"الكنية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وأحسنوا" أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي، وتجنُّب ما أمرتكم بتجنبه من معاصيَّ، ومن الإنفاق في سبيلي، وَعَوْدِ القوي منكم على الضعيف ذي الخَلَّة (1) فإنّي أحبّ المحسنين في ذلك (2) كما: 3182 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب، قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل من الصحابة في قوله:"وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين" قال: أداء الفرائض. * * * وقال بعضهم: معناه: أحسنوا الظن بالله. * ذكر من قال ذلك: 3183 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:"وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين": قال: أحسنوا الظن بالله، يبرَّكم. * * * وقال آخرون: أحسنوا بالعَوْد على المحتاج. * ذكر من قال ذلك: 3184 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين" عودوا على من ليس في يده شيء. * * *   (1) ذو الخلة: المحتاج والفقير، والمختل الحال بفساد أو وهن. (2) انظر ما سلف في معنى"الإحسان" 2: 292. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: * * * فقال بعضهم: معنى ذلك أتِمّوا الحج بمناسكه وسُننِه، وأتموا العُمْرة بحدودها وسُننِها. * ذكر من قال ذلك: 3185 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهَبّاري، قال. ثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:" وأتِمّوا الحجّ والعمرة لله" قال: هو في قراءة عبد الله:"وَأَقِيمُوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إِلى الْبَيْتِ" قال: لا تجاوزُوا بالعمرة البيتَ= قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس. 3186 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ:" وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت". 3187 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ:" وأقِيموا الحجَّ والعمرة إلى البيت". 3188- حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" وأتِمّوا الحج والعمرةَ لله"، يقول: من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة فليس له أن يَحلّ حتى يُتمَّها تَمامُ الحجِّّ يوم النَّحر إذا رَمَى جَمرةَ العَقبة وزار البيت فقد حَلّ من إحرامه كُلّه، وتمامُ العمرة إذا طاف بِالبيت وبالصفَّا والمروة، فقد حَلّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 3189- حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى= وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل= جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله" قال: ما أمِروا فيهما. 3190- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وأتموا الحَج والعمرة لله" قال: قال إبراهيم عن علقمة بن قيس قال:" الحجُّ": مناسك الحج، و" العمرة": لا يجاوز بها البيت. 3191- حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" وأتِموا الحجّ والعمرة لله" قال: قال تَقْضى مناسكَ الحجَّ عرفة والمزدلفة وَمواطنَها، والعمرةُ للبيت أنْ يطوف بالبيت وبين الصفَّا والمروة ثم يَحلُّ. * * * وقال آخرون: تمامُهما أن تُحرِم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلِك. (1) *ذكر من قال ذلك: 3193- حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي أنه قال: جاء رَجُل إلى عليّ فقال له في هذه الآية:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله" أن تحرم من دُوَيْرة أهلِك. 3194- حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه، فقال: أرأيتَ قَول الله عز وجل:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله"؟ قال: أن تحرم من دُوَيْرة أهلك. 3195- حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: من تَمام العُمرة أن تحرم من دُوَيرة أهلك.   (1) الدويرة تصغير"الدار": وهو كل موضع حل به قوم، فهو دارهم. هذا، وقد سقط من الترقيم هنا رقم: 3192ن فلم أستطع أن أغير الترقيم كله، فتركته على حاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 3196- حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن طاوس، قال: تمامُهما إفرادهما مُؤْتَنَفتين من أهلك. (1) 3197- حدثني المثنى، قال: ثنا سفيان، عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاوس:" وأتموا الحج والعمرة لله" قال: تفردهما مؤقتتين من أهلك، فذلك تمامهما. (2) * * * وقال آخرون: تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، (3) وتمامُ الحج أن يُؤتى بمناسكه كلِّها، حتى لا يلزم عَامِلَه دمٌ بسبب قِران ولا مُتعة. * ذكر من قال ذلك: 3198 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرة لله" قال: وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحج. ومن كان في أشهر الحج، ثم أقام حتى يَحُجّ، (4) فهي مُتعة. عليه فيها الهْدي إن وُجد، وإلا صَام ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رَجع. 3199 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" قال: ما كان في غير أشهر الحج فهي عمرة تامة، وما كان في أشهر الحج فهي مُتعة وعليه الهدي. 3200 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إنّ العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له:   (1) ائتنف الشيء ائتنافا: أخذه من أوله وابتدأه. ويعني: أفرادهما منذ ابتداء دخوله فيهما. وانظر الأثر الذي يليه والتعليق عليه. (2) هكذا جاء في هذا الأثر"موقتتين" من التوقيت، وهو التحديد، والميقات: وهو الوقت المضروب للفعل، أو الموضع. يقال: هذا ميقات أهل الشام أو مصر، للموضع الذي يحرمون منه. ويعني أن ميقاتها من عند دويرة أهله. (3) هكذا في الأصل: "أن تعمل" ولعل الصواب"أن تعتمر". (4) في المطبوعة: "وما كان في أشهر الحج"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 العمرة في المحرَّم؟ قال: كانوا يَرَونها تامَّة. * * * وقال آخرون: إتمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد غيرَهما. * ذكر من قال ذلك: 3201 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني رجل، عن سفيان، قال: هو يعني تمامهما أن تخرُج من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهلّ من الميقات. ليس أن تخرُج لتجارةٍ ولا لحاجةً، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت. وذلك يجزئ، ولكن التمَّام أن تخرُج له لا تخرُج لغيره. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتموا الحجَّ والعمرةَ لله إذا دخلتم فيهما. * ذكر من قال ذلك: 3202 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قولُ الله تعالى:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله"؟ قال: ليس من الخلقِ أحدٌ ينبغي له إذا دَخَل في أمر إلا أن يتمَّه، فإذا دخل فيها لم يَنْبَغ له أن يهلّ يومًا أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يومًا لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار. * * * * وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا. 3203 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرَا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوَّع،" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله". وقال أبو بردة: هي واجبة" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله". 3204- حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 عون، عن الشعبي أنه كان يقرأ:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةُ لله". * * * وقد روي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا. وذلك ما:- 3205 - حدثني به المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن الشعبي، قال: العمرةُ واجبةٌ. * * * فقراءة من قال: العمرة واجبة- نصبُها، بمعنى أقيموا فرضَ الحجّ والعمرةَ، كما:- 3206 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت مسروقًا يقول: أُمرتم في كتاب الله بأربع: بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والعمرة. قال: ثم تلا هذه الآية: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [سورة آل عمران: 97] "وأتموا الحجَّ والعُمْرةَ لله إلى البيت". 3207 - حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا يروي عن الحسن، عن مسروق، قال: أمرنا بإقامة أربعةٍ: الصلاةِ والزكاةِ، والعمرةِ والحجّ، فنزلت العُمْرة من الحج منزلةَ الزكاة من الصلاة. 3208 - حدثنا ابن بشار، قال: أنبأنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن حريج، قال: قال علي بن حسين وسعيد بن جبير، وسُئلا أواجبةٌ. العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله". 3209 - حدثنا سَوَّار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضَةٌ هي أم تطوعٌ؟ قال: فريضةٌ. قال: فإن الشعبي يقول: هي تطوع. قال: كَذَب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الشعبي، وقرأ:" وأتموا الحجَّ والعمرةَ لله" (1) 3210 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله:" وأتمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله"، قال: هما وَاجبان: الحج، والعمرة. * * * قال أبو جعفر: فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله" أنهما فرضَان واجبان أمرَ الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما، (2) كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأوجب العمرة وجوبَ الحج. وهم عدد كثير من الصحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الخالفين، (3) كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم. وقالوا: معنى قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" وأقيموا الحج والعمرة. * ذكر بعض من قال ذلك: 3211 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" يقول: أقيموا الحج والعمرة. 3212 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن ثُوير، عن أبيه، عن علي:" وأقيموا الحج والعمرة للبيت" ثم هي واجبةٌ مثل الحج. (4)   (1) قوله: "كذب الشعبي"، أي أخطأ. وهو كثير جدا في الأخبار والأحاديث وأشعار العرب، بمعنى الخطأ، لا بمعنى الكذب الذي هو فقيض الصدق. ويعني: أخطأ الشعبي في اجتهاده. (2) في المطبوعة: "في أنهما" بزيادة"في" وهو خطأ ثم فيها"قرضان واجبان من الله"، والصواب ما أثبت. (3) يقال: خلف قوم بعد قوم، وسلطان بعد سلطان، يخلفون خلفا. فهم خالفون. تقول: أنا خالفه وخالفته: أي جئت بعده. (4) الخبر: 3212- أحمد بن حازم بن محمد بن يونس بن قيس بن أبي غرزة الغفاري، شيخ الطبري: مضت الرواية عنه في: 44، 164. ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/48، وذكر أنه كتب إليه. ثوبر بن أبي فاختة: ضعيف جدا، روى البخاري في الكبير 1/2/183، والصغير: 128، عن الثوري، قال: "كان ثوير من أركان الكذب"، وهو بضم الثاء المثلثة مصغرا. أبوه أبو فاختة: اسمه سعيد بن علاقة، وهو مولى أم هانئ بنت أبي طالب. وهو تابعي ثقة، يروى عن علي، وعن ابن مسعود، وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 3213 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا ثوير، عن أبيه، عن عبد الله:"وأقِيمُوا الحجَّ والعمرةَ إلى البيت" ثم قال عبد الله: والله لولا التحرُّجُ، وأنيّ لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا، لقلت إنّ العمرة واجبة مثل الحج. (1) * * * قال أبو جعفر: وكأنهم عَنوا بقوله:" أقيمُوا الحج والعمرة": ائتوا بهما، بحدودهما وأحكامِهما، على ما فُرِض عليكم. * * * وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب"العُمْرة": العمرة تطوعٌ = ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نَصْبهم"العمرة" في القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبدَ عمله وإتمامُه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداءُ الدخول فيه فرضًا عليه. وذلك كالحج التطوُّع، لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أنّ عليه المضيَّ فيه وإتمامه، ولم يكن فرضًا عليه ابتداء الدخولُ فيه. وقالوا: فكذلك العمرة غيرُ فرضٍ واجب الدخولُ فيها ابتداءً، غير أن على من دخل فيها وأوجبَها على نفسه إتمامَها بعد الدخول فيها. قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحج والعمرة دلالةٌ على وجوب فرضها. قالوا: وإنما أوَجبنا فرضَ الحجّ بقوله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) [سورة آل عمران: 97] . وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين. * ذكر من قال ذلك:   (1) الخبر: 3213- هو في معنى الذي قبله، بالإسناد نفسه. وزاد في هذا نسبة القراءة لابن مسعود. وهي من القراءات الشاذة المخالفة لرسم المصحف. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 351، من طريق عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، به. والإسناد في الخبر بن ضعيف، كما بينا آنفًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 3214 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: الحجُّ فريضة، والعمرةُ تطوُّع. 3215 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن ابن مسعود مثله. 3216- وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن سعيد بن جبير، قال: العمرة ليست بواجبة. 3217 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيره، عن سماك، قال: سألت إبراهيم عن العمرة فقال: سنة حسنة. 3218 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 3219 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله. 3220 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله. 3221 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن الشعبي، قال: العمرة تطوع. * * * قال أبو جعفر: فأما الذين قرءوا ذلك برفع"العمرة"، فإنهم قالوا: لا وجه لنَصْبها، فالعمرة إنما هي زيارة البيت، ولا يكون مستحقًّا اسم معتمرٍ إلا وهو له زائر. قالوا: وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته= وهو متَى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة، فلا عمل يَبقى بعده يؤمَر بإتمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتمامه الحاجُّ بعد بلوغِه والطوافِ به وبالصفا والمروة بإتيان عَرَفة والمزدلفة والوقوفِ بالمواضع التي أمر بالوقوف بها، وعملِ سائرِ أعمال الحج الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 = (1) لم يكن لقول القائل للمعتمر:" أتمَّ عمرتك" وجهٌ مفهوم. وإذا لم يكن له وجهٌ مفهوم. فالصواب من القراءة في" العمرة" الرفعُ على أنه من أعمال البِرِّ لله، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهو قوله:" لله". * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب" العمرة" على العطف بها على" الحجّ"، بمعنى الأمر بإتمامهما له. ولا معنى لاعتلال من اعتَلّ في رفعها بأن" العمرة" زيارة البيت، فإن المعتمر متى بلغه، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه. وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمامُ العمل الذي أمره الله به في اعتماره، وزيارَته البيت، وذلك هو الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وتجنبُ ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك، وذلك عملٌ - وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه - غيرُ الزيارة. هذا، مع إجماع الحجة على قراءة" العمرة" بالنصب، ومخالفة جميع قرأة الأمصار قراءةَ من قرأ ذلك رفعًا، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعًا. * * * وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله:" والعمرةَ لله" على قراءة من قرأ ذلك نصبًا فقولُ عبد الله بن مسعود، ومن قال بقوله من أنّ معنى ذلك: وأتمّوا الحج والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما = لا أنَّ ذلك أمرٌ من الله عز وجل - بابتداء عَمَلهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه - بهذه الآية. وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وَصَفْنا: من أن يكون أمرًا من الله عز وجل بإقامتهما ابتداءًا وإيجابًا منه على العبادِ فرضَهما، وأن يكون أمرًا منه بإتمامهما بعد   (1) سياق العبارة: "وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته ... لم يكن لقول قائل ... " وما بينهما فصل طويل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 الدخول فيهما، وبعد إيجاب موجبِهما على نفسه، فإذ كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذ كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبرٌ عن الحجة للعذرِ قاطعًا، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة - لم يكن لقول قائلٍ:" هي فرض" بغير برهان دالّ على صحة قوله - معنى (1) ، إذ كانت الفرُوض لا تلزم العباد إلا بدلالةٍ على لزومها إياهم واضحةٍ. فإن ظن ظانٌّ أنها واجبة وجوبَ الحج، وأن تأويلَ من تأوّلَ قوله:" وأتمّوا الحج والعمرةَ لله" بمعنى: أقيموا حدُودَهما وفروضهما أوْلى من تأويلنا، (2) بما:- 3222 - حدثني به حاتم بن بكير الضبي، قال: ثنا أشهل بن حاتم الأرطبائي، قال: ثنا ابن عون، عن محمد بن جحادة، عن رجل، عن زميل له، عن أبيه- وكان أبوه يكنى أبا المُنْتَفِق- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فدنوتُ منه، حتى اختلفتْ عُنق راحلتي وعُنُق راحلته، فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يُنجيني من عذاب الله ويُدخلُني جَنتَه! قال:"اعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأدّ الزكاة المفروضة، وحُجّ واعتَمِر= قال أشهل: وأظنه قال:"وصُمْ رمضان= وانظر ماذا تحبُّ من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم، وما تكرهُ من الناس أن يأتوه إليك فذَرْهم منه". (3) وما:-   (1) السياق: "لم يكن لقول قائل ... معنى " (2) سياق المعنى: "وأن تأويل من تأول ... أولى من تأويلنا". (3) الحديث: 3222- هذا إسناد ضعيف، لإبهام بعض رواته الذين لم يسموا. حاتم بن بكير الضبي، شيخ الطبري: هو أيضًا من شيوخ ابن ماجه وابن خزيمة، مترجم في التهذيب والخلاصة، دون بيان حاله، وفي التقريب: "مقبول" وثبت اسم أبيه "بكير" بالتصغير هنا وفي الخلاصة. وثبت بالتكبير "بكر" في التهذيب والخلاصة، ولم أجده في مصدر آخر حتى أستطيع الترجيح بينهما. أشهل- بالشين المعجمة- بن حاتم، ـأبو حاتم البصري الجمحي: مختلف فيه، فضعفه ابن معين. وقال أبو زرعة: "محله الصدق، وليس بالقوي، رأيته يسند عن ابن عون حديثا، الناس يقفونه". وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 69 فلم يذكر فيه جرحا. ثم هو قد روى له في الصحيح حديثا متصلا وآخر معلقا. مقدمة الفتح، ص:389. وأما نسبته هنا "الأرطبائي- فلا أدري ما هي؟ ولا أعرف لها توجيها. إلا أن يكون ممن أكثر الرواية عن شيخه " ابن عون" - وهو "عبد الله بن عون بن أرطبان" بالنون في آخره - فنسب إلى "أرطبان" لذلك، ثم حرفت "الأرطباني" إلى "الأرطبائي". وما وجدت ما يدل على ذلك، ولا ما يشير إلى أنه يكثر الرواية عن ابن عون - وإنما هو ظن ظننته. محمد بن جحادة: مضت ترجمته: 34. أبو المنتفق: -ويقال ابن المنتفق- ترجمه ابن الأثير في أسد الغابة 5: 306 - وروى هذا الحديث، بإسناده إلى معاذ بن معاذ، عن ابن عون، بهذا الإسناد، ووقع فيه "ابن عوف" وهو خطأ مطبعي ظاهر. وترجمه الحافظ في الإصابة 7: 181، وذكر له هذا الحديث من رواية الطبراني، ولكن فيه "محمد بن جحادة"، عن زميل له، بحذف "عن رجل" من بينهما. وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 327 باسم "ابن المنتفق"، هكذا: "أنه وصف صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه، عنه " والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 43 - 44، من غير هذا الوجه قال: وعن حجير، عن أبيه، وكان يكنى أبا المنتفق" فذكر نحوه، وفيه -كما هنا- "وحج واعتمر". وذكره قبل ذلك 1: 43، من وجهين آخرين، ليس فيهما هذا اللفظ. وقال الحافظ في الإصابة - بعد أن أشار إلى رواية الطبراني من طريق ابن عون: "قال الطبراني: اضطرب ابن عون في إسناده، ولم يضبطه عن محمد بن جحادة، وضبطه همام. ثم أخرجه من طريق همام. عن محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه، قال: قدمت الكوفة، فدخلت المسجد فإذا رجل من قيس، يقال له ابن المنتفق، فسمعته يقول " ... وهذه الرواية هي التي ذكرها صاحب الزوائد أولا. وطرق الحديث من أوجه، منها رواية همام، التي ذكرها الحافظ-: في المسند 15948- 15950، (3: 472 - 473 حلبي) ، و 16774 (4: 76 - 77 حلبي) ، و (5: 372- 373، و 6: 383 - 384 حلبي) . ولم أجد في روايات المسند هذه، ذكرا للعمرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 3223 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي رزين العقيلي رجل من بني عامر قال: قلت يا رسول الله إن أبي شيخٌ كبير لا يستطيع الحجّ ولا العمرة ولا الظَّعْن، وقد أدركه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الإسلام، أفأحج عنه؟ قال:"حُج عن أبيك واعتمر". (1) =وما:- 3224 - حدثني به يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطب فقال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحُجُّوا واعتمروا واستقيموا يَستقم لكم. (2) * * * = وما أشبه ذلك من الأخبار، فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة لِوَهْي أسانيدها، وأنها - معَ وَهْيِ أسانيدها- لها في الأخبار أشكالٌ تنبئ عن أنّ العمرة تطوعٌ لا فرض واجب. وهو ما:-   (1) الحديث: 3223- يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى في: 237، 335. وهو يروى عن عبد الرحمن بن مهدي. ووقع في المطبوعة هنا بينهما زيادة "قال خدثنا ابن إبراهيم"، وهي زيادة خطأ من ناسخ أو طابع، ولا معنى لها، فحذفناها. النعمان بن سالم الطائفي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له مسلم في الصحيح. عمرو ابن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي: تابعي ثقة. أخرج له أصحاب الكتب الستة. أبو رزين العقيلي: هو لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر، وهو صحابي معروف، وغلط من جعله و "لقيط بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق" - واحدا. بل هما صحابيان، وقد فصل بينهما ابن سعد 5: 379، 340. وهذا الحديث صحيح، خلافا لما قاله الطبري فيما سيأتي بعد أسطر، إذ ضعف هذه الأحاديث كلها وفيما هذا الحديث. وقد رواه الطيالسي: 1091، عن شعبة. ورواه أحمد في المسند: 16253، عن وكيع عن شعبة، بهذا الإسناد (ج 4ص 10، 11، 12 حلبي) . ورواه أبو داود: 1810، عن حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم - كلاهما عن شعبة. وقال المنذري: 1736، "وأخرجه الترمذي، والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا، ولا أصح منه" ورواه البيهقي 4: 350، من طريق أبي داود. ثم روى كلمة أحمد بن حنبل في تصحيحه. (2) الحديث: 3224- أبو قلابة- بكسر الكاف وتخفيف اللام. وهو عبد الله بن زيد الجرمي، أحد الأعلام، من التابعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 3225 - حدثنا به محمد بن حميد، ومحمد بن عيسى الدامغاني، قالا ثنا عبد الله بن المبارك، عن الحجاج بن أرطأة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟، فقال:"لا وأن تعتمروا خيرٌ لكم". (1) 3226 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير= وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك=، عن معاوية بن إِسحاق، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحجُّ جهادٌ، والعمرة تطوع. (2) * * *   (1) الحديث: 3225- محمد بن عيسى الدامغاني، شيخ الطبري: روى عنه أبو حاتم، وقال: "يكتب حديثه". وروى عنه أيضًا النسائي، وابن خزيمة، وغيرهم. والحديث رواه أحمد: 14449 (3: 316 حلبي) ، عن ابن معاوية، عن الحجاج بن أرطاة، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه الترمذي 2: 113، من طريق عمر بن علي، والبيهقي 4: 349، من طريق عبد الواحد بن زياد -كلاهما عن الحجاج، به، نحوه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ". رجح البيهقي أن المحفوظ روايته موقوفا من كلام جابر، وقد أطال الحافظ ابن حجر، في التلخيص، ص 204، في إعلال المرفوع وترجيح الموقوف. (2) الحديث: 3226- شريك:: هو ابن عبد الله النخعي، مضت ترجمته: 2527. معاوية بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله التيمي: تابعي ثقة. أبو صالح الحنفي: هو عبد الرحمن بن قيس الكوفي، وهو تابعي ثقة. وأخطأ بعضهم فسماه "ماهان"، والصواب أن كنية "ماهان": "أبو سالم الحنفي". انظر الترجمتين في التهذيب. وعلى الرغم من أن الحافظ ابن حجر حقق ذلك في الموضعين من التهذيب - فإنه سها في التلخيص، ص: 204، فقال: "وأبو صالح: ليس ليس هو ذكوان السمان، بل هو أبو صالح ماهان الحنفي"! وهذا الحديث مرسل. ورواه الشافعي في الأم 2: 113، قال: " فاختلف الناس في العمرة، فقال بعض المشرقيين: العمرة تطوع. وقال سعيد بن سالم، (هو القداح، شيخ الشافعي) واختج بأن سفيان الثوري أخبره عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحج الجهاد، والعمرة تطوع. فقلت له: أتثبت مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو منقطع". ثم ذهب الشافعي يقيم عليه الحجة - أن تكون العمرة واجبة". إلى آخر ما قال. وقد روى البيهقي 4: 348 هذا الحديث المرسل، من طريق الشافعي. ثم نقل عنه بعض ما نقلته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل الغباء أنه قد صحَّ عنده أن العمرة واجبةٌ، بأنه لم يجد تطوعًا، إلا وله إمامٌ من المكتوبة. فلما صح أنّ العمرة تطوُّع وجب أن يكون لها فَرْضٌ، لأن الفرض إمام التطوع في جميع الأعمال. فيقال لقائل ذلك: فقد جُعِل الاعتكاف تطوُّعًا، فما الفرض منه الذي هو إمامُ مُتطوَّعه؟ ثم يسأل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب؟ فإن قال:" واجبٌ"، خرج من قول جميع الأمة. وإن قال: تطوع. قيل: فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعًا والعمرةُ فرضًا، من الوجه الذي يجب التسليم له؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * =وبما استشهدنا من الأدلة، فإن أولى القراءتين بالصواب في" العمرة" قراءةُ من قرأها نصبًا- وأنّ أولى التأويلين في قوله" وأتموا الحج والعمرة لله"، تأويلُ ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمرٌ من الله بإتمام أعمالهما بعد الدُّخول فيهما وإيجابهما على ما أمِر به من حدودهما وسنَنِهما -وأنّ أولى القولين في" العمرة" بالصواب قول من قال:" هي تطوّع لا فرض" - وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم، على ما أمركم الله من حدودهما. * * * وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صُدَّ فيها عن البيت، معرِّفَهُ المؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خُلِّي بينهم وبين البيت ومبيِّنًا لهم فيها ما المُخْرِجَ لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصُدوا عن البيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 ولذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية، (1) وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم، افتَتح بقوله:" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ ". وقد دللنا فيما مضى على معنى" الحج"" والعمرة" بشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في" الإحصار" الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي. * * * فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام. * ذكر من قال ذلك: 3227 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: "الحصر" الحبس كله. يقول: أيما رجل اعترض له في حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس. قال: وقال مجاهد في قوله:" فإن أحصرتم " فإن أحْصِرتم: يَمرض إنسانٌ أو يُكْسر، أو يحبسه أمرٌ فغلبه كائنًا ما كان، فليرسل بما استيسَر من الهَدْي، ولا يحلِق رأسَه، ولا يحل، حتى يوم النحر.   (1) في المطبوعة: "وبذكر اللام ... "، وكأن الصواب ما أثبت حتى يستقيم الكلام. (2) انظر ما سلف 3: 228- 229. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 3228 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3229 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الإحصار كل شيء يحبسه. 3230 - وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن قتادة أنه قال: في المحصَر: هو الخوفُ والمرض والحابسُ. إذا أصابه ذلك بَعَث بِهَدْيه، فإذا بلغ الهدي مَحِله حَلّ. 3231 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدْي" قال: هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حَبَسه عن البيت يبعث بهَديه، فإذا بلغ مَحِله صار حلالا. 3232 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كل شيء حَبَس المحرم فهو إحصارٌ. 3233 - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إبراهيم= قال أبو جعفر: أحسبه عن شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم=:" فإن أحصِرْتم" قال: مرض أو كسر أو خَوفٌ. 3234- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله:" فإن أحصرتُم فما استيسر من الهدي"، يقول: من أحرم بحج أو بعمرة، ثم حُبس عن البيت بمرض يُجْهده أو عذر يحبسه، فعليه قَضاؤها. * * * قال أبو جعفر: وعلة من قال بهذه المقالة: أن" الإحصار" معناه في كلام العَرب: مَنْع العلة من المرض وأشباهه، غيرِ القهرِ والغلبة من قاهر أو غالبٍ، إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 منعُ العدوّ، وحبس حابس في سجن، وغلبة غالبٍ حائل بين المحرِم والوصول إلى البيت من سُلطان، أو إنسان قاهرٍ مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب" حصرا" لا" إحصارا". قالوا: ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) [الإسراء: 8] يعني به: حاصرًا، أي حابسًا. قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا، يسمى" إحصارًا" لوجب أن يقال:" قد أُحْصرَ العدوُّ". قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على" حُوصر العدو، والعدوّ محاصر"، دون" أحصر العدو، وهم مُحْصَرون"، و" أحْصِر الرجل" بالعلة من المرض والخوف- أكبر الدلالة على أنّ الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله:" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ " بمرض أو خوف أو علة مانعة. قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى" حصر المرض" قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت، لا بدلالة ظاهر قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" إذ كان حبس العدو والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر. * * * وقال آخرون: معنى قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" فإن حبسكم عدو عن الوصول إلى البيت، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا: فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخل في قوله:" فإن أحصرتم ". * ذكر من قال ذلك: 3235 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس أنه قال:" الحصْرُ": الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 حصرُ العدو، فيبعثُ الرجل بهديّتِه، فإن كان لا يستطيع أن يَصِل إلى البيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها ويُحْرِم = قال محمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال: يُحِرِم، أو يَحِل = من يومٍ يواعد فيه صاحبَ الهدْي إذا اشترى. فإذا أمن فعليه أن يحجَّ أو يعتمر. فإذا أصابه مَرَض يحبسه وليس معه هدْي، فإنه يَحِل حيث يُحبَس، فإن كان معه هدْي فلا يحل حتى يَبلغ الهدي مَحله، فإذا بعث به، فليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر إلا أن يشاء. 3236 - حدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حَبْس عدو. 3237 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم= إلا أنه قال: فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعَد فيه صاحبَ الهدية إذا اشترى. ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. * * * وقال مالك بن أنس: بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَلَّ وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحَلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يَصِل إليه الهدي. ثم لم نَعْلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ أحدًا من أصحابه، ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئًا ولا أن يعودوا لشيء. (1)   (1) نص كلام مالك في الموطأ: 360، وسيأتي برقم: 3287. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 3238 - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه= قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت؟ فقال: يَحلّ من كل شيء، ويَنْحر هَدْيه، ويحلق رأسه حيث يحبس، وليس عليه قضاء، (1) إلا أن يكون لم يحج قَط، فعليه أن يحج حجة الإسلام. قال: والأمر عندنا فيمن أحصِر بغير عدو بمرض أو ما أشبهه، أنْ يتداوَى بما لا بد منه، ويَفتدي، (2) ثم يجعلها عُمرة، ويحج عامًا قابلا ويُهدِي. * * * قال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة - أعني: من قال قولَ مالك - أنّ هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، فأمر الله نبيّه ومن معه بنحْر هَداياهم والإحلال. قالوا: فإنما أنزل الله هذه الآية في حَصْر العدو، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلتْ فيه. قالوا: وأما المريض، فإنه إذا لم يُطِق لمرضه السَّير حتى فاتته عرفة، فإنما هو رجلٌ فاته الحج، عليه الخروج من إحرامه بما يخرُج به من فَاته الحج - وليس من معنى" المحصر" الذي نزلت هذه الآية في شأنه. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في قوله:" فإذا أحصرتم"، تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحْصَرَكم خوفُ عَدٍّو أو مرضٌ أو علةٌ عن الوصول إلى البيت أي: صيَّركم خوفكم أو مرضكم تَحصُرون أنفسكم، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتُموه على أنفسكم من عمل الحج والعمرة. فلذا قيل:" أحصرتم"، لمَّا أسقط ذكِر الخوف والمرض. يقال منه:" أحصرني خوفي من فلان عن لقائك،   (1) إلى هنا نص ما في الموطأ: 360، وما بعده زيادة ليست هناك. وسيأتي في آخر رقم: 3288. (2) في المطبوعة: "أن يبدأ بما لا بد منه" والصواب ما أثبته، عن الموطأ: 362، فراجعه هناك. وانظر أيضًا ما سيأتي رقم: 3289. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 ومَرَضي عن فلان"، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجلُ والإنسانُ، قيل:" حصرَني فلان عن لقائك"، بمعنى حبسني عنه. فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوِّل من قوله:" فإن أحصِرْتم" فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت- لوجب أن يكون: فإن حُصِرْتم. ومما يُبَيِّن صحةَ ما قلناه من أن تأويل الآية مرادٌ بها إحصارُ غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدو، قولُه:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعُمْرة إلى الحج". و" الأمنُ" إنما يكون بزوال الخوف. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية، هو الخوف الذي يكون بزواله الأمنُ. وإذ كان ذلك كذلك، لم يكن حَبسُ الحابس الذي ليس مع حَبْسه خوف على النفس من حبسه داخلا في حكم الآية بظاهرها المتْلوّ، وإن كان قد يُلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حَبْس من لا خوف على النفس من حبسه، كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالدِ، وزوج المرأة، (1) إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنعٌ عن الشخوص لعمل الحج، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرامَ، (2) غيرُ داخل في ظاهر قوله:" فإذ أحصرتم"، لما وصفنا من أن معناه: فإن أحصركم خوفُ عدوّ- بدلالة قوله:" فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ " وقد بين الخبر الذي ذكرنا آنفا عن ابن عباس أنه قال: الحصر: حصر العدو. وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصده عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله:" فما استيسر من الهدي".   (1) في المطبوعة: "وإن كان. . . " والصواب حذف الواو. (2) قوله: "غير داخل" خبر قوله: "من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 فقال بعضهم: هو شاة. * ذكر من قال ذلك: 3239 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي" شاة. 3240 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن= وحدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق= قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة. 3241 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عن ابن عباس، مثله. 3242 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: تمتعت فسألت ابن عباس فقال:" ما استيسر من الهدي" قال: قلت شاة؟ قال: شاة. 3243 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عباس عن" ما استيسر من الهدي"، قال: من الأزواج الثمانية: من الإبل والبقر والمعز والضأن. 3244 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله جل ثناؤه:" فما استيسر من الهدي" - قال: كان ابن عباس يقول: من الغنم. 3245 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:" ما استيسر من الهدي"، من الأزواج الثمانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 3246 - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: قيل للأشعث: ما قول الحسن:" فما استيسر من الهدي"؟ قال: شاة. 2647- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتاده. (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. 3248 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله = إلا أنه كان يقال: أعلاه بدنة، وذكر سائر الحديث مثله. 3249 - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن زرارة، عن ابن عباس، قال:" فما استيسر من الهدي"، شاة. 3250 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، مثله. 3251 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن ابن جريج، عن عطاء:" فما استيسر من الهدي" شاة. 3252 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا محمد بن نفيع، عن عطاء، مثله. 3253 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المحصر يبعث بهدي، شاة فما فوقها. 3254 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، بعث بما استيسر من الهدي شاة. قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس. 3255 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ما استيسر من الهدي"، شاة فما فوقها. 3256 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة = وحدثنا المثنى، قاله: حدثنا آدم العسقلاني عن شعبة = قال: حدثنا أبو جمرة، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، جزور أو بقرة أو شاة، أو شرك في دم. 3257 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن ابن عباس كان يرى أن الشاة" ما استيسر من الهدي". 3258 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة. 3259 - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة. 3260 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سهل بن يوسف قال: حدثنا حميد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي: شاة، فقيل له: أيكون دون بقرة؟ قال: فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تدرون به أن الهدي شاة. ما في الظبي؟ قالوا: شاة، قال: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] . 3261 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: شاة. 3262 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن دلهم بن صالح، قال: سألت أبا جعفر، عن قوله:" ما استيسر من الهدي"، فقال: شاة. 3263 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 بن أنس حدَّثه عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن علي بن أبي طالب كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، شاة. (1) 3264 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: حدثنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، مثله. 3265 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، شاة. (2) 3266 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحب إلي. (3) 3267 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:" فما استيسر من الهدي"، قال: عليه - يعني المحصر - هدي. إن كان موسرا فمن الإبل، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم. 3268 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة، وما عظمت شعائر الله، فهو أفضل. 3269 - حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: أخبرنا ابن لهيعة: أن عطاء بن أبي رباح حدثه: أن" ما استيسر من الهدي"، شاة. * * * وقال آخرون:" ما استيسر من الهدي": من الإبل والبقر، سن دون سن. * ذكر من قال ذلك: 3270 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت   (1) الأثر: 3263 الموطأ: 385. (2) الأثر: 3265- الموطأ: 385. (3) الأثر: 3266- الموطأ: 385 ونصه: "وذلك أحب ما سمعته إلي في ذلك"، ثم استدل بآية المائدة التي استدل بها ابن عباس في الأثر: 3260. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال:" ما استيسر من الهدي": البقرة دون البقرة، والبعير دون البعير. 3271 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز، قال: سأل رجل ابن عمر:" ما استيسر من الهدي"؟ قال: أترضى شاة؟ = كأنه لا يرضاه. 3272 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن القاسم بن محمد ونافع، عن ابن عمر قال:" ما استيسر من الهدي"، ناقة أو بقرة، فقيل له:" ما استيسر من الهدي"؟ قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة. 3273 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال:" فما استيسر من الهدي"، قال: جزور، أو بقرة. 3274 - حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله:" فما استيسر من الهدي" - قال: قال ابن عمر: من الإبل والبقر. 3275 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في قوله جل ثناؤه:" فما استيسر من الهدي" قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة. 3276 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن القاسم، عن ابن عمر في قوله:" فما استيسر من الهدي"، قال: الإبل والبقر. 3277 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان عبد الله بن عمر وعائشة يقولان:" ما استيسر من الهدي": من الإبل والبقر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 3278 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا الوليد بن أبي هشام، عن زياد بن جبير، عن أخيه عبد الله أو عبيد الله بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المتعة في الهدي؟ فقال: ناقة، قلت: ما تقول في الشاة؟ قال: أكلكم شاة؟ أكلكم شاة؟ (1) 3279 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد وطاوس قالا" ما استيسر من الهدي"، بقرة. 3280 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة:" فما استيسر من الهدي"، قال في قول ابن عمر: بقرة فما فوقها. 3281 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال:" ما استيسر من الهدي"، قال: بدنة أو بقرة، فأما شاة فإنما هي نسك. 3282 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: البدنة دون البدنة، والبقرة دون البقرة، وإنما الشاة نسك، قال: تكون البقرة بأربعين وبخمسين. 3283 - حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن نافع، عن ابن عمر، كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، بقرة. 3284 - وحدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه، قال: رأيت ابن عمر وأهل اليمن يأتونه فيسألونه عن" ما استيسر   (1) الخبر: 3278- الوليد بن أبي هشام زياد، مولى عثمان: ثقة جدا، كما قال الإمام أحمد. زياد بن جبير بن حية بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 2 / 1 / 3217. وابن أبي حاتم 1 / 2 / 27، 310. وقال: "عبيد الله بن جبير بن حية، أخو زياد وغبيد الله ابني جبير بن حية الثقفي. وكانوا إخوة ثلاثة." الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 من الهدي" ويقولون: الشاة! الشاة! قال: فيرد عليهم:" الشاة! الشاة! يحضهم - إلا أن الجزور دون الجزور، والبقرة دون البقرة، ولكن ما" استيسر من الهدي"، بقرة. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب قول من قال:" ما استيسر من الهدي" شاة. لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خص من ذلك شيئا، فيكون ما خص من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحق اسم" هدي". * * * فإن قال قائل: فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي، بأنه لا يستحق اسم" هدي" كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا. قيل: لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف، نحو الذي في المهدي الشاة، لكان سبيلهما واحدة: في أن كل واحد منهما قد أدى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهديين مخرجه من أن يكون مؤديا (1) - بإهدائه ما أهدى من ذلك - مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن، والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان - من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته - بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله:" فما استيسر من الهدي" وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.   (1) في المطبوعة: "إذا لم يكن أحد المهديين يخرجه. . . " والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ولما اختلف في الجذع من الضأن والثني من المعِز، كان مجزئًا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل، لأنه مما استيسر من الهدي. * * * فإن قال قائل: فما محل" ما" التي في قوله جل وعز:" فما استيسر من الهدي"؟ قيل: رفع. فإن قال: بماذا؟ قيل: بمتروك. وذلك" فعليه" لأن تأويل الكلام: وأتموا الحج والعمرة أيها المؤمنون لله، فإن حبسكم عن إتمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدو فعليكم - لإحلالكم، إن أردتم الإحلال من إحرامكم - ما استيسر من الهدي. وإنما اخترنا الرفع في ذلك، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره، وذلك كقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) وكقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) وما أشبه ذلك مما يطول بإحصائه الكتاب، تركنا ذكره استغناء بما ذكرنا عنه. ولو قيل موضع" ما" نصب، بمعنى: فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدي، لكان غير مخطئ قائله. (1) * * * وأما" الهدي"، فإنه جمع، وأحدها"هديّه"، على تقدير" جديّه السرج" والجمع" الجَدْي" مخفف. (2) 3285 - حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، عن يونس، قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه. (3) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 118. (2) "هدية" و"جدية" بتشديد الياء، وقد ضبطها ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة بفتح فسكون، وهو خطأ والجدية: قطعة من الكساء محشوة تكون تحت دفتي السرج وظلفة الرحل، وهما جديتان. (3) مجاز القرآن لأبي عبيدة: 69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وبتخفيف" الياء" وتسكين" الدال" من" الهدي" قرأه القرأة في كل مصر، إلا ما ذكر عن الأعرج، فإن:- 3286 - أبا هشام الرفاعي، حدثنا، قال: حدثنا يعقوب، عن بشار، عن أسد، عن الأعرج أنه قرأ: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [سورة المائدة:95] بكسر" الدال" مثقلا وقرأ:"حتى يبلغ الهدي محله"، بكسر" الدال" مثقلة. واختلف في ذلك عن عاصم، فروي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلى قراءه سائر القرأة. * * * و" الهدي" عندي إنما سمي" هديا" لأنه تقرب به إلى الله جل وعز مهديه، بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقربا بها إليه، يقال منه:" أهديت الهدي إلى بيت الله، فأنا أهديه إهداء". كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره:" أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها."، ويقال للبدنة" هدية"، ومنه قول زهير بن أبي سلمى، يذكر رجلا أسر، يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى: فلم أر معشرا أسروا هديا ... ولم أر جار بيت يستباء! (1) * * *   (1) ديوانه: 79 من قصيدة كريمة، قالها في ذم بني عليم بن جناب من كلب. وكان رجل من بني عبد الله بن غطفان قد أتاهم فأكرموه وأحسنوا جواره، بيد أنه كان مولعا بالقمار فنهوه عنه، فأبى إلا المقامرة. فقمر مرة فردوا عليه، ثم قمر أخرى فردوا عليه، ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه، وأخذت منه امرأته في قماره. والهدي: الرجل ذو الحرمة المستجير بالقوم فسموه كما قال الطبري بما يهدي إلى البيت، فهو لا يرد عن البيت ولا يصاب، وقوله: "فستباء" أي تؤخذ امرأته وتنكح، ثم قال لهم بعد البيت: وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي، عهدهما سواء والمنادي: المجالس في النادي أما بيوت الحي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم، فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي. ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي = الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه، قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه = محله. (1) وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه. فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، (2) حتى يبلغ الهدي -الذي أباح الله جل ثناؤه له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه - محله. * * * ثم اختلف أهل العلم في" محل" الهدي الذي عناه الله جل اسمه، الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه. فقال بعضهم: محل هدي المحصر الذي يحل به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه = إذا كان إحصاره من خوف عدو منعه ذبحه، إن كان مما يذبح، أو نحره إن كان مما ينحر، في الحل ذبح أو نحر أو في الحرم = [حيث حبس] (3)   (1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 446"وقوله: "ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله" معطوف على قوله: "وأتموا الحج والعمرة لله" وليس معطوفا على قوله: "فإن احصرتم فما استيسر من الهدي" كما زعمه ابن جرير رحمه الله. لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية، لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم. فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم، فلا يجوز الحلق"حتى يبلغ الهدي محله"، ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة -وإن كان قارنا- أو من فعل أحدهما، إن كان مفردا أو متمتعا، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس؟ حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك! فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى انحر". وفي تخطئة ابن كثير لأبي جعفر، نظر وتفصيل ليس هذا موضعه لأنه يطول. (2) الحلاق مصدر كالحلق والتحلاق، يقال: رأس جيد الحلاق (بكسر الحاء) وقد أكثر مالك من استعمال هذا المصدر في الموطأ (انظر: 395، 396) . (3) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وإن كان من غير خوف عدو فلا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدو دون غيره. * ذكر من قال ذلك: 3287 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء. (1) 3288 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع: أن عبد الله بن عمر خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة، فقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأهل بعمرة من أجل أن النبي كان أهل بعمرة عام الحديبية. ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد. قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة. قال: ثم طاف طوافا واحدا، ورأى أن ذلك مجز عنه وأهدى=. قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو كما أحصر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت. قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت، فقال: يحل من كل شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء، إلا أن يكون لم يحج قط، فعليه أن يحج حجة الإسلام. (2)   (1) الأثر: 3287- مضى في ص: 24، بغير إسناد. (2) الأثر: 3288- في الموطأ: 360- 361 مع خلاف يسير في بعض لفظه. ومن أول قوله: "قال: وسئل مالك"، في آخر هذا الأثر، قد مضى برقم: 3238، وهو في الموطأ: 360، قبل النص السالف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 3289 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مالك، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي، (1) وصرع في الحج ببعض الطريق، أن يتداوى بما لا بد منه، (2) ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحج عاما قابلا ويهدي. قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وذلك الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو. (3) قال: وقال مالك: وكل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض، أو خطأ في العدد، أو خفي عليه الهلال، فهو محصر، عليه ما على المحصر - يعني من المقام على إحرامه - حتى يطوف أو يسعى، ثم الحج من قابل والهدي. 3290 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرني أيوب بن موسى أن داود بن أبي عاصم أخبره: أنه حج مرة فاشتكى، فرجع إلى الطائف ولم يطف بين الصفا والمروة. فكتب إلى عطاء بن أبي رباح يسأله عن ذلك، وأن عطاء كتب إليه: أن أهرق دما * * * وعلة من قال بقول مالك: في أن محل الهدي في الإحصار بالعدو نحره حيث حبس صاحبه، ما:- 3291 - حدثنا به أبو كريب ومحمد بن عمارة الأسدي، قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرني أبو مرة مولى أم هانئ، عن ابن عمر، قال: لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية،   (1) في الموطأ: "سعيد بن حزابة المخزومي". (2) في المطبوعة: "أن يبدأ بما لا بد منه" والصواب من الموطأ، وقد مضى ذلك كذلك أيضًا في ص: 25، وانظر تعليق رقم: 2. (3) الموطأ: 362، ومضى بعض ذلك في ص: 25. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 عرض له المشركون فردوا وجهه، قال: فنحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي حيث حبسوه- وهي الحديبية- وحلق، وتأسى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق، وتربص آخرون فقالوا: لعلنا نطوف بالبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين! قيل: والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين! قيل: والمقصرين! قال:"والمقصرين". (1) 3292 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم القضية بينه وبين مشركي قريش-وذلك بالحديبية، عام الحديبية- قال لأصحابه:"قوموا فانحروا واحلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا نبي الله اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حلاقك فتحلق. فقام فخرج، فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. (2) * * *   (1) الحديث: 3291- إسناده ضعيف جدا، من أجل"موسى بن عبيدة". وقد مضى بيان حاله: 1875، 1876. أبو مرة مولى أم هانئ: اسمه"يزيد" ويقال له أيضًا "مولى عقيل بن أبي طالب"، واشتهر بكنيته. وهو تابعي ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ومعنى الحديث ثابت معروف من أوجه كثيرة، في دواوين الحديث وكتب السيرة، بل إن نحو هذا المعنى ثابت عن ابن عمر بإسناد صحيح، في المسند: 6067، والبخاري 5: 224، و 7: 391 (من الفتح) . والدعاء للمحلقين والمقصرين ثابت من حديثه أيضًا، صحيح، في المسند: 4657 والموطأ والصحيحين، كما بينا هناك. (2) الحديث: 3292- هو جزء من حديث طويل، في شأن صلح الحديبية، وهو معروف مشهور. رواه احمد في المسند 4: 328- 231 (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر بهذا الإسناد ثم رواه عقب ذلك، عن يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله بن المبارك. عن معمر ولم يذكر لفظه إحالة على الرواية قبله. وقد رواه الطبري هنا، من طريق يحيى القطان. ورواه البخاري 5: 241- 260 (فتح الباري) عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق كرواية المسند وروي منه قطعة موجزة 3: 433 من طريق عبد الله بن المبارك، عن معمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 قالوا: فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حين صده المشركون عن البيت بالحديبية، وحل هو وأصحابه. قالوا: والحديبية ليست من الحرم. قالوا: ففي مثل ذلك دليل واضح على أن معنى قوله:" حتى يبلغ الهدي محله"، حتى يبلغ بالذبح أو النحر محل أكله، والانتفاع به في محل ذبحه ونحره. 3293 - كما روي عن نبي الله عليه الصلاة والسلام في نظيره إذ أتي بلحم - أتته بريرة - من صدقة كان تصدق به عليها، فقال: قربوه فقد بلغ محله. (1) * * * يعني: فقد بلغ محل طيبه وحلاله له بالهدية إليه بعد أن كان صدقة على بريرة. * * *   (1) الحديث: 3293- هذه إشارة من الطبري إلى حديث مشهور معروف. وهو قصة"بريرة" التي اشترتها عائشة من مواليها الذين كاتبوها، وأعتقها فكانت مولاتها، وهي في الصحيحين وغيرهما. واللفظ الثابت في الصحيحين، في شأن اللحم الذي تصدق به على بريرة، وأهدته هي لعائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه-: أنه قال: "هو لها صدقة ولنا هدية" أو نحو هذا، من حديث عائشة ومن حديث أنس، ولم أجد لفظ"فقد بلغ محله"، الذي حكاه الطبري في قصة بريرة. ولعله وقع إليه من رواية خفيت علينا. نعم، جاء نحو هذا اللفظ، في قصتين أخريين في هذا المعنى: إحداهما: من حديث أم عطية الأنصارية أنها بعثت إلى عائشة من لحم جاءها من الصدقة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عن طعام، فأخبروه بذلك -لأن الصدقة لا تحل له- فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها قد بلغت محلها". رواه أحمد في المسند 6: 407- 408 (حلبي) والبخاري 3: 245، 281- 282، و 5: 149- 150 (فتح) مسلم 1: 297. والأخرى: من حديث جويرية بنت الحارث أم المؤمنين قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: فقال: هل من طعام؟ قلت: لا إلا أعظما أعطيته مولاة لنا من الصدقة. قال صلى الله عليه وسلم: فقربيه فقد بلغت محلها". رواه أحمد في المسند 6: 429 (حلبي) . ومسلم 1: 296. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم لا محل له غيره. * ذكر من قال ذلك: 3294 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عمرو بن سعيد النخعي أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له، فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم يوم أمارة، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. (1) 3295 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن سليمان بن مهران، عن عمارة بن عمير وإبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: خرجنا مهلين بعمرة فينا الأسود بن يزيد، حتى نزلنا ذات الشقوق، فلدغ صاحب لنا، فشق ذلك عليه مشقة شديدة، فلم ندر كيف نصنع به، فخرج بعضنا إلى الطريق، فإذا نحن بركب فيه عبد الله بن مسعود، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن رجل منا لدغ، فكيف نصنع به؟ قال: يبعث معكم بثمن هدي، فتجعلون بينكم وبينه يوما أمارة، فإذا نحر الهدي فليحل، وعليه عمرة في قابل. (2) 3296 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن   (1) الخبر: 3294- عمارة بن عمير التيمي: ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. عبد الرحمن بن يزيد بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي: تابعي ثقة كثير الحديث. عمرو بن سعيد النخعي: لم أجد له ذكرا، وليس له شأن في رواية الخبر، بل هو المتحدث عنه، والذي أفتى ابن مسعود في شأنه. وسيأتي اسمه مرة أخرى في الخبر: 3299. وانظر التعليق على الأثر: 3297 وقد روى الطبري هذا الخبر مكررا بأسانيد، كما ترى وانظر التعليق على الأثر: 3297. ذات الشقوق: منزل بطريق مكة، من الكوفة. وتشوف الشيء: تطاول ينظر إليه. (2) الخبر: 3295- سليمان بن مهران: هو الأعمش. وهو هنا يروي الخبر عن عمارة بن عمير، كالرواية السابقة، وعن إبراهيم: وهو ابن يزيد بن الأسود بن عمرو النخعي، وهو الفقيه المعروف الثقة، وهو ابن اخت"عبد الرحمن بن يزيد بن قيس". فالأعمش يرويه عنهما عن عبد الرحمن ابن يزيد. * وسيأتي الخبر من روايته وحده أيضًا، عن خاله عبد الرحمن: 3297. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: بينا نحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ، فمر علينا عبد الله فسألناه، فقال: اجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فيبعث بثمن الهدي، فإذا نحر حل وعليه العمرة. (1) 3297 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم النخعي يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: أهل رجل منا بعمرة، فلدغ، فطلع ركب فيهم عبد الله بن مسعود، فسألوه، فقال: يبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوما أمارا، فإذا كان ذلك اليوم فليحل = وقال عمارة بن عمير: فكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله = وعليه العمرة من قابل. (2) 3298 - حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: خرجنا عمارا، فلما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا، فاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به، فإذا عبد الله بن مسعود في ركب، فقلنا له: لدغ صاحب لنا؟ فقال: اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوما، وليرسل بالهدي، فإذا نحر الهدي فليحلل، ثم عليه العمرة. 3299 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن الحجاج، قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود: أن عمرو بن سعيد النخعي   (1) الأمار والأمارة: العلامة والوقت. (2) الخبر: 3297 -الحكم: هو ابن عتيبة- بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق، وبعد التحتية باء موحدة. وهو تابعي ثقة حجة فقيه مشهور. وجعله أحمد بن حنبل أثبت الناس في الرواية عن إبراهيم النخعي. * وهذا الخبر رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 432، من طريق بشر بن عمر، عن شعبة بهذا الإسناد نحوه وقد سمى فيه الرجل الذي لدغ، فقال: "أهل رجل من النخع بعمرة، يقال له: عمير بن سعيد- إلخ. فإن يكن هذا صوابا يكن هو"عمير بن سعيد النخعي" التابعي وقد مضت ترجمته: 1683. فيكون الاسم"عمرو بن سعيد" في الخبرين: 3294، 3299- محرفا عن هذا. ويرجحه أنه وقع اسمه أيضًا محرفا إلى"عمرو بن سعيد" في المطبوعة، هناك في: 1683. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. (1) 3300 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، يقول: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، شاة فما فوقها يذبح عنه. فإن كانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه. ثم قال:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" فإن كان أحرم بالحج فمحله يوم النحر، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت. 3301 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، فهو الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان يحبس عن البيت، فيهدي إلى البيت، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله. فإذا بلغ الهدي محله حلق رأسه، فأتم الله له حجه. والإحصار أيضا أن يحال بينه وبين الحج، فعليه هدي: إن كان موسرا من الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، ويجعل حجه عمرة، ويبعث بهديه إلى البيت. فإذا نحر الهدي فقد حل، وعليه الحج من قابل. 3302 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا بشر بن السري،   (1) الخبر:، 3299 -الحجاج: هو ابن أرطاة بن ثور بن هيرة النخعي، وهو ثقة على الراجح عندنا. ثم انظر التعليق على الأثر: 3297. * عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي: تابعي ثقة. أبوه الأسود بن يزيد النخعي: هو أخو"عبد الرحمن بن يزيد النخعي، الماضي في الروايات السابقة، وهو تابعي كبير، ثقة من أهل الخير، كما قال أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سأل علي رضي الله عنه عن قول الله عز وجل:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" فإذا أحصر الحاج بعث بالهدي، فإذا نحر عنه حل، ولا يحل حتى ينحر هديه. 3303 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت عطاء يقول: من حبس في عمرته، فبعث بهدية فاعترض لها فإنه يتصدق بشيء أو يصوم، ومن اعترض لهديته، وهو حاج، فإن محل الهدي والإحرام يوم النحر، وليس عليه شيء. 3304 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، مثله. 3305 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله"، الرجل يحرم ثم يخرج فيحصر، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير، وإما تنكسر راحلته، فإنه يقيم، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها. فإن هو صح فسار فأدرك فليس عليه هدي، وإن فاته الحج فإنها تكون عمرة، وعليه من قابل حجة. وإن هو رجع لم يزل محرما حتى ينحر عنه يوم النحر. فإن هو بلغه أن صاحبه لم ينحر عنه عاد محرما وبعث بهدي آخر، فواعد صاحبه يوم ينحر عنه بمكة، فتنحر عنه بمكة، ويحل، وعليه من قابل حجة وعمرة - ومن الناس من يقول: عمرتان. وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه، فعليه من قابل عمرتان. وأناس يقولون: لا بل ثلاث عمر، نحوا مما صنعوا في الحج حين صنعوا، عليه حجة وعمرتان. 3306 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس، قال: إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها مكانه، ويواعد صاحب الهدي. فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر. فإن أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي، فإنه يحل حيث يحبس. وإن كان معه هدي، فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذا بعث به، وليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر، إلا أن يشاء. * * * وقال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة = أن محل الهدايا والبدن الحرم = أن الله عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 32-33] فجعل محلها الحرم، ولا محل للهدي دونه. قالوا: وأما ما ادعاه المحتجون بنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه بالحديبية حين صد عن البيت، فليس ذلك بالقول المجتمع عليه، وذلك أن: 3307 - الفضل بن سهل حدثني، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي، عن أبيه، عن ناجية بن جندب الأسلمي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين صد عن الهدي، فقلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلننحره بالحرم! قال: كيف تصنع به؟ قلت: آخذ به أودية فلا يقدرون عليه! فانطلقت به حتى نحرته بالحرم. (1)   (1) الحديث: 3307 -الفضل بن سهل بن إبراهيم الأعرج، شيخ الطبري: أحد الثقات الحفاظ روى عنه الشيخان في الصحيحين. وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3/1/63، وتاريخ بغداد 12: 364-365. وتذكرة الحفاظ 2: 120. مخول -بالخاء المعجمة بوزن"محمد"- بن إبراهيم بن مخول بن راشد النهدي الحناط؛ قال الذهبي في الميزان: "رافضي بغيض، صدوق في نفسه". وقال ابن أبي حاتم 4/1/399: "سئل أبي عنه فقال: "هو صدوق" وذكره ابن حبان في الثقات. إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. و"مخول" أكثر روايته عن إسرائيل، وقد روى عنه ما لم يرو غيره"، كما قال ابن عدي. مجزأة بن زاهر: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما. أبوه، زاهر بن أسود بن حجاج بن قيس الأسلمي: صحابي معروف كان ممن بايع تحت الشجرة. ناجية بن جندب الأسلمي: صحابي معروف وكان صاحب بدن رسول اله صلى الله عليه وسلم. وهناك أيضًا "ناجية بن كعب الخزاعي" كان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا. وقد خلط بينهما بعض الرواة. وحقق الحافظ في التهذيب والإصابة أن هذا غير ذاك. والحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 427، عن إبراهيم بن أبي داود عن مخول ابن إبراهيم بهذا الإسناد إلا أنه جعله"عن مجزأة عن ناجية" مباشرة ليس بينهما"عن أبيه". و"مجزأة" يروى عن ناجية. لكن هذا الحديث بعينه ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة ناجية 6: 222- 223 أنه رواه ابن مندة"من طريق مجزأة بن زاهر، عن أبيه عن ناجية بن جندب"، ثم ذكر أنه"أخرجه الطحاوي من طريق مخول". فلا أدري: أسقط قوله"عن أبيه" من نسخة الطحاوي؟ أم هو اختلاف رواية؟ وقال الحافظ بعد ذكره رواية ابن مندة: "قال اب مندة: تفرد به مخول بن إبراهيم عن إسرائيل عنه (يعني عن مجزأة) ورواه عنه (يعني عن مخول) أبو حاتم الرازي وغيره. كذا قال وقد أخرجه النسائي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مثله". ولم أجده في النسائي. فالظاهر أنه في السنن الكبرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 قالوا: فقد بين هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هداياه في الحرم، فلا حجة لمحتج بنحره بالحديبية في غير الحرم. * * * وقال آخرون: معنى هذه الآية وتأويلها على غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقين اللذين ذكرنا اختلافهم على ما ذكرنا. وقالوا: إنما معنى ذلك: فإن أحصرتم أيها المؤمنون عن حجكم - فمنعتم من المضي لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدو - وأداء اللازم لكم وحجكم، حتى فاتكم الوقوف بعرفة، فإن عليكم ما استيسر من الهدي، لما فاتكم من حجكم، مع قضاء الحج الذي فاتكم. فقال أهل هذه المقالة: ليس للمحصر في الحج - بالمرض والعلل غيره - الإحلال إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إن فاته الحج. قالوا: فأما إن أطاق شهود المشاهد، فإنه غير محصر. قالوا: وأما العمرة فلا إحصار فيها، لأن وقتها موجود أبدا. قالوا: والمعتمر لا يحل إلا بعمل آخر ما يلزمه في إحرامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 قالوا: ولم يدخل المعتمر في هذه الآية، وإنما عنى بها الحاج. * * * ثم اختلف أهل هذه المقالة. فقال بعضهم: لا إحصار اليوم بعدو، كما لا إحصار بمرض يجوز لمن فاته أن يحل من إحرامه قبل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة. * ذكر من قال ذلك: 3308 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن طاوس، قال: قال ابن عباس: لا إحصار اليوم. 3309 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت: لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت. 3310 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حبسه عدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة. * * * وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم. * ذكر من قال ذلك: وقال: معنى الآية: فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم: 3311 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، قال: كان عبد الله بن عمر ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت والصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 قابلا ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا. 3312 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: المحصر لا يحل من شيء حتى يبلغ البيت، ويقيم على إحرامه كما هو، إلا أن تصيبه جراحة - أو جرح - فيتداوى بما يصلحه ويفتدي. فإذا وصل إلى البيت، فإن كانت عمرة قضاها، وإن كانت حجة فسخها بعمرة، وعليه الحج من قابل والهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. 3313 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر مر على ابن حزابة وهو بالسقيا، فرأى به كسرا، فاستفتاه، فأمره أن يقف كما هو لا يحل من شيء حتى يأتي البيت إلا أن يصيبه أذى فيتداوى وعليه ما استيسر من الهدي. وكان أهل بالحج. (1) 3314 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر، قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه خوف أو مرض أو خلأ له ظهر يحمله، (2) أو شيء من الأمور كلها، فإنه يتعالج لحبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل من النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها صيام أو صدقة أو نسك. فإن فاته الحج وهو بمحبسه ذلك، أو فاته أن يقف في مواقف عرفة قبل الفجر من ليلة المزدلفة، فقد فاته الحج، وصارت حجته عمرة: يقدم مكة فيطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فإن كان معه هدي نحره بمكة قريبا من   (1) انظر ما سلف رقم: 3289. (2) خلأت الناقة تخلأ خلاه (بكسر الخاء) فهي خالي: إذا بركت وأبت أن تقوم وأبت أن تقوم وفي الحديث"أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم خلأت به يوم الحديبية فقالوا: خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت! وما هو لها بخلق! ولكن حبسها حابس الفيل". والظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 المسجد الحرام، ثم حلق رأسه، أو قصر، ثم حل من النساء والطيب وغير ذلك. ثم عليه أن يحج قابلا ويهدي ما تيسر من الهدي. 3315 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أنه قال: المحصر لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة. وإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى. (1) * * * فهذا ما روي عن ابن عمر في الإحصار بالمرض وما أشبهه، وأما في المحصر بالعدو فإنه كان يقول فيه بنحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله. (2) 3316 - حدثني تميم بن المنتصر، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر أراد الحج حين نزل الحجاج بابن الزبير فكلمه ابناه سالم وعبيد الله، فقالا لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال فيحال بينك وبين البيت! قال: إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حال كفار قريش بينه وبين البيت فحلق ورجع. * * * وأما ما ذكرناه عنهم في العمرة من قولهم:" إنه لا إحصار فيها ولا حصر"، فإنه:- 3317 - حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني هشيم، عن أبي بشر، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه أهل بعمرة فأحصر، قال: فكتب إلى ابن عباس وابن عمر، فكتبا إليه أن يبعث بالهدي، ثم يقيم حتى يحل من عمرته. قال: فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر.   (1) الموطأ: 361، مع خلاف يسير في لفظه وفيه: "المحصر بمرض لا يحل. . . " (2) انظر ما سلف رقم: 3238، 3287، 3288. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 3318 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يعقوب، عن أبي العلاء بن الشخير، قال: خرجت معتمرا فصرعت عن بعيري، فكسرت رجلي، فأرسلنا إلى ابن عباس وابن عمر نسألهما، فقالا إن العمرة ليس لها وقت كوقت الحج، لا تحل حتى تطوف بالبيت. قال: فأقمت بالدثينة أو قريبا منه سبعة أشهر أو ثمانية أشهر. (1) 3319 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال: خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة إلى عبد الله بن عباس، وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس، فلم يرخص لي أحد أن أحل، فأقمت على ذلك إلى سبعة أشهر، حتى أحللت بعمرة. (2) 3320 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن شهاب في رجل أصابه كسر وهو معتمر، قال: يمكث على إحرامه حتى يأتي البيت ويطوف به وبالصفا والمروة، ويحلق أو يقصر، وليس عليه شيء. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من   (1) الدثينة (بفتح أوله وكسر ثانيه) : منزل لبني سليم في طريق البصرة إلى مكة، وكانت تسمى"الدفينة" أيضًا. وقال البكري في معجم ما استعجم: "الدثينة" بفتح أوله وثانيه بعده نون وياء مشددة. ثم نقل عن أبي علي القالي: "الدفينة والدثينة: منزل لبني سليم نفلته من كتاب يعقوب في الإبدال" والصواب ما ذكره ياقوت في ضبطها، لقول النابغة الذبياني: وعلى الرميثة من سكين حاضر وعلى الدثينة من بني سيار (2) الموطأ: 361، وفي بعض لفظه خلاف يسير، وفيه أيضًا: "فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر"، وكأنها الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 قال: إن الله عز وجل عنى بقوله =:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" = كل محصر في إحرام، بعمرة كان إحرام المحصر أو بحج. وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله-. (1) وتأول بـ "المحل" المنحر أو المذبح، وذلك حين حل نحره أو ذبحه، في حرم كان أو في حل، وألزمه قضاء ما حل منه من إحرامه قبل إتمامه إذا وجد إليه سبيلا وذلك لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صد عام الحديبية عن البيت وهو محرم وأصحابه بعمرة، فنحر هو وأصحابه بأمره الهدي، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلى البيت، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه في العام الذي بعده. ولم يدع أحد من أهل العلم بالسير ولا غيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه أقام على إحرامه انتظارا للوصول إلى البيت والإحلال بالطواف به وبالسعي بين الصفا والمروة، ولا تحفى وصول هديه إلى الحرم. (2) فأولى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك = فمن متأول معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل = كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذ نزلت وفي حكم صد المشركين إياه عن البيت أوحيت. (3)   (1) قوله: "وتأول. . " معطوف على قوله: ". . . قول من قال. . . " (2) في المطبوعة: "ولا يخفى وصول هديه إلى الحرم"، وهو لا معنى له. وتحفى: استقصى وبالغ وعنى في معرفة الشيء. من قولهم: "هو به حفى"، أي معنى شديد الاهتمام. هذا ما استظهرته من قراءة هذه الكلمة. والله المسدد للصواب. (3) في المطبوعة: "أنها يومئذ نزلت في حكم صد المشركين. . . " وزيادة الواو لا بد منها حتى يستقيم الكلام ويعتدل جانباه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وقد روي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر. 3321 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثني الحجاج بن أبي عثمان، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه، قال: حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال: فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك، فقالا صدق. (1) 3322 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا مروان، قال: حدثنا حجاج الصواف = وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفيان بن حبيب، عن الحجاج الصواف = عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وعن ابن عباس وأبي هريرة. (2) * * * ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حل منها، نظير فعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية. * * *   (1) الحديث: 3321 -حجاج بن أبي عثمان الصواف: ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة. والحديث رواه أحمد في المسند: 15796 (3: 450 حلبي) عن يحيى القطان وعن ابن علية كلاهما عن حجاج الصواف بهذا الإسناد. ورواه أبو داود: 1962 من طريق يحيى عن حجاج قال المنذري: "وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه". وسيأتي عقب هذا بإسناد ثان. (2) الحديث: 3322 -مروان: هو ابن معاوية الفزاري مضت ترجمته: 1222. والحديث مكرر ما قبله. وقد رواه الحاكم في المستدرك 1: 470 من طريق مروان بن معاوية الفزاري بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. * ووقع في نسخة المستدرك المطبوعة"مروان حدثنا معاوية الفزاري"! وهو خطأ مطبعي، ينبغي تصحيحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدو، إذا حل من إحرامه التطوع فلا قضاء عليه، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء: ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء، وأسقطت عن الآخر، وكلاهما قد حل من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة؟ فإن قال: لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه قيل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو، إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسباب منعهما، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه، والآخر بمنع مانع؟ ثم يسأل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * وأما الذين قالوا: لا إحصار في العمرة، فإنه يقال لهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت، وهو محرم بالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها؟ أو رأيتم إن قال قائل: لا إحصار في حج، وإنما فيه فوت، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحج سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيها ما سن، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بيّن من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصار دون الحج هل بينها وبينه فرق؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله، (1) إلا أن يضطر إلى حلقه منكم مضطر، إما لمرض، وإما لأذى برأسه، من هوام أو غيرها، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لم يبلغ الهدي محله، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك، فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 3323 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما" أذى من رأسه"؟ قال: القمل وغيره، والصدع، وما كان في رأسه. * * * وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحج بالنسك، أو الإطعام، إلا بعد التكفير. وإن أراد أن يفتدي بالصوم، حلق ثم صام. * ذكر من قال ذلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . 3324 - حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن، قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة، أو يطعم المساكين،   (1) انظر ما سلف ص: 36، والتعليق رقم: 1 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك. (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . * * * * ذكر من قال ذلك: 3325 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله، فحلق رأسه، أو مس طيبا أو تداوى، كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس. 3326 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، قال: من أحصر بمرض أو كسر فليرسل بما استيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل حتى يوم النحر. فمن كان مريضا، أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه، فحلق، ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.   (1) الخبر: 3324 -عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري الحافظ: ثقة أخرج له الشيخان وغيرهما مات سنة 237. وهو بصري وابن جرير ولد سنة 224 فكانت سنة حين وفاة عبيد الله 13 سنة ولا يبعد سماعه منه، إلا أنه لم يرحل في طلب الحديث في هذه السن. ولم أجد ما يؤيد ظاهر هذا الإسناد: أنه سمع عبيد الله. وسيأتي هذا الإسناد في خبر آخر: 3374 بواسطة بين الطبري وعبيد الله، وليس يمتنع أن يروي الراوي عن شيخ مباشرة تارة وبواسطة تارة أخرى. ولني أشك في صحة مطبوعة الطبري في هذا الموضع خشية أن يكون سقط اسم شيخ بينهما. وقد وضعت قبل هذا الأثر نقطا وبعده نقطا أخرى ليقيني أن في هذا الموضع خرم وخلط لم أستطع أن أهتدي إليه. ومع ذلك فأنا في شك من نص هذا الأثر، وأخشى أن يكون من كلام الطبري لا من كلام الحسن وسيأتي قول الحسن بهذا الإسناد في رقم: 3374. هذا والإسناد هناك، "حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه. . . " وكذلك نقله ابن كثير في تفسيره 1: 448 فلا شك أن في هذا الإسناد نقصا أيضًا وصوابه"حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ. . . ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 3327 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 3328 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" هذا إذا كان قد بعث بهديه، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض، وإلى طيب، وإلى ثوب يلبسه، قميص أو غير ذلك: فعليه الفدية. 3329 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: من أحصر عن الحج فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه، فحلق رأسه في محبسه ذلك، فعليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. 3330 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه مرض أو خوف، فإنه يتعالج في حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل له النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها: صيام، أو صدقة، أو نسك. 3331 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثني بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله جل ثناؤه:" فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: هذا قبل أن ينحر الهدي، إن أصابه شيء فعليه الكفارة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحلاق إذا أراد حلاقه. * ذكر من قال ذلك: 3332 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فمن اشتد مرضه، أو آذاه رأسه وهو محرم، فعليه صيام، أو إطعام، أو نسك. ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك. * * * وعلة من قال هذه المقالة ما: - 3333 - حدثنا به المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال: إن كعب بن عجرة مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير، فقال له النبي عليه السلام:"هل عندك شاة"؟ فقال كعب: ما أجدها! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأطعم ستة مساكين، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، ثم احلق رأسك. (1) * * *   (1) الحديث: 3333 -هذا الحديث إلى الحديث: 3358 ثم الحديث: 3364 كلها طرق لحديث كعب بن عجرة من أوجه مختلفة بألفاظ وسياقات ثم الحديث 3359 في قصة كعب أيضًا. فهو 28 حديثا وجدت تخريج أكثرها. ومنها 10 أسانيد لم يقع إلى تخريجها فتستفاد من هذا التفسير العظيم ولعل بعضها موجود في مراجعنا ولكن لم أصل إليه. وأرقام الأسانيد التي لم أجد تخريجها هي: 3333، 3339، 3343، 3344، 3349، 3350، 3355، 3357، 3358، 3359. وهذا الإسناد: 3333 -أولها ولم أجده في موضع آخر وعطاء في هذا الإسناد: الظاهر أنه عطاء بن أبي رباح. ويحتمل أن يكون"عطاء بن عبد الله الخراساني"، لأن الحديث سيأتي من روايته: 3353 عن شيخ مبهم عن كعب بن عجرة. وأيا ما كان فهذا الإسناد ضعيف لإرساله لأن عطاء يحكي قصة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدركها، ثم لم يذكر من حدثه بها. وسيأتي الحديث مرة أخرى 3357 من رواية ابن جريج عن عطاء مرسلا أيضًا. ومعناه ثابت صحيح من الروايات الموصولة الصحيحة الآتية وفيها كثرة والحمد لله. الصئبان جمع صاب (بضم بفتح) جمع صؤابة: وهو بيض القمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 قال أبو جعفر: فأما "المرض" الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، (1) والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان. وأما" الأذى" الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنحو الصداع والشقيقة، وما أشبه ذلك، (2) وأن يكثر صئبان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرة الحالة به، فيكون ذلك بعموم قول الله جل وعز:" أو به أذى من رأسه". * * * وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية. * ذكر الأخبار التي رويت في ذلك: 3334 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبي، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ولي وفرة فيها هوام ما بين أصل كل شعرة إلى فرعها قمل وصئبان، فقال:"إن هذا لأذى"! قلت: أجل يا رسول الله، شديد! قال: أمعك دم؟ قلت: لا! قال: فإن شئت   (1) البرسام: ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء. ثم يتصل إلى الدماغ حتى يهذي صاحبه في علته هذه. (2) الشقيقة: صداع يأخذ في نصف الرأس والوجه، يداوى بالاحتجام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 فصمْ ثلاثة أيام، وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين، على كل مسكين نصف صاع. (1) 3335 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عامر، عن كعب بن عجرة، عن النبي بنحوه. 3336 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أسد بن عمرو، عن أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر، قد قملت وأكلني الصئبان. فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"احلق! " ففعلت، فقال:"هل لك هدي؟ " فقلت: ما أجد! فقال: إنه ما استيسر من الهدي، فقلت: ما أجد! فقال:"صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع. قال: ففي نزلت هذه الآية:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، إلى آخر الآية (2)   (1) الحديثان: 3334، 3335 -داود: هو ابن أبي هند. والحديث رواه احمد في المسند 4: 343 وأبو داود: 1858 -كلاهما من طريق داود عن الشعبي. الوفرة: أعظم من الجمة وهي ما جاوز شحمة الأذنين من الشعر ثم اللمة وهي ما ألم بالمنكبين والهوام واحدها هامة: وهي الحيات وأشباهها مما يهم أي يدب. والهميم الدبيب. وكنوا عن القمل بأنها هوام لأنها تهم في الرأس، أي تدب فيه وتؤذي. وآصع جمع صاع وأصلها"أصؤع" بالهمزة مضمومة (مثل جبل وأجبل) قلبت الهمزة مكان الصاد، كما قالوا في دار أدؤر وآدر (المغرب عن أبي علي الفارسي ومعيار اللغة للشيرازي) والصاع مكيال لأهل المدينة وللفقهاء اختلاف كثير في تقديره، وسيأتي (آصع) في رقم: 3346 (2) الحديث: 3336 -أسد بن عمرو البجلي القاضي: فقيه من أصحاب أبي حنيفة وروى عنه الإمام أحمد وقال: "كان صدوقا". ووثقه ابن سعد 7/2/74. وترجمته في التعجيل. وهو مختلف فيه جدا، بين التوثيق والتكذيب. والعدل ما قال أحمد. أشعث: هو ابن سوار الكندي. وهو ثقة. عامر: هو الشعبي. عبد الله بن معقل بن مقرن المزني: تابعي ثقة من خيار التابعين. و"معقل": بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف. و"مقرن": بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة وآخره نون. والحديث رواه أحمد 4: 243 (حلبي) عن هشيم عن أشعث بهذا الإسناد. وسيأتي 3364، من طريق هشيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 قال أبو جعفر: وهذا الخبر ينبئ عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنما تجب على الحالق بعد الحلق، وفساد قول من قال: يفتدي ثم يحلق; لأن كعبا يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالفدية، بعد ما أمره بالحلق فحلق. * * * 3337 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام، أو فرق من طعام بين ستة مساكين. (1) 3338 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، قال: قعدت إلى كعب وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال كعب: نزلت في كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال:"ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ " فقلت: لا فنزلت هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: فنزلت في خاصة، وهي لكم عامة. (2)   (1) الحديث: 3337 -مؤمل: هو ابن إسماعيل. سفيان: هو الثوري. * عبد الرحمن بن الأصبهاني: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. * والحديث رواه أحمد في المسند 4: 243 (حلبي) عن مؤمل بن إسماعيل، بهذا الإسناد بلفظ أطول مما هنا. * الفرق (بفتح الراء وسكونها) : مكيال لأهل المدينة يسع ستة عشر رطلا. وفي تقديره أيضًا اختلاف كاختلافهم في الصاع. وانظر ما سيأتي رقم: 3346. (2) الحديث: 3338 -رواه الطيالسي في مسنده: 1062، عن شعبة بهذا الإسناد. ورواه أحمد في المسند 4: 242 (حلبي) عن محمد بن جعفر وعن عفان وعن بهز -ثلاثتهم عن شعبة. * وكذلك رواه البخاري 4: 14 (فتح) ومسلم 1: 336- 337، وابن ماجه: 3079- كلهم من طريق شعبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 3339 - حدثني تميم، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، قال: سمعت عبد الله بن معقل المزني، يقول: سمعت كعب بن عجرة يقول: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقمل رأسي ولحيتي وشاربي وحاجبي، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فقال: ما كنت أرى هذا أصابك"، ثم قال: ادعوا لي حلاقا! فدعوه، فحلقني. ثم قال: أعندك شيء تنسكه عنك؟ قال: قلت لا. قال:"فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من طعام. قال كعب: فنزلت هذه الآية في خاصة:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" ثم كانت للناس عامة. (1) 3340 - حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثني أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أتؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: قلت نعم! قال: احلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو اذبح شاة. (2)   (1) الحديث: 3339 -تميم: هو ابن المنتصر الواسطي، شيخ الطبري. مضت ترجمته: 891. * إسحاق الأزرق: هو إسحاق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي. ثقة معروف من شيوخ أحمد وابن معين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وشيوخه شريك: هو ابن عبد الله النخعي. * عبد الله بن معقل المزني، كما بينا من قبل. ووقع هنا في المطبوعة"المرى" وهو تصحيف. * وهذا الإسناد مما لم أجده -من طريق شريك- في موضع آخر. * نسك ينسك (بضم السين) نسكا: ذبح، والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسك. والنسيكة الذبيحة. (2) الحديث: 3340 -رواه أحمد 4: 244 (حلبي) من طريق معمر. ورواه البخاري 7: 351، ومسلم 1: 336 من طريق حماد بن زيد- كلاهما عن أيوب بهذا الإسناد. وسيأتي عقب هذا، من رواية ابن علية عن أيوب وسيأتي: 3346، من رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح وأيوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 3341 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله = إلا أنه قال: والقمل يتناثر علي- أو قال: على حاجبي. وقال أيضا: أو انسك نسيكة. قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ. (1) 3342 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب، قال: في أنزلت هذه الآية، قال: فقال لي: ادنه. فدنوت، فقال:"أيؤذيك هوامك؟ قال: أظنه قال نعم! قال: فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك، ما تيسر. (2) 3343 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل عن مجاهد، عن كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه زمن الحديبية وهو يوقد تحت قدر له وهوام رأسه تتناثر على وجهه، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: نعم! قال: احلق رأسك، وعليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك، تذبح ذبيحة، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تطعم ستة مساكين. (3)   (1) الحديث: 3341 -رواه أحمد في المسند 4: 241 (حلبي) عن إسماعيل- وهو ابن عليه- بهذا الإسناد. * ورواه مسلم 1: 336، عن يعقوب بن إبراهيم -شيخ الطبري هنا- وعن علي بن حجر وزهير ابن حرب ثلاثتهم عن ابن علية. (2) الحديث: 3342- رواه مسلم 1: 336 من طريق ابن أبي عدي عن ابن عون بهذا الإسناد. (3) الحديثان: 3343، 3344 -سعيد في الإسنادين: هو ابن أبي عروبة. * صالح أبو الخليل -وفي الإسناد الثاني"عن أبي الخليل-: هو صالح بن أبي مريم وكنيته"أبو الخليل". مضت ترجمته: 1899. ووقع في المطبوعة هنا في أولهما"عن صالح بن أبي الخليل" وفي ثانيهما"عن ابن أبي الخليل". وهو خطأ ناسخ أو طابع في زياة كلمة"بن". * وهذان الإسنادان من طريق صالح بن أبي مريم عن مجاهد - مما لم أجده في موضع آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 3344 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على كعب بن عجرة زمن الحديبية، ثم ذكر نحوه. 3345 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني سيف، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال قلت: نعم! قال: فاحلق. قال: ففي نزلت هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". (1) 3346 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح وأيوب السختياني، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتهافت علي، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: قلت: نعم! قال: فاحلق، وانسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقا بين ستة مساكين = قال أيوب: انسك نسيكة، وقال ابن أبي نجيح: اذبح شاة= قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع. (2)   (1) الحديث: 3345 -موسى بن عبد الرحمن المسروقي شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 174. * سيف: هو ابن سليمان -ويقال: ابن أبي سليمان- المخزومي المكي. وهو ثقة من شيوخ الثوري والقطان ووكيع، وأخرج له الشيخان وغيرهما. * والحديث رواه أحمد في المسند 4: 243 (حلبي) عن يحيى القطان عن سيف بهذا الإسناد وكذلك رواه البخاري 4: 13- 14، ومسلم 1: 236 كلاهما من طريق سيف، به. (2) الحديث: 3346- رواه أحمد في المسند 4: 243 (حلبي) عن سفيان وهو ابن عيينة عن ابن أبي نجيح -وحده- عن مجاهد بهذا الإسناد مختصرا. ورواه أيضًا 4: 242 عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مطولا. وقد مضى في تخريج الحديثين: 3340، 3341 رواية أحمد إياه من طريق أيوب. وأشرنا إلى هذا هناك. ورواه مسلم 1: 336 والترمذي 2: 120- 121 كلاهما عن ابن أبي عمر، عن سفيان ابن عيينة وابن أبي نجيح، وحميد الأعرج وعبد الكريم الأربعة عن مجاهد. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 3347 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم! فأمره أن يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام. (1) 3348 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون. قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيؤذيك هوام رأسك؟ " قال: قلت نعم! قال ونزلت هذه الآية:" فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". (2)   (1) الحديث: 3347 -أبو عاصم: هو النبيل الضحاك بن مخلد عيسى: هو ابن ميمون المكي، مضت ترجمته في: 278. * والحديث رواه البخاري 4: 16 (فتح) من طريق شبل، عن ابن أبي نجيح، ثم من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح، به. * ورواه البخاري أيضًا 7: 343 من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح. * وقد مضى في الذي قبله أسانيد أخر عن ابن أبي نجيح. (2) الحديث: 3348 -يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. هشيم: هو ابن بشير ابن القاسم أبو معاوية الواسطي. * أبو بشر: هو جعفر بن إياس وهو ابن أبي وحشية اليشكري الواسطي ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. * والحديث رواه أحمد في المسند 4: 241 (حلبي) عن هشيم، بهذا الإسناد. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 1065 عن هشيم وأبي عوانة كلاهما عن أبي بشر، به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 3349 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، عن كعب بن عجرة، قال: لفي نزلت، وإياي عنى بها:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم = وهو بالحديبية، وهو عند الشجرة، وأنا محرم =: أيؤذيك هوامه؟ قلت: نعم! - أو كلمة لا أحفظها عنى بها ذاك - فأنزل الله جل وعز:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، والنسك: شاة. (1) 3350 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن مجاهد، قال: قال كعب بن عجرة، والذي نفسي بيده، لفي نزلت هذه الآية، وإياي عنى بها، ثم ذكر نحوه، قال: وأمره أن يحلق رأسه. 3351 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة، أي ذلك فعلت أجزأك". (2)   (1) الحديثان: 3349، 3350 -جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي. * مغيرة: هو ابن مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين- الضبي الفقيه، ثقة أخرج له الستة. * وهذان الإسنادان، مما لم أجده في موضع آخر. ومن البين أن فيهما انقطاعا بين مجاهد وكعب بن عجرة بينهما عبد الرحمن بن أبي ليل، كما يتبين من الأسانيد السابقة واللاحقة. (2) الحديث: 3351 -هو في الموطأ ص: 417ن ولكن حذف فيه"عن مجاهد"- بين عبد الكريم الجزري وابن أبي ليلى. وكذلك هو في الموطأ رواية سويد بن سعيد، ص: 185 (من مصورة عن مخطوطة عتيقة نفيسة منه، عندي) وقال ابن عبد البر في التقصي، رقم: 332"هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة، ليس فيه ذكر مجاهد. وسقوط مجاهد منه خطأ، لأن عبد الكريم إنما رواه عن مجاهد عن ابن أبي ليلى: وقد رواه ابن وهب وابن القاسم في الموطأ -عن مالك عن عبد الكريم، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى، عن كعب وهو الصواب". وقد أشار الحافظ في الفتح 4: 11 إلى رواية الموطأ هذه، وقال: "قال الدارقطني: رواه أصحاب الموطأ: عن مالك عن عبد الكريم عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدا، حتى قال الشافعي: إن مالكا وهم فيه" ثم أشار إلى روايات من رواه عن مالك على الصواب: ابن القاسم عند النسائي. وابن وهب عند الطبري - وهي هذه الرواية. وعبد الرحمن بن مهدي عند أحمد. ورواية ابن مهدي في المسند 4: 241 (حلبي) ورواية ابن القاسم في النسائي 2: 28. وكلاهما على الصواب، كرواية الطبري -هذه- من طريق ابن وهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 3352 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قيس، عن مجاهد، [عن ابن أبي ليلى] ، عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لعله آذاك هوامك؟ - يعني القمل - قال: فقلت: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة. (1) 3353 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك بن أنس حدثه، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال: أخبرني شيخ بسوق البرم بالكوفة، عن كعب بن عجرة أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي، قد امتلأ رأسي ولحيتي قملا فأخذ بجبهتي، ثم قال: احلق هذا، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين! وقد كان رسول الله صلى الله   (1) الحديث: 3352 -حميد بن قيس المكي القارئ، قارئ أهل مكة: ثقة من شيوخ مالك والثوري وأخرج له الستة. * وقد سقط من إسناد الحديث هنا"ابن أبي ليلى" بين مجاهد وكعب بن عجرة وليس هذا من خطأ الناسخ أو الطابع، بل هو من رواة الموطأ. * فالحديث في الموطأ ص: 417، على الصواب"مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب"- في رواية يحيى بن يحيى المعروفة وكذلك هو على الصواب في رواية سويد بن سعيد عن مالك ص: 185. * وقال ابن عبد البر في التقصي رقم: 43"هذا هو الصحيح في إسناد هذا الحديث. ومن أسقط من إسناده عن مالك، "ابن أبي ليلى"- فقد أفسد إسناده. وممن رواه كما رواه يحيى مجودا: القعنبي والشافعي وابن عبد الحكم وأبو مصعب وابن بكير والزبيري. وسقط لابن القاسم وابن وهب وابن عفير"ابن أبي ليلى" من إسناد هذا الحديث". ونحو ذلك قال الحافظ في الفتح 4: 11. وقد رواه البخاري 4: 10- 12 عن عبد الله بن يوسف، عن مالك على الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (1) 3354 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن نافع، قال: حدثني أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب القرظي، عن كعب بن عجرة، قال كعب: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين; وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (2) 3355 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا روح، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب، قال: سمعت كعب بن عجرة يقول: أمرني - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن أحلق وأفتدي بشاة. (3) 3356 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن الزبير بن عدي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: لقيت كعب بن عجرة في هذه السوق، فسألته عن حلق رأسه؟ فقال: أحرمت فآذاني القمل. فبلغ ذلك   (1) الحديث: 3353 -عطاء بن عبد الله الخراساني: هو عطاء بن أي مسلم واسم أبي مسلم"عبد الله" وهو الراجح الثابت عند مالك والذي اقتصر عليه ابن أبي حاتم 3/1/334- 335. وفي التهذيب قول آخر: أنه"ميسرة". وعطاء هذا: ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة. * والحديث في الموطأ ص: 417- 418. وأشار إليه الحافظ في الفتح ولم ينسبه لغير الموطأ. ونقل عن ابن عبد البر لبيان الشيخ المبهم في الإسناد قال: "يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى، أو عبد الله بن معقل". أقول: ويحتمل أن يكون غيرهما. فالإسناد منقطع حتى نستيقن من هذا المبهم؟ (2) الحديث: 3354 -يونس: هو ابن عبد الأعلى. ابن نافع: هو عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ المدني، من أصحاب مالك، وهو ثقة أخرج له مسلم وتكلم بعضهم في حفظه. أسامة بن زيد الليثي المدني: ثقة أخطأ في بعض أحاديث ولكن ذلك لا يدفعه عن الاحتجاج بروايته. * محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي: تابعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. * والحديث رواه ابن ماجه: 3080، عن عبد الرحمن بن إبراهيم عن عبد الله بن نافع بهذا الإسناد. (3) الحديث: 3355 -إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري البغدادي الحافظ: ثقة ثبت روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا البخاري مترجم في التهذيب. وتاريخ بغداد 6: 93- 95 روح: هو ابن عبادة مضت ترجمته: 3015. * والحديث مختصر ما قبله، من هذا الوجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي، فحك بأصبعه رأسي فانتثر منه القمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احلقه، وأطعم ستة مساكين. (1) 3357 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريح، قال: أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتؤذيك هذه الهوام؟ قال: نعم. قال: فاحلق واجزز، ثم صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين. قال: قلت أسمى النبي صلى الله عليه وسلم مدين مدين؟ قال: نعم، كذلك بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك لكعب، ولم يسم النسك، قال: وأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كعبا بذلك بالحديبية قبل أن يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحلق والنحر، لا يدري عطاءكم بين الحلق والنحر. (2) 3358 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني الليث، عن ابن مسافر، عن ابن شهاب، عن فضالة بن محمد الأنصاري، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه: أن كعب بن عجرة أصابه أذى في رأسه، فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام. (3)   (1) الحديث: 3356 -هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي: ثقة وثقه ابن معين وغيره. عنبسة: هو ابن سعيد بن الضريس -بضم الضاد المعجمة- الأسدي: ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما. الزبير بن عدي الهمداني اليامي: ثقة وثقه أحمد وابن معين وغيرهما، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. * والحديث رواه النسائي 2: 28، من طريق عمرو بن أبي قيس عن الزبير بن عدي، بهذا الإسناد. (2) الحديث: 3357 -عطاء: الظاهر أنه ابن أبي رباح. ويحتمل أن يكون"ابن عبد الله الخراساني"، الماضي في الإسناد: 3353، كما بينا في: 3333. (3) الحديث: 3358 -ابن مسافر: هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي المصرين كان واليا على مصر سنة 118، وهو ثقة ثبت أخرج له الشيخان وغيرهما. * فضالة بن محمد الأنصاري: ثقة ترجمه البخاري في الكبير 4/1/126، قال: "بعد في أهل المدينة. عمن حدثه عن كعب بن عجرة. روى عنه الزهري". وبنحو ذلك ترجمه بن أبي حاتم 3/2/77. * والحديث لم أجده في موضع آخر، إلا إشارة البخاري وابن أبي حاتم إليه، بما ذكرنا. * ولحديث كعب عجرة أسانيد أخر، وزيادة على الأسانيد الكثيرة التي هنا: * فمنها: رواية شعبة عن الحكم عن أبي ليلى، عن كعب -عند أحمد في المسند 4: 241- 242، 243 (حلبي) . * ومنها: رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن كعب -في المسند 4: 242. * ومنها: رواية وهيب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن أبي ليلى. في المسند 4: 242، وصحيح مسلم 1: 336. * ومنها: رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل المزني - في المسند 4: 243. * ومنها: رواية الليث، عن نافع عن رجل من الأنصار عن كعب - عند أبي داود: 1859. * ومنها: رواية أبان، عن الحكم عن ابن أبي ليلى - عند أبي داود: 1860. * ومنها رواية ابن أبي زائدة، عن ابن الأصبهاني عن ابن معقل - عند مسلم 1: 337. * وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5: 54- 55، 169- 170، 185، 187، 214، 242. ومجمع الزوائد 3: 234- 235. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 3359 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو الأسود، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: سمعت شعيبا يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: أيؤذيك دواب رأسك؟ قال: نعم، قال: فاحلقه وافتد إما بصوم ثلاثة أيام، وإما أن تطعم ستة مساكين، أو نسك شاة" ففعل. (1) * * *   (1) الحديث: 3359 - هذا إسناد صحيح. مخرمة هو ابن بكير بن عبد الله بن الأشج المدني: وهو ثقة تكلموا في سماعه من أبيه فجزم بعضهم بأنه لم يسمع منه، وإنما يحدث عن كتاب أبيه. وحكى ابن أبي أويس أنه وجد في ظهر كتاب مالك: أنه سأل مخرمة عن ذلك فحلف له أنه سمع من أبيه الأحاديث التي يحدث بها عنه. انظر ترجمته في التهذيب. والكبير 4/2/16؛ وابن أبي حاتم 4/1/363- 364، والمراسيل لابن أبي حاتم، ص: 80. وهذا الحديث مما لم أجده في موضع آخر. إلا أن الحافظ أشار إليه في الفتح 4: 11، وذكر أنه رواه الطبري والطبراني. ولم أجده في مجمع الزوائد، مع أنه من شرطه، لروايته عند الطبراني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 قال أبو جعفر: وقد بينا قبل معنى" الفدية"، وأنها بمعنى الجزاء والبدل. (1) * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه. فقال بعضهم: الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلوا بالأخبار التي ذكرناها قبل. * ذكر من قال ذلك: 3360 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة. 3361 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، مثله. 3362 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، مثله. 3363 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم ومجاهد أنهما قالا في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قالا الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا. 3364 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا = إلا أنه قال في إطعام المساكين: ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين. (2)   (1) انظر ما سلف 3: 438 - 439 (2) الحديث: 3364- مضى: 3336، من رواية أسد بن عمرو عن أشعث وقد أشرنا هناك إلى أنه رواه أحمد في المسند 4: 243، عن هشيم. فهذه رواية هشيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 3365 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" إن صنع واحدا فعليه فدية، وإن صنع اثنين فعليه فديتان، وهو مخير أن يصنع أي الثلاثة شاء. أما الصيام فثلاثة أيام. وأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأما النسك فشاة فما فوقها. نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه، فحلقه. 3366 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فمن كان مريضا أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق، ففدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة فرق بين ستة مساكين، أو نسك، والنسك: شاة. 3367 - حدثت عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق، ففدية من صيام أو صدقة، أو نسك. قال: فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة: إطعام ستة مساكين، بين كل مسكينين صاع. والنسك: شاة. 3368 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما، قال: مدا لطعامه، ومدا لإدامه. 3369 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة بإسناده مثله. 3370 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 3371 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن حرب بن قيس مولى يحيى بن أبي طلحة أنه سمع محمد بن كعب، وهو يذكر الرجل الذي نزل فيه:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه"، قال: فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الصيام: فثلاثة أيام، وأما المساكين فستة، وأما النسك فشاة. 3372 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة. فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله - حلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى- كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. والصيام: ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك: شاة. 3373 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قالا الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة. * * * وقال آخرون: الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم - من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين. * ذكر من قال ذلك: 3374 - حدثنا ابن أبي عمران، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء. فالصيام: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كل مسكين مكوكين، مكوكا من تمر، ومكوكا من بر، والنسك: شاة. (1) 3375 - حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: حدثنا بشر بن عمرو، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إطعام عشرة مساكين. * * * وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم، أو صدقة جزاء = من نقص دخل في إحرامه، أو فعل ما لم يكن له فعله = بدلا من دم، على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا: جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده. قالوا: فكل صوم وجب مكان دم، فمثله. قالوا: فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره. فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق. * * * وقال آخرون: بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده. فإن   (1) الخبر: 3374- أشرنا إلى هذا الإسناد في الخبر: 3324، وذكرنا هناك أنا نشك في صحة ذلك الموضع، لما فيه من رواية الطبري عن عبيد الله بن معاذ العنبري سماعا دون واسطة. وها هو ذا يروي عنه هنا بواسطة"ابن أبي عمران". وابن أبي عمران هذا: لم نعرف من هو بعد طول البحث والتتبع. فعسى أن نجد في موضع آخر ما يدل على من هو"ابن أبي عمران" وما يكشف عن سماع الطبري من عبيد الله أو عدم سماعه منه. والإسنادان يحتاجان إلى تحقيق. انظر التعليق على رقم 3324= ص 55 المكوك (بفتح الميم وتشديد الكاف المضمومة) مكيال لأهل العراق قدره صاع ونصف صاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 لم تكن عنده قومت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. * ذكر من قال ذلك: 3376 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: ذكر الأعمش، قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، فأجابه بقوله: يحكم عليه إطعام، فإن كان عنده اشترى شاة، فإن لم تكن قومت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدق، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. فقال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر. قال: لما قال لي سعيد بن جبير: هذا ما أظرفه! قال: قلت: هذا إبراهيم! قال: ما أظرفه! كان يجالسنا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت"يجالسنا"، انتفض منها. 3377 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: يحكم على الرجل في الصيد، فإن لم يجد جزاءه قوم طعاما، فإن لم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما، وكذلك الفدية. * * * وقال آخرون: بل هو مخير بين الخلال الثلاث، يفتدي بأيها شاء. * ذكر من قال ذلك: 3378 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فهو بالخيار، مثل الجراب فيه الخيط الأبيض والأسود، فأيهما خرج أخذته. 3379 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو" فصاحبه بالخيار، يأخذ الأولى فالأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 3380 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: كل ما كان في القرآن:"كذا، فمن لم يجد فكذا"، فالأول فالأول. وكل ما كان في القرآن"أو كذا"" أو كذا"، فهو فيه بالخيار. 3381 - حدثني نصير بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي عن يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد - وسئل عن قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال مجاهد: إذا قال الله تبارك وتعالى لشيء" أو"" أو"، فإن شئت فخذ بالأول، وإن شئت فخذ بالآخر. 3382 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال لي عطاء وعمرو بن دينار- في قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" - قالا له أيتهن شاء. 3383 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فلصاحبه أن يختار أيّه شاء. قال ابن جريج: قال لي عمرو بن دينار: كل شيء في القرآن" أو"" أو"، فلصاحبه أن يأخذ بما شاء. 3384 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا ليث عن عطاء ومجاهد أنهما قالا ما كان في القرآن"أو كذا"،" أو كذا"، فصاحبه بالخيار، أي ذلك شاء فعل. 3385 - حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا يزيد، عن سفيان، عن ليث ومجاهد، عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فهو مخير فيه، فإن كان"فمن"" فمن"، فالأول فالأول. (1) 3386 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أسباط بن محمد، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فليتخير أي الكفارات   (1) قوله: "فمن، فمن" أي فمن لم يجد، كما سلف في الأثر: 3380، 3386 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 شاء، فإذا كان:"فمن لم يجد"، فالأول فالأول. 3387 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال: حدثت عن عطاء، قال: كل شيء في القرآن"أو""أو" فهو خيار. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه، ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع. وللمفتدي الخيار بين أي ذلك شاء، لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها، بل جعل إليه فعل أي الثلاث شاء. ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له: ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير -إذا كان موسرا- في أن يكفر بأي الكفارات الثلاث شاء؟ فإن قال:"لا"، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال:"بلى"، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به. ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم: وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة   (1) الأثر: 3387: أبو النعمان عارم هو محمد بن الفضل السدوسي عارم لقب له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الحلق قبل الحلق، وهدي المتعة قبل التمتع، ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك - فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق - فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن اعتل في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة. قيل له: فرد الأخرى قياسا عليها، إذ كان فيها اختلاف. (1) وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى: من الصيام عشرة أيام، ومن الإطعام عشرة مساكين، فمخالفون نص الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم: أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام، أتسوون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام، أم تفرقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سووا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية، وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية - من الإطعام والصيام. وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف. وإن قالوا: بل نخالف بين ذلك، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام. قيل: فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة، وإنما هو تارك عملا من الأعمال، وتركتم رد الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه، ومخير بين الكفارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف،   (1) في المطبوعة: "إن كان فيها اختلاف"، والصواب ما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك = وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك، لاختلاف أمرهما فيما وصفنا = فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقولوا في ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس عليه بالفساد شاهد؟ * * * واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته. فقال بعضهم: النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان. * ذكر من قال ذلك: 3388 - حدثني يحيى بن طلحة، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبمكة، وما سوى ذلك حيث شاء. 3389 - حدثني يحيى بن طلحة، حدثنا فضيل، عن ليث، عن طاوس، قال: كل شيء من الحج فبمكة، إلا الصوم. 3390 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سألت عطاء عن النسك، قال: النسك بمكة لا بد. 3391 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: الصدقة والنسك في الفدية بمكة، والصيام حيث شئت. 3392 - حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا ليث، عن طاوس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 أنه كان يقول: ما كان من دم أو إطعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء. 3393 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا شبل، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى. 3394 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى، والطعام بمكة. * * * وقال آخرون: النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي. * ذكر من قال ذلك: 3395 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، قال: أخبرني أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان ومعه علي والحسين بن علي رضوان الله عليهم، فارتحل عثمان = قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر = قال: فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلنا له: أيها النائم! فاستيقظ، فإذا الحسين بن علي. قال: فحمله ابن جعفر حتى أتى به السقيا. قال: فأرسل إلى علي، فجاء ومعه أسماء بنت عميس. قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال: فقال علي للحسين: ما الذي تجد؟ قال: فأومأ إلى رأسه. قال: فأمر به علي فحلق رأسه، ثم دعا ببدنة فنحرها. (1)   (1) الخبر: 3395 - يحيى بن سعيد: هو الأنصاري النجاري مضت ترجمته: 2154. يعقوب بن خالد: ترجم في الكبير 4/2/394، وابن أبي حاتم 4/2/207. والتعجيل ص: 456 باسم"يعقوب بن خالد بن المسيب المخزومي"، ولكن سيأتي في الإسناد التالي، أنه: "يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب"، فيستفاد منه رفع نسبه، ويكون في تلك الكتب منسوبا لجده الأعلى. وهو ثقة، لم يذكر فيه البخاري ولا ابن أبي حاتم جرحا. أبو أسماء مولى عبد الله بن جعفر: تابعي ثقة. مترجم في الكنى للبخاري، رقم: 22، وابن أبي حاتم 4/2/333، والتعجيل. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 449. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 3396 - حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب المخزومي أخبره أنه سمع أبا أسماء مولى عبد الله بن جعفر، يحدث: أنه خرج مع عبد الله بن جعفر يريد مكة مع عثمان، حتى إذا كنا بين السقيا والعرج اشتكى الحسين بن علي، فأصبح في مقيله الذي قال فيه بالأمس. قال أبو أسماء: فصحبته أنا وعبد الله بن جعفر، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع، فقال عبد الله بن جعفر: إن هذه لراحلة حسين. فلما دنا منه قال له: أيها النائم! وهو يظن أنه نائم; فلما دنا منه وجده يشتكي، فحمله إلى السقيا، ثم كتب إلى علي فقدم إليه إلى السقيا فمرضه قريبا من أربعين ليلة. ثم إن عليا قيل له: هذا حسين يشير إلى رأسه، فدعا علي بجزور فنحرها، ثم حلق رأسه. (1) 3397 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، قال: أقبل حسين بن علي مع عثمان حراما - حسبت أنه اشتكى بالسقيا = فذكر ذلك لعلي: فجاء هو وأسماء بنت عميس، فمرضوه عشرين ليلة، فأشار حسين إلى رأسه، فحلقه ونحر عنه جزورا. قلت: فرجع به؟ قال: لا أدري. * * * قال أبو جعفر: وهذا الخبر يحتمل أن يكون ما ذكر فيه من نحر علي عن الحسين الناقة قبل حلقه رأسه، ثم حلقه رأسه بعد النحر- إن كان على ما رواه مجاهد عن يزيد، كان على وجه الإحلال من الحسين من إحرامه للإحصار عن   (1) الخبر: 3396 -مجاهد بن موسى بن فروخ، شيخ الطبري: مضت ترجمته: 510 ووقع في المطبوعة هنا"مجاهد بن يونس" وهو خطأ يقينا، فليس في التراجم من يسمى بهذا. وشيخه"يزيد": هو يزيد بن هارون. والخبر مكرر ما قبله، بنحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الحج بالمرض الذي أصابه - وإن كان على ما رواه يعقوب، عن هشيم: من نحر علي عنه الناقة بعد حلقه رأسه: أن يكون على وجه الافتداء من الحلق، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزئ نحره دون مكة والحرم. 3398 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الفدية حيث شئت. 3399 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن الحكم، عن إبراهيم - في الفدية، في الصدقة والصوم والدم-: حيث شاء. 3400 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن إبراهيم أنه كان يقول، فذكر مثله. * * * وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي. * ذكر من قال ذلك: 3401 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، وعبد الملك، وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء. * * * قال أبو جعفر: وعلة من قال:" الدم والإطعام بمكة"، القياس على هدي جزاء الصيد. وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة، فقال: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] . قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 لمن وجب عليه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد. وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخل في عداد من يستحق ذلك الاسم كان مؤديا ما كلفه الله. لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة، لشرط ذلك عليه، كما شرط في جزاء الصيد، وفي ترك اشتراط ذلك عليه، دليل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ. وأما علة من قال:" النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء"، فالنسك دم كدم الهدي، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد. وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة. فليس لأحد أن يدعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه؛ كما ليس لأحد أن يدعي أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم، إذ كان الله قد خص أن ذلك لمن به من أهل المسكنة. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام، فيجزي عن المفتدي. وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يحب أن يكن مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها. فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز رد حكمها على المفسرة قياسا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل، إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول، إذ كان هو المبين عن مراد الله. * * * وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد. * * * واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا؟ فقال بعضهم ليس للمفتدي أن يأكل منه، ولكن عليه أن يتصدق بجميعه. * ذكر من قال ذلك: 3402 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الملك، عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهن: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر المساكين. 3403 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن سالم، عن عطاء قال: لا تأكل من فدية ولا من جزاء، ولا من نذر، وكل من المتعة، ومن الهدي والتطوع. 3404 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن سالم، عن مجاهد، قال: جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها، ويأكل من التطوع والتمتع. 3405 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن الحجاج، عن عطاء، قال: لا تأكل من جزاء، ولا من فدية، وتصدق به. 3406 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفارات كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 3407 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا عبد الملك والحجاج وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ولا من الفدية، ويؤكل مما سوى ذلك. 3408 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا: لا يؤكل من الفدية = وقال مرة: من هدي الكفارة، ولا من جزاء الصيد. * * * وقال بعضهم: له أن يأكل منه. * ذكر من قال ذلك: 3409 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك. 3410 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، قال: من الفدية وجزاء الصيد والنذر. (1) 3411 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، قال: الشاة بين ستة مساكين يأكل منه إن شاء، ويتصدق على ستة مساكين. 3412 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني عبد الملك، قال: حدثني من سمع الحسن، يقول: كل من ذلك كله - يعني من جزاء الصيد والنذر والفدية. 3413 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا الأشعث عن الحسن: أنه كان لا يرى بأسا بالأكل من جزاء الصيد ونذر المساكين. * * *   (1) يعني: يأكل من الفدية وجزاء الصيد والنذر، كما سيأتي قول الحسن في رقم: 3412، 3413. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 قال أبو جعفر: وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره. فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له. = أو يكون له وحده، وما وجب له فليس عليه. لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال:" وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة"، وإنما يجب له على غيره، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه. = أو يكون وجب عليه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك، غير جائز أن يكون عليه، لما وصفنا. وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله. قالوا: وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول. * * * وعلة من قال:" له أن يأكل من ذلك"، أن الله أوجب على المفتدي نسكا، والنسك في معاني الأضاحي، وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية. قالوا: ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره الله، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بما شاء، وإطعام ما أحب منه من أحب، كما له ذلك في أضحيته. * * * قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك: أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 دون غيره، أو ذبحه والتصدق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به. فإن كان ذلك عليه، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدق به، كما لو لزمته زكاة في ماله، لم يكن له أن يأكل منها، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم - على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره - دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره. * * * ومعنى" النسك"، الذبح لله، في لغة العرب، يقال:" نسك فلان لله نسيكة" = بمعنى: ذبح لله ذبيحة =" ينسكها نسكا"، (1) كما:- 3414 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: النسك: أن يذبح شاة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم. * ذكر من قال ذلك: 3415 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:" فإذا أمنتم" فإذا برأتم.   (1) وانظر أيضًا ما سلف في الجزء 3: 75- 80، في معنى"المناسك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 3416 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" يقول: فإذا أمنت حين تحصر، إذا أمنت من كسرك، ومن وجعك، فعليك أن تأتي البيت، فيكون لك متعة، فلا تحل حتى تأتي البيت. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتم من خوفكم. (1) * ذكر من قال ذلك: 3417 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإذا أمنتم" لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ. 3418 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فإذا أمنتم" قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه. * * * قال أبو جعفر: وهذا القول أشبه بتأويل الآية. لأن" الأمن" هو خلاف" الخوف"، لا خلاف" المرض"، (2) إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد. وإنما قلنا: إن معناه: الخوف من العدو، لأن هذه الآيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم. * * *   (1) في المطبوعة: "فإذا أمنتم من وجع خوفكم" ولفظ"وجع" مقحمة ولا شك، وهي تفسد الكلام والتقسيم معا، فذلك طرحتها. (2) انظر ما سلف في الجزء 3: 29- 30، تفسير معنى"الأمن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم أيها المؤمنون، فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي. * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة" التمتع" الذي عنى الله بهذه الآية. فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو محرم بالحج، أو مرض، أو عائق من العلل، حتى يفوته الحج، فيقدم مكة، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة، ثم يحج ويهدي، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأول إلى إحرامه الثاني من القابل. * ذكر من قال ذلك: 3419 - حدثنا عمران بن موسى البصري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، قال: سمعت ابن الزبير وهو يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحصره عدو أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتى تذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة، فيتمتع بحله إلى العام القابل ثم يحج ويهدي هديا، فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج. 3420 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان ابن الزبير يقول: المتعة لمن أحصر، قال: وقال ابن عباس: هي لمن أحصر ومن خليت سبيله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 3421 - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: قال عطاء: كان ابن الزبير يقول: إنما المتعة للمحصر وليست لمن خلي سبيله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم = وقد حللتم من إحرامكم، ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج، ثم حللتم، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم = فعليكم ما استيسر من الهدي. * ذكر من قال ذلك: 3422 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة: (1) " فإن أحصرتم"، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، قال: يبعث بما استيسر من الهدي، شاة. قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله وحلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى، كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك =" فإذا أمنتم"، فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتى أتى البيت، حل من حجه بعمرة وكان عليه الحج من قابل. وإن هو رجع ولم يتم إلى البيت من وجهه ذلك، فإن عليه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة. فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج، فإن عليه ما استيسر من الهدي، شاة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس في ذلك كله. 3423 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، قال: هذا رجل أصابه خوف   (1) في المطبوعة: "عن إبراهيم بن علقمة" وهو خطأ والصواب ما أثبت وانظر ما سلف قريبا رقم: 3415. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 أو مرض أو حابس حبسه حتى يبعث بهديه، (1) فإذا بلغت محلها صار حلالا فإن أمن أو برأ ووصل إلى البيت فهي له عمرة، وأحل، وعليه الحج عاما قابلا. وإن هو لم يصل إلى البيت حتى يرجع إلى أهله، فعليه عمرة وحجة وهدي. قال قتادة: [وهي] والمتعة التي لا يتعاجم الناس فيها أن أصلها كان هكذا. (2) 3424 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" إلى:" تلك عشرة كاملة"، قال: هذا المحصر إذا أمن، فعليه المتعة في الحج وهدي المتمتع، فإن لم يجد فالصيام، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحج، فعليه فيها هدي. 3425 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج، فعليه الهدي. * * * وقال آخرون: عنى بذلك المحصر وغير المحصر. * ذكر من قال ذلك: 3426 - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس كان يقول:   (1) مضى برقم: 3231، بهذا الإسناد، وفي لفظه خلاف، وهو مختصر هذا وفيه: ". . أو حابس حبسه عن البيت، يبعث بهديه". (2) الزيادة التي بين القوسين، لا بد منها. وقوله: "لا يتعاجم الناس. . . " أي لا يشك الناس ولا يتنازعون ولا يختلفون في بيانها وفي حديث ابن مسعود: "ما كنا نتعاجم أن ملكا ينطق على لسان عمر"، أي كنا نفصح بذلك إفصاحا، فلا نكنى ولا نورى وجاء في حديث على ما يفسره وهو قوله: "كنا أصحاب محمد لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر". وأصل هذا الحرف من قولهم: "استعجم عليه الأمر" أي: استبهم والتبس، فإذا التبس الأمر صار موضعا للشك والتنازع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 المتعة لمن أحصر، ولمن خُلِّي سبيله. وكان ابن عباس يقول: أصابت هذه الآية المحصر ومن خليت سبيله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه، فعليه ما استيسر من الهدي. * ذكر من قال ذلك: 3427 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي"، أما المتعة فالرجل يحرم بحجة، ثم يهدمها بعمرة. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين حاجا، حتى إذا أتوا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب منكم أن يحل فليحل، قالوا: فما لك يا رسول الله! قال: أنا معي هدي. * * * وقال آخرون: بل ذلك: الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعا بإحلاله إلى إحرامه بالحج. * ذكر من قال ذلك: 3428 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج"، من يوم الفطر إلى يوم عرفة، فعليه ما استيسر من الهدي. 3429 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3430 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب = وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب = عن نافع، قال: قدم ابن عمر مرة في شوال، فأقمنا حتى حججنا، فقال: إنكم قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 استمتعتم إلى حجكم بعمرة، فمن وجد منكم أن يهدي فليهد، ومن لا فليصم ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى أهله. 3431 - حدثنا ابن بشار، وعبد الحميد بن بيان = قال ابن بشار: حدثنا، وقال عبد الحميد: أخبرنا = يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن نافع، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتمرين في شوال، فأدركهما الحج وهما بمكة، فقال ابن عمر: من اعتمر معنا في شوال ثم حج، فهو متمتع عليه ما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. 3432 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن عطاء في رجل اعتمر في غير أشهر الحج، فساق هديا تطوعا، فقدم مكة في أشهر الحج، قال: إن لم يكن يريد الحج، فلينحر هديه، ثم ليرجع إن شاء، فإن هو نحر الهدي وحل، ثم بدا له أن يقيم حتى يحج، فلينحر هديا آخر لتمتعه، فإن لم يجد فليصم. 3433 - حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، مثل ذلك. 3434 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب بأنه كان يقول: من اعتمر في شوال أو في ذي القعدة ثم أقام بمكة حتى يحج، فهو متمتع، عليه ما على المتمتع. 3435 - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، عن عطاء مثل ذلك. 3436 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فما استيسر من الهدي. 3437 - حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع، قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 أخبرني ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: المتعة لخلق الله أجمعين، الرجل، والمرأة، والحر، والعبد، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحج ثم أقام ولم يبرح حتى يحج، ساق هديا مقلدا أو لم يسق إنما سميت" المتعة"، من أجل أنه اعتمر في شهور الحج، فتمتع بعمرة إلى الحج، ولم تسم" المتعة" من أجل أنه يحل بتمتع النساء. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بها: فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حل من إحرامه بالحج - بسبب الإحصار، بعمرة اعتمرها لفوته الحج في السنة القابلة في أشهر الحج - إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحج = فعليه ما استيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحج وقضاها ثم حل من عمرته وأقام حلالا حتى يحج من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" هو ما وصفنا، من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحج والعمرة من الأحكام في إحصاره. فكان مما أخبر تعالى ذكره: أنه عليه - إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحج - ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وكان معلوما (1) بذلك أنه معني به اللازم له - عند أمنه من إحصاره - من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه، دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف. * * *   (1) في المطبوعة: "كان معلومًا بذلك" وزيادة الواو واجبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فما استيسر من الهدي، فهديه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حل منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها، وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج في حجه، وسبعة إذا رجع إلى أهله. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهن في الحج: أي في أيام الحج هن. فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أي أيام شاء، بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة. * ذكر من قال ذلك: 3438 - حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. 3439 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (1)   (1) الخبر: 3439 -إبراهيم بن إسماعيل بن نصر: هو التبان. ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/85، وذكر أنه يروي عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة. وستأتي رواية أخرى له، بهذا الإسناد: 3484. ورواية ثالثة: 3521، وزاد في نسبته هناك"السلمي" ولم تذكر هذه في ابن أبي حاتم ولم أجد له ترجمة عند غيره. ابن أبي حبيبة: هو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري وهو ثقة تكلم فيه البخاري وغيره، ووثقه أحمد وغيره. ورجحنا في شرح المسند: 2727 أن حديثه حسن على الأقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 3440 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإذا فاته صامها أيام منى. 3441 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، عن هشام بن عروة، عن عروة، قال: المتمتع يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. 3442 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: آخرهن يوم عرفة. 3443 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سألت الحكم عن صوم ثلاثة أيام في الحج، قال: يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. 3444 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" أنه قال: آخرها يوم عرفة. 3445 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا هُشيم، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي: صام يوما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة. 3446 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، وهارون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: يصوم المتمتع الثلاثة الأيام لمتعته في العشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 إلى يوم عرفة. قال: وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه. 3447 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صوم ثلاثة أيام للمتمتع، إذا لم يجد ما يهدي، يصوم في العشر إلى يوم عرفة متى صام أجزأه، فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه. 3448 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب بن عطاء، أن عطاء بن أبي رباح، كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم. 3449 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة. 3450 - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود = وحدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود = عن عامر في هذه الآية:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. 3451 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج" آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة. 3452 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3453 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 3454 - حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: فآخرها يوم عرفة. 3455 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة. 3456 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن عطاء:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة. 3457 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: عرفة وما قبلها من العشر. 3458 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم، قالا" صيام ثلاثة أيام في الحج"، في العشر، آخرهن عرفة. 3459 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن خمير، قال: سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: آخرهن يوم عرفة. 3460 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" إلى:" وسبعة إذا رجعتم"، وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله. 3461 - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا زياد بن المنذر، عن أبي جعفر:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى. * ذكر من قال ذلك: 3462 - حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليا كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق. 3463 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة: يصوم المتمتع الذي يفوته الصيام أيام منى. 3464 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحج، فليصم أيام التشريق فإنهن من الحج. 3465 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن محمد أن نافعا حدثه: أن عبد الله بن عمر قال: من اعتمر في أشهر الحج فلم يكن معه هدي ولم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق، فليصم أيام منى. 3466 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة = وعن سالم، عن عبد الله بن عمر = أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن يجد هديا. 3467 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا هشام، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا لم يصم الثلاثة الأيام قيل النحر صام أيام التشريق، فإنها من أيام الحج. وذكر هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال: 3468 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن هشام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 بن عروة، عن أبيه في هذه الآية:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: هي أيام التشريق. 3469 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن وبرة، عن ابن عمر قال: يصوم يوما قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة =. قال: وقال عبيد بن عمير: يصوم أيام التشريق. * * * قال أبو جعفر: وعلة من قال:" آخر الثلاثة الأيام التي أوجب الله صومهن في الحج على من لم يجد الهدي من المتمتعين - يوم عرفة"، أن الله جل ثناؤه أوجب صومهن في الحج بقوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج". قالوا: وإذا انقضى يوم عرفة، فقد انقضى الحج، لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام. قالوا: وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر. قالوا: فإن يكن إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه ليس من أيام الحج، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الحج، لأن أيام الحج متى انقضت من سنة، فلن تعود إلى سنة أخرى بعدها. أو يكون إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه يوم عيد، فأيام التشريق التي بعده في معناه، لأنها أيام عيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صومهن، كما نهى عن صوم يوم النحر. قالوا: وإذا كان يفوت صومهن بمضي يوم عرفة، لم يكن إلى صيامهن في الحج سبيل; لأن الله شرط صومهن في الحج، فلم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه الله عليه لمتعته. * * * وعلة من قال:" آخر الأيام الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه انقضاء آخر أيام منى"، أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي، ثم الصيام إن لم يجد إلى الهدي سبيلا. قالوا: وإنما يجب عليه نحر هدي المتعة يوم النحر، ولو كان له واجدا قبل ذلك. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك فإنما رخص له في الصوم يوم يلزمه نحر الهدي فلا يجد إليه سبيلا. قالوا: والوقت الذي يلزمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 فيه نحر الهدي يوم النحر والأيام التي بعده من أيام النحر، فأما قبل ذلك فلم يمكن نحره. قالوا: فإذا كان النحر لم يكن له لازما قبل ذلك، وإنما لزمه يوم النحر، فإنما لزمه الصوم يوم النحر، وذلك حين عدم الهدي فلم يجده، فوجب عليه الصوم. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فالصوم إنما يلزمه أوله في اليوم الذي يلي يوم النحر. وذلك أن النحر إنما كان لزمه من بعد طلوع الفجر. ومن ذلك الوقت إذا لم يجده، يكون له الصوم. قالوا: وإذا طلع فجر يوم لم يلزمه صومه قبل ذلك، إذا كان الصوم لا يكون في بعض نهار يوم في واجب، علم أن الواجب عليه الصوم من اليوم الذي يليه إلى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النحر من أيام التشريق. قالوا: ولا معنى لقول القائل: إن أيام منى ليست من أيام الحج; لأنهن ينسك فيهن بالرمي والعكوف على عمل الحج، كما ينسك غير ذلك من أعمال الحج في الأيام قبلها. قالوا: هذا مع شهادة الخبر الذي:- 3470 - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبي ليلى، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر، أن يصوم أيام التشريق مكانها. (1)   (1) الحديث: 3470 - يحيى بن سلام البصري نزيل مصر: ثقة، قال ابن أبي حاتم 4/2/155: "سألت أبي عنه؟ فقال: كان شيخا بصريا وقع إلى مصر، وهو صدوق". وله ترجمة جيدة في طبقات علماء إفريقية لأبي العرب، ص: 37- 39 وقال أبو العرب: "كان ثقة ثبتا، لقى غير واحد من التابعين وأكثر من لقى الرجال والحمل عنهم. وله مصنفات كثيرة في فنون العلم، وكان من الحفاظ". وذكر أنه مات بمصر سنة 200. وفي لسان الميزان أنه ضعفه الدارقطني. ولكن أهل المغرب أعلم بحال رواتهم وكانت مصر تعتبر من بلاد المغرب. ابن أبي ليلى: هو عبد الله بن أبي ليلى، وهو ثقة ثبت أخرج له أصحاب الكتب الستة. والحديث رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 427، بهذا الإسناد نفسه: عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم مع شيء من الاختصار في اللفظ. وأصل معناه ثابت في البخاري 4: 211، موقوفا. فرواه عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة: "سمعت عبد الله بن عيسى عن الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي". وروى مالك في الموطأ ص: 426 نحو معناه عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة - وعن ابن شهاب عن سالم عن أبيه. وقول عائشة وابن عمر"لم يرخص": هو بضم الياء، كما رواه الحافظ من أصحاب شعبة - فيما ذكر الخافظ في الفتح: وهو عندنا مرفوع حكما، إن لم يكن مرفوعا لفظا. لأن الصحابي إذا قال ذلك فإنما يريد به من له حق الترخيص والمنع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بحث الحافظ في هذا الموضع بحثا جيدا في ذلك. وذكر الحافظ رواية يحيى بن سلام هذه، نقلا عن الدارقطني والطحاوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 = لصحة ما قلنا في ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فيه. 3471 - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكرٍ لله، إلا من كان عليه صوم من هدي. (1) * * * واختلف أهل العلم في أول الوقت الذي يجب على المتمتع الابتداء في صوم الأيام الثلاثة التي قال الله عز وجل:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، والوقت الذي يجوز له فيه صومهن، وإن لم يكن واجبا عليه فيه صومهن. فقال بعضهم: له أن يصومهن من أول أشهر الحج. * ذكر من قال ذلك: 3472 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وطاوس: أنهما كانا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه. قال: وقال مجاهد: إذا لم يجد المتمتع ما يهدي، فإنه يصوم في العشر إلى يوم عرفة، متى ما صام أجزأه. فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.   (1) الحديث: 3471 - سفيان بن حسين الواسطي: ثقة، تكلموا في روايته عن الزهري خاصة"فإن فيها تخاليط يجب أن يجانب، وهو ثقة في غير الزهري"- كما قال ابن حبان. وهذا الحديث مرسل، لم يذكر الزهري من رواه عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 3473 - حدثني أحمد بن المغيرة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: من صام يوما في شوال ويوما في ذي القعدة ويوما في ذي الحجة، أجزأه عنه من صوم التمتع. (1) 3474حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، قال: إن شاء صام أول يوم من شوال. 3475 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قول الله جل وعز:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: إن شاء صامها في العشر، وإن شاء في ذي القعدة، وإن شاء في شوال. * * * وقال آخرون: يصومهن في عشر ذي الحجة دون غيرها. * ذكر من قال ذلك: 3476 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء: يصوم الثلاثة الأيام للمتعة في العشر إلى يوم عرفة. 3477 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب أن عطاء بن أبي رباح كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة، فليصم. 3478 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ولا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال. 3479 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو شهاب، عن الحجاج، عن أبي جعفر، قال: لا يصام إلا في العشر.   (1) الخبر: 3473 - أحمد بن المغيرة، شيخ الطبري: لم أعرف من هو، ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 3480 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا الربيع، عن عطاء أنه كان يقول في صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: في تسع من ذي الحجة أيها شئت، فمن صام قبل ذلك في شوال وفي ذي القعدة، فهو بمنزلة من لم يصم. * * * وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج. * ذكر من قال ذلك: 3481 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: إذا خشي أن لا يدرك الصوم بمكة صام بالطريق يوما أو يومين. 3482 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام في المتعة وأنت حلال. * * * وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهن إلا بعد ما يحرم بالحج. * ذكر من قال ذلك: 3483 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يصومهن إلا وهو حرام. 3484 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (1) 3485 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو   (1) الأثر: 3484: انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 3439. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 متمتع إلا أن يحرم. وقال مجاهد: يجزيه إذا صام في ذي القعدة. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهن لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي، من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه، إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله، أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة. وإنما قلنا: له صوم أيام التشريق، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قبل، (1) فإن صامهن قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته. وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم" متمتع" بعمرته إلى حجه. وإنما يقال له قبل إحرامه" معتمر"، حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة. فإذا دخل في الحج محرما به - بعد قضاء عمرته في أشهر الحج، ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالا حتى حج من عامه - سمي"متمتعا". فإذا استحق اسم"متمتع" لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده. فأما إن صامه قبل دخوله في الحج - وإن كان من نيته الحج- فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين، ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.   (1) في المطبوعة: "قيل" مكان"قبل" وهو خطأ وتصحيف بلا معنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فإن ظن ظان أن صوم المعتمر- بعد إحلاله من عمرته، أو قبله، وقبل دخوله في الحج - مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ. لأن الله جل ثناؤه جعل لليمين تحليلا هو غير تكفير، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها، محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم، تكفيرا لما يظن أنه يلزمه ولما يلزمه، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه. ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج، قيل له: ما قلت فيمن كفر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الجمرات، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك؟ فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحج التي أوجب الله في تضييعه على المحرم، أو في فعله، كفارة، فإن سوى بين جميع ذلك قاد قوله، (1) وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان، وهو مقيم صحيح، إذا كفر قبل دخول الشهر، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسأل: عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن قاد قوله في ذلك، (2) خرج من قول جميع الأمة.   (1) في المطبوعة في الموضعين: "قاد قوله" بالفاء وهو تصحيف غث جدا، وجاء بعض من علق على تفسير الطبري فقال: "لعله يريد اضطراب قولهن قال في اللسان: فاد يفيد فيدا: تبختر، وقيل: هو أن يحذر شيئا فيعدل عنه جانبا"!! فصار معنى الكلام أعرق في الغثاثة من تصحيف لفظه! (2) والصواب ما أثبت، يقال: "قاد قوله" أي استقام به على نهجه الذي نهجه، ولم يخالف منطقته فيه ولا سياقه. وذلك من قولهم: قاد الفرس قودا. وهذا المجاز قد استعمله قدماء الفقهاء والمتكلمين والمناطقة يقولون: "هذا لا يستقيم على قود كلامك" أي: على سياقه ونهجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحج، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره. فإن قال لنا قائل: أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحج إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله؟ قيل: بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه، أو صامهن بمكة، كان مؤديا ما عليه من فرض الصوم في ذلك، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه، مختارا للعسر على اليسر. وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة. * ذكر من قال ذلك: 3486 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق. 3487 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله. 3488 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، نحوه. 3489 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إن شاء صامها في الطريق، وإنما هي رخصة. 3490 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، قال: إن شئت صم السبعة في الطريق، وإن شئت إذا رجعت إلى أهلك. 3491 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن فطر، عن عطاء، قال: يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحب إلي. 3492 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إن شئت في الطريق، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك. * * * فإن قال: وما برهانك على أن معنى قوله:" وسبعة إذا رجعتم" إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم = دون أن يكون معناه: إذا رجعتم من منى إلى مكة؟ قيل: إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره. * ذكر بعض من قال ذلك: 3493 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إذا رجعت إلى أهلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 3495 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" وسبعة إذا رجعتم" إذا رجعتم إلى أمصاركم. 3496 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 3497 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير:" وسبعة إذا رجعتم" قال: إلى أهلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" كاملة". فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي. * ذكر من قال ذلك: 3498 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن في قوله:" تلك عشرة كاملة"، قال: كاملة من الهدي. 3499 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن، مثله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام على إحرامه، ولم يحل ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: الأمر، وإن كان مخرجه مخرج الخبر، وإنما عنى بقوله:" تلك عشرة كاملة" تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض عليكم صومها. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وقال آخرون: بل قوله:" كاملة"، توكيد للكلام، كما يقول القائل:" سمعته بأذني، ورأيته بعيني"، وكما قال: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل: 26] ولا يكون" الخر" إلا من فوق، فأما من موضع آخر، فإنما يجوز على سعة الكلام. * * * وقال آخرون: إنما قال:" تلك عشرة كاملة"، وقد ذكر"سبعة" و"ثلاثة"، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة، وليس يخبر عن عدتها، وقالوا: ألا ترى أن قوله:"كاملة" إنما هو وافية؟. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي [بالصواب] قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر، ومعناه الأمر بها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله" ذلك"، أي التمتع بالعمرة إلى الحج، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، كما:- 3500 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، يعني المتعة أنها لأهل الآفاق، ولا تصلح لأهل مكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 3501 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أن هذا لأهل الأمصار ليكون عليهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتمر أخرى، فتجمع حجته وعمرته في سنة واحدة. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم. فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. * ذكر من قال ذلك: 3502 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، قال: قال ابن عباس ومجاهد: أهل الحرم. 3503 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن مجاهد:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: أهل الحرم. 3504 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: بلغنا عن ابن عباس في قوله:" حاضري المسجد الحرام"، قال: هم أهل الحرم، والجماعة عليه. 3505 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة، إنه لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا = أو قال: يجعل بينه وبين الحرم واديا = ثم يهل بعمرة. 3506 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري: أن أهل مكة كانوا يغزون ويتجرون، فيقدمون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 في أشهر الحج ثم يحجون، ولا يكون عليهم الهدي ولا الصيام، أرخص لهم في ذلك، لقول الله عز وجل:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام". 3507 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: أهل الحرم. 3508 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: المتعة للناس، إلا لأهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم، وذلك قول الله عز وجل:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. (1) بالكلام * * * وقال آخرون: عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة. * ذكر من قال ذلك: 3509 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: من كان دون المواقيت. 3510 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك بإسناده مثله = إلا أنه قال: ما كان دون المواقيت إلى مكة. 3511 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عطاء، قال: من كان أهله من دون المواقيت، فهو كأهل مكة لا يتمتع. * * *   (1) الأثر: 3508 - في تفسير ابن كثير 1: 453: "المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم" وفي الدر المنثور 1: 217: "المتعة للناس، إلا لأهل مكة هي لمن لم يكن أهله في الحرم". والصواب ما في نص الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الحرم، ومن قرب منزله منه. * ذكر من قال ذلك: 3512 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، ونخلتان. 3513 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: عرفة ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع. 3514 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في هذه الآية قال: اليوم واليومين. 3515 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع. 3516 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء: أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام". 3517 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: أهل مكة وفج وذي طوي، وما يلي ذلك فهو من مكة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات. لأن"حاضر الشيء"، في كلام العرب، هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك = وكان لا يستحق أن يسمى"غائبا"، إلا من كان مسافرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 شاخصا عن وطنه، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم"غائب" عن وطنه ومنزله = كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة، غير مستحق أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته. وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام، من أجل أن"التمتع" إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحج، مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحج. وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحج، ثم انصرف إلى وطنه، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة، ثم حج من عامه ذلك، بطل أن يكون مستمتعا. لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع، من ترك العود إلى الميقات، والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم. وكان المكي من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك، من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل اسمه:" واتقوا الله"، بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بين لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرم فيها عليكم."واعلموا": تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وقت الحج أشهر معلومات. * * * "والأشهر" مرفوعات بـ "الحج"، وإن كان له وقتا، لا صفة ونعتا، إذ لم تكن محصورات بتعريف، بإضافة إلى معرفة أو معهود، فصار الرفع فيهن كالرفع في قول العرب في نظير ذلك من المحل:" المسلمون جانب، والكفار جانب"، برفع الجانب الذي لم يكن محصورا على حد معروف. ولو قيل:"جانب أرضهم، أو بلادهم"، لكان النصب هو الكلام. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" الحج أشهر معلومات".   (1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن لفراء 1: 119. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 فقال بعضهم: يعني بـ "الأشهر المعلومات": شوالا وذا القعدة، وعشرا من ذي الحجة. * ذكر من قال ذلك: 3518 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة. 3519 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وشريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. 3520 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، مثله. 3521 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. (1) 3523 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" الحج أشهر معلومات"، وهن: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر. 3524 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:" الحج أشهر معلومات"، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. 3525 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن وأبو عامر قالا   (1) سقط من ترقيمنا رقم: 3522. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = قال: أخبرنا الثوري عن المغيرة، عن إبراهيم مثله. 3526 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي مثله. 3527 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وإسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 3528 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، مثله. 3529 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، مثله. 3530 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3531 - حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس = وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي = وأخبرنا يونس، عن الحسن = وأخبرنا جويبر، عن الضحاك = وأخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد، مثله. (1) 3532 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة في" الحج أشهر معلومات". 3533 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ورقاء،   (1) الأثر: 3531 - القائل: "وأخبرنا مغيرة. . . = وأخبرنا جويبر. . . = إلخ" هو هشيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة. 3534 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. 3535 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله. * * * وقال آخرون: بل يعني بذلك شوالا وذا القعدة، وذا الحجة كله. * ذكر من قال ذلك: 3536 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أكان عبد الله يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. 3537 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، كان يسمي شوالا وذا القعدة، وذا الحجة. 3538 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. 3539 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء:" الحج أشهر معلومات"، قال عطاء: فهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. 3540 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 3541 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 قوله:" الحج أشهر معلومات" أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة = وربما قال: وعشر ذي الحجة. 3542 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. 3543 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، مثله. 3544 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما وجه قائلي هذه المقالة، وقد علمت أن عمل الحج لا يعمل بعد تقضي أيام منى؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي توهمته، وإنما عنوا بقيلهم: الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن أشهر الحج لا أشهر العمرة، وأن شهور العمرة سواهن من شهور السنة. ومما يدل على أن ذلك معناهم في قيلهم ذلك ما:- 3545 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: أن تفصلوا بين أشهر الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته. 3546 - حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا شعبة، قال: ما لقيني - أيوب أو قال: ما لقيت أيوب - إلا سألني عن حديث قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قلت لعبد الله: امرأة منا قد حجت، أو هي تريد أن تحج، أفتجعل مع حجها عمرة؟ فقال: ما أرى هؤلاء إلا أشهر الحج. قال: فيقول لي أيوب ومن عنده: مثل هذا الحديث حدثك قيس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 بن مسلم عن طارق بن شهاب أنه سأل عبد الله؟ !. 3547 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له: العمرة في المحرم؟ فقال: كانوا يرونها تامة. 3548 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن عون، قال: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج، قال: كانوا لا يرونها تامة. 3549 - حدثنا ابن بيان الواسطي، قال: أخبرنا إسحاق عن عبد الله بن عون، عن ابن سيرين أنه كان يستحب العمرة في المحرم، قال: تكون في أشهر الحج؟ قال: كانوا لا يرونها تامة. 3550 - حدثنا ابن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: قال ابن عمر للحكم بن الأعرج أو غيره: إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. 3551 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي يعقوب، قال: سمعت ابن عمر يقول: لأن أعتمر في عشر ذي الحجة أحب إلي من أن أعتمر في العشرين. 3552 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: سألت ابن مسعود عن امرأة منا أرادت أن تجمع مع حجها عمرة، فقال: أسمع الله يقول:" الحج أشهر معلومات" ما أراها إلا أشهر الحج. 3553 - حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا حزام القطعي، قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ما أحد من أهل العلم شك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 = ونظائر ذلك مما يطول باستيعاب ذكره الكتاب، مما يدل على أن معنى قيل من قال: وقت الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن من غير شهور العمرة، وأنهن شهور لعمل الحج دون عمل العمرة، وإن كان عمل الحج إنما يعمل في بعضهن لا في جميعهن. * * * وأما الذين قالوا: تأويل ذلك: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، فإنهم قالوا: إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله:" الحج أشهر معلومات" إلى تعريف خلقه ميقات حجهم، لا الخبر عن وقت العمرة. قالوا: فأما العمرة، فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحج، ثم لم يصح عنه بخلاف ذلك خبر. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان عمل الحج ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة، علم أن معنى قوله:" الحج أشهر معلومات" إنما هو ميقات الحج، شهران وبعض الثالث. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: إن معنى ذلك: الحج شهران وعشر من الثالث; لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحج، ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث، وإذا لم يكن معنيا به جميعه، صح قول من قال: وعشر ذي الحجة. * * * فإن قال قائل: فكيف قيل:" الحج أشهر معلومات" وهو شهران وبعض الثالث؟ قيل: إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول:" له اليوم يومان منذ لم أره"، وإنما تعني بذلك: يوما وبعض آخر، وكما قال جل ثناؤه: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 203] وإنما يتعجل في يوم ونصف. وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة، ثم يخرجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 عاما على السنة والشهر، فيقول:" زرته العام، وأتيته اليوم"، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك، وفي ذلك الحين، فكذلك" الحج أشهر"، والمراد منه: الحج شهران وبعض آخر. (1) * * * فمعنى الآية إذا: ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث، وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" فمن فرض فيهن الحج"، فمن أوجب الحج على نفسه وألزمها إياه فيهن - يعني: في الأشهر المعلومات التي بينها. وإيجابه إياه على نفسه، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله، وترك جميع ما أمره الله بتركه. * * * وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحج، بعد إجماع جميعهم، على أن معنى" الفرض": الإيجاب والإلزام. فقال بعضهم: فرض الحج الإهلال. * ذكر من قال ذلك: 3554 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ورقاء، عن عبد الله المدني بن دينار، عن ابن عمر قوله:" فمن فرض فيهن الحج" قال: من أهل بحج. 3555 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال:   (1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 152. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 أخبرنا عبد الرزاق = قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن عطاء، قال: التلبية. 3556 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران = وحدثنا علي، قال: حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان الثوري:" فمن فرض فيهن الحج" قال: فالفريضة الإحرام، والإحرام التلبية. 3557 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم - يعني ابن مهاجر-، عن مجاهد:" فمن فرض فيهن الحج" قال: الفريضة: التلبية. 3558 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:" فمن فرض فيهن الحج" قال: أهل. 3559 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الفرض التلبية، ويرجع إن شاء ما لم يحرم. 3560 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فمن فرض فيهن الحج" قال: الفرض: الإهلال. 3561 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:" فمن فرض فيهن الحج" قال: التلبية. 3562 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم، قال: حدثنا أبو عمرو الضرير، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن جبر بن حبيب، قال: سألت القاسم بن محمد عن:" من فرض فيهن الحج"، قال: إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت، فقد فرضت الحج. (1)   (1) الخر: 3562 - إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز، أبو مسلم الكجي الحافظ: ثقة نبيل، مدحه البحتري. له كتاب في السنن. مات سنة 292 وقد قارب المئة. مترجم في تذكرة الحفاظ 2: 176- 177ن وتاريخ بغداد 6: 120- 124. "أبو عمر الضرير الأكبر": هو حفص بن عمر البصري، وهو ثقة كان غاية في السنة وكان من العلماء بالفرائض والحساب والشعر وأيام الناس والفقه. مات سنة 220، عن بضع وسبعين سنة. ووقع في المطبوعة"أبو عمرو". وهو خطأ. "جبر بن حبيب": ثقة وكان إماما في اللغة. مترجم في التهذيب والكبير 1/2/242، وابن أبي حاتم 1/1/533. ولم يذكروا له رواية إلا عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. فيستفاد من هذا الموضع روايته أيضًا عن ابن أخيها: القاسم بن محمد بن أبي بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وقال آخرون: فرض الحج إحرامه. * ذكر من قال ذلك: 3563 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن فرض فيهن الحج" يقول: من أحرم بحج أو عمرة. 3564 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن = وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم = قالوا جميعا: حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:" فمن فرض فيهن الحج" قال: فمن أحرم - واللفظ لحديث ابن بشار. 3565 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك والحسن بن صالح، عن ليث، عن عطاء، قال: الفرض: الإحرام. 3566 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء وبعض أشياخنا عن الحسن في قوله:" فمن فرض فيهن الحج" قالا فرض الحج الإحرام. 3567 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" فمن فرض فيهن الحج" فهذا عند الإحرام. 3568 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الفرض الإحرام. 3569 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله. 3570 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم:" فمن فرض فيهن الحج" قال: من أحرم. * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام -كان عند قائله- الإيجاب بالعزم، ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية، كما قال القائلون القول الأول. وإنما قلنا: إن فرض الحج الإحرام، لإجماع الجميع على ذلك. وقلنا: إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه، على ما وصفنا آنفا، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة: إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله، فإن يكن ذلك كذلك، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرد للإحرام، وأن يكون من لم يكن له متجردا فغير محرم. وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجردا من ثيابه، بإيجابه الإحرام = ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلب، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام، كما التجرد له بعض مشاعره. وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه، ما يدل على أن حكم غيره من مشاعره حكمه. أو يكون - إذ فسد هذا القول - قد يكون محرما وإن لم يلب ولم يتجرد ولم يعزم العزم الذي وصفنا. وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه، إذا كان من أهل التكليف، ما ينبئ عن فساد هذا القول. وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث، وهو أن الرجل قد يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا، وإن لم يظهر ذلك بالتجرد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه. وإذا صح ذلك صح ما قلنا من أن فرض الحج، هو ما قرن إيجابه بالعزم، (1) على نحو ما بينا قبل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى" الرفث" في هذا الموضع، (2) فقال بعضهم: هو الإفحاش للمرأة في الكلام، وذلك بأن يقول:" إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا"، لا يكني عنه، وما أشبه ذلك. * ذكر من قال ذلك: 3571 - حدثنا أحمد بن حماد الدولابي ويونس قالا حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن الرفث في قول الله:" فلا رفث ولا فسوق" قال: هو التعريض بذكر الجماع، وهي"العرابة" من كلام العرب، وهو أدنى الرفث. (3) 3572 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم،   (1) في المطبوعة: "هو ما مر إيجابه بالعزم" وهو تحريف فاسد لا معنى له. والدليل على صحة ما ذهبت إليه في قراءة هذا النص قوله في أول تفسير هذه الكلمة من الآية: "وإيجابه إياه على نفسه، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله. . . " ثم ما جاء بعد ذلك في تفصيل معنى"الفرض". فالسياق يقتضي ما أثبت من قراءتي للنص. (2) انظر ما سلف في معنى: "الرفث" من الجزء 3: 487، 488 (3) الخبر: 3571- أحمد بن حماد الدولابي: مضت ترجمته في: 2593. والعرابة (بفتح الهين وكسرها) والإعراب والتعريب والإعرابة: ما قبح من الكلام أو التصريح بالهجر من الكلام والفاحش منه. وأعرب الرجل وعرب: أفحش. والجيد هنا أن يقال إن"العرابة" هو التعريض بالنكاح. وأنظر الآثار الآتية من رقم: 3581 وما بعده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 عن ابن طاوس في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: العرابة والتعريض للنساء بالجماع. 3573 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عون، قال: حدثنا زياد بن حصين، قال: حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصعدت مع ابن عباس في الحاج، وكنت له خليلا فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عباس، فأخذ بذنب بعيره، فجعل يلويه، وهو يرتجز ويقول: وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (1) قال: فقلت: أترفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. 3574 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرياحي، عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم، ويقول: وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (2) قال: قلت: تتكلم بالرفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. 3575 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم. 3576 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، مثله.   (1) لم أعرف قائله، وسيأتي في هذا الجزء 127، 130 - ثم في 5: 68/ ثم 16: 157 (بولاق) وهو رجز كثير الدوران في الكتب. والهمس والهميس: الصوت الخفي الذي لا غور له في الكلام والوطء والأكل وغيرها. ولميس: اسم صاحبته. ويزيد بقوله: "إن تصدق الطير" أنه زجر الطير فتيامن بمرها ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله. (2) انظر التعليق السالف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 3577 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيحل للمحرم أن يقول لامرأته:" إذا حللت أصبتك"؟ قال: لا ذاك الرفث. قال: وقال عطاء: الرفث ما دون الجماع. 3578 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش. 3579 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: قول الرجل لامرأته:" إذا حللت أصبتك"، قال: ذاك الرفث!. 3580 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن زيادة بن حصين، عن أبي العالية، قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم، وهو يرتجز ويقول: وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (1) قال: قلت: أترفث يا ابن عباس وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما روجع به النساء. 3581 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان ويحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا ابن الزبير السبائي وعطاء: أنه سمع طاوسا قال: سمعت ابن الزبير يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة. فذكرته لابن عباس، فقال: صدق! قلت لابن عباس: وما الإعراب؟ قال: التعريض. (2) 3582 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس أنه كان يقول: لا يحل للمحرم   (1) انظر التعليق السالف: 126 تعليق: 1 (2) الخبر: 3581 -ابن الزبير السبائي: هكذا ثبت في المطبوعة؛ ولا أدري ما هذا؟ ولا من هو؟ ولولا كلمة"السبائي" لظننا أنه"أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي المكي" التابعي المشهور، فإنه من هذه الطبقة. وانظر تفسير"الإعرابة" والإعراب" فيما سلف ص: 125، تعليق: 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 الإعرابة. قال طاوس: والإعرابة: أن يقول وهو محرم:" إذا حللت أصبتك". 3583 - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، قال: لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء. (1) 3584 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن عطاء قال: كانوا يكرهون الإعرابة - يعني التعريض بذكر الجماع - وهو محرم. 3585 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس أنه سمع أباه أنه كان يقول: لا تحل الإعرابة."والإعرابة" التعريض. 3586 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى:" فلا رفث" قال: الرفث الذي ذكر ههنا، ليس بالرفث الذي ذكر في: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187] ومن" الرفث"، التعريض بذكر الجماع، وهي الإعرابة بكلام العرب. (2) 3587 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية: قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء: أنه كره التعريب للمحرم. 3588 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال:   (1) الأثر: 3583 - فطر، هو فطر بن خليفة القرشي المخزومي مولاهم. وكان في المطبوعة"قطر" بالقاف، ومضى مرارا، وظننته تصحيفا مع الطابع ولكنه تكرر فنبهت هنا عليه، وعلى تصويبه. (2) انظر ما سلف في الجزء 3: 487 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 أخبرني ابن طاوس أن أباه كان يقول: الرفث: الإعرابة مما وراه من شأن النساء، والإعرابة: الإيضاح بالجماع. (1) 3589 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة. 3590 - حدثني علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فلا رفث" قال: الرفث: غشيان النساء والقبل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك. 3591 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قال: كان ابن عمر يقول للحادي: لا تعرض بذكر النساء. 3592 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر وابن جريج، عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الرفث في"الصيام": الجماع، والرفث في"الحج" الإعرابة. وكان يقول: الدخول والمسيس الجماع. * * * وقال آخرون:"الرفث" في هذا الموضع: الجماع نفسه. * ذكر من قال ذلك: 3593 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، قال: الرفث: الجماع. 3594 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.   (1) في المطبوعة: "مما رواه من شأن النساء" والصواب ما أثبت ومعناه: مما كنى به من شأن النساء وما عرض به من ذكرهن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 3595 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الرفث: إتيان النساء. 3596 - حدثنا عبد الحميد قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن الرفث، فقال: الجماع. 3597 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الرفث: هو الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء. 3598 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية قال: سمعت ابن عباس يرتجز وهو محرم، يقول: خرجن يسرين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (1) = قال شريك:"إلا أنه لم يكن عن الجماع" - لميسا. (2) فقلت: أليس هذا الرفث؟ قال: لا إنما الرفث: إتيان النساء والمجامعة. 3599 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن عون، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس بنحوه - إلا أن عونا صرح به. 3600 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، قال: الرفث الجماع. 3601 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله:" فلا رفث" قال: الرفث إتيان النساء.   (1) انظر تخريجه فيما سلف: 126 تعليق 1. وهذه رواية تخالف الماضية: "وهن يمشين". (2) يريد أن شريكا أنشد البيت: "إن تصدق الطير" ثم قطع الإنشاد وقال: "ألا إنه لم يكن الجماع" ثم عاد للإنشاد فقال: "لميسا"، ولم ينطق الكلمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 3602 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" فلا رفث"، قال: الرفث: غشيان النساء. 3603 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الرفث: الجماع فما دونه من شأن النساء. 3604 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار بنحوه. 3605 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث الجماع. 3606 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد:" فلا رفث"، قال: الرفث الجماع. 3607 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله:" فلا رفث" قال: كان قتادة يقول: الرفث: غشيان النساء. 3608 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة مثله. 3609 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع. 3610 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع. 3611 - حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الرفث: الجماع. 3612 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الرفث: المجامعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 3613 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فلا رفث" فلا جماع. 3614 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع. 3615 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فلا رفث" قال: جماع النساء. 3616 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع. 3617 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الرفث: الجماع. 3618 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الرفث الجماع. 3619 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الرفث: الجماع. (1) 3620 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الرفث: الجماع. 3621 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن حسين بن عقيل = وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = قالا أخبرنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: الرفث: الجماع. 3622 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال:   (1) الأثر: 3619 - يحيى بن بشر الخراساني ترجم له البخاري في الكبير 4/2/263، وذكر أنه سمع عكرمة عن ابن عباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، مثله - قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء، مثله. 3623 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن = وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم = قالا مثل ذلك. 3624 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين - وأخبرنا مغيرة، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. 3625 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث: النكاح. 3626 - حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثني ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول الرفث: الجماع. 3627 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الرفث: غشيان النساء = قال معمر: وقال مثل ذلك الزهري عن قتادة. 3628 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرفث: إتيان النساء، وقرأ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187] 3629 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع. 3630 - حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى -من فرض الحج في أشهر الحج- عن الرفث، فقال:" فمن فرض فيهن الحج فلا رفث". و"الرفث" في كلام العرب: أصله الإفحاش في المنطق على ما قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 بينا فيما مضى، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع. (1) فإذ كان ذلك كذلك، (2) وكان أهل العلم مختلفين في تأويله، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني"الرفث" أم عن جميع معانيه؟ - وجب أن يكون على جميع معانيه، إذ لم يأت خبر = بخصوص"الرفث" الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني"الرفث" = (3) يجب التسليم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة. * * * فإن قال قائل: إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها، (4) منقول بإجماع. وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن"الرفث" عند غير النساء غير محظور على محرم، فكان معلوما بذلك أن الآية معني بها بعض"الرفث" دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن لا يحرم من معاني"الرفث" على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها. قيل: إن ما خص من الآية فأبيح، خارج من التحريم، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى"الرفث" بالآية، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخص منه شيء، لأن ما خص من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره، فكان حكم ما شمله معنى الآية - بعد الذي خص منها- على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خص منها، نظير العلة فيه قبل أن يخص منها شيء. * * *   (1) انظر ما سلف في الجزء 3: 487، 488. (2) في المطبوعة: "فإن كان ذلك كذلك" وهو خطأ والصواب ما أثبت. (3) السياق: "إذ لم يأت خبر يجب التسليم له". (4) في المطبوعة: "فإن قال قائل بأن حكمها. . . " والصواب ما أثبت وانظر مراجع"الظاهر والباطن" في فهارس الأجزاء السالفة، وهذا الجزء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا فُسُوقَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الفسوق"، التي نهى الله عنها في هذا الموضع، (1) فقال بعضهم: هي المعاصي كلها. * ذكر من قال ذلك: 3631 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال الفسوق: المعاصي. 3632 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي. 3633 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الفسوق: المعاصي كلها، قال الله تعالى: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) [البقرة: 282] 3634 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله. 3635 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي. 3636 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: الفسوق: المعصية. 3637 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي كلها. 3638 - حدثني يعقوب قال: أخبرنا ابن عيينة، عن روح بن القاسم،   (1) انظر ما سلف في معنى"الفسق" 1: 409-410/ 2: 118، 399. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق: المعاصي. 3639 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق المعاصي كلها. 3640 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد = جميعا، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي. 3641 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا فسوق" قال: المعاصي. 3642 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3643 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الفسوق المعاصي = قال: وقال مجاهد مثل قول سعيد. 3644 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الفسوق المعاصي. 3645 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق: عصيان الله. 3646 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق المعاصي. 3647 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الفسوق المعاصي. 3648 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 3649 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس:" ولا فسوق" قال: المعاصي = قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله. 3650 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 3651 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، مثله. 3652 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الفسوق معصية الله، لا صغير من معصية الله. 3653 - حدثني علي بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" ولا فسوق" قال: الفسوق: معاصي الله كلها. 3654 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه = وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي. وقال مثل ذلك الزهري وقتادة. * * * وقال آخرون: بل"الفسوق" في هذا الموضع: ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وما أشبه ذلك مما خص الله به الإحرام، وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام. * ذكر من قال ذلك: 3655 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم. 3656 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الفسوق: ما أصيب من معاصي الله به، صيد أو غيره. (1) * * * وقال آخرون: بل"الفسوق" في هذا الموضع: السباب. * ذكر من قال ذلك: 3657 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الفسوق: السباب. 3658 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب. 3659 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول: الفسوق: السباب. 3660 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد:" ولا فسوق"، قال: الفسوق السباب. 3661 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" ولا فسوق"، قال: أما الفسوق: فهو السباب. 3662 - حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: الفسوق السباب. 3663 - حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه. 3664 - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال:   (1) قوله: "من معاصي الله به"، أي بالحرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 أخبرنا يونس، عن الحسن = قال: وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم = قالا الفسوق السباب. 3665 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب. 3666 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق: السباب. 3667 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور عن إبراهيم، مثله. * * * وقال آخرون:"الفسوق": الذبح للأصنام. * ذكر من قال ذلك: 3668 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في"الفسوق": الذبح للأنصاب، وقرأ: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [الأنعام: 145] فقطع ذلك أيضا، (1) قطع الذبح للأنصاب بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين حج فعلم أمته المناسك. * * * وقال آخرون:"الفسوق": التنابز بالألقاب. *ذكر من قال ذلك: 3669 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك، قول من   (1) قوله: "قطع ذلك أيضًا " يشير إلى ما قطع من الرفث وحرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 قال: معنى قوله:" ولا فسوق" النهي عن معصية الله في إصابة الصيد، وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه. وذلك أن الله جل ثناؤه قال:" فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق"، يعني بذلك: فلا يرفث، ولا يفسق، أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه. وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرم معاصيه على كل أحد، محرما كان أو غير محرم، وكذلك حرم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) [الحجرات: 11] وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال، فرض الحج أو لم يفرضه. فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحج، هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه، كما أن"الرفث" الذي نهاه عنه في حال فرضه الحج، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه. لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرم الله على خلقه في كل الأحوال:"لا يفعلن أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال". لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له، وقد عم به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من"الفسوق" فخص به حال إحرامه، وقيل له:" إذا فرضت الحج فلا تفعله"، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحج، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خص بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه: من الطيب، واللباس، والحلق، وقص الأظفار، وقتل الصيد، وسائر ما خص الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 فتأويل الآية إذا: فمن فرض الحج في أشهر الحج فأحرم فيهن، فلا يرفث عند النساء فيصرح لهن بجماعهن، ولا يجامعهن، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وغير ذلك مما حرم الله عليه فعله وهو محرم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل المحرم أحدا. ثم اختلف قائلو هذا القول. فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه. * ذكر من قال ذلك: 3670 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله:" ولا جدال في الحج"، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3671 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن"الجدال"، فقال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3672 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3673 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن سليمان، عن عطاء، قال: الجدال: أن يماري الرجل أخاه حتى يغضبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 3674 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:" ولا جدال في الحج" قال: أن تمحن صاحبك حتى تغضبه. (1) 3675 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن سلمة بن كهيل، قال: سألت مجاهدا عن قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3676 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: الجدال هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3677 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن، قال: الجدال: المراء. 3678 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه. 3679 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الجدال: أن تصخب [على] صاحبك. (2) 3680 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: المراء.   (1) أنا في شك من هذه اللفظة: "تمحن"، وإن كان لها وجه في العربية، من قولهم: محنت الفضة: إذا أذبتها بالنار لتختبرها، ومحن الفرس بالعدو: جهده ومحنه بالسوط: ضربه. كل هذا صالح في مجاز المماراة والمخاصمة. ولكني أظن صوابها: "تمحك" من قولهم: محكه، إذا نازعه في الكلام وتمادى حتى يغضبه، منه حديث علي: "لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم". والمحك المشارة والمنازعة في الكلام، واللجاج والتمادي عند المساومة والغضب وغيرها. (2) الزيادة بين القوسين لا بد منها، والصخب الصياح والجلبة، صخب يصخب صخبا، وهو فعل غير متعد. وسيأتي في الآثار الآتية: أن الجدال هو الصخب والمراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 3681 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم = قالا حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3682 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا واقد الخلقاني، عن عطاء، قال: أما الجدال: فتماري صاحبك حتى تغضبه. (1) 3683 - حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الجدال: المراء، أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3684 - حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: الجدال المراء. 3685 - حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه. 3686 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله. 3687 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الجدال: أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبوا. 3688 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن   (1) الخبر: 3682 - واقد الخلقاني: هو"واقد بن عبد الله الخلقاني الكوفي الحنظل". ترجمه البخاري في الكبير 4/2/173 وقال: "سمع عطاء". وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/33، وزاد أنه"بياع الغنم" وأنه"روى عنه وكيع، ومروان الفزاري وأبو نعيم" وأنه سأل عنه أباه، فقال: "شيخ محله الصدق". وله رواية في المسند: 539"عمن رأى عثمان بن عفان" ولكنه نسب فيه التميمي". و"الحنظلي": تميمي أيضًا. وقد وهم فيه الحسيني، وتعقبه الحافظ في التعجيل: 435- 436 فأحسن بيانه. و"الخلقاني" قال ابن الأثير في اللباب: "بضم الخاء [يعني المعجمة] وسكون اللام وفتح القاف وفي آخرها نون: هذه النسبة إلى بيع الخلق من الثياب وغيرها". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 يحيى بن بشر، عن عكرمة:" ولا جدال " الجدال الغضب، أن تغضب عليك مسلما، إلا أن تستعتب مملوكا فتعظه من غير أن تغضبه، ولا إثم عليك إن شاء الله تعالى في ذلك. (1) 3689 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى يغضبك أو تغضبه. 3690 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا الجدال هو الصخب والمراء وأنت محرم. 3691 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الجدال ما أغضب صاحبك من الجدل. 3692 - حدثني علي، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" ولا جدال في الحج"، قال: الجدال: المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك. 3693 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. 3694 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: الجدال: المراء. 3695 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا هو الصخب والمراء وأنت محرم.   (1) الأثر: 3688 - في تفسير ابن كثير 1: 460 وفيه"ولا بأس عليك إن شاء الله". وفي المطبوعة هنا"ولا أمر عليك"، ولعل الصواب ما أثبت. واستعبه: رده عن الإساءة يعني تأديبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 3696 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا جدال في الحج"، كانوا يكرهون الجدال. * * * وقال آخرون منهم:"الجدال" في هذا الموضع، معناه: السباب. * ذكر من قال ذلك: 3697 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الجدال في الحج: السباب والمراء والخصومات. 3698 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب والمنازعة. 3699 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الجدال: السباب. 3700 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد = وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = جميعا، عن سعيد، عن قتادة، قال: الجدال: السباب. * * * وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتم حجا من الحجاج. * ذكر من قال ذلك: 3701 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، قال:"الجدال"، كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء:"حجنا أتم من حجكم! "، وقال هؤلاء:"حجنا أتم من حجكم! ". * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحج، فنهوا عن ذلك. *ذكر من قال ذلك: 3702 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن جبر بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجدال في الحج أن يقول بعضهم:"الحج اليوم! "، ويقول بعضهم:"الحج غدا!. * * * وقال آخرون: بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحج أيهم المصيب موقف إبراهيم. * ذكر من قال ذلك: 3703 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم. فقطعه الله حين أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمناسكهم. * * * وقال آخرون: بل قوله جل ثناؤه:" ولا جدال في الحج"، خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحج على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره، وبطول فعل النسيء. (1) * ذكر من قال ذلك: 3704 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد في قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: قد استقام الحج ولا جدال فيه.   (1) ستأتي صفة"النسيء" في الأثر: 3705، وقوله: "بطول" مصدر بطل الشيء بطولا وبطلانا. وقد أكثر الطبري من استعماله انظر ما سلف 2: 426 ثم الجزء 3: 205ن تعليق: 6، والتعليق فيهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 3705 - حدثني محمد بن عمرو، قال: أخبرنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد" ولا جدال في الحج"، قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج، قد بين. كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون:"صفران" لصفر وشهر ربيع الأول، ثم يقولون:" شهرا ربيع" لشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم يقولون:"جماديان" لجمادى الآخرة ولرجب، ثم يقولون لشعبان:"رجب"، ثم يقولون لرمضان:"شعبان"، ثم يقولون لشوال:"رمضان"، ويقولون لذي القعدة:"شوال"، ثم يقولون لذي الحجة:"ذا القعدة"، ثم يقولون للمحرم:"ذا الحجة"، فيحجون في المحرم. ثم يأتنفون فيحسبون على ذلك عدة مستقبلة على وجه ما ابتدءوا، (1) فيقولون:"المحرم وصفر وشهرا ربيع"، فيحجون في المحرم ليحجوا في كل سنة مرتين، فيسقطون شهرا آخر، فيعدون على العدة الأولى، فيقولون:"صفران، وشهرا ربيع" نحو عدتهم في أول ما أسقطوا. 3706 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 3707 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صاحب النسيء الذي ينسأ لهم أبو ثمامة رجل من بني كنانة. 3708 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا ابن إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: لا شبهة في الحج، قد بين الله أمر الحج. 3709 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي" ولا جدال في الحج"، قال: قد استقام أمر الحج فلا تجادلوا فيه. 3710 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن   (1) استأنف الشيء وائتنفه: أخذ أوله وابتدأه. من قولهم: أنف الشيء أي أوله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج قد بين. 3711 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج"، قال: قد علم وقت الحج، فلا جدال فيه ولا شك. 3712 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز والعلاء، عن مجاهد، قال: هو شهر معلوم لا تنازع فيه. 3713 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج"، قال: لا شك في الحج. 3714 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس:" ولا جدال في الحج" قال: المراء بالحج. 3715 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،" ولا جدال في الحج"، فقد تبين الحج. قال: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين. وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، ثم وافقت حجة أبي بكر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". 3716 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" ولا جدال في الحج" قال: بين الله أمر الحج ومعالمه فليس فيه كلام. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في قوله:" ولا جدال في الحج" بالصواب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 قولُ من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحج ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحج أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه. وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك، ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه، لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله:" ولا فسوق"، أنه غير جائز أن يكون الذي خص بالنهي عنه في تلك الحال [إلا ما هو] مطلق مباح في الحال التي يخالفها، (1) وهي حال الإحلال. وذلك أن حكم ما خص به من ذلك حكم حال الإحرام، إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال، فلا وجه لخصوصه به حالا دون حال، وقد عم به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله:" ولا جدال في الحج"، أن تأويله: لا تمار صاحبك حتى تغضبه، إلا أحد معنيين: إما أن يكون أراد: لا تماره بباطل حتى تغضبه، فذلك ما لا وجه له. لأن الله عز وجل، قد نهى عن المراء بالباطل في كل حال، محرما كان المماري أو محلا فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه، لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهي الله عنه. أو يكون أراد: لا تماره بالحق، وذلك أيضا ما لا وجه له. لأن المحرم لو رأى رجلا يروم فاحشة، كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحق له قد غصبه عليه، كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه. والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين: إما من قبل ظلم، وإما من قبل حق، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال، ومن الوجه الآخر غير جائز تركه بحال، فأي وجوهه التي خص بالنهي عنه حال الإحرام؟   (1) هذه الزيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. وكان في الأصل أيضًا: "أنه غير جائز أن يكون الله خص. . " واستقامة الكلام تقتضي ما أثبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وكذلك لا وجه لقول من تأوَّل ذلك أنه بمعنى السباب، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال، فقال صلى الله عليه وسلم: 3717 - " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". (1) = فإذا كان المسلم عن سب المسلم منهيا في كل حال من أحواله، محرما كان أو غير محرم، فلا وجه لأن يقال: لا تسبه قي حال الإحرام إذا أحرمت = وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر الذي:- 3718 - حدثنا به محمد بن المثنى، قال: حدثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج مثل يوم ولدته أمه". 3719 - حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. (2)   (1) الحديث: 3717 - رواه الطبري بغير إسناد. وهو حديث صحيح ثابت من روايات كثيرة. فرواه أحمد في المسند: 3647، من حديث عبد الله بن مسعود. وكذلك رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه. وانظر بقية أرقامه في المسند في الاستدراك: 886. وثبت أيضًا من رواية صحابة آخرين، انظر الفتح الكبير 2: 150- 151. (2) الحديث: 3718- 3720"سيار": بفتح السين وتشديد الياء: مضت ترجمته في: 39. أبو حازم: هو الأشجعي واسمه"سلمان" مولى عزة الأشجعية. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وليس"أبو حازم" هنا-"أبا حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد" فإن سلمة لم يسمع من أبي هريرة، كما نص عليه الحافظ في الفتح 3: 302. والحديث رواه أبو داود الطيالسي: 2519 عن سيار ومنصور- كلاهما عن أبي حازم. ورواه أحمد في المسند: 9302 (2: 410 حلبي) والبخاري 3: 302- 303، كلاهما من طريق شعبة، عن سيار به. وسيأتي مرة رابعة، من طريق شعبة عن سيار: 3725. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 3720 - حدثنا أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث ابن المثنى، عن وهب بن جرير. 3721 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله أيضا. 3722 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني منصور، قال: سمعت أبا حازم يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (1) 3723 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا محمد بن عبيد الله، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمه". (2) 3724 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن سفيان، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه   (1) الحديثان: 3721، 3722 - منصور: هو ابن المعتمر. وقد سمع منصور هذا الحديث من أبي حازم، كما صرح بذلك في الإسناد الثاني. فانتفت بذلك شبهة عدم سماعه هذا الحديث منه. كما سيأتي بيانه في: 3726، 3727. * والحديث من هذا الوجه -رواه الطيالسي: 2519، عن شعبة- كما أشرنا من قبل. * ورواه أيضًا أحمد في المسند: 9300 (2: 410 حلبي) والبخاري 4: 17 (فتح) كلاهما من طريق شعبة عن منصور. (2) الحديث: 3723 -هو في معنى الأحاديث قبله وبعده. وقد رواه الدارقطني في سننه ص: 282، من طريق حجاج بن أرطأة عن الأعمش بهذا الإسناد بلفظ: "من حج أو اعتمر، فلم يرفث ولم يفسق، يرجع كهيئته يوم ولدته أمه". فزاد الحجاج بن أرطأة لفظ"أو اعتمر". * وأشار الحافظ في الفتح 3: 302 -إلى رواية الدارقطني هذه، وقال: "لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وسلم، فذكر مثله - إلا أنه قال: رجع كما ولدته أمه. (1) 3725 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه". 3726 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر نحوه - إلا أنه قال: رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه. 3727 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت - يعني الكعبة- فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه. (2)   (1) الحديث: 3724 -سفيان: هو الثوري. والحديث -من هذا الوجه- رواه أحمد في المسند: 10279 (2: 484 حلبي) عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان. وكذلك رواه البخاري 4: 17 (فتح) عن محمد بن يوسف -وهو الفريابي- عن سفيان. * وقد رواه أحمد أيضًا: 7375 (2: 248 حلبي) عن سفيان عن منصور. وسفيان هنا: هو ابن عيينة. (2) الحديثان: 3726، 3727 -هما إسناد واحد مكرر لحديث واحد. لم يذكر لفظه كاملا في أولهما، وذكره في ثانيهما. ولا أدري سبب هذا؟ * يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى مرارا، آخرها: 3223. يحيى بن أبي بكير- بضم الباء الموحدة وفتح الكاف- الأسدي القيسي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة مات سنة 208 أو 209. ووقع في المطبوعة هنا"يحيى بن أبي كثير". وهو خطأ فإن ابن أبي كثير قديم الوفاة مات سنة 129 أو 132. ويعقوب الدورقي ولد سنة 166، فلا يعقل أن يروى عنه. * وإبراهيم بن طهمان الخراساني: ثقة صحيح الحديث، أخرج له الأئمة الستة. منصور: هو ابن المعتمر، كما مضى في بعض الأسانيد السابقة. * هلال بن يساف -ويقال: إساف- الأشجعي الكوفي: تابعي ثقة كبير، لعله أقدم من أبي حازم. و"يساف": بكسر الياء التحتية وفتح السين المهملة مخففة. وكذلك"إساف" بالهمزة بدل الياء. ووقع في المطبوعة هنا في الإسنادين"هلال بن يسار". وهو خطأ صرف. * والحديث -من هذا الوجه- رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 262 من طريق محمد بن إسماعيل الصائغ عن يحيى بن أبي بكير، بهذا الإسناد. * ومنصور قد سمع هذا الحديث من أبي حازم مباشرة، كما صرح بذلك في الرواية الماضية: 3722. فقال الحافظ في الفتح 4: 17"فانتفى بذلك تعليل من أعله بالاختلاف على منصور. لأن البيهقي أورده من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور عن هلال بن يساف، عن أبي حازم زاد فيه رجلا. فإن كان إبراهيم حفظه، فلعله حمله منصور عن هلال، ثم لقى أبا حازم فسمعه منه، فحدث به على الوجهين". * ونزيد هنا أن الحديث رواه أيضًا أحمد في المسند: 10414 (2: 494 حلبي) عن جرير عن منصور عن أبي حاتم وكذلك رواه مسلم 1: 382 من طريق جرير. * ورواه مسلم أيضًا من طريق أبي عوانة وأبي الأحوص ومسعر والثوري وشعبة -كلهم عن منصور عن أبي حازم. وكذلك رواه النسائي 2: 3- 4 من طريق الفضيل بن عياض عن منصور به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 3728 - حدثنا الفضل بن الصباح، قال: حدثنا هشيم بن بشير، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كهيئة يوم ولدته أمه. (1) * * * (2) =دلالة واضحة على أن قوله:" ولا جدال في الحج" بمعنى النفي عن الحج بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حج فلم يرفث ولم يفسق، استحق من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه، تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاج عنهما في حجه، من غير أن يضم إليهما الجدال. فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله:" ولا جدال في الحج" مما نهاه الله عنه بهذه الآية - على نحو الذي تأول ذلك من تأوله: من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك - لما كان صلى الله عليه وسلم ليخص باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج   (1) الحديث: 3728 -رواه أحمد في المسند: 7136، عن هشيم بهذا الإسناد وكذلك رواه مسلم 1: 382- 383، عن سعيد بن منصور عن هشيم به، وانظر ما سيأتي رقم: +3059. (2) أول هذا الكلام في ص 150، قوله: "فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر. . . دلالة" وفصلت بين الخبر والمبتدأ الأحاديث المتتابعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 الذي وصف أمره، باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما. ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها = في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به - إذ كانتا بمعنى النهي- (1) وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما = ترك ذكر الثالثة، (2) إذ لم تكن في معناهما، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما. * * * فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب "الجدال" وإعراب "الرفث والفسوق"، ليعلم سامع ذلك - إذا كان من أهل الفهم باللغات- أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما. وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تتبع بعض الكلام بعضا بإعراب، مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام. فأعجب القراءات إلي في ذلك - إذ كان الأمر على ما وصفت - قراءة من قرأ:" فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"، برفع"الرفث والفسوق" وتنوينهما، وفتح"الجدال" بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين، وكثير من أهل مكة، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء. (3) * * * وأما قول من قال: معناه: النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا،   (1) في المطبوعة: "إذا كانتا بمعنى النهي" وهو خطأ والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "وترك ذكر الثالثة" وهذه الواو مقحمة من النساخ بلا شك. وسياق هذه الجملة بطولها: "ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها. . .، إذا كانتا بمعنى النهي، وكان المنتهى عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما. . . ترك ذكر الثالثة" وبهذا يتبين صواب التصحيح في لموضعين السالفين. (3) انظر تفصيل ذلك مستوعبا في معاني القرآن للفراء 1: 120- 122. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 والقائلين:، معناه النهي عن قول القائل:"غدا الحج" مخالفا به قول الآخر:"اليوم الحج"، فقول في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه، (1) وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أوخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك، (2) فنزلت الآية بالنهي عنه؛ أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا. * * * وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفي من الله جل وعز عن شهور الحج، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا. (3) وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، مع دلالة قول الله تقدس اسمه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) [التوبة: 37] * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم، من إتمام مناسككم فيه، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم، لتستوجبوا به الثواب   (1) هكذا في الأصل"على وهائه" وهو خطأ قديم في كلام الفقهاء. قال المطرزي في المغرب 2: 265: "قوله: "فإن حاضت في حال وهاء الملك" لا يعتد به. الوهاء بالمد خطأ وإنما الوهي (بفتح فسكون) مصدر: "وهي الحبل يهى وهيا" إذا ضعف". وأخشى أن يكون ذلك من ناسخ التفسير، لا من أبي جعفر وأن أصله"على وهيه وضعفه" فهو قد استعمل كلمة"الوهي" مرارا فيما سلف من عباراته، ولكني لم أستطع أن أجدها في هذا البحر من الكلام، ثم وجدتها بعد ذلك في هذا الجزء 4: 18، س: 7. (2) في المطبوعة: "وخبر صادق" بالواو، وهو مخل بالكلام. (3) في المطبوعة: "الاختلاف" بذف الفاء، والصواب إثباتها وإلا تخلع الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 الجزيل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي، فأنا به عالم، ولجميعه محص، حتى أوفيكم أجره، وأجازيكم عليه، فإني لا تخفى علي خافية، ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم، لأني مطلع على سرائركم، وعالم بضمائر نفوسكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، (1) فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به. * ذكر الأخبار التي رويت في ذلك: 3729 - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: حدثنا عمرو بن عبد الغفار، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها واستأنفوا زادا آخر، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق. 3730 - حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كانوا يحجون ولا يتزودون، فنزلت:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" (2)   (1) الأزودة: جمع زاد على غير قياس، وقياسه: أزواد. (2) الأثر: 3730 -محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي (بضم الميم وفتح الخاء، وراء مشددة مكسورة) أبو جعفر البغدادي المدائني الحافظ، قاضي حلوان. مات سنة 254 ببغداد، كان أحد الثقات جليل القدر. وكان في المطبوعة: "المخزومي" هو خطأ كما ترى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 3731 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: الكعك والزيت. 3732 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: هو الكعك والسويق. 3733 - وحدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان أناس يحجون، ولا يتزودون، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". 3734 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الملك بن عطاء، كوفي لنا = (1) 3735 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الملك، عن الشعبي في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" قال: التمر والسويق. 3736 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا حنظلة، قال: سئل سالم عن زاد الحاج، فقال: الخبز واللحم والتمر. قال عمرو: وسمعت أبا عاصم مرة يقول: حدثنا حنظلة سئل سالم عن زاد الحاج، فقال الخبز والتمر. 3737 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن هشيم، عن المغيرة،   (1) الخبر: 3734 -عبد الملك بن عطاء: هو البكائي العامري، ختن الشعبي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره. و"البكائي": بفتح الباء وتشديد الكاف وبعد الألف همزة، نسبة إلى"البكاء" وهو"ربيعة بن عامر" من بني عامر بن صعصعة. وقوله هنا"كوفي لنا"- لا أدري ما وجهه؟ ولعل أصله"كوفي جار لنا" أو نحو ذلك لأن سفيان ابن عيينة كوفي، ثم سكن مكة. فإني لم أجد لعبد الملك هذا ترجمة إلا عند ابن أبي حاتم 2/2/361 وروى فيها بإسناده إلى ابن نمير، قال: "عبد الملك بن عطاء، كان شيخا ثقة، روى عنه شيوخنا وهو كوفي له حديث أو حديثين". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 عن إبراهيم، قال: كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد، ويقولون:" نتوكل على الله! "، فأنزل الله جل ثناؤه:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". 3738 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كان الحاج منهم لا يتزود، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". 3739 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا يحيى، عن عمر بن ذر = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن ذر = عن مجاهد قال: كانوا يسافرون ولا يتزودون، فنزلت:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وقال الحسن بن يحيى في حديثه: كانوا يحجون ولا يتزودون. 3740 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد نحوه. 3741 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث فذكر نحوه. 3742 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج يتوصلون بالناس بغير زاد، يقولون:" نحن متكلون". فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". 3743 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" وتزودوا"، قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج، يتوصلون بالناس بغير زاد، فأمروا أن يتزودوا. 3744 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان أهل اليمن يتوصلون بالناس، فأمروا أن يتزودوا ولا يستمتعوا. قال: وخير الزاد التقوى. 3745 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 عن مجاهد:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كانوا لا يتزودون، فأمروا بالزاد، وخير الزاد التقوى. 3746 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فكان الحسن يقول: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ويسافرون، ولا يتزودون، فأمرهم الله بالنفقة والزاد في سبيل الله، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى. 3747 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: قال قتادة: كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون - ثم ذكر نحو حديث بشر عن يزيد. 3748 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان ناس من أهل اليمن يخرجون بغير زاد إلى مكة، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى. 3749 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون:" نحج بيت الله ولا يطعمنا! ". فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس. 3750 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فكان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأنبأ أن خير الزاد التقوى. 3751 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير:" وتزودوا" قال: السويق والدقيق والكعك. 3752 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 بن سوقة، عن سعيد بن جبير:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: الخشكانج والسويق. (1) 3753 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الملك بن عطاء البكائي، قال: سمعت الشعبي يقول في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: هو الطعام، وكان يومئذ الطعام قليلا. قال: قلت: وما الطعام؟ قال: التمر والسويق. (2) 3754 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب. 3755 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان الناس يتزودون إلى عقبة، فإذا انتهوا إلى تلك العقبة توكلوا ولم يتزودوا. (3) 3756 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، قال: قال سفيان في قوله:" وتزودوا"، قال: أمروا بالسويق والكعك. 3757 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرني أبي أنه سمع عكرمة يقول في قوله:" وتزودوا"، قال: هو السويق والدقيق. 3758 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في   (1) في اللسان (كعك) وفي المغرب لجواليقي: 134"الخشكنان" قد تكلمت به العرب قال الراجز: يا حبذا الكعك بلحم مثرود ... وخشكنان وسويق مقنود والخشكنانج هو الخشكنان: وهو طعام من دقيق مصنوع. (2) الخبر: 3753 - مضت ترجمة"عبد الملك بن عطاء" في: 3734 وأنه"البكائي". ووقع في المطبوعة هنا"البكالي" باللام بدل الهمزة وهو خطأ وتصحيف. (3) العقبة (بضم فسكون) قدر ما يسير السائر حتى ينزل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كانت قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجا وعمارا لأن يتضيفوا الناس، فقال الله تبارك تعالى لهم:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". 3759 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة قال: كان الناس يقدمون مكة بغير زاد، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: فمن فرض في أشهر الحج الحج فأحرم فيهن، فلا يرفثن ولا يفسقن. فإن أمر الحج قد استقام لكم، وعرفكم ربكم ميقاته وحدوده، فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه، يعلمه. وتزودوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا بر لله جل ثناؤه في ترككم التزود لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به، فإنه خير التزود، فمنه تزودوا. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن الضحاك بن مزاحم. 3760 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" فإن خير الزاد التقوى"، قال: والتقوى عمل بطاعة الله. وقد بينا معنى"التقوى" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ (197) قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقون يا أهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم = وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي. * * * وخص جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب، لأنهم هم أهل التمييز بين الحق والباطل، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا، إذ كانوا أشباحا كالأنعام، وصورا كالبهائم، بل هم منها أضل سبيلا. و"الألباب": جمع"لب"، وهو العقل. (3) * * *   (1) الخبر: 3759 -عمرو بن عبد الحميد الآملي- شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة ولعله محرف عن شيء لا أعرفه. (2) انظر ما سلف 1: 232، 233، 364. (3) انظر ما سلف في الجزء 3: 383. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: ليس عليكم أيها المؤمنون جناح. * * * و"الجناح"، الحرج، (1) كما:- 3761 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن   (1) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" من الجزء 3: 230، 231. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. * * * وقوله:" أن تبتغوا فضلا من ربكم"، يعني: أن تلتمسوا فضلا من عند ربكم. يقال منه: ابتغيت فضلا من الله - ومن فضل الله- أبتغيه ابتغاء"، إذا طلبته والتمسته،" وبغيته أبغيه بغيا"، (1) كما قال عبد بني الحسحاس: بغاك، وما تبغيه حتى وجدته ... كأنك قد واعدته أمس موعدا (2) يعني طلبك والتمسك. * * * وقيل: إن معنى" ابتغاء الفضل من الله"، التماس رزق الله بالتجارة، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البر بذلك، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا بر في ذلك، وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر ما سلف في تفسير: "ابتغي" من الجزء 3: 508. (2) ديوانه: 41 وسيأتي في التفسير 4: 15- 16/ 5: 45 (بولاق) وهذا البيت متعلق بثلاثة أبيات قبله، هو تمام معناها في ذكر الموت: رأيت المنايا لم يهبن محمدا ... ولا أحدا ولم يدعن مخلدا ألا لا أرى على المنون ممهلا ... ولا باقيا إلا له الموت مرصدا سيلقاك قرن لا تريد قتاله ... كمي إذا ما هم بالقرن أقصدا بغاك وما تبغيه. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: "حتى وجدته" رواية الديوان"إلا وجدته". ورواية الطبري عزيزة فهي شاهد قل أن نظفر به على أن"حتى" تأتي بمعنى"إلا" في الاستثناء وقد ذكر ذلك ابن هشام في المغني 1: 111 قال بعد ذكر وجوه"حتى": "وبمعنى إلا في لاستثناء، وهذا أقلها وقل من يذكره". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 3762 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: في الموسم. 3763 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث قال: كان ناس لا يتجرون أيام الحج، فنزلت فيهم" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (1) 3764 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة في قوله تبارك وتعالى:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: إذا كنتم محرمين، أن تبيعوا وتشتروا. 3765 - حدثنا طليق بن محمد الواسطي، قال: أخبرنا أسباط، قال: أخبرنا الحسن ابن عمرو، عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكرى، فهل لنا حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ فقلنا: بلى! قال: جاء رجل إلى النبي: صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم حجاج. (2)   (1) في المطبوعة: "فنزلت فيهم: لا جناح عليكم أن تبتغوا. . " وبين أنه خطأ وسهو. (2) الحديث: 3765 -طليق بن محمد بن السكن الواسطي شيخ الطبري: ثقة، قال ابن حبان في الثقات: "مستقيم الحديث كالأثبات". وهو من شيوخ النسائي وابن خزيمة وغيرهما. وهذا الباب باب"طليق": نص الذهبي في المشتبه على أنه بفتح الطاء وتبعه الحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه. ولم يذكرا غير هذا الضبط. ولكن الحافظ في التقريب ضبط أول اسم فيه"بالتصغير" بالنص على ذلك. وأنا أرجح أنه وهم منه، رحمه الله. أسباط: هو ابن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة وهو ثقة من شيوخ أحمد وابن راهويه وغيرهما. الحسن بن عمرو الفقيمي -بضم الفاء- التميمي الكوفي: ثقة أخرج له البخاري في صحيحه ابو أمامة التيمي: تابعي ثقة. بينا ترجمته ومراجعها في شرح المسند: 6434. والحديث رواه أحمد في المسند: 6434 عن أسباط بن محمد بهذا الإسناد. وقد فصلنا القول في تخريجه هناك. ونقله ابن كثير 1: 463 عن المسند و 464 عن هذا الموضع من الطبري وسيأتي بإسناد آخر: 3789. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 3766 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: كانت تقرأ هذه الآية:"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". 3767 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصور بن المعتمر في قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: هو التجارة في البيع والشراء، والاشتراء لا بأس به. 3768 - حدثت عن أبي هشام الرفاعي، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". 3769 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى أنزل الله جل ثناؤه:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". 3770 - حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبابة بن سوار، قال: حدثنا شعبة، عن أبي أميمة، قال: سمعت ابن عمر - وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة - فقرأ ابن عمر:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (1) 3771 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم = وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم = قال: أخبرنا يزيد بن أبي   (1) الخبر: 3770 -أبو أميمة: الراجح الظاهر أنه"أبو أمامة التيمي" الماضي في الحديث 3765، وأن هذا الخبر مختصر من ذاك الحديث ولكنه موقوف على ابن عمر. وقد نقله ابن كثير 1: 463، عن هذا الموضع من الطبري وقال: "وهذا موقوف، وهو قوي جيد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يتجرون في أيام الحج، فنزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". 3772 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قرأ: (1) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". 3773 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج"، هكذا قرأها ابن عباس. 3774 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة. 3775 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: التجارة، أحلت لهم في المواسم. قال: فكانوا لا يبيعون، أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة. 3776 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3777 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر، وكانوا يسمونها"ليلة الصدر"، ولا   (1) في المطبوعة: "قال" مكان"قرأ" وهو سهو من الناسخ، وانظر الأثر السالف: 3766، 3768، والآثار التي تلي هذا الأثر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 يطلبون فيها تجارة ولا بيعا، فأحل الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين، أن يعرجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم. 3778 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن الزبير يقرأ: (1) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". (2) 3779 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". 3780 - حدثنا أحمد بن حازم والمثنى، قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: كان بعض الحاج يسمون"الداج"، فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون، حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فحجوا. (3) 3781 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كان ناس يحجون ولا يتجرون، حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد. 3782 - حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا   (1) في المطبوعة: "سمعت ابن الزبير يقول" والصواب من مخطوطة تفسير عبد الرزاق ص: 21. (2) الخبر: 3778 - أشار إليه الحافظ في الفتح 3: 473 وذكر أنه رواه ابن عيينة وابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد. ولم يذكر من خرجه وقد عرفنا من رواية الطبري أنه خرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة. وهو في تفسير عبد الرزاق ص: 21، بهذا الإسناد. وهو صحيح عبيد الله بن ألبي يزيد المكي: تابعي ثقة. (3) الداج: هم الذين مع الحجاج من الأجراء والمكارين والأعوان والخدم، وظاهر أنهم كانوا لا يحجون مع الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 أسباط عن السدي، قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، هي التجارة. قال: اتجروا في الموسم. 3783 - حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم، فأحله الله لهم. 3784 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم، يقولون:" أيام ذكر! " فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فحجوا. 3785 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". 3786 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، قال: لا بأس بالتجارة في الحج، ثم قرأ:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". 3787 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا على ضالة ولا ينتظرون لحاجة، وكانوا يسمونها" ليلة الصدر"، ولا يطلبون فيها تجارة. فأحل الله ذلك كله، أن يعرجوا على حاجتهم، وأن يطلبوا فضلا من ربهم. 3788 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مندل، عن عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر، قال: قلت لعمر: يا أمير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج. 3789 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم نكرى فيزعمون أنه ليس لنا حج! قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى! قال: فأنت حاج! جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (1) 3790 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة، ولم يعرجوا على كسير، ولا على ضالة، فأحل الله ذلك، فقال:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية. 3791 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فكانوا يتجرون فيها. فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج. (2) * * *   (1) الحديث: 3789 -العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي: ثقة مأمون، كما قال ابن معين. والديث رواه أحمد في المسند: 6435، عن عبد الله بن الوليد العدني، عن سفيان الثوري بهذا الإسناد. وقلنا في شرحه: إن إسناده صحيح، وأن إبهام الرجل من بني تيم الله- لا يضر، فقد عرف أنه"أبو أمامة التيمي". كما مضى في: 3765. وقد خرجناه مفصلا في المسند. (2) الحديث: 3791 -سعيد بن الربيع الرازي- شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة. وقد ذكر في فهارس تاريخ الطبري بهذا الاسم، فانتفت شبهة التحريف فيه. و"سفيان" -شيخه: هو ابن عيينة. ويشتبه"سعيد بن الربيع" براو آخر، هو"سعيد بن الربيع الهروي الجرشي العامري" المترجم في التهذيب. ولكنه قديم الوفاة، مات سنة 211 قبل ولادة الطبري. وهو من أقدم شيوخ البخاري. والحديث رواه البخاري 4: 248، 269، و 8: 139 (فتح) من طريق سفيان ابن عيينة بهذا الإسناد. ورواه أيضًا 3: 473- 474 من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار. وذكره ابن كثير 1: 462، من رواية البخاري. وهذا الحديث من أفراد البخاري -دون مسلم- كما نص على ذلك الحافظ في الفتح 3: 475. ولم أجده في مسند أحمد. وهو من الأحاديث الصحاح القليلة، التي في أحد الصحيحين وليست في المسند. وقد مضى نحو معناه مختصرا: 3779، من رواية عبد الرزاق عن ابن عيينة ومضى كذلك مختصرا: 3771، 3784، من وجه آخر من رواية مجاهد عن ابن عباس. و 3772، 3785، من وجه ثالث، من رواية عطاء عن ابن عباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" فإذا أفضتم"، فإذا رجعتم من حيث بدأتم. * * * ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار:"مفيض"، لجمعه القداح، ثم إفاضته إياها بين الياسرين. (1) ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي: (2) فقلت لها ردي إليه جنانه ... فردت كما رد المنيح مفيض (3) * * * ثم اختلف أهل العربية في"عرفات"، والعلة التي من أجلها صُرفت وهي   (1) القداح جمع قدح (بكسر فسكون) : هو السهم قبل أن ينصل ويراش، كانوا يستقسمون بها في الميسر، وهي الأزلام أيضًا. والأيسار جمع يس (بفتحين) وهم المجتمعون على الميسر من أشراف الحي. وفي المطبوعة: "المياسرين" والصواب ما أثبت. والياسر: الضارب بالقداح والمتقامر على الجزور اللاعب بالقداح. (2) في المطبوعة: "ابن أبي حازم" وهو خطأ. (3) لم أجد هذا البيت في مكان، ومن القصيدة ثلاثة أبيات في الحيوان 6: 343 من هذا الشعر، وهي أبيات جياد. والمنيح: أحد القداح الأربعة التي ليس لها غرم ولا غنم في قداح الميسر، ولكن قد يمنح صاحبه شيئا من الجزور. ولا أتبين معنى البيت حتى أعرف ما قبله، وأعرف الضمائر فيه إلى من تعود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 معرفة، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع؟ فقال بعض نحويي البصريين: هي اسم كان لجماعة مثل"مسلمات، ومؤمنات"، سميت به بقعة واحدة، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة، تركا منهم له على أصله. لأن"التاء" فيه صارت بمنزلة"الياء والواو" في"مسلمين ومسلمون"، لأنه تذكيره، وصار التنوين بمنزلة"النون". فلما سمي به ترك على حاله، كما يترك" المسلمون" إذا سمي به على حاله. (1) قال: ومن العرب من لا يصرفه إذا سمي به، ويشبه"التاء" بهاء التأنيث، وذلك قبيح ضعيف، واستشهدوا بقول الشاعر: (2) تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي (3) ومنهم من لا ينون"أدرعات" وكذلك:"عانات"، وهو مكان. وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما انصرفت"عرفات"، لأنهن على جماع مؤنث"بالتاء". قال: وكذلك ما كان من جماع مؤنث"بالتاء"، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة، انصرفت. قال: ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا، ثم تجعله بعد ذلك واحدا.   (1) هو قول الأخفش (اللسان: عرف) ومعجم البلدان (عرفات) وانظر سيبويه 2: 17- 18. (2) هو امرؤ القيس بن حجر. (3) ديوانه: 140، وسيبويه 2: 18 والخزانة 1: 26 وهو من قصيدته الرائعة المشهورة والضمير في قوله: "تنورتها" للمرأة التي يذكرها (انظر طبقات فحول الشعراء: 68 تعليق: 3) . وتنورالنار أبصرها من بعيد جعل المرأة تضيء له فيراها كالنار المشبوبة. وأذرعات: بلد بالشام. ويثرب: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هذا اسمها في الجاهلية. يقول: لاح له نورها في الظلماء، وهو بالشام وأهلها بالمدينة. ثم يقول: أقرب ما يرى منها لا يرى إلا من مكان عال في جو السماء. يصف بعد ما بينه وبينها، ومع ذلك فقد لاحت له في الليل من هذا المكان البعيد، وأتم المعنى في البيت لتالي: نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وقال آخرون منهم: ليست"عرفات" حكاية، ولا هي اسم منقول، (1) ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه"بعرفات"، ثم سميت بها البقعة. اسم للموضع، ولا ينفرد واحدها. قال: وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء. قال: ولذلك نصبت العرب"التاء" في ذلك، لأنه موضع. ولو كان محكيا، لم يكن ذلك فيه جائزا، لأن من سمى رجلا"مسلمات" أو"مسلمين" لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل، فلذلك خالف:"عانات، وأذرعات"، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات"عرفات". فقال بعضهم: قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت، فسميت عرفات بذلك. وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق، وأرض سباسب، فتجمع بما حولها. (2) * ذكر من قال ذلك: 3792 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما أذن إبراهيم في الناس بالحج، فأجابوه بالتلبية، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها فخرج، فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية، فصده أيضا، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر.   (1) الحكاية: الإتيان باللفظ على ما كان عليه من قبل، وسيظهر معناها في الأسطر الآتية. (2) انظر ما سلف 1: 433. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، (1) انطلق حتى أتى ذا المجاز، (2) فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال:"قد عرفت! " فسمي:"عرفات". فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت:"المزدلفة"، فوقف بجمع. (3) 3793 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن سليمان التيمي، عن نعيم بن أبي هند، قال: لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات، قال:"عرفت! "، فسميت عرفات لذلك. 3794 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال:"قد عرفت! "، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، ولذلك سميت"عرفة". * * * وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها. * ذكر من قال ذلك: 3795 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن مسلم القرشي، عن أبي طهفة، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس قال: إنما سميت عرفات، لأن جبريل عليه السلام، كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا، هذا موضع كذا، فيقول:" قد عرفت! "، فلذلك سميت"عرفات". (4)   (1) في المطبوعة: "فلما رأى أنه لا يطيعه، فلم يدر إبراهيم" والصواب ما أثبته عن نص الطبري آنفًا، كما سيأتي في المراجع بعد. (2) في المطبوعة: "فانطلق" والصواب ما أثبت. (3) الأثر: 3792 -قد سلف تاما برقم: 2065، والتصويب السالف منه. (4) الخبر: 3795 - هذا إسناد مشكل، لا أدري ما وجه صوابه. أما"وكيع بن مسلم القرشي": فما وجدت راويا بهذا الاسم ولا ما يشبهه. والذي أكاد أجزم به أنه"وكيع بن الجراح" الإمام المعروف. وأن كلمة"بن" محرفة عن كلمة"عن" ثم يزيد الإشكال أن لم أجد من اسمه"مسلم القرشي" وإشكال ثالث، أن"أبا طهفة" هذا لا ندري ما هو؟ واليقين -عندي- أن الإسناد محرف غير مستقيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 3796 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: إنما سميت عرفة أن جبريل كان يري إبراهيم عليهما السلام المناسك، فيقول:" عرفت، عرفت! " فسمي"عرفات". 3797 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف، حتى يأتي الجبل جبل عرفة. وقال ابن أبي نجيح: عرفات:"النبعة" و"النبيعة" و"ذات النابت"، وذلك قول الله:" فإذا أفضتم من عرفات"، وهو الشعب الأوسط. وقال زكريا: ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة، فهو من عرفة، وما دبر ذلك الجبل فليس من عرفة. * * * وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا. وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 القول في تأويل قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم فكررتم راجعين من عرفة، إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه،" فاذكروا الله"، يعني بذلك: الصلاة، والدعاء عند المشعر الحرام. * * * وقد بينا قبل أن"المشاعر" هي المعالم، من قول القائل:"شعرت بهذا الأمر"، أي علمت، ف"المشعر"، هو المعلم، (1) سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء، من معالم الحج وفروضه التي أمر الله بها عباده. وقد:- 3798 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، قال: يستحب للحاج أن يصلي في منزله بالمزدلفة إن استطاع، وذلك أن الله قال:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم". * * * فأما"المشعر": فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر. وليس مأزما عرفة من"المشعر". (2) وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر ما سلف في الجزء 3: 226، 227 (بولاق) تفسير"شعائر". (2) المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين. ومأزما عرفة: مضيق ين جمع وعرفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 3799 - حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع فقال: أيها الناس إن جمعا كلها مشعر. 3800 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، قال: هو الجبل وما حوله. 3801 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن ابن عباس قال: ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر. 3802 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير، مثله. 3803 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري= وحدثني أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان= عن السدي، عن سعيد بن جبير، قال: سألته عن المشعر الحرام فقال: ما بين جبلي المزدلفة. 3804 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال:"المشعر الحرام" المزدلفة كلها= قال معمر: وقاله قتادة. 3805 - حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، قال: أنبأنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، قال: ما بين جبلي المزدلفة هو المشعر الحرام. 3806 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا أبي، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 فقال: إذا انطلقت معي أعلمتكه. قال: فانطلقت معه، فوقفنا حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه، حتى إذا هبطت أيدي الركاب، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه؟ قال: كلها مشاعر إلى أقصى الحرم. 3807 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل= عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: سألت عبد الله بن عمر، عن المشعر الحرام قال: إن تلزمني أركه. قال: فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ قال: قلت: ها أنا ذاك، قال: أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه! قال: حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال فهو مشعر إلى مكة. 3808 - حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول الأزدي، قال: سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام؟ فقال: الزمني! فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام. 3809 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: المشعر الحرام: المزدلفة كلها. 3810 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة، فذلك إلى محسر. قال: وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مفاضاهما. قال: قف بينهما إن شئت، وأحب إلي أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس!. 3811 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح، فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كل ما ههنا مشعر!. 3812 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها. 3813 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3814 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وذلك ليلة جمع. قال قتادة: كان ابن عباس يقول: ما بين الجبلين مشعر. 3815 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة = ويقال: هو قرن قزح. (1) 3816 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، وهي المزدلفة، وهي جمع. * * * * وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما:- 3817 - حدثنا به هناد، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام. 3818 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: المشعر الحرام: ما بين جبلي مزدلفة. 3819 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المشعر الحرام فقال:   (1) القرن: الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 ما أدري؟ وسألت ابن عباس، فقال: ما بين الجبلين. 3820 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجبيل وما حوله مشاعر. 3821 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن ثوير، قال: وقفت مع مجاهد على الجبيل، فقال: هذا المشعر الحرام. 3822 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، الجبيل وما حوله مشاعر. * * * قال أبو جعفر: وإنما جعلنا أول حد المشعر مما يلي منى، منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة، لأن:- 3823 - المثنى حدثني قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عرفة كلها موقف إلا عرنة، وجمع كلها موقف إلا محسرا". (1) 3824 - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن حجاج، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، أنه قال: كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر. 3825 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، قال: أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك.   (1) الحديث: 3823 -هذا حديث مرسل كما قال ابن كثير 1: 467 وقد رواه مالك في الموطأ ص: 388"أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"- دون إسناد. وذكره ابن عبد البر في كتاب"التقصي" رقم: 839. وقال: "وهذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب". وحديث جابر رواه مسلم 1: 348 ولكن ليس فيه استثناء"عرنة" و"محسر" ورواه ابن ماجه: 3012 من حديث جابر وفيه هذا الاستثناء. وإسناده ضعيف جدا. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5: 115، والتلخيص الحبير ص: 216 ونصب الراية 3: 60- 62. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 3826 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن هشام بن عروة، قال: قال عبد الله بن الزبير في خطبته: تعلمن أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، تعلمن أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر. (1) * * * قال أبو جعفر: غير أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قزح وما حوله، لأن:- 3827 - أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن زيد بن علي، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي قال: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، غدا فوقف على قزح، وأردف الفضل، ثم قال: هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف. 3828 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن الحسين، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2)   (1) الخبر: 3826 -رواه مالك في الموطأ ص 388، بنحوه عن هشام بن عروة عن عبد الله بن الزبير. (2) الحديثان: 3827، 3828 -إبراهيم بن إسمعيل بن مجمع الأنصاري المدني: ضعيف قال ابن معين: "ليس بشيء" وقال البخاري: "كثير الوهم". عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي: ثقة من أهل العلم. ين بن علي بن أبي طالب: ثقة معروف، لا يحتاج إلى تعريف. وهو الذي تنسب إليه الزيدية من الشيعة. وكان حربا على الرافضة. وهو يروى عن عبيد الله بن أبي رافع مباشرة، ولكنه روى هذا الحديث بعينه -كما سيأتي في التخريج- عن أبيه زين العابدين علي بن الحسين عن عبيد الله. عبيد الله بن أبي رافع المدني، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعي ثقة. وكان كاتبا لعلي بن أبي طالب رضي اله عنه. وهذا الحديث مختصر من حديث مطول. وقد أخطأ فيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع: فحذف من الإسناد [عن أبيه] بين زيد بن علي وعبيد الله بن أبي رافع. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"أردف الفضل" -في هذا الحديث. وإنما"أردف أسامة بن زيد". وإرداف الفضل بن عباس كان في حادثة أخرى. والحديث رواه احمد في المسند: 1347، عن يحيى بن آدم عن سفيان -وهو الثوري-"عن عبد الرحمن بن عياش عن زيد بن علي، عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: هذا الموقف وعرفة كلها موقف ثم أردف أسامة فجعل يعتق على ناقته، والناس يضربون الإبل يمينا وشمالا، لا يلتفت إليهم". وهذا مختصر أيضًا. ورواه أبو داود: 1922، عن أحمد بن حنبل بهذا الإسناد واختصره قليلا. ورواه أحمد: 562 عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان بهذا الإسناد مطولا. وفيه -بعد إرداف أسامة-"ثم أتى قزح فوقف على قزح، فقال: هذا الموقف وجمع كلها موقف. . . "- إلى آخره مطولا. ورواه عبد الله بن أحمد، في زيادات المسند: 564 من طريق المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي عن أبيه. و 613 من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن عبد الرحمن المخزومي - بهذا الإسناد مطولا أيضًا. ورواه الترمذي 2: 100- 101، مطولا من طريق أبي أحمد الزبيري عن الثوري وقال: "حديث حسن صحيح، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه من حديث عبد الرحمن بن الحارث ابن عياش. وقد رواه غير واحد عن الثوري مثل هذا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 3829 - حدثنا هناد وأحمد الدولابي، قالا حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الحويرث، قال: رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول: أيها الناس أصبحوا! أيها الناس أصبحوا! ثم دفع. (1)   (1) الخر: 3829 -سفيان: هو ابن عيينة. ابن المنكدر: هو محمد بن المنكدر التيمي: أحد الأئمة الأعلام من التابعين. سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع: ترجمه الحافظ في التعجيل ص: 154 وذكر أنه مخزومي وأشار إلى هذا الخبر من روايته. وقال: "وقع عند غيره: عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع". ويريد: عند غير الشافعي، لأن هذا الخبر رواه الشافعي كما سيأتي. وقد رمز لهذه الترجمة في التعجيل بحرف الألف، وهو رمز"أحمد" في المسند. وهو خطأ مطبعي. وصحته"فع" رمز الشافعي. وعبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع: مترجم في التهذيب 6: 187 وابن سعد 5: 111 وابن أبي حاتم 2/2/239، ولكن جميع روايات هذا الخبر فيها"سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع". وأنا أرجح بما يظهر لي من الترجمتين: أن الراوي هنا غير المترجم في التهذيب ومن المحتمل أن راوي هذا الخبر ابن +الذي في التهذيب. خصوصا وأن ابن أبي حاتم ذكره في ترجمة"ابن الحويرث" راويا عنه. وإن لم يترجم هو ولا البخاري في الكبير ل"سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع". ابن الحويرث: هو جبير بن الحويرث. ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/512 وقال: "روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. روى عنه سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع". وكذلك ترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب رقم: 317 ثم قال: "في صحبته نظر". وترجمه ابن الأثير في أسد الغابة 1: 270 وقال: "وقتل أبوه يوم فتح مكة قتله علي. وهذا يدل على أن لابنه جبير صحبة أو رؤية". وكذلك رجح صحبته - الحافظ في الإصابة 1: 235 والتعجيل: 66- 67. وكلهم ذكر أباه باسم"الحويرث" إلا المصعب الزبيري في نسب قريش ص: 257 فإنه ذكره باسم"الحارث" و"الحويرث" هو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام، ص: 819 (طبعة أوربة) وطبقات ابن سعد 1/2/90. وهذا الخبر رواه الشافعي في الأم 2: 180 عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد بزيادة في آخره ولكن فيه: "عن أبي الحويرث" وكذلك ثبت في مسنده بترتيب الشيخ عابد السندي 1: 256. ووقع في مسند الشافعي المطبوع بهامش الجزء 6 من الأم: "عن جوبير بن حويرث". وهذا الضطراب يدل على تحريف الاسم في بعض نسخ الأم ومسند الشافعي. خصوصا وأن الحافظ ابن حجر ذكر اسمه في التعجيل على الصواب ولم يذكر فيه خلافا، لو كان هذا اختلاف رواية مع أنه رمز له برمز الشافعي وحده. ولعل هذا الخطأ كان في بعض نسخ الأم. ومسند الشافعي القديمة وأن هذا حمل البيهقي على أن يروي الخبر من غير طريق الشافعي خلافا لعادته الغالبة. فقد رواه البيهقي 5: 125، من طريق سعدان بن نصر عن سفيان وهو ابن عيينة -بهذا الإسناد. ورواه ابن حزم في المحلى 3: 215- 216 من طريق محمد بن المثنى عن سفيان به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 3830 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عبد الله بن عثمان، عن يوسف بن ماهك، قال: حججت مع ابن عمر، فلما أصبح بجمع صلى الصبح، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته. * * * وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة:" هذا كله مشاعر إلى مكة"، فإن معناه أنها معالم من معالم الحج ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحج = لا أن كل ذلك"المشعر الحرام" الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وأما قول عبد الرحمن بن الأسود:" لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام" فلأنه يحتمل أن يكون أراد: لم أجد أحدا يخبرني عن حد أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه. لأن حدود ذلك على صحتها حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان، لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها. غير أن ذلك وإن لم يقف على حد أوله ومنتهى آخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم. وكذلك سائر مشاعر الحج، والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام= بالثناء عليه، والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحق وبعد الضلالة= كذكره إياكم بالهدى، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها، فنجاكم منها. وذلك هو معنى قوله:" كما هداكم". * * * وأما قوله:" وإن كنتم من قبله لمن الضالين"، فإن من أهل العربية من يوجه تأويل" إن" إلى تأويل" ما"، وتأويل اللام التي في" لمن" إلى" إلا". (1)   (1) هذا توجيه الكوفيين انظر المعنى لابن هشام 1: 191 وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 فتأويل الكلام على هذا المعنى: وما كنتم = من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه = إلا من الضالين. * * * ومنهم من يوجه تأويل"إن" إلى"قد". فمعناه على قول قائل هذه المقالة: واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، ومن المعني بالأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس؟ ومن"الناس" الذين أمروا بالإفاضة من موضع إفاضتهم؟ فقال بعضهم: المعني بقوله:" ثم أفيضوا"، قريش ومن ولدته قريش، الذين كانوا يسمون في الجاهلية"الحمس"، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات، وهي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس. وذلك أن قريشا ومن ولدته قريش، كانوا يقولون:"لا نخرج من الحرم". فكانوا لا يشهدون موقف الناس بعرفة معهم، فأمرهم الله بالوقوف معهم. * ذكر من قال ذلك: 3831 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه. عن عائشة قالت: كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 قريش ومن كان على دينها -وهم الحمس- يقفون بالمزدلفة يقولون:"نحن قطين الله! "، وكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنزل الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" (1) 3832 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان كتبت إلي في قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار:"إني أحمس" (2) وإني لا أدري أقالها النبي أم لا؟ غير أني سمعتها تحدث عنه. والحمس: ملة قريش- وهم مشركون- ومن ولدت قريش في خزاعة وبني كنانة. كانوا لا يدفعون من عرفة، إنما كانوا يدفعون من المزدلفة وهو المشعر الحرام، وكانت بنو عامر حمسا، وذلك أن قريشا ولدتهم، ولهم قيل:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، وأن العرب كلها كانت تفيض من عرفة إلا الحمس، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة. (3)   (1) الحديث: 3831 - محمد بن عبد الرحمن الطفاوي بضم الطاء المهملة: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما. والحديث رواه البخاري 8: 139 (فتح) عن ابن المديني عن محمد بن خازم عن هشام به، مطولا قليلا. وكذلك رواه مسلم 1: 348 عن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية وهو محمد بن خازم به. القطين اسم جماعة واحدهم قاطن والجمع قطان: وهم سكان الدار المقيمون بها لا يبرحونها وقولهم"نحن قطين الله" فيه محذوف أي: قطين بيت الله وحرمه. ولو حمل على قولهم: القطين هم الخدم لكان معناه: خدم الله والقائمون بأمر بيته، بلا حاجة إلى تقدير محذوف. وهو جيد أيضًا. (2) انظر الآثار السالفة من رقم: 3077- 3087 ففيها خبر الأنصاري ومقالة رسول الله له. (3) الحديث: 3832 -أبان: هو ابن يزيد العطار وهو ثقة وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. وهذا الحديث بهذا السياق -لم أجده في موضع آخر. ومعناه ثابت في الحديث الذي قبله، وفي حديث مطول آخر، رواه البخاري 3: 411- 413 (فتح) . من طريق علي بن مسهر. ومسلم: 348ن من طريق أبي أسامة- كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه. وانظر أيضًا ما مضى في الطبري: 3077- 3087. وقول عروة -هنا-"غير أني سمعتها تحدث عنه": يريد به خالته"عائشة أم المؤمنين" وأنها تحدث ذلك عن رسول اله صلى الله عليه وسلم. وهذا واضح من سياق القول ومن سائر الروايات الأخر. ولعله عبر عنهما بالضمير لسبق ذكرهما في سؤال عبد الملك بن مروان الذي يجيبه بهذا القول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 3833 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا أبو توبة، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن حسين بن عبيد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الموقف إلى موقف العرب بعرفة. (1) 3834 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عبد الملك، عن عطاء:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" من حيث تفيض جماعة الناس. 3835 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عبد الله بن طلحة، عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى   (1) الحديث: 3833 - أحمد بن محمد الطوسي شيخ الطبري: روى عنه في لتاريخ 1: 8، 17 باسم"أحمد بن محمد بن حبيب". ثم في 1: 67 باسم"أحمد بن محمد الطوسي" كما هنا. ثم في 1: 209 باسم"أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي". فتعين أنه هو وهو مترجم لتهذيب وتاريخ بغداد 5: 108- 109، باسم"أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب أبو جعفر يعرف بالطوسي". وهو من شيوخ لترمذي وذكره ابن حبان في الثقات. و"نيزك": بكسر النون وفتح الزاي بينهما ياء تحتية، كما ضبط في التقريب والخلاصة. أبو توبة: هو الربيع بن نافع الحلبي سكن طرسوس وهو ثقة صدوق حجة كما قال أبو حاتم وهو من شيوخه وشيوخ الإمام أحمد وأبي داود وغيرهم. أبو إسحاق الفزاري: هو الحافظ الحجة شيخ الإسلام إراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن وهو الثقة المأمون الإمام. شيخه سفيان: هو الثوري. حسين بن عبيد اله: هو حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهو ضعيف ضعفه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وغيرهم. ولعله نسب هنا إلى جده بل لعل الأصل"بن عبد الله" فحرفها الناسخون. وإنما جزمت بأنه هو: لأنه هو الذي يروي عن عكرمة ويروي عنه الثوري كما في ترجمته عند ابن أبي حاتم 1/2/57. ثم ما في هذه الطبقة من الرواة من يسمى"حسين بن عبيد الله". بل ليس في التهذيب ولا في الكبير ولا عند ابن أبي حاتم من يدعي ذلك. نعم هناك رواة بهذا الاسم في لسان الميزان وكلهم متأخرون عن هذه الطبقة. وهذا الحديث لم أجده في غير الطبري، ولم ينسبه السيوطي 1: 227 لغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي عبادي، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي! فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم". 3836 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح = وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: عرفة. قال: كانت قريش تقول نحن:" الحمس أهل الحرم، ولا نخلف الحرم، ونفيض عن المزدلفة"، فأمروا أن يبلغوا عرفة. 3837 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال قتادة: وكانت قريش وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، ويقولون:"إنما نحن أهل الله، فلا نخرج من حرمه"، فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات، وأخبرهم أن سنة إبراهيم وإسمعيل هكذا: الإفاضة من عرفات. 3838 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت العرب تقف بعرفات، فتعظم قريش أن تقف معهم، فتقف قريش بالمزدلفة، فأمرهم الله أن يفيضوا مع الناس من عرفات. 3839 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت قريش وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه، يقولون:"إنما نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه"؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس; وكانت سنة إبراهيم وإسمعيل الإفاضة من عرفات. 3840 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: كانت قريش - لا أدري قبل الفيل أم بعده - ابتدعت أمر الحمس، رأيا رأوه بينهم، (1) قالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنو مكة وساكنوها، (2) فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم" (3) وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس - والحمس: أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، فيحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن، حتى قالوا:"لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلأوا السمن وهم حرم، (4) ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حراما". ثم رفعوا في ذلك (5) فقالوا:"لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل   (1) في سيرة ابن هشام: "رأيا رأوه وأداروه". (2) في سيرة ابن هشام: "وقطان مكة وساكنها". (3) في سيرة ابن هشام: "بحرمتكم". (4) في سيرة ابن هشام: "أن يأتقطوا" ائتقط الأقط: اتخذه والأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصل وهو من ألبان الإبل خاصة. وسلأ السمن: طبخه وعالجه فأذاب زبده. والحرم (بضمتين) جمع حرام. رجل حرام: محرم. (5) رفعوا في ذلك: زادوا وغالوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 في الحرم، (1) إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة". فحملوا على ذلك العرب فدانت به، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، (2) فكانوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله- حين أحكم له دينه وشرع له حجه: (3) " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" - يعني قريشا، و"الناس" العرب- فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات، والوقوف عليها، والإفاضة منها. فوضع الله أمر الحمس- وما كانت قريش ابتدعت منه- عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله. (4) 3841 - حدثنا بحر بن نصر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: كانت قريش تقف بقزح، وكان الناس يقفون بعرفة، قال: فأنزله الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس". * * * وقال آخرون: المخاطبون بقوله:" ثم أفيضوا"، المسلمون كلهم، والمعني بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من جمع، وبـ "الناس"، إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام. * ذكر من قال ذلك. 3842 - حدثت عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا هارون بن معاوية الفزاري، عن أبي بسطام عن الضحاك، قال: هو إبراهيم. (5)   (1) في سيرة ابن هشام: "من الحل إلى الحرم". (2) هذه الجملة غير موجودة بنصها في سيرة ابن هشام. (3) في المطبوعة: "حجته" وفي سيرة ابن هشام: "وشرع له سنن حجه". (4) الأثر: 3840 -في سيرة ابن هشام 1: 211- 216 وفي السيرة زيادات وقد أثبتنا الاختلاف آنفًا. (5) الخبر: القاسم بن سلام بتشديد اللام: هو أبو عبيد الإمام الحجة صاحب كتاب الأموال وغيره من المؤلفات. مروان بن معاوية الفزاري: مضت ترجمته: 1222، 3322. ووقع في المطبوعة هنا"هارون""مروان". وهو خطأ واضح. و"مروان الفزاري" من شيوخ القاسم بن سلام كما في ترجمته الممتعة في تاريخ بغداد 12: 403- 406. أبو بسطام: هو مقاتل بن حيان النبطي البلخي وهو ثقة بينا ذلك في المسند: 3107. الضحاك: هو ابن مزاحم الهلالي الخراساني وهو ثقة ما ذكرنا في المسند: 2262. وهذا الخبر أشار إليه ابن كثير 1: 469 أنه"حكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط". وهم السيوطي 1: 227، فذكره من رواية الطبري عن ابن عباس؟ ولعله سبق ذهنه لكثرة رواية الضحاك عن ابن عباس؟؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 قال أبو جعفر: والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متحمسا معها من سائر العرب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله. وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، وما تفعلوا من خير يعلمه الله. وهذا، إذ كان ما وصفنا تأويله فهو من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، على نحو ما تقدم بياننا في مثله، (1) ولولا إجماع من وصفت إجماعه على أن ذلك تأويله. لقلت: أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك من أن الله عنى بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من حيث أفاض إبراهيم. لأن الإفاضة من عرفات لا شك أنها قبل الإفاضة من جمع، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك، وكان الله عز وجل إنما أمر بالإفاضة من الموضع الذي أفاض منه الناس، بعد انقضاء ذكر الإفاضة من عرفات، وبعد أمره بذكره عند المشعر الحرام، ثم قال بعد ذلك:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"= كان معلوما بذلك أنه لم يأمر بالإفاضة إلا من الموضع الذي لم يفيضوا منه، دون الموضع الذي قد أفاضوا منه، وكان الموضع الذي قد   (1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 أفاضوا منه فانقضى وقت الإفاضة منه، لا وجه لأن يقال:"أفض منه". فإذ كان لا وجه لذلك، وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر لا معنى له، كانت بينة صحة ما قاله من التأويل في ذلك، وفساد ما خالفه، لولا الإجماع الذي وصفناه، وتظاهر الأخبار بالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويل. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه:"والناس" جماعة،"وإبراهيم" صلى الله عليه وسلم واحد، والله تعالى ذكره يقول:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"؟ قيل: إن العرب تفعل ذلك كثيرا، فتدل بذكر الجماعة على الواحد. (1) ومن ذلك قول الله عز وجل: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: 173] والذي قال ذلك واحد، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل السير- نعيم بن مسعود الأشجعي، (2) ومنه قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51] قيل: عنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم= ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. (3) * * *   (1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين. (2) انظر الاستيعاب: 301 وابن سعد 2/1/42 وتاريخ الطبري 3: 41- 42 ولكن الطبري لم يذهب هذا المذهب في تفسير الآية من سورة آل عمران 4: 118- 121 (بولاق) . (3) سيعود الطبري بعد أسطر فيذكر تتمة تفسير هذا الشطر من الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم من عرفات منصرفين إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وادعوه واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته فوفقكم لما ارتضى لخليله إبراهيم، فهداه له من شريعة دينه، بعد أن كنتم ضلالا عنه. * * * وفي" ثم" في قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، من التأويل وجهان: أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه: ثم أفيضوا فانصرفوا راجعين إلى منى من حيث أفاض إبراهيم خليلي من المشعر الحرام، وسلوني المغفرة لذنوبكم، فإني لها غفور، وبكم رحيم. كما:- 3843 - حدثني إسماعيل بن سيف العجلي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: حدثنا ابن كنانة- ويكنى أبا كنانة-، عن أبيه، عن العباس بن مرداس السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها، فأجابني أن قد غفرت، إلا ذنوبها بينها وبين خلقي. فأعدت الدعاء يومئذ، فلم أجب بشيء، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته، وتغفر لهذا الظالم! فأجابني أن قد غفرت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه! قال:"ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور، ويضع التراب على رأسه" (1)   (1) الحديث: 3843 - إسماعيل بن سيف العجلي: لم أستطع التحقق من معرفته. فلم أجد في كتب التراجم إلا"إسماعيل بن سيف أبو إسحاق"- هكذا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/1/176 وأنه سأل أباه عنه، فقال: "هو مجهول". وله ترجمة في لسان الميزان 1: 409- 410 بل ثنتان ورجح الحافظ أنهما لشخص واحد. -فيما يظهر لي- من هذه الطبقة ولكني لا أجزم أنه هو شيخ الطبري هذا. عبد القاهر بن السري السلمي البصري: قال ابن معين: "صالح" وذكره ابن شاهين في الثقات. ابن كنانة: هو عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس، كما تبين اسمه من التخريج -فيما يأتي- وكما ذكر في التراجم. وهو مجهول كما في التقريب والخلاصة. والمراد أنه مجهول الحال. وفي التهذيب: "قال البخاري" لم يصح حديثه". ولم يترجم له ابن أبي حاتم في العبادلة ولا في الأبناء مع أنه ذكره في ترجمة أبيه، كما سيأتي ولم أجد كنيته" أبا كنانة" إلا في هذا الموضع فستفاد منه. أبوه"كنانة بن العباس": ترجمه البخاري في الكبير 4/1/236 قال: "كنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه. روى عنه ابنه". وبنحو ذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/169. ولم يذكرا فيه جرحا ولم يسميا ابنه. وبنحو هذا ذكره ابن حبان في الثقات ص: / 317 ولم يسم ابنه أيضًا. ثم ذكره في كتاب المجروحين في الورقة: 192 قال: "كنانة بن العباس بن مرداس السلمي يروي عن أبيه روى عنه ابنه: منكر الحديث جدا فلا أدري: التخليط في حديثه منه، أو من ابنه؟ أو من أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير"!! هكذا قال ابن حبان مهولا في غير موضع التهويل! فما ذكر العلماء الحفاظ لكنانة غير هذا الحديث الواحد. وما هو بمنكر المعنى وإن كان الإسناد إليه فيه ضعف بجهالة حال عبد الله ابن كنانة. وكنانة هذا قال فيه ابن مندة: "يقال إن لكنانة صحبة" ولذلك ذكره الحافظ في الإصابة 5: 318 في القسم الثاني ممن لهم رؤية وأشار إلى خطأ ابن حبان بأنه ذكره في الثقات"ثم غفل فذره في الضعفاء". والحديث رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند: 16276 (4: 14- 15 حلبي) عن إبراهيم بن الحجاج الناجي. ورواه ابن ماجه: 3013 عن أيوب بن محمد الهاشمي. ورواه البيهقي 5: 118 من طريق أبي داود الطيالسي -ثلاثتهم عن عبد القاهر بن السري"حدثنا عبد الله ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي" - إلخ، كما في رواية ابن ماجه. وفي روايتي عبد الله بن أحمد والبيهقي: "حدثني ابن كنانة بن العباس بن مرداس". وكذلك روى أبو داود في السنن: 5234- قطعة منه، عن عيسى بن إبراهيم البركي، وعن أبي الوليد الطيالسي كلاهما عن عبد القاهر بن السري. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 127- 128 من رواية ابن ماجه ثم من رواية البيهقي. ثم نقل عن البيهقي أنه قال: "وهذا الحديث له شواهد كثيرة، وقد ذكرناها في كتاب البعث. فإن صح بشواهده ففيه الحجة. وإن لم يصح، فقد قال الله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى". وذكره السيوطي 1: 230 ونسبه أيضًا للطبراني. والضياء المقدسي في المختارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 3844 - حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، قال: حدثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال:"أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله. فلما كان غداة جمع قال:"أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله. فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به، سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول التبعات ضمنت عوضها من عندي". (1) * * * فقد بين هذان الخبران أن غفران الله التبعات التي بين خلقه فيما بينهم، إنما هو غداة جمع، وذلك في الوقت الذي قال جل ثناؤه:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله"، لذنوبكم، فإنه غفور لها حينئذ، تفضلا منه عليكم، رحيم بكم. * * *   (1) الحديث: 3844 - مسلم بن حاتم أبو حاتم الأنصاري: ثقة من شيوخ أبي داود والترمذي وثقه الترمذي والطبراني. بشار بن بكير الحنفي: لم أجد له ترجمة بعد طول البحث والتتبع، حتى لقد ظننته محرفا لولا أن وجدته مذكورا أيضًا في إسناد هذا الحديث في الحلية لأبي نعيم. عبد العزيز بن أبي رواد المكي: ثقة معروف بالورع والصلاح والعبادة. ومن تكلم فيه من أجل رأيه فلا حجة له. والحديث رواه أبو نعيم في الحلية 8: 199 بإسنادين: من طريق أبي هشام عبد الرحيم بن هارون الغساني ومن طريق بشار بن بكير الحنفي -كلاهما عن عبد العزيز بن أبي رواد. ثم قال: "السياق لبشار بن بكير وحديث أبي هاشم فيه اختصار. . . غريب تفرد به عبد العزيز عن نافع ولم يتابع عليه". وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2: 127 نحو معناه من حديث عبادة بن الصامت ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير ورواته محتج بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم". وكذلك ذكره الهيثمي في الزوائد 3: 256- 257. ثم ذكر كلاهما بعده حديثا بنحوه لأنس بن مالك ونسباه لأبي يعلى. وقال الهيثمي: "وفيه صالح المري وهو ضعيف" وكذلك ذكرهما السيوطي 1: 230 دون بيان تعليلهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 والآخر منهما:" ثم أفيضوا" من عرفة إلى المشعر الحرام، فإذا أفضتم إليه منها فاذكروا الله عنده كما هداكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} قال أبو جعفر: يعني بقول جل ثناؤه:" فإذا قضيتم مناسككم "، فإذا فرَغتم من حَجكم فذبحتم نَسائككم، فاذكروا الله (1) * * * يقال منه:"نسك الرجل يَنسُك نُسْكًا ونُسُكًا ونسيكة ومَنْسَكًا"، إذا ذبح نُسُكه، و"المنسِك" اسم مثل"المشرق والمغرب"، فأما"النُّسْك" في الدين، فإنه يقال منه:" ما كان الرجل نَاسكًا، ولقد نَسَك، ونَسُك نُسْكًا نُسُكًا ونَساكة"، (2) وذلك إذا تقرَّأ. (3) * * * وبمثل الذي قلنا في معنى"المناسك" في هذا الموضع قال مجاهد: 3845 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضَيتم مَناسككم"، قال: إهراقة الدماء. (4)   (1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543. (2) انظر تفسير"نسك" فيما سلف من 3: 75- 80/ ثم هذا الجزء وفي النسك الذي هو الذبح. مصادر لم تذكر في كتب اللغة. (3) تقرأ الرجل: تفقه وتنسك فهو قارئ ومتقرى وقراء (بضم القاف وتشديد الراء) . (4) "إهراقة" مصدر هراق الدم يهريقه، هراقة وإهراقة وهو سفحه وصبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 3846 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وأما قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدَّ ذكرًا"، فإنّ أهل التأويل اختلفوا في صفة" ذكر القوم آباءهم"، الذين أمرَهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكرًا. فقال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظيرَ ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم. * ذكر من قال ذلك: 3847 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن القاسم بن عثمان، عن أنس في هذه الآية، قال: كانوا يذكرون آباءهم في الحج، فيقول بعضهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم: كان أبي جزَّ نواصي بني فلان!. 3848 - حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. عن عبد العزيز، عن مجاهد قال: كانوا يقولون: كان آباؤنا ينحرون الجُزُر، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية:" أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا": 3849 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كان أهل الجاهلية يذكرون فَعَال آبائهم. 3850 - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، قال: كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 أهل الجاهلية إذا فَرغوا من الحج قاموا عند البيت فيذكرون آباءَهم وأيامهم: كان أبي يُطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم"= قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل. 3851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني حجاج عمن حدثه، عن مجاهد في قوله:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكهم وقفوا عند الجَمرة فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفَعال آبائهم، فنزلت هذه الآية. 3852 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وَقفوا عند الجمرة، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم. قال: فنزلت هذه الآية. 3853 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: تفاخرت العرب بَينها بفعل آبائها يوم النحر حين فَرَغوا فأمروا بذكر الله مكانَ ذلك. 3854 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 3855 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنىً قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفَعالَهم به، يخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 3856 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا، وذكروا آباءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكرَ الله، يذكرونه كذكرهم آبائهم، أو أشد ذكرًا. 3857 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وَقفوا بعرفة، فنزلت هذه الآية. 3858 - حدثنا القاسم، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول ذلك يومَ النحر، حين ينحرون. قال: قال" فاذكروا الله كذكركم آبائكم" قال: كانت العرب يوم النحر حين يفرُغون يَتفاخرون بفَعَال آبائها، فأمروا بذكر الله عز وجل مكانَ ذلك: * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ. * ذكر من قال ذلك: 3859 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبي رواد، عن عطاء أنه قال في هذه الآية:" كذكركم آباءَكم" قال: هو قول الصبيّ: يا أباه!. 3860 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" يعني بالذكر، ذكر الأبناء الآباء. 3861 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء:" كذكركم آباءكم": أبَهْ! أمَّهْ!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 3862 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: كالصبي، يَلهج بأبيه وأمه. 3863 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرًا"، يقول: كذكر الأبناء الآباءَ أو أشد ذكرًا. 3864 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، يقول: كما يذكر الأبناء الآباء. 3865 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" كذكركم آباءكم" يعني ذكر الأبناء الآباء. * * * وقال آخرون: بل قيل لهم:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم، لم يذكروا غير آبائهم، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم. * ذكر من قال ذلك: 3866 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كانت العرب إذا قَضت مناسكها، وأقاموا بمنى، يقومُ الرجل فيسأل الله ويقول:"اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عَظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيتَ أبي!! "، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن يُعطى في الدنيا. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك"الذكر" جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [سورة البقرة:203] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه. وإنما قلنا:"الذكر" الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا":"جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا"، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى. فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه= كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 القول في تأويل قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا قَضيتم مناسككم أيها المؤمنون فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا، وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصًا ولطلب مرضاته، وقولوا:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرة حَسنة وقنا عذاب النار"، ولا تكونوا كمن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظَّ لهم في ثواب الله، ولا نصيبَ لهم في جناته وكريم ما أعدَّ لأوليائه، كما قال في ذلك أهل التأويل. 3867 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فمن الناس من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا"، هب لنا غنمًا! هب لنا إبلا! " وماله في الآخرة من خلاق". 3868 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: كانوا في الجاهلية يقولون:" هبْ لنا إبلا! "، ثم ذكر مثله. 3869 - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش في قوله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ومَا له في الآخرة من خَلاق"، قال: كانوا = يَعني أهلَ الجاهلية = يقفون - يعني بعد قضاء مناسكهم - فيقولون:" اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا غنمًا! "، فأنزل الله هذه الآية:" فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" = قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 3870 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة فيدعون فيقولون:" اللهم اسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، ورُدَّنا صَالحين إلى صالحين!. 3871 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا" نَصرًا ورزقًا، ولا يسألون لآخرتهم شيئًا. 3872 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 3873 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا، لها عملَ، ولها نَصِب. 3874 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر اللهَ الرجلُ منهم، وإنما يذكر أباه، ويسأل أن يُعطَي في الدنيا. 3875 - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال كانوا أصنافًا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الكفر، وأهلُ النفاق. فمن الناس من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق" إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة، ولا يؤمنون بها= ومنهم من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، الآية= قال: والصنف الثالث:" ومنَ الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 وأما معنى"الخلاق" فقد بيناه في غير هذا الموضع، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الحسنة" التي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم. يعني بذلك: ومن الناس مَن يقول: ربَّنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الآخرة. * ذكر من قال ذلك: 3876 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة"، قال: في الدنيا عافيةً، وفي الآخرة عافية. قال قتادة: وقال رجل:" اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا"، فمرض مرضًا حتى أضنى على فراشه، (2) فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم شأنُه، فأتاه النبي عليه السلام، فقيل له: إنه دعا بكذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا طاقة لأحد بعقوبه الله، ولكن قُل:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عَذاب النار". فقالها، فما لبث إلا أيامًا= أو: يسيرًا =حتى بَرَأ.   (1) انظر ما سلف 2: 452- 454. (2) أضنى الرجل: إذا لزم الفراش من الضنى وهو شدة المرض حتى ينحل الجسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 3877 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سعيد بن الحكم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: عاد رَسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرْخ المنتوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله بشيء؟ - أو تسأل الله شيئًا؟ قال: قلت:"اللهم ما كنت مُعاقبي به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا! ". قال:" سبحان الله! هل يستطيع ذلك أحد أو يطيقه؟ فهلا قلت:" اللهم آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار؟ ". (1) * * * وقال آخرون: بل عَنى الله عز وجل بـ "الحسنة" - في هذا الموضع- في الدنيا، العلمَ والعبادة، وفي الآخرة: الجنة. * ذكر من قال ذلك:   (1) الحديث: 3877 -سعيد بن الحكم: هو"سعيد بن أبي مريم الجمحي" مضت الإشارة إليه في: 22 وهو ثقة حجة. "يحيى بن أيوب" هو الغافقي أبو العباس المصري وهو ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة. حميد: هو ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة، سمع من أنس بن مالك، وسمع من ثابت البناني عن أنس. وزعم بعضهم أنه لم يسمع من أنس إلا أحاديث قليلة وأن سائرها إنما هو"عن ثابت عن أنس". ورد الحافظ ذلك ردا شديدا، وقال: "قد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير. وفي صحيح البخاري من ذلك جملة". وإنما فصلت هذا لأن رواية هذا الحديث هنا فيها تصريح حميد بسماعه من أنس. ولكنه رواه أحمد ومسلم من حديث حميد، عن ثابت عن أنس. فلعله سمعه من أنس ومن ثابت عن أنس: فرواه أحمد في المسند: 12074 (3: 107 حلبي) عن ابن أبي عدي وعبد الله بن بكر السهمي - كلاهما عن حميد عن ثابت عن أنس. وكذلك رواه مسلم 2: 309 من طريق ابن أبي عدي عن حميد ثم من طريق خالد بن الحارث عن حميد. وذكره ابن كثير 1: 472- 473 من رواية المسند. ثم قال: "انفرد بإخراجه مسلم" يعني انفرد به عن البخاري. وذكره السيوطي 1: 233 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. ولكنه وهم فنسبه أيضًا للبخاري ولم أجده فيه، مع جزم ابن كثير بانفراد مسلم بروايته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 3878 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا عباد، عن هشام بن حسان، عن الحسن:" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والعبادةُ، وفي الآخرة: الجنة. 3879 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة، وفي الآخرة حَسنةً، وقنا عذابَ النار"، قال: العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة. 3880 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هشام، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: الفهمُ في كتاب الله والعلم. 3881 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفيان الثوري يقول [في] هذه الآية:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والرزق الطيب، وفي الآخرة حَسنة الجنة. * * * وقال آخرون:"الحسنة" في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة. * ذكر من قال ذلك: 3882 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" ومنهم مَنْ يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون. 3883 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي" ومنهم من يَقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، هؤلاء المؤمنون; أما حسنة الدنيا فالمال، وأما حَسنة الآخرة فالجنة. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حجَّ بَيته، يسألون ربهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 الحسنة في الدنيا، والحسنة في الآخرة، وأن يقيهم عذاب النار. وقد تجمع"الحسنةُ" من الله عز وجل العافيةَ في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك، والعلم والعبادة. وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجَّنة، لأن من لم يَنلها يومئذ فقد حُرم جميع الحسنات، وفارق جميع مَعاني العافية. وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله عز وجل لم يخصص بقوله - مخبرًا عن قائل ذلك- من معاني"الحسنة" شيئًا، ولا نصب على خُصوصه دلالة دالَّةً على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فالواجب من القول فيه ما قلنا: من أنه لا يجوز أن يُخَصّ من معاني ذلك شيء، وأن يحكم له بعمومه على ما عَمَّه الله. * * * وأما قوله:" وقنا عذاب النار"، فإنه يعني بذلك: اصرف عنا عَذاب النار. * * * ويقال منه:"وقيته كذا أقيه وِقاية وَوَقاية ووِقاء"، ممدودًا، وربما قالوا:" وقاك الله وَقْيًا"، إذا دفعت عنه أذى أو مكروهًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أولئك" الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم:" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنا عذاب النار"، رغبةً منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده، وعلمًا منهم بأن الخيرَ كله من عنده، وأن الفضل بيده يؤتيه من يَشاء. فأعلم جل ثناؤه أنّ لهم نصيبًا وحظًّا من حجِّهم ومناسكهم، وثوابًا جزيلا على عملهم الذي كسبوه، وبَاشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 خاصًّا ذلك لهم دون الفريق الآخر، الذين عانوا ما عانوا من نَصَب أعمالهم وتعبها، وتكلَّفوا ما تكلفوا من أسفارهم، بغير رغبةٍ منهم فيما عند رَبهم من الأجر والثواب، ولكن رجاء خسيس من عَرض الدنيا، وابتغاء عَاجل حُطامها. كما:- 3884 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:" فمن الناسَ من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق"، قال: فهذا عبد نوى الدنيا، لها عمل ولها نَصِب،" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عذابَ النار. أولئك لَهم نصيب مما كسبوا"، أي حظٌّ من أعمالهم. 3885 - وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في:" فمن الناس مَن يَقول رَبنا آتنا في الدنيا ومَاله في الآخرة من خَلاق"، إنما حَجُّوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة ولا يؤمنون بها،" ومنهم مَن يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون=" أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا والله سريع الحساب"، لهؤلاء الأجرُ بما عملوا في الدنيا. * * * وأما قوله:" والله سريع الحساب"، فإنه يعني جل ثناؤه: أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما:" رَبنا آتنا في الدنيا"، ومن مسألة الآخر:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، فَمُحْصٍ له بأسرع الحساب، (1) ثم إنه مجازٍ كلا الفريقين على عمله. وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب، لأنه جل ذكره يُحصى ما يُحصى من أعمال عباده بغير عَقد أصابع، ولا فكرٍ ولا رَوية، فِعلَ العَجَزة الضَّعَفة من الخلق، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يَعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ثم هو مُجازٍ عبادَه على كل ذلك. فلذلك امتدح   (1) قوله: "فمحص" عطف على قوله: "أنه محيط. . . " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 نفسه جل ذكره بسرعة الحساب، (1) وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمِثْلِ، فيحتاجَ في حسابه إلى عَقد كف أو وَعْي صَدر. * * *   (1) في المطبوعة: "فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب"، والذي أثبت أشبه بالصواب إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} قال أبو جعفر: يعني جَلّ ذكره: أذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام مُحصَيات، وهي أيام رَمي الجمار. أمر عباده يومئذ بالتكبير أدبارَ الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة من حَصى الجمار يرمي بها جَمرةً من الجمار. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: * ذكر من قال ذلك: 3886 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: أيام التشريق. 3887 - حدثني محمد بن نافع البصري، قال: حدثنا غندر: قال: حدثنا شعبة، عن هشيم، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. (1) 3888 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني الأيام المعدودات أيامَ التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر.   (1) الأثر: 3887 -"محمد بن نافع البصري" هو محمد بن أحمد بن نافع العبدي القيسي أبو بكر بن نافع البصري مشهور بكنيته. مترجم في التهذيب"غندر" هو محمد بن جعفر الهذلي مولاهم أبو عبد الله البصري. مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 3889 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني أيام التشريق. 3890 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. 3891 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مخلد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: سمعه يوم الصَّدَر يَقول بعد ما صدر يُكبر في المسجد ويتأول:" واذكروا الله في أيام مَعدودات". 3892 - حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني أيام التشريق. 3893 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله عز وجل:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: هي أيام التشريق. 3894 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، مثله. 3895 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال أيام التشريق بمنى. 3896 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد وعطاء قالا هي أيام التشريق. 3897 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 3898 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله. 3899 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق. 3900 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. 3901 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، قال: الأيام المعدودات: الأيام بعد النحر. 3902 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت إسماعيل بن أبي خالد عن"الأيام المعدودات"، قال: أيام التشريق. 3903 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، فقال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، كنا نُحدَّث أنها أيام التشريق. 3904 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: هي أيام التشريق. 3905 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" أما الأيام المعدوداتُ": فهي أيام التشريق. 3906 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 3907 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك، قال:" الأيام المعدودات"، ثلاثة أيامٍ بعد يوم النحر. 3908 - حدثت عن حسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" في أيام معدودات" قال: أيام التشريق الثلاثة. 3910 - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت ابن زيد عن" الأيام المعدودات" و"الأيام المعلومات"، فقال:"الأيام المعدودات" أيام التشريق،"والأيام المعلومات"، يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق. * * * وإنما قلنا: إنّ"الأيام المعدودات"، هي أيام منى وأيام رمي الجمار لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل. * ذكر الأخبار التي رويت بذلك: 3911 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم، قال: حدثنا هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيام التشريق أيام طُعْمٍ وذِكْر". (1)   (1) الحديث: عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: ثقة وثقه أحمد وغيره وتكلم فيه آخرون من قبل حفظه. والحديث رواه أحمد في المسند: 7134 عن هشيم بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 9008 (2: 387 حلبي) عن عفان عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 428 من طريق سعيد بن منصور عن هشيم به. ولم ينفرد عمر بن أبي سلمة بروايته. فرواه ابن ماجه: 1719 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح على شرط الشيخين". وسيأتي عقب هذا من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 3912 - حدثنا خلاد، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا صالح، قال: حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعثَ عبد الله بن حُذافة يطوف في منى:"لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل". (1) 3912م - وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل= وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية= قالا جميعًا، حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذ الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله. 3913 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق وقال: هي أيام أكل وشرب وذكر الله. (2) 3914 - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن دينار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعث بشر بن سُحَيم، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله. (3)   (1) الحديث: 3912 - روح: هو ابن عبادة. صالح: هو ابن أبي الأخضر اليمامي. وهو ثقةن تكلموا في روايته عن الزهري بما ليس بقادح. وهو كان خادما لزهري فالظاهر أن يكون عرف عن الزهري ما لم يعرف غيره. والحديث رواه أحمد في المسند: 10674، 10930 (2: 513، 535 حلبي) عن روح ابن عبادة بهذا الإسناد. وكذلك رواه الطحاوي 1: 428 ونسباه للطبري فقط. وانظر ما مضى: 3471 وما يأتي: 3916. (2) الحديث: 3913 - خالد: هو ابن مهران الحذاء. أبو قلابة: هو الجرمي عبد الله ابن زيد. أبو المليح: هو ابن أسامة الهذلي. وهذا إسناد صحيح ليست له علة. ويشهد له ما روى البخاري 4: 211 (فتح) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى" وهو مرفوع حكما -على الراجح- وإن كان لفظه لفظ الموقوف. وقد مضى معناه مرفوعا لفظا من وجه آخر، عن الزهري عن سالم عن ابن عمر. وانظر الحديث التالي لهذا. (3) الحديث: 3914 - ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن. عطاء: هو ابن أبي رباح وهذا إسناد حسن. والحديث رواه الطحاوي 1: 428 من طريق سعيد بن منصور عن هشيم بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 1: 475 ولم يذكر تخريجه. وذكره السيوطي 1: 235 منسوبا للطبري فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 3915 - حدثني يعقوب. قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس فنادى في أيام التشريق فقال:"إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صومٌ من هَدْي". (1) 3916 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم الزُّرَقي، عن أمه قالت: لكأني أنظر إلى عليٍّ رضي الله عنه على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء حين وقف على شِعْب الأنصار وهو يقول:"أيها الناس إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر". (2) * * *   (1) الحديث: 3915 - هذا إسناد مرسل لأن عمرو بن دينار تابعي. ولكن الحديث ورد من طريقه متصلا صحيحًا وكذلك من غير طريقه: فرواه أحمد في المسند: 15496 (3: 415 حلبي) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن دينار"عن نافع بن جبير بن مطعم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه بعث بشر بن سحيم فأمره أن ينادي: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمن وإنها أيام أكل وشرب يعني أيام التشريق". ورواه أحمد أيضًا بنحوه (4: 235 حلبي) عن سريج عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن بشر بن سحيم. وكذلك رواه الطحاوي 1: 429 عن ابن خزيمة عن حجاج بن منهال عن حماد بن زيد به. ورواه شعبة أيضًا عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في مسند الطيالسي 1299 ومسند أحمد: 15497 (3: 415 حلبي) والطحاوي 1: 429. وكذلك رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في المسند: 15495 (3: 415 حلبي) وفيه أيضًا (4: 235 حلبي) وسنن ابن ماجه: 1730 وقال البوصيري في زوائده: "رواه ابن خزيمة في صحيحه". وكذلك رواه البيهقي 4: 298. (2) الحديث: 3916 - مضى بهذا الإسناد: 3471. حكيم بن حكيم بفتح الحاء فيهما بن عباد بن حنيف: ثقة وثقه ابن حبان والعجلي وغيرهما وصحح له الترمذي وابن خزيمة. وترجمه البخاري في الكبير 2/1/17 وابن أبي حاتم 1/2/202 فلم يذكرا فيه جرحا. مسعود بن الحكم بن الربيع الزرقي الأنصاري المدني: تابعي ثقة يعد في جلة التابعين وكبارهم. وأمه صحابية معروفة. والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 2/1/134 عن إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن علية- بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 434- 435 من طريق أحمد بن حنبل عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وهذا الإسناد -من طريق الإمام احمد: ليس من طريق رواية المسند بل من طريق آخر عنه ولم يذكر هذا الإسناد في المسند. ولكنه رواه بإسناد آخر: فرواه في المسند: 708 عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق: "حدثني عبد اله بن أبي سلمة عن مسعود بن الحكم الأنصاري ثم الزرقي عن أمه أنها حدثته. . . " فذكر الحديث. وهذا إسناد صحيح أيضًا. فلابن إسحاق فيه شيخان سمعه منهما: حكيم بن حكيم وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون- كلاهما عن مسعود بن الحكم. وانظر أيضًا في المسند: 567، 821، 824. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال في أيام منى: إنها أيام أكل وشرب وذكر الله، لم يخبر أمَّته أنها"الأيام المعدودات" التي ذكرها الله في كتابه، فما تنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عنى بقوله:"وذكْر الله"،"الأيامَ المعلومات"؟ قيل: غير جائز أن يكون عنى ذلك. لأن الله لم يكن يُوجب في"الأيام المعلومات" من ذكره فيها ما أوجبَ في"الأيام المعدودات". وإنما وصف"المعلومات" جل ذكره بأنها أيام يذكر فيها اسم الله على بهائم الأنعام، فقال: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) [الحج: 28] ، فلم يوجب في"الأيام المعلومات" من ذكره كالذي أوجبه في"الأيام المعدودات" من ذكره، بل أخبر أنها أيام ذكره علىَ بهائم الأنعام. فكان معلومًا= إذ قال صلى الله عليه وسلم لأيام التشريق:" إنها أيام أكل وشرب وذكر الله" فأخرج قوله:" وذكر الله" مطلقًا بغير شرط، ولا إضافة، إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام = أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه، فأوجبه على عباده مطلقًا بغير شرط ولا إضافة إلى معنى في"الأيام المعدودات"، وأنه لو كان أراد بذلك صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وصف"الأيام المعلومات" به، لوصل قوله:" وذكر"، إلى أنه ذكر الله على ما رزقهم من بهائم الأنعام، كالذي وصف الله به ذلك، ولكنه أطلق ذلك باسم الذكر من غير وصله بشيء، كالذي أطلقه تبارك وتعالى باسم الذكر، فقال:" واذكروا الله في أيام معدودات" فكان ذلك من أوضح الدليل على أنه عنى بذلك ما ذكره الله في كتابه وأوجبه في"الأيام المعدودات". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم: معناه: فمن تعجل في يَومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه في نَفْره وتعجله في النفر، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره. * ذكر من قال ذلك. 3917 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن عطاء، قال: لا إثم عليه في تعجيله، ولا إثم عليه في تأخيره. 3918 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال. حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، مثله. 3919 - حدثنا أحمد، قال. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن مغيره، عن عكرمة، مثله. 3920 - حدثني محمد بن عمرو، قال. حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" فمن تعجَّل في يومين"، يوم النَّفر،" فلا إثم عليه"، لا حرج عليه،" ومن تأخر فلا إثم عليه". 3921 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما:"من تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"، يقول: من نَفَر في يومين فلا جُناح عليه، ومن تأخر فنفر في الثالث فلا جناح عليه. 3922 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فمن تعجَّل في يومين"، يقول: فمن تعجَّل في يومين- أي: من أيام التشريق="فلا إثم عليه"، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قيل أن ينفر، فلا نَفْر له حتى تزول الشمس من الغد=" ومن تأخر فلا إثم عليه"، يقول: من تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه. 3923 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال. أخبرنا عبد الرزاق، قال. أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"، قال: رخَّص الله في أن ينفروا في يومين منها إن شاءوا، ومن تأخر في اليوم الثالث فلا إثم عليه. 3924 - حدثني محمد بن المثنى، قال. حدثنا محمد بن جعفر، قال. حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال في تعجيله. 3925 - حدثني هناد بن السريّ، قال: حدثنا ابن أبى زائدة، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم قال:" لا إثم عليه"، لا إثم على من تعجل، ولا إثم على من تأخر. 3926 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، قال: هذا في التعجيل. 3927 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك وإسرائيل، عن زيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: حلَّ النَّفر في يومين لمن اتقى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 3928 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:" فمن تجعل في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره. 3929 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أللمكي أن ينفر في النفْر الأول؟ قال: نعم، قال الله عز وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، فهي للناس أجمعين. 3930 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال: ليس عليه إثم 3931 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين" بعد يوم النحر،" فلا إثم عليه"، بقول: من نَفَر من منى في يومين بعد النحر فلا إثم عليه،"ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره، فلا حرج عليه. (1) 3932 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره. * * * وقال آخرون: بل معناه: فمن تعجل في يومين فهو مغفور له لا إثم عليه، ومن تأخر كذلك. * ذكر من قال ذلك: 3933 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل،   (1) الأثر: 3931 - كان في المطبوعة"حدثنا علي قال حدثنا أبو صالح. . . " و"علي" تصحيف"المثنى" وهعو إسناد دائر في الطبري أقربه رقم: 2893. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 عن ثوير، عن أبيه، عن عبد الله:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: ليس عليه إثم. 3934 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان، عن حماد. عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: غُفر له. 3935 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مسعر، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له. 3936 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= جميعًا، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غُفر له. 3937 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قد غفر له. 3938 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله قال في هذه الآية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه" قال: برئ من الإثم. 3939 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن ابن عمر:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" قال: رجع مغفورًا له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 3940 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عَليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له. 3941 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي عبد الله، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له، إنهم يتأولونها على غير تأويلها، إن العمرة لتكفِّر ما معها من الذنوب فكيف بالحج!. 3942 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن إبراهيم وعامر:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قالا غفر له. 3943 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثني من أصدقه، عن ابن مسعود قوله:" فلا إثم عليه"، قال: خرج من الإثم كله" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: برئ من الإثم كله، وذلك في الصَّدَر عن الحج = قال ابن جريج: وسمعت رجلا يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:" فلا إثم عليه"، قال. غفر له،" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: غُفر له. 3944 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال. حدثنا أسود بن سوادة القطان، قال: سمعت معاوية بن قُرة قال: يَخرج من ذنوبه. (1) * * *   (1) الأثر: 3944 - لم أجد"أسود بن سوادة القطان"، ولعله"سوادة بن أبي الأسود القطان" وهو الذي يروي عنه أبو نعيمن واسمه"عبد الله" ويقال مسلم بن مخارق القطان. ترجمه في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وقال آخرون: معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين فعلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، فيما بينه وبين السنة التي بَعدها. * ذكر من قال ذلك: 3945 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحه، قال: سألت مجاهدًا عن قول الله عز وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: لمن في الحج، ليس عليه إثم حتى الحج من عام قابل. * * * وقال آخرون: بل معناه. فلا إثم عليه إن اتقى الله فيما بقي من عمره. * ذكر من قال ذلك: 3946 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي. 3947 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله. 3948 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله. 3949 - حدثني يونس، قاله: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: لمن اتقى بشرط. 3950 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، لا جُناح عليه ="ومن تأخر" إلى اليوم الثالث فلا جناح عليه لمن اتقى= وكان ابن عباس يقول: وددت أنّي من هؤلاء، ممن يُصيبه اسمُ التقوى. 3951 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 قال ابن جريج: هي في مصحف عبد الله:" لِمَنِ اتَّقَى اللهَ". 3952 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه، يقول: لمن اتقى معاصيَ الله عز وجل. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين" من أيام التشريق" فلا إثم عليه"، أي فلا حرج عليه في تعجيله النفْر، إن هو اتقى قَتْل الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث، ومن تأخر إلى اليوم الثالث فلم ينفر فلا حرج عليه. * ذكر من قال ذلك: 3953 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا محمد بن أبي صالح:" لمن اتقى" أن يصيب شيئًا من الصيد حتى يمضي اليوم الثالث. 3954 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، ولا يحل له أن يقتل صيدًا حتى تخلو أيام التشريق. * * * وقال آخرون: بل معناه:"فمن تعجل في يومين" من أيام التشريق فنفر"فلا إثم عليه"، أي مغفورٌ له-"ومن تأخر" فنفر في اليوم الثالث"فلا إثم عليه"، أي مغفور له إن اتقى على حجه أن يصيبَ فيه شيئًا نهاه الله عنه. * ذكر من قال ذلك: 3955 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، فال: حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) الأثر: 3952 - في المطبوعة: "حدثنا علي، قال حدثنا عبد الله". وقوله"علي" تصحيف والصواب ما أثبتنا، وانظر الأثر السالف رقم: 3931 والتعليق عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 قوله:" لمن اتقى"، قال: يقول لمن اتقى على حجه = قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه - أو: ما سلف من ذنبه. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك:"فمن تعجل في يومين" من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني"فلا إثم عليه"، لحطِّ الله ذنوبَه، إن كان قد اتقى الله في حجه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده ="ومن تأخر" إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول،"فلا إثم عليه"، لتكفير الله له ما سلف من آثامه وإجرامه، وإن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده. وإنما قلنا أن ذلك أولى تأويلاته [بالصحة] ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ومن حجّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَج من ذنوبه كيوم ولدته أمه = وأنه قال صلى الله عليه وسلم:"تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة". 3956 - حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابُ دون الجنة". (1)   (1) الحديث: 3956 - عبد الله بن سعيد الكندي أبو سعيد الأشج: ثقة حافظ من شيوخ أصحاب الكتب الستة. أبو خالد الأحمر: هو سليمان بن حيان -بالياء التحتية- الأزدي وهو ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق أخرج له جماعة. عمرو بن قيس: هو الملائي. عاصم: هو ابن أبي النجود. شقيق: هو ابن سلمة أبو وائل الأسدي عبد الله: هو ابن مسعود. والحديث رواه احمد في المسند: 3669 عن أبي خالد الأحمر بهذا الإسناد ورواه الترمذي 2: 78 والنسائي 2: 4- كلاهما من طريق أبي خالد الأحمر. وذكره السيوطي 1: 211 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن خزيمة وابن حبان. الكير: زق أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد، ليؤرث النار. وخبث الحديد وغيره: هو ما ينفيه الكير والنار من الحديد إذا أذيب وهو ما لا خير فيه منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 3957 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1) 3958 - حدثنا الفضل بن الصباح، قال:. حدثنا ابن عيينة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تابعوا بين الحج والعمرة، فإنّ متابعة ما بينهما تنفي الفقر والذنوبَ كما ينفي الكيرُ الخبَثَ= أو: خبَثَ الحديد". (2) 3959 - حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا سعد بن عبد الحميد، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضيتَ حجَّك فأنت مثل ما ولدتك أمك. (3) * * *   (1) الحديث: 3957 - وهذا إسناد آخر صحيح لهذا الحديث لم أجده عند غير الطبري. وهو يدل على أن عاصم بن أبي النجود رواه عن شيخين، هما أبو وائل وزر بن حبيش-: كلاهما عن ابن مسعود. (2) الحديث: 3958 - عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: ضعيف وقد بينا ضعفه في شرح المسند: 128، 5229. والحديث رواه ابن ماجه: 2887 بإسنادين من طريق ابن عيينة ومن طريق عبيد الله بن عمر- كلاهما عن عاصم بن عبيد الله. وقال البوصيري في زوائده: "مدار الإسنادين على عاصم ابن عبيد الله، وهو ضعيف. والمتن صحيح من حديث ابن مسعود رواه الترمذي والنسائي"، يريد الحديثين السابقين. وذكره السيوطي 1: 211 وزاد لابن أبي شيبة، والبيهقي. (3) الحديث: 3959 - إبراهيم بن سعيد هو الجوهري. مضى في: 3355. سعد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري المدني: ضعفه ابن حبان جدا وقال ابن معين: "ليس به بأس". والذي أرجحه أنه ثقة، فإن البخاري ترجمه في الكبير 2/2/62 فلم يذكر فيه حرجا ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/92 فلم يجرحه أيضًا. صالح مولى التوأمة: هو صالح بن نبهان، مضى في 1020 تصحيح رواية من سمع منه قديما قبل تغير حفظه. وموسى بن عقبة سمع منه قديما، كما بينا في شرح المسند: 2604. وهذا الحديث. بهذا الإسناد - لم أجده في موضع آخر من المراجع من حديث ابن عباس. ومعناه ثابت في أحاديث أخر صحاح. انظر الترغيب والترهيب 2: 105- 113 ومجمع الزوائد 3: 207- 209، 274- 277، وانظر ما سلف من رقم: 3718- 3728. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 = وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب، مما ينبئ عنه أنّ من حجّ فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه، كما قال جل ثناؤه:" فلا إثم عليه لمن اتقى" الله في حجه. فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعزّ:" فلا إثم عليه"، أنه خارجٌ من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورَةٌ له أجْرامه= وأنه لا معنى لقول من تأول قوله:" فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه في نفره في اليوم الثاني، ولا حرج عليه في مقامه إلى اليوم الثالث. لأن الحرَج إنما يوضع عن العامل فيما كان عليه ترْك عمله، فيرخّص له في عمله بوضع الحرَج عنه في عمله؛ أو فيما كان عليه عمله، فيرخَّص له في تركه بوضع الحرج عنه في تركه. فأما ما على العامل عَمله فلا وَجه لوضع الحرَج عنه فيه إن هو عَمله، وفرضُه عَملُه، لأنه محال أن يكون المؤدِّي فرضًا عليه، حرجا بأدائه، (1) فيجوز أن يقال: قد وضعنا عنك فيه الحرَج. وإذ كان ذلك كذلك= وكان الحاج لا يخلو عند من تأوّل قوله:" فلا إثم عليه" فلا حرج عليه، أو فلا جناح عليه، من أن يكون فرضه النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، فوضع عنه الحرَج في المقام، أو أن يكون فرضَه المقام،   (1) قوله: "حرجًا" على وزن"فرح" بمعنى آثم وقد مضى في الجزء 2: 423 استعمال هذه الصيغة وعلقت عليه أن أهل اللغة ينكرون ذلك ويقولون بل هو"حارج" ولقد أعاد الطبري استعمالها هنا مرة أخرى، ورأيت أيضًا القاضي الباقلاني قد استعملها في كتابه التمهيد ص: 221، فقال: ". . . لم يكن الإمام بذلك مأثومًا ولا حرجًا" وكأني رأيت الشافعي قد استعملها أيضًا في الأم، ولكن ذهب عني مكانها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 إلى اليوم الثالث، فوضع عنه الحرج في النفر في اليوم الثاني، فإن يكن فرضه في اليوم الثاني من أيام التشريق المقام إلى اليوم الثالث منها، فوضع عنه الحرج في نفره في اليوم الثاني منها - وذلك هو التعجُّل الذي قيل:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"- فلا معنى لقوله على تأويل من تأوّل ذلك:" فلا إثم عليه"، فلا جناح عليه،" ومن تأخر فلا إثمَ عليه". لأن المتأخر إلى اليوم الثالث إنما هو متأخّرٌ عن أداء فرض عليه، تاركٌ قبولَ رُخصة النفر، فلا وجه لأن يقال:"لا حرج عليك في مقامك على أداء الواجب عليك"، لما وصفنا قبل- أو يكون فرضُه في اليوم الثاني النفر، فرُخِّص له في المقام إلى اليوم الثالث، فلا معنى أن يقال:" لا حرج عليك في تعجُّلك النفر الذي هو فرضك وعليك فعله"، للذي قدمنا من العلة. وكذلك لا معنى لقول من قال: معناه:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" ولا حرج عليه في نفره ذلك، إن اتقى قتل الصيد إلى انقضاء اليوم الثالث. لأن ذلك لو كان تأويلا مسلَّمًا لقائله لكان في قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، ما يُبطل دعواه، لأنه لا خلاف بين الأمة في أن الصيد للحاجّ بعد نفره من منى في اليوم الثالث حلال، فما الذي من أجله وَضَع عنه الحرج في قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، إذا هو تأخر إلى اليوم الثالث ثم نفر؟ هذا، مع إجماعِ الحجة على أن المحرم إذا رمى وذبح وحلق وطافَ بالبيت، فقد حلَّ له كل شيء، وتصريحِ الرواية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك، (1) التي:- 3960 - حدثنا بها هناد بن السري الحنظلي، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة قالت: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها متى يحلّ المحرم؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رَميتم وذبحتم وحلقتم، حلّ لكم كل شيء إلا النساء=   (1) في المطبوعة: "الرواية المروية" ورددتها إلى عبارة الطبري التي يكثر استعمالها، انظر ما سلف 4: 33ن س: 19 وفي مواضع كثيرة لم استطع أن أجدها الآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 قال: وذكر الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. (1) وأما الذي تأوّل ذلك أنه بمعنى:" لا إثم عليه إلى عام قابل"، فلا وجه لتحديد ذلك بوقت، وإسقاطه الإثمَ عن الحاجّ سنة مستقبَلة، دون آثامه السالفة. لأن الله جل ثناؤه لم يحصُر ذلك على نفي إثم وقت مستقبَل بظاهر التنزيل، ولا على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، بل دلالةُ ظاهر التنزيل تُبين عن أن المتعجّل في اليومين والمتأخر لا إثم على كل واحد منهما في حاله التي هو بها دون غيرها من الأحوال. والخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرِّح بأنه بانقضاء حجه على ما أمر به، خارجٌ من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففي ذلك = من دلالة ظاهر التنزيل، وصريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم= دلالة واضحة على فساد قول من قال: معنى قوله:" فلا إثم عليه"، فلا إثم عليه من وقت انقضاء حجه إلى عام قابل. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: ما الجالب"اللام" في قوله:" لمن أتقى"؟ وما معناها؟ قيل: الجالبُ لها معنى قوله:" فلا إثم عليه". لأن في قوله:" فلا إثم عليه" معنى: حططنا ذنوبه وكفَّرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفيرَ الذنوب لمن اتقى الله في حجه، فترك ذكر" جعلنا تكفير الذنوب"، اكتفاء بدلالة قوله:" فلا إثم عليه". وقد زعم بعض نحوييّ البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد أخبر عن أمر، فقال:" لمن اتقى" أي: هذا لمن اتقى. وأنكرَ بعضُهم ذلك من قوله، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، (2) لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة" قول" متروك، فكان معنى الكلام عنده" قلنا": (3) " ومن تأخر فلا   (1) الحديث: 3960 - هناد بن السري الدارمي: مضت ترجمته: 2058. وقد نسب هنا حنظليا كما نسبه البخاري في الكبير. وكلاهما صحيح فهو من بني"دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم". انظر جمهرة ابن حزم ص: 211، 217. حجاج: هو ابن أرطأة وهو ثقة على الراجح عندنا كما ذكرنا في: 2299. وقد روى الحجاج هذا الحديث بإسنادين: فرواه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة، وهي بنت عبد الرحمن -وهي خالة أبي بكر بن حزم- عن عائشة وذكر لفظ الحديث. ثم رواه عن الزهري عن عمرة عن عائشة"مثله". فلم يذكر لفظه. وهذا من تحري الحجاج بن أرطأة ودققه كما سيبين مما يجيء. فالحديث -من رواية أبي بكر بن حزم- رواه أحمد في المسند 6: 143 (حلبي) عن يزيد ابن هارون عن الحجاج بهذا الإسناد نحوه. ولكن ليس فيه كلمة"وذبحتم". وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 136 من طريق مالك بن يحيى عن يزيد بن هارون، ثم قال: "ورواه محمد بن أبي بكر، عن يزيد بن هارون فزاد فيه: وذبحتم فقد حل لكم كل شيء، الطيب والثياب إلا النساء". ثم ذكر البيهقي إسناده به إلى محمد بن أبي بكر. ثم أعله البيهقي وسنذكر ما قال والجواب عنه، إن شاء الله. وقد سها السيوطي، حين ذكر هذا الحديث في زوائد الجامع الصغير (1: 117 من الفتح الكبير) فنسبه لصحيح مسلم -مع البيهقي) وهذا خطأ يقينا، فإنه ليس في صحيح مسلم. وأما من رواية الحجاج عن الزهري: فرواه أبو داود في السنن: 1978 عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد عن الحجاج عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعا بلفظ: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء". ثم أعله أبو داود فقال: "هذا حديث ضعيف. والحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه". وهذا تعليل جيد من أبي داود فقد روى ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل ص: 18 بإسناده عن هشيم قال: "قال لي الحجاج بن أرطأة: سمعت من الزهري؟ قلت: نعم قال: لكني لم أسمع منه شيئًا". وأما البيهقي فإنه أعلى رواية الحجاج عن أبي بكر بن حزم تعليلا لا أراه مستقيما. قال عقب روايته: "وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطأة وإنما الحديث عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه سائر الناس عن عائشة". ثم ذكر حديثها قالت: "طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يفيض -بأطيب ما وجدت من الطيب". وهو حديث صحيح رواه مسلم. وما نرى إعلال ذاك بهذا هذا حديث فعلي، من حكاية عائشة وذاك حديث قولي من روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما مؤيد لصحة الآخر، فأتى يستقيم التعليل؟ وقد ورد نحو هذا الحديث أيضًا من حديث ابن عباس مرفوعا: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". رواه أحمد في المسند: 2090، 3204، 3491. ولكنه بإسناد منقطع لأنه من رواية الحسن العرني عن ابن عباس. وهو لم يسمع من ابن عباس كما قال البخاري في الصغير ص 136. ولكنه يصلح على كل حال شاهدا لهذا الحديث. (2) الصفة: هي حرف الجر وهي حروف الصفات وانظر ما سلف 1: 299 تعليق: 1 ثم 3: 475 تعليق: 1. (3) في المطبوعة: "فكان معنى الكلام عنده"ما قلنا" بزيادة"ما" وهو خطأ بين بدل عليه سياق هذا التأويل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 إثم عليه لمن اتقى"، وقام قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، مقامَ"القول". وزعم بعضُ أهل العربية أنّ موضع طرْح الإثم في المتعجِّل، فجُعل في المتأخر= وهو الذي أدَّى ولم يقصر= مثل ما جُعل على المقصِّر، كما يقال في الكلام:"إن تصدقت سرًّا فحسنٌ، وإن أظهرتَ فحسنٌ"، وهما مختلفان، لأن المتصدق علانية إذا لم يقصد الرياء فحسن، وإن كان الإسرار أحسن. وليس في وصف حالتي المتصدقين بالحُسن وصف إحداهما بالإثم. وقد أخبر الله عز وجل عن النافرين بنفي الإثم عنهما، ومحال أن ينفي عنهما إلا ما كان في تركه الإثم على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة. وفي إجماع الجميع على أنهما جميعًا لو تركا النفر وأقاما بمنىً لم يكونا آثمين، ما يدل على فساد التأويل الذي تأوله من حكينا عنه هذا القول. وقال أيضًا: فيه وجهٌ آخر، وهو معنى نهي الفريقين عن أن يُؤثِّم أحدُ الفريقين الآخر، كأنه أراد بقوله:" فلا إثم عليه"، لا يقل المتعجل للمتأخر:" أنت آثم"، ولا المتأخر للمتعجل:"أنت آثم"، بمعنى: فلا يؤثِّمنَّ أحدهما الآخر. وهذا أيضًا تأويل لقول جميع أهل التأويل مخالفٌ، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقوا الله أيها المؤمنون فيما فَرض عليكما من فرائضه، فخافوه في تضييعها والتفريط فيها، وفيما نهاكم عنه في حجكم ومناسككما أن ترتكبوه أو تأتوه وفيما كلفكم في إحرامكم لحجكم أن تقصِّروا في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 أدائه والقيام به،"واعلموا أنكم إليه تحشرون"، فمجازيكم هو بأعمالكم- المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته- وموفٍّ كل نفس منكم ما عملت وأنتم لا تظلمون. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين، بقوله جل ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهرُ قوله وعلانيته، ويستشهد الله على ما في قليه، وهو ألدُّ الخصام، جَدِلٌ بالباطل. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم. نزلت في الأخنس بن شرِيق، قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالا من أموال المسلمين. * ذكر من قال ذلك: 3961 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام"، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي- وهو حليفٌ لبني زُهره- وأقبل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم أنّي صادق! = وذلك قوله:" ويشهد الله على ما في قلبه"= ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وُحُمر، فأحرق الزرع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وعقر الحُمُرُ، فأنزل الله عز وجل:" وإذا تولى سعَى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرْثَ والنسل". وأما"ألد الخصام" فأعوجُ الخصام، وفيه نزلت: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: 1] ونزلت فيه: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) إلى (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم: 10-13] (1) * * * وقال آخرون: بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجيع. * ذكر من قال ذلك: 3962 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن أبى إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أصيبت هذه السرية أصحاب خُبَيْب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا! (2) لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدَّوْا رسالة صاحبهم! فأنزل الله عز وجلّ في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" = أي: ما يُظهر بلسانه من الإسلام =" ويشهد الله على ما في قلبه" = أي من النفاق- (3) " وهو ألد الخصام" أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك =" وإذا تولى"- أي: خرج من عندك=" سعىَ في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحَرثَ والنسل والله لا يحب الفساد"- أي:   (1) الأثر رقم: 3961 - لم يذكر الطبري في تفسير"سورة الهمزة" و"سورة القلم" هذا الخبر من أن الآيتين نزلتا في الأخنس بن شريق. وهذا دليل آخر على صدق ما أخبروا به عنه أنه قد اختصر هذا التفسير اختصارًا كبيرًا، كما جاء في أخباره. وسيأتي بعض هذا الاثر برقم: 3978. (2) في المطبوعة: "هؤلاء المقتولين". والصواب من سيرة ابن هشام. وبعد هذا في ابن هشام: "لا هم قعدوا في أهليهم". (3) مكان هذا التفسير في نص ابن هشام: "وهو مخالف لما يقول بلسانه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 لا يحبّ عمله ولا يرضاه=" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسْبُه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"= الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك- يعني هذه السرّية. 3963 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس- أو: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- قال: لما أصيبت السرية التي كان فيها عاصم ومرْثد بالرَّجيع، قال رجال من المنافقين:- ثم ذكر نحو حديث أبي كريب. (1) * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك جميعَ المنافقين، وعنى بقوله:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة   (1) الأثر: 3962، 3963 - سيرة ابن هشام 3: 183- 184 وسيأتي بعضه برقم 3973ن ثم رقم: 3980. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه"، اختلافَ سريرته وعلانيته. * ذكر من قال ذلك: 3964 - حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبى أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب، فقال سعيد: إنّ في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبِر، لبسوا للناس مسوكَ الضأن من اللين، (1) يجترُّون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعليّ يجترءون، وبي يغترُّون!! وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليمَ منهم حيران!! فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل:" ومنَ الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرثَ والنسل والله لا يحبَ الفساد" فقال سعيد: قد عرفتَ فيمن أنزلت هذه الآية! فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعدُ. 3965 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نَوْفٍ- وكان يقرأ الكتب- قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل:" قومٌ يجتالون الدنيا بالدين، (2) ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر، يلبسون للناس لباسَ مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، فعليّ يجترءون! وبي يغترُّون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيهم حيران". قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) (3) [الحج: 11] 3966 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة قوله:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه" قال: هو المنافق. 3967 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) الصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر مر. والمسوك جمع مسك (بفتح فسكون) : الجلد جلد الغنم وغيرها. (2) في الأصل: "يحتالون" والصواب ما أثبت. اجتال الرجل الشيء: إذا ذهب به وطرده وساقه. واجتال الجيش أموالهم: ذهب بها. (3) الأثر: 3965 - خالد بن يزيد الجمحي أبو عبد الرحيم المصري كان فقيها مفتيا. ثقة مات سنة 139. مترجم في التهذيب. و"نوف" هو نوف بن فضالة الحميري البكالي، كان ثقة رواية للقصص وهو ابن امرأة كعب الأحبار، مات ما بين التسعين إلى المئة. مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ومن الناس من يُعجبك قوله"، قال: علانيته في الدنيا، ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق. 3968 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، قال: هذا عبد كان حسن القول سيئ العمل، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن له القول،" وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفسد فيها". 3969 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه"، قال. يقول قولا في قلبه غيره، والله يعلم ذلك. * * * وفي قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، وجهان من القراءة: فقرأته عامة القرأة:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، بمعنى أن المنافق الذي يُعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُه، يستشهدُ الله على ما في قلبه، أن قوله موافقٌ اعتقادَه، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب. كما:- 3970 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى" والله لا يحب الفساد"، كان رجلٌ يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله! قال: حتى يُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. ثم يقول: أما والله يا رسولَ الله، إنّ الله ليعلم ما في قلبي مثلُ ما نطق به لساني! فذلك قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه". قال: هؤلاء المنافقون، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) حتى بلغ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1] بما يشهدون أنك رسول الله. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وقال السدي:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، يقول: الله يعلم أني صادق، أني أريد الإسلام. 3971 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط. * * * وقال مجاهد: ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق. 3972 - حدثني بذلك محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عنه. * * * وقرأ ذلك آخرون: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) بمعنى: والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق، وأنه مضمرٌ في قلبه غير الذي يُبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه. وهي قراءة ابن مُحَيْصن، وعلى ذلك المعنى تأوله ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب، عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفًا. (1) * * * والذي نختار في ذلك من قول القرأة قراءة من قرأ:" ويشهد الله على ما في قلبه"، بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه، لإجماع الحجة من القرأةِ عليه. * * *   (1) انظر رقم: 3962. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) } قال أبو جعفر:"الألد" من الرجال: الشديد الخصومة، يقال في" فعلت" منه:" قد لَدَدْتَ يا هذا، ولم تكن ألدَّ، فأنت تلُدُّ لَدَدًا ولَدَادةً". (1) فأما إذا غلب من خاصمه، فإنما يقال فيه:" لدَدْت يا فلانُ فلانًا فأنت تَلُدُّه لَدًّا، ومنه قول الشاعر: ثُمَّ أُرَدِّي بِهِمُ من تُرْدِي ... تَلُدُّ أقْرَانَ الخُصُومِ اللُّدِّ (2) * * * قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: أنه ذو جدال. * ذكر من قال ذلك: 3973 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:" وهو ألد الخصام"، أي: ذو جدال، إذا كلمك وراجعك. (3) 3974 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وهو ألد الخصام"، يقول: شديد القسوة في معصية الله جَدِلٌ بالباطل،   (1) قوله: "لدادة" مصدر لم أجده في كتب اللغة التي بين يدي. (2) لم أعرف قائله. والبيت الثاني في اللسان (لدد) روايته"ألد أقران". والبيتان جميعا في معاني القرآن للفراء 1: 123 بتقديم البيت الثاني على الأول، وروايته: "اللُّدّ أقران الرجال اللُّدِّ" وكأنه تصحيف وخطأ وصوابه"ألد" كما في اللسان. وكان في الطبري"ثم أردى وبهم. . " بزيادة واو، والصواب ما في معاني القرآن. (3) هو بعض الأثر السالف رقم: 3962. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 وإذا شئتَ رأيته عالم اللسان جاهلَ العمل، يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة. 3975 - حدثنا الحسن بن يحيى. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" وهو ألد الخصام"، قال: جَدِلٌ بالباطل. * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة، ولكنه معوَجُّها. * ذكر من قال ذلك: 3976 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وهو ألد الخصام"، قال: ظالم لا يستقيم. 3977 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال:"الألدُّ الخصام"، الذي لا يستقيم على خصومة. 3978 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ألد الخصام"، أعوجُ الخصام. (1) * * * قال، أبو جعفر: وكلا هذين القولين متقاربُ المعنى، لأن الاعوجاجَ في الخصومة من الجدال واللدد. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذبٌ في قوله. * ذكر من قال ذلك: 3979 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا وكيع، عن بعض أصحابه، عن الحسن، قال:"الألد الخصام"، الكاذب القول. * * * وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان أراد به   (1) هو بعض الأثر السالف رقم: 3961. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب منه جدلا واعوجاجًا عن الحق. * * * وأما"الخصام" فهو مصدر من قول القائل:"خاصمت فلانًا خصامًا ومخاصمة". * * * وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يُعجبه إذا تكلم قِيلُه ومنطقه، ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك، لشدة خصومته وجداله بالباطل والزور من القول. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" وإذا تولى"، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفًا عنك. (1) كما:- 3980 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال حدثني محمد بن أبي محمد قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:" وإذا تولى"، قال: يعني: وإذا خرج من عندك"سعى". (2) * * * وقال بعضهم: وإذا غضب. * ذكر من قال ذلك: 3981 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج قال:   (1) انظر معنى"التولي" فيما سلف 2: 162- 163، 298، 535/ ثم 3: 115، 131. (2) الأثر: 3980 - هو بعض الأثر السالف رقم: 3962. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 قال ابن جريج في قوله:" وإذا تولى"، قال: إذا غضب. * * * فمعنى الآية: وإذا خرَج هذا المنافق من عندك يا محمد غضْبان، عَمل في الأرض بما حرَّم الله عليه، وحاول فيها معصيةَ الله، وقطعَ الطريق وإفسادَ السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا آنفًا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي ذكر السدي أن فيه نزلت هذه الآية، من إحراقه زرع المسلمين وقتله حُمرهم. (1) * * * و"السعي" في كلام العرب العمل، يقال منه:"فلان يسعى على أهله"، يعني به: يعمل فيما يعود عليهم نفعه، ومنه قول الأعشى: وَسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غَيْرِ مُوَاكِلٍ ... قَيْسٌ فَضَرَّ عَدُوَّها وَبَنَى لَهَا (2) يعني بذلك: عمل لهم في المكارم. * * * وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول. 3982 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله" وإذا تولى سعى"، قال: عمل. * * * واختلف أهل التأويل في معنى"الإفساد" الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق. فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق. * * *   (1) انظر الأثر رقم: 3961 السالف. (2) ديوانه: 25، وكان في المطبوعة"ونبالها" وهو خطأ وقيس هو قيس بن معد يكرب الكندي، كان يكثر مدحه والثناء عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين. * ذكر من قال ذلك: 3983 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:" سعَى في الأرض ليفسد فيها"، قطع الرحم، وسفك الدماء، دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تَفعل كذا وكذا؟ قال أتقرب به إلى الله عز وجل. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تبارك وتعالى وَصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولى مدبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمِل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في"الإفساد" جميع المعاصي، (1) وذلك أن العمل بالمعاصي إفسادٌ في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني"الإفساد" دون بعض. وجائزٌ أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك. وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرض، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريقَ ويُخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره وصَفه في سياق الآية بأنه" سَعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل"، وذلك بفعل مخيف السبيل، أشبهُ منه بفعل قَطَّاع الرحم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في وجه"إهلاك" هذا المنافق، الذي وصفه الله بما وصفَه به من صفة"إهلاك الحرث والنسل".   (1) انظر معنى"الإفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287- 290، 416 ثم معنى"الفساد" فيما سيأتي: 243، 244. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقًا لزرع قوم من المسلمين وعقرًا لحمُرهم. 3984 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي. (1) * * * وقال آخرون بما:- 3985 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد:" وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل" الآية. قال: إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطرَ، فيُهلك الحرثَ والنسلَ والله لا يحب الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41] قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماءٍ جارٍ فهو"بحر". (2) * * * والذي قاله مجاهد، وإن كان مذهبًا من التأويل تحتمله الآية، فإن الذي هو أشبهُ بظاهر التنزيل من التأويل ما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناه * * * وأما"الحرث" فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد. * * * "وإهلاكه الزرع" إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربَّه وَسعيه بالإفساد في الأرض. وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القُوَّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى:" إهلاكه النسل": أن يكون كانَ بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في   (1) يعني الأثر السالف رقم: 3961. (2) الأثر: 3985 - سيأتي هذا الأثر في تفسير الآية من سورة الروم ج: 21: 32 (بولاق) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 قتله الآباء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائزٌ أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية إنما نزلت في قتله حُمُرَ القوم من المسلمين وإحراقه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكون كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه، والمراد بها كلُّ من سلك سبيله في قتل كل ما قَتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال، والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال - إذا قتله بغير حق، بل ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصُص من ذلك شيئًا دون شيء بل عمَّه. وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 3986 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي أنه سأل ابن عباس:" ويهلك الحرث والنسل"، قال: نسلَ كل دابة. 3987 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، أنه سأل ابن عباس: قال: قلت أرأيت قوله:" الحرث والنسل"؟ قال: الحرث حرثكم، والنسل: نسل كل دابة. 3988 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن"الحرث والنسل"، فقال: الحرثُ: مما تحرثون، والنسلُ: نسل كلّ دابة. 3989 - حدثنا ابن حميد، قال. حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرِّف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (1)   (1) الآثار: 3986- 3989. "التميمي"، قد مضى ما كتبه أخي السيد أحمد في التعليق على الأثر رقم: 2095. ولكن ظهر من الأثر رقم. 3989، أنه رجل من بني تميم - مجهول الاسم فيما يظهر، كان يسأل ابن عباس كما كان يسأله أصحاب المسائل من الأمة وذلك بين في مسند أبي داود الطيالسي رقم: 2739 ص 358. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 3990 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويهلك الحرثَ والنسل"، فنسلَ كل دابة، والناس أيضًا. 3991 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنى عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض،" والنسل" من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدواب. 3992 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض،" والنسل": نسل كل شيء. 3993 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الحرثُ النبات، والنسل: نسل كل دابة. 3994 - حدثني عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ويهلك الحرث"، قال:"الحرث" الذي يحرثه الناس: نباتُ الأرض،" والنسل" نسل كل دابة. 3995 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ويهلكَ الحرثَ والنسل"، قال: الحرث: الزرع، والنسل من الناس والأنعام، قال: يقتُل نسْل الناس والأنعام= قال: وقال مجاهد: يبتغي في الأرض هلاك الحرث- نباتَ الأرض- والنسل من كل شيء من الحيوان. 3996 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ويهلك الحرثَ والنسل"، قال: الحرث: الأصل، والنسل: كل دابة والناس منهم. (1)   (1) قوله: "الحرث: الأصل" معنى قلما تصيبه في كتب اللغة بينا، ولكنه أتى فيها معترضا كقولهم: "الحرث أصل جردان الحمار" وهذا تخصيص، وهذا الأثر دال على عموم معنى"الحرث" أنه: الأصل وهو جيد في مجاز اللغة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 3997 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، (1) سئل سعيد بن عبد العزيز عن"فساد الحرث والنسل" وما هما: أيُّ حرث، وأيُّ نسل؟ قال سعيد: قال مكحول: الحرث: ما تحرثون، وأما النسل: فنسْل كل شيء. * * * قال أبو جعفر: وقد قرأ بعض القرأة:"ويهلكُ الحرث والنسل" برفع "يهلك"، = على معنى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ويهلك الحرثَ والنسل، وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها، والله لا يجب الفساد= فيردُّ"ويُهلكُ" على"ويشهدُ الله" عطفًا به عليه. وذلك قراءةٌ عندي غير جائزة، وإن كان لها مخرج في العربية، لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعةٌ من القراءة في ذلك، قراءةَ" ويهلكَ الحرثَ والنسل"، وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه - فيما ذكر لنا: (2) "ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل"، وذلك من أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك" ويهلك" بالنصب، عطفًا به على:" ليفسدَ فيها". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصيَ، وقطعَ السبيل، وإخافة الطريق. * * * و"الفساد" مصدر من قول القائل:"فسد الشيء يفسُد"، نظير قولهم:   (1) في المطبوعة"عمر بن أبي سلمة" والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "فيما ذكرنا" وهو لا يستقيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 "ذهب يذهب ذهابًا". ومن العرب من يجعل مصدر"فسد""فسودًا"، ومصدر"ذهب يذهب ذُهوبًا". (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا قيل = لهذا المنافق الذي نعَتَ نعتَه لنبيه عليه الصلاة والسلام، وأخبره أنه يُعجبه قوله في الحياة الدنيا=: اتق الله وخَفْهُ في إفسادك في أرْض الله، وسعيكَ فيها بما حرَّم الله عليك من معاصيه، وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم- استكبر ودخلته عِزة وحَمية بما حرّم الله عليه، وتمادى في غيِّه وضلاله. قال الله جل ثناؤه: فكفاه عقوبة من غيه وضلاله، صِلِيُّ نارِ جهنم، ولبئس المهاد لصاليها. * * * واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها كل فاسق ومنافق. * ذكر من قال ذلك: 3998 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا بسطام بن مسلم، قال: حدثنا أبو رجاء العطارديّ قال: سمعت عليًّا في هذه الآية:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى:" والله رؤوف بالعباد"، قال علي:"اقتَتَلا وربِّ الكعبة".   (1) انظر معنى"الإفساد في الأرض" 1: 287- 290، 416 وما سلف قريبًا: 239. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 124. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 3999 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" وإذا قيلَ له اتق الله أخذته العزة بالإثم" إلى قوله:" والله رؤوف بالعباد"، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبْحة وفرغ، دخل مربدًا له، (1) فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة، (2) قال: فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمرُّوا بهذه الآية:" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"،" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءَ مرضَات الله والله رؤوفٌ بالعباد"= قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله= فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان؟ فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين! قال: ماذا قلت؟ اقتَتل الرجلان؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يَشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي! فقاتله، فاقتتل الرجلان! فقال عمر: لله بلادك يا بن عباس. (3) * * * وقال آخرون: بل عنى به الأخنس بن شريق، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى. (4) * * *   (1) السبحة: صلاة التطوع والنافلة وذكر الله، تقول: "قضيت سبحتي" والمريد: قضاء وراء البيوت برتفق بهن كالحجرة في الدار وهو أيضًا موضع التمر يجفف فيه لينشف يسميه أهل المدينة مريدا وهو المراد هنا. (2) ابن أخي عيينة، هو الحر بن قيس بن حصين الفزاري ويقال: الحارث بن قيس والأول أصح. وروى البخاري من طريق الزهري عن عبيد اله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - الحديث. ترجم في الإصابة وغيرها. (3) في المطبوعة: "لله تلادك" بالتاء في أوله ولا معنى له، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور 1: 241 -"لله درك". والعرب تقول: "لله در فلان، ولله بلاده". (4) انظر الأثر رقم: 3961. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 وأما قوله:" ولبئس المهاد"، فإنه يعني: ولبئس الفراشُ والوِطاء جهنمُ التي أوعدَ بها جل ثناؤه هذا المنافق، ووطَّأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرُّده على ربه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111] . * * * وقد دللنا على أن معنى"شرى" باع، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وأما قوله:" ابتغاءَ مرضات الله" فإنه يعني أن هذا الشاري يشرى إذا اشترى طلبَ مرضاة الله. ونصب"ابتغاء" بقوله:"يشري"، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري [نفسه] من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم تُرك" من أجل" وعَمل فيه الفعل. وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، (2) على"يشرى"، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نزع"اللام" عمل الفعل، قال: ومثله: (حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة: 19] (3) وقال الشاعر وهو حاتم:   (1) انظر ما سلف 2: 341- 343ن 455 وفهارس الغة. (2) قوله: "على الفعل" أي أنه مفعول لأجله وقد مضى مثله"على التفسير للفعل" 1: 354 تعليق: 4. (3) انظر القول في إعراب هذه الكلمة فيما سلف 1: 354- 355. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ إدِّخَارَهُ ... وَأُعْرِضُ عَنْ قَوْلِ الَّلئِيمِ تَكَرُّمَا (1) وقال: لما أذهب"اللام" أعمل فيه الفعل. وقال بعضهم: أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط، (2) وموضع"أن" فتحسن فيها"الباء" و"اللام"، فتقول:"أتيتك من خوف الشرّ -ولخوف الشر- وبأن خفتُ الشرَّ"، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم المصدرُ مقامها. (3) قال: ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه، لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال:"فعلت هذا لك ولفلان" أن يسقط"اللام". * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها. فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله. * ذكر من قال ذلك: 4000 - حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: المهاجرون والأنصار. * * * وقال بعضهم: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم. * ذكر من قال ذلك:   (1) ديوانه: 24، من أبيات جياد كريمة وسيبويه 1: 184، 464 ونوادر أبي زيد: 110ن الخزانة 1: 491 والعيني 3: 75 وغيرها. وفي البيت اختلاف كثير في الرواية، والشاهد فيه نصب"ادخاره" على أنه مفعول له. (2) قوله: "الشرط" كأنه فيما أظن أراد به معنى العلة والعذر يعني أنه علة وسببًا أو عذرًا لوقوع الفعل. (3) "الصفة" هي حرف الجر. وانظر ما سلف آنفًا 1: 299 وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 4001 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:" ومن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: نزلت في صُهيب بن سنان، وأبي ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجرًا عرَضوا له، وكانوا بمرِّ الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلَّى سبيله. (1) 4002 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني، فألحق بهذا الرجل! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلُّوا عنه! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج; فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، الآية. فلما دنا من المدينة تلقاه عُمر في رجال، فقال له عمر: رَبح البيعُ! قال: وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فيك كذا وكذا. (2) * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في سبيله، أو أمرٍ بمعروف. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 4001 - في الدر المنثور 1: 240، في المطبوعة: "منقذ بن عمير" وهو خطأ وقد ذكر قنفد بن عمير، أبو طالب في قصيدته المشهورة وذكر ابن هشام نسبه في سيرته (انظر 1: 295، 301) . وقد أسلم قنفد بن عمير، وله صحبة، وولاه عمر مكة، ثم عزله. (2) الأثر: 4002 - في تفسير البغوي 1: 481- 482، مع اختلاف في اللفظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 4003 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله، قال: حدثنا أبو عون، عن محمد، قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده!! فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله". (1) 4004 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة، قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"؟ 4005 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، قال: حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه، فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله". 4006 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حزم بن أبي حزْم، قال: سمعت الحسن قرأ:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"، أتدرون فيم أنزلت؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافرَ فقال له:"قل لا إله إلا الله"، فإذا قلتها عصمتَ دمك   (1) الأثر: 4003 - حسين بن الحسن أبو عبد الله النصري روى عن ابن عون وغيره، وروى عنه أحمد والفلاس وبندار وغيرهم. كان من المعدودين من الثقات وكان يحفظ عن ابن عون. توفي سنة 188ن مترجم في التهذيب. و"أبو عون" كنية"ابن عون" - عبد الله بن عون المزني مولاهم. "ومحمد" هو محمد بن سيرين وهشام بن عامر بن أمية الأنصاري كان اسمه في الجاهلية"شهابًا" فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك منه في غزاة كابل انظر الإصابة وغيرها. وقوله: "ألقى بيده" أي: ألقى بيده إلى التهلكة، كما هو مبين في الروايات الأخرى، وانظر ما سيأتي رقم: 4005، مختصرًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل. (1) 4007 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، قال: سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه الآية:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: استرجع عُمر فَقال: إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل. (2) * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عُنى بها الأمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر. وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية. وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صُهيب، فإنّ ذلك غير مستنكرٍ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، والمعنيُّ بها كلُّ من شمله ظاهرها.   (1) الأثر: 4006 -"حزم بن أبي حزم" القطعي أبو عبد الله البصري روى عن الحسن وغيره، قال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، وهو من ثقات من بقى من أصحاب الحسن، مات سنة 75. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "حزام بن أبي حزم" وهو خطأ. (2) الأثر: 4007 -"زياد بن أبي مسلم" أبو عمر الفراء البصري، روى عن صالح أبي الخليل وأبي العالية والحسن. مترجم في التهذيب. "وأبو الخليل": صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم تابعي، مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته، فكل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل، (1) فمعنيٌّ بقوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"- في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) } قد دللنا فيما مضى على معنى"الرأفة"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة (2) * * * فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه: الإسلام. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "واستقتل" بواو العطف، وهو فاسد، والصواب ما أثبت. (2) انظر ما سلف 3: 171، 172. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 4008 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السِّلم"، قال: ادخلوا في الإسلام. 4009 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" ادخلوا في السلم"، قال: ادخلوا في الإسلام. 4010 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: السلم: الإسلام. 4011 - حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ادخلوا في السلم"، يقول: في الإسلام. 4012 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: ادخلوا في الإسلام. 4013 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ادخلوا في السلم". قال: السلم: الإسلام. 4014 - حدثت عن الحسين بن فرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول:" ادخلوا في السلم": في الإسلام. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة. * ذكر من قال ذلك: 4015 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ادخلوا في السلم"، يقول: ادخلوا في الطاعة. * * * وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز:"ادخلوا في السَّلم" بفتح السين، وقرأته عامة قرأة الكوفيين بكسر السين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 فأما الذين فتحوا"السين" من"السلم"، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية. وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من"السين" فإنهم مختلفون في تأويله. فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجّهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح، ويستشهد على أن"السين" تكسر، وهي بمعنى الصلح بقول زهير ابن أبي سلمى: وَقَدْ قُلْتُمَا إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا ... بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلَمِ (1) وأولى التأويلات بقوله:" ادخلوا في السلم"، قول من قال: معناه: ادخلوا في الإسلام كافة. وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر "السين" لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، وينشد بيت أخي كندة: دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمّا ... رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرينَا (2)   (1) ديوانه: 16 من معلقته النبيلة. والضمير في"قلتما" للساعيان في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان، وذلك في حرب عبس وذبيان. وقوله: "واسعًا" أي: قد استقر الأمرواطمأنت النفوس فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب. وكان الحارث وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما، ليصطلح الناس. (2) من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره. المؤتلف والمختلف: 9 والوحشيات: 75 وغيرهما وكان امرؤ القيس قد وفد على رسول الله صلى اله عليه وسلم ولم يرتد في أيام أبي بكر، وأقام على الإسلام وكان له في الردة غناء وبلاء، وقد قال الأبيات في زمن الردة وقبل البيت: أَلاَ أَبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رَسُولاً ... وَأَبْلِغْهَا جَمِيعَ المُسْلِمِينَا فَلَسْتُ مُجَاوِرًا أَبَدًا قَبِيلاً ... بِمَا قَالَ الرَّسُولُ مُكَذِّبِينَا دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ حَتَّى رَأَيْتُهُمُ أَغَارُوا مُفْسِدينَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث (1) بعد وَفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائرَ ما في القرآن من ذكر"السلم" بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها. وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله:" ادخلوا في السلم" وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين: إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان:"ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم"، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب، فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له:"صالح فلانا"، ولا حرب بينهما ولا عداوة. = أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدًا ونبوته، فقيل لهم:" ادخلوا في السلم"، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهي نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح (2) فقال: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ   (1) هو الأشعث بن قيس الكندين وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة في سبعين راكبا من كندة ثم ارتد فيمن ارتد من العرب. وقاتل في الردة حتى هزم ثم استسلم وأسر وقدموا به على أبي بكر فقال له أبو بكر: ماذا تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت قال الأشعث: تمن علي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت! فزوجه ام فروة بنت أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق. ثم شهد الفتوح حتى مات سنة 40، وله ثلاث وستون سنة. (2) في المطبوعة: ". . عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام" وهو خطأ لا شك فيه، سبق قلم الكاتب فوضع"الإسلام" مكان"الصلح" ومحال أن ينهى الله نبيه عن دعاء أحد إلى الإسلام والسياق دال على الصواب كما ترى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 مَعَكُمْ) [محمد: 35] وإنما أباحَ له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة، فقال له جل ثناؤه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: 61] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله:" ادخلوا في السلم" إلى ذلك. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعى إلى الإسلام كافة؟ قيل قد اختلف في تأويل ذلك. فقال بعضهم: دعى إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به. * * * وقال آخرون: قيل: دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد. * * * فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام؟ قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله" كافة" من صفة"السلم"، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به. وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك. 4016 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو (1)   (1) في المطبوعة: "شعبة" وفي الدر المنثور: "سعيد" والذي في أسماء يهود: "سعية" و"سعنة" وأكثر هذه الأسماء من أسماء يهود مما يصعب تحقيقها ويطول، لكثرة الاختلاف فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل! فنزلت:" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان" (1) * * * فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده. * * * وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم:"ادخلوا فيه" بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام. * ذكر من قال ذلك: 4017 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال. قال ابن عباس في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، يعني أهل الكتاب. 4018 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: يعني أهل الكتاب. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما حاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع   (1) الأثر: 4016 - في الدر المنثور 1: 241. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض. وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول. 4019 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَافَّةً} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله (1) " كافة" عامة، جميعًا، كما:- 4020 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" في السلم كافة" قال: جميعًا. 4021 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" في السلم كافة"، قال: جميعًا. 4022 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع" في السلم كافة"، قال: جميعًا= وعن أبيه، عن قتادة مثله. 4023 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، عن النضر، عن مجاهد، ادخلوا في الإسلام جميعًا. 4024 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس:" كافة"،: جميعًا.   (1) في المطبوعة: "جل ثناؤه: كافة" بإسقاط"بقوله" وهذا سياق الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 4025 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" كافة" جميعًا، وقرأ. (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة: 36] جميعًا. 4026 - حدثت عن الحسين، قال. سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: جميعًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه. بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. (1) وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام. * * * وقد بينت معنى"الخطوات" بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى، فكرهت إعادته في هذا المكان. (2) * * *   (1) انظر تفسير"عدو مبين" فيما سلف 3: 300. (2) انظر ما سلف 3: 301، 302. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أخطأتم الحق، (1) فضللتم عنه، وخالفتم الإسلام وشرائعه، من بعد ما جاءتكم حُجَجي وبيِّنات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون = فاعلموا أن الله ذو عزة، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكما أمره ومعصيتكم إياه دافع ="حكيم" فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه، بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره. * * * وقد قال عدد من أهل التأويل إن"البينات" هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. (2) وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق، لأن الله جل ثناؤه، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل، وتقدَّم إليه على ألسن أنبيائهم بالوَصاةِ به، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * * * * ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" فإن زللتم": (3) 4027 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" فإن زللتم"، يقول: فإن ضللتم.   (1) انظر معنى"زل" فيما سلف 1: 524- 525. (2) انظر ما سلف في تفسير"البينات" 2: 318، 354/ ثم 3: 249- 151. (3) انظر معنى"زل" فيما سلف 1: 524- 525. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 4028 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإن زللتم" قال: الزلل: الشرك. * * * ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" من بعد ما جاءتكم البينات": (1) 4029 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" من بعد ما جاءتكم البينات"، يقول: من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم. 4030 - وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج:" فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات"، قال: الإسلام والقرآن. * * * 4031 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فاعلموا أن الله عزيز حكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: هل ينظرُ المكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام والملائكة؟. * * * ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:" والملائكة".   (1) انظر ما سلف في تفسير"البينات" 2: 318، 354/ ثم 3: 249- 251. (2) انظر معنى"عزيز" و"حكيم" في فهرس اللغة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 فقرأ بعضهم:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة"، بالرفع، عطفًا بـ "الملائكة" على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام. * ذكر من قال ذلك: 4032 - حدثني أحمد بن يوسف عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال- في قراءة أبيّ بن كعب:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام"، قال: تأتي الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله عزّ وجل فيما شاء. 4033 - وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية، وقال أبو جعفر الرازي: وهي في بعض القراءة:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام"، كقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنَزَّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان: 25] * * * وقرأ ذلك آخرون:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكةِ" بالخفض عطفًا بـ "الملائكة" على"الظلل"، بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة. * * * وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"ظلل"، فقرأها بعضُهم:"في ظُلَل"، وبعضهم:"في ظلال". فمن قرأها" في ظُلل"، فإنه وجهها إلى أنها جمع"ظُلَّة"، و"الظُلَّة"، تجمع"ظُلل وظِلال"، كما تجمع"الخُلَّة"،"خُلَل وخِلال"، و"الجلَّة"، جُلَلٌ وجلال". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وأما الذي قرأها"في ظلال"، فإنه جعلها جمع"ظُلَّة"، كما ذكرنا من جمعهم"الخلة""خلال". وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك، وجَّهه إلى أنّ ذلك جمع"ظِلّ"، لأن"الظلُّة" و"الظِّل" قد يجمعان جميعًا"ظِلالا". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُللٍ من الغمام"، لخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا. (1) فدل بقوله"طاقات"، على أنها ظلل لا ظلال، لأن واحد"الظلل""ظلة"، وهي الطاق= واتباعًا لخط المصحف. (2) وكذلك الواجبُ في كل ما اتفقت معانيه واختلفتْ في قراءته القرأة، ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خطّ المصحف، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رَسم المصحف. * * * وأما الذي هو أولى القراءتين في:" والملائكة"، فالصواب بالرفع، عطفًا بها على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وإلا أن تأتيهم الملائكة، على ما روي عن أبيّ بن كعب، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم، فقال جل ثناؤه: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22] ، وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام: 158] فإن أشكلَ على امرئ قول الله جل ثناؤه: (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فظن أنه مخالفٌ معناه معنى قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة"،   (1) سيأتي في الأثر رقم: 4038. (2) قوله: "واتباعا. . . " معطوف على موضع قوله: "لخبر روي عن رسول الله. . . " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 إذ كان قوله:"والملائكة" في هذه الآية بلفظ جمع، وفي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظنّ، وذلك أن"الملك" في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) بمعنى الجميع، ومعنى"الملائكة". والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع، فتقول:"فلان كثير الدرهم والدينار"= يراد به: الدراهم والدنانير= و"هلك البعير والشاةُ"، بمعنى جماعة الإبل والشاء، فكذلك قوله:" والملك" بمعنى"الملائكة". * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" ظُلل من الغمام"، وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه، أو من صلة فعل"الملائكة"، ومن الذي يأتي فيها؟ فقال بعضهم: هو من صلة فعل الله، ومعناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وأن تأتيهم الملائكة. * ذكر من قال ذلك: 4034 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: هو غير السحاب (1) لم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة. 4035 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت. 4036 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: طاقات من الغمام، والملائكة حوله= قال ابن جريج، وقال غيره: والملائكةُ بالموت * * *   (1) انظر تفسير"الغمام" فيما سلف 2: 90، 91، وما سيأتي قريبا: 266. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وقول عكرمة هذا، وإن كان موافقًا قولَ من قال: إن قوله: في ظُلل من الغمام" من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه، فإنه له مخالف في صفة الملائكة. وذلك أن الواجب من القراءة = على تأويل قول عكرمة هذا في"الملائكة" = الخفضُ، لأنه تأول الآية: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة، لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكةُ حوله. هذا إن كان وجَّه قوله:"والملائكة حوله"، إلى أنهم حول الغمام، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر"الغمام". وإن كان وجَّه قوله:"والملائكة حوله" إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر الرب عز جل، فقوله نظيرُ قول الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم، غيرُ مخالفهم في ذلك. * * * وقال آخرون: بل قوله:" في ظلل من الغمام" من صلة فعل"الملائكة"، وإنما تأتي الملائكة فيها، وأما الرب تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء. * ذكر من قال ذلك: 4037 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية، قال: ذلك يوم القيامة، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام. قال: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والرب تعالى يجيء فيما شاء. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجَّه قوله:" في ظُلل من الغمام" إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل، وأن معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة، لما:- 4038 - حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا، وذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضي الأمر". (1) * * * وأما معنى قوله:" هل ينظرون"، فإنه ما ينظرون، وقد بيّنا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل. (2) * * * ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله". فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول، وغيرُ جائز تكلُّف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله، أو من رسول مرسل. فأما القول في صفات الله وأسمائه، فغيرُ جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا. * * * وقال آخرون: إتيانه عز وجل، نظيرُ ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع، وانتقاله من مكان إلى مكان. * * * وقال آخرون: معنى قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله"، يعني به: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمرُ الله، كما يقال:"قد خشينا أن يأتينا بنو أمية"، يراد به: حُكمهم. * * *   (1) الحديث: 4038 -زمعة بن صالح الجندي- بفتح الجيم والنون- اليماني: ضعيف ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وفصلنا ذلك في شرح المسند: 2061. سلمة بن وهرام -بفتح الواو وسكون الهاء- اليماني: ثقة، وإنما تكلموا فيه من أجل أحاديث رواها عنه زمعة بن صالح، والحمل فيها على زمعة. وهذا الحديث ضعيف، كما ترى وذكره السيوطي 1: 241- 242 ونسبه لابن جرير والديلمي فقط. ونقل قبله نحو معناه، موقوفًا على ابن عباس ونسبه لعبد بن حميد، وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم. ولعله موقوفًا أشبه بالصواب. وانظر الحديث بعده: 4039. (2) كأنه يريد ما سلف 2: 485، من أن حروف الاستفهام تدخل بمعنى الجحد. ولم أجد موضعًا مما يشير إليه غير هذا. وانظر اللسان مادة (هلل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 وقال آخرون: بل معنى ذلك: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه، كما قال عز وجل: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ: 33] وكما يقالَ:"قطع الوالي اللص أو ضربه"، وإنما قطعه أعوانُه. * * * وقد بينا معنى"الغمام" فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره، (1) لأن معناه ههنا هو معناه هنالك. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة (2) والمتبعون خُطوات الشيطان، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ. 4939 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المديني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توقفون موقفًا واحدًا يوم القيامة مقدار سَبعين عامًا، لا يُنظر إليكم ولا يُقضي بينكم، قد حُصر عليكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دمًا، وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان، أو يلجمكم فتصيحون، ثم تقولون: من يشَفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فيقولون من أحقُّ بذلك من أبيكم آدم؟ جبل الله تُربته، وخلَقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلَّمه قِبَلا (3) فيؤتى آدم، فيطلبَ ذلك إليه، فيأبى، ثم يستقرئون الأنبياء نبيًّا نبيًّا، كلما جاءوا نبيًا أبى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى يأتوني، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفَحْص= قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الفَحْص؟ قال: قُدّام العرش= فأخرّ ساجدًا، فلا أزال ساجدًا   (1) انظر ما سلف 2: 90- 91، وما مضى قريبا: 263. (2) في المطبوعة: "هل ينظرون التاركون. . " والصواب ما أثبت. (3) "كلمة قبلا" (بكسر القاف وفتح الباء) أي عيانا ومقابلة، لا من وراء حجاب ومن غير أن يولى أمره او كلامه أحدًا من الملائكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 حتى يبعث الله إليَّ ملَكًا، فيأخذ بعضديّ فيرفعني، ثم يقول الله لي: يا محمد! فأقول: نعم! وهو أعلم. فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفِّعني في خلقك، فاقض بينهم. فيقول: قد شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينا نحن وقوفٌ سمعنا حِسًّا من السماء شديدًا، فهالنا، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقَت الأرضُ بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثانية بمثْليْ من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجنّ والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ، ثم نزل أهلُ السموات على عدد ذلك من التضعيف، حتى نزل الجبار في ظُلل من الغمام والملائكة، ولهم زجَلٌ من تسبيحهم يقولون:" سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ربّ العرش ذي الجبروت! سبحان الحي الذي لا يموت! سبحان الذي يُميت الخلائق ولا يموت! سبوح قدوس، رب الملائكة والروح! قدّوس قدّوس! سبحان ربنا الأعلى! سبحان ذي السلطان والعظمة! سبحانه أبدًا أبدًا"! فينزل تبارك وتعالى، يحملُ عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعا، أقدامهم على تُخوم الأرض السفلى والسموات إلى حُجَزهم، والعرشُ على مناكبهم. فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي مناد نداءً يُسمع الخلائق، فيقول: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتُّ منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلىّ، فإنما هو صُحُفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه! فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه ليقتصُّ يومئذ للجمَّاءِ من ذات القَرْن". (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا الخبر يدلّ على خطأ قول قتادة في تأويله قوله:" والملائكة" أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت. لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب، حين تشقَّقُ السماء، وبمثل ذلك روي الخبر   (1) الحديث: 4039 - هذا حدث ضعيف من جهتين: من جهة إسماعيل بن رافع ومن جهة الرجل المبهم من الأنصار ثم هذا السياق فيه نكارة. فإسماعيل بن رافع بن عويمر المدني: ضعيف جدًا، ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وابن سعد وغيرهم وذكره ابن حبان في كتاب المجروحين رقم: 42 (مخطوط مصور) وقال: "كان رجلا صالحا، إلا أنه يقلب الأخبار حتى صار الغالب على حديثه المناكير التي يسبق إلى القلب أنه كالمعتمد لها". وهذا الحديث أشار إليه ابن كثير 1: 474- 475 وقال: "وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم"! وما وجدته في شيء مما بين يدي من المراجع فلا أدري كيف كان هذا؟ . ولإسماعيل بن رافع هذا حديث آخر، في معنى هذا الحديث أطول منه جدًا. ذكره ابن كثير في التفسير 3: 337- 342 من رواية الطبراني في كتابه (المطولات) بإسناده من طريق أبي عاصم النبيل عن إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة مرفوعا. ثم قال ابن كثير بعد سياقه بطوله: "هذا حديث مشهور وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض أفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة وقد اختلف فيه: فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه. ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس ومنهم من قال فيه: هو متروك وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا انه يكتب حديثه في جملة الضعفاء قلت: [القائل ابن كثير] : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة وقد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه فغريب جدًا، ويقال أنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقًا واحدًا فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفًا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث. فاله أعلم". ثم جاء صدر الدين بن أبي العز قاضي القضاة -تلميذ ابن كثير- فأشار إلى هذين الحديثين: حديث الطبري الذي هنا، وحديث الطبراني الذي ذكره شيخه ابن كثير إشارة واحدة في شرح الطحاوية ص: 171- 172 بتحقيقنا كأنه اعتبرهما حديثًا واحدًا، فذكر بعض سياق الحديث المطول ثم قال: "رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي" فكان شأنه في ذلك موضع نظر، لأن رواية الطبراني إنما هي في كتاب آخر غير معاجمة الثلاثة كما نقل ابن كثير ثم لم أجده في كتاب الأسماء والصفات للبيهقي. ثم لم يذكره صاحب الزوائد. ولو كان في أحد معاجم الطبراني او في مسند أبي يعلى الموصلي كما يوهمه إطلاق ابن أبي العز- لذكره صاحب الزوائد بما التزم من ذلك في كتابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 عن جماعة من الصحابة والتابعين، كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك،= ويوضحُ أيضًا صحة ما اخترنا في قراءة قوله:" والملائكة" بالرفع على معنى: وتأتيهم الملائكة = ويُبينُ عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض، لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تَفَطَّر السماء، قبل أن يأتيهم ربُّهم، في ظلل من الغمام. إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وفي الملائكة الذين يأتون أهلَ الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيكون ذلك وجهًا من التأويل، وإن كان بعيدًا من قول أهل العلم، ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وفُصِل القضاء بالعدل بين الخلق، (1) على ما ذكرناه قبلُ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أخْذ الحق لكلّ مظلوم من كل ظالم، حتى القصاص للجمّاء من القرناء من البهائم". (2) وأما قوله:" وإلى الله تُرجع الأمور"، فإنه يعني: وإلى الله يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة، والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا، من ظلم بعضهم بعضًا، واعتداءِ المعتدي منهم حدودَ الله، وخلافَ أمره، وإحسانِ المحسن منهم، وطاعته إياه فيما أمرَه به- فيفصلُ بين المتظالمين، ويجازي أهل الإحسان بالإحسان،   (1) انظر معنى"قضى" و"القضاء" فيما سلف 2: 542، 543. (2) انظر الأثر السالف رقم: 4039. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 وأهل الإساءة بما رأى، ويتفضل على من لم يكن منهم كافرًا فيعفو. ولذلك قال جل ثناؤه:" وإلى الله تُرجع الأمور"، وإن كانت أمور الدنيا كلها والآخرةِ، من عنده مبدؤها، وإليه مصيرها، إذْ كان خلقُه في الدنيا يتظالمون، ويلي النظرَ بينهم أحيانًا في الدنيا بعضُ خلقه، فيحكم بينهم بعضُ عبيده، فيجوزُ بعضٌ ويعدل بعضٌ، ويصيبُ واحد ويخطئ واحد، ويمكَّن من تنفيذ الحكم على بعض، ويتعذَّر ذلك على بعض، لمنعة جانبه وغلبته بالقوة. فأعلم عبادَه تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة، فينصف كُلا من كُلٍّ، ويجازي حق الجزاء كُلا حيثُ لا ظلمَ ولا مُمْتَنَعَ من نفوذ حكمه عليه، وحيث يستوي الضعيف والقويّ، والفقير والغني، ويضمحل الظلم وينزلُ سلطان العدل. * * * وإنما أدخل جل وعزّ" الألف واللام" في"الأمور"، لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور، ولم يعن بها بعضًا دون بعض، فكان ذلك بمعنى قول القائل:"يعجبني العسل- والبغل أقوى من الحمار"، فيدخل فيه"الألف واللام"، لأنه لم يُقصد به قصد بعض دون بعض، إنما يراد به العموم والجمع. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 القول في تأويل قوله عز ذكره: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل = الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إليّ بالإقرار بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي- إلا إن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك بما أنزلت إليك من كتبي، وفرضت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم = كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضتُ عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيِّدةً لهم على صدقهم، بيِّنةً أنها من عندي، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حُجَجي، وكذَّبوا رسلي، وغيَّروا نعمي قِبَلهم، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم. * * * وأما"الآية"، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية (1) وهي ها هنا. ما:- 4040 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة"، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود. 4041 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة"، يقول: آتاهم الله آيات بينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوَّهم وهم ينظرون، وظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله:" ومن يُبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب". * * * قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر على من كذَّبه، واستكبر على ربه، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم،   (1) انظر ما سلف معنى"الآية" 1: 106/ ثم 2: 397- 398، 553/ ثم 3: 184. ومعنى"بينة" في 2: 318، 397/ ثم 3: 249/ وهذا الجزء 4: 259، 260. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 مع مظاهرته عليهم الحجج، وأنّ من هو بين أظهُرهم من اليهودُ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [بذلك] ، ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) } قال أبو جعفر: يعني"بالنعم" جل ثناؤه: الإسلام وما فرض من شرائع دينه. ويعني بقوله:" ومن يُبدّل نعمة الله" ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، (2) من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ عقابه، أليم عذابه. * * * فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعًا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ، فلا تبدِّلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي، فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من العقوبة. وبمثل الذي قلنا في قوله:" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون لازمة حتى يستقيم الكلام. (2) انظر معنى"التبديل" فيما سلف 3: 396. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 4042- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال: يكفر بها. 4043 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. 4044 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن يبدِّل نعمة الله"، قال: يقول: من يبدِّلها كفرًا. 4045 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، يقول: ومن يكفُر نعمتَه من بعد ما جاءته. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات، (1) فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل، الإيمان، والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزيتها من الرياش والأموال،   (1) في المطبوعة: "العاجلة في الذنب" وهو كلام بلا معنى. وقد سمى الله الدنيا"العاجلة" لتعجيله الذين يحبونها ما يشاء من زينتها ولذتها، وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [سورة الإسراء: 18] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها، والذين عملوا لي= وأقبلوا على طاعتي، ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها، اتباعًا لك، وطلبًا لما عندي، واتقاءً منهم بأداء فرائضي، وتجنُّب معاصيَّ = فوق الذين كفروا يوم القيامة، بإدخال المتقين الجنة، وإدخال الذين كفروا النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم. * ذكر من قال ذلك: 4046 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:" زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا"، قال: الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها =" ويسخرون من الذين آمنوا"، في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان محمد نبيًا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود! 4047 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة"، قال:"فوقهم" في الجنة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) } قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته. * * * فإن قال لنا قائل: وما في قوله:" يرزق من يشاء بغير حساب" من المدح؟ قيل: المعنى الذي فيه من المدح، الخيرُ عن أنه غير خائف نفادَ خزائنه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به، فربنا تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه، ولا انتقاصَ شيء من ملكه، بعطائه ما يعطي عبادَه، فيحتاج إلى حساب ما يعطي، وإحصاء ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله:" والله يرزق من يشاء بغير حساب" * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الأمة": في هذا الموضع، (1) وفي"الناس" الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة. فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك. * ذكر من قال ذلك: 4048 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله"كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا". (2)   (1) انظر معنى (الأمة) فيما سلف 1: 221/ ثم 3: 74ن 100، 128ن 141. (2) الأثر: 4048 -رواه الحاكم في المستدرك 2: 546- 547 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 4049 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ. * * * قال أبو جعفر: فتأويل"الأمة" على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس"الدين"، كما قال النابغة الذبياني: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ? (1) يعني ذا الدين. * * * فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. * * * وأصل"الأمة"، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن"الأمة" من الخبر عن"الدين"، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [سورة المائدة:48 سورة النحل: 93] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله:" كان الناس أمة واحدة"، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا. * * * وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى"الأمة" إلى طاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) [سورة النحل: 120] ، يعني بقوله"أمة"، إمامًا في الخير يُقتدى به، ويُتَّبع عليه. * ذكر من قال ذلك:   (1) ديوانه: 40، واللسان (أمم) من قصيدته المشهورة في اعتذاره للنعمان. يقول: أيتهجم على الإثم ذو دين، وقد أطاع الله واخبت له، فيحلف لك كاذبا يمين غموس كالتي حلفت بها، لأنفي عن قلبك الريبة في أمري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 4050 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم. 4051 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. 4052 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم، قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه، (1) * * * وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه بـ "الأمة"، كما يقال:"فلان أمة وحده"، يقول مقام الأمة. وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، (2) فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم (3) سماه بذلك"أمة". * * * وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم. * ذكر من قال ذلك: 4053 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع   (1) في المطبوعة: "أمة واحدة" في الموضعين وهو خطأ والصواب ما أثبت. وذلك ما جاء في حديث قس بن ساعدة: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" ويقال أيضًا: "هو أمة على حدة" كالذي في الحديث: "يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمه على حدة". (2) في لمطبوعة: "سبب لاجتماع الأسباب من الناس" وهو تصحيف. والأشتات المتفرقون، ومثله: شتى. (3) قوله: "إلى حال اختلافهم" أي: إلى ان صارت حالهم إلى الاختلاف والتفرق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 قوله:" كان الناس أمة واحدة"- وعن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم= فكان أبيّ يقرأ:"كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" إلى"فيما اختلفوا فيه". وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف. 4054 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم="فبعث الله النبيين"، قال: هذا حين تفرقت الأمم. * * * وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس. * * * وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله:" كان الناس أمة واحدة"، على دين واحد، فبعث الله النبيين. * ذكر من قال ذلك: 4055 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" كان الناس أمة واحدة"، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما:- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 4056 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كان الناس أمة واحدة"، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. * * * = وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب، كما:- 4057 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود:"اختلفوا عنه" عن الإسلام. (1) * * * = فاختلفوا في دينهم، (2) فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين،"وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم. وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس، وكما قاله قتادة. وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا   (1) الأثر: 4057 - سيأتي هذا الأثر برقم: 4063 وكان نصه هنا كنصه هناك ولكنه تصحيف نساخ فيما أظن، كما سيأتي. كان في المطبوعة"اختلفوا فيه - على الإسلام". (2) في المطبوعة: "واختلفوا في دينهم" بالواو والصواب بالفاء وهو من كلام الطبري، لا من الأثر وهو من سياق قوله قبل: "وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق. . . فاختلفوا. . " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً، (1) غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك إن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها"يونس": (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس: 19] . فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:" فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين"، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب= ويعني بقوله:" ومنذرين"، ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار=" وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه"الحكم" إلى"الكتاب"، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه. * * *   (1) هذه حجة رجل تقي ورع عاقل. بصير بمواضع الزلل في العقول وبمواطن الجرأة على الحق من أهل الجرأة الذين يتهجمون على العلم بغيًا بالعلم. ولو عقل الناس لأمسكوا فضل ألسنتهم ولكنهم قلما يفعلون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" وما اختلف فيه"، وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة=" إلا الذين أوتوه"، يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها= و"الهاء" في قوله:"أوتوه" عائدة على"الكتاب" الذي أنزله الله=" من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه. فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه. ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، (1) وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينهم. * * * و"البغي" مصدر من قول القائل:"بغى فلانٌ على فلان بغيًا"، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: "بَغَى" كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده. (2) * * * فمعنى قوله جل ثناؤه:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان   (1) في المطبوعة: "تعمدهم الخطيئة التي أنزلها"، وهو تصحيف وكلام بلا معنى. (2) انظر معنى"البغي" فيما سلف 1: 342. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضم لبعض. كما:- 4058 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه" يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم=" من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في"مِنْ" التي في قوله:" من بعد ما جاءتهم البينات" ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"؟ فقال بعضهم:"من"، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم"البغي" قبل"من"، لأن"من" إذا كان الجالب لها"البغي"، فخطأ أن تتقدمه لأن"البغي" مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن"الذين" مستثنى، وأنّ"من بعد ما جاءتهم البينات" مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات = فكأنه كرر الكلام توكيدًا. * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" فهدى الله"، فوفق [الله] الذي آمنوا (1) وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه. وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته:"الجمُعة"، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها"السبت"، فقال صلى الله عليه وسلم:"نحن الآخِرون السابقون"، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد". 4059 - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. (2) 4060- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة:" فهدى الله الذين آمنوا لما   (1) انظر معنى"هدى" فيما سلف 1: 166- 170، 230، 249، 549- 551، وانظر فهارس اللغة في الأجزاء السالفة، في معنى هذه الكلمة وفي معنى"الإيمان". (2) الحديث: 4059 - محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري: معروف مضت الرواية عنه كثيرا. ووقع في المطبوعة هنا"أحمد بن حميد" وهو غلط وتحريف. عياض بن دينار الليثي: تابعي ثقة سمع من أبي هريرة. وقد وثقه ابن إسحاق في حديث آخر. رواه عنه في المسند: 7481 وترجمه البخاري في الكبير 4/1/22 وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ص: 299 (من كتاب الثقات المخطوط المصور) . وهذا حديث صحيح معروف مشهورن من حديث أبي هريرةن ثبت عنه من غير وجه. ونظر الحديث الذي عقبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 اختلفوا فيه من الحق بإذنه"، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا اليهود، وبعد غد للنصارى". (1) * * * * وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:- 4061 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فهدى الله الذين آمنوا" للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. (2) واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه". * * * قال أبو جعفر: (3) فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما   (1) الحديث: 4060 -هو في تفسير عبد الرزاق ص 23ن بهذا الإسناد وكذلك رواه أحمد في المسند: 7692ن عن عبد الرزاق. * ورواه الشيخان وغيرهما. فانظر المسند أيضًا: 7213، 7308، 7393، 7395، 7693، وما أشرنا إليه هناك من التخريج في مواضع متعددة. (2) في المطبوعة: "الذين يدعونه" والصواب ما أثبت. (3) في المطبوعة: قال: فكانت هداية الله جل ثناؤه. . . " يتوهم القارئ أن هذا الآتي إنما هو من الأثر السالف وليس ذلك كذلكن بل هو من كلام أبي جعفر، كما يدل عليه سياقه الآتي، وكما يتبين من رواية هذا الأثر السالف في تفسير ابن كثير 1: 489: 490 والدر المنثور 1: 243. فلذلك فصلت بين الكلامين وجعلت صدر الكلام: "قال أبو جعفر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 جاء به لما اختلف -هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه مَنْ الحق من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:- 4062- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: (وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن. 4063 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه"، عن الإسلام. (1) * * *   (1) الأثر: 4063 - انظر الأثر السالف رقم: 4057 والتعليق عليه. وكان في المطبوعة هنا وهناك: "لما اختلفوا فيه على الإسلام"، وهو غير بين المعنى والذي أثبته هو نص ما في القرطبي 3: 33 والدر المنثور 1: 243. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 قال أبو جعفر: وأمّا قوله:" بإذنه"، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى"الإذن" إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. (1) * * * وأما قوله:" والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه. * * * قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن الله جل وعز. * * * فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل،" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟ قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. * * * قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و"مِنْ" إنما هي في كتاب الله في"الحق" و"اللام" في قوله:" لما اختلفوا فيه"، وأنت تحول"اللام" في"الحق"، و"من" في"الاختلاف"، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا؟   (1) انظر ما سلف 2: 449- 450. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر: (1) كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُول كما ... كَانَ الزِّنَاءُ فَريضَةَ الرَّجْمِ (2) وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر: إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ ... تَحْلَى به العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (3) وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج. * * * وقد قال بعضهم: إن معنى قوله" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق"، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها. وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) } قال أبو جعفر: وأما قوله:" أم حسبتم"، كأنه استفهم بـ "أم" في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، (4) ولو لم يكن قبله كلام   (1) هو النابغة الجعدي. (2) سلف تخريج البيت في 3: 311، 312. (3) سلف تخريج الشعر في 3: 312. (4) في المطبوعة: "لمسبوق كلام" وهو فاسد المعنى وذلك أن أحد شروط"أم" في الاستفهام: أن تكون نسقًا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام (انظر ما سلف 2: 493) وقوله"لسبوق" هذا مصدر لم يرد في كتب اللغة، ولكني رأيت الطبري وغيره يستعمله وسيأتي في نص الطبري بعد 2: 240، 246 (بولاق) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر:"أم عندك أخوك"؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال:"أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك؟ " كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته. * * * فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من"البأساء"- وهو شدة الحاجة والفاقة ="والضراء" -وهي العلل والأوصاب (1) - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا. * * * وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل- نزلت يومَ الخندق، حين لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) إلى قوله: (وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) [الأحزاب: 9-11]   (1) انظر معنى"البأساء والضراء" فيما سلف 3: 349- 352. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 * ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب: 4064 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا"، قال: نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم:" ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" [الأحزاب: 12] 4065 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا"، قال: نزلت في يوم الأحزاب، أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاءٌ وحصرٌ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) * * * وأما قوله:" ولما يأتكم"، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى: ولم يأتكم، ويزعمون أن"ما" صلة وحشو، وقد بينت القول في"ما" التي يسميها أهل العربية"صلة"، ما حكمها؟ في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وأما معنى قوله:" مثل الذين خلوا من قبلكم"، فإنه يعني: شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم. (2) * * * وقد دللت في غير هذا الموضع على أن"المثل"، الشبه. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر ما سلف 1: 405، 406/ ثم 2: 230، 331. وقوله: "صلة" أي زيادة، كما سلف شرحها مرارا، فاطلبها في فهرس المصطلحات. (2) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 3: 100، 128، 129. (3) انظر ما سلف: 1: 403. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 4066 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا" ... (1) 4067 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج، قال قوله:" حتى يقول الرسول والذين آمنوا"، قال: هو خيرُهم وأعلمهم بالله. * * * وفي قوله:" حتى يقول الرسول"، وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه"فعَل" أبطل عمل"حتى" فيها، لأن"حتى" غير عاملة في"فعل"، وإنما تعمل في"يفعل"، وإذا تقدمها"فعل"، وكان الذي بعدها"يفعل"، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في"يفعل" وإبطال عمل"حتى" عنه، وذلك نحو قول القائل:" قمت إلى فلان حتى أضربُه"، والرفع هو الكلام الصحيح في"أضربه"، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربته، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل"حتى" من الفعل على لفظ"فعل" متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح من الكلام نصب"يفعل"، وإعمال"حتى"، وذلك نحو قول القائل:"ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك = وجعل ينظر إليك حتى يثبتك"، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ بـ "حتى"، كما قال الشاعر: (2) مَطَوْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهمْ ... وَحَتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ (3)   (1) الأثر: 4066 - هذا أثر ناقص، ولم أجد تمامه في مكان آخر. (2) هو امرؤ القيس. (3) ديوانه: 186، ومعاني القرآن للفراء 1: 133 وسيبويه 1: 417/ 2: 203، ورواية سيبويه: "سريت بهم" وفي الموضع الثاني منه روى: "حَتَّى تَكِلَّ غَزِيّهم" مطا بالقوم يمطو مطوًا: مد بهم وجد في السير. يقول: جد بهم ورددهم في السير حتى كلت مطاياهم فصارت من الإعياء إلى حال لا تحتاج معها إلى أرسان تقاد بها، وصار راكبوها من الكلال إلى إلقاء الأرسان وطرحها على الخيل. لا يبالون من تبعهم وإعيائهم، كيف تسير، ولا إلى أين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 فنصب"تكل"، والفعل الذي بعد"حتى" ماض، لأن الذي قبلها من"المطو" متطاول. والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك-:"وزلزلوا حتى يقولَ الرسول"، نصب"يقول"، إذ كانت"الزلزلة" فعلا متطاولا مثل"المطو بالإبل". وإنما"الزلزلة" في هذا الموضع: الخوف من العدو، لا"زلزلة الأرض"، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في"يقول" وإن كان بمعنى"فعل" أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم، ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم = على ما أطعتموه بإحسانكم = عليه. * * *   (1) قد استوفى الكلام في"حتى" الفراء في معاني القرآن 1: 132- 138 واعتمد عليه الطبري في أكثر ما قاله في هذا الموضع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 و"الخير" الذي قال جل ثناؤه في قوله:" قل ما أنفقتم من خير"، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية. * * * وفي قوله:"ماذا"، وجهان من الإعراب. أحدهما: أن يكون"ماذا" بمعنى: أيّ شيء؟، فيكون نصبًا بقوله:"ينفقون". فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا يُنصَب بـ "يسألونك". والآخر منهما الرفع. وللرفع في"ذلك" وجهان: أحدهما أن يكون"ذا" الذي مع"ما" بمعنى"الذي"، فيرفع"ما" ب"ذا" و"ذا" لِ"ما"، و"ينفقون" من صلة"ذا"، فإن العرب قد تصل"ذا" و"هذا"، كما قال الشاعر: (1) عَدَسْ! مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إمَارَةٌ ... أمنْتِ وهذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ! (2) فـ "تحملين" من صلة"هذا". فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟ والآخر من وجهي الرفع أن تكون"ماذا" بمعنى أيّ شيء، فيرفع"ماذا"،   (1) هو يزيد بن مفرغ الحميري. (2) تاريخ الطبري 6: 178 والأغاني 17: 60 (ساسي) ومعاني القرآن للفراء 1: 138 والخزانة: 2: 216، 514 واللسان (عدس) من أبيات في قصة يزيد بن مفرغ مع عباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان معاوية ولاه سجستان فاستصحب معه يزيد بن مفرغ فاشتغل عنه بحرب الترك. فغاظ ذلك ابن مفرغ واستبطأ جائزته، فبسط لسانه في لحية عباد وكان عباد عظيم اللحية فقال: ألاَ لَيْتَ اللِّحَى كانت حشيشًا ... فنَعْلِفَها خيولَ المسلمينَا فعرف عباد ما أراد فطلبه منه، فهجاه وهجا معاوية باستلحاق زياد بن أبي سفيان فأخذه عبيد الله بن زياد اخو عباد، فعذبه عذابًا قبيحًا، وأرسله إلى عباد، ثم أمرهما معاوية بإطلاقه فلما انطلق على بغلة البريد، قال هذا الشعر الذي أوله هذا البيت. وقوله: "عدس" زجر للبغلة، حتى صارت كل بغلة تسمى"عدس". والشعر شعر جيد فاقرأه في المراجع السالفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وإن كان قوله:" ينفقون" واقعًا عليه، (1) إذ كان العاملُ فيه، وهو"ينفقون"، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر: (2) ألا تَسْأَلانِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاِولُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضلالٌ وَبَاطِلُ (3) وكما قال الآخر: (4) وَقَالُوا (5) تَعَرَّفْهَا المَنَازِلَ مِنْ مِنًى ... وَمَا كُلُّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ (6) فرفع"كل" ولم ينصبه"بعارف"، إذ كان معنى قوله:"وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف" جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى ما أحد. (7) وهذه الآية [نزلت] (8) - فيما ذكر- قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال. * ذكر من قال ذلك: 4068 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا   (1) سلف أن"الوقوع" هو تعدي الفعل إلى المفعول، فانظر فهرس المصطلحات وما سلف 2: 108، 198. (2) هو لبيد بن ربيعة. (3) ديوانه: 2/27 القصيدة: 41، وسيبويه 1: 405 والخزانة 2: 556 ومعاني القرآن للفراء 1: 139 وغيرها. والشاهد فيه أنه رفع"نحب" وهو مردود على"ما" في"ماذا". فدل ذلك على أن"ذا" بمعنى"الذي" وما بعده من صلته، فلا يعمل فيما قبله. والنحب: النذر. يقول: أعليه نذر في طول سعيه الذي ألزم به نفسه؟ والنحب: الحاجة وهي صحيحة المعنى في مثل هذا البيت يقول: أهي حاجة لا بد منها يقضيها بسعيه، أم هي اماني باطلة يتمناهان لو استغنى عنها وطرحها لما خسر شيئًا، ولسارت به الحياة سيرًا بغير حاجة إلى هذا الجهاد المتواصل، والاحتيال المتطاول؟ (4) هو مزاحم العقيلي. (5) هو مزاحم العقيل (6) ديوانه: 28، وسيبويه 1: 36ن 73، شاهدا على نصب"كل" ورفعها ومعاني القرآن للفراء 1: 139 وقال: لم"أسمع أحدًا نصب" كل وشرح شواهد المغني: 328. وقوله: "تعرفها المنازل" بنصبها على حذف الخافض أو الظرف أي تعرف صاحبتك بالمنازل من منى. فيقول: لا أعرف أحدًا يعرفها ممن يغشى مني فأسأله عنها. (7) انظر أكثر ما مضى في معاني القرآن للفراء 138- 140. (8) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، ليستقيم الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 أسباط، عن السدي:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"، قال: يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. 4069 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أينَ يضعون أموالهم؟ فنزلت:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل"، فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله= قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك:" ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين" وما ذكر معهما. 4070 - حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله:" يسألونك ماذا ينفقون"، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك:" فللوالدين والأقربين" وما ذكر معهما. 4071 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد = وسألته عن قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"= قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي =: من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله، وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة = قولٌ ممكن أن يكون كما قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه ممكن أن يكون قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين" الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، كما قال في الآية الأخرى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) [سورة البقرة: 177] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه. * * * وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته. (1) * * *   (1) انظر تفسير"المسكين" فيما سلف 2: 137، 293/ ثم 3: 345 = ومعنى"اليتامى" فيما سلف 2: 292/ ثم 3: 345 = ومعنى"ابن السبيل" فيما سلف 3: 345. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 القول في تأويل قوله عز ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: " كتب عليكم القتال"، فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين=" وهو كُرْهٌ لكم". * * * واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال. فقال بعضهم: عنى بذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً دون غيرهم. * ذكر من قال ذلك: 4072 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له:" كتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم"، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها؟ قال: لا! كُتب على أولئك حينئذ. 4073 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، قال نسختها (قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [سورة البقرة: 285] * * * قال أبو جعفر: وهذ اقول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله:" قالوا سمعنا وأطعنا"، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه. 4074 - حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. (1) * * * وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين. * * * قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [سورة النساء: 95] ، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى. * * *   (1) الأثر: 4074 - محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني نزل بغداد وكان وجه مشايخ بغداد وكان أحد الحفاظ الأثبات المتقنين مات سنة 270، وروى عنه الطبري في المذيل (انظر المنتخب من ذيل المذيل: 104) ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي روى عنه البخاري، توفي ببغداد سنة 215. وكلاهما مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة. * ذكر من قال ذلك: 4075- حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي. (1) * * * وقد بينا فيما مضى معنى قوله:"كتب" بما فيه الكفاية. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر"ذو" اكتفاء بدلالة قوله:"كره لكم"، عليه، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 83] وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله. * ذكر من قال ذلك: 4076 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وهو كره لكم" قال: كُرّه إليكم حينئذ. * * * "والكره" بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه،"والكَرْهُ" بفتح"الكاف"، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.   (1) الأثر: 4075 - حبيش بن مبشر بن أحمد الطوسي الفقيه، كان ثقة من عقلاء البغداديين مات سنة 258، مترجم في التهذيب وتاريخ بغداد. وكان في المطبوعة: "حسين بن ميسر" وليس في الرواة من يعرف بذلك. (2) انظر ما سلف 3: 357، 364، 365. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 4077 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار. * * * وقد كان بعض أهل العربية يقول:"الكُره والكَره" لغتان بمعنى واحد، مثل:"الغُسْل والغَسْل" و"الضُّعف والضَّعف"، و"الرُّهبْ والرَّهبْ". وقال بعضهم:"الكره" بضم"الكاف" اسم و"الكره" بفتحها مصدر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم، كما:- 4078 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم"، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال:"عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم" يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا. 4079 - حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال: أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ، وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن! قال: في قوله:" وعسى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم، مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغِّبهم في قتال من كفر به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام = وذلك رَجبٌ = عن قتالٍ فيه.   (1) الحديث: 4079 - هذا إسناد مظلم والمتن منكر! لم أجد ترجمة"يحيى بن محمد بن مجاهد" ولا"عبيد الله بن أبي هاشم" ولا أدري ما هما. ولفظ الحديث لم أجده، ولا نقله أحد +من ينقل عن الطبري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 وخفضُ"القتال" على معنى تكرير"عن" عليه، وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد:- 4080 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، قال: يقول: يسألونك عن قتال فيه، قال: وكذلك كان يقرؤها:"عن قتال فيه". * * * = قال أبو جعفر:"قل" يا محمد:"قتالٌ فيه"- يعني في الشهر الحرام"كبيرٌ"، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه. ومعنى قوله:" قتال فيه"، قل القتال فيه كبير. وإنما قال:"قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له، وتسميه مضر"الأصمَّ" (1) لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه. وقد:- 4081 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا الزبير، عن جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ ينسلخ. * * * وقوله جل ثناؤه:" وصَدٌّ عن سبيل الله". ومعنى"الصدّ" عن الشيء، المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل:" صدّ فلان بوجهه عن فلان"، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه. * * * وقوله:" وكفرٌ به"، يعني: وكفر بالله، و"الباء" في"به" عائدة على اسم الله الذي في"سبيل الله". وتأويل الكلام: وصدٌّ عن سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام- وهم أهله وولاته- أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.   (1) يعني شهر رجب، وهو رجب الأصم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 فـ "الصدُّ عن سييل الله" مرفوع بقوله:" أكبر عند الله". وقوله:" وإخراج أهله منه" عطف على"الصد". ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، يعني: الشرك أعظم وأكبرُ من القتل، (1) يعني: مِنْ قَتل ابن الحضرميّ الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام. * * * قال أبو جعفر: وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله:" والمسجد الحرام" معطوف على"القتال" وأن معناه: يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه، وعن المسجد الحرام، فقال الله جل ثناؤه:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من القتال في الشهر الحرام. (2) وهذا القول، مع خروجه من أقوال أهل العلم، قولٌ لا وجهَ له. لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم، وهل ذلك كان لهم؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من المسلمين، ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فلم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه (3) كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام، فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه. ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نزلت   (1) انظر معنى"الفتنة" فيما سلف 3: 565، 566 ثم 570ن 571 وفهرس اللغة في الأجزاء السالفة. (2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 141. (3) في المطبوعة: "وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن القوم سألوا رسول الله. . . " والصواب ما أثبت، وإلا اختل الكلام اختلالا شديدًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله. * ذكر الرواية عمن قال ذلك: 4082 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدًا. = وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة [بن عتبة] بن ربيعة- (1) ومن بني أمية- بن عبد شمس، ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة- ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص- ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين (2) بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم- ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء. = فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: "إذا نظرت إلى كتابي هذا، (3) فسرْ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف،   (1) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام ونص ابن هشام: "أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش" بإسقاط: "ومن بني أمية" فتركت ما في الطبري على حاله لأنه صحيح المعنى أيضًا. (2) في المطبوعة: ". . . عبد الله بن مناة بن عويم" وأثبت ما في نص ابن هشام وهو الموافق لما أجمعت عليه كتب السير والأنساب. (3) في المطبوعة: "إذا نظرت إلى كتابي. . . " وأثبت ما في هشام وتاريخ الطبري وهو الصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال:" سمعا وطاعة"، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلَّف عنه [منهم] أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران، (1) أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه، (2) فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش (3) فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار! فلا بأس علينا منهم. (4) وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، (5) فقال القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَ عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم. =وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمُس. وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. [فيه الرجال] (6) فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! (7) وقالت يهود -تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! " عمرو"، عمرت الحرب! و"الحضرميّ"، حَضَرت الحربُ! " وواقد بن عبد الله"، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم. = فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله:" يسألونك عن الشهر   (1) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ صرف. (2) "يتعقبانه": أي يركبه هذا عقبة وهذا عقبة، أي هذا نوبة وهذا نوبة. (3) العير: القافلة من الإبل والحمير والبغال تخرج للميرة فيمتار عليها. والأدم جمع أديم: وهو الجلد المدبوغ. (4) عمار: معتمرون. والاعتمار والعمرة زيارة البيت الحرام وأداء حقه، في أي شهر كان. وهو غير الحج يقال عنه"اعتمر" ولم يسمع"عمر" ولكن جاء"عمار" جمع"عامر" على هذا الثلاثي المتروك. (5) هكذا في المطبوعة: "آخر يوم من جمادى" وفي نص ابن هشام وتاريخ الطبري"آخر يوم من رجب" وهو أصح النصين، ولم أغيرها، لأنه سيأتي بعد ما يدل على أن الرواية هنا هكذا. (6) الزيادة بين القوسين من نص ابن هشام، وتاريخ الطبري. (7) انظر ص: 303 التعليق: 5 ونص ابن هشام والطبري"في شعبان". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 الحرام قتال فيه"، أي: عن قتالٍ فيه" قل قتال فيه كبيرٌ" إلى قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم،" والفتنة أكبر من القتل"، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل=" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق، (1) قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العيرَ والأسيرين. (2) 4083 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبيرٌ"، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية - وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص،   (1) الشفق (لفتح الشين والفاء) والإشقاق: الخوف والحذر. (2) الأثر: 4082 - هو نص ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 2: 252- 254 ورواه الطبري في تاريخه 2: 262- 263. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل [بطن] مَلَل، (1) فلما نزل ببطن ملل فتحَ الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة، (2) فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمضِ وليوص، فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أضلا راحلةً لهما، فأتيا بُحران يطلبانها، (3) وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، فاقتتلوا، فأسَرُوا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة، وقُتل عمرو بن الحضرميّ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. = فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال، أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى بالأسيرين، ففجَر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جُمادى! - وقيل: في أول ليلة من رجب، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رَجب. فأنزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير" لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا، أكبر من القتل عند الله، والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام، فذلك قوله:" وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل". (4) 4084 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه: أنه حدثه رجل، عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم   (1) الزيادة بين القوسين من رواية الطبري في تاريخه. (2) في تاريخه: "بطن نخل" في هذا الموضع منه، وفيما يليه"بطن نخلة". (3) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ مضى مثله ص: 303 والصواب من التاريخ. (4) الأثر: 4083 - رواه الطبري في تاريخه 2: 263- 264. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 أبا عبيدة. فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا:" ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك". فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال: سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله! فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم: أمن رَجب أو من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثوه الحديث، فأنزل الله عز وجل:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل"- والفتنة هي الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال -: كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحد! فقال: إن يكن خيرًا فقد وَلِيت! وإن يكن ذنبًا فقد عملت! (1) 4085 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه"، قال: إن رجلا من بني تميم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنزل الله جل وعز:" قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به" وصد عن المسجد الحرام" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله.   (1) الأثر: 4084 رواه الطبري في تاريخه 2: 264- 265- وسيأتي تمامه برقم: 4102. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 4086 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وعُثمان الجزريّ، وعن مقسم مولى ابن عباس قال: لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ في أول ليلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى، فقتله، وهو أول قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا: أتقتلون في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام" = يقول: وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله =" والمسجد الحرام" = وصد عن المسجد الحرام =" وإخراج أهله منه أكبر عند الله"، من قتل عمرو بن الحضرميّ =" والفتنة"، يقول: الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا = قال الزهري وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام، ثم أحِلّ [له] بعدُ. (1) 4087 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير"، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام،   (1) الحديث: 4086 - هذا حديث مرسل، مروي بإسنادين عن اثنين من التابعين، هما: الزهري ومقسم مولى ابن عباس. فرواه معمر عن الزهري ورواه عن عثمان الجزري عن مقسم. وهو ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: 26. وزدنا منه [الواو] في قوله: "وعن مقسم"، وكلمة [له] في آخر الحديث في قوله" ثم أحل [له] بعد". وعثمان الجزري: هو"عثمان بن ساج" ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/153، وهو غير"عثمان ابن عمرو بن ساج" الذي ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/162. وقد خلط بينهما الحافظ المزي في التهذيب، وتعقبه الحافظ ابن حجر. وانظر ما كتبنا في ذلك، في شرح المسند: 2562. مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين-: هو ابن بجرة، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل. وإنما قيل له"مولى ابن عباس" للزومه له. وهو تابعي ثقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 فقال الله جل وعز:" وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من القتل فيه = وأنّ محمدًا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب = وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ = وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" وغير ذلك أكبر منه،" صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه" إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ، والشرك بالله أشدُّ. 4088 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك: قال لما نزلت:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" إلى قوله:" والفتنة أكبرُ من القتل"، استكبروه. فقال: والفتنة = الشرك الذي أنتم عليه مقيمون = أكبر مما استكبرتم. 4089 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في جيش، فلقي ناسًا من المشركين ببطن نخلة، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من جمادى وهو أول يوم من رجب، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ، فقال المشركون: ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ الحرام، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه" إلى قوله" أكبر عند الله" من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي، و"الفتنة" - التي أنتم عليها مقيمون، يعني الشركَ -" أكبر من القتل". 4090 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وكان يسميها (1) - يقول: لقي واقدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله. 4091 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، فيمن نزلت؟ قال: لا أدري = قال ابن جريج: وقال عكرمة ومجاهد: في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج، وأخبرنا ابن أبي حسين، عن الزهري ذلك أيضًا. 4092 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد:" قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام"، - قال: يقول: صدٌ عن المسجد الحرام" وإخراج أهله منه" - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي -" والفتنة أكبر من القتل" - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان، أكبرُ من هذا كله. 4093 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير"، كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فعيّر المشركون المسلمين بذلك، فقال الله: قتال في الشهر الحرام كبير، وأكبر من ذلك صد عن سبيل الله وكفرٌ به، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام. قال أبو جعفر: وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع"الصد" و"الكفر به"، (2) وأن رافعه"أكبر عند الله". وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك عن ابن عباس، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف على"الكبير"، وقولِ من زعم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل الله،   (1) هكذا في المطبوعة، وأظن الصواب: "وكان يسميهما". (2) في المطبوعة"في رفع الصد به" والصواب ما أثبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 وزعم أن قوله:"وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله"، خبر منقطع عما قبله مبتدأ. * * * 4094 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، قال: يعني به الكفر. 4095 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من ذلك. ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، أي الشرك بالله أكبر من القتل. * * * وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس: 4096 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قتل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى وأول ليلة من رجب، أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيِّرونه بذلك، فقال:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وغيرُ ذلك أكبر منه:" صدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر" من الذي أصابَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم. * * * قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله:" وصدٌّ عن سبيل الله". فقال بعض نحويي الكوفيين: في رفعه وجهان: أحدهما، أن يكون" الصدُّ" مردودًا على" الكبير"، يريد: قل القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 به. وإن شئت جعلت" الصد"" كبيرًا"، يريد به: قل القتالُ فيه كبير، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر به. (1) * * * قال أبو جعفر: قال فأخطأ -يعني الفراء- في كلا تأويليه. وذلك أنه إذا رفع" الصد" عطفًا به على" كبير"، يصير تأويل الكلام: قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، وكفرٌ بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا. لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرًا بالله، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله"؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، كان أعظمَ عند الله من الكفر به، وذلك أنه يقول في أثره:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله". وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله من الكفر به، ما يُبين عن خطأ هذا القول. وأما إذا رفع" الصد"، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك رفعه بمعنى: وكبير صدٌّ عن سبيل الله، ثم قيل:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله" - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، أعظمُ عند الله من الكفر بالله والصدِّ عن سبيله، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك، داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل: (2) من تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله   (1) هو قول الفراء، كما سيأتي بعد في النص، وانظر معاني القرآن 1: 141. وقد رد الطبري كلام الفراء ردًا حكيما، وأظهر الفساد الذي ينطوي عليه قول من يقول في القرآن، وهو لا يحكم النظر في أحكام الله، فيظن كل جائز في العربية والنحو، جائزا أن يحمل عليه كتاب الله. وردود الطبري تعلم المرء كيف يتخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، من الأناة والتوقف والصبر والورع، أن تزل قدم في هوة من الضلال والجهالة وسوء الرأي. (2) في المطبوعة: "داخل من الخطأ مثل. . . " سقطت"في" من ناسخ فيما أرجح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على أحدٍ خطؤه وفسادُه (1) . * * * وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع" الصد"، ويزعم أنه معطوف به على" الكبير"، ويجعل قوله:" وإخراج أهله" مرفوعًا على الابتداء، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] ، وبقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [سورة التوبة: 5] * ذكر من قال ذلك: 4097 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء بن ميسرة: أحلَّ القتالَ في الشهر الحرام في" براءة" قوله: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] : يقول: فيهن وفي غيرهن. (2) 4098 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد. (3)   (1) أخال الشيء يخيل: اشتبه. يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد"، أي: لا يشكل على أحد. و"شيء مخيل"، أي مشكل. (2) الأثر: 4097 -"عطاء بن ميسرة" هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني يقال اسم أبيه"عبد الله"، ويقال"ميسرة". مات سنة 135، وانظر الاختلاف فيه، والإشكال في أمره وأمر عطاء بن أبي رباح في التهذيب في ترجمته. (3) الأثر: 4098 - هو بعض الأثر السالف: 4086. وانظر التعليق عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابتٌ = لا يحلّ القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال فيه كبيرًا. * ذكر من قال ذلك: 4099 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاجُ، عن ابن جريج، (1) قال: قلت لعطاء:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، قلت: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه؟ فحلف لي عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب. قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتَلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة: من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] . وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم.   (1) في المطبوعة: ". . . عن ابن جريج، عن مجاهد، قال قلت لعطاء. . . "، فقوله: "عن مجاهد" خطأ وزيادة مفسدة، فحذفتها. وانظر الأثر السالف رقم: 4901. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 وأخرى، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابه إليها يومئذ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع صلى الله عليه وسلم على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم، حتى رجع عثمان بالرسالة، جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح، فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرُم. فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وأنه منسوخ. فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد استحلال النبي صلى الله عليه وسلم إياهن لما وصفنا من حروبه. فقد ظنّ جهلا. وذلك أن هذه الآية - أعني قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهجرته إليها، وكانت وقعةُ حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك، كما:- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 4100 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غيرُ تائبين ولا نازعين = يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردُّوهم إلى الكفر، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة. (1) 4101 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، قال: كفار قريش. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" ومن يرتدد منكم عن دينه"، من يرجع منكم عن دينه، كما قال جل ثناؤه: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: 64] يعني بقوله:" فارتدَّا"، رجعا. ومن ذلك قيل:" استردّ فلان حقه من فلان"، إذا استرجعه منه. (2) وإنما أظهر التضعيف في قوله:" يرتدد" لأن لام الفعل ساكنة بالجزم، وإذا   (1) الأثر: 4100 - هو بعض الأثر السالف: 4082. والكلام من أول قوله: "يعني: على أن يفتنوا. . . " ليس في سيرة ابن هشام، ولا في تاريخ الطبري. فإما أن يكون من كلام الطبري، أو من كلام ابن حميد، أو بعض رواة الأثر. (2) انظر ما سلف 3: 163، وفهارس اللغة فيما سلف، ردد" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 سكِّنت فالقياس ترك التضعيف، وقد تضعَّف وتدغم وهي ساكنة، بناء على التثنية والجمع. * * * وقوله:" فيمت وهو كافر"، يقول: من يرجع عن دينه دين الإسلام،" فيمت وهو كافر"، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبَطت أعمالهم. * * * يعني بقوله:" حبطت أعمالهم"، بطلت وذهبت. وبُطولها: ذهابُ ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة. * * * وقوله:" وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: الذين ارتدُّوا عن دينهم فماتوا على كفرهم، هم أهل النار المخلَّدون فيها. (1) * * * وإنما جعلهم" أهلها" لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها المقيمون فيها، كما يقال:" هؤلاء أهل محلة كذا"، يعني: سكانها المقيمون فيها. * * * ويعني بقوله:" هم فيها خالدون"، هم فيها لابثون لَبْثًا، من غير أمَدٍ ولا نهاية. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: إنّ الذين صَدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به = وبقوله:" والذين هاجروا" الذين هجروا مُساكنة المشركين في أمصارهم   (1) انظر معنى"أصحاب النار" فيما سلف 2: 286. (2) انظر معنى"خالد" فيما سلف 2: 286- 287، وفهارس اللغة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم، (1) إلى غيرها هجرة ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... (2) لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصل المهاجرة:" المفاعلة" من هجرة الرجل الرجلَ للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" مهاجرين"، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً منهم النزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك. * * * وأما قوله:" وجاهدوا" فإنه يعني: وقاتلوا وحاربوا. * * * وأصل" المجاهدة"" المفاعلة" من قول الرجل:" قد جَهَد فلان فلانًا على كذا" -إذا كرَبَه وشقّ عليه-" يجهده جهدًا". فإذا كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة، قيل:" فلانٌ يجاهد فلانًا" - يعني: أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشق عليه -" فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا". * * * وأما" سبيل الله"، فطريقه ودينه. (3) * * *   (1) كان الكلام في المطبوعة متصلا بما بعده في موضع هذه النقط، ولكنه لا يستقيم ولا يطرد. ففصلت بين الكلامين. وظني أن سياق الكلام وتمامه: "فتحوَّلوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها هجرة، لما كرهوا من كفرهم وشركهم، وإيثارًا لجوار المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وسياق الكلام يدل على ذلك. (2) مكان هذه النقط خرم لا شك فيه، كأن ناسخًا أسقط سطرًا أو سطرين، وكان صدر الكلام فيما أتوهم. "هجر المكان يهجره هجرًا وهجرانًا وهجرة: كرهه فخرج منه، تاركًا لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه" - أو كلامًا هذا معناه. (3) انظر معنى"سبيل الله" فيما سلف، 2: 497/ 3: 564، 583. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 فمعنى قوله إذًا:" والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله"، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله =" أولئك يرجون رَحمه الله"، أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم. =" والله غفور"، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم بالرحمة. (1) * * * وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه. * ذكر من قال ذلك: 4102 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل، عن أبي السَّوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان، قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم -أظنه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنزل الله:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم". (2) 4103 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: أنزل الله عز وجل القرآنَ بما أنزلَ من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني: في قتلهم ابن الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمعُ أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيهم:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ".   (1) انظر معنى"غفور" فيما سلف من مراجعه في فهارس اللغة (غفر) . (2) الأثر: 4102 - هو من تمام الأثر السالف رقم: 4084، وهو بتمامه في الدر المنثور 1: 250 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. (1) 4104 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسنَ الثناء فقال:" إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمه الله والله غفورٌ رحيم"، هؤلاء خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجَا طلب، ومن خاف هرب. 4105 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشُربها. * * * و"الخمر" كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول القائل:" خَمَرت الإناء" إذا غطيته، و"خَمِر الرجل"، إذا دخل في الخَمَر. ويقال:" هو في خُمار الناس وغُمارهم"، يراد به دخل في عُرْض الناس. ويقال للضبع:" خامري أم عامر"، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغَمَره فهو"خمر".   (1) الأثر: 3103 - سيرة ابن هشام 2: 255، وهو تمام الأثر السالف: 4082. وكان في المطبوعة هنا: "فوفقهم الله من ذلك. . . "، والصواب ما أثبت من ابن هشام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 ومن ذلك أيضا"خِمار المرأة"، وذلك لأنها تستر [به] رأسها فتغطيه. ومنه يقال:" هو يمشي لك الخمَر"، أي مستخفيًا، كما قال العجاج: فِي لامِعِ العِقْبَانِ لا يَأتي الْخَمَرْ ... يُوَجِّهُ الأرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ (1) ويعني بقوله:" لا يأتي الخمر"، لا يأتي مستخفيًا ولا مُسارَقةً، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش. و"العقبان" جمع"عُقاب"، وهي الرايات. * * * وأما"الميسر" فإنها"المفعل" من قول القائل:" يسَرَ لي هذا الأمر"، إذا وجب لي" فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا" (2) و"الياسر" الواجب، بقداح وَجب ذلك، أو فُتاحة أو غير ذلك. (3) ثم قيل للمقامر،" ياسرٌ ويَسَر"، كما قال الشاعر: فَبِتُّ كَأَنَّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ ... يُقَلِّبُ، بَعْدَ مَا اخْتُلِعَ، القِدَاحَا (4) وكما قال النابغة: (5)   (1) ديوانه: 17، من قصيدة يذكر فيها فتوح عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، سلف منها بيتان في 2: 157. واقرأ التعليق هناك رقم: 2. ولمعت الرايات: خفقت. وقوله: "يوجه الأرض" يعني جيش عمر، أي يقشر وجهها من شدة وطئه وكثرته وسرعة سيره، يشبهه بالسيل. يقال: " وجه المطر الأرض"، قشر وجهها وأثر فيه. وقوله: "يستاق الشجر"، يقول: جيشه كالسيل المنفجر المتدافع يقشر الأرض، ويختلع شجرها، ويسوقه. (2) هذا المعنى لم أصبه في كتب اللغة، وأنا أظنه مجازًا من"الميسر"، لا أصلا في اشتقاق الميسر منه، لأن حظ صاحب الميسر واجب الأداء إذا خرج قدحه. (3) في المطبوعة: "أو مباحه"، ولا معنى لها، وكأن الصواب ما أثبت. والفتاحة (بضم الفاء) : الحكم بين الخصمين يختصمان إليك. (4) لم أعرف قائله. والغبين والمغبون: الخاسر. واختلع (بالبناء للمجهول) : أي قمر ماله وخسره، فاختلع منه، أي انتزع. والمخالع المقامر، والمخلوع: المقمور ماله. يقول: إنه بات ليلته حزينًا كاسفًا مطرقًا، إطراق المقامر الذي خسر كل شيء، فأخذ يقلب في كفيه قداحه مطرقًا متحسرا على ما أصابه ونكبه. (5) لم أجد البيت في شعر النابغة الذبياني، ولست أدري أهو لغيره من النوابغ، أم هو لغيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ القِدَاح بوَفْرِهِ ... أَسِفٌ تآكَلَهُ الصِّدِيقُ مُخَلَّعُ (1) يعني"بالياسر": المقامر. وقيل للقمار"ميسر". * * * وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك. 4106 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر" قال: القمار، وإنما سمّي"الميسر" لقولهم:"أيْسِروا واجْزُرُوا"، كقولك: ضع كذا وكذا. 4107- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز. 4108 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرًا، فإنهن من الميسر. (2) 4109 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص مثله. 4110 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن نافع قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زَجرًا، فإنها من الميسر.   (1) الوفر: المال الكثير الواسع. وأسف: حزين بالغ الحزن على ما فاته، يقال هو: أسف وآسف وأسفان وأسيف. وفي المطبوعة: "بآكله"، رجحت قراءتها"تآكله". والصديق، واحد وجمع. ومخلع: قد قمر مرة بعد مرة، فهلك ماله وفني. وقوله: " تآكله الصديق"، تناهبوه بينهم في الميسر وهم أصدقاؤه، وذلك أشد لحزنه لما يرى من سرورهم، ولما يؤسفه من ضياع ماله، ويحزنه من لؤم صديقه. (2) الكعاب والكعبات، جمع كعب وكعبة: وهي فصوص النرد وقوله: "تزجرونها زجرًا" من الزجر، وهو الحث والدفع، أو من زجر الطير، هو ضرب من العيافة والتكهن. يريد ما يكون معها من توقع الغيب وتطلبه. والموسومة: التي وسمت بسمة تميزها تكون علامة فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 4111 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: القمار ميسرٌ. 4112 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن محمد بن سيرين قال: كل شيء له خَطَرٌ = أو: في خَطَر، أبو عامر شك = فهو من الميسر. (1) 4113 - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنَّرد على القيام والصِّياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه. 4114 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام، فهو من الميسر. 4115 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال: الميسر القمار. 4116 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا المعتمر، عن ليث، عن طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز. 4117 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: الميسر القمار. 4118 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبيد الله قال: إياكم وهاتين الكَعْبتين يُزجر بهما زجرًا، فإنهما من الميسر. (2) 4119 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن عليه، عن ابن أبي   (1) الخطر: الرهن يخاطر عليه، ويقال له"السبق، والندب" (بالتحريك فيهما) ، وهو كله الذي يوضع في الرهان، فمن سبق أو غلب أخذه. (2) انظر التعليق السالف ص: 322، تعليق: 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 عروبة، عن قتادة قال: أما قوله:"والميسر"، فهو القمار كله. 4120 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبيد الله بن عمر: أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد" ميسر"، أرأيت الشطرنج؟ ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. 4121 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. (1) 4122 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: الميسر القمار. 4123 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: الميسر القمار. 4124 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الليث، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا الميسر القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان. 4125 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث، عن الضحاك قوله:" والميسر"، قال: القمار. 4126 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الميسر القمار. 4127 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو بدر شجاع   (1) المخاطرة: المراهنة، وقمر الرجل صاحبه يقمره (بكسر الميم) قمرًا: إذا لاعبه في القمار فغلبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 بن الوليد قال، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: القمار من الميسر. 4128 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الميسرُ، قداح العرب وكِعابُ فارس = قال: وقال ابن جريج: وزعم عطاء بن ميسرة: أن الميسر القمار كله. 4129 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال، قال مكحول: الميسر القمار. 4130 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال، حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر القمار. * * * وأما قوله:" قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهم:" فيهما"، يعني في الخمر والميسر" إثم كبير"، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما:- 4131 - حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:" فيهما إثمٌ كبير"، فإثم الخمر أنّ الرجل يشرَب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يُقامر الرجلُ فيمنعَ الحق ويظلم. 4132 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثم كبير"، قال: هذا أوَّل ما عِيبَتْ به الخمر. 4133 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" قل فيهما إثم كبير"، يعني ما ينقُص من الدين عند من يشربها. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل" الإثم الكبير" الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر: (1) في"الخمر" ما قاله السدي: (2) زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظمُ الآثام. وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في"الميسر"، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [سورة المائدة: 91] * * * وأما قوله:" ومنافع للناس"، فإن منافعَ الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى في صفتها. لَنَا مِنْ ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ ... وذِكْرَى هُمُوم مَا تُغِبُّ أَذَاتُهَا ... وَعِنْد العِشَاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌ ... وَمَالٌ كَثِير، عِزَّةٌ نَشَوَاتُهَا (3) وكما قال حسان:   (1) في المطبوعة: "والذي هو أولى بتأويل الآية الإثم الكبير" بزيادة"الآية" سبق بها قلم ناسخ، وصواب العبارة في حذفها. (2) في المطبوعة: "فالخمر ما قاله السدي. . . "، وسياق عبارته يقتضي ما أثبت. (3) ديوانه: 61، والأشربة لابن قتيبة: 70 والبيتان مصحفان تصحيفًا قبيحًا في المطبوعة، في البيت الأول"صحاها" بالصاد المهملة، و"ما تفك أداتها". وفي البيت الثاني"عده نشواتها" وفي الأشربة"عدة"، وفي الديوان"غدوة نشواتها" (بضم الغين ونصب التاء بفتحتين) . ونسخة الديوان أيضًا كثيرة التصحيف، فآثرت قراءة الكلمة"عزة". وذلك أن الأعشى يقول قبل البيتين: لَعَمْرُكَ إنَّ الرَّاحَ إِنْ كُنْتَ شاربًا ... لَمُخْتَلِفٌ آصَالُها وَغَدَاتُها ثم بين في البيت الثاني أنها في"الضحى" -وهو الغدوة- تعقب خبث النفس والكآبة والهموم المؤذية. ثم أتبع ذلك بما يكون عند العشي من طيب النفس واللذة - فلا معنى لإعادة ذكر"الغدوة" مرة أخرى، بل إنه لو فعل لنقض على نفسه البيت السالف، فصارت الخمر في الغدوة أو الضحى، مخبثة للنفس، ومبهجة لها في وقت واحد، وهذا باطل. فالصواب عندي أن تقرأ"عزة لنشواتها"، كقوله أيضًا: مِنْ قَهْوَةٍ بَاتَتْ بِبَابِلَ صَفْوَةٍ ... تَدَعَ الفَتَى مَلِكًا يَمِيلُ مُصَرَّعًا ويؤيد ذلك أن ابن قتيبة قدم قبل الأبيات السالفة: "وقال في الخمر أنها تمد في الأمنية" ثم ذكر الأبيات، فمعنى ذلك أنها تريه أنه صار ملكًا عزيزًا يهب المال الكثير إذا انتشى. وقوله: "ما تغب أذاتها" من قولهم: "غب الشيء" أي بعد وتأخر. تقول: "ما يغبك لطفي" أي ما يتأخر عنك يومًا، بل يأتيك كل يوم، تعني متتابعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا، مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ (1) وأما منافع الميسر، فما يصيبون فيه من أنصِباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَه نحره، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح، (2) وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة: وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ إلَى النَّدَى ... وَنِيَاطِ مُقْفِرَةٍ أَخَافُ ضَلالَهَا (3) * * *   (1) ديوانه: 4، والكامل 1: 74، وغيرهما، ونهنهه عن الشيء: زجره عنه وكفه ومنعه. أي: لا نخاف لقاء العدو. (2) الأنصباء جمع نصيب. والمياسرة: المقامرة. وفلج سهم المقامر وأفلج: فاز. وأعشار الجزور: الأنصباء. وكانوا يقسمونه عشرة أجزاء. (3) ديوانه: 23. الأيسار جمع يسر: وهو الذي يضرب القداح، واللاعب أيضًا، وهو المراد هنا. ورواية الديوان"دعوت لحتفها" والمقفرة: المفازة المقفرة. ونياط المفازة: بعد طريقها، كأنها نيطت -أي وصلت- بمفازة أخرى، لا تكاد تنقطع. وهو بيت من أبيات جياد يتمدح فيها الأعشى بفعله، يقول: وَسَبِيئَةٍ ممّا تُعَتِّقُ بَابِلٌ ... كَدَمِ الذَّبِيحِ، سَلَبْتُهَا جِرْيالَهَا وَغَرِيبَةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكِيمَةٍ ... قَد قُلْتُهَا لِيُقَالَ: مَنْ ذَا قالَهَا!! وجَزُورِ أيْسَارٍ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان الميسر عندهم من كرم الفعال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 4134 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المنافع ههنا ما يصيبون من الجَزور. 4135 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما منافعهُما، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار. 4136 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس"، قال: منافعهما قبل أن يحرَّما. 4137 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس:" ومنافع للناس"، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها. * * * واختلف القرأة في قراءة ذلك: فقرأه عُظْم أهل المدينة وبعضُ الكوفيين والبصريين:" قل فيهما إثم كبيرٌ" بالباء، بمعنى قل: في شرب هذه، والقمار هذا، كبيرٌ من الآثام. وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة:"قل فيهما إثمٌ كثيرٌ"، بمعنى الكثرة من الآثام. وكأنهم رأوا أن"الإثم" بمعنى"الآثام"، وإن كان في اللفظ واحدًا، فوصفوه بمعناه من الكثرة. (1)   (1) انظر معنى"الإثم" فيما سلف 3: 406 وما بعدها / ثم ص 550. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه "بالباء":" قل فيهما إثم كبير"، لإجماع جميعهم على قوله:" وإثمهما أكبر من نفعهما"، وقراءته بالباء. وفي ذلك دلالة بيّنة على أن الذي وُصف به الإثم الأول من ذلك، هو العظم والكبَر، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} قال أبو جعفر: يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب [الخمر] هذه والقمار هذا، أعظمُ وأكبرُ مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتَل بعضهم بعضًا، وإذا ياسرُوا وقع بينهم فيه بسببه الشرُّ، فأدَّاهم ذلك إلى ما يأثمون به. * * * ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يُصرَّح بتحريمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن سببهما يحدث. * * * وقد قال عددٌ من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما. * ذكر من قال ذلك: 4138 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعدَ ما حرِّما. 4139 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" ينزل المنافعَ قبل التحريم، والإثم بعد ما حرِّم. 4140 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم. 4141 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: ما يذهب من الدِّين والإثمُ فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها. * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهُرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان معلومًا بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما وصفنا - لا الإثم بعد التحريم. * * * * ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر: 4142 - حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثمٌ كبير ومنافع للناس" فكرهها قوم لقوله:" فيها إثم كبير"، وشربها قوم لقوله:" ومنافع للناس"، حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [سورة النساء: 43] ، قال: فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [سورة المائدة: 90] فقال عمر: ضَيْعَةً لك! اليوم قُرِنْتِ بالميسر! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 4143 - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال، سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثًا، فكان أول ما أنزل:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير" الآية، فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه! ثم نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) الآية، قالوا: يا رسول الله، لا نشربها عند قرب الصلاة. قال: ثم نزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حُرِّمت الخمر". (1)   (1) الحديث: 4143 - أبو عامر: هو العقدي -بفتح العين والقاف- عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة مأمون، روى عنه أحمد، وإسحاق، وابن المديني، وغيرهم. محمد بن أبي حميد الأنصاري الزرقي، واسم أبيه"إبراهيم": ضعيف منكر الحديث، اتفقوا على تضعيفه. أبو توبة المصري: لا يوجد راو بهذا الاسم، وإنما هو من تخليط محمد بن أبي حميد. وصحته"أبو طعمة الأموي" بضم الطاء وسكون العين المهملة، وهو مولى عمر بن عبد العزيز، شامي سكن مصر، وكان قارئًا، يقرئ القرآن بمصر. وهو تابعي ثقة. وهذا الحديث رواه الطيالسي في مسنده: 1957، عن محمد بن أبي حميد"عن أبي توبة المصري"، عن ابن عمر. وزاد في آخره قصة شق روايا الخمر، شقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر. ثم لعن شاربها وعاصرها. إلخ. ونقل ابن كثير في التفسير 3: 226، القسم الذي هنا فقط، عن مسند الطيالسي. ولكنه حين رأى الغلط في الإسناد"عن أبي توبة المصري" -تصرف تصرفًا سديدًا، فأثبته: "عن المصري"، ثم قال: "يعني أبا طعمة". فلم يغير في أصل الإسناد، وأشار إلى ما هو الصواب. وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 314- 315، ونسبه للطيالسي، والطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. والحديث الصحيح من رواية أبي طعمة: ما رواه أحمد في المسند: 5390، في قصة شق زقاق الخمر، ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنت الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها"- من طريق ابن لهيعة، عن أبي طعمة وقد فصلنا تخريجه في الاستدراك، رقم: 1765 في المسند. ورواه ابن عبد الحكم، في فتوح مصر، أطول قليلا من رواية المسند، ص 264 بإسنادين من طريق أبي شريح عبد الرحمن بن شريح، عن شراحيل بن بكيل- ومن طريق ابن لهيعة، عن أبي طعمة، كلاهما عن ابن عمر. وشراحيل بن بكيل: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 2/2/256. وابن أبي حاتم 2/1/373. ولم يذكرا فيه جرحًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 4144 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن قالا قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) = و" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، فنسختها الآية التي في المائدة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ، الآية. 4145 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف، عن أبي القَمُوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجلّ في الخمر ثلاثَ مرات. فأول ما أنزل قال الله:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يَهْجُران كلامًا لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله عز وجل فيهما: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص - رجلٌ، فجعل ينوح على قتلى بدر: تُحَيِّي بِالسَّلامَةِ أُمُّ عَمْروٍ ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ رَهْطِكِ مِنْ سَلامِ (1)   (1) سيأتي في تخريج هذا الأثر، أن رواية هذا الخبر تنسب هذا الشعر لأبي بكر الصديق، ونفي عائشة لذلك. وهذه الأبيات بعض أبيات من شعر لأبي بكر بن شعوب، اختلطت بشعر بحير بن عبد الله بن عامر القشيري. ومراجع الأبيات جميعًا هي: سيرة ابن هشام 3: 30 وتاريخ ابن كثير 3: 341، والوحشيات لأبي تمام: 425، والاشتقاق: 63، ونسب قريش: 301، ومن نسب لأمه (نوادر) : 82، وكنى الشعراء (نوادر) : 282، والبخاري 5: 65، وفتح الباري 7: 201، والإصابة (ترجمة أبي بكر بن شعوب) ، وغيرها. والبيت الأول والرابع والخامس، من أبيات رواها ابن هشام، والبخاري لأبي بكر بن شعوب، من الشعر الذي ذكر فيه قتلى بدر، والذي يقول في آخره: يُحَدِّثُنَا الرّسُولُ بأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ! وكان أبو بكر قد أسلم فيما يقال. أما البيتان الثاني والثالث فهما من أبيات قالها بحير بن عبد الله القشيري، يرثي هشام بن المغيرة، وكان شريفًا مذكورًا، وكانت قريش تؤرخ بموته، ولما مات نادى مناد بمكة: "اشهدوا جنازة ربكم"! فقال بحير يرثيه أبياتًا أولها: ذَرِيني أَصْطَبحْ يَا بَكْرُ، إِنِّي ... رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ وقد رواها لبحير بن عبد الله، الآمدي في المؤتلف والمختلف، وأبو تمام في الوحشيات، وابن دريد في الاشتقاق، ولكن المصعب في نسب قريش روى هذا البيت والذي يليه لأبي بكر بن شعوب في رثاء هشام. والصواب فيما أرجح مع من خالف المصعب. فإن البيتين الثاني والثالث، ظاهر أنهما مقحمان هنا، وهما ليسا في رواية الثقات، وفيهما ذكر هشام ورثاؤه، وهشام مات قبل الإسلام وقبل يوم بدر بدهر طويل. وشهد بدرًا ولداه الحارث بن هشام، وأبو جهل بن هشام = فلا معنى لذكره في رثاء قتلى بدر. هذا خلط في الرواية، حتى لو صح أن البيتين لأبي بكر بن شعوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 ذَرِيني أَصْطَبِحْ بَكْرًا، فَإنِّي ... رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ (1) وَوَدَّ بَنُو المُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ ... بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سَوَامِ ... كَأَيٍّ بالطَّو ... مِنْ الشِّيزَى يُكَلَّلُ بالسَّنَامِ (2) كَأَيٍّ بالطَّوِىِّ طَوِيِّ بَدْرٍ ... مِنَ الفِتْيَانِ والحُلَلِ الكِرَامِ (3) قال: فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزِعًا يجرُّ رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه، قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله! والله لا أطعمُها   (1) يروى: "يا بكر إني" و"يا هند إني". (2) في المطبوعة: "كأني"، والصواب"كأي" أي: كم. ويروى"وكم لك بالطوى" و"ماذا بالطوى". والطوى: البئر المطوية. والشيزى: خشب أسود تعمل منه القصاع والجفان. والسنام سنام البعير من ظهره. يقول: كم ألقي في هذه البئر من كريم مطعم. فجعل جفانه هي التي ألقيت في القليب، كأن لا أحد بعده يخلفه في كرمه وفعاله وإطعامه الضيف والفقير. (3) في المطبوعة"كأني" وانظر التعليق السالف. ويروى: "من القينات" جمع قينة، يقول ذهب اللهو فلا لهو بعدهم ولا منادمة، ويروى، "والشرب الكرام". هذا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بعد النصر في بدر أن تطرح القتلى في القليب (البئر) . في خبر مذكور في السير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 أبدًا! فأنزل الله تحريمها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا، انتهينا!! (1) 4146 - حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا إسحق الأزرق، عن زكريا، عن سماك، عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربعُ آيات:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فتركوها، ثم نزلت: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) [سورة النحل: 67] ، فشربوها ثم نزلت الآيتان في"المائدة": (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) 4147 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال نزلت هذه الآية:" يسألونك عن الخمر والميسر" الآية، فلم يزالوا بذلك يشربونها، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب، فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، ولم يفهمها. فأنزل الله عز وجل يشدد في الخمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار، أو ينتصف، فيقومون إلى صَلاة الظهر وهم مُصْحُون، (2) ثم لا يشربونها حتى يُصَلوا العَتَمة - وهي   (1) الحديث: 4145 -عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي، ترجمناه في: 2039. "عوف" هو ابن أبي جميلة الأعرابي، مضى في 2905. زيد بن علي أبو القموص، بفتح القاف وضم الميم: تابعي ثقة قليل الحديث. وروايته هذه مرسلة، لا تقوم بها حجة. وقد أشار إليها الحافظ في الإصابة 7: 21، وأنه رواها الفاكهي في تاريخ مكة، عن يحيى بن جعفر، عن علي بن عاصم، عن عوف بن أبي جميلة، عن أبي القموص. وأشار إليها أيضًا في الفتح 7: 201 وجزم بتضعيفها، لمعارضتها بما رواه الفاكهي نفسه، من وجه صحيح، عن عائشة، قالت: "والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية". ثم قال الحافظ: "وهي أعلم بشأن أبيها من غيرها. وأبو القموص لم يدرك أبا بكر، فالعهدة على الواسطة. فلعله كان من الروافض". وهذا هو الحق. (2) صحا السكران يصحو فهو صاح، وأصحى فهو مصح: ذهب سكره وأفاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر، سكروا وأخذوا في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري، فرفع لَحْي البعير فكسر أنف سعد، (1) فأنزل الله نَسْخ الخمر وتحريمها وقال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) 4148 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة - وعن رجل، عن مجاهد - في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر"، قال: لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعضٌ، حتى نزل تحريمها في"سورة المائدة". 4149 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبير"، قال: هذا أول ما عِيبت به الخمر. (2) 4150 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فذمَّهما الله ولم يحرِّمهما، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنزل الله في"سورة النساء" أشد منها: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم   (1) اللحى (بفتح اللام وسكون الحاء) حائط الفم، وهما العظم الذي فيه الأسنان من داخل الفم، وللبعير والإنسان وغيرهما: لحيان، أعلى وأسفل. (2) الأثر: 4149 - مضى بنصه هذا برقم: 4132. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 حرامًا. ثم أنزل الله جل وعز في"سورة المائدة" بعد غزوة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فجاء تحريمها في هذه الآية، قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجبُ إليهم منها. (1) 4151 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يُقدِّم في تحريم الخمر، قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ ربكم يقدِّم في تحريم الخمر. قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) ، فحرّمت الخمر عند ذلك. 4152 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر" الآية كلها، قال: نسخت ثلاثةً، (2) في"سورة المائدة"، وبالحدّ الذي حدَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وضَرْب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدًّا، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه، ولم يكن حدًّا مسمًّى وهو حَدٌّ، وقرأ: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية. (3)   (1) قوله: "عيش" مجاز حسن، لم تقيده كتب اللغة، ويعني به: المتاع واللذة. وأصل"العيش": المطعم والمشرب وما تكون به الحياة. فنقل إلى المتاع، ومثله ما جاء في الأثر: "لا عيش إلا عيش الآخرة"، فأولى أن يفسر بالمتاع واللذة. (2) يقال: "نسخت ثلاثًا"، أي ثلاث مرات من النسخ، ويجوز"نسخت ثلاثة" كما هنا، أي ثلاثة نسوخ، لتذكير"النسخ". (3) يعني أن آية البقرة هذه، نسختها آية المائدة نسخًا واحدًا، ثم جعل الله حدها الضرب غير مسمى العدد، فكان نسخًا ثانيًا، ثم اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه في عدد الضرب وصورته، فكان اجتهاده نسخًا ثالثًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بذلك: ويسألك يا محمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟ فقل لهم يا محمد: أنفقوا منها العفوَ. * * * واختلف أهل التأويل في معنى:" العفو" في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه: الفضل. * ذكر من قال ذلك: 4153 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا وكيع = ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: العفوُ ما فضل عن أهلك. 4154 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قل العفو"، أي الفضْل. 4155 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو الفضل. 4156 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:"العفو"، قال: الفضل. 4157 - حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"العفو"، يقول: الفضل. 4158 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان القوم يعملون في كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 يوم بما فيه، فإن فضَل ذلك اليوم فَضْل عن العيال قدَّموه، ولا يتركون عِيالهم جُوَّعًا ويتصدقون به على الناس. 4159 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو الفضل، فضل المال. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عفوًا لا يَبين على من أنفقه أو تصدّق به. * ذكر من قال ذلك: 4160 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما لا يتبيَّن في أموالكم. 4161 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس في قول الله جل وعز:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: اليسير من كل شيء. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافًا ولا إقتارًا. * ذكر من قال ذلك: 4162 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: لا تجهَد مالك حتى ينفد للناس. 4163 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو في النفقة: أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد فتسأل الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 4164 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال سألت عطاء عن قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو ما لم يسرفوا ولم يَقتروا في الحق = قال: وقال مجاهد: العفو صدقة عن ظَهْر غنى. 4165 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو أن لا تجهد مالك. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:" قل العفو"، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرًا. * ذكر ذلك من قال ذلك: 4166 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ما طابَ من أموالكم. * ذكر من قال ذلك: 4167 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: يقول: الطيِّبَ منه، يقول: أفضلَ مالك وأطيبَه. 4168 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: كان يقول: العفو، الفضل، يقول: أفضل مالك. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة. * ذكر من قال ذلك: 4169 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس، عن مجاهد - شك أبو عاصم = قول الله جل وعز:" قل العفو"، قال: الصدقة المفروضة. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى"العفو": الفضلُ من مالِ الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصَدقته في وجوه البر: (1) * ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: 4170 - حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار! قال:"أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر! قال:"أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر! قال: أنفقه على ولدك! قال: عندي آخر؛ قال: فأنتَ أبْصَرُ! (2)   (1) في المطبوعة: "وصدقة في وجوه البر". والصواب ما أثبت، يعني أن التصدق بالعفو في وجوه البر، أما الزكاة المفروضة، فلها شأن آخر، كما سيأتي بعد. (2) الحديث: 4170 -علي بن مسلم بن سعيد أبو الحسن الطوسي، نزيل بغداد: ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، وابن معين، وأبو داود، وغيرهم، مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 12 108- 109. أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد. ابن عجلان: هو محمد: مضت ترجمته: 304. المقبري: هو سعيد بن أبي سعيد. والحديث رواه أحمد في المسند: 7413، بزيادة في أوله، عن يحيى -وهو القطان- عن ابن عجلان، به، نحوه. وقد بينا هناك تخريجه في أبي داود، والنسائي، والمستدرك للحاكم، وابن حبان. وذكره السيوطي 1: 253، ونسبه لهؤلاء والطبري، عدا المسند. ونقله ابن كثير 1: 503 عن الطبري، ثم قال: "وقد رواه مسلم في صحيحه". وقد وهم رحمه الله. فإن الحديث ليس في صحيح مسلم، على اليقين. بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 4171 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج، قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم". (1) 4172 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هرون قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: هاتها! مغضبًا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجَّه أو عقَره، ثم قال:"يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس يتكفف الناس!! إنما الصدقة عن ظهر غِنًى. (2)   (1) الحديث: 4171 -رواه أحمد في المسند: 14323 (3: 305 حلبي) ، بنحوه، مع قضة في أوله - من طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر. ورواه مسلم 1: 274، نحو رواية المسند - من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير. ثم من طريق أيوب، عن أبي الزبير. وذكره ابن كثير 1: 503، ونسبه لمسلم. وذكره السيوطي 1: 254، ونسبه لمسلم والنسائي. (2) الحديث: 4172 - عاصم بن عمر بن قتادة: مضى في: 1519. ووقع في المطبوعة"عاصم عن عمر بن قتادة". وهو خطأ واضح. والحديث رواه أبو داود: 1673، عن موسى بن إسمعيل، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 413، من طريق موسى بن إسمعيل، به وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي 1: 253- 254، وزاد نسبته لابن سعد، وهو في طبقات ابن سعد 4/2/19، من وجه آخر، من رواية"عمر بن الحكم بن ثوبان"، عن جابر. حذفه بالشيء رماه به. تكفف الناس: تعرض لمعروفهم باسطا يده، ليتلقى منهم ما يتصدقون به عليه. وقوله: "عن ظهر غني" أي عن غنى يستقيم به أمره ويقوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 4173 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم المخرّمي قال: سمعت أبا الأحوص يحدث، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ارضَخْ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تُلام على كَفاف". (1) * * * = وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب. فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته، الصدقةَ من أموالهم بالفضل   (1) الحديث: 4173 - إبرهيم المخرمي: هكذا ثبت في المطبوعة، ولا يوجد راو -فيما أعلم- بهذا الاسم. والراجح عندي، بل الذي أكاد أوقن به، أنه محرف عن"إبراهيم الهجري"، فالحديث حديثه. والرسم مقارب. والهجري: هو إبرهيم بن مسلم العبدي الكوفي، وهو ضعيف. ضعفه ابن عيينة، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم. وهذا الحديث جزء من حديث، ذكره السيوطي 1: 254، قال: "أخرج أبو يعلى، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال وعن المسألة ما استطعت، فإن أعطيت خيرًا فلير عليك، وابدأ بمن تعول، وارضخ من الفضل، ولا تلام على الكفاف". وكذلك ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 10، وقال: "رواه أبو يعلى، والغالب على روايته التوثيق. ورواه الحاكم، وصحح إسناده". وهكذا حكى السيوطي والمنذري تصحيح الحاكم إياه. ولنا على ذلك تعقيب: أنه ليس في المستدرك تصحيحه -كما سيأتي. فإن لم يكن السيوطي نقل عن المنذري وقلده، يكن في نسخة المستدرك المطبوعة سقط التصحيح الذي حكياه. وأول الحديث إلى قوله"ويد السائل السفلى" -رواه أحمد في المسند: 4261، عن القاسم بن مالك، عن الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- مرفوعًا. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 97 أوله عن المسند وأبي يعلى، وزيادة آخره عن أبي يعلى. وقال: "ورجاله موثقون". ورواية الحاكم إياه - هي في المستدرك 1: 408، بثلاثة أسانيد، لم يذكر لفظه فيها كاملا. بل ذكر في أولها أنه سقط عليه تمام الحديث، ثم ذكر في الآخرين بعض الحديث، ولم يذكره كله. ولم يذكر فيه تصحيحًا ولا تضعيفًا، ولا قال الذهبي شيئًا في ذلك في مختصره. رضخ له من ماله يرضخ رضخًا، ورضخ له رضيخة: أعطاه القليل اليسير. والكفاف: هو الذي يكف المرء عن سؤال الناس: يقول: إذا لم يكن عندك فضل مال تبذله، لم تلم على أن لا تعطي أحدًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 عن حاجة المتصدق، فالفضل من ذلك هو"العفو" من مال الرجل، (1) إذْ كان"العفو"، في كلام العرب، في المال وفي كل شيء: هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه:" حتى عَفَوْا" بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، (2) ومنه قول الشاعر: (3) وَلكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ منا ... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (4) يعني به: كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل:"خذ ما عفا لك من فلان"، يراد به ما فضل فصفا لك عن جُهده بما لم يَجْهده = (5) كان بيِّنًا أنّ الذي أذن الله به في قوله:" قل العفو" لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه، هو الذي بيّن لأمته رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"خير الصدقة ما أنفقت عن غنى"، وأذِنهم به. * * * فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك"العفو" هو الصدقة المفروضة؟ (6)   (1) في المطبوعة: "الفضل من ذلك. . . " بحذف الفاء، والفاء لا بد منها ليستقيم الكلام. (2) انظر ما قاله في معنى"عفا" فيما سلف: 3: 370. (3) هو لبيد بن ربيعة. (4) ديوانه قصيدة 2: 19، ثم يأتي في التفسير 9: 6 (بولاق) ، وفي المطبوعة هنا"يعض السيف منا" وهو خطأ، والصواب ما في الموضع الآخر والديوان. وهذا البيت من أبيات يفخر فيها بإكرامهم الضيف، ولا سيما في الشتاء، يقول إذا جاء الشتاء ببرده وقحطه: فَلاَ نَتَجَاوَزُ العَطِلاتِ مِنْها ... إلى البَكْرِ المُقَارِبِ والكَزُوم ولكنّا نُعِضّ السَّيْف. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والضمير في"منها" للإبل. يقول: لا نتجاوز عند الذبح فندع النوق الطوال الأعناق السمينات، إلى بكر دنيء أو بكر هرم، ولكننا نعض السيف، أي نضرب بالسيف حتى يعض في اللحم -بعراقيب السمينات العظام الأسنمة، وهي الكوم، جمع كوماء. (5) قوله: "كان بينا. . . " جواب قوله: "فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم. . . " كان بينا. . . "، وأذن هنا بمعنى: أعلم وأخبر. (6) "الصدقة المفروضة" يعني: الزكاة المفروضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة، أنّ عليه أن يسلمه إليهم، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله، إليهم. (1) وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم - لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه إنفاقهم من أموالهم"عفوا"، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم"جهد" في حالة. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن معنى"العفو" هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنًا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه:"ما لم يتبيّن في أموالكم"، (2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة:"إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يكفيك من ذلك الثلث! "، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا من ذلك. (3) والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [سورة الفرقان: 67] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [سورة الإسراء: 29] ، وذلك هو ما حدَّه صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله. * * * ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة. * ذكر من قال ذلك: 4174 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة. 4175 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [سورة الأعراف: 199] ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسمَّاةً. 4176 - حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، هذه نسختها الزكاة. * * * وقال آخرون: بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة. * ذكر من قال ذلك: 4177 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس = عن مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال: العفو الصدقة المفروضة. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية، من أن قوله:" قل العفو" ليس بإيجاب فرض فُرض من الله حقًا في ماله، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة مما يُسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه   (1) في المطبوعة: "الواجب كان لهم ما له إليهم"، وزيادة"في" واجبة لتمام المعنى واستقامته يعني:. . . أداء الواجب في ماله إليهم، وقوله: "كان لهم" صفة لقوله"الواجب". (2) انظر هذا القول فيما سلف قريبًا ص: 338. (3) حديث توبة أبي لبابة بن المنذر، وانخلاعه من ماله في المسند 3: 452، 502 قال، لما تاب الله عليه في أمر غزوة بني قريظة (انظر سيرة ابن هشام 3: 247، 248) يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي، وأن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك الثلث. وأما خبر كعب بن مالك، فهو خبر الثلاثة الذين خلفوا (رواه البخاري في غزوة بني قريظة 6: 7) ، فلما تاب الله عليه قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى رسوله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 محمدًا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضًا. فهو أدبٌ من الله لجميع خلقه على ما أدَّبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابتُ الحكم، غيرُ ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوعَ وهباته وعطايا النفل وصدقته، ما أدَّبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:"إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه، ثم بأهله، ثم بولده"، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو"القَوام" بين الإسراف والإقتار، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه = إن شاء الله تعالى. * * * ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه، وقد أجمع الجميعُ لا خلاف بينهم: على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقةً وهِبهً ووصيةً، الثلثَ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ؟ فإن زعم أنه يعني بقوله:"إنه منسوخ"، أنّ إخراج العفو من المال غير لازم فرضًا، وإن فرض ذلك ساقطٌ بوجود الزكاة في المال = = قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضًا فأسقطه فرضُ الزكاة، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضًا، إذ لم يكن أمرٌ من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جوابُ ما سأل عنه القوم على وَجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات؟ ولا سبيل لمدَّعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادَّعى. * * * قال أبو جعفر: وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة"العفو". فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعُظم قرأة الكوفيين:" قل العفو" نصبًا. وقرأه بعض قرأة البصريين:"قل العفو" رفعًا. فمن قرأه نصبًا جعل"ماذا" حرفًا واحدًا، ونصبه بقوله:" ينفقون"، على ما قد بيَّنت قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 - (1) ثم نصب"العفو" على ذلك. فيكون معنى الكلام حينئذ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟ ومن قرأ رفعًا جعل"ما" من صلة"ذا"، ورفعوا"العفو". فيكون معنى الكلام حينئذ: ما الذي ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، العفو. ولو نصب"العفو"، ثم جعل"ماذا" حرفين، بمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل: ينفقون العفو = ورفع الذين جعلوا"ماذا" حرفًا واحدًا، بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، خبرًا = (2) كان صوابًا صحيحًا في العربية. وبأي القراءتين قرئ ذلك، فهو عندي صواب، (3) لتقارب معنييهما، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجبَ القراءتين إليّ، وإن كان الأمر كذلك، قراءةُ من قرأه بالنصب، لأن من قرأ به من القرأة أكثر، وهو أعرف وأشهرُ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره:" كذلك يُبين الله لكم الآيات"، هكذا يبين = أي: ما بينت لكم أعلامي وحُججي - وهي"آياته" - في هذه السورة، وعرَّفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبَّهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حُجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 292، 293. (2) يعني: ورفعوه على أنه خبر"الذي ينفقون". (3) في المطبوعة: "قرئ ذلك عندي صواب" والصواب زيادة"فهو"، أو يقول: "كان عندي صوابا". . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 الهدى = فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحُججي وأوضحها لكم، لتتفكروا في وعدي ووعيدي، وثوابي وعقابي، فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة، والفوز بنعيم الأبد، (1) على القليل من اللذات واليسير من الشهوات، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية، التي من ركبها كان معاده إليّ، ومصيره إلى ما لا قِبَل له به من عقابي وعذابي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 4178 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. 4179 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا. 4180 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قوله:" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال: أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما = قال: وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضًا. 4181 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) في المطبوعة: "فتجاوزوا طاعتي. . . " وهو خطأ، والصواب ما أثبت. يقال: "اخترت فلانًا على فلان"، بمعنى آثرته عليه. وعدي"الاختيار" بقوله"على" لتضمنها معنى: "فضلت". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 قوله: " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} اختلف أهل التأويل فيمَ نزلت هذه الآية. (1) فقال بعضهم: نزلت [في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره، وذلك حين نزلت (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الأنعام: 152] ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [سورة النساء: 10] . * ذكر من قال ذلك] : (2) 4182 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الأنعام: 152، والإسراء: 34] عزلوا أموال اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلمَ المفسدَ من المصْلح، ولو شاء الله لأعنتكم"، فخالطوهم. (3)   (1) في المطبوعة: "فيما نزلت"، والأجود ما أثبت. (2) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق الكلام، واستجزت أن أزيدها بين الأقواس في متن الكتاب، حتى لا تنقطع على القارئ قراءته، وكان مكانها في المطبوعات والمخطوطات بياض. (3) الأثر: 4182 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 278 مطولا، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وكان في المطبوعة. "فإخوانكم ولو شاء لأعنتكم"، فأتممت الآية على تنزيلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 4183 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: 10] ، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامَه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل الشيء من طعامه فيُحبس له حتى يأكله أو يفسُد. فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:" ويسألونك عن اليتامى قل إصْلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم"، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. (1) 4184 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، قال: كنا نصنع لليتيم طعامًا فيفضُل منه الشيء، فيتركونه حتى يَفسد، فأنزل الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم". (2) 4185- حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم قال: سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، اجتُنبت مخالطتهم، واتقوا كل شيء، حتى اتقوا الماء، فلما نزلت" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: فخالطوهم. 4186 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ويسألونك عن اليتامى" الآية كلها، قال: كان الله أنزل قبل ذلك في   (1) الأثر: 4183 - أخرجه أبو داود 3: 155 رقم: 2871، والنسائي 6: 256. (2) الأثر: 4184 - قوله"عن سعيد قال" يعني قال ابن عباس، كما هو ظاهر الخبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 "سورة بني إسرائيل" (1) (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال:" وإن تخالطوهم فإخوانكم". 4187 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشق ذلك على الناس، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:" ويسألونك عن اليتامى قُل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم". 4188 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم" الآية، قال: فذكر لنا والله أعلمُ أنه أنزل في"بني إسرائيل": (2) (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم"، يقول: مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم. يقول: الوليّ الذي يلي أمرهم، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم. * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 4189 - حدثني عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:" إنّ الذينَ يأكلون أموالَ اليتامى ظُلما إنما يأكلون في بطونهم" الآية، قال: كان يكون في حِجْر الرجل اليتيمُ فيعزل طعامه وشرابه وآنيته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنزل   (1) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء". (2) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح"، فأحل خُلطتهم. (1) 4190 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي قال: لما نزلت هذه الآية:" إنّ الذين يأكلونَ أموالَ اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسَيصْلونَ سعيرًا"، قال: فاجتنب الناس الأيتامَ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه، وماله من ماله، وشرابه من شرابه. قال: فاشتد ذلك على الناس، فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح". قال الشعبي: فمن خالط يتيما فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل. 4191 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير"، وذلك أن الله لما أنزل:" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصْلون سعيرًا"، كره المسلمون أن يضمُّوا اليتامى، وتحرَّجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم". 4192 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: لما نزلت"سورة النساء"، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم" = قال ابن جريج، وقال مجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم، (2) فشقّ ذلك عليهم، فنزلت:" وإن تخالطوهم   (1) الأثر: 4189- أخرجه النسائي 6: 256- 257. وفي المطبوعة: "فأحل لهم خلطم والهصوا من النسائي. (2) الأدم (بضم فسكون) والإدام: ما يؤتدم به، أي ما يؤكل بالخبر أي شيء كان، وفي الحديث: "نعم الإدام الخل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 فإخوانكم"، قال: مخالطة اليتيم في المراعي والأدْم = قال ابن جريج، وقال ابن عباس: الألبان وخِدمة الخادم وركوب الدابة = قال ابن جريج: وفي المساكن، قال: والمساكن يومئذ عزيزةٌ. 4193 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت:" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" و" إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا"، قال: اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه، حتى كان يفسُد، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير" (1) 4194 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس بن سعد، شك أبو عاصم - عن مجاهد:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: مخالطة اليتيم في الرِّعْي والأدْم. (2) * * * وقال آخرون: بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم، فأفتوا بما بيَّنه الله في كتابه. * ذكر من قال ذلك: 4195 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح"، قال: كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا،   (1) الأثر: 4193- أخرجه النسائي 6: 256. (2) الرعي (بكسر الراء وسكون العين) : الكلأ نفسه، كالمرعى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه، فقال:" قل إصلاح لهم خيرٌ"، يصلح له ماله وأمره له خيرٌ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويرْكب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجودُ" والله يعلم المفسدن من المصلح". 4196 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ" إلى" إن الله عزيز حكيم"، وإن الناس كانوا إذا كان في حِجْر أحدهم اليتيمُ جعل طعامه على ناحية، ولبنه على ناحية، مخافة الوِزر، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْد، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدمًا لليتامى، فقال الله:" قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم" إلى آخر الآية. 4197 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" ويسألونك عن الناس"، كانوا في الجاهلية يعظِّمون شأنَ اليتيم، فلا يمسُّون من أموالهم شيئًا، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعامًا. فأصابهم في الإسلام جَهْدٌ شديد، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأنِ اليتامَى وعن مخالطتهم، فأنزل الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، يعني"بالمخالطة": ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشربَ اللبن. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة، فقل لهم: تفضُّلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مَرْزِئة شيء من أموالهم، (1) وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خيرُ لكم عند الله وأعظمُ   (1) يقال: "رزأه في ماله رزءًا (بضم فسكون) ومرزئة (بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي) : أصاب منه خيرًا ما كان، فنقص من ماله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 لكم أجرًا، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب = وخيرٌ لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم ="وإنْ تخالطوهم" فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضمُّوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويكنُفُ بعضهم بعضًا، (1) فذو المال يعينُ ذا الفاقة، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره: فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك، إن خالطتموهم بأموالكم = فخلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم، وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتم من أموالهم فَضْل مَرْفَق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبابهم، على النظر منكم لهم نظرَ الأخ الشفيق لأخيه، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه = فذلك لكم حلالٌ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض، كما:- 4198 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: قد يخالط الرجل أخاه. 4199 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مسكين، عن إبراهيم قال: إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرة. (2) 4200 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مالُ اليتم عندي عُرَّةً، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. (3) * * *   (1) كنفه يكنفه: حاطه وصانه وكان إلى جنبه وعاونه، والمكانفة: المعاونة. وأصلها من"الكنف"، وهو حضن الرجل. ويقال: "هو في كنف الله"، أي في كلاءته وحفظه وحرزه ورعايته. (2) العرة: القذر وعذرة الناس، يريد: أن يتجنبه تجنب القذر. (3) الأثر: 4200- في تفسير ابن كثير 1: 505، والدر المنثور 1: 256، ولم أجده في مكان آخر. و"العرة"، سلف شرحها. وفي تفسير ابن كثير"عندي حدة"، ولعل صوابها ما في التفسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال:" فإخوانُكم"، فرفع"الإخوان"؟ وقال في موضع آخر: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) [سورة البقرة: 239] قيل: لافتراق معنييهما. وذلك أنّ أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. و"الإخوان" مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره، وهو"هم" لدلالة الكلام عليه = وأنه لم يرد"بالإخوان" الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانًا من أجل مخالطة وُلاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد، لكانت القراءة نصبًا، وكان معناه حينئذ: وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرئ رفعًا لما وصفت: من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم، خالطوهم أو لم يخالطوهم. وأما قوله: (فرجالا أو رُكبانًا) ، فنصبٌ، لأنهما حالان للفعل، غير دائمين، (1) ولا يصلح معهما"هو". وذلك أنك لو أظهرت"هو" معهما لاستحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل:"إن خفت من عدوك أن تصلي قائمًا فهو راجل أو راكب"، لبطل المعنى المرادُ بالكلام؟ وذلك أن تأويل الكلام. فإن خفتم أن تصلوا قيامًا من عدوكم، فصلوا رجالا أو ركبانًا. ولذلك نصبه إجراءً على ما قبله من الكلام، كما تقول في نحوه من الكلام:"إن لبست ثيابًا فالبياض" فتنصبه، لأنك تريد: إن لبست ثيابًا فالبس البياض - ولستَ تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض. ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت:"إن لبستَ ثيابًا فالبياضُ" رفعًا، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس، أنّ كل ما يلبس من الثياب فبياضٌ. لأنك تريد حينئذ: إن لبست ثيابًا فهي بياضٌ. (2)   (1) في المطبوعة"غير ذاتيين":، وهو تصحيف فاحش لا معنى له، والصواب ما أثبت والحال غير الدائمة، هي الحال المشتقة المنتقلة، والدائم هو الجامد والثابت. (2) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1: 141- 142. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 فإن قال: فهل يجوز النصب في قوله:" فإخوانكم". قيل: جائز في العربية. فأما في القراءة، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه. وأما في العربية، فإنما أجزناه، لأنه يحسن معه تكريرُ ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما: وإن تخالطوهم، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزًا في كلام العرب. (1) * * * (2) القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن ربكم قد أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، (3) فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قِبل لكم بها، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه - فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه - ما الذي يقصد بمخالطته إياه: إفسَاد ماله وأكله بالباطل، أم إصلاحه وتثميره؟ لأنه لا يخفى عليه منه شيء، (4) ويعلم أيُّكم المريد إصلاح ماله، من المريد إفسادَه. كما:-   (1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1: 141- 142. (2) من أول تفسير هذه الآية يبدأ الجزء الرابع من المخطوطة العتيقة التي اعتمدناها. وأولها: {بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم} ربّ أَعِن برَحْمَتِك} (3) في المطبوعة والمخطوطة: "إن ربكم وإن أذن لكم. . . " وهو كلام مختل، وكأن الذي أثبت قريب من الصواب. (4) في المخطوطة"لا نها عليه منه شيء"، وفيها تصحيف لم أتبينه، والذي في المطبوعة جيد في سياق المعنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 4201 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره:" والله يعلم المفسد من المصلح" قال: الله يعلم حين تخلط مالك بماله: أتريد أن تصلح ماله، أو تفسده فتأكله بغير حق؟ 4202 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي:" والله يعلم المفسد من المصلح"، قال الشعبي: فمن خالط يتيمًا فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعلْ. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو شاء الله لحرَّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالَهم، فجَهَدكم ذلك وشقّ عليكم، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حق الله تعالى والواجب عليكم في ذلك من فرضه، ولكنه رخَّص لكم فيه وسهله عليكم، رحمةً بكم ورأفةً. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" لأعنتكم". فقال بعضهم بما:- 4203 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد - أو عيسى، عن قيس بن سعد - عن مجاهد = شك أبو عاصم = في قول الله تعالى ذكره:" ولو شاء الله لأعنتكم" لحرم عليكم المرعى والأدْم.   (1) الأثر: 4202- في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني أبو السائب، قال حدثنا أشعث. . . "، وهو إسناد ناقص، أسقط"قال حدثنا حفص بن غياث"، وقد مضى هذا الإسناد مرارًا، أقربه: 4190، وهذا الأثر مختصره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 قال أبو جعفر: يعني بذلك مجاهد: رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم، والأكلَ من إدامه. لأنه كان يتأول في قوله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، أنه خُلْطة الوليّ اليتيم بالرِّعْي والأدْم. (1) * * * 4204 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ولو شاء الله لأعنتكم"، يقول: لو شاء الله لأحرجكم فضيَّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء: 6] 4205 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:" ولو شاء الله لأعنتكم"، يقول: لجهدكم، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدُّوا فريضة. 4206 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع نحوه = إلا أنه قال: فلم تعملوا بحقّ. 4207 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولو شاء الله لأعنتكم"، لشدد عليكم. 4208 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال: لشقّ عليكم في الأمر. ذلك العنتُ. 4209 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قوله:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال: ولو شاء الله لجعل ما أصبتُم من أموال اليتامى مُوبقًا. * * * وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرت عنه، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها، فإنها متقارباتُ المعاني. لأن من حُرِّم عليه شيء فقد ضُيِّق عليه في ذلك   (1) انظر الأثر السالف رقم: 4194. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 الشيء، ومن ضُيق عليه في شيء فقد أحْرِج فيه، ومن أحرج في شيء أو ضيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه: الشدة والمشقة. ولذلك قيل:"عَنِت فلانٌ" = إذا شق عليه الأمر، وجهده، = (1) "فهو يعنَتُ عَنَتًا"، كما قال تعالى ذكره: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [سورة التوبة: 128] ، يعني ما شق عليكم وآذاكم وجَهدكم، ومنه قوله تعالى ذكره: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) [سورة النساء: 25] . فهذا إذا عَنِت العانِت. فإن صيَّره غيره كذلك، قيل:"أعنته فلانٌ في كذا" = إذ جهده وألزمه أمرًا جهده القيام به ="يُعْنِته إعناتًا". فكذلك قوله:" لأعنتكم" معناه: لأوجب لكم العنَت بتحريمه عليكم ما يَجْهدكم ويحرجكم، مما لا تطيقون القيام باجتنابه، وأداء الواجب له عليكم فيه. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم. * ذكر من قال ذلك: 4210 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قرأ علينا:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا. 4211 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل - وجرير، عن منصور = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور = عن الحكم،   (1) في المطبوعة: "عنت فلانًا" وهو خطأ، والفعل لازم، كما سيأتي. وفي المخطوطة والمطبوعة: "إذا شق عليه وجهده"، والصواب زيادة"الأمر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 عن مقسم، عن ابن عباس:" ولو شاء الله لأعنتكم" قال: لجعل ما أصبتم مُوبقًا. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله"عزيز" في سلطانه، لا يمنعه مانع مما أحل بكم من عقوبة لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه فقصرتم في القيام به، ولا يقدرُ دافعٌ أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله، (2) ولكنه بفضل رحمته منَّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك = وهو"حكيم" في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب، (3) لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً. * * *   (1) الأثر: 4211- قد سلف بالإسناد الثاني برقم: 4209. (2) في المطبوعة: "لو فعله هو لكنه"، والصواب الجيد من المخطوطة. (3) في المخطوطة: "ولا وهاء ولا عيب". وقد سلف في هذا الجزء 4: 18، 155، والتعليق رقم: 1، وما قيل في خطأ ذلك، واستعمال الفقهاء له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نزلت مرادًا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ (1) وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: نزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت، (2) أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) إلى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة المائدة: 4-5] * ذكر من قال ذلك: 4212 - حدثني علي بن واقد قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، ثم استثنى نساءَ أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) حِلٌّ لكم (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . (3) 4213 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين   (1) في المطبوعة: "أم مرادًا بحكمها"، بالنصب، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "عابدة وثن أو كانت يهودية. . . "، وفي المخطوطة: "عابدة وثن كانت يهودية. . . "، وكلاهما مضطرب، والصواب ما أثبت بزيادة"كانت". (3) الأثر: 4212- في المخطوطة والمطبوعة"حدثني علي بن واقد، قال حدثني عبد الله ابن صالح"، والصواب ما أثبت. وهذا إسناد كثير الدوران فيما مضى وفيما سيأتي، وأقربه رقم: 4204. والآية في المطبوعة والمخطوطة كما أثبتها، بين جزئي الآية بقوله: "حل لكم"، وإسقاط قوله تعالى"من قبلكم"، وأخشى أن يكون ناسخ قد تصحف عليه فجعل هذه هذه. ولكني أثبت ما اتفقت عليه النسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين. 4214 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، قال: نساءُ أهل مكة ومن سواهنّ من المشركين، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب. 4215 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. 4216 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ولا تنكحوا المشركات" إلى قوله:" لعلهم يتذكرون"، قال: حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنزل في"سورة المائدة"، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . * * * وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء ولم يُستثن، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ تأويلها. (1) * ذكر من قال ذلك: 4217 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، يعني: مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. (2) 4218 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) في المخطوطة، والمطبوعة: "بل هي آية عامة ظاهرها. . . "، والصواب ما أثبت. (2) في المخطوطة، "يقرأ به" وتلك أجود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 معمر، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: المشركات، مَنْ ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية. (1) 4219 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتابٌ يقرأنه. 4220 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: مشركات أهل الأوثان. * * * وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركةٌ دون مشركة، وثنيةً كانت أو مجوسية أو كتابيةً، ولا نُسخ منها شيء. * ذكر من قال ذلك: 4221 - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرَّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال الله تعالى ذكره: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [سورة المائدة: 5] ، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا شديدًا، حتى همّ بأن يسطُو عليهما. فقالا نحن نطلِّق يا أمير المؤمنين،   (1) يعني: حذيفة بن اليمان، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب سره صلى الله عليه وسلم في المنافقين. لم يعلمهم أحد إلا حذفة، أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر الأثر الآتي برقم: 4221. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 ولا تغضب! فقال: لئن حل طلاقُهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة: من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ" من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات = وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء = وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أنّ الله تعالى ذكره أحل بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) - للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثلَ الذي أباح لهم من نساء المؤمنات. وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وفي كتابنا (كتاب اللطيف من البيان) : (2) أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيًا حكم الآخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضَى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مَجيئُه. وذلك غير موجود، أن قوله: (3) (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ناسخٌ ما كان قد وجبَ تحريمه من النساء بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ". فإذ لم يكن ذلك موجودًا كذلك، (4) فقول القائل:"هذه ناسخة هذه"، دعوى لا برهان له عليها، والمدعي دعوَى   (1) الأثر: 4221-"عبد الحميد بن برهام الفزاري"، مترجم في التهذيب، وثقه أبو داود وابن معين وغيرهما، وقال شعبة: صدوق إلا أنه يروي عن شهر بن حوشب، وعابوا عليه كثرة روايته عن شهر، وشهر ضعيف. وقد سلف كلام أخي في توثيق شهر رقم: 1389، وفي عبد الله بن بهرام: 1605. وقال ابن كثير في التفسير 1: 507 بعد روايته الخبر: "هو حديث غريب جدًا، وهذا الأثر غريب عن عمر". وكلام الطبري الآتي بعد قاض بضعفه. والصغرة جمع صاغر: هو الراضي بالذل. وقماء جمع قميء: وهو الذليل الصاغر وإن لم يكن قصيرًا. والقميء: القصير. وفي المخطوطة وابن كثير"قمأة"، وليس جمعًا قياسيا، ولا هو وارد في كتب اللغة، ولكن إن صح الخبر، فهو إتباع لقوله: "صغرة" ومثله كثير في كلامهم. (2) انظر ما سلف 2: 534- 535/ ثم 3: 385، 563. (3) في المطبوعة: "بأن قوله": وأثبت ما في المخطوطة، وهو أعرق في العربية. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن لم يكن ذلك"، وهو خطأ صرف، والصواب ما أثبت. وإلا تناقض كلام أبي جعفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 لا برهان له عليها متحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ. (1) * * * وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين، فقولٌ لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك، بإسناد هو أصح منه، وهو ما:- 4222 - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب قال، قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. (2) * * * وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما. كما: 4223 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر:" خلِّ سبيلها"، فكتب إليه:" أتزعُمُ أنها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ "، فقال:" لا أزعم   (1) حجج أبي جعفر في استدلاله، قاضية له على كل خصم خالفه، وهي حجج بصير بالمعاني، مؤيد بالعقل، قادر على البيان عن المعاني الخفية، والفصل بين المعاني المتداخلة. (2) الحديث: 4222- هذا إسناد صحيح متصل إلى عمر. محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي الحافظ: ثقة باتفاقهم. سفيان بن سعيد: هو الثوري. زيد بن وهب الجهني. تابعي كبير مخضرم، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبض وهو في الطريق. وهو ثقة كثير الحديث. له ترجمة في تاريخ بغداد 8: 440- 442، والإصابة 3: 46- 47. وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 172، من طريق سفيان -وهو الثوري- بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 1: 507- 508، عن رواية الطبري، وصحح إسناده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن". (1) وقد:- 4224 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوَّجون نساءَنا. (2) * * * فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به، لإجماع الجميع على صحة القول به، أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب. * * * فمعنى الكلام إذًا: ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركاتٍ، غير أهل الكتاب، حتى يؤمنَّ فيصدِّقن بالله ورسوله وما أنزل عليه. * * *   (1) الخبر: 4223- الصلت بن بهرام التيمي الكوفي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقد فصلنا القول في شأنه في صحيح ابن حبان، رقم: 81 بتحقيقنا. شقيق: هو ابن سلمة الأسدي، التابعي الكبير المشهور. مضى في: 177. والخبر رواه البيهقي أيضًا 7: 172، من طريق سفيان، بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 1: 507، عن رواية الطبري، وقال: "وهذا إسناد صحيح. وروى الخلال، عن محمد بن إسماعيل، عن وكيع، عن الصلت، نحوه". وذكره السيوطي 1: 256، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق. وذكره الجصاص في أحكام القرآن 1: 333، والقرطبي في تفسيره: 3: 68، بدون إسناد. ووقع في المطبوعة هنا، وفي ابن كثير، والسيوطي"المؤمنات"!! بدل"المومسات". وهو تحريف غريب، في ثلاثة كتب. وصوابه وتصححه من البيهقي والجصاص والقرطبي. (2) الحديث: 4224- إسحق الأزرق: هو إسحق بن يوسف، مضى في: 332. شريك: هو ابن عبد الله النخعي القاضي، مضى في: 2527. الحسن: هو البصري. وهذا الحديث لم أجده في شيء من دواوين الحديث، غير هذا الموضع. ونقله عنه ابن كثير 1: 508 ثم نقل كلام الطبري الذي عقبه، ثم قال: "كذا قال ابن جرير رحمه الله". وتعقيب ابن جرير بأنه"وإن كان في إسناده ما فيه" - لعله يشير رحمه الله إلى القول بأن الحسن البصري لم يسمع من جابر. ففي المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 13"حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال: قال علي بن المديني: الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئًا. سئل أبو زرعة: الحسن لقي جابر بن عبد الله؟ قال: لا. حدثنا محمد بن سعيد بن بلج، قال: سمعت عبد الرحمن بن الحكم يقول سمعت جريرًا يسأل بهزًا عن الحسن: من لقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يسمع من جابر بن عبد الله. سألت أبي: سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول: عن الحسن، حدثنا جابر بن عبد الله، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرًا". وأنا أرى أن رواية هشام بن حسان كافية في إثبات سماع الحسن من جابر. فقد قال ابن عيينة: "كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن". ومعنى هذا الحديث ثابت عن جابر، موقوفا عليه من كلامه. رواه الشافعي في الأم ج 5 ص 6، من رواية أبي الزبير، عن جابر، وكذلك رواه البيهقي 7: 172، من طريق الشافعي. والموقوف -عندنا- لا يعلل به المرفوع، بل هو يؤيده ويثبته، كما بينا ذلك في غير موضع من كتبنا. والحمد لله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولأمة مؤمنة" بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خيرٌ عند الله وأفضل من حرة مشركة كافرة، وإن شرُف نسبها وكرُم أصلها. يقول: ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله، فإنّ الإماء المسلمات عند الله خير مَنكحًا منهن. * * * وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة، فعُذل في ذلك، وعُرضت عليه حرة مشركة. * ذكر من قال ذلك: 4225 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم"، قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداءُ، وأنه غضب عليها فلطمها. ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوءَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 هذه مؤمنة! فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتِقنَّها ولأتزوجنَّها! ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: تزوج أمة!! وكانوا يريدون أن يَنكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله فيهم:" ولأمةٌ مؤمنة خيرٌ من مشركة" و" عبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك". 4226 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج قال، قال ابن جريج في قوله:" ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمنَّ"، قال: المشركات - لشرفهن - حتى يؤمن. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال، فلا تنكحوها، فإن الأمة المؤمنة خيرٌ عند الله منها. * * * وإنما وضعت"لو" موضع"إن" لتقارب مخرجيهما، ومعنييهما، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صَاحبتها، على ما قد بينا فيما مضى قبْل. (1) * * *   (1) انظر ما سلف 2: 458 ومعاني القرآن للفراء 1: 143. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، ولو شرُف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه. * * * وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول: هذا القولُ من الله تعالى ذكره، دلالةٌ على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة. 4227 - حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي قال، أخبرنا حفص بن غياث، عن شيخ لم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بوليّ في كتاب الله، ثم قرأ:" ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" برفع التاء. 4228 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري في قوله:" ولا تنكحوا المشركين"، قال: لا يحل لك أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك. 4229 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج:" ولا تنكحوا المشركين" - لشرفهم -" حتى يؤمنوا". 4230 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري:" ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا"، قال: حرَّم المسلمات على رجالهم - يعني رجال المشركين. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" أولئك"، هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم، يدعونكم إلى النار = يعني: يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم ولا تنكحوا إليهم، فإنهم لا يألونكم خبالا ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلى الجنة = يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة، ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم، فيعفو عنها ويسترها عليكم. * * * وأما قوله:" بإذنه"، (1) فإنه يعني: أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيلَه وطريقَه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة. * * * ثم قال تعالى ذكره:" ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون"، يقول: ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده، ليتذكروا فيعتبروا، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دَعَّاءٌ إلى النار والخلود فيها، والآخر دَعَّاءٌ إلى الجنة وغفران الذنوب، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ [غَبين] الرأي مدخول العقل. * * *   (1) انظر معنى"الإذن" فيما سلف 2: 449/ ثم هذا الجزء 4: 286 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ويسألونك عن المحيض"، ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض. * * * وقيل:"المحيض"، لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتح عين الفعل، وكسرها في الاستقبال، مثل قول القائل:" ضرَب يضرِب، وحبَس يحبِس، ونزل ينزل"، فإن العرب تبني مصدره على"المفعَل" والاسم على"المفعِل"، مثل"المضرَب، والمضرِب" من"ضربتُ"،"ونزلت منزلا ومنزلا". ومسموع في ذوات الياء والألف والياء،"المعيش والمعاش" و"المعيبُ والمعاب"، كما قال رؤبة في المعيش: إلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعيشِ ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي (1) * * * وإنما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر لنا - عن الحيض، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره، لا يساكنون حائضًا في بيت، ولا يؤاكلونهنَّ في إناء ولا يشاربونهن. فعرَّفهم الله بهذه الآية، أنّ الذي عليهم في أيام حيض نسائهم: أن يجتنَّبوا جماعهن فقط، دون ما عدا ذلك من   (1) ديوانه: 78، من قصيدة يمدح فيها الحارث بن سليم الهجيمي، وبين البيتين في الديوان: * دَهْرًا تَنَفَّى المُخَّ بِالتَّمْشِيشِ * ورواية الديوان، بعده: وَجَهْدَ أَعْوَامٍ بَرَيْنَ رِيشِي ... نَتْفَ الحُبَارى عَنْ قَرًى رَهِيشِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن، كما:- 4231 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ:" حتى يطهرن" فكان أهلُ الجاهلية لا تساكنهم حائضٌ في بيت، ولا تؤاكلهم في إناءٍ، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك، فحرَّم فرْجها ما دامت حائضًا، وأحل ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك، إذا كان عليها إزارٌ محتجزةً به دونك. (1) 4232 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهنّ في أدبارهن، فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن، ثم أذن لهم - إذا تطهَّرن من حيضهن - في إتيانهن من حيث أمرَهم باعتزالهنَّ، وحرم إتيانهن في أدبارهنَّ بكل حال. * ذكر من قال ذلك: 4233 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد قال، كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله:" ويسألونك عن المحيض" إلى:" فإذا تطهرن فأتوهنّ من حيث أمركم الله" - في الفرج لا تعدوه. (2) * * *   (1) احتجز بالإزار: إذا شده على وسطه. والحجزة (بضم الحاء وسكون الجيم) : موضع شد الإزار، ثم يسمى الإزار نفسه حجزة، وجمعه حجز. (2) في المطبوعة: "ولا تعدوه"، والصواب في المخطوطة بحذف الواو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 وقيل: إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابتَ بن الدَّحداح الأنصاري. 4234 - حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض:"هو أذى". * * * "والأذى" هو ما يؤذى به من مكروه فيه. وهو في هذا الموضع يسمى"أذى" لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى، غير واحدة. * * * وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض. فقال بعضهم: قوله:" قل هو أذى"، قل هو قَذَر. * ذكر من قال ذلك: 4235 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" قل هو أذى"، قال: أما"أذى" فقذرٌ. 4236 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" قل هو أذى"، قال:"قل هو أذى"، قال: قذرٌ. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وقال آخرون: قل هو دمٌ. * ذكر من قال ذلك: 4237 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ويسألونك عن المحيض قل هو أذى"، قال: الأذى الدم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فاعتزلوا النساء في المحيض"، فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهنّ، كما:- 4238 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فاعتزلوا النساء في المحيض"، يقول: اعتزلوا نكاحَ فُروجهنّ. * * * واختلف أهل العلم في الذي يجب على الرجل اعتزاله من الحائض. فقال بعضهم: الواجبُ على الرجل، اعتزالُ جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه. * ذكر من قال ذلك: 4239 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما يحلُّ لي من امرأتي إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى. (1)   (1) الأثر: 4239- في المطبوعة والمخطوطة: "اللحاف واحد والفراش شتى". وهو باطل المعنى، وسيأتي على الصواب من طريق آخر برقم: 4241. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 4240 - حدثني تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا محمد، عن الزهري، عن عروة، عن ندبة مولاة آل عباس قالت: بعثتني ميمونة ابنة الحارث - أو: حفصة ابنة عمر - إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابةٌ من قبل النساء، فوجدت فراشَها معتزلا فراشَه، فظنت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشِه فراشَها، فقالت: إنيّ طامث، وإذا طمثت اعتزل فراشي. فرجعتُ فأخبرتُ بذلك ميمونة - أو حفصة - فردَّتني إلى ابن عباس، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه وإنها لحائض، وما بينه وبينها إلا ثوبٌ ما يجاوز الركبتين. (1) 4241 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى، فإن لم يجد إلا أن يردَّ عليها من ثوبه، ردَّ عليها منه. * * *   (1) الحديث: 4240- يزيد: هو ابن هرون. محمد: هو ابن إسحاق. ندبد مولاة آل عباس: هي مولاة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، خالة ابن عباس. فلعلها نسبت هنا"مولاة آل عباس" للقرابة بين ابن عباس وميمونة. وهي ثقة، ذكرها ابن حبان في الثقات ص: 359، ولكنه وهم إذ ذكر أنه يروي عنها الزهري؛ والزهري روى عنها بالواسطة. وترجمها ابن سعد 8: 364. وذكرها ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة. واختلف في ضبط اسمها، فقيل بضم النون أو فتحها مع سكون الدال ثم فتح الباء الموحدة. وقيل بدية" بضم الباء الموحدة ثم فتح الدال ثم فتح الياء التحتية المشددة. والحديث رواه أحمد في المسند 6: 332 (حلبي) عن يزيد بن هرون، بهذا الإسناد، نحوه، مع بعض اختصار. وهو في روايته عن ميمونة جزمًا، ليس فيه الشك بينها وبين حفصة. وهو الصواب ولعل الشك هنا من الطبري، أو من شيخه تميم بن المنتصر. ثم إن ابن إسحاق خطأ هنا في جعل الحديث"عن الزهري، عن عروة". ولعل الخطأ من يزيد بن هرون. والصواب أنه"عن الزهري، عن حبيب مولى عروة، عن ندبة". وبذلك تضافرت الروايات في هذا الإسناد، كما سيأتي. ويؤيده أن ابن سعد ذكر في ترجمتها أنها تروي عن عروة، وروى بإسناده خبرًا عنها عن عروة بن الزبير. و"حبيب مولى عروة": هو حبيب الأعور، مولى عروة بن الزبير. وهو تابعي ثقة، قال ابن سعد: "مات قديمًا في آخر سلطان بني أمية". وأخرج له مسلم في صحيحه. والحديث رواه -على الصواب- البيهقي في السنن الكبرى 1: 313، من طريق بشر بن شعيب بن أبي حمزة، عن أبيه، عن الزهري، قال: "أخبرني حبيب مولى عروة بن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس. . . "، فذكره مطولا. ثم إن الحديث معروف من هذا الوجه على الصواب، مختصرًا بدون ذكر قصة ابن عباس. فرواه أحمد في المسند 6: 332 (حلبي) ، عن حجاج وأبي كامل، عن الليث، عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة، ولم يذكر لفظه، وأحاله على الرواية السابقة. ثم رواه بعد ذلك، ص: 335- 336، عن حجاج وأبي كامل، بالإسناد نفسه. وذكر لفظه مختصرًا عن ميمونة، دون القصة. وكذلك رواه أبو داود: 267، وابن حبان في صحيحه 2: 569 (مخطوطة الإحسان) . والبيهقي 1: 313 - كلهم من طريق الليث بن سعد، به. وكذلك رواه النسائي 1: 54- 55، 67، من طريق يونس والليث- كلاهما عن ابن شهاب، به مختصرًا. فعن هذه الروايات كلها استيقنت أن رواية ابن إسحاق -هنا وعند أحمد-"عن الزهري، عن عروة" خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 واعتل قائلو هذه المقالة: بأنّ الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهنّ، ولم يخصصن منهن شيئًا دون شيء، وذلك عامٌّ على جميع أجسادهنّ، واجبٌ اعتزالُ كل شيء من أبدانهن في حيضهنّ. * * * وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن، موضع الأذى، وذلك موضعُ مخرج الدم. * ذكر من قال ذلك: 4242 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال، حدثنا مروان الأصفر، عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. (1)   (1) الحديث: 4242- مروان الأصفر، أبو خلف: تابعي ثقة: و"الأصفر": بالفاء، ووقع في المطبوعة بالغين. وهو تحريف. مسروق بن الأجدع الهمداني: تابعي كبير ثقة، من سادات التابعين وفقهائهم. وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 510 عن هذا الموضع. وكذلك نقله السيوطي 1: 260، ولم ينسباه لغير الطبري. وهو عندنا حديث مرفوع بالمعنى، وإن كان لفظه موقوفًا على عائشة. لأن الصحابي إذا حكى عما يحل ويحرم فالثقة به أن لا يحكي ذلك إلا عمن يؤخذ عنه الحلال والحرام، وهو معلم الخير، صلى الله عليه وسلم. وهذا عند الإطلاق، إلا أن تدل دلائل على أنه يقول ذلك اجتهادًا واستنباطًا من دلائل الكتاب والسنة. وانظر الأحاديث التالية لهذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 4243 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سعيد بن زريع قال، حدثنا سعيد = وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد = عن قتادة قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشَين وذو اللحافين؟! (1) 4244 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم على الرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: فرجها. (2) 4245 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أنّ مسروقًا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته. فقالت عائشة: أبو عائشة! مرحبًا! فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمُّك، وأنت ابني! فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها. (3) 4246 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت: له ما فوق الإزار. (4)   (1) في المخطوطة: "وأينا كان. . . ". (2) الحديث: 4244- سالم ابن أبي الجعد: تابعي ثقة معروف، أخرج له الأئمة الستة. وهذا الحديث في معنى الحديث السابق: 4242، من وجه آخر، وبلفظ آخر. وإسناده صحيح. (3) الحديث: 4245- وهذا في معنى الحديثين السابقين، مع تفصيل في قصة السؤال والجواب. وإسناده صحيح أيضًا. (4) الحديث: 4246- ابن أبي زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، مضى في: 2338. حجاج: هو ابن أرطأة. وهذا في معنى ما قبله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 4247 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع: أن عائشة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان عليها إزار. 4248 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي معشر قال: سألتُ عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج. (1) 4249 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال، قال ابن عباس: إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبًا أو ما يكفُّ الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدُها زوجَها. (2) 4250 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: ما فوق الإزار. 4251 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا الحكم بن فضيل، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتق من الدم مثل موضع النعل. (3)   (1) الحديث: 4248- هكذا وقع هذا الإسناد هنا. وهو إسناد ناقص على اليقين. فإن"أبا معشر": هو زياد بن كليب التميمي الحنظلي، وهو يروي عن التابعين. وهو ثقة، ولكنه لم يدرك عائشة، فلا يمكن أن يقول: "سألت عائشة". وصواب الإسناد، كما في المحلى لابن حزم 2: 183"روينا عن أيوب السختياني، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق، قال: سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قالت: كل شيء إلا الفرج". فسقط من الإسناد رجلان: إبراهيم النخعي، ومسروق، وهو الذي سأل عائشة. وهكذا ذكره ابن حزم، فلم يذكر إسناده إلى أيوب. وقد رواه الطحاوي في معاني الآثار 2: 22، بإسناده، من طريق عمرو بن خالد، عن عبيد الله -وهو ابن عمرو الرقى الجزري-"عن أيوب، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة". ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية أخرى قبله، بمعناه. (2) الخبر: 4249 -هذا إسناد منقطع- محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: تابعي ثقة معروف. ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة، كما صرح بذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 32/184. (3) الخبر: 4251- الحكم بن فضيل، أبو محمد الواسطي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في الكبير 1/2/337، وابن أبي حاتم 1/2/126- 127، والتعجيل، والميزان، ولسان الميزان. وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 8: 221- 223. والبخاري لم يذكر فيه حرجًا. والخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 1: 314، من طريق الحسن بن مكرم. عن أبي النضر هاشم بن القاسم، بهذا الإسناد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 4252 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة. (1) 4253 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج - يعني وهي حائض. 4254 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن قال: يبيتان في لحاف واحد - يعني الحائض - إذا كان على الفرج ثوب. 4255 - حدثنا تميم قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن ليث قال: تذاكرنا عند مجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض، قال: اطعن بذكرك حيث شئت فيما بين الفخذين والأليتين والسرة، ما لم يكن في الدبر أو الحيض. (2) 4256 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر قال: يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفَّت الأذى. 4257 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني   (1) الحديث: 4252 - هذا إسناد صحيح. وهو وإن كان موقوفًا على أم سلمة، فإن معناه ثابت عنها مرفوعًا أيضًا: فروى البيهقي 1: 311، من طريق يزيد بن زريع، "حدثنا خالد، عن عكرمة، عن أم سلمة: أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحاف، فأصابها الحيض، فقال لها: قومي فاتزري ثم عودي". وثبت نحو معناه عن أم سلمة أيضًا، بأطول من هذا، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، مرفوعًا. رواه مسلم 1: 95، والبيهقي 1: 311، وذكر أنه أخرجه البخاري ومسلم. (2) في المطبوعة: "حيثما شئت"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 عمران بن حدير قال، سمعت عكرمة يقول، كل شيء من الحائض لك حلال غير مجرى الدم. * * * قال أبو جعفر: وعلة قائل هذه المقالة، قيامُ الحجة بالأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض، ولو كان الواجبُ اعتزالَ جميعهنّ، لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله:" فاعتزلوا النساءَ في المحيض"، هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قُبُلها، دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها. * * * وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهنّ في حال حيضهن، ما بين السرّة إلى الركبة، وما فوق ذلك ودونه منها. * ذكر من قال ذلك: 4258 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن شريح قال: له ما فوق السرة - وذكر الحائض. 4259 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يزيد، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن الحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار. 4260 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قال شريح: له ما فوق سُرَّتها. 4261 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن واقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: سئل سعيد بن المسيب: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما فوق الإزار. * * * وعلة من قال هذه المقالة، صحةُ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:- 4262 - حدثني به ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني = وحدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الشيباني = قال حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد قال، سمعت ميمونة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض، أمرها فأتزرت". 4263 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار. (1) 4264 - حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، أمرها فأتزرت بإزار ثم يباشرها. 4265 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرَها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتزر، ثم يباشرها. (2)   (1) الحديثان: 4262، 4263 - حفص: هو ابن غياث، الشيباني سليمان: هو أبو إسحاق الشيباني سليمان بن أبي سليمان. وسفيان في الحديث الثاني: هو الثوري. والحديثان في معنى واحد. وقد ذكره ابن كثير 1: 511، بلفظ أولهما عن الصحيحين، وكذلك ذكره السيوطي 1: 259، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. وأبي داود، والبيهقي. وانظر البخاري 1: 64، ومسلم 1: 95، والسنن الكبرى 1: 311. (2) الحديثان: 4264، 4265- هما حديث واحد بإسنادين. وذكره السيوطي 1: 259، عن ابن أبي شيبة، والصحيحين، وأبي داود، وابن ماجه، بزيادة في آخره. وانظر البخاري 1: 63. ومسلم 1: 95، وأبا داود: 112، 113، والنسائي 1: 54، 67، والبيهقي 1: 310- 311. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 ونظائر ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب ذكر جميعها الكتاب (1) قالوا: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائز، وهو مباشرة الحائض ما دون الإزار وفوقه، وذلك دون الركبة وفوق السرة، وما عدا ذلك من جسد الحائض فواجبٌ اعتزالُه، لعموم الآية. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتَزَر ودونه، لما ذكرنا من العلة لهم. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (3) فقرأه بعضهم:" حتى يطهرن" بضم"الهاء" وتخفيفها. وقرأه آخرون بتشديد"الهاء" وفتحها. وأما الذين قرءوه بتخفيف"الهاء" وضمها، فإنهم وجهوا معناه إلى: ولا تقربوا النساء في حال حيضهنّ حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطهُرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 4266 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: انقطاع الدم.   (1) في المخطوطة: "جميع ذكرها"، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المخطوطة إسقاط قوله: "لهم". (3) في المطبوعة: "اختلف القراء"، وقد مضى مثل ذلك مرارًا، وتركناه في بعض المواضع كما هو في المطبوعة. ولكنا سنقيمه منذ الآن على المخطوطة دون الإشارة إليه بعد هذا الموضع إلى آخر الكتاب، إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 4267 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، - أو عثمان بن الأسود -:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، حتى ينقطع الدم عنهن. 4268 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: حتى ينقطع الدم. (1) * * * وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد"الهاء" وفتحها، فإنهم عنوا به: حتى يغتسلن بالماء. وشددوا"الطاء" لأنهم قالوا: معنى الكلمة: حتى يتطهَّرْنَ، أدغمت"التاء" في"الطاء" لتقارب مخرجيهما. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) بتشديدها وفتحها، بمعنى: حتى يغتسلن - لإجماع الجميع على أن حرامًا على الرجل أن يقرَب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر. * * * وإنما اختُلف في"التطهر" الذي عناه الله تعالى ذكره، فأحل له جماعها. فقال بعضهم: هو الاغتسال بالماء، لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها. (2) وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة. وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها، فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانُها. * * *   (1) الأثر: 4268-"عبيد الله العتكي" هو عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي، رأى أنسًا، وروى عن عكرمة وسعيد بن جبير وغيرهما من التابعين. (2) في المطبوعة: "ولا يحل. . . " بزيادة الواو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 فإذا كان إجماعٌ من الجميع أنها لا تحلُّ لزوجها بانقطاع الدم حتى تطَّهر، كان بيِّنًا أن أولى القراءتين بالصواب أنفاهما للَّبس عن فهم سامعها. وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف"الهاء" وضمها، ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها، فيرى أن لزوج الحائض غشيانَها بعد انقطاع دم حيضها عنها، (1) وقبل اغتسالها وتطهُّرها. * * * فتأويل الآية إذًا: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهنّ، ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فإذا تطهَّرن فأتوهن"، فإذا اغتسلن فتطهَّرن بالماء فجامعوهن. * * * فإن قال قائل: أففرض جماعهن حينئذ؟ قيل: لا. فإن قال: فما معنى قوله إذًا:" فأتوهن"؟ قيل: ذلك إباحة ما كان منَع قبل ذلك من جماعهن، وإطلاقٌ لما كان حَظَر في حال الحيض، وذلك كقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [سورة المائدة: 2] ، وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) [سورة الجمعة: 10] ، وما أشبه ذلك. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فإذا تطهرن". فقال بعضهم: معنى ذلك، فإذا اغتسلن. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "أن للزوج غشيانها"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 4269 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاومة بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فإذا تطهَّرن" يقول: فإذا طهُرت من الدم وتطهَّرت بالماء. 4270 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن. (1) 4271 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله:" فإذا تطهرن"، يقول: اغتسلن. 4272 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو عثمان بن الأسود:-" فإذا تطهرن"، إذا اغتسلن. 4273 - حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عامر، عن الحسن: في الحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجُها حتى تغتسل وتحلَّ لها الصلاة. (2) 4275 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيره، عن إبراهيم: أنه كره أن يطأها حتى تغتسل - يعني المرأة إذا طهُرت. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا تطهَّرن للصلاة. * ذكر من قال ذلك: 4276 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن طاوس ومجاهد أنهما قالا إذا طهُرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرَها   (1) الأثر: 4270- كان في المطبوعة: "محمد بن مهدي"، وهو خطأ، وزيادة فاسدة والصواب من المخطوطة. و"ابن مهدي" هو عبد الرحمن بن مهدي. الإمام العلم، قال الشافعي: لا أعرف له نظيرًا في الدنيا. مات سنة 198 - مترجم في التهذيب وغيره. (2) سقط من الترقيم: 4274 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 بالوضوء قبل أن تغتسل - إذا أدركه الشَّبَق فليُصب. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: معنى قوله:" فإذا تطهَّرن"، فإذا اغتسلن، لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرًا الطُّهرَ الذي يحل لها به الصلاة. وإن القولَ لا يخلو في ذلك من أحد أمرين: = إما أن يكون معناه: فإذا تطهَّرن من النجاسة فأتوهن. فإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائزٌ لزوجها جماعُها، إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة. هذا، إن كان قوله:" فإذا تطهَّرن" جائزًا استعماله في التطهُّر من النجاسة، ولا أعلمه جائزًا إلا على استكراه الكلام. = أو يكون معناه: فإذا تطهَّرن للصلاة. وفي إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها، (1) إذا لم يكن هنالك نجاسة، دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته = أدلُّ الدليل على أن معناه: فإذا تطهرن الطهرَ الذي يجزيهن به الصلاة. وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا: من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله:" فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن فصرن طواهرَ الطهرَ الذي يجزيهنّ به الصلاة. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "في إجماع الجميع" بإسقاط الواو، والسياق يوجبها، وهذا سياقها؛"وفي إجماع الجميع. . . أدل الدليل. . . " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 القول في تأويل قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله". فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهَّرن من الوجه الذي نهيتُكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن، وذلك: الفرجُ الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض. (1) * ذكر من قال ذلك: 4277 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهُنَّ. 4278 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: في الفرج، لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد اعتدَى. 4279 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا. 4280 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس: أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو: يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ قال: بلى! فقرأ:" ويسألونك   (1) "الإتيان": كناية عن اسم"الجماع" وسيأتي تفسير ذلك في ص: 398 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 عن المحيض" حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، منْ ثَمَّ أمِرت أن تأتي. (1) 4281 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن عثمان، عن مجاهد قال: دبُر المرأة مثله من الرجل، ثم قرأ:" ويسألونك عن المحيض" إلى" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. (2) 4282 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: أمِروا أن يأتوهن من حيث نُهوا عنه. 4283 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، في الفرج، ولا تعْدوه. 4284 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: إذا تطهرن فأتوهن من حيث نُهي عنه في المحيض. 4285 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو: عثمان بن الأسود-:" فأتوهن من حيث أمركم الله" باعتزالهنّ منه. 4286 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، أي: من الوجه الذي يأتي منه المحيض، طاهرًا غيرَ حائض، ولا تعدوا ذلك إلى غيره.   (1) في المطبوعة: "ثم أمرت" بحذف"من"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ومما سيأتي رقم: 4325. بمعنى: هناك. وسيأتي الخبر بتمامه في رقم: 4325. وسنذكر فيه ترجمة رجاله. (2) الأثر: 4281 - في المطبوعة: "عمرة عن مجاهد"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. و"ابن أبي زائدة"، هو يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة. و"عثمان"، هو عثمان بن الأسود مولى بني جمح، وقد سلفت روايته عن مجاهد، أقربها رقم: 2782. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 4287 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: طواهرَ من غير جماع ومن غير حيض، من الوجه الذي يأتي [منه] المحيض، ولا يتعدَّه إلى غيره = قال سعيد: ولا أعلمه إلا عن ابن عباس. (1) 4288 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله"، من حيث نُهِيتم عنه في المحيض = وعن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله"، من حيث نُهيتهم عنه، واتقوا الأدبار. 4289 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن يزيد بن الوليد، عن إبراهيم في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: في الفرج. * * * وقال آخرون: معناها: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه. وذلك الوجه، هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية: فأتوهنّ من قُبْل طُهرهنّ لا من قُبْل حيضهن. (2) * ذكر من قال ذلك: 4290 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،   (1) قوله: "طواهر" جمع امرأة"طاهر"، وليس في كتب اللغة بل فيه"طاهرات" ولكنه جمع قياسي، مثل حامل وحوامل، وسيأتي في رقم: 4295، 4296، وسيأتي جمعها على"طهر" رقم 4298، 4300. وفي المطبوعة: "ولا يتعدى إلى غيره" والصواب من المخطوطة. (2) "قبل" (بضم فسكون) ، يقال: "كان ذلك في قبل الشتاء وقبل الصيف"، أي في أوله وعند إقباله. وفي الحديث: "طلقوا النساء لقبل عدتهن" - ويروى: "في قبل طهرهن" أي في إقباله وأوله، وحين يمكنها الدخول في العدة، والشروع فيها، فتكون لها محسوبة. وذلك في حالة الطهر. وكذلك قوله هنا: "من قبل الطهر"، أي: في حال الطهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يعني أن يأتيها طاهرًا غيرَ حائض. 4291 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قُبْل الطهر. (1) 4292 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بمثله. 4293 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: ائتوهنّ من عند الطهر. 4294 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا علي بن هاشم، عن الزبرقان، عن أبي رزين:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قُبْل الطهر، ولا تأتوهن من قُبْل الحيضة. (2) 4295 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول: طواهر غير حُيَّض. (3) 4296 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال يقول: طواهر غيرَ حُيَّض. (4) 4297 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا   (1) انظر ص 390، تعليق: 2. (2) في المطبوعة: "الحيض" وأثبتنا ما في المخطوطة. (3) انظر ما سلف رقم: 4287، والتعليق عليه. (4) انظر ما سلف رقم: 4287، والتعليق عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 أسباط، عن السدي قوله:" من حيث أمركم الله"، من الطهر. 4298 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"فأتوهن"، طُهَّرًا غير حيَّض. (1) 4299 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: ائتوهن طاهرات غير حُيَّض. 4300 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: طهَّرًا غير حيَّض في القُبُل. (2) * * * وقال آخرون: بلى معنى ذلك: فأتوا النساء من قِبل النكاح، لا من قِبل الفُجور. * ذكر من قال ذلك: 4301 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل الأزرق، عن أبي عمر الأسدي، عن ابن الحنفية:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قِبل الحلال، من قِبل التزويج. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قولُ من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قُبْل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى، فنهيٌ عن خلافه وضده. وكذلك النهي عن الشيء أمرٌ بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، فأتوهن من قِبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن - لوجب أن يكون قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهُرن"،   (1) قوله"طهر"، جمع امرأة"طاهر"، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف"طواهر" و"فاعل" الصفة، إذا كانت فيه"تاء" ظاهرة، مثل"ضاربة" - أو مقدرة مثل حائض فقياسه: "فواعل"، و"فعل" (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها) . (2) قوله"طهر"، جمع امرأة"طاهر"، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف"طواهر" و"فاعل" الصفة، إذا كانت فيه"تاء" ظاهرة، مثل"ضاربة" - أو مقدرة مثل حائض فقياسه: "فواعل"، و"فعل" (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 تأويله: ولا تقربوهن في مخرج الدم، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن. وفي إجماع الجميع =: على أن الله تعالى ذكره لم يُطْلِق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئًا حرَّمه في حال الطُّهر، ولا حرِّم من ذلك في حال الطهر شيئًا أحله في حال الحيض = ما يُعلم به فسادُ هذا القول. وبعد، فلو كان معنى ذلك على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة، لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله = (1) حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله، ويكون ذلك أمرًا بإتيانهن في فروجهن. لأنّ الكلام المعروفَ إذا أريد ذلك، أن يقال:" أتى فلان زَوجته من قِبَل فرجها" - ولا يقال: أتاها من فرجها - إلا أن يكون أتاها من قِبَل فرجها في مكان غير الفرج. * * * فإن قال لنا قائل: فإنَّ ذلك وإنْ كان كذلك، فليس معنى الكلام: فأتوهن في فروجهن - وإنما معناه: فأتوهن من قِبَل قُبُلهن في فروجهن -، كما يقال:" أتيتُ هذا الأمرَ من مَأتاه". قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم، فقد يجب أن يكون معنى قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم، ومن حيث أمِرتم باعتزالهن - ولكن الواجبُ أن يكون تأويلُه على ذلك: فأتوهن من قبل وُجوههنّ في أقبالهن، كما كان قول القائل:" ائت الأمر من مأتاه"، إنما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلبُ الأمر غيرُ الأمر المطلوب.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "من حيث أمركم الله"، وهو نص الآية، ولكنه أراد"في حيث"، كما يدل عليه سائر كلامه، فلذلك أثبتها على الصواب إن شاء الله. وانظر ما يؤيد ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء 1: 143. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج - الذي أمر الله في قولهم بإتيانه - غير الفرج. (1) وإذا كان كذلك، وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن - وجب أن يكون على قولهم محرَّمًا إتيانهن في فروجهن من قِبل أدبارهن. وذلك إن قالوه، خرج من قاله من قِيل أهل الإسلام، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الله يقول: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، وأذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن. فقد تبين إذًا إذْ كان الأمر على ما وصفنا، فسادُ تأويل من قال ذلك: فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهنّ في حال حيضهن = وصحةُ القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن في فروجهنّ من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن، وذلك حال طهْرهن وتطهُّرهن، دون حال حيضهن. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" إن الله يحب التوابين"، المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته، إليه وإلى طاعته. وقد بينا معنى"التوبة" قبل. (2) * * * واختلف في معنى قوله:" ويحب المتطهِّرين". فقال بعضهم: هم المتطهِّرون بالماء. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المخطوطة: "فكذلك يجب مأتى الفرج"، وفي المطبوعة: "فكذلك يجب أن مأتى الفرج" والذي أثبته أشبه بالسياق وبالصواب. (2) انظر ما سلف 1: 547/ 2: 72- 73/ 3: 81، 259- 261. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 4302 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا طلحة، عن عطاء قوله:" إن الله يحب التوابين"، قال: التوابين من الذنوب =" ويحب المتطهرين" = قال: المتطهرين بالماء للصلاة. 4303 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا طلحة، عن عطاء، مثله. 4304 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء:" إن الله يحب التوابين" من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين"، بالماء للصلوات. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك:" إن الله يحب التوابين"، من الذنوب =" ويحب المتطهرين"، من أدبار النساء أن يأتوها. * ذكر من قال ذلك: 4305 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت سليمان مولى أم علي قال، سمعت مجاهدًا يقول: من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"ويحب المتطهرين"، من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "للصلاة"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 4305-"إبراهيم بن نافع" المخزومي المكي، روى عن ابن أبي نجيح، وكثير بن كثير، وعطاء بن أبي رباح، وعدة. روى عنه أبو عامر العقدي وأبو نعيم وغيرهما. كان حافظًا، وكا أوثق شيخ بمكة، وهو ثقة، وكان أحمد يطريه. و"سليمان مولى أم علي"، هو سليم المكي، أبو عبد الله، روى عن مجاهد. وعنه إبراهيم بن نافع وابن جريج وجماعة، صدوق من كبار أصحاب مجاهد. وكلاهما مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 4306 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:" يحب التوابين"، من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين"، من الذنوب، لا يعودون فيها. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال:" إنّ الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة". لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمرَ المحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم: من تركهم مساكنة الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وأشياء غير ذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحابُ رسولِ الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (1) أوحى الله تعالى إليه في ذلك، فبيَّن لهم ما يكرهه مما يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحب من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته، تائبًا مما يكرهه. وكان مما بيَّن لهم من ذلك، (2) أنه قد حرّم عليهم إتيان نسائهم وإن طهُرن من حيضهن حتى يغتسلن، ثم قال: ولا تقربوهن حتى يطهُرن، فإذا تطهَّرن فأتوهن، فإن الله يحب المتطهرين = يعني بذلك: المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة، والمتطهرات بالماء - من الحيض والنفاس والجنابة والأحداث - من النساء. * * * وإنما قال:" ويحب المتطهرين" - ولم يقل" المتطهرات" - وإنما جرى قبل ذلك ذكرُ التطهر للنساء، لأن ذلك بذكر" المتطهرين" يجمع الرجال والنساء. ولو ذكر ذلك بذكر" المتطهرات"، لم يكن للرجال في ذلك حظ، وكان للنساء خاصة. فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميعَ عباده المكلفين، إذ كان قد   (1) في المطبوعة: "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك" بإسقاط"رسول الله" الثانية وأثبت الصواب من المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "مع ذلك"، والذي أثبته هو الصواب الحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 تعبَّد جميعَهم بالتطهر بالماء، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني، واتفقت في بعض. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم مُزدَرَعُ أولادكم، فأتوا مُزدرعكم كيف شئتم، وأين شئتم. * * * وإنما عني بـ "الحرث" المزدَرَع، و"الحرث" هو الزرع، (1) ولكنهن لما كن من أسباب الحرث، جعلن"حرثًا"، إذ كان مفهومًا معنى الكلام. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 4307 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا ابن المبارك، عن يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس:" فأتوا حرثكم"، قال: منبت الولد. 4308 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" نساؤكم حرث لكم"، أما"الحرث"، فهي مَزْرَعة يحرث فيها. * * *   (1) انظر معنى"الحرث" فيما سلف من هذا الجزء 4: 239، 240. هذا، وقد كان في المطبوعة: "وإنما عني بالحرث وهو الزرع المحترث والمزدرع"، وليست بشيء - وكان في المخطوطة مضطربًا، فلذلك اضطربت المطبوعة. كان هكذا: "وإنما عنى بالزرع، وهو الحرث المزرع والمزدرع"، وضرب على"بالزرع" وكتب"بالحرث" ثم وضع فوق"الحرث والمزدرع" ميمًا على كل كلمة من الكلمتين، يريد بذلك تقديم هذه على هذه، ولكن بقيت الجملة فاسدة أشد فساد، ولم يستطع الناسخ أو طابع المطبوعة أن يرده إلى سياق صحيح، فرددته إلى السياق الصحيح إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 القول في تأويل قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فانكحوا مزدرَع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى. * * * و"الإتيان" في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع. (1) * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:" أنى شئتم". فقال بعضهم: معنى"أنَّى"، كيف. * ذكر من قال ذلك: 4309 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض. 4310 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: ائتها أنى شئت، مقبلةً ومدبرةً، ما لم تأتها في الدُّبر والمحيض. 4311 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يعني بالحرث الفرجَ. يقول: تأتيه كيف شئت، مستقبلهُ ومستدبرهُ (2) وعلى أيّ ذلك أردت، بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره، وهو قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله".   (1) انظر ما مضى قريبًا ص: 388 والتعليق: 1 (2) الأثر: 4311 - في سنن البيهقي 8: 196، وفيها وفي المطبوعة: "مستقبلة ومستدبرة". وأثبت ما في المخطوطة، فهو جيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 4312 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط. 4313 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، واتَّق الدبر والحيض. 4314 - حدثني عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي قال، حدثني يزيد: أن ابن كعب كان يقول: إنما قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: ائتها مضجعةً وقائمة ومنحرفةً ومقبلةً ومدبرةً كيف شئت، إذا كان في قُبُلها. (1)   (1) الأثر: 4314- كان هذا الإسناد في المطبوعة: حدثني عبيد الله بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه قال، حدثني يزيد. . "، والصواب إسناد المخطوطة الذي أثبته كما سترى. ولكن يظهر أن الناسخ أو الطابع خلط بين هذا الإسناد الذي أثبتناه والإسناد الآخر الكثير الدوران في التفسير، وهو: "حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس" وقد مضى الكلام في هذا الإسناد برقم: 305. أما إسنادنا هذا، فإن"عبيد الله بن سعد" فهو: عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو الفضل البغدادي" روى عن أبيه وعمه يعقوب بن إبراهيم وغيرهما، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهما. قال ابن أبي حاتم: "كتبت عنه مع أبي وهو صدوق" مات سنة 260. أما عمه، فهو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد. روى عن أبيه وشعبة، وابن أخي الزهري والليث. وعنه ابن أخيه عبيد الله بن سعد، وأحمد وإسحاق وابن معين. كان ثقة مأمونًا، كتب عنه الناس علما جليلا. مات سنة 208. وأما أبوه، فهو إبراهيم بن سعد الزهري، وأبو إسحاق المدني، نزيل بغداد. روى عن أبيه وعن الزهري وهشام بن عروة ومحمد بن إسحاق وشعبة ويزيد بن الهاد. روى عنه ابناه يعقوب وسعد وأبو داود والطيالسي وغيرهم. قال أحمد: ثقة، أحاديثه مستقيمة. مات سنة 183. وأما"يزيد"، فهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي. روى عن جماعة كثيرة، منهم محمد بن كعب القرظي، وروى عنه شيخه، يحيى بن سعد الأنصاري وإبراهيم بن سعد والليث بن سعد. ذكره ابن حبان في الثقات، وكان كثير الحديث. مات سنة 139. وأما"ابن كعب"، فهو"محمد بن كعب القرظي"، فهو تابعي، مضت ترجمته. وسيأتي هذا الإسناد نفسه على الصواب، مع خطأ فيه برقم: 4321. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 4315 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن مرة الهمداني قال: سمعته يحدث أن رجلا من اليهود لقي رجلا من المسلمين فقال له: أيأتي أحدكم أهلهُ باركًا؟ قال: نعم. قال: فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت هذه الآية:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، يقول: كيف شاء، بعد أن يكون في الفرج. 4316 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئت قائمًا أو قاعدًا أو على جنب، إذا كان يأتيها من الوجه الذي يأتي منه المحيضُ، ولا يتعدَّى ذلك إلى غيره. 4317 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، ائت حرثك كيف شئتَ من قُبُلها، ولا تأتيها في دبرها." أنى شئتم"، قال: كيف شئتم. 4318 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال: أن عبد الله بن علي حدثه: أنه بلغه أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يومًا ورجل من اليهود قريبٌ منهم، فجعل بعضهم يقول: إنيّ لآتي امرأتي وهي مضطجعة. ويقول الآخر: إني لآتيها وهي قائمة. ويقول الآخر: إني لآتيها على جنبها وباركةً. فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم! ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة! فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرثٌ لكم"، فهو القُبُل. (1) * * * وقال آخرون: معنى:" أنى شئتم"، من حيث شئتم، وأي وجه أحببتم. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 4318- هو عبد الله بن علي بن السائب بن عبيد القرشي المطلبي، روى عن عثمان بن عفان، وحصين بن محصن الأنصاري وعمرو بن أحيحة بن الجلاح، وعنه سعيد بن أبي هلال. مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 4319 - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكره أن تُؤتى المرأة في دبرها، ويقول: إنما الحرث من القُبُل الذي يكون منه النسل والحيض = وينهى عن إتيان المرأة في دُبُرها ويقول: إنما نزلت هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: من أيّ وجه شئتم. (1) 4320 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا ابن واضح قال، حدثنا العتكي، عن عكرمة:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: ظهرها لبطنها غير مُعاجَزة - يعني الدبر. (2) 4321 - حدثنا عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي،   (1) الأثر: 4319 - مضى في رقم: 180"موسى بن سهل الرازي"، هكذا جاء في المطبوعة ولكنه في المخطوطة"سهل بن موسى الرازي"، فرجح أخي السيد أحمد أنه خطأ من الناسخ، وأنه لم يجد له ترجمة. ولكن أبا جعفر الطبري قد روى عنه في مواضع من تاريخه: "سهل بن موسى الرازي"، وهكذا هو في المخطوطة هناك، وجاء هنا على ذلك في المخطوطة والمطبوعة. فالصواب أن يكون في رقم: 180"سهل بن موسى الرازي"، كما في المخطوطة هناك. و"سهل بن موسى الرازي"، لم يترجم بهذا الاسم في الكتب، ولكني رأيت الطبري يروي عنه في التاريخ 1: 169: "حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك. . . "، فالذي في التاريخ يؤيد ما في التفسير. ثم روى عنه في التاريخ 2: 214"حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء. . . "، فرأيت في ترجمة"عبد الرحمن بن مغراء" في التهذيب أنه يروي عنه"سهل بن زنجلة". و"سهل بن زنجلة" هو: سهل بن أبي سهل الرازي"، روى عن جماعة كثيرة منهم يحيى بن سعيد القطان وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن ابن مغراء" وروى عنه ابن ماجه فأكثر، وأبو حاتم، وقد بغداد سنة 231. وترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 9: 116- 118، ولم يذكروا تاريخ وفاته. فأخشى أن يكون"سهل بن أبي سهل الرازي"، هو"سهل بن موسى الرازي" نفسه - لم يعرفوا اسم أبيه"موسى"، وعرفه الطبري، لأنه من ناحية بلاده، وأرجو أن يأتي بعد في أسانيد أبي جعفر ما يكشف عن الحق في ذلك. وأما"ابن أبي فديك"، هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلي مولاهم. مترجم في التهذيب، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 200. (2) الأثر: 4320- هو الإسناد السالف رقم: 4295. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 عن يزيد، [عن الحارث بن كعب] ، عن محمد بن كعب، قال: إن ابن عباس كان يقول: اسق نباتك من حيث نباته. (1) 4322 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، يقول: من أين شئتم. ذكر لنا - والله أعلم - أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من قِبَل إعجازهن، فإذا فعلوا ذلك، جاء الولد أحول، فأكذب الله أحدوثتهم فقال:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". 4323 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال يقول: ائتوا النساء في [غير] أدبارهن على كل نحو = (2) قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: تذاكرنا هذا عند ابن عباس، فقال ابن عباس: ائتوهن من حيث شئتم، مُقبلة ومدبرةً. فقال رجل: كأنَّ هذا حلالٌ! (3) فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا، وأنكره، كأنه إنما يريد الفرج، مقبلةً ومدبرة في الفرج. * * * وقال آخرون معنى قوله:" أنى شئتم"، متى شئتم. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 4321- قد سلف هذا الإسناد برقم: 4314، ولكن وقع في المخطوطة هنا زيادة عن الحارث بن كعب- فوضعناها بين قوسين. ولم أجد في الرواة من يسمى"الحارث بن كعب"، مع أنه تابعي قل أن يغفلوا مثله. فلذلك أخشى أن يكون خطأ أو سبق قلم من ناسخ، ولعله كان"عن يزيد بن الهاد، عن ابن كعب- وهو محمد بن كعب" فصحف الناسخ وحرف. وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، فراجعه هناك. وقد رواه البيهقي في السنن 1: 196 من طريق"عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس"، فهذا يؤيد ما رجحته من زيادة هذا الذي بين القوسين أو تصحيفه وتحريفه. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ائتوا النساء في أدبارهن"، وهو لا يستقيم أبدًا، والزيادة بين القوسين لا بد منها للخروج من هذا الفساد. ومجاهد لا يقول بهذا، بل الثابت في الرواية عند إنكاره وإكفار فاعله (ابن كثير 1: 522) . (3) في المطبوعة: "كان هذا حلالا"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 4324 - حدثت عن حسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: مَتى شئتم. 4325 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي - وهو عمار الدُّهني -، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس، أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو: يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ (1) فقال: بلى! فقرأ:" ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، من ثَمَّ أمرت أن تأتي. فقال له الرجل: يا أبا الفضل، كيف بالآية التي تتبعها:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"؟ فقال: إي! ويحك! وفي الدُّبُر من حَرْث!! لو كان ما تقول حقًّا، لكان المحيض منسوخًا! إذا اشتغل من ههنا، جئتَ من ههنا! ولكن: أنى شئتم من الليل والنهار. (2) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتم، وحيث شئتم. * ذكر من قال ذلك: 4326 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن عون، عن   (1) في المطبوعة: "من آية المحيض"، والصواب من المخطوطة، ومما مضى رقم: 4280. (2) الأثر: 4325 - سلف صدره في رقم: 4280، كما أشرنا إليه هناك، "أبو صخر" هو: حميد بن زياد الخراط المصري، مترجم في التهذيب، قال أحمد: "ليس به بأس". مات سنة 189. و"أبو معاوية البجلي"، قد صرح الطبري هنا أنه: عمار بن معاوية الدهني. ذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة 133، وكلاهما مترجم في التهذيب. هذا وفي المطبوعة والمخطوطة: "إي ويحك"، (بكسر الهمزة وسكون الياء) بمعنى"نعم" حرف جواب، يكون لتصديق المخبر، ولإعلام المستخبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد: "قام زيد -وهل قام زيد- واضرب زيدًا" ونحوهن، كما تقع"نعم" بعدهن. وزعم ابن الحاجب أنها إنما تقع بعد الاستفهام، ولا تقع عند الجميع إلا قبل القسم (شرح شواهد المغني لابن هشام) . وأنا أرجح أن تكون الكلمة محرفة، وصوابه"أنى ويحك" (بفتح الهمزة وتشديد النون وفتحها) : أي: أين ذهبت -أو: كيف قلت- ويحك؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 نافع قال، كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم. قال: فقرأت ذات يوم هذه الآية:" نساؤكم حرثٌ لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال: أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا! قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. (1) 4326 م - حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا ابن عون، عن نافع، قال: قرأتُ ذاتَ يوم:" نساؤكم حرْثٌ لكم فائتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال ابن عمر: أتدري فيمَ نزلتْ ؟ قلتُ: لا! قال: نزلتْ في إتيان النساء في أدْبارهنّ) . (2) 4327 - حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس، عن ابن عون، عن نافع قال: كنت أمسك على ابن عُمر المصحف، إذ تلا هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال: أن يأتيها في دبرها. (3)   (1) الحديث: 4326 - يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. ابن علية: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي. وهذا الإسناد صحيح جدًا. وانظر التخريج في: 4327. (2) الحديث: 4326 مكرر -هذا الحديث زدناه من ابن كثير 1: 516- 517، حيث نقله عن الطبري بهذا النص، إسنادًا ومتنًا. ويؤيد ثبوته في هذا الموضع، أن الحافظ ابن حجر ذكره في الفتح 8: 141، عن الطبري، حيث ذكر رواية من مسند إسحاق بن راهويه وتفسيره، ثم قال: "هكذا أورده ابن جرير، من طريق إسماعيل بن علية، عن ابن عون مثله، ثم أشار إلى الحديث التالي لهذا: 4327، فقال: "ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، عن ابن عون، نحوه". وذكره الحافظ في التلخيص أيضًا، ص: 307، قال: "وكذا رواه الطبري، من طريق ابن علية، عن ابن عون". فثبت وجود هذا الحديث في تفسير الطبري، وتعين موضعه في هذا الموضع واضحًا. والحمد لله. (3) الحديث: 4327 - أبو عمر الضرير: هو حفص بن عمر الأكبر، مضى في: 3562، ووقع هناك في المطبوعة"أبو عمرو"، وبينا أنه خطأ. وقد ثبت فيها هنا على الصواب. إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 1/1/342، فلم يذكر فيه حرجًا. وذكره ابن حبان في الثقات. وهو"صاحب الكرابيس" يعني الثياب. ولذلك يقال له"الكرابيسي" بالياء، نسبة إلى بيعها. ووقع في المطبوعة، (صاحب الكرابيسي) بلفظ النسبة مع كلمة"صاحب". وهو خطأ. وهذه الأحاديث الثلاثة صحيحة ثابتة عن ابن عمر. وهي حديث واحد بأسانيد ثلاثة. وسيأتي أيضًا نحو معناها: 4331. وقد روى البخاري 8: 140- 141 معناه عن نافع، عن ابن عمر، بثلاثة أسانيد. ولكنه كنى عن ذلك الفعل ولم يصرح بلفظه. وأطال الحافظ في الإشارة إلى كثير من أسانيده. وذكره السيوطي 1: 265، ونسبه لمن ذكرنا. ونقل الحافظ في الفتح 8: 141، عن ابن عبد البر، قال: "ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه". ونحو هذا نقل السيوطي 1: 266 عن ابن عبد البر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 4328 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد الملك بن مسلمة قال، حدثنا الدراوردي قال، قيل لزيد بن أسلم: إن محمد بن المنكدر ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن. فقال زيد: أشهد على محمد لأخبرني أنه يفعله. (1) 4329 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس أنه قيل له: يا أبا عبد الله، إن الناس يروون عن سالم:" كذب العبد، أو: العلجُ، على أبي"! فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له: فإنَّ الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار: أنه سأل ابن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نشتري الجواري فنُحمِّض لهن؟ فقال: وما التحميض؟ قال: الدُّبُر. فقال ابن عمر: أفْ! أفْ! يفعل ذلك مؤمن! - أو قال: مسلم! - فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب، عن ابن عمر، مثل ما قال نافع. (2)   (1) الخبر: 4328 -عبد الملك بن مسلمة المصري: روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر- كثيرًا. وهو ضعيف، ترجمه ابن أبي حاتم 2/2/371، وذكر أن أباه روى عنه، وأنه قال: "هو مضطرب الحديث، ليس بقوي"، وأنه حدثه بحديث موضوع، وأن أبا زرعة قال: "ليس بالقوي، هو منكر الحديث". وله ترجمة في الميزان ولسان الميزان. (2) الخبر: 4329 -أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر المصري الفقيه: مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/274- 275، باسم"عبد الرحمن بن أبي الغمر"، دون ذكر اسم أبيه"أحمد". وهو من شيوخ البخاري، روى عنه خارج الصحيح. عبد الرحمن بن القاسم بن خالد، الفقيه المصري، راوي الفقه عن مالك، ثقة مأمون، من أوثق أصحاب مالك. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 521- 522، عن هذا الموضع. ولكن وقع فيه خطأ في اسم ابن أبي الغمر، هكذا: "أبو زيد أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر". ونقله الحافظ في الفتح 8: 142، والتلخيص، ص: 308، مختصرًا، ونسبه أيضًا للنسائي والطحاوي، وقال في الفتح: "وأخرجه الدارقطني، من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك. وقال: هذا محفوظ عن مالك صحيح". ونقله السيوطي 1: 266، مطولا، ونقل كلام الدارقطني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 4330 - حدثني محمد بن إسحاق قال، أخبرنا عمرو بن طارق قال، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن موسى بن أيوب الغافقي قال: قلت لأبي ماجد الزيادي: إنّ نافعًا يحدث عن ابن عمر في دُبر المرأة. فقال: كذب نافع! صحبت ابن عمر ونافعٌ مملوكٌ، فسمعته يقول: ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا. (1) 4331 - حدثني أبو قلابة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثني أبي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: في الدبر. (2)   (1) الخبر: 4330 -عمرو بن طارق: هو عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي المصري، وهو ثقة. نسب هنا إلى جده. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/233. يحيى بن أيوب: هو الغافقي المصري. مضى في: 3877. موسى بن أيوب بن عامر الغافقي الهباري المصري: ثقة، روى عنه الليث بن سعد، وابن المبارك، ووثقه ابن معين. أبو ماجد الزيادي: تابعي، ترجمه البخاري في الكنى، رقم: 688، وابن أبي حاتم 4/2/455 ورويا عنه هذا الخبر، بلفظين مختلفين، مخالفين لما هنا. فقال البخاري: "أبو ماجد الزيادي، سمع ابن عمر، قال: ما نظرت إلى فرج امرأة منذ أسلمت. قاله يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، سمع موسى بن أيوب، عن أبي ماجد". وقال ابن أبي حاتم: "أبو ماجد الزيادي، سمع عبد الله بن عمرو، قال: ما نظرت إلى فرجي منذ أسلمت. روى عنه موسى بن أيوب الغافقي. سمعت أبي يقول ذلك". والظاهر أن"عبد الله بن عمرو"، عند ابن أبي حاتم -تحريف ناسخ أو طابع. ولكن لا يزال الاختلاف قائمًا في المعنى بين هاتين الروايتين، وبينهما وبين رواية الطبري هذه. ولم أجد ما يرجح إحداها على غيرها. (2) الخبر: 4331 -أبو قلابة، شيخ الطبري: هو الرقاشي الضرير الحافظ، واسمه: عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد، وهو ثقة، روى عنه الأئمة، منهم ابن خزيمة، وابن جرير، وأبو العباس الأصم. وقال أبو داود سليمان بن الأشعث: "رجل صدوق، أمين مأمون، كتبت عنه بالبصرة". وقال الطبري: "ما رأيت أحفظ منه". مترجم في التهذيب. ابن أبي حاتم 2/2/369- 370، وتاريخ بغداد 10: 425- 427، وتذكرة الحفاظ 2: 143- 144. عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث. وهذا الخبر رواه البخاري 8: 140- 141، عن إسحاق، هو ابن راهويه، عن عبد الصمد. ولكنه حذف المكان بعد حرف"في"، فلم يذكر لفظه. وذكر الحفاظ في الفتح أنه صريح في رواية الطبري هذه. ونقله ابن كثير 1: 517، عن الطبري بإسناده. ونقله السيوطي 1: 265، ونسبه للبخاري وابن جرير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 4332 - حدثني أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن قتادة قال: سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: هل يفعل ذلك إلا كافر! قال روح: فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك فقال: قد أردته من جارية لي البارحةَ فاعتاص عليّ، فاستعنت بدهن أو بشحم. قال: فقلت له، سبحان الله!! أخبرنا قتادة أنّ أبا الدرداء قال: هل يفعل ذلك إلا كافر! فقال: لعنك الله ولعن قتادة! فقلت: لا أحدث عنك شيئًا أبدًا! ثم ندمت بعد ذلك. (1) * * * قال أبو جعفر (2) واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم، بما:- 4333 - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، أخبرنا أبو بكر بن أبي أويس الأعشى، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك، فأنزل الله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (3)   (1) الخبر: 4332 - هو في الحقيقة خبران، أولهما عن أبي الدرداء، وثانيهما أثر عن ابن أبي مليكة لا يصلح للاستدلال. فكلامنا عن خبر أبي الدرداء. وقد رواه الطبري هنا بإسناده إلى قتادة، "قال: سئل أبو الدرداء. . . "، وهو منقطع. فقد رواه أحمد في المسند: 6968 م بإسناده إلى قتادة، قال: "وحدثني عقبة بن وساج، عن أبي الدرداء، قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر"؟! . وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 199. وقد خرجناه في شرح المسند. (2) من هنا ابتداء جزء من التقسيم القديم للتفسير فيما يظهر، فإنه قد كتب بعد ما سلف. "يتلُوه: واعتل قائلو هذه المقالة وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه كثيرًا" ثم بدأ صفحة جديدة أولها: "بسم الله الرحمن الرحيم" ربّ أعن يا كريم (3) الحديث: 4333 - أبو بكر بن أبي أويس: هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس المدني الأعشى، وهو ثقة. سليمان بن بلال أبو أيوب المدني: ثقة معروف، أخرج له الأئمة الستة. وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 517، من رواية النسائي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، كمثل رواية الطبري وإسناده سواء. ونقله الحافظ في التلخيص: 307- 308، والسيوطي 1: 265- 266، ونسباه للنسائي والطبري فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 4334 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر الناس ذلك وقالوا: أثْفَرها! فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" الآية. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتم - إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا. * ذكر من قال ذلك: 4335 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن عيسى بن سنان، عن سعيد بن المسيب:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا. 4336 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن زائدة بن عمير، عن ابن عباس قال: إن شئت فاعزل، وإن شئت فلا تعزل. (2) * * * قال أبو جعفر: وأما الذين قالوا: معنى قوله:" أنى شئتم"، كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرْج والقُبُل، فإنهم قالوا: إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود، استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قِبل أدبارهن. قالوا: وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا،   (1) الحديث: 4334- هذا حديث مرسل، لأن عطاء بن يسار تابعي. وقوله"أثفرها": من"الثفر"، بفتح الثاء المثلثة والفاء، وهو ما يوضع للدابة تحت ذنبها يشد به السرج. شبه ذلك الفعل بوضع الثفر على دبر الدابة. (2) الخبر: 4336- أبو إسحاق: هو السبيعي. زائدة بن عمير الطائي الكوفي: تابعي ثقة وثقه ابن معين وغيره. قال البخاري في الكبير 2/1/394: "سمع ابن عباس". وترجمه ابن أبي حاتم 1/2/612، وذكره ابن سعد في الطبقات 6: 218. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 من أن معنى ذلك على ما قلنا. واعتلوا لقيلهم ذلك بما:- 4337 - حدثني به أبو كريب قال، حدثنا المحاربي قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأساله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، (1) ويتلذذون بهن مقبلاتٍ ومدبراتٍ. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نُؤْتَى عليه! فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث. يقول: ائت الحرث من حيث شئت. 4338- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه. (2) 4339 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابرًا يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول. فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".   (1) شرح الرجل امرأته شرحًا: إذا سلقها فوطئها نائمة على قفاها. (2) الحديثان: 4337- 4338- هما حديث واحد، بإسنادين. وأبان بن صالح بن عمير بن عبيد: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم. والحديث رواه أبو داود: 2164، والحاكم في المستدرك 2: 195، 279، والبيهقي 7: 195- 196، مطولا ومختصرًا، من طريق محمد بن إسحاق. وقال الحاكم في الموضع الأول: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم. ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي. ونقله ابن كثير 1: 516، عن رواية أبي داود. وكذلك الحافظ في التلخيص، ص: 308. ونقله السيوطي 1: 263، وزاد نسبته لابن راهويه، والدارمي، وابن المنذر، والطبراني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 4340- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته في قُبُلها من دُبُرها، وكان بينهما ولد، كان أحول. فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (1) 4341 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن   (1) الحديثان: 4339- 4340- هما حديث واحد، بإسنادين، ولفظين متقاربين. وهو حديث صحيح مشهور. رواه البخاري 8: 141- 143، من طريق سفيان، وهو الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر. ونقله ابن كثير 1: 514، من رواية البخاري، ثم من رواية ابن أبي حاتم. وذكره السيوطي 1: 261، وزاد نسبته إلى أصحاب السنن الأربعة، والبيهقي، وغيرهم. وهو في سنن البيهقي 1947-: 195، من ثلاثة طرق، عن ابن المنكدر، عن جابر. وذكره أنه رواه مسلم في صحيحه من تلك الطرق الثلاث. وسيأتي بنحوه: 4346، من رواية شعبة، عن ابن المنكدر، عن جابر. وانظر المنتقى: 3652، 3653. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة زوح النبي صلى الله عليه وسلم قالت: تزوج رجل امرأةً فأراد أن يجبِّيَها، فأبت عليه، (1) وقالت: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت أم سلمة: فذكرتْ ذلك لي، فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرسلي إليها. فلما جاءت قرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نساؤكم حرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، صِمامًا واحدًا، صِمامًا واحدًا. (2) 4342 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن ابن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة قالت: قدِم المهاجرون فتزوجوا في الأنصار، وكانوا يُجَبُّون، وكانت الأنصار لا تفعل ذلك، فقالت امرأة لزوجها: حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله عن ذلك! فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستحيت أن تسأله، فسألتُ أنا، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليها:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"،"صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا". (3) 4343 - حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (4) 4344 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله:"   (1) جبى الرجل أو المرأة يجبى تجبية: أن ينكب على وجهه باركًا، وهو السجود. شبه هذا بهيئة السجود. (2) الحديث: 4341- عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري المكي: تابعي، ثقة حجة، كما قال ابن معين. و"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة، مصغرًا. ووقع في المطبوعة، هنا، وفي: 4344"جشم"، وهو تصحيف. عبد الرحمن بن سابط: تابعي معروف، مضت ترجمته: 599. حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: تابعية ثقة. والحديث رواه أحمد في المسند 6: 305 (حلبي) ، عن عفان، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان ابن خثيم، بهذا الإسناد، نحوه، مطولا. ونقله ابن كثير 1: 515 عن رواية المسند. وواقع في مطبوعته تحريف وتصحيف. ورواه البيهقي 7: 195، بنحوه مختصرًا، من طريق سفيان، ومن طريق روح بن القاسم - كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم. وذكره السيوطي 1: 262، مطولا. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والدارمي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. وسيأتي عقب هذا، مطولا ومختصرًا: 4342- 4345. الصمام ما أدخل في فم القارورة تسد به. فسمى الفرج به، لأنه موضع صمام، على التشبيه وحذف المضاف. ومعناه: في مسلك واحد. (3) الحديث: 4342- سفيان: هو الثوري، روى الحديث عن عبد الله بن عثمان. ولكن وقع في المطبوعة"سفيان بن عبد الله بن عثمان"! وهو خطأ سخيف. ووقع في المخطوطة"عن ابن سليط" بدل"ابن سابط". وهو خطأ. والحديث مكرر ما قبله بنحوه. (4) الحديث: 4343- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. والحديث مكرر ما قبله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا". (1) 4345 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثني وهيب قال، حدثني عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قلت لحفصة، إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحيي منك أن أسألك؟ قالت: سل يا بنيّ عما بدا لك! قلت: أسألك عن غِشيان النساء في أدبارهن؟ قالت: حدثتني أم سلمة قالت: كانت الأنصار لا تُجَبِّي، وكان المهاجرون يُجَبُّون، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار = ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن معاوية بن هشام. (2) 4346 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا أتى الرجل امرأته باركة جاء الولد أحول. فنزلت" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (3) 4347 - حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي قال، حدثنا الحسن بن موسى قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكتُ!! قال: وما الذي أهلكك؟ قال: حوَّلتُ رحلي الليلة! قال: فلم يردّ   (1) الحديث: 4344- هو مكرر ما قبله مختصرًا. وهكذا رواه الترمذي 4: 75، مختصرًا عن ابن أبي عمر عن سفيان، وهو الثوري به. (2) الحديث: 4345- يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي، المقرئ النحوي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. وهيب -بالتصغير-: هو ابن خالد بن عجلان وهو ثقة ثبت حجة. والحديث مكرر: 4342، بنحوه حيث أحال الطبري لفظ هذا على لفظ ذلك. (3) الحديث: 4346- هو مكرر: 4339، 4340. ووقع في المخطوطة"باركًا" بدل"باركة" وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 عليه شيئًا، قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، أقبِل وأدبِر، واتق الدُّبر والحيْضة". (1) 4348 - حدثنا زكريا بن يحيى المصري قال، حدثنا أبو صالح الحراني قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عامر بن يحيى أخبره، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس: أن ناسًا من حميرَ أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: يا رسول الله، إنّي رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى ذكره في"سورة البقرة" بيان ما سألوا عنه، وأنزل فيما سأل عنه الرجل:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتها مُقبلةً ومُدبرةً، إذا كان ذلك في الفرج". (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا قولُ من قال: معنى قوله" أنى شئتم"، من أيّ وجه شئتم. وذلك أن"أنَّى" في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام - على المسألة عن الوجوه والمذاهب. فكأن القائل   (1) الحديث: 4347- محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي: لم أعرفه ولا وجدت له ترجمة الحسن بن موسى الأشيب: ثقة حافظ متثبت، من شيوخ أحمد، يكثر الرواية عنه في المسند. يعقوب القمي: مضت ترجمته في: 617. جعفر: هو ابن أبي مغيرة. مضى أيضًا في: 617. والحديث رواه أحمد في المسند: 2703 عن شيخه حسن بن موسى الأشيب بهذا الإسناد وقد خرجناه هناك. ونزيد أنه رواه أيضًا ابن حبان في صحيحه 6: 364- 365 (مخطوطة الإحسان) والبيهقي 7: 198. (2) الحديث: 4348- زكريا بن يحيى بن صالح القضاعي المصري: ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه. أبو صالح الحراني: هو عبد الغفار بن داود بن مهران، وهو ثقة من شيوخ البخاري في صحيحه. يزيد بن أبي حبيب المصري: ثقة أخرج له الجماعة، قال الليث بن سعد: "يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا". وقال ابن سعد: "كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليما عاقلا". حنش الصنعاني: مضى في: 1914. والحديث ذكره ابن كثير 1: 514- 515 من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة. بهذا الإسناد. وذكره السيوطي 1: 262- 263، وزاد نسبته للطبراني والخرائطي. وروى أحمد في المسند: 2414- نحوه ولكن فيه أن السائلين كانوا من الأنصار. وإسناده ضعيف، من أجل رشدين بن سعد في إسناده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 إذا قال لرجل:"أنى لك هذا المال"؟ يريد: من أيّ الوجوه لك. ولذلك يجيب المجيبُ فيه بأن يقول:"من كذا وكذا"، كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن زكريا في مسألته مريم: (أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [سورة آل عمران: 37] . وهي مقاربة"أين" و"كيف" في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها، فأشكلت"أنَّى" على سامعيها ومتأوِّليها، (1) حتى تأوَّلها بعضهم بمعنى:"أين"، وبعضهم بمعنى"كيف"، وآخرون بمعنى:"متى" - وهي مخالفة جميع ذلك في معناها، وهن لها مخالفات. وذلك أن"أين" إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال - وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال:"أين مالك"؟ لقال:"بمكان كذا"، ولو قال له:"أين أخوك"؟ لكان الجواب أن يقول:"ببلدة كذا أو بموضع كذا"، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله. فيعلم أن"أين" مسألة عن المحل. ولو قال قائل لآخر:"كيف أنت"؟ لقال:"صالح، أو بخير، أو في عافية"، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذ أن"كيف" مسألةٌ عن حال المسؤول عن حاله. ولو قال له:"أنَّى يحيي الله هذا الميت؟ "، لكان الجواب أن يقال:"من وجه كذا ووجه كذا"، فيصف قولا نظيرَ ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) [سورة البقرة: 259] فعلا (2) حين بعثه من بعد مماته.   (1) في المخطوطة: "على سامعيها ومتاولها" بالجمع مرة والإفراد أخرى. وفي المطبوعة: "على سامعها ومتأولها" بالإفراد. (2) قوله"فعلا" مفعول قوله: "نظير ما وصف الله. . . فعلا" يعني أن الله تعالى وصف بعد ذلك"فعلا" وهذا الفعل هو بعثه من بعد مماته، وذلك قول الله تعالى في عقب ذلك} : فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ { الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها، فقال الكميت بن زيد: تَذَكَّر مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبَهُ ... يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأبِلْ (1) وقال أيضًا: أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ - آبَكَ - الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ (2) فيجاء بـ "أنى" للمسألة عن الوجه، وبـ "أين" للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أيّ وجه، ومن أي موضع راجعك الطرب؟ والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى: حيث شئتم = أو بمعنى: متى شئتم = أو بمعنى: أين شئتم = أن قائلا لو قال لآخر:"أنى تأتي أهلك؟ "، لكان الجواب   (1) اللسان (أبل) آمره يؤامره: شاوره. وقوله: "نفيسه" جعل النفس نفسين، لأن النفس تأمر. المرء بالشيء وتنهى عنه، وذلك في كل مكروه أو مخوف فجعلوا ما يأمره"نفسًا" وما ينهاه"نفسًا" وقد بينها الممزق العبدي في قوله: أَلاَ مَنْ لِعَيْنٍ قَدْ نَآهَا حَمِيمُهَا ... وَأَرَّقَنِي بَعْدَ المَنَامِ هُمُومُها فَبَاتَتْ له نَفْسَانِ شَتَّى هُمُومُها ... فنَفْسٌ تُعَزِّيهَا ونفْسٌ تَلُومُها و"الهجمة": القطعة الضخمة من الإبل من السبعين إلى المئة. ويقال: "رجل أبل" إذا كان حاذقا بمصلحة الإبل والقيام عليها. ولم أجد شعر الكميت، ولكني أرجح أن هذا البيت من أبيات في حمار وحش، قد أخذ أتنه (وهي إناثه) ليرد بها ماء، فوقف بها في موضع عين قديمة كان شرب منها، فهو متردد في موقفه، فشبهه يراعى الإبل الكثيرة، إذا كان خبيرًا برعيتها فوقف بها ينظر أين يسلك إلى الماء والمرعى. (2) الهاشميات: 31. قوله: "آبك" معترضة بين كلامين كما تقول: "ويحك" بين كلامين وسياقه"أنى ومن أين الطرب"؟ و"آبك" بمعنى"ويلك" يقال لمن تنصحه ولا يقبل ثم يقع فيما حذرته منه، كأنه بمعنى: أبعدك الله! دعاء عليه؟ من ذلك قول رجل من بني عقيل: أَخَبَّرْتَنِي يَا قَلْبُ أَنَّكَ ذُو غَرًى ... بَليْلَي? فَذُقْ مَا كُنْتَ قبلُ تَقُولُ! فآبَكَ! هلاَّ وَاللَّيَالِي بِغِرَّةٍ ... تُلِمُّ وَفِي الأَيَّامِ عَنْكَ غُفُولُ!! بيد أن أبا جعفر فسر"آبك" بمعنى: "راجعك الطرب" من الأوبة، وهو وجه في التأويل، ولكن الأجود ما فسرت والشعر بعده دال على صواب ما ذهبت إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 أن يقول:"من قُبُلها، أو: من دُبُرها"، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم = إذْ سئلت: (أَنَّى لَكِ هَذَا) = أنها قالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) . وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إنما هو: فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل. وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه، (1) وإنما قال تعالى ذكره:" حرث لكم"، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم. وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال: ائته من وجهه؟ وبيِّنٌ بما بينا، (2) صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس: من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين:"إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها، جاء الولد أحول". (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك: فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الخيرَ. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "لا يخترث فيه" وكلاهما قريب، والذي في المخطوطة جود. (2) في المطبوعة: "وتبين بما بينا" والصواب من المخطوطة، وهو عطف على قوله آنفًا: "فبين خطأ من زعم". (3) حجة أبي جعفر في هذا الفصل من أحسن البيان عن معاني القرآن وعن معاني ألفاظه وحروفه وهي دليل على أن معرفة العربية، وحذقها والتوغل في شعرها وبيانها وأساليبها أصل من الأصول، لا يحل لمن يتكلم في القرآن أن يتكلم فيه حتى يحسنه ويحذقه. ورحم الله ابن إدريس الشافعي حيث قال- فيما رواه الخطيب البغدادي عنه في كتاب"الفقيه والمتفقه". "لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يُفْتِي في دِينِ اللهِ إلّا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله ومكيِّه ومدنيِّه، وما أريدَ به= ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن= ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف = ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار= وتكون له قريحةٌ بعد هذا. فإذا كانَ هكذا فله أنْ يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكنْ هكذا، فليس له أن يفتي". فليت من يتكلم في القرآن والدين من أهل زماننا يتورع من مخافة ربه، ومن هول عذابه يوم يقوم الناس لرب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 4349 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:" وقدموا لأنفسكم"، فالخيرَ. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدموا لأنفسكم ذكرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه. * ذكر من قال ذلك: 4350 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن عطاء - قال: أراه عن ابن عباس:-" وقدموا لأنفسكم"، قال: يقول:"بسم الله"، التسمية عند الجماع. (1) * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية ما روينا عن السدي، وهو أن قوله:" وقدموا لأنفسكم"، أمرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه بتقديم الخير والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم، عُدّةً منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب، فإنه قال تعالى ذكره: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) [سورة البقرة: 110 \ وسورة المزمل: 20] .   (1) في المطبوعة: "قال: التسمية عند الجماع يقول: بسم الله" على التقديم والتأخير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره عقَّب قوله:" وقدموا لأنفسكم" بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه. فكان الذي هو أولى بأن يكون قبلَ التهدُّد على المعصية - إذ كان التهدُّد على المعصية عامًّا - الأمرُ بالطاعة عامًّا. (1) * * * فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بالطاعة بقوله:" وقدِّموا لأنفسكم"، من قوله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"؟ قيل: إن ذلك لم يقصد به ما توهمتَه: وإنما عنى به: وقدموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والأقربين"، وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجيبوا عنه، مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات. ثم قال تعالى ذكره: قد بيّنا لكم ما فيه رَشَدكم وهدايتكم إلى ما يُرضي ربكم عنكم، فقدِّموا لأنفسكم الخيرَ الذي أمركم به، واتخذوا عنده به عهدًا، لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم = واتقوه في معاصيه أن تقربوها، وفي حدوده أن تُضِيعوها، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم، فَمُجازٍ المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. (2) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "الذي هو أولى بأن يكون قبل التهدد عامًا" وفي المطبوعة: "التهديد"، وهي جملة غير مستقيمة، فحذفت"الذي" وزدت: "إذ كان التهدد على المعصية"، ليستقيم معنى الكلام وسياقه. (2) في المطبوعة: "فمجازي" بالياء في آخره. والصواب ما أثبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) } قال أبو جعفر: وهذا تحذيرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه: أن يأتوا شيئًا مما نهاهم عنه من معاصيه = وتخويفٌ لهم عقابَه عند لقائه، كما قد بيَّنا قبل = وأمرٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عباده، بالفوز يوم القيامة وبكرامة الآخرة وبالخلود في الجنة، من كان منهم محسنًا مؤمنًا بكتبه ورسله، وبلقائه، مصدِّقًا إيمانَه قولا بعمله ما أمره به ربُّه، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه، وبتجنُّبه ما أمره بتجنُّبه من معاصيه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم". فقال بعضهم: معناه: ولا تجعلوه عِلَّة لأيمانكم، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الخير والإصلاح بين الناس قال:"عليّ يمين بالله ألا أفعل ذلك" - أو"قد حلفت بالله أن لا أفعله"، فيعتلّ في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر ما سلف، مقالة الطبري في"ملاقو ربهم" 2: 20- 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 4351 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:" ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح، ثم يعتلّ بيمينه، يقول الله:" أن تبرُّوا وتتقوا" هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح، وإن حلفت كفَّرت عن يمينك وفعلت الذي هو خيرٌ لك. 4352 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله = إلا أنه قال: وإن حلفت فكفِّر عن يمينك، وافعل الذي هو خير. 4353 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدق، أو أن يكون بينه وبين إنسان مغاضبة فيحلف لا يُصلح بينهما ويقول:"قد حلفت". قال: يكفّر عن يمينه:" ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم". 4354 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تجعلوا الله عُرضةً لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا"، يقول: لا تعتلُّوا بالله، أن يقول أحدكم إنه تألَّى أن لا يصل رَحمًا، (1) ولا يسعى في صلاح، ولا يتصدَّق من ماله. مهلا مهلا بارك الله فيكم، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تُنْفِذوا له أمرًا في شيء من نذروكم ولا أيمانكم. 4355 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف لا يصلح بين الناس ولا يبر، فإذا قيل له، قال:"قد حلفتُ".   (1) تألى الرجل: أقسم بالله، ومثله"آل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 4356 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله:" ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير، الأمرَ الحسن، يقول:"حلفت"! قال الله: افعل الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك، ولا تجعل الله عرضةً. 4357 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية: هو الرجل يحرّم ما أحل الله له على نفسه، فيقول:"قد حلفت! فلا يصلح إلا أن أبرَّ يميني"، فأمرهم الله أن يكفّروا أيمانهم ويأتوا الحلال. (1) 4358 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، أما" عُرضة"، فيعرض بينك وبين الرجل الأمرُ، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله. وأما" تبرُّوا"، فالرجل يحلف لا يبرُّ ذا رحمه فيقول:"قد حلفت! "، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبَرَّه، ولا يبالي بيمينه. وأما" تصلحوا"، فالرجل يصلح بين الاثنين فيعصيانه، فيحلف أن لا يصلح بينهما، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه. وهذا قبل أن تنزل الكفَّارات. (2) 4359 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين، فلا يمنعه يمينُه. * * *   (1) الأثر: 4357- في المطبوعة: "حدثت عن عمار بن الحسن، قال سمعت أبا معاذ" وهو خطأ صرف والصواب من المخطوطة، وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير أقربه رقم: 4324. و"الحسين" هو"الحسين بن الفرج". (2) انظر كلام أبي جعفر في هذا الأثر فيما بعد ص: 426. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تعترضوا بالحلف بالله في كلامكم فيما بينكم، فتجعلوا ذلك حجة لأنفسكم في ترك فعل الخير. * ذكر من مال ذلك: 4360 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفِّر عن يمينك واصنع الخير. 4361 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا". 4362 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. يقول: فليفعل، وليكفِّر عن يمينه. 4363 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن إبراهيم النخعي في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: لا تحلف أن لا تتقي الله، ولا تحلف أن لا تبرَّ ولا تعمل خيرًا، ولا تحلف أن لا تصل، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس، ولا تحلف أن تقتل وتقطَع. 4364 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن داود، عن سعيد بن جبير = ومغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 عرضة" الآية، قالا هو الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يتقي، ولا يصلح بين الناس. وأمِر أن يتقي الله، ويصلحَ بين الناس، ويكفّر عن يمينه. 4365 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله، وليدع يمينه. (1) 4366 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية، قال: ذلك في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. فأمره الله أن يدع يمينه، ويصل رحمه، ويأمر بالمعروف، ويصلح بين الناس. 4367 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قالت: لا تحلفوا بالله وإن بررتم. 4368 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: حُدثت أن قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، الآية، نزلت في أبي بكر، في شأن مِسْطَح. 4369 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية، قال: يحلف الرجل أن لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يصل رحمه.   (1) الأثر: 4365- هو في المخطوطة إسناد واحد جاء هكذا: "حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. . . " والذي في المطبوعة هو الصحيح، وهما إسنادان دائران في التفسير. الأول منهما أقربه رقم: 4132 والثاني منهما أقربه رقم: 3872 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 4370 - حدثني المثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. فلا يمنعه يمينه. (1) 4371 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبى سلمة، عن سعيد، عن مكحول أنه قال في قول الله تعالى ذكره:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرًا، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. نهاهم الله عن ذلك. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، تأويلُ من قال: معنى ذلك:"لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبينَ الله وبين الناس". * * * وذلك أن"العُرْضة"، في كلام العرب، القوة والشدة. يقال منه:"هذا الأمر عُرْضة لك" (2) يعني بذلك: قوة لك على أسبابك، ويقال:"فلانة عُرْضة للنكاح"، أي قوة، (3) ومنه قول كعب بن زهير في صفة نوق: مِنْ كُلِّ نَضَّاحةِ الذِّفْرَى إذَا عَرِقَتْ، ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُولُ (4) يعني بـ "عرضتها": قوتها وشدتها. * * *   (1) الأثر: 4370- هذا الأثر ليس في المخطوطة في هذا المكان، وهو الصواب. وهو مكرر الذي مضى برقم: 4359- وفي المطبوعة هنا"فلا ينفعه يمينه" وهو خطأ ظاهر. وكأن أولى أن يحذف ولكني أبقيته للدلالة على اختلاف النسخ. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "عرضة له" وأثبت ما هو أولى بالصواب. (3) أخشى أن يكون الصواب الجيد: "أي قرية". (4) ديوانه: 9، وسيأتي في التفسير 5: 79/11: 108/27: 62 (بولاق) من قصيدته المشهورة. نضح الرجل بالعرق نضحا، فض به حتى سال سيلانًا. ونضاحة: شديدة النضح. والذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن، وهو من الناس والحيوان جميعا: العظم الشاخص خلف الأذن. وسيلان عرقها هناك، ممدوح في الإبل. والطامس: الدارس الذي أمحى أثره. والأعلام: أعلام الطريق، تبنى في جادة الطريق ليستدل بها عليه إذا ضل الضال. وأرض مجهولة: إذا كان لا أعلام فيها ولا جبال، فلا يهتدي فيها السائر. يقول: إذا نزلت هذه المجاهل، عرفت حينئذ قوتها وشدتها وصبرها على العطش والسير في الفلوات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 فمعنى قوله تعالى ذكره:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" إذًا: لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس، فليحنث في يمينه، وليبرَّ، وليتق الله، وليصلح بين الناس، وليكفّر عن يمينه. * * * وترك ذكر"لا" من الكلام، لدلالة الكلام عليها، واكتفاءً بما ذُكر عما تُرِك، كما قال أمرؤ القيس: فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيكَ وَأَوْصَالِي (1) بمعنى: فقلت: يمين الله لا أبرح، فحذف"لا"، اكتفاء بدلالة الكلام عليها. * * * وأما قوله:" أن تبروا"، فإنه اختلف في تأويل"البر"، الذي عناه الله تعالى ذكره. فقال بعضهم: هو فعل الخير كله. وقال آخرون: هو البر بذي رحمه، وقد ذكرت قائلي ذلك فيما مضى. (2) * * * وأولى ذلك بالصواب قول من قال:"عني به فعل الخير كله". وذلك أن أفعال الخير كلها من"البر"، ولم يخصص الله في قوله:" أن تبرُّوا" معنى دون معنى من معاني"البر"، فهو على عمومه، والبر بذوي القرابة أحد معاني"البر". * * * وأما قوله:" وتتقوا"، فإن معناه: أن تتقوا ربكم فتحذروه وتحذروا عقابه في   (1) ديوانه: 141 وسيأتي في التفسير 13: 28 (بولاق) وهو من قصيدته التي لا تبارى وهي مشهورة وما قبل البيت وما بعده مشهور. (2) انظر ما سلف في معاني"البر" 2: 8/ ثم 3: 336- 338، 556. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدَّوْها. وقد ذكرنا تأويل من تأوَّل ذلك أنه بمعنى"التقوى" قبل. (1) * * * وقال آخرون في تأويله بما:- 4372 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:" أن تبروا وتتقوا" قال: كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس" الآية. قال: ويقال: لا يتق بعضكم بعضًا بي، تحلفون بي وأنتم كاذبون، ليصدقكم الناس وتصلحون بينهم، فذلك قوله:" أن تبروا وتتقوا"، الآية. (2) * * * وأما قوله:" وتصلحوا بين الناس"، فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مَأثَم فيه، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه. * * * وأما الذي ذكرنا عن السدي: من أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول كفارات الأيمان، (3) فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة. والخبر عما كان، لا تدرك صحته إلا بخبر صادق، وإلا كان دعوى لا يتعذر مِثلها وخلافها على أحد. (4) وغير محال أن تكون هذه الآية نزلت بعد بيان كفارات الأيمان في"سوره المائدة"، واكتفى بذكرها هناك عن إعادتها ههنا، إذ كان المخاطبون بهذه الآية قد علموا الواجبَ من الكفارات في الأيمان التي يحنث فيها الحالف. * * *   (1) انظر الآثار رقم: 4361، 4363، 4364. (2) الأثر: 4372- هو الأثر السالف رقم: 4361 وتتمته. (3) يعني الأثر السالف رقم: 4358. (4) في المخطوطة"لا يبعد مثلها. . . " غير منقوطة كأنها"لا سعد"، والذي في المطبوعة أجود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله سميع" لما يقوله الحالفُ منكم بالله إذا حلف فقال:"والله لا أبر ولا أتقي ولا أصلح بين الناس"، ولغير ذلك من قيلكم وأيمانكم ="عليم" بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، ألخير تريدون أم غيره؟ لأني علام الغيوب وما تضمره الصدور، لا تخفى عليّ خافية، ولا ينكتم عني أمر عَلَن فطهر، أو خَفي فبَطَن. وهذا من الله تعالى ذكره تهدُّد ووعيدٌ. يقول تعالى ذكره: واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول، أو بأبدانكم من الفعل، ما نهيتكم عنه - أو تضمروا في أنفسكم وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيات بفعل ما زجرتكم عنه، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرَّفتكموها، فإنّي مطَّلع على جميع ما تعلنونه أو تُسرُّونه. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 القول في تأويل قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، وفي معنى"اللغو". فقال بعضهم في معناه: لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين. وذلك كقول القائل:"فعلت هذا والله، أو: أفعله والله، أو: لا أفعله والله"، على سبوق المتكلم بذلك لسانُه، بما وصل به كلامه من اليمين. (1)   (1) قوله: "سبوق مصدر"سبق" لم يرد في كتب اللغة، ولكن أبا جعفر قد كرر استعماله. وانظر ما سلف في هذا الجزء 4: 287 والتعليق: 4، وما سيأتي: 456، تعليق: 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 * ذكر من قال ذلك: 4373 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هي"بلى والله"، و"لا والله". 4374 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عن عائشة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله"، و"بلى والله". 4375 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة نحوه. 4376 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لغو اليمين، قالت: هو"لا والله" و"بلى والله"، ما يتراجع به الناس. (1) 4377 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله" و"بلى والله". 4378 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله" و"بلى والله"، يصل بها كلامه. 4379 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين،   (1) راجعه الكلام مراجعة، وتراجعا القول: هو معاودة الكلام وجوابه أو التلازم في الأمور، كقوله تعالى: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي يتلاومون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"؟ قالت: هو"لا والله"، و"بلى والله"، ليس مما عقَّدتم الأيمان. 4380 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: أتيت عائشة مع عبيد بن عمير، فسألها عبيد عن قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فقالت عائشة: هو قول الرجل:"لا والله" و"بلى والله"، ما لم يعقد عليه قلبه. 4381 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: انطلقت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة في ثَبِير، فسألها عبيد عن لغو اليمين، قالت:"لا والله" و"بلى والله". 4382 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال، حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو قول الرجل في بيته:"كلا والله" و"بلى والله". (1) 4383 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) الأثر: 4382- محمد بن موسى بن نفيع الحرشي البصري روى عنه الترمذي والنسائي وقال النسائي"صالح" وذكره ابن حبان في الثقات، ووهاه أبو داود وضعفه. مات سنة 248. وكان في المطبوعة: "الحرسي" وهو تصحيف. وحسان بن إبراهيم الكرماني العنزي قاضي كرمان. روى عن سعيد بن مسروق وسفيان بن سعيد الثوري، وعنه حميد بن مسعدة وغيره. قال أحمد: "حديثه حديث أهل الصدق". وقال النسائي"ليس بالقوي" مات سنة 186. و"إبراهيم الصائغ" هو: إبراهيم بن ميمون الصائغ، روى عن عطاء وغيره. قال أبو حاتم: "لا بأس به، يكتب حديثه". قتله أبو مسلم الخراساني سنة 131 يعرندس، قال أبو داود: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء سيبها. هذا وقد روى هذا الحديث أبو داود في سننه 3: 304 رقم: 3254 عن حميد بن مسعدة، عن حسان بن إبراهيم. . " ثم قال: "روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات عن إبراهيم الصائغ موقوفا على عائشة وكذلك رواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول وكلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا". ورواه مالك في الموطأ: 2: 477 عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفًا، كما سيأتي في روايات الطبري. ورواه البخاري موقوفًا أيضًا (11: 476 فتح الباري) واستقصى الحافظ القول فيه. وانظر سنن البيهقي 10: 48 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت: هم القوم يتدارءون في الأمر، فيقول هذا:"لا والله، وبلى والله، وكلا والله"، يتدارءون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم. (1) 4384 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن الشعبي في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، يصل به كلامه، ليس فيه كفارة. 4385 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن الشعبي قال: هو الرجل يقول:"لا والله، وبلى والله"، يصلُ حديثه. 4386 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال، سألت عامرًا عن قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو"لا والله، وبلى والله". 4387 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = جميعًا، عن ابن عون، عن الشعبي مثله. 4388 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب قال، قال أبو قلابة في:"لا والله، وبلى والله"، أرجو أن يكون لغة = وقال يعقوب في حديثه: أرجو أن يكون لغوًا = وقال ابن وكيع في حديثه: أرجو أن يكون لغة، ولم يشك. (2) 4389 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد قالوا، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: لا والله، وبلى والله.   (1) تدارأ القوم في الأمر: اختلفوا فيه، فتخاصموا وتدافعوا وتراجعوا القول بينهم. (2) يعني بقوله هنا: "لغة" أي لغة من لغات العرب، وأسلوبا من أساليبهم في القول كقولهم: "قالك الله""ويحك" لا يريدون الدعاء عليه، فهذا أيضًا لا يريد اليمين، إنما يريد التوثيق في كلامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 4390 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن مالك، عن عطاء، قال: سمعت عائشة تقول في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله، وبلى والله". 4391 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عطاء مثله. 4392 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو قول الناس:"لا والله، وبلى والله". 4393 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي وعكرمة قالا"لا والله وبلى والله". 4394 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فسألها، فقالت:"لا والله، وبلى والله". 4395 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ابن أبي ليلى، وأشعث، عن عطاء، عن عائشة:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت:"لا والله، وبلى والله". 4396 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:"لا والله، وبلى والله". 4397 - حدثنا ابن وكيع وهناد قالا حدثنا يعلى، عن عبد الملك، عن عطاء قال: قالت عائشة في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت: هو قولك:"لا والله، وبلى والله"، ليس لها عَقد الأيمان. 4398 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، يصل به كلامه، ما لم يشك شيئًا يعقِد عليه قلبه. 4399 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو، أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 سعيد بن أبي هلال حدثه: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت عائشة تقول: لغو اليمين قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، فيما لم يعقد عليه قلبه. 4400 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عمرو = وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي، عن عطاء، عن عائشة بذلك. 4401 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجلان يتبايعان، فيقول أحدهما:"والله لا أبيعك بكذا وكذا"، ويقول الآخر:"والله لا أشتريه بكذا وكذا"، فهذا اللغو، لا يؤاخذ به. * * * وقال آخرون: بل اللغو في اليمين، اليمينُ التي يحلفُ بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه، ثم يتبين غير ذلك، وأنه بخلاف الذي حلف عليه. * ذكر من قال ذلك: 4402 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني ابن نافع، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين، حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه، فإذا هو غير ذلك. 4403 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، واللغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقًا، وليس بحق. 4404 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، هذا في الرجل يحلف على أمرِ إضرارٍ أن يفعله فلا يفعله، (1) فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. ومن اللغو أيضًا أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق، وقد أخطأ في يمينه، (2) فهذا الذي عليه الكفارة ولا إثم عليه   (1) في المخطوطة"إصرارًا" وفي الدر المنثور 1: 269"أو لا يفعله" وسيأتي برقم: 4463 مختصرًا. (2) في الدر المنثور: "وقد أخطأ في ظنه"، وهي أشبه بالصواب والمخطوطة والمطبوعة مجتمعان على"في يمينه" وانظر تعليق الطبري فيما سيأتي على هذا الأثرن وقوله في تفسيره وبيانه: ص: 445 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 4405 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن سليمان بن يسار في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: خطأ غير عَمد. 4406 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية،" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو أن تحلف على الشيء، وأنت يُخيَّل إليك أنه كما حلفت، وليس كذلك. فلا يؤاخذه الله ولا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلف عليه على علم. 4407 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن قال: هو الرجل يحلف على اليمين، لا يرى إلا أنه كما حلف. 4408 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنها كذلك، وليست كذلك. 4409 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشي، وهو يرى أنه كذلك، فلا يكون كما قال، فلا كفارة عليه. 4410 - حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع قالوا، حدثنا وكيع، عن سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري =، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشيء لا يرى إلا أنها كما حلف عليه، وليست كذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 4411 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: من حلف بالله ولا يعلم إلا أنه صادق فيما حلف. 4412 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، حلِف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه، فلا يكون كما حلف، كقوله:"إن هذا البيت لفلان"، وليس له = و"إن هذا الثوب لفلان"، وليس له. 4413 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه فيه صادق. 4414 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. قال: فلا يؤاخذكم بذلك. قال: وكان يحبّ أن يُكفّر. 4415 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فذلك اللغو، لا يؤاخذ به. (1) 4416 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور،   (1) الأثر: 4415-"الجعفي" هو حسين بن علي بن الوليد الجعفي. قال أحمد: "ما رأيت أفضل من حسين وسعيد بن عامر". قال العجلي: "ثقة، وكان صالحًا لم أر رجلا قط أفضل منه، وكان صحيح الكتاب. يقال إنه لم يطأ أنثى قط، وكان جميلا. وكان زائدة يختلف إليه إلى منزله يحدثه، فكان أروى الناس عنه. وكان الثوري إذا رآه عانقه وقال: هذا راهب جعفي". مات سنة 203 (التهذيب) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 عن إبراهيم نحوه = إلا أنه قال: إن حلفت على الشيء، وأنت ترى أنك صادق، وليس كذلك. 4417 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك أنه قال: اللغو، الرجل يحلف على الأيمان، وهو يرى أنه كما حلف. (1) 4418 - حدثني إسحاق بن [إبراهيم بن] حبيب بن الشهيد قال، (2) حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن زياد قال: هو الذي يحلف على اليمين يرى أنه فيها صادق. 4419 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثنا بكير بن أبي السميط، عن قتادة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الخطأ غير العمد، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك. 4420 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، ويونس، عن الحسن قال: اللغو، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، فليس عليه فيه كفارة. 4421 - حدثنا هناد وابن وكيع = قال هناد: حدثنا وكيع، وقال ابن وكيع: حدثني أبي = عن عمران بن حدير قال: سمعت زرارة بن أوفى قال: هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف. 4422 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عمر بن بشير قال: سئل عامر عن هذه الآية:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"،   (1) في المطبوعة: "أبو إدريس"، والصواب من المخطوطة، وهو: عبد الله بن إدريس الأودي سلفت ترجمته فراجعه في الفهرست. (2) الزيادة بين القوسين للبيان، واتفقت المخطوطة والمطبوعة على إسقاط"إبراهيم بن" ولكنه مضى دائما بتمامه، وأقربه رقم: 4373. فلذلك أتممته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 قال: اللغو أن يحلف الرجل لا يألو عن الحق، فيكون غير ذلك. فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به. (1) 4423 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فاللغو اليمين الخطأ غير العمد، أن تحلف على الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت عليه، ثم لا يكون كذلك. فهذا لا كفارة عليه ولا مأثم فيه. 4424 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، أما اللغو: فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنها كذلك، فلا تكون كذلك. فليس عليه كفارة. 4425 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو اليمين الخطأ في غير عمد: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه كما حلف عليه. وهذا ما ليس عليه فيه كفارة. 4426 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك قال: أما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنه فيها صادق، فذلك اللغو. 4427 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك مثله = إلا أنه قال: الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو. 4428 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح،   (1) الأثر: 4422- عمر بن بشير الهمداني أبو هانئ روى عن الشعبي. روى عنه وكيع وأبو نعيم قال أحمد: "صالح الحديث" وقال ابن معين: "ضعيف" وقال أبو حاتم: "ليس بقوي يكتب حديثه". مترجم في الجرح والتعديل. و"عامر" هو عامر الشعبي مضى مرارًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 عن يحيى بن سعيد، وعن ابن أبي طلحة - كذا قال ابن أبي جعفر - (1) قالا من قال:"والله لقد فعلت كذا وكذا" وهو يظن أن قد فعله، ثم تبيَّن له أنه لم يفعله، فهذا لغو اليمين، وليس عليه فيه كفارة. 4429 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن الحسن في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الخطأ غيرُ العمد، كقول الرجل:"والله إن هذا لكذا وكذا"، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك = قال معمر: وقاله قتادة أيضًا. 4430 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال: سئل سعيد عن اللغو في اليمين، قال سعيد، وقال مكحول: الخطأ غيرُ العمد، ولكن الكفارة فيما عقدت قلوبكم. 4431 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ الله به، أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه. 4432 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: إذا حلف على اليمين وهو يرى أنه فيه صادق، وهو كاذب، (2) فلا يؤاخذ به، وإذا حلف على اليمين وهو يعلم أنه كاذب، فذاك، الذي يؤاخذ به. * * * وقال آخرون: بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب،   (1) هكذا جاء هذا الإسناد في المخطوطة والمطبوعة، ولم أستطع أن أتبين صوابه، فأبقيته كما هو حتى يتبين مما يأتي كيف كان صوابه. وأخشى أن يكون قد سقط بين الكلامين إسناد آخر. (2) في المخطوطة: "أنه صادق" بحذف"فيه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلةً للكلام. * ذكر من قال ذلك: 4433 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن خالد، عن عطاء، عن وَسيم، [عن طاوس] ، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. (1) 4434 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاوس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان، فلا كفَّارة عليه فيها، قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" (2) * * *   (1) الأثر: 4433- مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، روى عنه البخاري وهو متقن ثقة، مات سنة 219، مترجم في التهذيب. و"خالد" هو: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي. قال البخاري في الكبير 2/1/147: "قال علي: سماع خالد عن عطاء بن السائب أخيرًا، وسماع حماد بن زيد من عطاء صحيح". مات سنة 182 ومترجم في التهذيب. و"عطاء" هو عطاء ابن السائب. و"وسيم" مترجم في الجرح والتعديل 4/2/46، والكبير للبخاري 4/2/181 وقال: "وسيم" عن طاوس عن ابن عباس، في يمين اللغو. قاله خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب". وفي المطبوعة: "رستم" وهو خطأ. وفي المطبوعة والمخطوطة إسقاط"عن طاوس" والصواب ما أثبته بين القوسين. كما نص عليه البخاري، وكما رواه البيهقي. وهذا الخبر أشار إليه البخاري في الكبير كما نقلنا عنه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 49، من طريق سعيد بن منصور"عن خالد عن عطاء بن السائب، عن وسيم عن طاوس، عن ابن عباس". فالظاهر من هذا كله -ومما سيأتي- أنه سقط من نسخ الطبري هنا"عن طاوس" بين"وسيم" و"ابن عباس". وذكره ابن كثير 1: 527، من تفسير ابن أبي حاتم بإسناده من طريق مسدد"حدثنا خالد حدثنا عطاء عن طاوس عن ابن عباس". فالظاهر أنه وقع سقط في مطبوعة ابن كثير، بحذف"عن وسيم" بين عطاء وطاوس. وذكره أيضًا السيوطي 1: 269 ونسبه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي"من طريق طاوس عن ابن عباس". وهذا الخبر شاهد جيد للحديث المرفوع من حديث ابن عباس الآتي: 4435. (2) الأثر: 4434-"أبو حمزة" هو: محمد بن ميمون المرزوي، أبو حمزة السكري مات سنة: 166. وهذا الخبر من كلام طاوس يؤيد روايته السابقة عن ابن عباس. وهو شاهد آخر للحديث المرفوع التالي له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 وعلة من قال هذه المقالة، ما:- 4435 - حدثني به أحمد بن منصور المروزي قال، حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال، حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمين في غضب". (1) * * * وقال آخرون: بل اللغو في اليمين: الحلفُ على فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر الله بفعله. * ذكر من قال ذلك: 4436 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: هو الذي يحلف على المعصية، فلا يفي ويكفِّر يمينه، قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم".   (1) الحديث: 4435- هذا إسناد صحيح. أحمد بن منصور بن راشد، أبو صالح الحنظلي المرزوي شيخ الطبري: ثقة. عمر بن يونس بن القاسم اليمامي: ثقة ثبت، وثقه أحمد وابن معين. سليمان بن أبي سليمان الزهري اليمامي: ثقة ترجمه البخاري في الكبير 2/2/20، وذكر أنه روى عن يحيى بن أبي كثير وأنه سمع منه عمر بن يونس. ثم لم يذكر فيه حرجًا. وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/122 بنحو ترجمة البخاري، ثم روى عن أبيه أبي حاتم أنه قال: "هو شيخ ضعيف". وذكره ابن حبان في الثقاتوقال: "ربما خالف". كما نقل عنه الحافظ في لسان الميزان 3: 95. وقد خلط بعضهم بينه وبين راو آخر ضعيف جدًا، هو"سليمان بن داود اليمامي" لأنه يكثر الرواية عن يحيى بن أبي كثير. ولكن هذا غير ذاك كما فرق بينهما البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان وحقق ذلك الحافظ في لسان الميزان. ولكن كلام الحافظ يوهم أن البخاري ضعف الراوي هنا، لأنه زعم أن أبا حاتم تبع البخاري في ذلك. والبخاري لم يذكر جرحًا في الكبير ولا ترجمه في الصغير ولا ذكره في الضعفاء. فالحق أنه ثقة. وهذا الحديث لم أجده في مكان آخر، إلا أنه ذكره الحافظ في الفتح 11: 490 ونسبه للطبراني في الأوسط، ثم قال: "وسنده ضعيف". ولم أجده في مجمع الزوائد. وإنما ضعفه الحافظ فيما أرى والله أعلم- بأنه ذهب إلى تضعيف سليمان بن أبي سليمان. وأنا أخالفه في ذلك، كما بينت من قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 4437 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير قال: لغو اليمين: أنْ يحلِف الرجل على المعصية لله، لا يؤاخذه الله بإلغائها. (1) 4438 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن جبير بنحوه = وزاد فيه، قال: وعليه كفارة. (2) 4439 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى ويزيد بن هارون، عن داود، عن سعيد بنحوه. 4440 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله أن يكفِّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير. 4441 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة = عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها. 4442 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا إسحاق، عن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند قال، حدثنا خالد بن إلياس، عن أم أبيه: أنها حلفت أن لا تكلم ابنة ابنها - ابنة أبي الجهم - فأتت سعيد بن المسيب وأبا بكر وعروة بن الزبير فقالوا: لا يمين في معصية، ولا كفارة عليها. (3) 4443 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "بإيفائها" والصواب ما أثبت. وانظر ص: 441 تعليق: 1 (2) في المطبوعة: "وعليه كفارة" وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 4442- الحسن بن الصباح البزار الواسطي روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي كان ثقة صاحب سنة، مات سنة 249. وخالد بن إلياس بن صخر أبو الهيثم العدوي قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: فكيف يصنع؟ قال: يكفر عن يمينه ويترك المعصية. 4444 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الحرام، فلا يؤاخذه الله بتركه. 4445 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير قال في لغو اليمين قال: هي اليمين في المعصية، قال: أو لا تقرأ فتفهم؟ قال الله: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) [سورة المائدة: 89] ، قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها. (1) قال: وقال:" لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" إلى قوله:" فإنّ الله غفور حليم". (2) 4446 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها، ويكفِّر. 4447 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن مسروق، في الرجل يحلف على المعصية، فقال: أيكفِّر خُطوات الشيطان؟ ليس عليه كفارة. 4448 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثل ذلك.   (1) في المطبوعة: "بالإيفاء" وفي المخطوطة: "بالإيفاد" والصواب"بالإلغاء" ألغى الشيء: أبطله وأسقطه. وتم على الأمر تمامًا: استمر عليه وأنفذه. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "والله غفور حليم" سها الكاتب، وهذا صواب القراءة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 4449 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، في الرجل يحلف على المعصية، قال: كفارتها أن يتوب منها. 4450 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي أنه كان يقول: يترك المعصية ولا يكفر، ولو أمرتُه بالكفارة لأمرته أن يَتِمّ على قوله. 4451 - حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر، عن مسروق قال: كل يمين لا يحلّ لك أن تفي بها، فليس فيها كفارة. * * * وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:- 4452 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية لله فلا يمين له، ومن حلف على قطيعة رَحِمٍ فلا يمينَ له". (1) 4453 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمينِ قطيعةِ رحم أو معصية لله، فبِرُّه أن يحنَث بها ويرجع عن يمينه. (2) * * *   (1) الحديث: 4452- رواه الحاكم في المستدرك 4: 300 من طريق الحسن بن علي بن عفان العامري. والبيهقي في السنن الكبرى 10: 23 من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي- كلاهما عن أبي أسامة، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال: "عبد الرحمن: متروك" وقال أبو حاتم: "شيخ" و"عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة": ثقة كما مضى في: 3827. ومعنى الحديث ثابت من أوجه كثيرة، مجموعًا ومفرقًا في المسند: 6732، 6780، 6781، 6932، 6990. (2) الحديث: 4453- هذا حديث ضعيف جدًا. علي بن مسهر القرشي الكوفي الحافظ: ثقة ثبت، ممن جمع الحديث والفقه أخرج له. الأئمة الستة. حارثة بن محمد: هو حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن يروي عن جدته أم أبيه عمرة بنت عبد الرحمن وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 2/1/87، والصغير: 174، والضعفاء: 11-"منكر الحديث" وقال أحمد: "ضعيف ليس بشيء". وقال البخاري في الصغير: "لم يعتد أحمد بحارثة بن أبي الرجال". والحديث لم أجده في شيء من المراجع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 وقال آخرون: اللغو من الأيمان: كل يمين وصَل الرجل بها كلامه، على غير قصدٍ منه إيجابَها على نفسه. * ذكر من قال ذلك: 4454 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: لغو اليمين، أن يصل الرجل كلامه بالحلف:"والله ليأكلن، والله ليشربن" ونحو هذا، لا يتعمد به اليمين، ولا يريد به حلفًا. ليس عليه كفارة. 4455 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم: لغو اليمين، ما يصل به كلامه:"والله لتأكلن، والله لتشربن". 4456 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم"، قال: هما الرجلان يتساومان بالشيء، فيقول أحدهما:"والله لا أشتريه منك بكذا"، ويقول الآخر:"والله لا أبيعك بكذا وكذا". 4457 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدثه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أيمان اللغو، ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعتمد عليه القلب. (1) * * *   (1) أخشى أن يكون الصواب: "لا يعقد عليه. . . ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:- 4458 - حدثنا به محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا عبيد الله بن ميمون المرادي قال، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون - يعني: يرمون - ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت! فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله! قال: كلا أيمان الرُّماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة. (1) * * * وقال آخرون: اللغو من الأيمان، ما كان من يمينٍ بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه: إن لم يفعل كذا وكذا، أو بمعنى الشرك والكفر. * ذكر من قال ذلك: 4459 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو كقول الرجل:"أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا - أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدًا"، فهو هذا، ولا يترك الله له مالا ولا ولدًا. يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئًا.   (1) الحديث: 4458- محمد بن موسى بن نفيع الحرشي شيخ الطبري: ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وقال النسائي: "صالح". عبيد الله بن ميمون المرادي: لا أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة. وفي ابن كثير - عن هذا الموضع: "عبد الله" بدل"عبيد الله" فلا أدري أيهما الصحيح. والحسن بن أبي الحسن: هو الحسن البصري. وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 527 عن هذا الموضع. وقال: "هذا مرسل حسن، عن الحسن" ولعله أعجبه الجناس والسجع أما المرسل فإنه ضعيف، لجهالة الواسطة بعد التابعي كما هو معروف. ونقله السيوطي أيضًا 1: 269 ولم ينسبه لغير الطبري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 4460 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن زيد بن أسلم بمثله. 4461 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، أن زيد بن أسلم كان يقول في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، مثل قول الرجل:"هو كافر، وهو مشرك". قال: لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه. 4462 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو في هذا: الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول:"هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا"، فهذا اللغو الذي قال الله في"سورة البقرة". * * * وقال آخرون: اللغو في الأيمان: ما كانت فيه كفارة. * ذكر من قال ذلك: 4463 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر يمينه، ويأتي الذي هو خير. (1) 4464 - حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اليمين المكفرة. * * * وقال آخرون: اللغو من الأيمان: هو ما حنث فيه الحالف ناسيًا. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 4463- هو مختصر الأثر السالف رقم: 4404 وانظر التعليق هناك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 4465 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرني مغيرة، عن إبراهيم قال: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه، يعني في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم". * * * قال أبو جعفر: و"اللغو" من الكلام في كلام العرب، كلّ كلام كان مذمومًا وسَقَطًا لا معنى له مهجورًا، (1) يقال منه:"لغا فلان في كلامه يلغُو لَغْوًا" إذا قال قبيحًا من الكلام، ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [سورة القصص: 55] ، وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان: 72] . ومسموع من العرب:"لَغَيْتُ باسم فلان"، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح. فمن قال:"لَغَيْت"، قال:"ألْغَى لَغًا"، وهي لغة لبعض العرب، ومنه قول الراجز: (2) وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّم ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (3) فإذا كان"اللغو" ما وصفت، وكان الحالفُ بالله:"ما فعلت كذا" وقد فعل،"ولقد فعلتُ كذا" وما فعل - واصلا بذلك كلامه على سبيل سُبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه، (4) ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام = والقائلُ:"والله إنّ هذا لَفُلان" وهو يراه كما قال، أو:"والله ما هذا فلان! " وهو يراه ليس به = والقائلُ:"ليفعلنّ كذا والله - أو: لا يفعل كذا والله" على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام وسبوق اللسان للعادة، (5) على غير تعمد   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وفعلا" وهي كلمة محرفة بلا شك، والصواب فيما أرجح وسقطا" لم يجد الناسخ قراءتها فحرفها. و"السقط": الخطأ، وما تسقطه فلا تعتد به. وهجر يهجر هجرًا: إذا خلط في كلامه وهذي وأفحش. والكلام مهجور. (2) هو رؤية بن العجاج. (3) مضى تخريج هذا الرجز في 3: 488- 489. (4) انظر التعليق على قوله"سبوق" فيما سلف من هذا الجزء: 287، تعليق: 4/ وص: 427 (5) انظر التعليق على قوله"سبوق" فيما سلف من هذا الجزء: 287، تعليق: 4/ وص: 427 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 حلف على باطل = والقائل:"هو مشرك، أو هو يهودي أو نصراني، إن لم يفعل كذا - أو إن فعل كذا" من غير عزم على كفر أو يهودية أو نصرانية = (1) جميعهم قائلون هُجْرًا من القول وذميمًا من المنطق، (2) وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثمَ قلوبهم = (3) كان معلومًا أنهم لُغاةٌ في أيمانهم، لا تلزمهم كفارة في العاجل، ولا عقوبة في الآجل، لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عبادَه، بما لغوا من أيمانهم، وأنّ الذي هو مؤاخذهم به، ما تعمدت فيه الإثمَ قلوبُهم. وإذ كان ذلك كذلك = وكان صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حلف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه"، فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه، مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه، وكانت الغرامةُ في المال - أو إلزام الجزاء من المجزيِّ أبْدالَ الجازين = (4) لا شك عقوبةً كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالا لخلقه فيما تعدَّوا من حدوده، وإن كان   (1) سياق هذه الجمل التي وضعت قبلها الخطوط: فإذا كان اللغو ما وصفت، وكان الحالف. . . والقائل. . . والقائل. . . والقائل. . . جميعهم قائلون. . . " (2) الهجر من الكلام (بضم الهاء وسكون الجيم) : القول السيء القبيح والتخليط والفحش. (3) قوله: "كان معلومًا. . . " جواب قوله: "وإذا كان اللغو ما وصفت وكان الحالف بالله. . . " وقوله: "لغاة" جمع"لاغ" مثل"قاض وقضاة". (4) في المطبوعة: "أبدان الجارين" وفي المخطوطة"أبدان الجازين" زكأن الصواب ما أثبت فإنه يعني بهذا، ما فرضه الله تعالى في قوله في سورة المائدة: 95 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وقد فسر الطبري الجزاء هناك (7: 28) فقال: "وعليه كفارة بدل". فقوله هنا: "المجزي" يعني الصيد المقتول الذي يكون جزاؤه مثله من النعم، وقوله"من المجزي" يعني"بدلا منه". والأبدال هنا هي الكفارات. والجازي: المكفر عن قتله الصيد بمثله من النعم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه = (1) كان بينًا أنّ من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنِث فيه، وإن كانت كفارة لذنبه، فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها، وإن كان ما عجَّل من عقوبته إياه على ذلك، مُسْقطًا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها، فغيرُ جائز لقائل أن يقول وقد وأخذه بها: هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله. فإذ كان ذلك غيرَ جائز، فبيِّنٌ فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال:"اللغو الحلف على المعصية"، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن على الحالف على معصية الله كفارة بحِنْثه في يمينه. وفي إيجاب سعيدٍ عليه الكفارة، دليلٌ واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ، لما وصفنا من أن من لزمه الكفارة في يمينه، فليس ممن لم يؤاخذ بها. فإذا كان"اللغو" هو ما وصفنا = مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به - وكلُّ يمين لزمت صاحبَها بحنثه فيها الكفارةُ في العاجل، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبةَ عليها في الآجل، وإن كان وَضَع عنه كفارتها في العاجل - فهي مما كسبته قلوب الحالفين، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين. وما عدا ذلك فهو"اللغو"، وقد بينا وجوهه = (2) فتأويل الكلام إذًا: لا تجعلوا الله أيها المؤمنون قوةً لأيمانكم، (3) وحجة لأنفسكم في إقسامكم، في أن لا تبرُّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الله لا يؤاخذكم بما لَغَتْه ألسنتكم من أيمانكم فنطقت به من قبيح   (1) سياق هذه الجملة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا عن رسول الله. . . وكانت الغرامة في المال. . . كان بينًا أن. . . " (2) سياق هذه الجملة: فإذ كان اللغو هو ما وصفنا. . . وكل يمين لزمت صاحبها بحنثه. . . فهي مما كسبته قلوب الحالفين. . . فتأويل الكلام إذا. . . " (3) في المطبوعة: "عرضة لأيمانكم" والصواب ما أثبت من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 الأيمان وذميمها، على غير تعمُّدكم الإثم، وقصدِكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عَقْد الأيمان التي حلفتم بها، ولكنه إنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم، وعزمتم على الإتمان على ما حلفتم عليه بقصدٍ منكم وإرادة، (1) فيلزمكم حينئذ إمّا كفارة في العاجل، وإمّا عقوبة في الآجل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" عبادَه أنه مؤاخذهم به، (2) بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله:" بما كسبت قلوبكم"، ما تعمدت. (3) فقال بعضهم: المعنى الذي أوعد الله عبادَه مؤاخذتهم به: هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل. * ذكر من قال ذلك: 4466 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فلا يؤاخذ بها. وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.   (1) "الإتمام على ما حلفتم" يعني الاستمرار عليه وإمضاءه. وقد سلف آنفًا في كلامه"التمام عليها" ص 441 و"تم على قوله" في الأثر: 4450 ولكنه استعمل هنا"الإتمام" من"أتم على الأمر" وليست في كتب اللغة ولكنها جائزة في العربية، صحيحة في قياسها. (2) "عباده" مفعول: "أوعد الله تعالى. . . " (3) انظر تفسير"الكسب" فيما سلف 2: 273-274/ ثم 3: 100، 101، 128، 129. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 4467 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، قال: أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به. 4468 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، أن تحلف وأنت كاذب. 4469 - حدثني المثنى قال، [حدثنا عبد الله بن صالح] حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) [سورة المائدة: 89] ، وذلك اليمين الصبر الكاذبة، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم، أو يرد ذلك المال إلى أهله، وهو قوله تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) إلى قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران: 77] . (1) 4470 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، ما عَقَدتْ عليه. 4471 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 4472 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال:   (1) الأثر: 4469- الآية التي في صدر هذا الأثر، هي آية المائدة وأخشى أن يكون الصواب ما تن فيه من آية البقرة ولكن المطبوعة والمخطوطة اتفقتا جميعا على ذلك. بيد أني أرجح ما قلت، لأن أبا جعفر روى في تفسير آية المائدة (7: 11 بولاق) عن"المثنى قال حدثنا عبد الله بن صالح. . . " إلى آخر إسناده إلى ابن عباس ثم ذكر آية المائدة ولم يأت فيها بنص هذا الأثر. وقد أسقط في المخطوطة والمطبوعة ما وضعته بين القوسين، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 4463. وقوله: "اليمين الصبر" الأجود أن تكون"يمين الصبر" بحذف التعريف، وإن كانت هذه جائزة حسنة. ويمين الصبر: هي اليمين التي يمسكك الحاكم عليها حتى تحلف وإن حلف إنسان بغير إحلافن لم تكن"يمين صبر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 لا تؤاخذ حتى تُصْعِد للأمر، (1) ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو، فتعقد عليه يمينك. * * * = قال أبو جعفر: والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوًا، فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم، فلم يكن يوجبُ فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل. (2) وإذ كان ذلك تأويلَ الآية عندهم، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة: (3) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم - ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، (4) واحفظوا أيمانكم. وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك، كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفًا. (5) * * * (6)   (1) في المطبوعة: "تقصد لأمر" والإصعاد: الإقبال على الشيء والتوجه له، ومنه قول حسان بن ثابت في خيل: [يُبَارِينَ الأَْعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ ... عَلَى أَكتَافِهَا الأَسَلُ الظَّمَاءُ] يعني مقبلات متوجهات نحوكم. (2) انظر ما سلف الأثر رقم: 4404. (3) سورة المائدة: 89. (4) في المخطوطة والمطبوعة"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم واحفظوا" فأثبت الكلمة التي أغفلها الناسخ من الآية. ويعني الطبري أن قوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" من المقدم الذي يراد به التأخير، ولذلك ساق الآية بنصها إلا هذه الجملة، فأخرها إلى مكانها على معنى تأويلهم هذا. (5) هي الآثار السالفة من: 4436. وإلى هذا الموضع انتهى تقسيم قديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا وجاء فيها ما نصه. "يتلوه: وَقال آخَرُونَ: المَعْنَى الذِي أَوْعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤَاخذةَ. وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِي وَآلِهِ كَثِيرًا * * * على الأصل المنقول منه بَلَغْتُ بِالسمَاعِ مِنْ أوله بِقرَاءَتي عَلَى القَاضِي أبي الحَسَن الخِصيبي، عنْْ أبي محمد الفرغَاني، عَنْ أبي جعفر الطبريّ - وَأخِي عليّ حرسه الله، ومحمد بن علي ألا. . . ونَصر بن الحسين الطبري ومحمد بن محمد بن أحمد بن عيسى السعدي- في شعبام سنة ثمان وَأَربع مئة". (6) أوله في المخطوطة: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحِيمِ رَبّ يَسِّرْ" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وقال آخرون: المعنى الذي أوعد الله تعالى عبادَه المؤاخذةَ بهذه الآية، (1) هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا. وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف، وليس ذلك كذلك. * ذكر من قال ذلك: 4473 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، يقول: بما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة. 4473 م - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله سواء. * * *   (1) في المطبوعة: "المؤاخذة به بهذه الآية" والذي في المخطوطة أجود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 وكأنَّ قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل مؤاخذة الله عبدَه على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة، إلى أنها مؤاخذةٌ منه له بها بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر، في إيجاب الكفارة على الحالف اليمينَ الفاجرةَ، منهم عطاءٌ والحكم. 4474 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء والحكم، أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبًا متعمدًا: يكفِّر. * * * وقال آخرون: بل ذلك معنيان: أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارةَ منه، والآخر منهما مؤاخذٌ به في الآخرة إلا أن يعفو. * ذكر من قال ذلك: 4475 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" أمَّا،" ما كسبت قلوبكم" فما عقدت قلوبكم، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادةَ أن يقضي أمرَه. والأيمان ثلاثة:"اللغو، والعمد، والغَموس". والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل، ثم يرى خيرًا من ذلك، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان"، فهذه لها كفارة. * * * وكأنَّ قائل هذه المقالة، وجَّه تأويل قوله:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، إلى غير ما وجَّه إليه تأويل قوله:" ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، وجعل قوله:" بما كسبت قلوبكم"، الغموسَ من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله:" بما عقدتم الأيمان"، اليمينَ التي يستأنف فيها الحِنث أو البرَّ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرَّ فيها. * * * وقال آخرون: بل ذلك: هو اعتقاد الشرك بالله والكفر. * ذكر من قال ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 4476 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد - يعني ابن عجلان -: أن زيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، مثل قول الرجل:"هو كافر، هو مشرك"، قال: لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه. (1) 4477 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو في هذا، الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول:"هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا"، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في"سورة البقرة":" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، قال: بما كان في قلوبكم صدقًا، واخذك به. فإن لم يكن في قلبك صدقًا لم يؤاخذك به، وإن أثمتَ. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده، وذلك يكون منها على وجهين: أحدهما: على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثمًا، وبفعله مستحقًا المؤاخذةَ من الله عليها. وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله، قاصدًا قِيلَ الكذب، (3) وذاكرًا أنه قد فعل ما حلف   (1) الأثر: 4476- هو الأثر السالف رقم: 4461. (2) الأثر: 4477- هو تمام الأثر السالف رقم: 4462. (3) في المخطوطة"أصل الكذب" خطأ من ناسخ لم يحسن قراءة الأصل، وفي المطبوعة: "القيل الكذب" والصواب الجيد ما أثبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 عليه أنه لم يفعله، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل. فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة، إن شاء واخذه به في الآخرة، وإن شاء عفا عنه بتفضله، ولا كفارة عليه فيها في العاجل، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها. وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها. والحالف الكاذب في يمينه، ليست يمينه مما يُتْبَدَأ فيه الحنث، فتلزم فيه الكفارة. (1) والوجه الآخر منهما: على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك. فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه. فإذا حنِث فيه بعد حلفه، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذِب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارةً لذنبه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله غفورٌ" لعباده فيما لَغَوْا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء وَاخذهم بها = ولما واخذهم به فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، (2) ولو شاء واخذهم في آجل الآخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، (3) وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها، وغير ذلك من ذنوبهم ="حليمٌ" في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبةَ على معاصيهم. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وإنما الكفارة تجب" ولكن المخطوطة قد وضعت بين الكلمتين علامة هكذا"~" هي التي تدل على تقديم آخر الكلمتين على الأولى. (2) في المطبوعة"ولما واخذهم بها" والصواب من المخطوطة. والسياق. "والله غفور لعباده فيما لغوا من أيمانهم. . ولما واخذهم به. (3) قوله: "فساتر" عطف عليه قوله: "والله غفور". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" للذين يؤلون"، للذين يقسمون أليَّة،"والألية" الحلف، كما:- 4478 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله:" للذين يؤلون"، يحلفون. * * * يقال:"آلى فلان يُؤْلي إيلاء وأليَّة"، كما قال الشاعر: كَفَيْنَا مَنْ تَغَيَّبَ في تُرَابٍ ... وَأَحْنَثْنَا أَليَّةَ مُقْسِمِينَا (1) ويقال:"أَلْوة وأُلْوة"، كما قال الراجز: * يَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَتِي * (2) وقد حكي عنهم أيضًا أنهم يقولون:"إلوة" مكسورة الألف. * * * "والتربص": النظر والتوقف. * * * ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر"أن يعتزلوا"، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه. * * * واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته.   (1) لم أجد البيت ولم أعرف قائله. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "من تراب" وصواب معناه يقتضي ما أثبت. (2) لم أجد هذا الرجز. وفي المطبوعة: "ما ألوى" والصواب من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 فقال بعضهم: اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته: أن يحلف عليها في - حال غضب على وجه الضِّرار - أن لا يجامعها في فرجها، (1) فأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير غضب، فليس هو موليًا منها. * ذكر من قال ذلك: 4479 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن حريث بن عميرة، عن أم عطية قالت، قال جبير: أرضعي ابن أخي مع ابنك! فقالت: ما أستطيع أن أرضع اثنين! فحلف أن لا يقرَبها حتى تفطِمه. فلما فطمته مرّ به على المجلس، فقال له القوم: حسنًا ما غَذَوْتموه! قال جبير: إنيّ حلفت ألا أقربها حتى تفطمه! فقال له القوم: هذا إيلاءٌ!! فأتى عليًا فاستفتاه، فقال: إن كنتَ فعلت ذلك غضبًا فلا تصلح لك امرأتك، وإلا فهي امرأتك. (2) 4480 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك، أنه سمع عطية بن جبير قال: توفيت أمُّ صبيٍّ نسيبةٌ لي،   (1) في المطبوعة: "على وجه الإضرار لها". والضرار: إلحاق الضرر بها، وفي الموضع التالي: "الإضرار" في المطبوعة والمخطوطة. (2) الآثار: 4479- 4485- خبر سماك ذكره البخاري في الكبير 4/1/12"عطية بن جبير العنزي قاله شعبة عن سماك. وقال سفيان عن سماك عن أبي عطية بن جبير. وقال أبو الأحوص عن حريث بن عميرة عن أم عطية: أن جبيرا حلف فأتى عليًا". وفي الجرح والتعديل 1/2/262: "حريث بن عميرة روى عن أم عطية. روى عنه سماك بن حرب في رواية أبي الأحوص عن سماك عنه. وروى إبراهيم بن طهمان عن سماك عن حريث عن عطية بن جبير عن أبيه قال: قلت لعلي - سمعت أبي يقول ذلك". وذكره ابن أبي حاتم أيضًا في الجرح والتعديل 3/1381- 382: "عطية بن جبير العنزي" واختلف فيه الرواة من سماك بن حرب. فقال شعبة عن سماك عن عطية بن جبير، قال قلت لعلي رضي الله عنه. وروى أبو الأحوص عن سماك عن حريث بن عمير عن عطية عن علي. وروى حماد بن سلمة عن سماك، عن أم عطية عن علي. وروى سفيان الثوري عن سماك عن أبي عطية بن جبير، عن علي - سمعت أبي يقول بعض ذلك وبعضه من قبلي" ورواه البيهقي في السنن 7: 381- 382 من طريق داود بن أبي هند عن سماك عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية أنه تزوج امرأة أخيه وهي ترضع بابن أخيه" ورواه من طريق عبيد الله بن معاذ، عن أبيه عن شعبة عن سماك عن عطية بن جبير قال: كانت أمي ترضع صبيًا. . . " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 فكانت امرأة أبي تُرضعه، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه. فلما مضت أربعة أشهر قيل له: قد بانت منك! - وأحسب، شك أبو جعفر، قال -: فأتى عليًا يستفتيه فقال: إن كنت قلت ذلك غضبًا فلا امرأة لك، وإلا فهي امرأتك. 4481 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني سماك قال، سمعت عطية بن جبير - يذكر نحوه عن علي. 4482 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال، حدثنا داود، عن سماك، عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية: أنه توفي أخوه وترك ابنًا له صغيرًا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه! فقالت: إنى أخشى أن تُغِيلهما، (1) فحلف أن لا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما. فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا: لَحُسْنَ ما غذا أبو عطية ابن أخيه! (2) قال: كلا! زعمت أم عطية أنيّ أغيلهما، فحلفتُ أن لا أقربها حتى تفطمهما. فقالوا له: قد حرُمت عليك امرأتك! فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه، فقال علي: إنما أردتَ الخيرَ، وإنما الإيلاء في الغضب. 4483 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك، عن أبي عطية: أن أخاه توفي - فذكر نحوه. 4484 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب: أن رجلا هلك أخوه فقال لامرأته: أرضعي   (1) أغالت المرأة ولدها، وأغال فلان ولده: إذ غشى أمه وهو ترضعه. واسم لبنها ذاك"الغيل" كانوا يقولون: إذا شربه الولد ضوى واعتل منه، واسم الفعل"الغيلة" (بكسر الغين) وفي سني البيهقي: "إني أخشى أن تغتاله" وهي اشتقاق منها، لم يرد في كتب اللغة. (2) في المطبوعة: "غذي" وما في المخطوطة أجود وقوله: "لحسن" أصلها"حسن" فعل (بفتح الحاء وضم السين) فنقل إلى معنى المدح فخففت السين وسكنت ونقلت حركتها إلى الحاء قال سهم بن حنظلة الغنوي: لم يمْنِعْ النَّاسُ مِنِّي مَا أَرَدْتُ وَمَا ... أُعْطِيهِمُ مَا أَرَادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا فهي بمنزلة"نعم وبئس". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 ابن أخي. فقالت: أخاف أن تقع عليّ! فحلف أن لا يمسَّها حتى تفطِم. فأمسك عنها، حتى إذا فطمته أخرج الغلامَ إلى قومه، فقالوا: لقد أحسنت غذاءه! فذكر لهم شأنه، فذكروا امرأته، قال: فذهب إلى علي - فاستحلفه بالله:"ما أردت بذلك؟ "، يعني إيلاءً، قال: فردَّها عليه. 4485 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، (1) حدثنا المحاربي، عن أشعث بن سوار، عن سماك، عن عطية بن أبي عطية قال، توفي أخ لي وترك يتيما له رضيعًا، وكنت رجلا معسرًا، لم يكن بيدي ما أسترضع له. قال: فقالت لي امرأتي، وكان لي منها ابن ترضعه - إن كفيتني نفسَك كفيتكهما! فقلت: وكيف أكفيك نفسي؟ قالت: لا تقربني. فقلت: والله لا أقربك حتى تفطميهما. قال: ففطمتهما وخرجا على القوم، فقالوا: ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما! قال: فقصصت عليهم القصة، فقالوا: ما نراك إلا آليت منها وبانت منك! قال: فأتيت عليًا فقصصت عليه القصة، فقال: إنما الإيلاء ما أريد به الإيلاء. 4486 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر البرساني قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب. 4487 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب. 4488 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن وكيع، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب. (2)   (1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة. وأظن الصواب"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني" شيخ الطبري. ولم أجد في شيوخه: "علي بن عبد الأعلى". وانظر ما سيأتي رقم: 4669. (2) الأثر: 4488-"عبد الرحمن" هو عبد الرحمن بن مهدي. "أبو وكيع" هو: الجراح ابن مليح الرؤاسي. قال أبو داود: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وسئل الدارقطني عنه فقال: ليس بشيء هو كثير الوهم. قيل: يعتبر به؟ قال: لا. وفي المخطوطة والمطبوعة: "ابن وكيع" وهو خطأ. وانظر المحل لابن حزم 10: 45 و"أبو فزارة" هو: راشد بن كيسان العبسي. قال ابن معين: ثقة. وقال ابن حبان: مستقيم الحديث إذا كان فوقه ودونه ثقة. وله عند مسلم حديث واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 4489 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن عليّ قال: لا إيلاء إلا بغضب. (1) 4490 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، أن عليا قال: إذا قال الرجل لامرأته وهي تُرضع:"والله لا قرَبتُك حتى تفطمي ولدي"، يريد به صلاحَ ولده، قال: ليس عليه إيلاء. 4491 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عليّ فقال: إني قلت لامرأتي لا أقرَبُها سنتين. قال: قد آليت منها. قال: إنما قلت لأنها ترضع! قال: فلا إذًا. 4492 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن علي أنه كان يقول: إنما الإيلاء ما كان في غضب، يقول الرجل:"والله لا أقربك، والله لا أمسُّك! ". فأما ما كان في إصلاح من أمر الرضاع وغيره، فإنه لا يكون إيلاء، ولا تَبِين منه. (2) 4493 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حفص، عن الحسن: أنه سئل عنها فقال: لا والله، ما هو بإيلاء.   (1) الأثر: 4489- مختصر رقم: 4482 من طريق آخر، وانظر التعليق السالف على الأثر رقم: 4479. (2) الأثر: 4492- طريق آخر لحديث أبي عطية السالف رقم: 4482 وانظر التعليق على الأثر: 4479. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 4494 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا بشر بن منصور، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إذا حلف من أجل الرَّضاع فليس بإيلاء. 4495 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: سألت ابن شهاب عن الرجل يقول: والله لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي! قال: لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله، فيما يريد المرء أن يضارَّ به امرأتَه من اعتزالها، ولا نعلم فريضةَ الإيلاء إلا على أولئك، فلا ترى أنّ هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده، أقسم إلا على أمر يتحرَّى به فيه الخير، فلا نرى وَجبَ على هذا ما وجب على المولي الذي يُولِي في الغضب. * * * وقال آخرون: سواءٌ إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها، كان حلفه في غضب أو غير غضب، كلّ ذلك إيلاء. * ذكر من قال ذلك: 4496 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم - في رجل قال لامرأته:"إن غَشِيتُك حتى تفطمي ولدَك فأنت طالق"، فتركها أربعة أشهر. قال: هو إيلاء. 4497 - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي قال: كل شيء يحول بينه وبين غشيانها، فتركها حتى تمضي أربعة أشهر، فهو داخلٌ عليه. 4498 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيًا، فحلف أن لا يطأها حتى تفطم ولدها، فقال: ما أرى هذا بغضب، وإنما الإيلاء في الغضب = قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 الذي يحدِّثون؟! إنما قال الله:" للذين يؤلون من نسائهم" إلى" فإن الله سميع عليم"، إذا مضت أربعة أشهر، فليخطبها إن رغب فيها. (1) 4499 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم - في رجل حلفَ أن لا يكلم امرأته - قال: كانوا يرون الإيلاء في الجماع. 4500 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، قال: كل يمين منعت جماعًا حتى تمضي أربعه أشهر، فهي إيلاء. 4501 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل وأشعث، عن الشعبي مثله. 4502 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا كل يمين منعت جماعًا فهي إيلاء. * * * وقال آخرون: كل يمين حلف بها الرجل في مَسَاءة امرأته، فهي إيلاء منه منها، على الجماع حلف أو غيره، في رضًا حلف أو سخط. * ذكر من قال ذلك: 4503 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن خصيف، عن الشعبي قال: كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، إذا قال:"والله لأغضبنَّك، والله لأسوأنَّك، والله لأضربنَّك"، وأشباه هذا.   (1) الأثر: 4489- حبان بن موسى بن سوار السلمي، أبو محمد المرزوي روى عن ابن المبارك وأبي حمزة السكري وغيرهما، وعنه البخاري ومسلم. ذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة 233. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة والمطبوعة: "حسان بن موسى" وقد مضى على الصواب في رقم: 2914 وسيأتي على الصواب في رقم: 4528. و"أبو عوانة" هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة. وسئل ابن المبارك: من أروى الناس -أو أصح الناس- حديثًا عن مغيرة؟ قال: أبو عوانة. مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 4504 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن أبي ذئب العامريّ: أن رجلا من أهله قال لامرأته:"إن كلمتك سنة فأنت طالق"، واستفتى القاسم وسالمًا فقالا إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمها فهي طالقٌ إذا مضت أربعة أشهر. 4505 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، سمعت حمادًا قال، قلت لإبراهيم: الإيلاء: أن يحلفَ أن لا يجامعها ولا يكلمها ولا يجمع رأسه برأسها، أو ليغضبنَّها، أو ليحرِمنَّها، أو ليسوأنَّها؟ قال: نعم. 4506 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم عن رجل قال لامرأته:"والله لأغيظنك"! فتركها أربعة أشهر، قال: هو إيلاء. 4507 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، سمعت شعبة قال: سألت، الحكم فذكر مثله. 4508 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنا يونس قال، قال ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب: (1) أنه إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يومًا أو شهرًا، قال: فإنا نرى ذلك يكون إيلاءً. وقال: إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها، فكان يمسُّها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء. والفَيْءُ، أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها. فمن فعل ذلك، قبل أن تمضي الأربعة أشهر، (2) فقد فاء. ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عِدَّتها، فقد فاء وملك امرأته، غير أنه مضت لها تطليقة. * * *   (1) في المطبوعة: "حدثني سعيد بن المسيب أنه قال إن حلف. . . " والصواب من المخطوطة بحذف"قال". (2) في المطبوعة: "الأربعة الأشهر" والذي في المخطوطة صواب في العربية لا بأس به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 قال أبو جعفر: وعلة من قال:"إنما الإيلاء في الغضب والضَرار": أنّ الله تعالى ذكره إنما جعل الأجلَ الذي أجَّل في الإيلاء مخرجًا للمرأة من عَضْل الرجل وضراره إياها، (1) فيما لها عليه من حُسن الصحبة والعِشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلا ولا مُضارًا بيمينه وحلفه على ترك جماعها، بل كان طالبًا بذلك رضاها، وقاضيًا بذلك حاجتها، لم يكن بيمينه تلك مُوليًا، لأنه لا معنى هنالك لَحِق المرأةَ به من قِبَل بعلها مساءةٌ وسوء عشرة، (2) فيجعل الأجل - الذي جُعل للمولي - لها مخرجًا منه. (3) * * * وأما علة من قال:"الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء"، عموم الآية، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" بعضًا دون بعض، بل عمّ به كلَّ مُولٍ ومُقسِم. فكل مقسِم على امرأته أن لا يغشاها مدةً هي أكثر من الأجل الذي جَعل الله له تربُّصه، فمُولٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مُولٍ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جُعل له تربُّصه. * * * وأما علة من قال بقول الشعبي والقاسم وسالم: أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدَّه للمُولي مخرجًا للمرأة مِن سوء عشرتها بعلها إياها وضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقرَبها، بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضِّرار، من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءَها أو يغيظها. لأن كل ذلك ضررٌ عليها وسوء عشرة لها. * * *   (1) العضل من الزوج لامرأته: أن يضارها ولا يحسن عشرتها، فهو لا يعاملها معاملة الأزواج ولا يتركها تتصرف في نفسها. (2) في المطبوعة: "يلحق المرأة" والصواب من المخطوطة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "الذي جعل المولى" وصواب السياق يقتضي ما أثبت. والضمير في"منه" راجع إلى"لا معنى هنالك". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب، قولُ من قال: كل يمين منَعت المقسم الجماعَ أكثر من المدة التي جعل الله للمولي تربُّصَها، قائلا في غضب كان ذلك أو رضًا. وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك. وقد أتينا على فساد قول من خالف ذلك في كتابنا (كتاب اللطيف) بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإن رجعوا إلى ترك ما حلَفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن، فجامعوهن وحنِثوا في أيمانهم ="فإن الله غفورٌ"، لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهُن، ولما سلف منهم إليهن، (1) من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه ="رحيم" بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين. * * * وأصل"الفيء"، الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى ذكره: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إلى قوله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [سورة الحجرات: 9] ، يعني: حتى ترجع إلى أمر الله. ومنه قول الشاعر: (2) فَفاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ ... وَمِنْ حَاجَةِ الإنْسَانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا (3)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وبما سلف" والسياق يتطلب ما أثبت. (2) هو سحيم عبد بني الحسحاس. (3) ديوانه: 19 وحماسة ابن الشجري: 160 وغيرهما من قصيدته الغراء العجيبة وقد مضى منها بيت فيما سلف 1: 106ن 447. والضمير في قوله: "ففاءت" إلى صاحبته التي ذكرها وذكر ما بينه وبينها. ورواية الطبري وابن الشجري أحب إي من رواية الديوان: "ولم تقض الذي هو أهله". يقول: عادت إلى أهلها وقد أضاعت ما كانت مزمعة أن تفعله، أنساها حبه وغزله ما كانت نوته وإرادته. فيعزيها بأن المرء ربما طلب قضاء شيء ويشاء الله غيره فإذا هو لا يقتضيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 يقال منه:"فاء فلان يفيء فَيْئة" - مثل"الجيئة" و"فَيْأ". و"الفَيْئة" المرة. (1) فأما في الظلّ فإنه يقال:"فاء الظلّ يفيء فُيُوءًا وفَيْأ"، وقد يقال:"فيوءًا" أيضًا في المعنى الأول، (2) لأن"الفيء" في كل الأشياء بمعنى الرجوع. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيًا. فقال بعضهم: لا يكون فائيًا إلا بالجماع. * ذكر من قال ذلك: 4509 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع. 4510 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع. (3) 4511 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مثله. 4512 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.   (1) يريد أنه بناء المرة الواحدة إلا أنه وضع موضع المصدر مثل: "الرجفة والرحمة" والاسم من ذلك"الفيئة والجئة" (بكسر الفاء والجيم منهما) . (2) أكثر كتب اللغة تجعل"الفيوء" مصدرًا في المعنى الأول ولا تجعله مصدرًا في معنى الظل. وما قاله الطبري حسن وثيق. (3) الأثر: 4510- يزيد بن زياد بن أبي الجعد الأشجعي الغطفاني مولى لهم، روى عن الحكم بن عتيبة وعاصم الجحدري وعمه عبيد بن أبي الجعد، وأخيه سلمة بن زياد وغيرهم. وعنه وكيع وابن نمير وأبو نعيم وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان في المطبوعة"يزيد بن أبي زياد عن أبي الجعد" والصواب من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 4513 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق قال: الفيءُ الجماع. 4514 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق مثله. 4515 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل قال: كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع. 4516 - حدثنا تميم بن المنتصر قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر بمثله. 4517 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير قال: الفيء الجماع. 4518 - حدثنا أبو عبد الله النشائي قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير مثله. (1) 4519 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: الفيءُ الجماع، لا عذرَ له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيدٌ القائل. 4520 - حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن جبير أنه قال: لا عذرَ له حتى يغشى. 4521 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حماد وإياس، عن الشعبي = قال أحدهما: عن مسروق = قال: الفيء الجماع = وقال الآخر: عن الشعبي: الفيء الجماع.   (1) الأثر: 4518-"أبو عبد الله النشائي" هو محمد بن حرب بن حرمان النشائي، ويقال النشاستجي، أبو عبد الله الواسطي. روى عن إسماعيل بن علية ومحمد بن يزيد الواسطي وإسحاق بن يوسف الأزرق وغيرهم. مات سنة 255. مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 4522 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته، ثم شغله مرض - قال: لا عذر له حتى يغشى. 4523 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها، فيعرض له عارضٌ يحبسه، أو لا يجد ما يَسُوق: أنه إذا مضت أربعة أشهر، أنها أحق بنفسها. 4524 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته، ثم أراد أن يفيء، فلا فيء إلا الجماع. * * * وقال آخرون:"الفيء": المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الجماع. * ذكر من قال ذلك: 4525 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذرٌ فأشهد، فذاك له = يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرضٌ أو طريق، فأشهد على مراجعة امرأته. 4526 - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم قال: تذاكرنا أنا والنخعي ذاك، (1) فقال النخعي: إذا كان له عذر فأشهد، فقد فاء. وقلت أنا: لا عذر له حتى يغشى. فانطلقنا إلى أبي وائل، فقال: إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد، جاز. (2)   (1) في المطبوعة: "ذلك" وأثبت ما في المخطوطة وهما سواء. (2) الأثر: 4526-"أبو وائل" وهو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره. وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وغيرهم من الصحابة والتابعين. قال الأعمش قال لي أبو وائل: يا سليمان لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد فوقعت من البعير فكادت تندق عنقي! فلو مت يومئذ كانت النار! قال: وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. ومات بعد الجماجم سنة 83. مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 4527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إنْ آلى، ثم مرض أو سُجن أو سافر فراجع، فإنّ له عذرًا أن لا يجامع = قال: وسمعت الزهري يقول مثل ذلك. 4528 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النفساء يُولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارِب، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا: إذا لم يستطع كفَّر عن يمينه، وأشهد على الفيء. (1) 4529 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء قال: نزل به ضيفٌ فآلى من امرأته فنفست، (2) فأراد أن يفيء، فلم يستطع أن يقرَبها من أجل نفاسها، فأتى علقمة فذكر ذلك له، فقال: أليس قد فئتَ بقلبك ورَضيت؟ قال: بلى! قال: فقد فئت! هي امرأتك! 4530 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم: أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال: أليس قد راجعتها في نفسك؟ قال: بلى! قال: فهي امرأتك. 4531 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، أخبرنا عامر،   (1) الأثر: 4528- انظر"حبان بن موسى" فيما سلف الأثر رقم: 4498. وقوله: "هذه في محارب" يعني قبيلة محارب الذين منهم أبو الشعثاء المحاربي: "سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي" سيظهر في الآثار التالية، ولا سيما الأثر رقم: 4535 فقد ذكر صاحب الإيلاء هناك. (2) نفست المرأة (بالبناء للمجهول) ونفست (بفتح فكسر) نفسًا (بفتحتين) ونفاسًا: ولدت. وأصله من"النفس" (بفتح فسكون) وهو: الدم وسميت بذلك لما يكون مع الولد وبعده من الدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 عن الحسن قال: إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر، قال: يُشهد أنه قد فاء، وهي امرأته. 4532 - حدثنا عمران قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا عامر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بمثله. 4533 - حدثنا ابن بشار = قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنى أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: وحدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة قال: إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع، فله أن يُشهد على رَجْعتها. 4534 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته، فشغله أمر، فأشهد على مراجعة امرأته، قالا إذا كان له عذرٌ فذاك له. 4535 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء، فحدَّث أن رجلا من بني سعد بن همّام آلى من امرأته فنُفِست، فلم يستطع أن يقرَبها، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال: إذا أشهد فهي امرأته. 4536 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: إن كان له عذرٌ فأشهد، فذلك له - يعني المُولي من امرأته. 4537 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء، عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنُفِست - قالوا: إذا أشهد فهي امرأته. 4538 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء، فليشهد على فَيْئه. وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته، فليشهد على فيئه. فإن أشهدَ وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها، فهي امرأته. وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر، فقد بانتْ منه. 4539 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب: أنه إذا آلى الرجل من امرأته، قال: فإن كان به مرضٌ ولا يستطيع أن يمسَّها، أو كان مسافرًا فحبس، قال: فإذا فاء وكفَّر عن يمينه، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر، فلا نراه إلا قد صلح له أن يُمسك امرأته، ولم يذهب من طلاقها شيء. قال، وقال ابن شهاب - في رجل يُولي من امرأته، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته؟ قال: نرى، والله أعلم، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته، بعد أن يشهد على ذلك، ويكفِّر عن يمينه، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقًا. 4540 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفيء الجماع. فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبًا أو كان محرمًا أو شيء له فيه عذر، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا، فإنّ ذلك له فيءٌ إن شاء الله. * * * وقال آخرون:"الفيء" المراجعة باللسان بكلّ حال. * ذكر من قال ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 4541 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن منصور وحماد، عن إبراهيم قال: الفيء أن يفيء بلسانه. 4542 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن قال: الفيء الإشهاد. (1) 4543 - حدثنا المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن زياد الأعلم، عن الحسن مثله. 4544 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إن فاء في نفسه أجزأه، يقول: قد فاء. 4545 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن رجاء قال: ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال: أرأيت إن لم ينتشر ذكره؟ إذا أشهدَ فهي امرأته. * * * قال أبو جعفر: وإنما اختلف المختلفون في تأويل"الفيء" على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون"إيلاءً". فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون موليًا من امرأته الإيلاءَ الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها، جعل الفيءَ الرجوعَ إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الجماعُ في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه = وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه، فإحداثَ النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه، (2)   (1) الأثر: 4542-"زياد الأعلم" هو زياد بن حسان بن قرة الباهلي روى عن أنس والحسن وابن سيرين. وعنه عون والحمادان. وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم. وقال أحمد: "ثقة ثقة" قال أبو حاتم: "هو من قدماء أصحاب الحسن". وقال الدارقطني: "هو قليل الحديث". مترجم في التهذيب. (2) في المطبوعة: "بإحداث النية" وهو خطأ صرف صوابه من المخطوطة. وقوله"فإحداث" منصوب عطفًا على قوله: "جعل الفيء الرجوع. . . " بمعنى أنه إذا لم يقد عليه ولم يمكنه، جعل الفيء إحداث النية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون، (1) في قول من قال ذلك. * * * وأما قولُ من رأى أنّ الفيء هو الجماع دون غيره، فإنه لم يجعل العائقَ له عذرًا، ولم يجعل له مخرجًا من يمينه غيرَ الرجوع إلى ما حلف على تركه، وهو الجماع. * * * وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليًا منها بالحلف على ترك كلامها، أو على أن يسوءَها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان، فإن الفيء عنده الرجوعُ إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه، وإبداء ذلك بلسانه، (2) في كل حال عزم فيها على الفيء. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا، قولُ من قال:"الفيء هو الجماع"، لأن الرجل لا يكون موليًا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدةَ التي ذكرنا، للعلل التي وصفنا قبلُ. فإذ كان ذلك هو الإيلاء، (3) فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافًا. (4) لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه، الحكمَ الذي بينه الله لهم في كتابه، كان الفيء إلى ذلك، معلومٌ أنه فعلُ ما آلى على تركه إن أطاقه، (5) وذلك هو الجماع. غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي   (1) في المطبوعة: "وأبدى" وهو خطأ مخل بالكلام، لم يحسن قراءة الخط القديم، وهو"وابدا" وظنه فعلا كالذي سبقه قوله: "وإبداء" منصوب عطفًا على قوله: "فإحداث" كما بينته في التعليق الآنف. (2) في المطبوعة: "وأبدى ذلك بلسانه" خطأ فاسد، وانظر التعليق السالف. وقوله: "وإبداء مرفوع معطوف على"الرجوع" في قوله: "فإن الفيء عنده الرجوع. . . " (3) في المطبوعة: "فإذا كان ذلك" خطأ وضعف والصواب الجيد من المخطوطة. (4) في المطبوعة: "إلا ما كان الذي آلى. . . " وهو فساد والصواب من المخطوطة وقوله: "خلافًا" أي مخالفًا، كما سلف مئات من المرات. (5) في المطبوعة: "معلومًا أنه. . . " والذي في المخطوطة جيد صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 هو جماعٌ - (1) بعذر، فغير جائز أن يكون تاركًا جماعها على الحقيقة (2) . لأن المرء إنما يكون تاركًا = ما له إلى فعله وتركه سبيل. فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائنٍ تاركَهُ. وإذ كان ذلك كذلك، فإحداث العزم في نفسه على جماعها، مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهدَ على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء، كان أعجبَ إليّ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) } اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك:"فإن الله غفورٌ" لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهنّ، من الحِنْث في اليمين التي حلفتم عليهن بالله أن لا تَغْشَوْهنّ ="رحيم" بكم في تخفيفه عنكم كفَّارةَ أيمانكم التي حلفتم عليهن، ثم حنِثتم فيه. * ذكر من قال ذلك: 4546 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:" فإن فاءوا فإن الله غفور رحيمٌ"، قال: لا كفارة عليه. 4547 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إذا فاء فلا كفَّارة عليه. 4548 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "هو الجماع" والصواب من المخطوطة. (2) في المخطوطة: "فغير جائز تاركًا جماعها" ثم غير في المطبوعة إلى: "فغير كائن تاركًا جماعها" والجيد الذي يدل عليه السياق، زيادة"أن يكون" كما فعلت. وإن كان آخر كلام أبي جعفر قد حسن هذا التغيير الذي جاء في المطبوعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في قول الله:" فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم": أن كفارته فيؤه. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجبُ على قول من زعم أنّ كل حانث في يمين هو في المُقام عليها حَرِجٌ، (2) فلا كفارة عليه في حنثه فيها، وأن كفارته الحنث فيها. * * * وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها [كفارة] ، (3) برًّا كان الحنِث فيها أو غير بِرّ، فإن تأويله:"فإن الله غفور" للمُولين من نسائهم فيما حنِثوا فيه من إيلائهم، فإن فاؤوا فكفّروا أيمانهم، بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة ="رحيم" بهم، بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والآجل على ذلك، بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المَهَل الأشهرَ الأربعة، (4) فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة، كما:- 4549 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق" - قال: وتلك رحمة الله! مَلَّكه أمرَها الأربعة الأشهر إلا من معذرة. لأن الله قال: (وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) [سورة النساء: 34] . (5) * * * * ذكر بعض من قال: إذا فاء المولي فعليه الكفارة.   (1) الأثر: 4548-"حبان بن موسى" سلف في هذا الإسناد برقم: 4528، وانظر أيضًا رقم: 4498 والتعليق عليه، وقد كان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حماد بن موسى" وهو خطأ وتحريف. وانظر ما سيأتي رقم: 4549. (2) "حرج": آثم. وقد أسلفنا قول أهل اللغة في هذا الحرف، في الجزء 2: 423 تعليق: 1، ثم في هذا الجزء 4: 224، تعليق: 1 (3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، ويدل عليها سياق التفسير الآتي. (4) المهل (بفتح فسكون، وبفتحتين) مصدر"مهلته" وهي كأمهلته: أي أنظرته ولم أعاجله. (5) الأثر: 4549- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 4548. و"يحيى بن بشر الخراساني أبو وهب روى عن عكرمة وروى عنه ابن المبارك. قال ابن المبارك: "إذا حدثك يحيى ابن بشر عن إنسان فلا تبالي أن لا تسمعه منه". مترجم في الكبير 4/2/263 والجرح والتعديل 4/12/13. وقد سلف في إسناد الطبري رقم: 3619، 3652 ويأتي في رقم: 4749. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 4550 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر"، وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربَّص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفَّر يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. 4551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال: حدثني يونس قال، حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب بنحوه. 4552 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم قال: إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر، كفَّر عن يمينه. 4553 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النُّفَساء يولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارب، سئل عنها أصحاب عبد الله، فقالوا: إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء. (1) 4554 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إن فاء فيها كفَّر يمينه، وهي امرأته. 4555 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 4556 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم   (1) الأثر: 4553- انظر الأثر السالف 4528، ثم الآثار التي تليه والتعليق عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 في الإيلاء قال: يوقَف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر، فإن راجعها فهي امرأته، وعليه يمين: يكفِّرها إذا حنِث. * * * قال أبو جعفر: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك، لما قد بينا من العلل في كتابنا (كتاب الأيمان) ، من أن الحنث موجبٌ الكفارةَ في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف، على معصية كانت اليمين أو على طاعة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله تعالى ذكره:" وإن عزموا الطلاق". فقال بعضهم: معنى ذلك: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا فرجعوا إلى ما أوجب الله لهنّ من العِشرة بالمعروف في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم تربُّصهم عنهن وعن جماعهن، وعشرتهن في ذلك بالواجب"فإن الله لهم غفور رحيم". وإن تركوا الفيء إليهن، (1) في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم التربص فيهنّ حتى ينقضين، طُلِّق منهم نساؤهم اللاتي آلوا منهن بمضيهن. (2) ومضيُّهن عند قائلي ذلك: هو الدلالة على عزم المولي على طلاق امرأته التي إلى منها. * * *   (1) في المطبوعة: "فإن تركوا الفيء لليمين. . . " وهو خطأ غريب فاسد، لم يحسنوا قراءة ما في المخطوطة. (2) الضمير في قوله: "بمضيهن" إلى الأشهر الأربعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 ثم اختلف متأوِّلو هذا التأويل بينهم في الطلاق الذي يلحقها بمضيّ الأشهر الأربعة. فقال بعضهم: هو تطليقة بائنة. * ذكر من قال ذلك: 4557 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن خِلاس أو الحسن، عن علي قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. (1) 4558 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة: أن عليًا وابن مسعود كانا يجعلانها تطليقة، إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها = قال قتادة: وقولُ عليّ وعبد الله أعجبُ إليّ في الإيلاء. (2) 4559 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنّ عليًا قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة. 4560 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة: أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي واحدة بائنة.   (1) الأثر: 4557-"أبو هشام" هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجلي أبو هشام الرفاعي قاضي بغداد يتكلمون فيه. مترجم في التهذيب. ومحمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي روى عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر العمري وسعيد بن أبي عروبة. مترجم في التهذيب. و"خلاس" بكسر الخاء وفتح اللام المخففة هو: خلاس بن عمر الهجري البصري. روى عن علي وعمار بن ياسر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه قتادة وعوف الأعرابي وداود بن أبي هند. وهو ثقة. مترجم في التهذيب. (2) أقوال الصحابة والتابعين في الإيلاء تجدها مستوفاة في نصب الراية 3: 241- 243، والمحلى لابن حزم 10: 42- 49 وسنن البيهقي 7: 376- 382 وفتح الباري 9: 375- 379 وابن كثير والدر المنثور في تفسير الآية. هذا ولم يستوف أحد ذكر هذه الآثار كما استوفاها أبو جعفر رحمه الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 4561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا عطاء الخراساني قال: سمعني أبو سلمة بن عبد الرحمن أسأل ابن المسيب عن الإيلاء، فمررت به فقال: ما قال لك ابن المسيب؟ فحدثته بقوله، فقال: أفلا أخبرك ما كان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت يقولان؟ قلت: بلى! قال: كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة، وهي أحق بنفسها. 4562 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء الخراساني قال، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن عثمان بن عفان قال: إذا مضت أربعة أشهر من يوم آلى، فتطليقة بائنة. 4563 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن معمر = أو حُدثت عنه = عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة، عن عثمان وزيد: أنهما كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. 4564 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، فمكثت ستة أشهر، فأتى ابن مسعود فسأله، فقال: أعلمها أنها قد مُلِّكت أمرَها. فأتاها فأخبرها، وأصْدقها رطلا من وَرِقٍ. 4565 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله: أنه كان يقول في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي تطليقة بائنة. 4566 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثل ذلك. 4567 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، قال: فخرج فغاب عنها ستة أشهر، ثم جاء فدخل عليها، فقيل: إنها قد بانت منك! فأتى عبد الله، فذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 ذلك له، فقال له عبد الله: قد بانت منك، فَأتها فأعلمها واخطبها إلى نفسها. (1) فأتاها فأعلمها أنها قد بانت منه، وخطبها إلى نفسها، وأصدقها رِطلا من وَرِق. (2) 4568 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، عن عطاء قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود أنه قال، في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة. 4569 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من بني هلال يقال له فلان ابن أنيس = أو: عبد الله بن أنيس = أراد من أهله ما يريد الرجلُ من أهله، فأبت، فحلف أن لا يقرَبها. فطرأ على الناس بعثٌ من الغد، فخرج فغاب ستة أشهر ثم قدم، فأتى أهله ما يرى أن عليه بأسًا! فخرج إلى القوم فحدثهم بسَخَطه على أهله حيث خرج، وبرضاه عنهم حين قدم. فقال القوم: فإنها قد حرُمت عليك! فأتى ابن مسعود فسأله عن ذلك، فقال ابن مسعود: أما علمت أنها حرُمت عليك؟ قال لا! قال: فانطلق فاستأذن عليها، فإنها ستنكر ذلك، ثم أخبرها أنّ يمينك التي كنت حلفتَ عليها صارت طلاقًا، وأخبرها أنها واحدة، وأنها أملك بنفسها، فإن شاءت خطبتها فكانت عندك على ثنتين، وإلا فهي أملكُ بنفسها. 4570 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال، في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وتعتدّ ثلاثة قروء. (3) 4571 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان،   (1) في المطبوعة: "وأعلمها واخطبها" وأثبت ما في المخطوطة. (2) الورق (بفتح الواو، وكسر الراء، أو سكونها- وبكسر الواو وسكون الراء) : هي الفضة والدراهم المضروبة. (3) "أبو عبيدة" هو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، ويقال اسمه"عامر بن عبد الله" ويقال اسمه كنيته. روى عن أبيه ولم يسمع منه. مترجم في التهذيب وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 عن منصور والأعمش ومغيرة، عن إبراهيم: أن عبد الله بن أنيس آلى من امرأته، فمضت أربعةُ أشهر، ثم جامعها وهو ناسٍ، فأتى علقمة، فذهب به إلى عبد الله، فقال عبد الله: بانت منك فاخطبها إلى نفسها، فأصدقها رطلا من فضة. 4572 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب= عن أبي قلابة: أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فضرب ابنُ مسعود فخذَه وقال: إذا مضت أربعة أشهر فاعترفْ بتطليقة. (1) 4573 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر: أن ابن مسعود قال في المُولي: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فقد بانت منه امرأته بواحدة وهو خاطب. 4574 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: عَزْم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر. 4575- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله. 4576- حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة. (2) 4577- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن جعفر بن برقان، عن   (1) اعترف بالشيء: أقر به. (2) في المطبوعة: "حدثنا محمد بن جعفر" أول الإسناد أسقط منه"حدثنا محمد بن المثنى قال" وصوابه من المخطوطة، وهو بين من الإسناد قبله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 عبد الأعلى بن ميمون بن مهران، عن عكرمة أنه قال: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة= فذكر ذلك عن ابن عباس. (1) 4578 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة. (2) 4579- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله. 4580- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير: أن أمير مكة سأله عن المُولي، فقال: كان ابن عمر يقول: إذا مضت أربعة أشهر مُلِّكت أمرها= وكان ابن عباس يقول ذلك. 4581- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. 4582- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، مثله. 4583 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبى وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبان بن صالح، عن ابن شهاب:   (1) الأثر: 4577-"خالد بن مخلد القطواني". أبو الهيثم البجلي. روى عنه البخاري ومسلم وأبو كريب قال ابن معين: لا بأس بهن مات سنة 213. مترجم في التهذيب. و"جعفر بن برقان الكلابي". روى عن يزيد الأصم والزهري وعطاء وميمون بن مهران وعبد الأعلى بن ميمون وهو ثقة: وكان أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولكن كانت له رواية وفقه وفتوى مات سنة 150. مترجم في التهذيب. و"عبد الأعلى بن ميمون" سمع أباه وعكرمة وعطاء، وسمع منه جعفر بن برقان مترجم في الجرح والتعديل 3/1/27. (2) الأثر: 4578- في المطبوعة والمخطوطة"يزيد بن زياد عن أبي الجعد" وقد سلف مثل هذا الخطأ وصححناه فهو"يزيد بن زياد بن أبي الجعد" فيما سلف رقم: 510: 0 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 أن قبيصة بن ذؤيب قال في الإيلاء: هي تطليقة بائنة وتأتنف العدة (1) وهي أملكُ بأمرها. 4584 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن شريح: أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيء؟ فقال شريح:" وإذ عزموا الطلاقَ فإن الله سميع عليم"- لم يزده عليها. فأتى مسروقًا فذكر ذلك له، فقال: يرحم الله أبا أمية لو أنا قلنا مثل ما قال لم يفرِّج أحد عنه! وإنما أتاه ليفرِّج عنه! ثم قال: هي تطليقة بائنة، وأنت خاطبٌ من الخطَّاب. 4585- حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة أنه سمع الشعبي، يحدث: أنه شهد شُرَيحًا - وسأله رجل عن الإيلاء - فقال:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" الآية قال: فقمت من عنده، فأتيتُ مسروقًا، فقلت: يا أبا عائشة= وأخبرته بقول شريح، فقال: يرحم الله أبا أمية، لو أن الناس كلهم قالوا مثل هذا، منْ كان يفرج عنا مثل هذا! ثم قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة. 4586 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم قال، قرأت في كتاب أبي قلابة عند أيوب: سألت سالم بن عبد الله وأبا سلمة بن عبد الرحمن فقالا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقه بائنة. 8587 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال، إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة، ويخطبها في العِدَّة. 4588- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه-   (1) ائتنف الأمر ائتنافًا واستأنفه: أخذ أوله وابتدأه أو استقبله. من"الأنف" (بفتح فسكون) وأنف كل شيء أوله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 في الرجل يقول لامرأته:"والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدًا! "، ويحلف أن لا يقربها أبدًا= فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ، كانت تطليقة بائنة، وهو خاطب- قول علي وابن مسعود وابن عباس والحسن. 4589 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنه سئل عن رجل قال لامرأته:"إن قرَبتُك فأنت طالق ثلاثًا"، قال، فإذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وسقط ذلك. 4590 - حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل= وحدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع = جميعًا، عن يزيد بن إبراهيم، قال، سمعت الحسن ومحمدًا في الإيلاء، قالا إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت بتطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطاب. 4591- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال، كنا نتحدث في الأليَّة أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. 4592 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم في الإيلاء قال: إن مضت= يعني: أربعة أشهر= بانت منه. 4593 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن النخعي قال: إن قرَبها قبل الأربعة الأشهر فقد بانت منه بثلاث، وإن تركها حتى تمضي الأربعة الأشهر بانت منه بالإيلاء = في رجل قال لامرأته:"أنت طالق ثلاثًا إن قربتك سنة". 4594 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: أعتم عبيد الله بن زياد عند هندٍ في ليلة أم عثمان ابنة عمر بن عبيد الله، فلما أتاها أمرت جواريها، فأغلقنَ الأبواب دونه، فحلف أن لا يأتيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 حتى تأتيه، فقيل له: إن مضت أربعة أشهر ذهبتْ منك. (1) 4595 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف قال: بلغني أن الرجل إذا آلى من امرأته فمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ويخطبها إن شاء. 4596 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"- في الذي يُقسم، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرُمت عليه، فتعتدُّ عدّة المطلقة وهو أحد الخطاب. 4597 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب قال، إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. (2) 4598 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإنّ فاءوا فإنّ الله غفورٌ رحيم"- وهذا في الرجل يولي من امرأته ويقول:"والله لا يجتمع رأسي ورأسك، ولا أقربك، ولا أغشاك! "، فكان أهل الجاهلية يعدُّونه طلاقًا، فحدّ الله لهما أربعة أشهر، فإن فاء فيها كفر يمينه وهي امرأته، وإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ فهي تطليقة بائنة، وهي أحق بنفسها، وهو أحد الخطاب. 4599- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.   (1) الأثر: 4594-"هند" هي: هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري و"أم عثمان بنت عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي" وهما زوجتاه. وقوله: "أعتم" أي تأخر وأبطأ في الليل وقد مرت قطعة منه، والعتمة: ظلام الليل. (2) الأثر: 4597- انظر الأثر السالف رقم: 4583. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 4600- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"، قال: كان ابن مسعود وعمر بن الخطاب يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بائنة، وهي أحقُّ بنفسها. 4601 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو وهب، عن جويبر، عن الضحاك:" للذين يؤلون" الآية، هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته، فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ ولم يطلِّق، بانت منه بالإيلاء. فإن رجعت إليه فمهرٌ جديد، ونكاح ببيِّنة، ورضًا من الوليّ. (1) * * * وقال آخرون: بل الذي يلحقها بمضي الأربعة الأشهر: تطليقةٌ، يملك فيها الزوجُ الرحعةَ. * ذكر من قال ذلك: 4602 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالا إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر، فواحدة وهو أملك برجعتها. (2) 4603 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة يملك الرَّجعة. (3) 4604 - حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول قال، إذا مضت أربعة اشهر فهي تطليقة، يملك الرجعة.   (1) في المطبوعة: "ورضا من المولى" وهو خطأ والصواب من المخطوطة. (2) الأثر: 4602- في الموطأ: 557، بغير هذا اللفظ وفي المطبوعة: "لرجعتها" والصواب من المخطوطة. (3) الأثر 4603- لم أجده بلفظه في الموطأ، وكأنه مختصر الذي سلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 4605 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال، هي واحدة وهو أحق بها= يعني إذا مضت الأربعة الأشهر= وكان الزهري يفتي بقول أبي بكر هذا. 4606 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني يونس قال، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر قبل أن يفيء فهي تطليقة وهو أملك بها ما كانت في عِدَّتها. 4607 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا أبو يونس القوي قال، قال لي سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق! قال، لعلك ممن يقول:"إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت! "، لا! ولو مضت أربع سنين. (1) 4608 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج بن رِشْدين قال: حدثنا عبد الحبار بن عمر، عن ربيعة: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وتستقبل عِدَّتها، وزوجها أحق برجعتها. (2) 4609 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، كان ابن شبرمة يقول: إذا مضت أربعة أشهر فله الرجعة = ويخاصِم بالقرآن، ويتأوَّل   (1) الأثر: 4607-"أبو القوي" هو: الحسن بن يزيد بن فروخ الضمري ويقال العجلي. سكن الكوفة. قال ابن معين: "هو الذي يقال له الطواف". وسمي"القوي" لقوته على العبادة قال وكيع: "بكى حتى عمى وصلى حتى حدب وطاف حتى أقعد" وثقه ابن معين والنسائي. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 4608-"حجاج بن رشدين بن سعد المصري". روى عن أبيه وحيوة بن شريح وعنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. قال ابن أبي حاتم: سألت أي عنه: "لا علم لي به، لم أكتب عن أحد عنه". وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه ابن عدي مات سنة 211. مترجم في لسان الميزان والجرح والتعديل 1/2160. و"عبد الجبار بن عمر الأيلي" سمع الزهري وبيعة وعطاء الخراساني وأبا الزناد؟ روى عنه ابن وهب وسعيد بن أبي مريم. سئل يحيى بن معين عنه فقال: ضعيف ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث ليس بقوي" مترجم في الجرح والتعديل 3/1/31- 32. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 هذه الآية: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) [سورة البقرة: 228] ، ثم نزع: (1) " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر فإذ فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزَموا الطلاق فإن الله سميع عليم" 4610 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمر: ونحن في ذلك = يعني في الإيلاء = على قول أصحابنا الزهريّ ومكحول أنها تطليقة - يعني مضيّ الأربعة الأشهر - وهو أملك بها في عدتها. (2) * * * وقال آخرون: معنى قوله:" للذين يؤلون من نسائهم" إلى قوله:" فإنّ الله سميع عليم"="للذين يؤلون" على الاعتزال من نسائهم، تنظُّرُ أربعة أشهر بأمره وأمرها="فإن فاؤوا" بعد انقضاء الأشهر الأربعة إليهنّ، فرجعوا إلى عشرتهن بالمعروف، وترك هجرانهن، وأتوْا إلى غشيانهن وجماعهن="فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق" فأحدثوا لهن طلاقًا بعد الأشهر الأربعة="فإن الله سميع" لطلاقهم إياهن="عليم" بما فعلوا بهن من إحسان وإساءة. وقال متأوِّلو هذا التأويل: مضي الأشهر الأربعة يوجب للمراة المطالبةَ على زوجها المُولي منها، بالفيء أو الطلاق، ويجب على السلطان أن يقف الزوج على ذلك، فإن فاء أو طلَّق، وإلا طلَّق عليه السلطان. * ذكر من قال ذلك: 4611 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال في   (1) نزع بالآية والشعر، وانتزع بهما: تمثل. ويقال أيضًا للرجل إذا استنبط معنى آية من كتاب الله: "قد انتزع معنى جيدًا- ونزعه": أي استخرجه. (2) الأثر: 4610-"الوليد بن مسلم القرشي" الدمشقي عالم الشام. قال أحمد: "ما رأيت أعقل منه. وقال مروان بن محمد: "إذا كتبت حديث الأوزاعي عن الوليد فلا تبالي من فاتك، وقال: "كان الوليد عالما بحديث الأوزاعي". مات بعد انصرافه من الحج سنة 194. "أبو عمرو" هو الإمام الجليل أبو عمرو الأوزاعي"عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد" الفقيه المشهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 الإيلاء: لا شيء عليه حتى يُوقَف، فيطلق أو يمسك. (1) 4612- حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبَّويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، مثله. (2) 4613- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال، سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن عمر بن الخطاب: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لم يجعله شيئًا. 4614 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن عيينة، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: أنه كان يقف المولي بعد الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق. 4615 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: قال في الإيلاء: يُوقَف. 4616- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يَقِفُه. 4617- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يوقفه. (3) 4618- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن على قال: يُوَقف المُولي عند انقضاء الأربعة   (1) الأثر: 4611-"هو المثنى بن الصباح اليماني". أصله من أبناء اليمن بفارس روى عن طاوس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن شعيب. قال يحيى بن سعيد وذكر عنده: "لم نتركه من أجل عمرو بن الشعيب ولكن كان منه اختلاط في عطاء". وقال أحمد: "لا يساوي حديثه شيئًا، مضطرب الحديث" وضعفه ابن معين وغيره. مات سنة 149. (2) الأثر: 4612-"عبد الله بن أحمد بن شبويه" سلف في رقم: 1909. (3) الأثر: 4617- في المخطوطة: "عن ابن أبي ليلى في الإيلاء قال، يوقف" ليس فيه"عن علي: أنه كان يوقفه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 الأشهر حتى يفيء أو يطلق= قال أبو كريب، قال ابن إدريس: وهو قول أهل المدينة. 4619 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان، عن علي مثله. 4620 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن علي قال، المُولي إمَّا أن يفيء، وإما أن يطلّق. 4621 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، أن عثمان كان يقف المولي بقول أهل المدينة. 4622- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت قال، لقيت طاوسًا فسألته، فقال: كان عثمان يأخذ بقول أهل المدينة. 4623 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء أنه قال: ليس له أجل وهي معصية، يوقف في الإيلاء، فإما أن يمسك، وإما أن يطلق. 4624- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن أبا الدرداء: قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فانه يوقف، إما أن يفيء، وإما أن يطلق. 4625 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أبا الدرداء كان يقول: هي معصية، ولا تحرم عليه امرأته بعد الأربعة الأشهر، ويجعل عليها العدّة بعد الأربعة الأشهر. 4626 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبا الدرداء وسعيد بن المسيب قالا يوقف عند انقضاء الأربعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق، ولا يزال مقيما على معصية حتى يفيء أو يطلق. 4627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن أبا الدرداء وعائشة قالا يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. 4628 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الدرداء وسعيد بن المسيب، نحوه. 4629 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، قال، (1) حدثنا الحسن، عن ابن أبى مليكة قال، قالت عائشة: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. قال: قلت: أنتَ سمعتها؟ قال: لا تُبَكِّتْني. (2) 4630- حدثنا إبراهيم بن مسلم بن عبد الله قال، حدثنا عمران بن ميسرة قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حسن بن الفرات بإسناده عن عائشة، مثله. (3) 4631- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الجبار بن الورد، عن ابن أبي مليكه، عن عائشة، مثله.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أبو إدريس" وهو خطأ ورواية أبي كريب عن ابن إدريس كثيرة دائرة في التفسير أقربها آنفًا رقم: 4609، وقد مضت ترجمته. (2) التبكيت: استقبال الرجل بما يكره. والتبكيت أيضًا: التقريع والتوبيخ. (3) الأثر: 4629- 4630-"أبو مسلم": إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي. أو الكشي مضى في رقم: 3562، 4327. وكان في المطبوعة هنا: "إبراهيم بن مسلم بن عبد الله" وهم الناسخ فحذف الكنية"أبو مسلم" وأقحم"بن مسلم" بينه وبين أبيه. و"عمران بن ميسرة المنقري". روى عن عبد الله بن إدريس. وعنه البخاري وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو مسلم الكجي: وثقه الدارقطني. مات سنة 213. مترجم في التهذيب. و"الحسن بن الفرات بن أبي عبد الرحمن التميمي الفزاز" وهو المذكور في الإسناد السالف: 4629. روى عن أبي معشر وابن أبي مليكة وأبيه فرات. وعنه ابنه زياد وعبد الله بن إدريس ووكيع وأبو نعيم وغيرهم. وثقه ابن معين وابن حبان وأبو حاتم. مترجم في التهذيب والجرح والتعديل 1/2/32. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 4632 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إذا آلى الرجل أن لا يمسَّ امرأته، فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها لا يوجب عليه الذي صَنع طلاقًا ولا غيره. (1) 4633 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد وناجية بن بكر وابن أبي الزناد، عن أبي الزناد قال، أخبرني القاسم بن محمد: أنّ خالد ابن العاص المخزومي كانت عنده ابنة أبي سعيد بن هشام، وكان يحلف فيها مرارًا كثيرة أن لا يقربها الزمانَ الطويلَ قال، فسمعت عائشة تقول له: ألا تتقي الله يا ابن العاص في ابنة أبي سعيد؟ أما تخْرج؛ أما تقرأ هذه الآية التي في"سورة البقرة"؟ قال: فكأنها تؤثِّمه، ولا ترى أنه فارق أهله. (2) 4634 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المولي: لا يحلّ له إلا ما أحل الله له: إما أن يفيء، وإما أن يطلق. 4635 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عيد الله بن نمير قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه. (3) 4636 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال، لا يجوز للمُولي أن لا يفعل ما أمره الله، يقول:   (1) الأثر: 4632-"عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب" أحد الفقهاء السبعة. روى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وابنه عبد الرحمن بن القاسم. كان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن عمر" وانظر سنن البيهقي 8: 378. (2) الأثر: 4633-"يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي". روى عن الزهري ونافع وهشام بن عروة. وعنه الليث والأوزاعي وابن المبارك وابن وهب، ثقة. مات بصعيد مصر سنة 159. مترجم في التهذيب. "وأما" ناجية بن بكر" فلم أجد من يسمى بهذا الإسم من الرواة ولكن ابن وهب يروى عن"بكر بن مضر المصري" فأخشى أن يكون في الكلام زيادة وتصحيف. والله أعلم. وفي المطبوعة والمخطوطة: "يا ابن أبي العاص" والصواب ما أثبت. وانظر نسب قريش: 312. (3) الأثر: 4635- في المخطوطة: "عن عبد الله عن نافع" في هذا الموضع وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 يبيِّن رجعتها، أو يطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر - يبين رجعتها، أو يطلق = قال أبو كريب. قال ابن إدريس وزاد فيه. وراجعته فيه، فقال قولا معناه: إن له الرجعة. 4637 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن سعيد بن جبير أن عمر قال نحوا من قول ابن عمر. 4638 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم قال، أخبرنا نافع أن ابن عمر قال في الإيلاء: يوقف عند الأربعة الأشهر. 4639 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل أن لا يمس امرأته فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها ولا يوجب عليه الذي صنعَ طلاقًا ولا غيره. 4640 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال، سألت ابن عمر عن الإيلاء فقال: الأمراء يقضون بذلك. 4641 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال، يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة. فإما أن يطلِّق، وإما أن يفيء. 4642 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال، سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق. 4643 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال حدثنا داود، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 عن سعيد بن المسيب - في الرجل يولي من امرأته- قال: كان لا يرى أن تدخل عليه فرقه حتى يطلق. (1) 4644 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن المسيب: في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر: إنما جعله الله وقتًا لا يحل له أن يجاوزَ حتى يفيء أو يطلِّق، فإن جاوز فقد عصى الله لا تحرُمُ عليه امرأته. 4645 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلِّق. 4646 - حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن ابن المسيب: في الإيلاء: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. 4647- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن معمر= أو حدثته عنه= (2) عن عطاء الخراساني قال، سألت ابن المسيب عن الإيلاء، فقال: يُوقف. 4648 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن ابن المسيب= وعن ابن طاوس، عن أبيه، قالا يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. (3) .   (1) قوله: "فرقه" هكذا في المخطوطة وفي المطبوعة: "فرقة" والأرجح أنها مصحفة عن كلمة معناها: بيته، أو غرفته. (2) في المطبوعة: "حدثته" وما أثبت من المخطوطة. (3) عند هذا الموضع، انتهى تقسيم من تقاسيم النسخة التي نقت عنها نسختنا ويلي ذلك الأثر ما نصه: "وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كثيرًا * * * على الأصل بلغت بالقراءة من أوله سماعًا من القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي عليٌّ حرسه الله وأحمد بن عمر بن مديدة الجهاري، ونصر بن الحسين الطبريّ ومحمد بن عليّ الأموي. وكتب محمد بن عيسى السعدي في شعبان من سنة ثمان وأربعمائة- والقاضي يقابلني بكتابه" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 4649 - (1) حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني مالك بن أنس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مثل ذلك= يعني مثل قول عمر بن الخطاب في الإيلاء: لا شيء عليه، حتى يوقف، فيطلق، أو يمسك. (2) 4650 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه قال في الإيلاء: يوقف. 4651 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح= عن مجاهد في قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر"، قال إذا مضى أربعة أشهر أخذ فيوقف حتى يراجع أهله، أو يطلِّق. 4652 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سليمان بن يسار: أن مروان وَقفه بعد ستة أشهر. 4653 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود،   (1) أول التقسيم ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم" (2) الأثر: 4649- هذا إسناد آخر للأثر: 4602 فيما سلف وأما خير عمر فهو الذي مضى برقم: 4611. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 عن عمر بن عبد العزيز في الإيلاء قال، يوقف عند الأربعة الأشهر حتى يفيء، أو يطلق. 4654 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"، هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان إما أن يفيء فيراجع، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه. 4655 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا "الآية، قال: كان علي وابن عباس يقولان: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر فإنه يوقف فيقال له: أمسكتَ أو طلَّقت، فإن أمسك فهي امرأته، وإن طلق فهي طالق. 4656 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" للذين يؤلون من نسائهم" قال: هو الرجل يحلف أن لا يصيب امرأته كذا وكذا، فجعل الله له أربعة أشهر يتربص بها. وقال: قول الله تعالى ذكره:" تربص أربعة أشهر"، يتربص بها=" فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم" فإذا رفعته إلى الإمام ضرب له أجلَ أربعةِ أشهر، (1) فإن فاء وإلا طَلَّق عليه، فإن لم ترفعه فإنما هو حقٌّ لها تركته. 4657- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك قال، لا يقع على المولي طلاق حتى يوقف، ولا يكون موليًا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فلا إيلاء عليه، لأنه يوقف عند الأربعة الأشهر، وقد سقطت عنه اليمين، فذهب الإيلاء   (1) في المطبوعة: "أجلا أربعة أشهر" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 (1) 4658 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد قال، قال ابن عمر: حتى يرفع إلى السلطان، وكان أبي يقول ذلك ويقول: لا والله وإن مضت أربعُ سنين حتى يوقَف. 4659 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فطر قال، قال محمد بن كعب القرظي وأنا معه: لو أن رجلا آلى من امرأته أربعَ سنين لم نُبِنْها منه حتى نجمع بينهما، (2) فإن فاء فاء، وإن عزم الطلاق عزم. 4660 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبد العزيز الماجشون، عن داود بن الحصين قال، سمعت القاسم بن محمد يقول: يوقف إذا مضت الأربعة. * * * وقال آخرون: ليس الإيلاء بشيء. * ذكر من قال ذلك: 4661 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن علية، عن عمرو بن دينار قال، سألت ابن المسيَّب عن الإيلاء فقال: ليس بشيء. 4662 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثني جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال، سألت ابن عمر عن رجل آلى من امرأته، فمضتْ أربعة أشهر فلم يفئ إليها، فتلا هذه الآية:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" الآية. 4663 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر،   (1) الأثر: 4657- لم أجد نصه في الموطأ ومعناه فيه (الموطأ: 556- 558) . (2) في المطبوعة: "لم نكبها منه" كأنه من"الإكنان" تصحيف ناسخ والصواب من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 عن حبيب بن أبي ثابت قال، أرسلت إلى عطاء أسأله عن المولي، فقال: لا علم لي به. * * * وقال آخرون من أهل هذه المقالة: بل معنى قوله:"وإن عزموا الطلاق": وإن امتنعوا من الفيئة، بعد استيقاف الإمام إيّاهم على الفيء أو الطلاق. * ذكر من قال ذلك: 4664 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن فاء جعلها امرأته، وإن لم يفئ جعلها تطليقة بائنة. 4665 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن لم يفئ فهي تطليقة بائنة. * * * قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر كتاب الله تعالى ذكره، قولُ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن قال بقولهم في الطلاق= أن قوله:" فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم" إنما معناه: فإن فاءوا بعد وَقف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة، فرجعوا إلى أداء حق الله عليهم لنسائهم اللائي آلوا منهن، فإن الله لهم غفور رحيم="وإن عزموا الطلاق" فطلَّقوهن="فإن الله سميع"، لطلاقهم إذا طلَّقوا="عليم" بما أتوا إليهن. وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره ذكر حين قال:" وإن عزموا الطلاق"،"فإن الله سميع عليم" (1) ومعلوم أنّ انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان"عزم الطلاق" انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله تعالى ذكره أنه"سميع عليم"،   (1) فصلنا بين شطري الآية لأن ذلك مراد الطبري. يعني أن الله تعالى حين قال"وإن عزموا الطلاق"- ختم الآية بقوله: "فإن الله سميع عليم". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 كما أنه لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعته = في مراجعة المولي زوجته التي آلى منها، وأداء حقها إليها = بذكر الخبر عن أنه"شديد العقاب"، إذْ لم يكن موضعَ وعيد على معصية، ولكنه ختم ذلك بذكر الخبر عن وصفه نفسه تعالى ذكره بأنه"غفور رحيم"، إذْ كان موضعَ وَعد المنيب على إنابته إلى طاعته، فكذلك ختم الآية التي فيها ذكر القول، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام"سميع" وبالفعل"عليم"، فقال تعالى ذكره: وإن عزم المؤلون على نسائهم على طلاق من آلوا منه من نسائهم="فإن الله سميع" لطلاقهم إيّاهن إن طلقوهن="عليم" بما أتوا إليهنّ، مما يحل لهم، ويحرُم عليهم. (1) . وقد استقصينا البيان عن الدلالة على صحة هذا القول في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أحكام شرائع الدين) ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والمطلقات" اللواتي طُلِّقن بعد ابتناء أزواجهن بهنّ، وإفضائهم إليهن، إذا كن ذوات حيض وطهر-"يتربصن بأنفسهن" عن نكاح الأزواج ="ثلاثةَ قُرُوْءٍ". * * * واختلف أهل التأويل في تأويل"القرء" الذي عناه الله بقوله:" يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء"   (1) هذا فقه أبي جعفر لمعاني كتاب ربه، وتجويده لدلائل البلاغة والبيان في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه البرهان لمن طلب الحق من وجوهه بالورع والصبر والبصر ومعرفة ما توجبه الألفاظ من المعاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 فقال بعضهم: هو الحيض. * ذكر من قال ذلك: 4666 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قال: حِيَضٍ. (1) 4667 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ثلاثة قروء" أي ثلاث حِيَض. يقول: تعتدّ ثلاث حِيَض. 4668 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة في قوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" يقول: حمل عدة المطلقات ثلاث حيض، ثم نُسخ منها المطلقة التي طُلِّقت قبل أن يدخل بها زوجها، واللائي يَئِسْن من المحيض، واللائي لم يحضن، والحامل. 4669 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال، القروءُ الحِيَض. (2) 4670 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قال: ثلاث حيض. 4671 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار: الأقراءُ الحيَض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) الحيضة (بكسر الحاء) الاسم من الحيض والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض والجمع"حيض" (بكر الحاء وفتح الياء) وأما"الحيضة" المرة الواحدة من الحيض، جمعها"حيضات" (بفتح وسكون) . (2) الأثر: 4669- في المطبوعة والمخطوطة: "علي بن عبد الأعلى" وانظر ما سلف رقم: 4485، وأخشى أن يكون الصواب"محمد بن عبد الأعلى" وقد سلف مرارًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 4672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل سمع عكرمة قال: الأقراءُ الحِيَض، وليس بالطهر، قال تعالى:" فطلِّقوهن لعدتهن"، ولم يقل:"لقروئهن". 4673 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قالا ثلاث حيض. 4674 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" أما ثلاثة قروء: فثلاث حيض. 4675 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي: أنه رُفِع إلى عمر، فقال لعبد الله بن مسعود: لتقولنَّ فيها. فقال: أنت أحق أن تقول! قال: لتقولن. قال: أقول: إن زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال، ذاك رأيي وافقتَ ما في نفسي! فقضى بذلك عُمر. (1) 4676- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود، فذكر نحوه. 4677 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أن عمر بن الخطاب وابن مسعود قالا زُوجُها أحق بها ما لم تغتسل= أو قالا تحلَّ لها الصلاة. (2) 4678 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا   (1) الأثر: 4675- قال السيوطي أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد. ورواه البيهقي في السنن 7: 417 مطولا بغير هذا اللفظ، من طريق"الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة: أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فقالت. . " وانظر المحلى 10: 258، وسيأتي من طرق أخرى. (2) يعني: ما لم تحل لها الصلاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 سعيد بن أبي عروبة= قال، حدثنا مطر، أن الحسن حدثهم: أن رجلا طلق امرأته، ووكَّل بذلك رجلا من أهله= أو إنسانًا من أهله= فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتى دخلت امرأته في الحيضة الثالثة، وقرَّبت ماءها لتغتسل، فانطلق الذي وُكِّل بذلك إلى الزوج، فأقبل الزوج وهي تريد الغُسل، فقال: يا فلانة، قالت: ما تشاء؟ قال: إني قد راجعتك! قالت: والله ما لك ذلك! قال: بلى والله! قال: فارتفعا إلى أبي موسى الأشعري، فأخذ يمينها بالله الذي لا إله إلا هو: إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك. قالت: لا والله، ما كنت فعلت، ولقد قربت مائي لأغتسل. فردها على زوجها، وقال: أنتَ أحقُّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. 4679- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري بنحوه. 4680 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال، قال عمر: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. 4681 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن يونس بن جبير: أن عمر بن الخطاب طلق امرأته، فأرادت أن تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال عمر بن الخطاب: امرأتي ورب الكعبة! فراجعها= قال ابن بشار: فذكرت هذا الحديث لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: سمعتُ هذا الحديث من أبي هلال، عن قتاده، وأبو هلال لا يحتمل هذا. (1) 4682 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،   (1) الأثر: 4681-"أبو الوليد": هو هشام بن عبد الملك الباهل البصري أبو الوليد الطيالسي الحافظ الحجة، كان ثقة ثبتا حجة من عقلاء الناس توفي سنة 227، وولد سنة 133"وأبو هلال" هو: محمد بن سليم أبو هلال الراسبي لبصري روى عنه عبد الرحمن بن مهدي. قال أحمد: "يحتمل في حديثه إلا أنه يخالف في قتادة وهو مضطرب الحديث". مات سنة 167. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، فجاءت امرأة فقالت: إن زوجي طلقني واحدة أو ثنتين، فجاء وقد وضعت مائي، وأغلقت بابي، ونزعت ثيابي. فقال عمر لعبد الله: ما ترى؟ قال: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك. (1) 4683 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه قال- في رجل طلق امرأته ثم تركها حتى دخلت في الحيضة الثالثة، فأرادت أن تغتسل، ووضعت ماءها لتغتسل، فراجعها-: فأجازه عمر وعبد الله بن مسعود. 4684- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، بمثله= إلا أنه قال: ووضعت الماء للغسل، فراجعها، فسأل عبد الله وعمر، فقال: هو أحق بها ما لم تغتسل. 4685 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر وعبد الله يقولان: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة يملك الرجعة، فهو أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة. 4686 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين، فهو أحق برجعتها، وبينهما الميراث ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. 4687 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن الحسن: أن رجلا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم وكلَّ بها بعض أهله، فغفل الإنسان حتى دخلت مغتسلها، وقرَّبت غسلها. فأتاه فآذنه، فجاء فقال: إني قد راجعتك! فقالت: كلا والله! قال: بلى والله! قالت: كلا والله! قال: بلى   (1) الأثر: 4682- هو أحد أسانيد الأثر السالف رقم: 4675، وكذلك الآثار التي تليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 والله! قال: فتخالفا، فارتفعا إلى الأشعريّ، واستحلفها بالله لقد كنتِ اغتسلت وحلَّت لك الصلاة. فأبت أن تحلف، فردَّها عليه. (1) 4688 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أنّ عمر استشار ابن مسعود في الذي طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فحاضت الحيضة الثالثة، فقال ابن مسعود: أراه أحق بها ما لم تغتسل، فقال عمر: وافقت الذي في نفسي. فردّها على زوجها. 4689 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا النعمان بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عليا كان يقول: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. (2) 4690 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: إذا انقطع الدم فلا رجعة. 4691 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، إذا طلق الرجل امرأته وهي طاهر اعتدت ثلاث حيض سوى الحيضة التي طهُرت منها. 4692- حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن عمرو بن شعيب، أن عمر سأل أبا موسى عنها- وكان بلغه قضاؤه فيها- فقال أبو موسى: قضيتُ أن زوجها أحقُّ بها ما لم تغتسل. فقال عمر: لو قضيت غير هذا لأوجعت لك رأسك. 4693 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن علي بن أبي طالب قال - في   (1) الأثر: 4687- طريق آخر للأثر السالف رقم: 4678. (2) الأثر: 46890-"النعمان بن راشد الجزري" روى عن الزهري قال أحمد: مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير. وقال ابن معين: ضعيف مضطرب الحديث، وقال مرة: ثقة وقال البخاري وأبو حاتم: في حديثه وهم كثير وهو في الأصل صدوق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 الرجل يتزوَّج المرأة فيطلقها تطليقة أو ثنتين- قال، لزوجها الرجعة عليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة. 4694 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال، أرسل عثمان إلى أبي يسأله عنها، فقال أبي: وكيف يفتى منافق؟ فقال عثمان: أعيذُك بالله أن تكون منافقًا، ونعوذ بالله أن نسمِّيك منافقًا، ونعيذك بالله أن يَكون مثلُ هذا كان في الإسلام، ثم تموت ولم تبيِّنه! قال: فإني أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة. قال: فلا أعلم عثمان إلا أخذ بذلك. (1) 4695 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة= قال، وأخبرنا معمر، عن قتادة= قالا راجع رجل امرأته حين وضعت ثيابها تريدُ الاغتسال فقال: قد راجعتك. فقالت: كلا! فاغتسلت. ثم خاصمها إلى الأشعري، فردَّها عليه. 4696 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن معبد الجهني قال، إذا غسلت المطلقة فرجها من الحيضة الثالثة بانت منه وحلَّت للأزواج. (2)   (1) الأثر: 4694- زيد بن رفيع الجزري، روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وروى عنه معمر، وزيد بن أبي أنيسة. كان فقيها فاضلا ورعًا. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: ثقة ما به بأس. قيل لأحمد: سمع من أبي عبيدة؟ قال: نعم. وضعفه الدارقطني وقال النسائي: ليس بالقوي مترجم في الجرح والتعديل 1/2/563 ولسان الميزان. و"أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود في شأن المصاحف. وفي المخطوطة: "عن أبي عبيدة عن عبد الله" وهو خطأ محض. وهذا الأث رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 417 مختصرًا وفيه خطأ في ضبط لفظ"أبي" وضعت على الياء شدة، وهو خطأ. (2) الأثر: 4696-"معبد الجهني" يقال: "معبد بن عبد الله بن عكيم" ويقال: "معبد بن عبد الله بن عويم" ويقال: "معبد بن خالد" وهو من التابعين روى عنه الحسن وقتادة وزيد بن رفيع ومالك بن دينار وعوف الأعرابي. كان رأسا في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناسًا. حديثه صالح، ومذهبه رديء. وكان الحسن يقول: إياكم ومعبد فإنه ضال مضل- يعني كلامه في القدر. وقال ابن معين ثقة. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا في الحديث. مترجم في التهذيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 4697- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حماد، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يحلّ لزوجها الرجعةُ عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، ويحلّ لها الصوم. 4698- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. 4699- حدثنا محمد بن يحيى. قال: حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي، مثله. (1) * * * وقال آخرون: بل"القرء" الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به: الطهر. * ذكره من قال ذلك: 4700 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة. قالت: الأقراء الأطهار. 4701- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: الأقراء الأطهار.   (1) الأثر: 4699-"درست" (بضم الدال والراء وسكون السين) . ترجمه البخاري في الكبير 1/2/231 قال: "درست قال ابن عيينة: سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول: حدثنا درست عن الزهري- وكان درست قدم علينا من البصرة كيس حافظ". وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/2/438: "درست: روى عن الزهري روى عنه ابن أبي عروبة قدم عليهم البصرة. سمعت أبي يقول ذلك". وهو غير"درست بن حمزة البصري" و"درست بن زياد الرقاشي البصري". وكان في المطبوعة: "درسب" بالباء وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط- وسيأتي مثل هذا الإسناد برقم: 4725. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 4702 - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عمرة وعروة، عن عائشة قالت: إذا دحلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج= قال الزهري: قالت عمرة: كانت عائشة تقول: القرء: الطُّهر، وليس بالحيضة. 4703 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، مثل قول زيد وعائشة. 4704 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول زيد. 4705 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن زيد بن ثابت قال: إذا دخلت المطلَّقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج= قال معمر: وكان الزهري يفتي بقول زيد. 4706- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: بلغني أن عائشة قالت: إنما الأقراء: الأطهار. 4707- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها. 4708 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب: في رجل طلق امرأته واحدة أو ثنتين قال- قال زيد بن ثابت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها = وزاد ابن أبي عدي قال: قال علي بن أبي طالب: هو أحق بها ما لم تغتسل. 4709- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد وعلي، بمثله. 4710- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا ميراثَ لها. 4711 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب= قالا جميعً، حدثنا أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن الأحوص -رجل من أشراف أهل الشام- طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فمات وهي في الحيضة الثالثة، فرُفعت إلى معاوية، فلم يوجد عنده فيها علم. فسأل عنها فضالة بن عبيد ومَنْ هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوجد عندهم فيها علم، فبعث معاوية راكبًا إلى زيد بن ثابت، فقال: لا ترثه، ولو ماتت لم يرثها. فكان ابن عمر يرى ذلك. (1) 4712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له الأحوص من أهل الشام طلق امرأته تطليقة، فمات وقد دخلت في الحيضة الثالثة، فرفع إلى معاوية، فلم يدر ما يقول، فكتب فيها إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد:"إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فلا ميراث بينهما". 4713 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،   (1) الأثر: 4711- 4713- رواه الشافعي في الأم 5: 192 من طريق مالك عن نافع وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار" وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 415 من طريق آخر مختصرًا. و"الأحوص" هو: الأحوص بن حكيم بن عمير (وهو عمرو) بن الأسود العنسي الهمداني. رأى أنسًا عبد الله بن بسر"وروى أبيه وطاووس وغيرهما وقال البخاري: "سمع أنسا" وروى عنه سفيان وروى عنه سفيان بن عيينة وهو صدوق حديثه ليس بالقوي". وكان الأحوص رجلا عابدًا مجتهدًا، وولى عمل حمص. قال عبد الرحمن بن الحكم: "كان صاحب شرطة ومن بعض المسودة" وقال ابن حميد: "قدم الأحوص الري مع المهدي وكان قدومه سنة 168". مترجم في التهذيب وتاريخ ابن عساكر 2: 332- 333. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 عن أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلا يقال له الأحوص، فذكر نحوه عن معاوية وزيد. 4714- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع قال، قال ابن عمر: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها. 4715- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المطلقة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت. 4716 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمر بن محمد، أن نافعًا أخبره، عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان: إذا دخلت المرأة في الدم من الحيضة الثالثة، فإنها لا ترثه ولا يرثها، وقد برئت منه وبرئ منها. (1) 4717- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، بلغني، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلقت المرأة، فدخلت في الحيضة الثالثة أنه ليس بينهما ميراث ولا رجعة. 4718 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت سالم بن عبد الله يقول مثل قول زيد بن ثابت. 4719 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، وسمعت يحيى يقول: بلغني عن أبان بن عثمان أنه كان يقول ذلك.   (1) الأثر: 4716- عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى عن أبيه وجده وعم أبيه سالم، وعن نافع مولى ابن عمر وغيرهم. وكان في المخطوطة مضطرب الاسم ولكنه يقرأ كما هو في المطبوعة وهو الصواب. وفي المخطوطة أيضًا"وقد ترث منه ويرث منها" والصواب في المطبوعة والسنن الكبرى للبيهقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 4720- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد بن ثابت، مثل ذلك. (1) 4721- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع: أن معاوية بعث إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد:"إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت"، وكان ابن عمر يقوله. 4722 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان وزيد بن ثابت أنهما قالا إذا حاضت الحيضة الثالثة فلا رجعة، ولا ميراث. 4723- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن زيد بن ثابت قال، إذا طلق الرجل امرأته، فرأت الدم في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها. 4724- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن موسى بن شداد، عن عمر بن ثابت الأنصاري قال، كان زيد بن ثابت يقول: إذا حاضت المطلقة الثالثة قبل أن يراجعها زوجها فلا يملك رَجعتها. (2) 4725 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عائشة وزيد بن ثابت قالا   (1) الأثر: 4720- في المطبوعة: "حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الوهاب وأثبت ما في المخطوطة، وهو سبق قلم من ناسخ آخر. (2) الأثر: 4724-"موسى بن شداد" ترجمه البخاري في الكبير 41/286 وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/1/146 وقال: "روى عن عمرو بن ثابت. روى عنه مغيرة بن مقسم الضبي+ سمعت أبي يقول ذلك". ولم يزد البخاري شيئًا. وأما"عمر بن ثابت الأنصاري" فهو مترجم في التهذيب روى عن أبي أيوب الأنصاري وبعض الصحابة. والظاهر أن ما في الطبري هو الصواب وأن ما جاء في التاريخ الكبير والجرح والتعديل"عمرو بن ثابت" فهو خطأ فلم أجد"عمرو بن ثابت" أنصاريًا ومن هذه الطبقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها. (1) * * * قال أبو جعفر:"والقروء" في كلام العرب: جمع"قُرْء"، (2) وقد تجمعه العرب"أقراء" يقال في"فعل" منه:"أقرأت المراة"- إذا صارت ذات حيض وطُهر-" فهي تقرئ إقراء". وأصل"القُرء" في كلام العرب: الوقتُ لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدبارُه لوقت معلوم. ولذلك قالت العرب:"قرأت حاجةُ فلان عندي"، بمعنى: دنا قضاؤها، وحَان وقت قضائها (3) "واقرأ النجم" إذا جاء وقت أفوله،"وأقرأ" إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر: إذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أقْرَأَتْ ... أَحَسَّ السِّمَا كَانِ مِنْها أُفُولا (4) وقيل:"أقرأت الريح"، إذا هبت لوقتها، كما قال الهذلي: (5) شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ (6) بمعنى: هبت لوقتها وحين هُبوبها. ولذلك سمى بعض العرب وقت مجيء الحيض"قُرءًا"، إذا كان دمًا يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت، وكمونُه في آخر، فسمي وقت مجيئه"قُرءًا"، كما سمَّى الذين سمَّوا وقت مجيء الريح لوقتها"قُرءًا".   (1) الأثر: 4725- سلف هذا الإسناد برقم 4699- وترجمه"درست" وكان في المطبوعة هنا أيضًا "درسب" بالباء وهو خطأ كما أسلفنا والإسناد في المخطوطة هكذا: ". . . حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن المسيب أن عائشة. . . " أسقط من الإسناد ما هو ثابت في المطبوعة وهو الصواب. (2) في المطبوعة: "والقرء في كلام العرب جمعه قروء" وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "وجاء وقت قضائها" والذي أثبته ما في المخطوطة. (4) لم أجد هذا البيت وهو متعلق ببيت بعده فيما أرجح فتركت شرحه حتى أعثر على تمام معناه. (5) هو مالك بن الحارث أحد بني كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل. (6) ديوان الهذليين 3: 83 وشيء الشيء يشنأه شناءة: كرهه. والعقر: اسم مكان و"خليل" الذي نسب إليه هو جد جرير بن عبد الله البجلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 4726 - ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبّيْش: دعي الصلاة أيام أقرائك. (1) بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك. وسمى آخرون من العرب وقت مجيء الطهر"قُرءًا"، إذْ كان وقت مجيئه وقتًا لإدبار الدم دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئُه لوقت معلوم. فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيس: وَفيِ كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا (2) مُوَرِّثَةٍ مَالا وَفِي الذِّكْرِ رِفْعةً ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا (3) فجعل"القُرء": وقت الطهر. * * * قال أبو جعفر: ولما وصفنا من معنى:"القُرء" أشكل تأويل قول الله:" والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء" على أهل التأويل.   (1) الأثر: 4726- ساقه بغير إسناد وحديث فاطمة بنت أبي حبيش: ثابت من طرق قال ابن كثير في تفسير 1: 534 وذكر هذا الحديث"رواه أبو دواد والنسائي من طريق المنذرين المغير، عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "دعى الصلاة أيام أقرائك". ثم قال: "ولكن المنذر هذا مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات" وكذلك قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/1/242. وانظر سنن أبي داود 1: 114- 117 تفصيل ذلك. وانظر البخاري (فتح الباري 1: 348- وما بعده من أبواب الحيض) ومسلم 4: 16- 21 وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية. (2) ديوانه: 67، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 74 وغيرهما كثير. يمدح هوذة بن على الحنفي، وقد ذكر فيها من فضائل هوذة ومآثره ما ذكر. جشم الأمر يجشمه جثما وجشامة: تكلفه على جهد ومشقة وركب أجسمه والعزيم والعزيمة والعزم: الجد وعقد القلب على أمر أنك فاعله. والعزاء: حسن الصبر عن فقد ما يفقد الإنسان. يقول لهوذة: كم من لذة طيبة صبرت النفس عنها في سبيل تشييد ملكك بالغزو المتصل عامًا بعد عام. (3) قوله: "مورثة" صفة لقوله: "غزوة" يقول: تعزيت عن كل متاع فهجرت نساءك في وقت طهرهن فلم تقربهن، وآثرت عليهن الغزو، فكانت غزواتك غني في المال، ورفعة في الذكر، وبعدًا في الصيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 فرأى بعضهم أن الذي أمِرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء، أقراء الحيض، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث حيَض بنفسها عن خطبة الأزواج. * * * ورأى آخرون: أنّ الذي أمرت به من ذلك، إنما هو أقراءُ الطهر- وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث أطهار. * * * فإذْ كان معنى"القُرء" ما وصفنا لما بيَّنا، وكان الله تعالى ذكره قد أمرَ المريدَ طلاقَ امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرًا غير مُجامعة، وحرَّم عليه طلاقها حائضًا= كان اللازمُ المطلقةَ المدخولَ بها إذا كانت ذات أقراء (1) تربُّص أوقات محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها، أن تنظرَ إلى ثلاثة قروء بين طهريْ كل قرءٍ منهنّ قرءٌ، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. (2) فإذا انقضين، فقد حلت للأزواج، وانقضت عدّتها، وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخلت في عداد من تربَّصُ من المطلقات بنفسها ثلاثةَ قروء، بين طُهريْ كل قرءٍ منهن قرءٌ له مخالفٌ. وإذا فعلت ذلك، كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنزيله. فقد تبيَّن إذًا -إذ كان الأمر على ما وصفنا- أنّ القرءَ الثالثَ من أقرائها على ما بينا، الطهرُ الثالث= وأنّ بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه، انقضاءُ عدّتها. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وكان اللازم. . . " و"الواو" هنا مفسدة للمعنى لأن الطبري يريد أن يقول إن"القرء" من الألفاظ ذوات المعنى المشترك. فهو يدل على وقت مجيء الطهر وعلى وقت مجيء الحيض. ولما كان الله تعالى قد أمر الرجل أن يطلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه، وحرم عليه طلاقها حائضًا كان اللازم المطلقة أن تنظر إلى ثلاثة قروء. . . " (2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهو خلاف. . . " والصواب إسقاط"واو" العطف يعني: أن هذا القرء الذي بين الطهرين خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. وذلك لأن لفظ"قرء" مشترك المعنى بين الحيض والطهر. وفي المخطوطة والمطبوعة: "فتربصهن" وهو تصحيف والصواب ما أثبت. وسيأتي هذا المعنى واضحا فما يلي من عبارته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 فإن ظن ذو غباء (1) أنَّا إذْ كنا قد نسمِّي وقت مجيء الطهر"قُرءًا"، ووقت مجيء الحيض"قرءًا"، أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضية بانقضاء الطهر الثاني، إذ كان الطهرُ الذي طلقها فيه، والحيضة التي بعده، والطهر الذي يتلوها،"أقراءً" كلها (2) فقد ظن جهلا. وذلك أن الحكم عندنا- في كل ما أنزله الله في كتابه- على ما احتمله ظاهرُ التنزيل، ما لم يبيّن الله تعالى ذكره لعباده، أنّ مراده منه الخصوص، إما بتنزيل في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض، كان الذي خصَّ من ذلك غيرَ داخل في الجملة التي أوجب الحكم بها، وكان سائرها على عمومها، كما قد بيَّنا في كتابنا: (كتاب لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام) وغيره من كتبنا. فـ "الأقراء" التي هي أقراءُ الحيض بين طُهريْ أقراء الطهر، غير محتسبة من أقراء المتربِّصة بنفسها بعد الطلاق، لإجماع الجميع من أهل الإسلام: أن"الأقراء" التي أوجبَ الله عليها تربَّصُهن، ثلاثة قروء، بين كل قرء منهن أوقات مخالفاتُ المعنى لأقرائها التي تربَّصُهن، وإذْ كن مستحقات عندنا اسم"أقراء"، فإن ذلك من إجماع الجميع لم يُجِزْ لها التربّص إلا على ما وصفنا قبل. * * * قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليل واضح على خطأ قول من قال:"إن امرأة المُولي التي آلى منها، تحل للأزواج بانقضاء الأشهر الأربعة، إذا كانت قد حاضت ثلاث حيضٍ في الأشهر الأربعة". لأن الله تعالى ذكره إنما أوجبَ عليها العدّة بعد عزم المُولي على طلاقها، وإيقاع الطلاق بها بقوله:" وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، فأوجب تعالى   (1) في المطبوعة: "ذو غباوة" وأثبت ما في المخطوطة. (2) يعني: أن طهر التطليق قرء، والحيضة قرء، والطهر الثاني قرء، فهي ثلاثة قروء تتربصها المطلقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 ذكره على المرأة إذا صارت مطلقة- تربُّص ثَلاثة قروء فمعلوم أنها لم تكن مطلقة يوم آلى منها زوجها، لإجماع الجميع على أنّ الإيلاء ليس بطلاق موجب على المولى منها العِدّة. وإذ كان ذلك كذلك، فالعدة إنما تلزمها بعد الطلاق، والطلاق إنما يلحقها بما قد بيناه قبل. * * * قال أبو جعفر: وأما معنى قوله:" والمطلقات" فإنه: والمخلَّياتُ السبيل، غير ممنوعات بأزواج ولا مخطوبات، وقول القائل:"فلانة مطلقه" إنما هو"مفعَّلة" من قول القائل:"طلَّق الرجل زوجته فهي مطلَّقة". وأما قولهم:"هي طالق"، فمن قولهم:"طلَّقها زوجها فطّلُقت هي، وهي تطلُق طلاقًا، وهي طالق". وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول:"طَلَقت المرأة". (1) وإنما قيل ذلك لها، إذا خلاها زوجها، كما يقال للنعجة المهملة بغير راع ولا كالئ، إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مُخلاةً سبيلها:"هي طالق"، فمثلت المرأة المخلاة سبيلها بها، وسُميت بما سُميت به النعجة التي وصفنا أمرها. وأما قولهم:"طُلِقت المرأة"، فمعنى غير هذا، إنما يقال في هذا إذا نُفِست. (2) هذا من"الطَّلْق"، والأول من"الطلاق". * * * وقد بينا أن"التربُّص" إنما هو التوقف عن النكاح، وحبسُ النفس عنه في غير هذا الموضع. (3) * * *   (1) "طلق" هنا بفتح الطاء واللام أما التي سبقت قبلها بفتح الطاء وضم اللام مثل"كرم". (2) نفست المرأة (بضم فكسر) ونفست (بفتح فكسر) : ولدت فهي نفساء. والطلق: طلق المخاض عند الولادة وهو الوجع والفعل منه بالبناء للمجهول بضم الطاء وكسر اللام. (3) انظر ما سلف في معنى"التربص" من هذا الجزء 4: 456. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم: تأويله:"ولا يحلّ"، لهن يعني للمطلقات="أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، من الحيض إذا طُلِّقن، حرّم عليهن أن يكتمن أزواجهن الذين طلَّقوهن، في الطلاق الذي عليهم لهنّ فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن. (1) * ذكر من قال ذلك: 4727 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال، قال الله تعالى ذكره:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" إلى قوله:" وللرجال عليهنّ درجة والله عزيز حكيم" قال: بلغنا أنّ"ما خلق في أرحامهن" الحمل، وبلغنا أن الحيضة، فلا يحل لهنّ أن يكتمن ذلك، لتنقضي العدة ولا يملك الرجعة إذا كانت له 4728 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض 4729 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: أكبرُ ذلك الحيض. (2)   (1) في المخطوطة: "حقوقهن" والصواب ما في المطبوعة. (2) الأثر: 4729- في الدر المنثور 1: 276 بنصه هنا ثم قال: "وفي لفظ: أكثر ما عنى به الحيض" وسيأتي كذلك برقم: 4733، ولكن المخطوطة تخالفهن جميعًا ففيها، "إذا كثر ذلك الحيض" وكلها قريب في معناه بعضه من بعض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 4730 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرّفًا، عن الحكم قال، قال إبراهيم في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ" قال: الحيض 4731 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض= ثم قال خالد: الدم. * * * وقال آخرون: هو الحيض، غير أن الذي حرّم الله تعالى ذكره عليها كتمانَه فيما خلق في رحمها من ذلك، هو أن تقول لزوجها المطلِّق وقد أراد رجعتها قبل الحيضة الثالثة:" قد حضتُ الحيضةَ الثالثة" كاذبةً لتبطل حقه بقيلها الباطلَ في ذلك. * ذكر من قال ذلك: 4732 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة بن معتِّب، عن إبراهيم في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض، المرأةُ تعتد قُرْأين، ثم يريد زوجها أن يراجعها، فتقول: قد حضتُ الثالثة" (1) 4733 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: أكثر ما عني به الحيض. (2) * * *   (1) الأثر: 4732- في المخطوطة"عبده بن مغيب" غير منقوطة وفي المطبوعة: "بن مغيث" خطأ. وعبيدة بن معتب الضبي روى عن إبراهيم النخعي واالشعبي وعاصم بن بهدلة وغيرهم. روى عنه شعبة والثوري ووكيع وهشيم وعلي بن مسهر وغيرهم. وكان سيء الحفظ ضريرًا متروك الحديث. وقال ابن حبان: "اختلط بأخرة فبطل الاحتجاج به". (2) الأثر: 4733- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 4729. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 وقال آخرون: بل المعنى الذي نُهِيتْ عن كتمانه زوجَها المطلِّقَ: الحبلُ والحيضُ جميعًا. * ذكر من قال ذلك: 4734 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، من الحيض والحمل، لا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتُم حيضها، ولا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتُم حملها. 4735 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرِّفًا، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: الحمل والحيض= قال أبو كريب: قال ابن إدريس: هذا أوَّل حديث سمعته من مطرِّف. 4736 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن الحكم، عن مجاهد، مثله= إلا أنه قال: الحبل. 4737 - حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: من الحيض والولد 4738 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: من الحيض والولد 4739 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: لا يحلّ للمطلَّقة أن تقول:"إني حائض"، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 وليست بحائض= ولا تقول:"إني حبلى" وليست بحبلى= ولا تقول:"لستُ بحبلى"، وهي حُبلى. 4740 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 4741 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن مجاهد قال، الحيض والحبل= قال، تفسيره أن لا تقول:"إني حائض"، وليست بحائض="ولا لست بحائض"، وهي حائض=: ولا" أني حبلى"، وليست بحبلى= ولا"لست بحبلى"، وهي حبلى. 4742 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مجاهد نحو هذا التفسير في هذه الآية. (1) 4743 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله= وزاد فيه: قال: وذلك كله في بُغض المرأة زوجها وحبِّه 4744 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" يقول: لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحبل، لا يحلّ لها أن تقول:"إني قد حضت" ولم تحض= ولا يحلّ أن تقول:"إني لم أحض"، وقد حاضت= ولا يحل لها أن تقول:"إني حبلى" وليست بحبلى= ولا أن تقول:"لست بحبلى"، وهي حبلى 4745 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" الآية قال، لا يكتمن الحيض   (1) الأثر: 4742-"القاسم بن نافع بن أبي بزة" وهو القاسم بن أبي بزة" روى عن أبي الطفيل وأبي معبد ومجاهد وسعيد بن جبير روى عنه عمرو بن دينار وعبد الملك بن أبي سلمان وابن جريج، وابن أبي ليلى وحجاج بن أرطأة. مترجم في الجرح والتعديل 3/2/122. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 ولا الولد، ولا يحل لها أن تكتمه وهو لا يعلم متى تحلّ، لئلا يرتجعها- تُضارُّة (1) 4746 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولا يحل لهن أن يتكتمن ما خلق الله في أرحامهن" يعني الولد قال: الحيضُ والولدُ هو الذي ائتُمِن عليه النساء. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك الحبل. ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نُهِيتْ عن كتمان ذلك الرجلَ، (2) فقال بعضهم: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقَّ الزوج من الرجعة، إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها. * ذكر من قال ذلك: 4747 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن قباث بن رزين، عن علي بن رباح أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: اتل هذه الآية فتلا. فقال: إن فلانة ممن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ = وكانت طُلِّقت وهي حبلى، فكتمت حتى وضعت (3)   (1) في المطبوعة: "مضارة" والصواب من المخطوطة أي: تفعل ذلك تضاره بذلك. (2) قوله: "الرجل" منصوب بالمصدر وهو قوله: "كتمان ذلك" مفعول به. (3) الأثر: 4747- قباث بن رزين بن حميد بن صالح اللخمي أبو هاشم المصري روى عن عم أبيه سلمة وعلي بن رباح وعكرمة وروى عنه ابن المبارك وابن لهيعة وابن وهب. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. وقد ذكرت له قصة في التهذيب: أن ملك الروم أمره أن يناظر البطريق. فقال للبطرك. كيف أنت؟ وكيف ولدك؟ فقال البطارقة: ما أجهلك! تزعم أن للبطرك ولدًا وقد نزهه الله عن ذلك! قال: فقلت لهم: تنزهون البطرك عن الولد، ولا تنزهون الله تعالى -وهو خالق الخلق أجمعين- عن الولد! قال: فنخر البطرك نخرة عظيمة وقال: أخرج هذا هذه الساعة عن بلدك لئلا يفسد عليك دينك، فأطلقه. قال ابن حجر"وقد وقع شبيه هذه القصة للقاضي أبي بكر الباقلاني: لما توجه بالرسالة إلى ملك الروم وظهر من هذا أنه مسبوق بهذا الإلزام. والله أعلم". وتوفي قباث سنة 156. و"علي بن رباح بن قصير اللخمي روى عن عمرو بن العاص وسراقة بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وأبي قتادة الأنصاري وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة. وفد على معاوية وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مصر. وقال: كان ثقة. وغزا إفريقية وذهبت عينه يوم ذي الصواري في البحر مع ابن أبي سرح سنة 34 ولد سنة عشرة من الهجرة ومات سنة 114. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 4748 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل، فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله:" ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنْ كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر" 4749 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول: الطلاق مرّتان بينهما رجعة، فإن بدا له أن يطلِّقها بعد هاتين فهي ثالثة، وإن طلقها ثلاثًا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. إنما اللاتي ذكرن في القرآن:" ولا يحلُّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحقُّ بردهنَّ"، هي التي طلقت واحدة أو ثنتين، ثم كتمتْ حملها لكي تنجو من زوجها، فأما إذا بتَّ الثلاثَ التطليقات، فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجًا غيره. (1) * * * وقال آخرون: السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنَه أزواجهن، خوف مراجعتهم إياهُنّ، حتى يتزوجن غيرهم، فيُلحق نسب الحمل- الذي هو من الزوج المطلِّق- بمن تزوجته. فحرم الله ذلك عليهن. (2) * ذكر من قال ذلك: 4750 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: كانت المرأة إذا طُلِّقت كتمت ما في بطنها وحملها لتذهب بالولد إلى غير أبيه، فكره الله ذلك لهنّ.   (1) الأثر: 4749- يحيى بن بشر الخراساني سلفت ترجمته في الأثر: 4549. (2) في المطبوعة: "فيلحق بسببه الحمل. . . " وهو خطأ فاسد صوابه من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 4751 - حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: علم الله أنّ منهن كواتم يكتمن الولد. وكان أهل الجاهلية كان الرجل يطلّق امرأته وهي حامل، (1) فتكتم الولد وتذهبُ به إلى غيره، وتكتُم مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وقدَّم فيه. (2) 4752 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر منها * * * وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك، هو أنّ الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حملٌ؟ كيلا يطلقها، وهي حامل منه (3) للضرر الذي يلحقُه وولدَه في فراقها إن فارقها، فأمِرن بالصدق في ذلك ونُهين عن الكذب. * ذكر من قال ذلك:   (1) قوله: "وكان أهل الجاهلية كان الرجل. . " عربي فصيح جيد، ليس بخطأ وحذف خبر كان الأولى لاستغنائه بما بعده عنه. وانظر مثله فيما سيأتي في الأثر: 4781 عن قتادة أيضًا بهذا الإسناد. (2) الأثر: 4751- سلف هذا الإسناد مرارا وأقر به رقم: 4676، 4677، 4679ن 4692، 4713، 4714ن 4725 وغيرها. ولا بد من بيان رجاله"محمد بن يحيى بن أبي حزم القطعي" أبو عبد الله البصري. روى عن عمه حزم بن مهران وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعبد الصمد بن عبد الوارث وغيرهم. روى عنه مسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في غير الجامع. قال أبو حاتم: صالح الحديث صدوق. مات سنة 253. و"عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمد القرشي السامي البصري" يلقب أبا همام، فكان يغضب منه روى عن داود بن أبي هند وسعيد الجريري وسعيد بن أبي عروبة وحميد الطويل وخالد الحذاء وغيرهم. وروى عنه إسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن بشار بندار ونصر بن الجهضمي وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وكان متقنًا للحديث قدريًا غير داعية إليه. مات سنة 198. * وقوله: "وقدم فيه" أي أمر فيه بما أمر. (3) في المطبوعة: "لكيلا" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 4753 - حدثني موسى قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (1) " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، فالرجل يريد أن يطلق امرأته فيسألها: هل بك حمل؟ فتكتمه إرادةَ أن تفارقه، فيطلقها وقد كتمته حتى تضع. وإذا علم بذلك فإنها تردّ إليه، عقوبةً لما كتمته، وزوجها أحق برجعتها صاغرةً. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: الذي نُهيت المرأة المطلَّقة عن كتمانه زوجها المطلِّقَها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها- الحيضُ والحبَل. لأنه لا خلاف بين الجميع أنّ العِدّة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها، كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث، في قول من قال:"القُرء" الطهر، وفي قول من قال: هو الحيض، إذا انقطع من الحيضة الثالثة، فتطهرت بالاغتسال. (2) فإذا كان ذلك كذلك= وكان الله تعالى ذكره إنما حرَّم عليهن كتمانَ المطلِّق الذي وصفنا أمره، ما يكونُ بكتمانهن إياه بُطُول حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عِدَدهن، (3) وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كن حواملَ، وبانقضاء الأمراء الثلاثة إن كن غير حوامل= (4) علم أنهن   (1) الأثر: 4753- كان في المطبوعة والمخطوطة: "حدثني موسى قال حدثنا أسباط" بإسقاط"قال حدثنا عمرو" وهو خطأ صرف. هو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم: 4674. (2) في المطبوعة: "تطهرت للاغتسال" وهو معرق في الخطأ والصواب من المخطوطة. (3) قوله: "ما يكون بكتمانهن. . " هذه الجملة مفعول به منصوب بالمصدر"كتمان" وقوله: "بطول" مصدر"بطل الشيء يبطل بطولا وبطلانًا" وقد سلف ذلك فيما مضى 2: 426 ثم 3: 205 تعليق: 6 وهذا الجزء 4: 146. (4) قوله: "علم" جواب قوله آنفًا: "وإذ كان ذلك كذلك. . " وما بينهما معطوف بعضه على بعض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 منَهيَّات عن كتمان أزواجهن المطلِّقِيهنَّ من كل واحد منهما، (1) - أعني من الحيض والحبل - مثل الذي هنَّ مَنْهيَّاتٌ عنه من الآخر، وأن لا معنى لخصوص مَنْ خصّ بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر، إذ كانا جميعًا مما خلق الله في أرحامهن، وأنّ في كل واحدة منهما من معنى بُطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية، مثل ما في الآخر. ويُسأل من خصّ ذلك- فجعله لأحد المعنيين دون الآخر- عن البرهان على صحة دعواه من أصْل أو حجة يجب التسليم لها، ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * وأما الذي قاله السدي (2) من أنه معنيٌّ به نهي النساء كتمانَ أزواجهن الحبلَ عند إرادتهم طلاقهن، فقولٌ لما يدل عليه ظاهر التنزيل مخالف، وذلك أن الله تعالى ذكره قال:" والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلقَ الله في أرحامهن"، بمعنى: ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء، إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر. وذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن، بعد وصفه إياهن بما وَصفهن به، من فراق أزواجهن بالطلاق، وإعلامهن ما يلزمهن من التربُّص، معرِّفًا لهن بذلك ما يحرُم عليهن وما يحلّ، وما يلزمُهن من العِدَّة ويجبُ عليهن فيها. فكان مما عرّفهن: أنّ من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجَهن الحيض والحبَل= الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاعُ حقوق أزواجهن= ضرارًا منهنّ لهم، فكان نهيُه عما نهاهن عنه من ذلك، بأن يكون من صفة ما يليه   (1) في المطبوعة: "أزواجهن المطلقين" تحريف لكلام أبي جعفر. والهاء والنون مفعول اسم فاعل: "المطلق" وهذا جار في كلام أبي جعفر مرارًا كثيرة، وجار أيضًا من الطابعين تحريف ذلك إلى ما ألفوا من سقم العبارة. وقد مضى منذ أسطر قليلة قوله: "زوجها المطلقها". (2) هو الأثر السالف رقم: 4753. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 قبله ويتلوه بعده، أولى من أن يكون من صفة ما لم يَجْرِ له ذِكر قبله. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: ما معنى قوله:" إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر"؟ أوَ يحل لهن كتمان ذلك أزواجهنً إنْ كن لا يؤمنَّ بالله ولا باليوم الآخر حتى خصّ النهيُ عن ذلك المؤمنات بالله واليوم الآخر؟ قيل: معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أن كتمان المراة المطلَّقة زوجَها المطلَّقَها ما خلق الله تعالى في رحمها من حيض وولد في أيام عدتها من طلاقه ضرارًا له، (1) ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا من أخلاقه، وإنما ذلك من فعل من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وأخلاقِهنَّ من النساء الكوافر= فلا تتخلَّقن أيتها المؤمنات بأخلاقهنّ، فإنّ ذلك لا يحل لكنّ إن كنتن تؤمنّ بالله واليوم الآخر وكنتن من المسلمات= (2) لا أنّ المؤمنات هن المخصوصات بتحريم ذلك عليهن دون الكوافر، بل الواجب على كل من لزمته فرائضُ الله من النساء اللواتي لهن أقراء- إذا طلِّقت بعد الدخول بها في عدتها- أن لا تكتم زوجها ما خلق الله في رحمها من الحيض والحبَل. * * *   (1) قوله: "زوجها المطلقها" زوجها منصوب مفعول به للمصدر"كتمان" وقوله: المطلقها منصوب صفة لقوله: "زوجها" و"الهاء والألف" مفعول به، كما سلف في التعليقة الآنفة. (2) قوله: "لا أن المؤمنات. . . " من سياق الجملة الأولى: ". . . وإنما معناه أن كتمان المرأة المطلقة. . . لا ان المؤمنات". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 القول في تأويل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} " قال أبو جعفر:"والبعولة" جمع"بعل"، وهو الزوج للمرأة، ومنه قول جرير: أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ المَلابَ فَإنَّمَا ... جَرِيرٌ لَكُمْ بَعْلٌ وَأَنْتُمْ حَلائِلُهْ (1) وقد يجمع"البعل""البعولة، والبعول"، كما يجمع"الفحل""والفحول والفحولة"، و"الذكر""الذكور والذكورة". وكذلك ما كان على مثال"فعول" من الجمع، فإن العرب كثيرًا ما تدخل فيه"الهاء"، فإما ما كان منها على مثال"فِعال"، فقليل في كلامهم دخول"الهاء" فيه، وقد حكى عنهم."العِظامُ والعِظامة"، (2) ومنه قول الزاجر: (3) * ثُمَّ دَفَنْتَ الْفَرْثَ وَالعِظَامهْ * (4)   (1) ديوانه: 482 والنقائض: 650 وطبقات فحول الشعراء: 347. من نقيضة عجيبة كان من أمرها أن الحجاج قال لهما: ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية. فجاء الفرزدق قد لبس الخز والديباج وقعد في قبة. وشاور جرير دهاة قومه بني يربوع فقالوا: ما لباس آبائنا إلا الحديد! فلبس جرير درعًا وتقلد سيفًا، وأخذ رمحًا وركب فرسًا وأقبل في أربعين فارسًا من قومه. فلما رأى الفرزدق قال: لَبِسْتُ سِلاَحِي والفَرَزْدَقُ لُعْبِةً ... عَلَيْهِ وِشَاحًا كُرَّجٍ وَجَلاَجِلُهْ أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والكرج: الخيال الذي يلعب به المخنثون كأنه"خيال الظل" فيما أظن. والجلاجل: الأجراس ويروى: "أعدوا مع الخز" وهو الحرير. والملاب: طيب من الزعفران تتخلق به العروس في زينتها لجلوها. والحلائل جمع حليلة. وهي الزوجة. ولشد ما سخر جرير من ابن عمه!! (2) انظر سيبويه 2: 177. (3) لم أعرف قائله. (4) الجمهرة 3: 121 واللسان (عظم) و (هذم) والرجز يخالف رواية الطبري وهو: وَيْلٌ لِبُعْرَانِ أبِي نَعَامَةْ ... مِنْكَ وَمِنْ شَفْرَتكَ الهُذَامَةْ إِذَا ابْتَرَكْتَ فَحَفَرْتَ قَامَهْ ... ثُمَّ نَثَرْتَ الفَرْثَ وَالعِظَامَهْ ورواية البيت الأول في اللسان (هذم) : "بني نعامه" وفي الجمهرة"بني ثمامه". ورواية البيت الأخير في الجمهرة: "ثم أكلت اللحم والعظامة". قوله: "الهذامة". تهذم اللحم: أي تسرع في قطعه. وابترك: جثا وألقى بركه على الأرض. وأظنه يصف أسدًا أو ذئبًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 وقد قيل:"الحجارة والحِجار" و"المِهارة والمِهار" و"الذِكّارة والذِكّار"، للذكور. * * * وأما تأويل الكلام، فإنه: وأزواج المطلقات = اللاتي فرضنا عليهن أن يتربَّصن بأنفسهن ثلاثه قروء، وحرَّمنا عليهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن= أحق وأولى بردهن إلى أنفسهم (1) في حال تربصهن إلى الأقراء الثلاثة، وأيام الحيل، وارتجاعهن إلى حبالهم (2) = منهم بأنفسهن أن يمنعهن من أنفسهن ذلك (3) كما:- 4754 - حدثي المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا"، يقول: إذ طلق الرجل امرأته تطليقة أو ثنتين، وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع. 4755 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" وبعولتهن أحق بردهن" قال: في العدة 4756 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا قال الله تعالى   (1) في المخطوطة: "إلى أنفسهن" وهو خطأ في المعنى. (2) في المخطوطة: "إلى حبالهن" وهو خطأ أيضًا في المعنى. والحبال جمع حبل: وهو المواصلة وهو العهد أيضًا. يعني بذلك إمساكهن: وهو من الحبل الذي هو الرباط. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يمنعهن" وهو خطأ ثالث في المعنى. والصواب ما أثبت وقوله: "منهن بأنفسهن. . " سياقه: "أحق وأولى بردهن. . . منهن بأنفسهن. . . ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 ذكره:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا"، وذلك أنّ الرجل كان إذا طلَّق امرأته كان أحقَّ برجعتها وإن طلاقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) الآية. 4757 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك" في عدتهن. (1) 4758 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 4759 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال، في العدة 4760 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك"، أي في القروء في الثلاث حيض، (2) أو ثلاثة أشهر، أو كانت حاملا فإذا طلَّقها زوجها واحدة أو اثنتين رَاجعها إن شاء ما كانت في عدتها 4761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك" قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، (3) فنهاهنّ الله عن ذلك وقال:" وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك"، قال قتادة: أحق برجعتهن في العدة.   (1) الأثر: 4757- في المخطوطة والمطبوعة: "حدثنا موسى بن عمرو" وهو خطأ صرف والصواب"محمد بن عمرو". وهو إسناد يدور دورانًا في التفسير أقربه رقم: 4739. (2) في المطبوعة: "في القروء الثلاث حيض" بحذف"في" الثانية. (3) يعني في الجاهلية كما مضى في الآثار السالفة قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 4762 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وبعولتهن أحقُّ بردهن في ذلك"، يقول: في العدة ما لم يطلقها ثلاثًا. 4763 - حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك"، يقول: أحق برجعتها صاغرة عقوبة لما كتمت زوجها من الحمل (1) 4764 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" وبعولتهن أحق بردهن"، أحقّ برجعتهنّ، ما لم تنقض العِدّة. 4765 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:" وبعولتهنّ أحق بردهنّ في ذلك"، قال: ما كانت في العدة إذا أراد المراجعة * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: (2) فما لزوج- طلق واحدة أو اثنتين بعد الإفضاء إليها- عليها رجعة في أقرائها الثلاثة، إلا أن يكون مريدًا بالرجعة إصلاح أمرها وأمره؟ قيل: أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز = إذا أراد ضرارها بالرجعة، لا إصلاح أمرها وأمره = مراجعتُها. (3) وأما في الحكم فإنه مقضيٌّ له عليها بالرجعة، نظيرُ ما حكمنا عليه ببطول رَجعته عليها لو كتمته حملها الذي خلقه الله في رحمها أو حيضها حتى انقضت عدتها ضرارًا منها له، وقد نهى الله عن كتمانه ذلك، (4) فكان سواءً في الحكم = في بطول   (1) الأثر: 4763- انظر الأثر السالف رقم 4753. (2) في المخطوطة: "فما لزوج واحدة" سقط من الناسخ"طلق" بين الكلمتين. (3) في المطبوعة: "بمراجعتها" وهو فاسد فسادا عظيما. والسياق: ". . . فغير جائز. . . مراجعتها" وما بينهما فصل، كعادة أبي جعفر. (4) قوله: "كتمانه" الضمير راجع إلى الزوج أي: نهى الله ان تكتم المرأة زوجها ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 رَجعة زوجها عليها، وقد أثمت في كتمانها إياه ما كتمته من ذلك حتى انقضت عدتها= (1) هي والتي أطاعت الله بتركها كتمانَ ذلك منه، وإن اختلفا في طاعة الله في ذلك ومعصيته، فكذلك المراجع زوجتَه المطلقة واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليها وهما حُرَّان= (2) وإن أراد ضرار المُراجعة برجعته- فمحكوم له بالرجعة، وإن كان آثمًا بريائه في فعله، (3) ومقدِمًا على ما لم يُبحه الله له، والله وليّ مجازاته فيما أتى من ذلك. فأما العباد فإنهم غيرُ جائز لهم الحوْلُ بينه وبين امرأته التي راجعها بحكم الله تعالى ذكره له بأنها حينئذ زوجتُه، فإن حاول ضرارها بعد المراجعة بغير الحقّ الذي جعله الله له، أخِذ لها الحقوق التي ألزم الله تعالى ذكره الأزواج للزوجات (4) حتى يعود ضررُ ما أراد من ذلك عليه دونها. * * * قال أبو جعفر: وفي قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك"، أبين الدلالة على صحة قول من قال: إنّ المولي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التي آلى منها، أنّ له عليها الرّجعة في طلاقه ذلك= (5) وعلى فساد قول من قال: إن مضي الأشهر الأربعة عزُم الطلاق، وأنه تطليقه بائنة، لأن الله تعالى ذكره إنما أعلم عباده ما يلزمُهم إذا آلوا من نسائهم، وما يلزم النساء من الأحكام في هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم، إذا عزموا ذلك وتركوا الفيء. * * *   (1) سياق عبارته: "فكان سواء في الحكم. . . هي والتي أطاعت الله. . " وما بينهما فصل للبيان. (2) قوله: "وهما حران" لأن طلاق العبد ثنتين ثم تحرم عليه، ليس كالحر ثلاثًا. (3) في المخطوطة"آثما بربه" غير منقوطة كأنها"بربه" ولكن لم أجد في كتب اللغة"أثم بربه" وإن كنت أخشى أن تكون صوابًا له وجه لم أتحققه. وفي المطبوعة"برأيه" كأنهم استنكروا ما استنكرناه، فظنوا فيه تصحيفًا أو تحريفًا فقرأوه كذلك. ولكن أجود قراءاته أن تكون ما أثبت لأن فعل المراجع وهو يضمر الضرار رياء لا شك فيه. (4) في المطبوعة: "أخذ لها الحقوق" والصواب من المخطوطة وقوله: "أخذ" مبني للمجهول ومعناها: طولب وأمسك حتى يعطيها حقوقها. (5) السياق: "وفي قوله. . . أبين الدلالة على صحة قول من قال. . وعلى فساد قول من قال. . " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها. * ذكر من قال ذلك: 4766 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو عاصم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"، قال: إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن، فعليه أن يُحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، ويُنفق عليها من سَعَته. 4767 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف"، قال: يتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ على أزواجهن من التَّصنُّع والمواتاة، مثل الذي عليهن لهم في ذلك. (1) * ذكر من قال ذلك:   (1) التصنع: التزين. تصنعت المرأة وصنعت نفسها: إذا تزينت زينتها بالتجمل والعلاج. ومن جيد ما جاء في معنى"صنع نفسه" ما أنشده عمر بن عبد العزيز: إنِّي لأَمْنَحُ مَنْ يُوَاصِلُنيِ ... مِنِّي صَفَاءً لَيْسَ بالمَذْقِ وَإذَا أَخٌ لي حَالَ عَنْ خُلُقٍ ... دَاوَيْتُ مِنْهُ ذَاكَ بالرِّفْقِ وَالمَرْءُ يَصْنَعُ نَفْسَهُ وَمَتَى ... مَا تَبْلُهُ يَنزِعْ إلى العِرْقَ أما"المؤاتاة" فهي: حسن المطاوعة يقال: "آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة" إذا وافقته وطاوعته والعامة تقول: "واتيته" مواتاه وهل لغة ما، جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 4768 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إني أحبُّ أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي; لأن الله تعالى ذكره يقول:" ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف" (1) * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية عندي: وللمطلقات واحدة أو ثنتين -بعد الإفضاء إليهن- على بعولتهن أن لا يراجعوهنّ في أقرائهن الثلاثة (2) إذا أرادوا رجْعتهن فيهن، إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم، وأن لا يراجعوهن ضرارًا (3) = كما عليهن لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فيهنّ، أن لا يكتمنَ ما خلق   (1) الأثر: 4768- بشير بن سلمان الكندي أبو إسماعيل الكوفي روى عن مجاهد وعكرمة وأبي حازم الأشجعي وسيار أبي الحكم والقاسم بن صفوان سمع منه وكيع وأبو نعيم وابنه الحكم والسفيانان وابن المبارك وغيرهم. وهو ثقة صالح الحديث قليله. مترجم في التهذيب والكبير 2/199، والجرح والتعديل 1/1374. وكان في المطبوعة: "بشر بن سلمان" وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "أن لا يراجعوهن ضرارا" زاد"ضرارا" هنا وهي مفسدة للكلام وليست في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فلا يراجعوهن ضرارا" وهو تبديل ألجأهم إليه الفساد السابق في الجملة السالفة. والصواب من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 الله في أرحامهنّ من الولد ودم الحيض ضرارًا منهن لهم لِيَفُتْنهم بأنفسهنّ، (1) ذلك أن الله تعالى ذكره نهى المطلقات عن كتمان أزواجهنّ في أقرائهنَّ ما خلق الله في أرحامهنّ، إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر، وجعل أزواجهن أحق بردّهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا، فحرَّم الله على كل واحد منهما مضارَّة صاحبه، وعرّف كلّ واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله:" ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف" فبيِّنٌ أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته، مثل الذي له على صاحبه من ذلك. فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنزيل من غيره. وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلا في ذلك، وإن كانت الآية نزلت فيما وصفنا، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الآخر حقًا، فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له، فيدخل حينئذ في الآية ما قاله الضحاك وابن عباس وغير ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى"الدرجة" التي جعل الله للرجال على النساء، الفضلُ الذي فضّلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك. * ذكر من قال ذلك: 4769 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وللرجال عليهن درجة" قال: فَضْل ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفَضْل ميراثه، على ميراثه، وكل ما فضِّل به عليها.   (1) في المطبوعة: "لتيقنهن" وهو خطأ موغل في الفساد واللغو. وفي المخطوطة: "لتنفهم" مختلطة الأحرف والتقط، كأن الناسخ لما أراد أن يكتب"ليسبقهم" ثم استدرك وخط على السين ليجعلها"ليفتنهم" والصواب ما أثبت. وقد جاء هذا اللفظ في حديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها تطليقتين ثم بعث إليها من اليمين بالتطليقة الثالثة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه فقال لها: "ليست له فيك ردة وعليك العدة" وأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم ثم قال لها: "فإذا حللت فلا تفوتيني بنفسك" قالت: فوالله ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يريدني إلا لنفسه، فلما حللت خطبني على أسامة بن زيد فزوجنيه" (مسند أحمد 6: 414) . ومعنى: "فاته بنفسه" سبقه إلى حيث لا يبلغه ولم يقدر عليه وفات يده، ولو كانت"ليسبقنهم بأنفسهن" لكانت صوابًا وهي مثلها في المعنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 4770 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 4771 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: عن قتادة:" وللرجال عليهن درجة"، قال: للرجال درجةٌ في الفضل على النساء * * * وقال آخرون: بل تلك الدرجة: الإمْرة والطاعة. * ذكر من قال ذلك: 4772 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن زيد بن أسلم في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: إمارةٌ. 4773 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: طاعةٌ. قال: يطعن الأزواجَ الرجال، وليس الرجال يطيعونهن 4774 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن محمد في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: لا أعلم إلا أن لهن مثل الذي عليهن، إذا عرفن تلك الدرجة (1) * * * وقال آخرون: تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق، وإنها إذا قذفته حُدَّت، وإذا قذفها لاعنَ. * ذكر من قال ذلك: 4775 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة، عن الشعبي في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: بما أعطاها من صَداقها، وأنه إذا قذفها   (1) الأثر: 4774-"أزهر" هو أزهر بن سعد السمان أبو بكر الباهلي البصري روى عن سليمان التيمي وابن عون وهشام الدستوائي وروى عنه ابن المبارك وهو أكبر منه، وعلي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس وبندار. قال ابن سعد: ثقة. ومات سنة 203. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 لاعَنها، وإذا قذفته جُلدت وأُقِرَّتْ عنده. * * * وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها، إفضاله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب لهُ عليها أو عن بعضه. * ذكر من قال ذلك: 4776 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما أحب أن استنظف جميع حقي عليها، لأن الله تعالى ذكره يقول:" وللرجال عليهن درجة" (1) * * * وقال آخرون: بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك. * ذكر من قال ذلك: 4777 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا عبيد بن الصباح قال، حدثنا حميد قال،" وللرجال عليهن درجة" قال: لحية. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن"الدرجة" التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال:" وللرجال عليهن درجة" عَقيب قوله:" ولهن   (1) الأثر: 4776- في المطبوعة"بشر بن سلمان" والصواب"بشير" كما سلف في التعليق على الأثر رقم: 4768 آنفًا. استنظف الشيء: إذا استوفاه واستوعبه وأخذه كله. وفي الحديث: "وتكون فتنة تستنظف العرب" أي تستوعبهم هلاكًا. اللهم قنا عذابك ونجنا من كل فتنة مهلكة. (2) الأثر: 4777-"عبيد بن الصباح الخراز" روى عن عيسى بن طهمان وموسى بن علي بن رباح وفضيل بن مرزوق وعمرو بن أبي المقدام وعبد الله بن الممل. روى عنه موسى بن عبد الرحمن المسروقي وأحمد بن يحيى الصوفي. قال أبو حاتم. ضعيف الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في الجرح والتعديل 2/2/408، ولسان الميزان 4: 119. أما"حميد" فلم أعرف من هو، حميد كثير لم أجد فيمن يسمى"حميدًا" روية عبيد بن الصباح عنه. وربما كان"فضيل بن مرزوق" فإن"حميد" في المخطوطة مضطربة الكتبة كأن الناسخ لم يكن يحسن يقرأ من الأصل الذي نقل عنه، ولكني أستبعد ذلك. هذا وقد نقل هذا الأثر القرطبي في تفسيره 3: 125: "وهذا إن صح عنه، فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها" ثم قال: "طُوبَى لعبدٍ أمْسَك عمّا لا يعلمُ وخُصوصًا في كِتَاب الله تعالى" ونعم ما قال ابن العربي ولعله يعظ بعض أهل زماننا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 مثلُ الذي عليهن بالمعروف"، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه. ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره:" وللرجال عليهن درجة"بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله:"ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها" لأن الله تعالى ذكره يقول:" وللرجال عليهن درجة". * * * ومعنى"الدرجة"، الرتبة والمنزلة. * * * وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة. (1) * * *   (1) من حق أبي جعفر رضي الله عنه أن أقف بقارئ كتابه على مثل هذا الوضع من تفسيره. لأقول مرة أخرى: إنه كان مفسرا إماما سبق قفات السابقين. لم يلحقه لاحق في البصر بمعاني كتاب ربه، وفي الحرص على بيان معانيه، وفي الدقة البالغة في ضبط روابط الآيات بعضها ببعض. ومن شاء أن يعرف فضل هذا الإمام وتحققه بمعرفة أسرار هذا الكتاب فليقرأ ما كتبه المفسرون بعده في تفسير هذه الجملة من الآية فهو واجد في المقارنة بين الكلامين ما يعينه على إدراك حقيقة مذهب أبي جعفر في التفسير، وما يدله على صدق ما قلت، من أن الرجل قد نهج للمفسرين نهجًا قل من تبعه فيه، أو أطاق أن يسير فيه على آثاره. ولم يكتب أبو جعفر ما كتب على سبيل الموعظة كما يفعل أصحاب الرقائق والمتصوفة وأشباههم، بل كتب بالبرهان والحجة والملزمة واستخرج ذلك من سياق الآيات المتتابعة من أول آية الإيلاء-"للذين يلون من نسائهم"- وما تبعها من بيان طلاق المولى، وكيف يفعل الرجل المطلق وكيف تفعل المرأة المطلقة، وما أمرت به من ترك كتمان ما خلق الله في رحمها وائتمانها على هذا السر المضمر في أحشائها وما للرجال من الحق في ردهن مصلحين غير مضارين وتعادل حقوق الرجل على المرأة وحقوق المرأة على الرجل ثم أتبع ذلك بندب الرجال إلى فضيلة من فضائل الرجولة لا ينال المرء قبلها إلا بالعزم والتسامي وهو أن يتغاضى عن بعض حقوقه لامرأته فإذا فعل ذلك فقد بلغ من مكارم الأخلاق منزلة تجعل له درجة على امرأته. ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ جعل أبو بكر هذه الجملة حثًا وندبًا للرجال على السمو إلى الفضل، لا خبرًا عن فضل قد جعله الله مكتوبا لهم، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا. وأبو جعفر رضي الله عنه لم يغفل قط عن هذا الترابط الدقيق بين معاني الكتاب، سواء كان ذلك في آيات الأحكام أو آيات القصص أو غيرها من نصوص هذا الكتاب. فهو يأخذ المعنى في أول الآية من الآيات ثم يسير معه كلمة كلمة وحرفًا حرفصا ثم جملة جملة غير تارك لشيء منه أو متجاوز عن معنى يدل عليه سياقها. وليس هذا فحسب بل هو لا ينسى أبدًا أن هذا الكتاب قد جاء ليعلم الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأنه جاء ليؤدبهم بأدب رب العالمين فيربط بين هذا الأدب الذي دل عليه التنزيل وبينته سنة رسول الله ويخرج من ذلك بمثل هذا الفهم الدقيق لمعاني كتاب الله مؤيدًا بالحجة والبرهان. وأحب أن أقول إن التخلق بآداب كتاب الله يهدي إلى التفسير الصحيح كما تهدي إليه المعرفة بلغة العربن وبناسخ القرآن ومنسوخه وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأخلاق أداة من أدوات العلم كسائر الأدوات. ولولا ما كان عليه هذا الإمام من عظيم الخلق ونبيل الأدب لما وقف وحده بين سائر المفسرين عند هذه الآية، يستخرج منها هذا المعنى النبيل العظيم الذي أدب الله به المطلقين وحثهم عليه وعرفهم به فضل ما بين اقتضاء الحقوق الواجبة والعفو عن هذه الحقوق، لمن وضعها الله تحت يده، فملكه طلاقها وفراقها، ولم يملكها من ذلك مثل الذي ملكه. فاللهم اغفر لنا واهدنا وفقهنا في ديننا وعلمنا من ذلك ما لم نكن نعلم، إنك أنت السميع العليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله عزيز" في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدَّى حدوده، فأتى النساء في المحيض، وجعل الله عُرضة لأيمانه أن يبرَّ ويتقي، ويصلح بين الناس، وعضَل امرأته بإيلائه، وضَارَّها في مراجعته بعد طلاقه، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهن أزواجهن، ونكحن في عددهن، وتركنَ التربُّص بأنفسهن إلى الوقت الذي حده الله لهن، وركبن غير ذلك من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 معاصيه="حكيم" فيما دبَّر في خلقه، وفيما حكم وقضَى بينهم من أحكامه، كما: 4778 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" والله عزيز حكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. * * * وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده، لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه، من ابتداء قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ" إلى قوله:" وللرجال عليهن درجة" ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى، وليذكر أولو الحجى، فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه. * * * * ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدًّا، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل   (1) ومرة أخرى فلينظر الناظر كيف يكون ربط معاني الآيات بعضها ببعض وأنه برهان على أن هذا المفسر الإمام يربط معاني هذه الآيات الطوال جميعًا من أول الآية: 221 إلى الآية: 228. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 امرأتَه المطلقة، إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه. (1) * * * * (2) ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك: 4779 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربُك ولا تحلّين مني. قالت له: كيف؟ قال: أطلِّقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف"الآية. 4780 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤيك، ولا أدَعك   (1) عند هذا الموضع انتهى التقسيم القديم في النسخة التي نقلت عنها نسختنا العتيقة ويلي هذا ما نصه: "وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرًا على الأصل بلغ السماعُ من أوله لمحمد وعلى ابني أحمد بن عيسى السعدي وأحمد بن عمر الجهاري (؟؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن علي الأبهري بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى على الإمام أبي الحسن الخصيبي وهو ينظر في كتابه، عن أبي محمد الفرغاني عن أبي جعفر الخصيبي في شعبان سنة ثمان وأربعمئة" (2) ابتداء هذا التقسيم: "بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يَسِّرْ" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مُضِىُّ عدتك راجعتُك، فمتى تحلّين؟ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلق ومن لم يكن طلق. (1) 4781 - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلِّق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجعُ ما كانت في العِّدة، فجعل الله حد الطلاق ثلاث تطليقات. (2) 4782 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية يطلِّق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا حَّد في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، (3) فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات. 4783 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" الطلاق مرتان"، قال كان الطلاق- قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا- ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ، كان ذلك له، وطلق رجلٌ امرأته، حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعد ذلك ليضارّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا، مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. 4784 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، أما قوله:   (1) الحديثان: 4779، 4780- هما في معنى واحد بإسنادين إلى هشام بن عروة وهما مرسلان لأن عروة بن الزبير تابعي. وقد ثبت الحديث وصح موصولا كما سنذكر إن شاء الله. وجرير- في الإسناد الأول: هو ابن عبد الحميد الضبي. وابن إدريس- في الإسناد الثاني: هو عبد الله بن إدريس الأودي. والحديث رواه الترمذي 2: 219 عن أبي كريب محمد بن العلاء -شيخ الطبري في الإسناد الثاني- بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه أحاله على الرواية الموصولة، كما سيأتي. ورواه أيضًا -بنحوه- مالك في الموطأ ص: 588 عن هشام بن عروة عن أبيه. مرسلا وكذلك رواه الشافعي عن مالك. (مسند الشافعي بترتيب الشيخ عابد السندي 2: 34) . ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 333 من طريق الشافعي عن مالك. ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن هشام مرسلا. كما نقله عنه ابن كثير 1: 537- 538 وكذلك رواه البيهقي 7: 444 من طريق أبي أحمد محمد بن عبد الواب. عن جعفر ابن عون. وكذلك رواه ابن أبي حاتم -في تفسيره- عن هارون بن إسحاق عن عبدة بن سليمان عن هشام ابن عروة عن أبيه مرسلا. نقله عنه ابن كثير 1: 537. وأما الرواية الموصولة: فإنه رواه الترمذي 2: 218- 219 عن قتيبة بن سعيد عن يعلى بن ابن شيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -بنحوه- مرفوعًا متصلا. ورواه الحاكم 2: 279- 280 من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شيب به، نحوه وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة". وتعقبه الذهبي فقال: "قد ضعفه غير واحد"! وهذا عجب من الحافظ الذهبي كأن الحديث انفرد بوصله يعقوب هذ، حتى يقرر الخلاف بين توثيقه وتضعيفه، وأمامه في الترمذي رواية قتيبة عن يعلى!! ورواه أيضًا البيهقي 7: 333 من طريق يعقوب بن حميد عن يعلى به. ثم قال: ورواه أيضًا قتيبة بن سعيد والحميدى عن يعلى بن شبيب وكذلك قال محمد بن إسحاق بن يسار بمعناه وروى نزول الآية فيه- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة". ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها البيهقي- ذكرها ابن كثير 1: 538 من رواية ابن مردويه من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة". وذكر ابن كثير أيضًا -قبل ذلك بأسطر- أنه رواه ابن مردويه"من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. فذكره بنحوه ما تقدم". يريد رواية عبد بن حميد عن جعفر بن عون. فهذان ثقتان روياه عن هشام بن عروة مرفوعًا والرفع زيادة تقبل من الثقة كما هو معروف. ولا يعل المرفوع بالموقوف بل يكون الموقوف ميدا للمرفوع ومؤكدًا لصحته. فيعلى بن شبيب الأسدي مولى آل الزبير: ثقة: ذكره ابن حبان في الثقات. وترجمه البخاري في الكبير 20 / 40 / 20 / 418 - 419 وابن أبي حاتم في 4/2/301- فلم يذكرا فيه جرحا. وقد رواه الأسدي. الملقب"لوين". ومحمد بن إسحاق بن يسار: ثقة لا حجة لمن تكلم فيه. (2) قوله: "كان أهل الجاهلية، كان الرجل. . . " قد مضى برقم: 4751 في حديث قتادة أيضًا بنفس هذا الإسناد -مثل هذا التعبير العربي الفصيح، كما أشرنا إليه في التعليق ص: 522 (3) في المخطوطة: "ما داحقها في عدتها" تصحيف فيما أظن ولكن كيف يجيء مثل هذا التصحيف من كاتب!! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 " الطلاق مرتان"، فهو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة. 4785 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة، فإن شاء طلقها أخرى، فلم تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة= إذا كن مدخولا بهن= تطليقتان. ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين، إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة. * * * وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تعريفًا من الله تعالى ذكره عبادَه سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن- لا دلالةً على العدد الذي تبين به المرأة من زوجها. (1) * ذكر من قال ذلك: 4786 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض وتبينُ منه به. (2) 4787 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله   (1) في المطبوعة: "لا دلالة على القدر" تصحيف وتحريف، والصواب من المخطوطة. (2) الأثر: 4786 -أخرجه النسائي في السنن 6: 140 بغير هذا اللفظ وكذلك البيهقي في السنن 7: 332 وابن ماجه 1: 651. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا. 4788 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، قال: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحب أن يفعل، (1) فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، (2) ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان"، فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها. (3) 4789 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: فحاضت الحيضة الثانية، كما طلق الأولى، فهذان تطليقتان وقرءان، ثمّ قال: الثالثة- وسائرُ الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبى عاصم. * * * قال أبو جعفر: وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاقَ نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثمّ الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ بمعروف، أو تسرحوهن بإحسان. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن أحب أن يفعل" بزيادة الفاء وهو لا يستقيم. (2) قوله: /"وقرءان" هو مثنى"قرء". (3) في المخطوطة"تجمع عليه" وهو خطأ. يقال: جمعت علي ثيابي إذ لبست الثياب التي تبرز بها إلى الناس من إزار ورداء وعمامة. وجمعت المرأة ثيابها: لبست الدرع والملحقة والخمار. وكني بقوله: "جمعت عليها ثيابها" عن غسلها من حيضتها ولبسها ثيابها في طهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر التنزيل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) ، فعرَّف عباده القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ- ولم يبين فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك فيه، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه. * * * وأما قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، فإنّ في تأويله وفيما عُني به اختلافًا بين أهل التأويل. فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين (1) بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية- من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق. (2) * ذكر من قال ذلك: 4790 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"الطلاق مرتان"، قال: يقول عند الثالثة: إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان. وغيره قالها (3) قال: وقال مجاهد: الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من غيره، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل، وتعتدّ لغيره.   (1) في المخطوطة: "اللازم للأزواج المطلقات اثنتين" وفي المطبوعة: "اللازم للأزواج المطلقات" والذي أثبته أجود العبارات الثلاث. (2) في المخطوطة: "أو بفراقهن" بزيادة"باء" لا محل لها هنا. (3) في المطبوعة: "وغيرها قالها" والصواب من المخطوطة - ويعني: وغيره قال هذه المقالة، ثم ذكر مقالة مجاهد في تأويل الآية. هذا ما رأيت إلا أن يكون في الكلام تصحيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 4791 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان" هي الثالثة". 4792 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله،"الطلاق مرتان"، فأين الثالثة؟ قال:"إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان". 4793 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن إسماعيل، عن أبي رزين قال، قال رجل: يا رسول الله، يقول الله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف" فأين الثالثة؟ قال:"التسريح بإحسان". (1)   (1) الأحاديث: 4791- 4793 كلها حديث واحد بأسانيد ثلاثة. وهو حديث مرسل ضعيف كما سنذكر إن شاء الله. * سفيان في الإسناد الثاني: هو الثوري كما في الإسناد الثالث. * إسماعيل بن سميع -بضم السين مصغرًا- الحنفي: ثقة مأمون كما قال ابن معين. ومن تكلم فيه فإنما تكلم من أجل أنه كان يرى رأي الخوارج. * أبو رزين -بفتح الراء وكسر الزاي: هو الأسدي أسد خزيمة واسمه"مسعود" وهو تابعي كوفي ثقة. وبعضهم يقول: "مسعود بن مالك" فيشتبه براو آخر اسمه"مسعود بن مالك بن معبد" مولى سعيد بن جبير وهو متأخر عن أبي رزين. وقد حققنا ذلك مفصلا في المسند: 3551، 7432م، وفي الاستدراك فيه: 707. * و"أبو رزين الأسدي" هذا تابعي كما قلنا. وهو غير"أبي رزين العقيلي" ذاك صحابي اسمه"لقيط بن عامر" مضت ترجمته: 3223. * والإسناد: 4793- هو في تفسير عبد الرزاق ص: 28- 29. وفيه: "أسمع الله يقول" بدل"يقول الله" وكذلك هو في المصنف لعبد الرزاق ج 3 ص 301. * والحديث ذكره ابن كثير 1: 538- 539 من رواية بن أبي حاتم. وعبد بن حميد وسعيد ابن منصور وابن مردويه- بأسانيدهم، كلهم عن أبي رزين بنحوه مرسلا. وكذلك رواه البيهقي 7: 340 بإسناده من رواية سعيد بن منصور. * وهم الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهمًا شديدًا إذ نسب هذا الحديث المرسل لرواية المسند فقال: "ورواه الإمام أحمد أيضًا". * والحديث ذكره السيوطي 1: 277 وزاد نسبته لوكيع. وأبي داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس. * وسيقول أبو جعفر بعد قليل مشيرا إلى هذا الحديث: "فإن اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره". وهذا ذهاب منه إلى الاحتجاج بالحديث المرسل. وهو مذهب يختاره بعض اهل العلم. * وقد رددت على أبي جعفر -رحمه الله- في كتاب نظام الطلاق في الإسلام في الفقرة: 29 بعد أن ذكرت كلامه- فقلت: "ونعم إن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره وعلى العين والرأس ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان صحيحًا ثابتًا. ولكن خبر أبي رزين هذا غير صحيح فإنه مرسل غير موصول. لأن أبا رزين الأسدي تابعي وليس صحابيًا. والمرسل لا حجة فيه، لأنه عن راو مجهول ثم إنه خبر باطل المعنى جدًا. وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفسر الطلقة الثالثة بهذا، وهي ثابتة في الآية التي بعدهافي سياق الكلام: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) . وإلا كانت طلقة رابعة. وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 4794 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:" أو تسريح بإحسان" قال في الثالثة. 4795 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان الطلاق ليس له وقت حتى أنزل الله:" الطلاق مرتان" قال: الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان". * * * وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة. * ذكر من قال ذلك: 4796 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: ذلك:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، إذا طلق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك ="ويمسك": يراجع = بمعروف، وإما سكت عنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها. 4797 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:" أو تسريح بإحسان" والتسريحُ: أن يدعها حتى تمضي عدتها. (1) 4798 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تصريح بإحسان"، قال: يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرّح بإحسان. قال: فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. * * * قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساك في كل واحدةٍ منهما لهن بمعروف، أو تسريحٌ لهن بإحسان. وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنزيل، لولا الخبرُ الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره. فإذْ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية: الطلاقُ الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة، مرتان. ثم الأمرُ بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم، فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة، ويصرن أملك بأنفسهن منهن. (2) * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟ قيل: هو ما:-   (1) الأثر: 4797-"علي بن عبد الأعلى" لم أجد في شيوخ الطبري من يسمى"علي ابن عبد الأعى" وسيأتي في الأثر: 4799"علي بن عبد الأعلى المحاربي" ورقم: 4804. والذي يكثر الرواية عنه في التفسير هو"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني فلا أدري ما الصواب. (2) في المطبوعة: "أملك لأنفسهن" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 4799 - حدثنا به علي بن عبد الأعلى المحاربي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" فإمساك بمعروف"، قال: المعروف: أن يحسن صحبتها. (1) 4800 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإمساك بمعروف"، قال: ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها. * * * فإن قال: فما التسريح بإحسان؟ قيل: هو ما:- 4801 - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" أو تسريح بإحسان"، قيل: يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئًا. (2) 4802 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، قال: هو الميثاق الغليظ. (3) 4803 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" أو تسريح بإحسان" قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها. 4804 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:" أو تسريحٌ بإحسان"، قال: التسريح بإحسان:   (1) الأثر: 4799- انظر التعليق السالف على الأثر رقم: 4797. (2) الأثر: 4800، 4801- هما بعض الأثر السالف رقم: 4787. وفي المطبوعة والمخطوطة في رقم: 4801"قيل: يسرحها. . . " والصواب ما أثبت. (3) سيأتي تفسير"الميثاق الغليظ" بعد قليل في رقم: 4805. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قَدْر الميسرة. 4805 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله:" وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"قال قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان". * * * فإن قال: فما الرافع للإمساك والتسريح؟ قيل: محذوف اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره، ومعناه: الطلاق مرتان، فالأمر الواجبُ حينئذ به إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقد بينا ذلك مفسرًا في قوله: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة: 178] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا"، ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن- لطلاقكم وفراقكم إياهن (2) شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم"إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله". * * *   (1) انظر ما سلف 3: 372. (2) في المطبوعة: "بطلاقكم" بالباء والصواب من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم:"إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، وذلك قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: (إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله) . 4806- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني ثور، عن ميمون بن مهران قال: في حرف أبي بن كعب أن الفداء تطليقة. قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتينا رجلا عنده مصحف قديم لأبي خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فيه: (إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) . * * * والعرب قد تضع"الظن" موضع"الخوف"،"والخوف" موضع"الظن" في كلامها، لتقارب معنييهما، (1) كما قال الشاعر: (2) أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي (3) بمعنى: ما ظننت. * * *   (1) هذا بيان فلما تصيبه في كتب اللغة وانظر معاني القرآن للفراء 1: 145- 146 ففيه بيان أوفى. (2) هو أبو الغول الطهوي وهو شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية. (3) البيت في نوادر أبي زيد: 46 ومعاني القرآن للفراء 1: 146 وسيأتي في التفسير 5: 40 (بولاق) ولم أجد خبر"نصيب" و"سلام" وربما كان نصيب هذا هو أبو الحجناء نصيب الأسود مولى عبد العزيز بن مروان. فإن أبا الغول، كما أسلفت شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية وهجا حمادا (الأغاني 5: 162) وقال له أيضًا فيما روى أبو زيد في نوادره ص: 46. ولقد ملأت على نصيب جلده بمساءة إن الصديق يعاتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) . فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، (1) فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك (2) اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: (إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله) . وقراءة ذلك كذلك، اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه، خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في"أن" وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته، كما قال الشاعر: (3) إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها (4) ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها (5) فأما قارئه:" إلا أن يخافا" بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكة تسميته، (6) وفي"أن"- فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو اسم ما لم يسم فاعله، وفي"أن" التي تنوب عن شيئين، (7) ولا تقول العرب في كلامها:" ظنا أن يقوما". ولكن قراءة ذلك كذلك صحيحة، على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك، اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن يكون مرادا به إذا   (1) هو الإمام الكوفي الحبر حمزة بن حبيب الزياتأحد القراء السبعة. (2) الذي ذكر هذا هو الفراء في معاني القرآن 1: 146 ولكن عبارة الفراء تدل على أنه ظن ذلك واستخرجه لا أن حمزة قرأها كذلك يقينا غير شك. ونص الفراء: "وأما ما قال فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم تصبه- والله أعلم". فإن يكن الطبري أخذه عن الفراء فهذا كلام الفراء وإن اخذه من غيره فهو ثقة فيما ينقل. (3) هو أبو محجن الثقفي. (4) ديوانه: 23 ومعاني القرآن للفراء 1: 146 والخزانة 3: 550 وغيرها كثير وخبر أبي محجن في الخمر وحبها مشهور. (5) هذا البيت شاهد للنحاة على تخفيف"أن" لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم واليقين واسمها ضمير شأن محذوف، أو ضمير متكلم وجملة"لا أذوقها" في محل رفع، خبرها. (6) يعني أن الفعل قد عمل في نائب الفاعل وفي جملة"أن المخففة من"أن" كما سيظهر من بيان كلامه. وقد بين ذلك أيضًا الفراء في معاني القرآن 1: 146- 147. (7) يعني بقوله: "أن التي تنوب عن شيئين" أنها في موضع المفعولين، تسد مسدهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله- أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في"أن" غير"الخوف"، ويكون"الخوف"، عاملا فيما لم يسم فاعله. (1) وذلك هو الصواب عندنا من القراءة (2) لدلالة ما بعده على صحته، وهو قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله"، فكان بينا أن الأول بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله. * * * فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله، حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟ قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف على زوجها - بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له - تركه أداء الواجب لها عليه. فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه، بغضا منها له، كما:- 4807 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، قرأت على فضيل، عن أبي حريز أنه سأل عكرمة، هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام، أخت عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا! إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! قال زوجها: يا رسول الله، إني أعطيتها أفضل مالي! حديقة، فإن ردت على حديقتي! قال:"ما تقولين؟ " قالت: نعم،   (1) هذا كله قد بينه الفراء في معاني القرآن 1: 146- 147 كما أسلفنا. (2) في المطبوعة: "في القراءة" والأجود ما في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 وإن شاء زدته! قال: ففرق بينهما. (1) 4808 - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن عبد الله- يعني ابن أبي بكر-، عن عمرة عن عائشة: أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، (2) فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فاشتكته، فدعا رسول الله ثابتا، فقال: خذ بعض مالها وفارقها. قال: ويصلح ذاك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال، فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خذهما وفارقها. ففعل. (3)   (1) الحديث: 4807- المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي: ثقة روى عنه الأئمة: ابن مهدي وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق وغيرهم. فضيل- بالتصغير: هو ابن ميسرة الأزدي العقيلي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره. أبو حريز: هو عبد الله بن الحيسين الأزدي البصري، قاضي سجستان وهو مختلف فيه، والحق أنه ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما. و"أبو حريز": بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وآخره زاي معجمة. ووقع في المطبوعة وابن كثير وفتح الباري"أبو جرير" وهو تصحيف ووقع في الإصابة"ابن جرير" وهو خطأ إلى خطأ. وهذا الحديث صحيح الإسناد. وقد نقله ابن كثير 1: 542 عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 1: 280- 281 ولم ينسباه لغير الطبري ونقله الحافظ في الفتح 9: 351 قال: "وفي رواية معتمر بن سليمان. . . " فذكر نحوه مع شيء من الاختلاف في اللفظ. فدل على أنه نقله من رواية أخرى. ولكنه لم يبين من خرجه كعادته. سها رحمه الله. وأشار إليه في الإصابة 8: 40 في السطر 3 وما بعده. منسوبا للطبري فقط. وقد ثبت نحو معناه من حديث ابن عباس. رواه البخاري 9: 349- 352. بأسانيد. ونقله ابن كثير عن روايات البخاري 1: 541- 542 ثم قال: "وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه". ثم نقل نحوه من رواية الإمام أبي عبد الله بن بطة بإسناده عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر أنه رواه ابن مردويه في تفسيره، وابن ماجه ثم قال: "وهو إسناد جيد مستقيم". ورواية ابن ماجه - هي في السنن برقم: 2056. وقوله: "أخت عبد الله بن أبي": هي جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين. وهي أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول الصحابي الجليل. نسبت هي وأخوها إلى جدهما اختصارا. وهذا هو الصحيح الذي رجحه الحافظ وغيره. ولم يذكر في هذه الرواية -في الطبري- اسم زوجها الذي اختلعت منه، وهو ثابت بن قيس بن شماس كما دلت على ذلك الروايات الأخر. وقد ولدت لزوجها ثابت هذا ابنه محمد بن ثابت وهو مترجم في الإصابة 6: 152 وابن سعد 5: 58- 59. وقد جزم بأن أمه هي جميلة بنت عبد الله ابن أبي". وقد أبت أمه أن ترضعه بما أبغضت أباه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"فبزق في فيه وحنكه وسماه محمدا. وقال: اختلف به فإن الله رازقه. فأتيته اليوم الأول والثاني والثالث فإذا امرأة من العرب تسأل عن ثابت بن قيس فقلت: ما تريدين منه؟ أنا ثابت. فقالت: أريت في منامي كأني أرضع ابنا له يقال له: محمد فقال: فأنا ثابت وهذا ابني محمد. قال: وإذا درعها يعتصر من لبنها". رواه الحاكم في المستدرك 2: 210- 211 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي وهو إسناد صحيح متصل لأن السياق يدل على أن محمدا هذا سمعه من أبيه وحدث به عنه. وقد ذكره الحافظ في ترجمته في الإصابة، بنحو من هذا. وهو ييد أن المختلعة من ثابت هي جميلة هذه. ووقع في المطبوعة: "فلتردد على حديقتي". والصواب ما أثبتنا: "فإن ردت علي حديقتي". صححناه من المخطوطة وابن كثير والسيوطي. وجواب الشرط محذوف كما هو ظاهر. وهذا فصيح كثير في كلام البلغاء. وانظر: 4810. (2) في المطبوعة: "بنت سهل" وأثبت ما في المخطوطة. (3) الحديث: 4808- أبو عامر: هو العقدي. عبد الملك بن عمرو. أبو عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام المدني وهو ثقة. قال أبو سلمة التبوذكي: "ما رأيت كتابا أصح من كتابه". وذكره ابن حبان في الثقات. ولم يعرفه ابن معين حق معرفته كما حكى عنه ابن أبي حاتم وضعفه النسائي. ولكن ترجمه البخاري في الكبير 2/1/438 فلم يذكر فيه حرجا. وهذا كاف في توثيقه خصوصا وقد أخرج له مسلم في صحيحه. ولم يجزم البخاري بأن سعيد بن سلمة هو أبو عمرو راوي هذا الحديث، فقال: "وقال أبو عامر: حدثنا أبو عمرو السدوسي المدني. فلا أدري هو هذا أم غيره؟ ". وترجم في التهذيب في الأسماء 4: 41- 42 وفي الكنى 12: 181- 182 وأثبت الحافظ بالدلائل القوية أنهما راو واحد كما سيتبين من التخريج إن شاء الله. عبد الله: هو ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم. والحديث رواه أبو داود: 2228 عن محمد بن معمر -شيخ الطبري فيه- بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 1: 541 عن أبي داود والطبري. ثم قال: "وأبو عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام". وذكره الحافظ في التهذيب 4: 41- 42 موجزا من رواية أبي داود ثم قال: "وروى هذا الحديث أحمد بن محمد بن شعيب الرجالي عن محمد بن معمر عن أبي عامر العقدي عن سعيد بن سلمة عن عبد الله بن أبي بكر بإسناده. فدلت هذه الرواية على أن أبا عمرو المذكور في رواية أبي داود-: هو سعيد بن سلمة". ثم قال: "وسيأتي في الكنى ما يقرر أنهما واحد" ثم قال في"الكنى" من التهذيب 12: 181- 182: "روى أبو محمد بن صاعد في الجزء الخامس من حديثه. حدثنا محمد ابن معمر القيسي حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا أبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة. حدثنا هشام بن علي السيرافي بالبصرة حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثني عبد الله بن أبي بكر- فذكر ذلك الحديث بعينه. فتعين أن أبا عمرو المديني السدوسي المذكور هو سعيد بن سلمة". ورواه أيضًا البيهقي 7: 315 من طريق هشام بن علي، عن عبد الله بن رجاء: "أخبرنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثنا عبد الله بن أبي بكر. . . " فذكره بزيادة في آخره. وهذه الطريق مثل الطريق التي حكاها الحافظ آنفًا عن أبي محمد بن صاعد وهي تيد ما قاله وقلناه. وذكره السيوطي 1: 280، وزاد نسبته لعبد الرزاق ولم أجده في التفسير ولا في المنصف لعبد الرزاق ولعله خفي على موضعه في واحد منهما. قوله"فكسر نغصها"- النغص، بضم النون وسكون الغين المعجمة وآخره ضاد معجمة: العظم الرقيق على طرف الكتف. وهذا هو الصواب في هذا الحرف هنا. وثبت في المطبوعة"بعضها" وكذلك في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود إلا في نسخة بهامش طبعة الهند ذكرت على الصواب. وهو الصحيح الثابت في مخطوطة الشيخ عابد السندي واضحة مضبوطة لا تحتمل تصحيفا. وييد ذلك ويقويه: أن رواية البيهقي"فكسر يدها" وأما كلمة"بعضها"- فإنها قلقة في هذا الموضع غير مستساغة. وانظر الحديث التالي لهذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 4809 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا مالك، عن يحيى، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند بابه بالغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، لا أنا ولا ثابت بن قيس!! = لزوجها= فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر! . فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطانيه عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها. فأخذ منها، وجلست في بيتها. (1)   (1) الحديث: 4809- ابن بشار: هو محمد بن بشار شيخ الطبري وأصحاب الكتب الستة مضت ترجمته في: 304 ووقع في المطبوعة"أبو يسار"!! وهو تصحيف قبيح. صحح من المخطوطة. روح: هو ابن عبادة. يحيى- شيخ مالك: هو الأنصاري. النجاري مضت ترجمته: 2154 ووقع هناك في ترجمته"البخاري" وهو خطأ مطبعي. ومضى على الصواب في: 3395. وهو"يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة". فتكون"بيبة بنت سهل بن ثعلبة" صاحبة الحديث والقصة- عمة جده"قيس بن عمرو". والحديث في الموطأ ص: 564. ورواه الشافعي عن مالك في الأم 5: 101، 179. ورواه أحمد في المسند 6: 433- 434 (حلبي) عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك. ورواه أبو داود 2227، عغن القعنبي عن مالك ورواه النسائي 2: 104 من طريق ابن القاسم عن مالك ورواه ابن حبان في صحيحه 6: 436- 437 (من مخطوطة الإحسان) من طريق أبي مصعب أحمد بن أبي بكر، عن مالك ورواه البيهقي 7: 312- 313 من طريق أبي داود. ورواه عبد الرزاق في المصنف (مخطوط مصور) ج 4 في الورقة: 17 عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد به. ورواه الشافعي في الأم -في الموضعين عقب روايته عن مالك- عن سفيان بن عيينة عن يحيى ابن سعيد. ورواه ابن سعد في الطبقات 8: 326 في ترجمة"حبيبة"- عن يزيد بن هرون عن يحيى بن سعيد عن عمرة: "أن حبيبة بنت سهل. . . " فذكره مرسلا. ثم رواه عن عارم بن الفضل عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد -فذكره معضلا حذف منه التابعية والصحابية وقد تبين من الروايات السابقة أن هذا والذي قبله متصلان على ما في ظاهرهما من الانقطاع. وذكره متصلا ابن كثير 1: 541 والسيوطي 1: 280. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 4810 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن جميلة بنت أبي ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة" قالت: نعم! فردت الحديقة وفرق بينهما. (1) * * * قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في شأنهما- أعني في شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه.   (1) الحديث: 4810- يحيى بن واضح: هو أبو تميلة مضت ترجمته في: 392. الحسين بن واقد المروزي قاضي مرو: ثقة وثقه ابن معين وأثنى عليه أحمد. وقال فيه ابن المبارك: "ومن لنا مثل الحسين". ووقع في المطبوعة"الحسن" وهو خطأ بين. ثابت: هو البناني. عبد الله بن رباح الأنصاري: تابعي ثقة، وثقه ابن سعد والنسائي وغيرهما وقال ابن خراش: "وهو رجل جليل". وهذا الإسناد صحيح. ولم أجده إلا عند الطبري هنا وعند ابن عبد البر في الاستيعاب فرواه ابن عبد البر ص: 732- 733 عن عبد الوارث بن سفيان عن قاسم بن أصبغ عن أحمد بن زهير عن محمد بن حميد الرازي -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وقد تبين من هذه الأحاديث الأربعة: 4807- 4810 ومن غيرها من الروايات الصحيحة -الاختلاف فيمن اختلعت من ثابت بن قيس بن شماس: أهي جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول أم حبيبة بنت سهل؟ فالراجح أنهما كلتاهما اختلعتا منه. وهو الذي رجحه الحافظ في الفتح 9: 350 وارتضاه. قال: "والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لامرأتين. لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين". وانظر الإصابة 8: 39- 40، 42، 49. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 4811 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم! فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال:"نعم"، قال ثابت: قد فعلت فنزلت:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها". * * * وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى"الخوف" منهما أن لا يقيما حدود الله. فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها. * ذكر من قال ذلك: 4812 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به. 4813 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، قال ابن جريح: أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول: لا يحل الفداء حتى يكون الفساد من قبلها، ولم يكن يقول:"لا يحل له"، حتى تقول:"لا أبر لك قسما، ولا اغتسل لك من جنابة". 4814 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 أخبرني عمرو بن دينار قال، قال جابر بن زيد: إذا كان الشر من قبلها حل الفداء. (1) 4815- حدثنا الربيع بن سليمان قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول إذا كان سوء الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحل خلعها. 4816 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا محمد بن كثير، عن حماد، عن هشام، عن أبيه أنه قال: لا يصلح الخلع، حتى يكون الفساد من قبل المرأة. 4817 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في امرأة قالت لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة! قال: ما هذا- وحرك يده-"لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"!! إذا كرهت المرأة زوجها فليأخذه وليتركها. 4818 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: تفعل بها كذا وتفعل بها كذا! ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع. 4819 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف" إلى قوله:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به". قال: إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة، فلا يحل له أن يضربها، حتى تفتدي منه. فإن أخذ منها شيئا على ذلك، فما أحذ منها فهو حرام، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها، فقد حل له أن يأخذ منها ما افتدت به.   (1) في المطبوعة: "إذا كان النشز" كأنه ظنه مصدر"نشز" ولكن المصدر"نشوز" لا غير وهذا وهم من الطابع. أما المخطوطة ففيها ما أثبته وهو الصواب المحض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 4820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، قال: لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن تؤتى ذلك منها، (1) فأما أن يكون يضارها حتى تختلع، فإن ذلك لا يصلح، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته، فقد حل له خلعها. 4821 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، قال: الصداق" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" - وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله، فإن قبلت وإلا هجرها، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويوليها ظهره ولا يكلمها، فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته، (2) فإن أبت فالضرب ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها الفدية. * * * وقال آخرون: بل"الخوف" من ذلك: أن لا تبر له قسما، ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطيع لك أمرا فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها. * ذكر من قال ذلك: 4822 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن: إذا قالت:"لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"، فحينئذ حل الخلع. 4823 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال، إذا قالت المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع   (1) في المطبوعة: إلا أن يرى ذلك" وهي لا شيء. وفي المخطوطة: "إلا أن لك لوني" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها إن شاء الله. (2) في المطبوعة: "غلظ عليها" والجيد من المخطوطة ما أثبته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم حدا من حدود الله"، فقد حل له مالها. 4824 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن محمد بن سالم قال، سألت الشعبي، قلت: متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته؟ قال: إذا أظهرت بغضه وقالت:"لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا". 4825 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه كان يعجب من قول من يقول: لا تحل الفدية حتى تقول:"لا أغتسل لك من جنابة". وقال: إن الزاني يزني ثم يغتسل! . 4826 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في الناشز قال، إن المرأة ربما عصت زوجها، ثم أطاعته، ولكن إذا عصته فلم تبر قسمه، فعند ذلك تحل الفدية. 4827 - حدثني موسى قال، (1) حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، لا يحل له أن يأخذ من مهرها شيئا=" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، فإذا لم يقيما حدود الله، فقد حل له الفداء، وذلك أن تقول:"والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أكرم لك نفسا، ولا أغتسل لك من جنابة"، فهو حدود الله، فإذا قالت المرأة ذلك فقد حل الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها. 4828 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن) [سورة النساء: 19] ، في قراءة ابن مسعود، قال إذا عصتك وآذتك، فقد حل لك ما أخذت منها. (2)   (1) في المطبوعة: "حدثني يونس" وهو خطأ محض والصواب من المخطوطة وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير لا يختلف عليه. (2) الأثر: 4828- سيأتي هذا الأثر بنصه وإسناده في تفسير سورة النساء 4: 212 (بولاق) وقد كان في المخطوطة والمطبوعة هنا". . . ببعض ما آتيتموهن يقول إلا أن يفحش" وزيادة"يقول" من النساخ والصواب من ذلك الموضع من تفسير آية النساء. وسيأتي هناك: "إذ عضلتك وآذتك" والصواب ما هنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 4829 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، قال: الخلع، قال: ولا يحل له إلا أن تقول المرأة:" لا أبر قسمه ولا أطيع أمره"، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها، ويتعدى الحق. (1) * * * وقال آخرون: بل" الخوف" من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة. (2) * ذكر من قال ذلك: 4830 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، قال: يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها:" إني لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك" - وتطيب نفسا بالخلع. (3) * * * وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية، أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الآخر. * ذكر من قال ذلك: 4831 - حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا داود، عن عامر = حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، قال: قال   (1) في المطبوعة: "أو يتعدى الحق" والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "أن تبتذله بلسانها" جعل مكان"تبتدئ له""تبتذله" كأن الناسخ أدمج الكلمتين وأخرج منهما كلمة واحدة. وفي المخطوطة: "سرى" غير منقوطة ولو قرئت: "تنبري" لكان صوابا أيضًا. (3) في المطبوعة: "وتطيب نفسك" خطأ صرف والصواب من المخطوطة. ويعني أن تقول المرأة ذلك للرجل ثم تطيب هي نفسا بالخلع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 عامر =: أحل له مالها بنشوزه ونشوزها. 4832 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: قال ابن جريج، قال طاوس: يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره، ولم يكن يقول قول السفهاء:" لا أبر لك قسما"، ولكن يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة. 4833 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" قال: فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة. 4834 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، قال: لا يحل الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحل للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه - منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن، ومن قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله. * * * فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها؟ (1)   (1) في المطبوعة: "منها له" بزيادة"له" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد. وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله" - التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها، حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما تضييعها. (2) فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بالكلام. * ذكر من قال ذلك: 4835 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: هو تركها إقامة حدود الله، واستخفافها بحق   (1) هذا من الفهم والبصر بطبائع البشر، قد علم الله أبا جعفر كيف يقول في تفسير الكتاب وكيف ينتزع الحجة على الصواب من كل وجه يكون البيان عنه دقيقا عسيرا على من لم يوقفه الله لفهمه وإدراكه. (2) في المطبوعة: "بصنيعها" وهو كلام فاسد بلا معنى مفهوم. وكان في المخطوطة"بصنيعها" غير منقوطة فقرأها من قرأها بلا روية. وقوله"تضييعها" مفعول به للمصدر وهو"الخوف" والمعنى من أجل الخوف عليهما أن يضيعا حدود الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 زوجها، (1) وسوء خلقها، فتقول له:" والله لا أبر لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا"، فإن فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية. 4836 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبى بن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: إذا قالت:" لا اغتسل لك من جنابة"، حل له أن يأخذ منها. (2) 4837 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا يونس، عن الزهري قال: يحل الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله. * ذكر من قال ذلك: 4838 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عامر:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله" قال: أن لا يطيعا الله. 4839 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحدود: الطاعة. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما   (1) في المطبوعة: "واستخفافها. . ز" بزيادة"الواو" والصواب من المخطوطة وهو تفسير لقوله: "تركها إقامة حدود الله" كأن عاد فقال: "وتركها إقامة حدود الله استخفافها. . . " (2) الأثر: 4831-"يزيد بن إبراهيم التستري" أبو سعيد البصري التميمي روى عن الحسن وابن سيرين. وابن أبي مليكة وعطاء وقتادة وغيرهم. وروى عنه وكيع وبهز بن أسد وعبد الرحمن ابن مهدي وأبو داود الطيالسي وغيرهم وهو ثقة ثبت من أوسط أصحاب الحسن وابن سيرين. مات سنة 161. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 أوجب الله عليهما من الفرائض، (1) فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه، من العشرة بالمعروف، والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به. وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي، وما رويناه عن الحسن والزهري، لأن من الواجب للزوج على المرأة - إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، (2) وأن لا تؤذيه بقول، (3) ولا تؤذيه بقول (4) ، تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها. (5) * * * وأما معنى" إقامة حدود الله"، فإنه العمل بها، والمخالفة عليها، وترك تضييعها- وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته. (6) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قال أبو جعفر: يعني قوله تعالى ذكره بذلك: فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما= فيما أعطت هذه على   (1) في المطبوعة: "فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ما اوجب" بزيادة"حدود الله" بين شقي الكلام والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: ". . . على المرأة إطاعته" وهو تغيير لا موجب له، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: " وأن لا تؤذيه بقول"، بزيادة" أن"ليستقيم لهم ما درجوا عليه من العبارة. وأبو جعفر يحسن أن يبين عن نفسه. (4) الأثر 5919 "محمد بن محمد العطار "، لعله محمد بن محمد بن عمر بن الحكم يعرف بابن العطار ترجم له الخطيب في تاريخه 3: 203، 204 مات سنة 268. هذا إذا لم يكن في اسمه تحريف ويكون هو " محمد بن مخلد العطار " مترجم في تاريخ بغداد 3: 30. و"أحمد" هو: أحمد بن إسحاق الأهوازي شيخ الطبري، مضت ترجمته في رقم: 177، 1841 أو لعله أحمد بن يوسف التغلبي، كما سيأتي في رقم: 5954 وهو الأرجح عندي. "وأبو وائل" هو " أبو وائل القاص المرادي الصنعاني اليماني" روى عن هانئ مولى عثمان. مترجم في الكبير 4 / 2 452. ويقال هو نفسه " عبد الله بن بحير الصنعاني القاص"، روى عن هانئ أيضًا مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 15، والتهذيب. وهذا الأثر في الدر المنثور 1: 323. (5) في المطبوعة: ". . . أمرها بإدامتها" ثم"أما معنى إدامة حدود الله" وهو خطأ ظاهر في هذا الموضع. (6) انظر ما سلف في تفسير"إقامة الصلاة" 1: 241، و"حدود الله" 3: 546، 547 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 فراق زوجها إياها (1) ولا على هذا فيما أخذ منها من الجعل والعوض عليه. (2) * * * فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حرجة لو كان الضرار من الرجل بها فيما افتدت به نفسها، (3) فيكون"لا جناح عليهما" فيما أعطته من الفدية على فراقها (4) إذا كان النشوز من قبلها. (5) قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حق لها - لما حل لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحل له أخذه منها. لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها، وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا في حق لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحل له أخذه منها على الوجه الذي أعطته   (1) في المخطوطة: "على موافق زوجها إياها" كلمة غير منقوطة ولا مقروءة كأنها كانت"على مفارقة" ثم أفسدها ناسخ. والذي في المطبوعة جيد أيضًا. (2) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" بالإثم والحرج 3: 230، 231/ وهذا الجزء 4: 162، 163 (3) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى افتدت" وهو لا يستقيم والذي يدل عليه سياق الآية وسياق الكلام أن تكون"فيما افتدت". كما أثبت وسياق الكلام: "وهل كانت المرأة حرجة. . . فيما افتدت به نفسها""لو كان الضرار من الرجل بها". وأما قوله: "حرجة" فهي: آثمة. وقد مضى آنفًا ما علقته على استعمال أبي جعفر والباقلاني هذه الصفة وأنها صواب وإن عدها أهل اللغة خطأ انظر ما سلف 2: 423 تعليق: 1/ ثم هذا الجزء 4: 224 تعليق 1/ ثم أيضًا ص: 475 تعليق 2/ ثم ما سيأتي في هذه الصفحة والصفحات التالية. (4) في المطبوعة: "فيكون لا جناح عليها" بإفراد الضمير في"عليها" وهو خطأ مفسد لمعنى الكلام كما سيتبين ذلك في شرح السؤال في التعليق التالي. والصواب من المخطوطة. (5) رحم الله أبا جعفر: لشد ما وثق بتتبع كان قارئ لكل ما يقول حتى إنه ليغمض أحيانا إغماضا يشق على المرء إذا لم يتتبع آثاره في النظر والتفكير. وهذا الاعتراض الذي ساقه في صيغة سؤال محتاج إلى بيان يكشف عن معناه وعن معنى جوابه إن شاء الله. فهذا السؤال مبني على سؤال آخر وهو: كيف قيل: "لا جناح عليهما" بالتثنية و"الجناح" على الرجل وحده في أخذه شيئا مما آتى امرأته من مهر أو صداق. "فهذا الجناح" هو إتيانه ما حرم الله عليه إتيانه من الأخذ فكيف جمع بينهما في وضع"الجناح" والجناح على أحدهما دون الآخر؟ ولا يجوز ان يجمع بينهما في وضع"الجناح" وإسقاطه حتى يكون على المرأة"جناح" في الإعطاء كجناح الرجل في الأخذ. فإذا صح أنه محرم على المرأة إعطاء زوجها في حال من الأحوال صح عندئذ أن يجمع بينهما في وضع"الجناح" فيقال: "فلا جناح عليهما" في الأخذ والإعطاء. فمن أجل ذلك سأل هذا السائل عن المرأة إذا أعطت زوجها من مالها في الحال التي يكون ضرار الرجل فيها داعية إلى"الإعطاء" أتكون آثمة بإعطائها ما أعطت أم غير آثمة؟ فإذا صح أنها آثمة بالإعطاء في حال ضرار الرجل بها، جاز عندئذ أن يجمع بينهما فيقال في حال نشوزها: "لا جناح عليهما" في الأخذ والإعطاء. * * * هذا ولم أجد أحدا تناول هذا السؤال بالتفصيل والبيان كما تناوله أبو جعفر. وقد سأل مثل هذا السؤال أو قريبا منه الفراء في معاني القرآن 1: 147 وأجاب عنه بجواب سيرده الطبري فيما بعد. وتناوله الشافعي مختصرا من وجه آخر في الأم 5: 179 ولكن جوابه عنه غير واضح ولا محكم أما الطبري فقد انفرد بها الاستقصاء الدقيق لوجوه الفدية وإثم الرجل في الأخذ وإثم المرأة في الإعطاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 عليه. فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها، (1) وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم. وهي= إذا أعطته على هذا الوجه= باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى= أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، (2) ولذلك قال تعالى ذكره:" فلا جناح عليهما" فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذ كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم. (3) وقد يتجه قوله:" فلا جناح عليهما" وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبي الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس= وذلك لكراهتها أخلاق زوجها، أو دمامة خلقه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض- ولكن على الانصراف   (1) في المطبوعة: "فكذلك وضع الجناح" وهو خطأ والصواب من المخطوطة. (2) سياق عبارته"وهي. . . باستحقاق الأجر. . . أولى من الجناح والحرج". (3) في المخطوطة: "طلب السلامة لنفسه ولها في أورالها" غير معجمة ولا بينة المعنى وتركت ما في المطبوعة لأنه مطابق للسياق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحل لها- كان حراما عليها أن تعطي على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا، لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها. (1) وتلك هي المختلعة - إن خولعت على ذلك الوجه - التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها"منافقة"، كما: 4840 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرم الله عليها رائحة الجنة". (2) وقال:"المختلعات هن المنافقات" 4841 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مزاحم بن دواد بن علية، عن أبيه، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والمختلعات هن المنافقات" (3) 4842 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن ثابت بن يزيد، عن عقبة   (1) في المطبوعة: "معصية منها لله" بالزيادة وأثبت ما في المخطوطة. (2) الحديث: 4840- ليث: هو ابن أبي سليم. أبو إدريس: هو الخولاني عائذ الله ابن عبد الله ثقة من كبار التابعين القدماء الفقهاء. وليث لم يسمع هذا الحديث منه، كما يظهر من الإسناد التالي لهذا بينهما روايان. والحديث في حقيقته حديثان وسيأتي تخريج كل منهما. (3) الحديث: 4841- مزاحم بن ذواد بن علبة: حسن الحديث على الأقل. بل هو ثقة. قال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به" وقال النسائي: "لا بأس به" وترجمه البخاري في الكبير 4/2/23 فلم يذكر فيه جرحا. أبوه"ذاود بن علبة": مضت ترجمته في شرح: 851. أبو الخطاب: ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/365 وسأل أباه عنه، فقال: "هو مجهول". وسأل أبو زرعة فقال: "لا أعرفه" وذكره البخاري في الكنى رقم: 220 ولم يذكر فيه جرحا فهو حسن الحديث على الأقل. أبو زرعة: رجح الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي الخطاب 12: 86- 87 أنه"أبو زرعة بن عمرو بن جرير" التابعي الثقة- تبعا لابن مندة وابن عبد البر وذكر أنهما تبعا في ذلك ابن أبي حاتم إذ قال في ترجمة أبي الخطاب أنه"روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير". وحقا قد قال ذلك ابن أبي حاتم ولكن سها الحافظ عن أنه تراجع عن ذلك في ترجمة"أبي زرعة" فقط دون نسب 4/2/374 فذكر أنه روى عن أبي إدريس عن ثوبان وانه روى عنه أبو الخطاب. وذكر أنه سأل أباه: "من أبو زرعة هذا؟ فقال: مجهول" وقد ذكره البخاري في الكنى رقم: 283 ولم يذكر فيه جرحا أيضًا. والحديث رواه الترمذي 2: 216- 217 عن أبي كريب شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ثم قال: "هذاحديث غريب من هذا الوجه. وليس إسناده بالقوي". وانظر الحديثين الآتيين: 4843، 4844. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات. (1) 4843 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب= وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبان:   (1) الحديث: 4842- حفص بن بشر: لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم 1/2/170 قال: "روى عن يعقوب القمي روى عنه أبو كريب". ولم يذكر فيه جرحا. قيس بن الربيع الأسدي الكوفي: مختلف فيه، ورجحنا توثيقه في المسند: 661، 7115. وقد وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. الحسن: هو البصري. ثابت بن يزيد: هكذا هو هنا وفي ابن كثير نقلا عن الطبري. ولم أستطع أن أجزم بشيء فيه، فليس في رجال الكتب الستة من يسمى بهذا في هذه الطبقة طبقة التابعين الذين يروى عنهم مثل الحسن البصري. وهناك"ثابت بن يزيد الخولاني": ترجمه البخاري في الكبير 1/2/172 وابن أبي حاتم 1/1/459- 460. وهو يروي عن ابن عمر وقال بعضهم"عن ابن عمه عن ابن عمر". وهو الصحيح فهذا متأخر قليلا. ومن المحتمل أن يكون هو الذي هنا. فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان 2: 80 ووصفه بأنه"المصري" وذكر أنه روى عن أبي هريرة وعن ابن عباس. وأنه ذكره ابن حبان في الثقات. ومن المعروف أن عقبة بن عامر ولى إمرة مصر سنة 44- 47 من قبل معاوية وعاش بها إلى أن مات ودفن بالمقطم رضي الله عنه وأرخ موته سنة 58. فهو مقارب لوفاة أبي هريرة وابن عباس. وهناك آخر لم يذكر نسبه. ترجم باسم"ثابت الطائفي"- عند البخاري 1/2/165 وابن أبي حاتم 1/1/461. وذكر كلاهما أنه"رأى جابر بن عبد الله أتى عقبة بن عامر" فسأله عن حديث. والحديث نقله ابن كثير 1: 540 عن الطبري، ولم ينسبه لغيره. وقال: "غريب من هذا الوجه ضعيف". وذكره السيوطي أيضًا 1: 283 ولم ينسبه لغير الطبري. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج5 ص5، وقال: "رواه الطبراني. وفيه قيس بن الربيع وثقه الثوري وشعبة وفيه ضعف. وبقية رجاله رجال الصحيح". هكذا قال! ولا أدري أخطأ هو أم صواب؟ فإن كان إسناد الطبراني فوق قيس بن الربيع كإسناد الطبري- كان خطأ غريبا. فإن ثابت ابن يزيد لم نعرف من هو كما ترى! وليس في رجال الصحيح بهذا الاسم إلا"ثابت بن يزيد الأحول" روى له أصحاب الكتب الستة، ولكنه متأخر جدا عن هذه الطبقة، مات سنة 169. أي بعد عقبة بن عامر بأكثر من مائة سنة وعشر سنين وبعد الحسن البصري بنحو ستين سنة. وقوله" المنتزعات": الظاهر أن معناها معنى"المختلعات": كأنها تنتزع نفسها من عقد الزواج ومن سلطان الزوج عليها. وهذا الحرف ثابت هكذا في جميع المراجع لهذا الحديث، إلا مخطوطة الطبري ففيها"المتبرعات"! ولا معنى لها في هذا السياق، فهي تصحيف. وهناك حديث في هذا المعنى فيه حرف قريب من هذا: رواه أبو نعيم في الحلية 8: 375- 376، من طريق محمد بن هارون الحضرمي -أبي حامد- عن الحسين بن علي بن الأسود العجلي عن وكيع عن الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله -هو ابن مسعود- مرفوعا: "المختلعات والمتبرجات هن المنافقات". فهذا الحرف"المتبرجات" لعله محرف عن"المنتزعات" فإني لا أثق بتصحيح طبعة كتاب الحلية. وقد وقع في إسناد الحديث نفسه فيها خطأ آخر، ثبت فيه"حدثنا فليح" بدل"حدثنا وكيع"! في حين أن كلام أبي نعيم عقبه يدل على الصواب، إذ قال: "غريب من حديث الأعمش والثوري، تفرد به وكيع". وهذا الحديث نفسه -أعني حديث ابن مسعود- رواه الخطيب في تاريخ بغداد 3: 358 في ترجمة"أبي حامد محمد بن هارون" -من طريق الدارقطني عن محمد بن هارون عن حسين بن علي بن الأسود، عن وكيع -بهذا الإسناد مرفوعا: "المختلعات هن المنافقات". بدون ذكر"المتبرجات" وقال الخطيب: "قال لي الحسن: قال الدارقطني: ما حدث به غير أبي حامد". وأصح من هذه الروايات كلها ما رواه أحمد في المسند: 9347 (2: 414 حلبي) من حديث الحسن عن أبي هريره. مرفوعا: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات". وهو حديث صحيح بينا صحته وفصلنا القول في تخريجه في المسند في شرح الحديث: 7138ج 12ص 114- 116. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة. (1) 4844 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد،   (1) الحديث: 4843- هذا الإسناد فيه مجهول وقد تبين من الإسناد التالي أنه"أبو أسماء الرحبي". وهكذا رواه أحمد في المسند 5: 277 (حلبي) عن ابن عليه، بهذا الإسناد وكذلك رواه الترمذي 2: 217 عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب الثقفي، به. وهو الطريق الأول للطبري هنا في هذا الإسناد. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570 عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. (1) * * * فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح= وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ومنه ما يكون عليهما ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح= قيل في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح، (2) إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها=:"لا جناح عليهما فيما افتدت به" من الوجه الذي أبيح لهما، وذلك، أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه. * * * قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: (3)   (1) الحديث: 4844- هذا إسناد صحيح. أبو أسماء الرحبي: هو عمرو بن مرثد الدمشقي وهو تابعي ثقة. * والحديث رواه أحمد في المسند 5: 283 (حلبي) عن عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن حماد بن زيد. * ورواه أبو داود: 2226 عن سليمان بن حرب وابن ماجه: 2055، من طريق محمد بن الفضل والحاكم 2: 200 من طريق سليمان بن حرب والبيهقي 7: 316 عن الحاكم من طريق ابن حرب- كلهم عن حماد بن زيد بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. * ورواه البيهقي أيضًا 7: 316 من طريق موسى بن إسماعيل التبوذكي عن وهيب عن أيوب به. وهذا أيضًا إسناد صحيح. * وذكره الحافظ في الفتح 9: 354 وقال: "رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان". * وأشار إليه الترمذي عقب الإسناد السابق الذي فيه المبهم فقال: "ويروى هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن ثوبان". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "لا جناح" بغير واو العطف والصواب ما أثبت. (3) الذي زعم ذلك هو الفراء في معاني القرآن 1: 147- 148. والذي ساقه الطبري مختصر مقاله الفراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 571 أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في"سورة الرحمن": (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) [سورة الرحمن: 22] وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله. (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) [سورة الكهف: 61] ، وإنما الناسي صاحب موسى وحده. قال: ومثله في الكلام أن تقول:"عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما" وإنما تركب إحداهما. وتستقي على الأخرى، (1) وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام. قالوا: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، (2) لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك. * * * قال أبو جعفر: فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله: (3) (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) . فأما قوله:" فلا جناح عليهما" فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه قوله:" يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول:"إنما أريد به الخبر عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما"، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال:"إنما هو خبر عن أحدهما".   (1) في المطبوعة: "وأسقى. . . وتسقى" والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء. (2) في معاني القرآن: "أشركت فيه" بالبناء للمجهول، وهي أجود. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "احتج به قوله" والصواب زيادة"من". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 572 وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود. * * * قال أبو جعفر: ثم أختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أمعني به: أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟ فقال بعضهم: عنى بذلك:"فلا جناح عليهما فيما افتدت به" من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه. واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مما آتيتموهن. قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك -عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله- هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه، أن ترد ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 4845 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع أنه كان يقول: لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، ويقول: إن الله يقول:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" منه، يقول: من المهر - وكذلك كان يقرؤها:"فيما افتدت به منه". (1)   (1) الأثر: 4845- سيأتي نقض الطبري لما قاله الربيع وزيادته في الآية ما ليس منها في ص582، 583. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 573 4846 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز: لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها. 4847 - حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، عن عطاء، قال: الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها. 4848 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها. 4849 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن الشعبي، قال: كان يكره أن يأخذ الرجل من المختلعة فوق ما أعطاها، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 574 4850 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي، قال: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها. 4851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها - يعني المختلعة. 4852 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة، قال: كان علي رضي الله عنه يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. 4853 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن الحكم أنه قال في المختلعة: أحب إلي أن لا يزداد. 4854 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. 4855 - حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر أنه سأل الحسن - أو أن الحسن سئل - عن رجل تزوج امرأة على مائتي درهم، فأراد أن يخلعها، هل له أن يأخذ أربعمائة؟ فقال: لا والله، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها! . 4856 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها = قال معمر: وبلغني عن علي أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها. 4857 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن ابن المسيب، قال: ما أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها. 4858 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. 4859 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام - إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها. (1) قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "غير جائز إحالة. . . " بدلوه ليطابق ما درجوا عليه. والصواب من المخطوطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 575 4860 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة: أن عمر أتي بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني! فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. (1) 4861 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن كثير مولى سمرة، قال: أخذ عمر بن الخطاب امرأة ناشزا فوعظها، فلم تقبل بخير، فحبسها في بيت كثير الزبل ثلاثة أيام = وذكر نحو حديث ابن علية. 4862 - حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى، قالا حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكت زوجها، فقال: إنها ناشز؟ فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبح قال لها: كيف وجدت مكانك! قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة! فقال: خذ ولو عقاصها. (2)   (1) الأثر: 4860- البيهقي 7: 315، والمحلى 10: 240. وقوله: "ولو من قرطها" أي: ولو لم يكن لها مال غير قرطها فخذه واخلعها. (2) الأثر: 4862-"حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" روى عن أبيه وعمر وعثمان وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. روى عنه ابنه عبد الرحمن والزهري وقتادة وغيرهم. وقيل: "إنه لم ير عمر ولم يسمع منه شيئا" وموته يدل على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان لأنه كان خاله. وكان ثقة كثير الحديث. توفي سنة 95 وهو ابن ثلاث وسبعين سنة". وقال ابن سعد: "سمعت من يقول إنه توفي سنة 105". قال ابن حجر: "وهو قول الفلاس وأحمد بن حنبل وأبي إسحاق الحربي" ثم قال: "وإن صح ذلك على تقدير صحة ما ذكر من سنه فروايته عن عمر منقطعة قطعا، وكذا عن عثمان وأبيه والله أعلم". والعقاص: خيط تشد به المرأة أطراف ذوائبها. من"عقصت المرأة شعرها": إذا ضفرته. والضفيرة هي العقيصة. و"العقاص" أيضًا: المداري (جمع) - أو: المدري (مفرد) والمدري: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط، وأطول منه، يسرح به الشعر المتبلد. يستعمله من لم يكن له مشط. وقد جاء في شعر امرئ القيس: غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل العقاص في مثنى ومرسل ويروى"يضل العقاص" على معنى إفراده. وانظر التعليق على الأثر رقم: 4871. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 576 4863 - حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها، فلم يعب ذلك ابن عمر. (1) 4864 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا معتمر، قال: سمعت عبيد الله يحدث، عن نافع، قال: ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها، فلم يعب ذلك عليها ولم ينكره. 4865 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا هشيم، عن حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب: أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ثم تلا هذه الآية:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به". 4866 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال في الخلع: خذ ما دون عقاص شعرها، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها. (2) 4867 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا   (1) الأثر: 4863- الموطأ: 565 والمحلى 10: 240 والبيهقي 7: 315 وما سيأتي رقم: 4874 وغيرها. (2) الآثار: 4866- 4869- هذا الأثر ذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ آخر، قال: "وفي حديث النخعي: الخلع تطليقه بائنة وهو ما دون عقاص الرأس. يريد: أن المختلعة كان له أن يأخذ ما دون شعرها من جميع ملكها". هكذا في النهاية وفي نقل لسان العرب عنه"ما دون شعرها". وتفسير"العقاص" هنا بأنه"الشعر" غريب جدا لا أدري هل يجوز أن يخلط عالم جليل كابن الأثير هذا الخلط! فيكون معنى قول إبراهيم النخعي الآتي في الآثار التالية: "خذ منها ولو عقاصها" -أي: خذ منها ولو شعرها!! ولعل في الكلام سقطا فيكون: "أن يأخذ ما دون رباط شعرها" ولكن نقل صاحب اللسان نص ما في النهاية شبهة في ترجيح هذا الرأي. وكأن ابن الأثير غفل عن معنى"دون" في هذا الموضع فزل عالم. وقوله: "ما دون عقاص شعرها" معناه: ما هو أقل من العقاص أو أنقص منه. وانظر الأثر الآتي رقم: 4870 ففي لفظه شفاء هذا المعنى إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 577 معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع ما دون عقاص الرأس. (1) 4868 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة: خذ منها ولو عقاصها. 4869 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع بما دون عقاص الرأس، وقد تفتدي المرأة ببعض مالها. 4870 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع ابنة معوذ بن عفراء حدثته قالت: كأن لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما، فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه! قال: نعم! قال: ففعلت قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه- أو قالت: ما دون عقاص الرأس. (2) 4871 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير، ولو عقصها. (3)   (1) في المطبوعة: "بما دون" فأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 4870- رواه البيهقي في السنن 7: 315 بغير هذا اللفظ من طريق يزيد ابن زريع عن روح عن عبد الله بن محمد بن عقيل. و"عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب" روى عن أبيه وخاله محمد بن الحنفية وابن عمر وأنس وجابر والربيع بنت معوذ وغيرهم من الصحابة. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال: "كان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه، وكان كثير العلم". وقال يعقوب: "صدوق وفي حديثه ضعف شديد جدا". مات سنة 145 و"الربيع" (بضم الراء وفتح الباء، وكسر الياء المشددة) على وزن التصغير. (3) قوله: "ولو عقصها". في المخطوطة كسرة تحت العين، كأنه بكسر العين وسكون القاف وكأنه واحد"العقاص" ولم أجد ذلك في مكان وهو قريب على غرابته. ولكني ضبطته بضمتين، على أنه جمع"عقاص". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 578 4872 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها. 4873 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ليأخذ منها حتى قرطها- يعني في الخلع. 4874 - حدثني المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر. (1) 4875 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: يأخذ أكثر مما أعطاها. (2) 4876 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبي عدي، عن حميد، قال: قلت لرجاء بن حيوه: إن الحسن يقول في المختلعة: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول:" ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" قال رجاء: فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" * * * وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء: 20] * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 4874- في الموطأ: 565 وانظر التعليق على الأثر: 4863. (2) الأثر: 4875- انظر الأثر السالف رقم: 4865. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 579 4877 - حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال لا! وقرأ:" وأخذن منكم ميثاقا غليظا". 4878 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع، قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: يقول الله تعالى ذكره في كتابه:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به"؟ قال: هذه نسخت. قلت: فإني حفظت؟ قال: حفظت في"سورة النساء" (1) قول الله تعالى ذكره: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [النساء: 20] (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه- فلا حرج   (1) في الناسخ والمنسوخ وفي القرطبي"فأين جعلت" وهي أشبه بالصواب وكذلك ينبغي أن تكون الأخرى"جعلت" فيكون نصهما: "فأين جعلت؟ قال: جعلت في سورة النساء". (2) الأثران: 4877، 4878- في الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: 68 وأحكام القرآن للجصاص 1: 392 والقرطبي 3: 139 وسيأتي أول الأثرين في تفسير سورة النساء 4: 216 (بولاق) . وفي إسناده هنا"عقبة بن أبي المهنا" وهو تصحيف. و"عقبة بن أبي الصهباء أبو خريم" ترجم له في الجرح والتعديل 3/ 1/312 وميزان الاعتدال 2: 205. قال ابن أبي حاتم: "بصري: روى عن سالم ونافع. روى عنه زيد بن حباب وأبو الوليد وأبو سلمة. سمعت أبي يقول ذلك. قال أبو محمد: روى عن العلاء بن بدر. روى عنه معتمر بن سليمان وأبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي. أخبرنا عبد الرحمن قال: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين قال: عقبة بن أبي الصهباء ثقة. أخبرنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن عقبة بن أبي الصهباء قال: محله الصدق فهو أوثق من عقبة الأحم". وزاد في ميزان الاعتدال أنه: "باهلي" مولى لباهلة ونقل عن أحمد بن حنبل أنه صالح الحديث. هذا ولم أجد كما ترى، وهو ما جاء في التاريخ الكبير، في كتاب الكنى: 44 وفي الجرح والتعديل 4/2/394: "أبو الصهباء البصري. روى عن بكر بن عبد الله. روى عنه معن بن عيسى. سمعت أبي يقول ذلك" قاله ابن أبي حاتم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 580 عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل = استحبابا لا تحتيما (1) إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، (2) بل خوفا منها على دينها= أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، (3) فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها. * * * فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين: أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره. والآخر: أن الآية التي في"سورة النساء" إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، (4) بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، (5) ولا نشوز من المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا   (1) في المخطوطة: "لا تحريما" ليست بشيء وما في المطبوعة هو الصواب. والتحتيم: الإيجاب حتم عليه الأمر حتما: أوجبه. (2) في المطبوعة: "لغير معصية الله" والصواب ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة: "سحت" مهملة وشح بالشيء يشح فهو شحيح: ضن وبخل. (4) في المطبوعة: "بأن أراد الرجل" وفي المخطوطة: "فإن أراد" والصواب ما أثبت. (5) في المطبوعة: "بمقام أحدهما على صاحبه" صواب جيد. وقوله: "ولا نشوز" معطوف على قوله: "خوف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 581 من مالها على فراقها حرام، (1) ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا. (2) وأما الآية التي في"سورة البقرة" فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في"سورة البقرة" (3) ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في"سورة النساء"، كما الحظر في"سورة النساء"، غير الإطلاق والإباحة في"سورة البقرة". (4) فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ (5) إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة. وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل. * * * وأما الذي قاله الربيع بن أنس (6) من أن معنى الآية: فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه - يعني بذلك: مما آتيتموهن - فنظير قول بكر في دعواه نسخ   (1) في المطبوعة: "فقد بينا أن أخذ الزوج. . . " وهو خطأ محض والسياق يقتضي غيره ثم إنه لم يذكر شيئا من ذلك فيما سلف. أما في المخطوطة: "فقد سا" والألف الأخيرة قصيرة عن أشباهها. وأحب أن أثبت هنا أن ناسخ المخطوطة قد عجل في الصفحات السابقة والصفحات التالية عجلة شديدة حتى تبين ذلك في خطه تبينا ظاهرا. ولذلك كثر الخطأ والاشتباه فيما يكتب. (2) الحبة: ميزان من موازينهم. هو: زنة حبة شعير متوسطة لم تقشر وقد قطع من طرفيها ما امتد (رسالة النقود للمقريزي: 3) . (3) في المخطوطة: "أذن به للزوج أخذ الفدية" بحذف"في" والإذن هنا الإباحة. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "غير الطلاق والإباحة" والصواب ما أثبت ولم أجد"الطلاق" مصدرا بمعنى الإباحة. وكأن الناسخ ظن أن أبا جعفر يريد أن آية سورة البقرة فيها ذكر لفظ"الطلاق" وأما التي في سورة النساء فليس فيها لفظ"الطلاق" فيكون ذلك غريبا جدا، ولطيفا أيضًا!! ومراد الطبري أن الذي في سورة البقرة هو نشوز المرأة والذي في سورة النساء هو ضرار الرجل، والذي في البقرة إباحة وإطلاق، والذي في النساء حظر ومنع. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما يجوز" والفاء هنا لا معنى لها، بل هي اختلال. وقد أسلفنا ما في كتابة الناسخ هنا من عجلة وسهو شديد. (6) انظر الأثر السالف رقم: 4845. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 582 قوله: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به" بقوله:" وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" لادعائه في كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه. ويقال لمن قال بقوله: قد قال من قد علمت من أئمة الدين: إنما معنى ذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها= فهل من حجة تبين بها منهم غير الدعوى؟ (1) فقد احتجوا بظاهر التنزيل، وادعيت فيه خصوصا! ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد بينا الأدلة بالشواهد على صحة قول من قال: للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية، التي أباح الله لها الافتداء - في كتابنا (كتاب اللطيف) فكرهنا إعادته في هذا الموضع. * * * (2) القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما أحل لكم، وما حرم عليكم أيها الناس، قلا تعتدوا ما أحل لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرم عليكم، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.   (1) في المطبوعة"تبين تهافتهم" من قولهم"بين الشيء يبين" بتشديد الياء. ومعنى الجملة لا يتفق في سياق هذا الكلام. وفي المخطوطة"تبين بها منهم" غير منقوطة فقرأتها على أصح وجوه المعنى الذي يوافق السياق. وبان منهم يبين: افترق وامتاز. يقول: فهل من حجة تجعل بينك وبينهم فرقا غير الدعوى؟ فهم يحتجون بأن هذا ظاهر الآية، وأنت تدعى أن في الآية خصوصا! فأية حجة في هذا تجعل لك ميزة عليهم؟ (2) مما يدل على ان الناسخ في هذا المكان كان عجلا غير متأن كما أسلفنا من شواهد خطه، من كثرة الخطأ في نقله، أنه كتب نص الآية هنا"تلك حدود الله فلا تقربوها"!! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 583 وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها"، هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت: من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله:" تلك حدود الله"، مما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أمر ونهى. ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء -التي بينت لكم حلالها من حرامها-"حدودي"= يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي=، فلا تعتدوها= يقول: فلا تتحاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، (1) فإن من تعدى ذلك = يعني من تخطاه وتجاوزه = إلى ما حرمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم- وهو الذي فعل ما ليس له فعله، ووضع الشيء في غير موضعه. وقد دللنا فيما مضى على معنى"الظلم" وأصله بشواهده الدالة على معناه، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ تأويلهم ألفاظ تأويلنا، غير أن معنى ما قالوا في ذلك [يؤول] إلى معنى ما قلنا فيه. (3) * ذكر من قال ذلك: 4879 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها" يعني بالحدود: الطاعة. 4880 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها" يقول: من   (1) انظر معنى"الخدود""والتعدي والعدوان" في فهرس اللغة من الأجزاء السالفة. (2) انظر ما سلف 1: 523-524/2: 101- 102، 369، 519. (3) في المطبوعة: ". . . ما قالوا في ذلك إلى معنى. . . " وأثبت الزيادة بين القوسين لأن موضعها في المخطوطة بياض فرجحت أن تكون الكلمة الناقصة هي هي، كما أثبتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 584 طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه،"ومن يتعد حدود الله، فأولئك هم الظالمون". * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر، فيقال:"تلك حدود الله"، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة، والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من الله تعالى ذكره. فقال بعضهم: دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة= بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق مرتان"= فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره- يعني به غير المطلق. * ذكر من قال ذلك: 4881 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدة، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطبا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل، (1) فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها،   (1) "قبل عدتها" (بضم فسكون) أي: في إقبال عدتها وأولها وعند الشروع فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 585 وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" (1) 4882 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" يقول: إن طلقها ثلاثا، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره. 4883 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة، قال: والثالثة قوله:" فإن طلقها" -يعني بالثالثة- فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره. 4884 - حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، بنحوه. 4885 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فإن طلقها" - بعد التطليقتين-"فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، وهذه الثالثة * * * وقال آخرون: بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق مرتان" قالوا: وإنما بين   (1) هكذا في المخطوطة معنى الآية لا نصها ولكنه في المطبوعة: "فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" أثبت نص الآية. تصرف لغير حكمة بينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 586 الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله:" أو تسريح بإحسان" وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين، فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج. * ذكر من قال ذلك: 4886 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" قال: عاد إلى قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". 4887 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * قال أبو جعفر: والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب، للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال- أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره:" الطلاق مرتان" فأين الثالثة؟ قال:"فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". (1) فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي قوله:" أو تسريح بإحسان" فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله:" فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره" من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها فيها= (2) وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته. (3) * * * (4)   (1) يعني الأخبار السالفة: 4791- 4793. (2) قوله: "وإعلام" معطوف على قوله: "إنما هو بيان. . . وإعلام" وقوله: "عباده" منصوب بالمصدر"إعلام" مفعول به. (3) إلى هنا انتهى التقسيم القديم الذي نسخت منه نسختنا، وبعده ما نصه: "وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم كثيرا" ومن عجلة الناسخ أغفل أن ينقل ما كان ينقله في المواضع السالفة من سماع النسخة. (4) يبدأ صدر التقسيم بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 587 قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟ قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إن نكحت رجلا نكاح تزويج، ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها (1) ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح، لم تحل للأول بإجماع الأمة جميعا. (2) فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" نكاحا صحيحا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها. فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه. وبعد، فإن الله تعالى ذكره قال:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء". وكذلك قوله:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، وإن لم يكن   (1) في المطبوعة: "وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجا" لا أدري لم وضع الطابع"إذا" مكان"وإن" و"زوجا" مكان"رجلا"!! (2) في المطبوعة: "لإجماع الأمة" وهو ضعيف لا خير فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 588 مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده. * * * * ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4888 - حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع، وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحل لزجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته". (1)   (1) الحديث: 4888- هذا الحديث والاحاديث بعده إلى: 4897 هي عشرة أسانيد لحديث عائشة في وجوب الدخول بالمطلقة ثلاثا حتى تحل لزوجها الأول، وهذا أمر مجمع عليه ثبت بالدلائل المتواترة. ويجب أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها، مما هو القصد الصحيح للزواج. أما إذا تزوجها ودخل بها قاصدا تحليلها للزوج الأول أو كان ذلك مفهوما من واقع الحال- فإن هذا هو المحلل الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن المحلل له. وكان نكاح هذا الثاني باطلا لا تحل به المعاشرة. ثم روى أبو جعفر -بعد هذه العشرة- حديثين لأبي هريرة وحديثا لأنس وحديثا لعبيد الله ابن عباس، وثلاثة أحاديث لابن عمر. فهي سبعة عشر حديثا. سنوجز ما استطعنا في تخريجها إن شاء الله. عبيد الله بن إسماعيل الهباري- شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 2890 باسم"عبيد" دون إضافة. وكذلك مضى باسم"عبيد" في: 3185، 3325. وهو هو ففي التهذيب 7: 59"ويقال أن اسمه عبيد الله وعبيد: لقب". أبو هاشم الرفاعي- شيخ الطبري: هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير قاضي بغداد تكلم فيه بعضهم، والراجح توثيقه وقد روى عنه مسلم في صحيحه. مضى له ذكر في: 3286. إبراهيم: هو ابن يزيد بن الأسود النخعي. والأسود: هو ابن يزيد بن قيس النخعي خال إبراهيم. والحديث رواه أحمد في المسند 6: 42 (حلبي) عن أبي معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير 1: 549 عن رواية الطبري ثم قال: "وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي معاوية". وذكره السيوطي 1: 284 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن ماجه. قوله: "حتى يذوق الآخر عسيلتها. . . " قال ابن الأثير: "شبه لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقا. وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل. وقيل: على إعطائها معنى النطفة. وقيل: العسل في الأصل يذكر ويؤنث فمن صغره مؤنثا قال: عسيلة. . . وإنما صغره إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 589 4889 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (1) 4890 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: سمعتها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". (2) 4891 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، نحوه. 4892 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله   (1) الحديث: 4889- رواه مسلم 1: 407 بنحوه من طريق أبي أسامة عن هشام ابن عروة عن أبيه. ورواه أحمد في المسند 6: 229 (حلبي) عن أبي معاوية عن هشام. ورواه مسلم أيضًا من طريق ابن فضيل ومن طريق أبي معاوية كلاهما عن هشام. * ونقله ابن كثير 1: 549 عن صحيح مسلم، وذكر أن البخاري رواه من طريق أبي معاوية. * ثم قال: وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله. وهذا إسناد جيد". (2) الحديث: 4890- رواه أحمد في المسند 6: 37- 38 (حلبي) عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد. وزاد في آخره كلام خالد بن سعيد بن العاص بنحو ما سيأتي في: 4893. "عبد الرحمن بن الزبير"-بفتح الزاي وكسر الباء- هو القرظي المدني، صحابي معروف. وقد ذكره السيوطي 1: 283: 284 ونسبه أيضًا للشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والصحيحين والترمذي زوالنسائي. وابن ماجه والبيهقي. وقوله: "وإنما معه مثل هدبة الثوب" -"كلمة"وإنما" رسمت في المطبوعة حرفين"وإن ما" والصواب الموافق لسائر الروايات هو ما أثبتنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 590 صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، فذكر مثله. (1) 4893 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن رفاعة القرظي طلق امرأته، فبت طلاقها، فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله - إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!. (2) 4894 - حدثنا محمد بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول". (3)   (1) الحديثان: 4891، 4892- هما تكرار للحديث قبلهما بإسنادين آخرين عن الزهري. * ولم يذكر الطبري هنا لفظ هاتين الروايتين. وقد رواه مسلم 1: 407 من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري. وساق لفظه كاملا. (2) الحديث: 4893- هو في كتاب (المصنف) لعبد الرزاق (مخطوط مصور عندنا) 3: 305 عن معمر وابن جريج -معا عن ابن شهاب. ورواه أحمد في المسند 6: 226 (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. ورواه أحمد أيضًا 6: 34 عن عبد الأعلى عن معمر. ورواه مسلم: 1: 407 عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق عن معمر. ولم يذكر لفظه كاملا إحالة على روايته قبلها. ونقله ابن كثير 1: 549- 550 من رواية أحمد عن عبد الأعلى. ثم نسبه لأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود. وانظر تخريج: 4890 فهو في معنى هذا. (3) الحديث: 4894- محمد بن يزيد الأدمي الخراز البغدادي المقابري. المعروف بالأحمر: ثقة وثقه الدارقطني وغيره. وقال السراج: "كان زاهدا من خيار المسلمين". وفي المطبوعة"الأودي" بدل"الأدمي" وهو تحريف صححناه من المخطوطة ومراجع الترجمة. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 4/1129- 130 وفي التهذيب: "ويقال إنهما اثنان" يعني أن"الأحمر" غير"الأدمي" وعلى ذلك جرى الخطيب في تاريخ بغداد جعلهما ترجمتين 3: 374 برقم: 1488، و 377 برقم: 1491 والراجح أنهما ترجمتان لشخص واحد. يحيى بن سليم -بضم السين- القرشي الطائفي: ثقة وثقه ابن معين وغيره. وقال الشافعي: "كنا نعده من الأبدال". أخرج له أصحاب الكتب الستة. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص العمري. القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. عائشة عمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 591 4896 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة، قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه". (1) 4896 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثنا القاسم، عن عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول". (2) 4897 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا موسى بن عيسى الليثي، عن زائدة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه". (3)   (1) الحديث: 4895- هذا والذي قبله مختصران من الحديث الذي بعدهما. (2) الحديث: 4896 -يحيى- في هذا الإسناد-: هو ابن سعيد القطان الإمام. * وهذا الحديث مطول الحديثين قبله. * وقد رواه أحمد في المسند 6: 193 (حلبي) عن يحيى -وهو القطان- بهذا الإسناد. * ونقله ابن كثير 1: 548- 549 عن هذا الموضع من الطبري. ثم قال: "أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن عمر العمري عن القاسم بن أبي بكر عن عمته عائشة- به". * ونقله السيوطي 1: 284 وزاد نسبته للبيهقي. (3) الحديث: 4897- موسى بن عيسى الليثي القارئ الكوفي ثقة أخرج له مسلم في الصحيح. زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، وهو ثقة حافظ مأمون صاحب سنة. علي بن زيد: هو ابن جدعان وهو ثقة رجحنا توثيقه في شرح المسند: 783. أم محمد: اسمها"أمية بنت عبد الله" وقيل"أمينة". وهي امرأة والد علي بن زيد بن جدعان. قال الحافظ في التهذيب 12: 402"ووقع في بعض النسخ من الترمذي: عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه. وهو غلط فقد روى علي بن زيد عن امرأة أبيه أم محمد- عدة أحاديث". أقول: هو ربيبها فلا بأس أن يطلق عليها أنها أمه توسعا. وهي تابعية عرف اسمها وكنيتها فهذا كاف في الحكم بتوثيقها. خصوصا مع قول الذهبي في الميزان 3: 395. عند ذكره النسوة المجهولات قال: "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها". والحديث رواه أحمد في المسند 6: 96 (حلبي) عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد به. نحوه. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم وهو أصح من إسناد الطبري. ورواه أبو داود والطيالسي في مسنده: 1560 مختصرا عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمته عن عائشة ولعل قوله"عن عمته" تساهل أيضًا إن لم يكن تحريفا من ناسخ أو طابع. ومعناه ثابت عن عائشة بالروايات الصحاح السابقة وغيرها. وأشار إليه ابن كثير 1: 549 من رواية الطبري هذه. وكان أجدر به -كعادته- أن يذكره من رواية أحمد وإسنادها أصح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 592 4898 - حدثني العباس بن أبي طالب، قال: أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي، قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" حتى يذوق عسيلتها". (1) 4899 - حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا، فتتزوج زوجا غيره، فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها، قال:"لا حتى يذوق عسيلتها". (2)   (1) الحديث: 4898- العباس بن أبي طالب شيخ الطبري مضت ترجمته في: 880 سعد بن حفص الطلي المعروف بالضخم مولى آل طلحة: ثقة من شيوخ البخاري ووقع في المطبوعة"سعيد" وهو خطأ. شيبان: هو ابن عبد الرحمن أبو معاوية النحوي. مضت ترجمته في: 2340. والحديث مختصر من الذي بعده. وسيأتي تمام الكلام فيه. (2) الحديث: 48990 أبو الحارث الغفاري: ترجمه البخاري في الكنى برقم: 177 قال: "أبو الحارث سمع أبا هريرة. قال سعيد بن حفص [كذا وصوابه: سعد] : حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي الحارث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حتى تذوق العسيلة. وقال وكيع: عن علي بن المبارك عن يحيى عن أبي يحيى [كذا وصوابه: عن أبي الحارث] . الغفاري عن أبي هريرة قوله" يريد أنه في رواية شيبان مرفوع وفي رواية علي ابن المبارك موقوف. وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/358 قال: "أبو الحارث الغفاري سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا حتى تذوق العسيلة. روى علي بن المبارك. عن يحيى بن أبي كثير عنه سمعت أبي يقول ذلك". فرواية ابن المبارك عند أبي حاتم مرفوعة. ولا ينافي ذلك رواية البخاري وقفها. فإن الرفع زيادة ثقةن والراوي قد ينشط فيرفع الحديث وقد يقتصر فيرويه موقوفا. وترجمه الحافظ في لسان الميزان وزاد أن الطحاوي روى له حديثا آخر موقوفا على أبي هريرة من رواية حرب بن شداد عن يحيى ثم قال: "وذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى فيمن لا يعرف اسمه وساق حديث العسيلة من طريق البخاري في التاريخ عن سعيد بن حفص عن شيبان به ولم يذكر فيه جرحا". وهذا الحديث ذكره ابن كثير 1: 548 من روايتي الطبري هاتين. ثم قال: "وأبو الحارث غير معروف". والتعقيب عليه: أن البخاري وأبا حاتم عرفاه، ولم يذكرا فيه جرحا فهو ثقة فضلا عن انه تابعي، وهم على الثقة حتى يستبين جرح واضح. وذكره السيوطي 1: 284 ونسبه لابن أبي شيبة وابن جرير فقط. وأشار إليه الترمذي 2: 185 في قوله"وفي الباب". فقال شارحه المباركفوري: "وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني وابن أبي شيبة". وانا أرجح أن قوله"الطبراني" لأنه لو كان عند الطبراني لذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ولم يفعل. وكذلك السيوطي لم ينسبه للطبراني بل نسبه للطبري. وقوله: "يطلقها زوجها ثلاثا": كلمة"ثلاثا" ليست في المخطوطة. وهي ثابتة في ابن كثير والسيوطي فإثباتها أجود وأوثق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 593 4900 - حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا محمد بن دينار، قال: حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الأول؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته". (1)   (1) الحديث: 4900- محمد بن إبراهيم الأنماطي شيخ الطبري: هو الملقب بمربع صاحب يحيى بن معين، وتلميذ الإمام أحمد بن حنبل. ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/187 وقال: "بغدادي من الحفاظ" وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 1: 388- 389 ترجمه جيدة وقال: "كان أحد الحفاظ الفهماء" وذكر أن يحيى بن معين هو الذي لقبه"بمربع"- في نفر من أصحابه: "وهلاء كبار أصحابه وحفاظ الحديث". وترجمه القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1: 266- 267 ترجمة مختصرة من تاريخ شيخه الخطيب. وفي التهذيب 9: 11 ترجمة شيخ من هذه الطبقة قد يشتبه بهذا وهو"محمد بن إبراهيم الأسباطي" فهذا كوفي نزل مصر، وهو غير ذاك. وترجمه ابن أبي حاتم أيضًا 3/2/186. هشام بن عبد الملك: هو أبو الوليد الطيالسي الحافظ مضى في: 28. محمد بن دينار الطاحي أبو بكر بن أبي الفرات: تكلم فيه بعضهم والحق أنه ثقة قال ابن معين: "ليس به بأس" وقال أبو زرعة: "صدوق". وترجمه البخاري في الكبير 11/77 فلم يذكر فيه جرحا. يحيى بن يزيد الهنائي البصري: تابعي ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وترجمه البخاري في الكبير 4/2/310 فلم يذكر فيه جرحا. وروى عنه شعبة وهو لا يروي إلا عن ثقة. وأخرج له مسلم في صحيحه. و"الهنائي" بضم الهاء وتخفيف النون، نسبة إلى هناءة بن مالك بن فهم من الأزد قاله ابن الأثير في اللباب. والحديث رواه أحمد في المسند: 14069 (3: 284 حلبي) عن عفان عن محمد بن دينار بهذا الإسناد، نحوه مطولا قليلا. ورواه البيهقي 7: 375- 376 من طريق يحيى بن حماد عن محمد بن دينار به. ونقله ابن كثير 1: 548 عن رواية المسند ثم أشار إلى هذه الرواية عند الطبري. وذكره السيوطي 1: 284 منسوبا لهؤلاء. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 340 ونسبه لأحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط. وقال: "ورجاله رجال الصحيح. خلا محمد بن دينار الطاحي وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان. وفيه كلام لا يضر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 594 4901 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، ويعقوب بن ماهان، قالا حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن العباس: أن الغميصاء- أو: الرميصاء- جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، وتزعم أنه لا يصل إليها، قال: فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره". (1)   (1) الحديث: 4901- يعقوب بن إبراهيم شيخ الطبري: هو الدورقي الحافظ مضى مرارا ويعقوب بن ماهان شيخه أيضًا: هو البغدادي البناء وهو ثقة، قال حجاج بن الشاعر: "ليس ببغداد مثل يعقوب بن ماهان". والحديث رواه أحمد في المسند: 1837. وهو حديث صحيح، فصلنا القول فيه هناك، وفي الاستدراك في المسند، رقم: 1448. (ج8 ص312- 313 بشرحنا) . وذكره السيوطي 1: 284 منسوبا لأحمد والنسائي فقط. ولكنه فيه"عن عبد الله بن عباس". وهو عندي- خطأ ناسخ أو طابع كما وقع في مطبوعة النسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 595 4902 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين الأحمري، عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها ألبتة، فتتزوج زوجا آخر، فيطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى الأول؟ قال:"لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها". 4903 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن رزين الأحمري، عن ابن عمر، عن النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها رجل، فأغلق الباب، فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الآخر؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها". 4904 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته، فتزوجت بعده، ثم طلقها أو مات عنها، أيتزوجها الأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته. (1) * * *   (1) الأحاديث: 4902- 4904 هي حديث واحد بثلاثة أسانيد واسانيده كلها ضعاف. وقد فصلت القول فيه في شرح المسند: 4776، 4777، 5277، 5278، 5571. * وقد ذكر البخاري الخلاف فيه، في الكبير 2/214 في ترجمة"سليمان بن رزين". ثم قال: قال إبراهيم بن المنذر: حدثنا أنس بن عياض سمع موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لو فعله أحد وعمر حي، لرجمهما. قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : وهذا أشهر ولا تقوم الحجة بسالم بن رزين ولا برزين لأنه لا يدري سماعه من سالم ولا من ابن عمر". * وخبر ابن عمر هذا -الموقوف- رواه أيضًا عبد الرزاق في المصنف (3: 305 مخطوط مصور) : "عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم نكحها رجل بعده، ثم طلقها قبل أن يجامعها ثم نكحها زوجها الأول- فيفعل ذلك وعمر حي إذن لرجمهما". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 596 القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فإن طلقها" فإن طلق المرأة- التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني-، (1) زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأول=" فلا جناح عليهما" يقول تعالى ذكره: فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول، وبعد نكاحه إياها-، (2) وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات= أن يتراجعا بنكاح جديد. كما: 4905 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:" فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله" (3) يقول: إذا تزوجت بعد الأول، فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلت له. 4906 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا   (1) قوله: "زوجها" فاعل قوله في صدر الكلام: "فإن طلق المرأة. . " وسياق جملته: "فإن طلق المرأة. . . زوجها الذي نكحها. . . " وما بينهما فصل طويل في صفة"المرأة". (2) قوله"على الزوج. . . " معطوف على قوله: "على المرأة" وسياق جملته: "فلا حرج على المرأة. . . وعلى الزوج. . . أن يتراجعا". وهكذا اضطررت للمخالفة بين أنواع الفواصل حتى يتيسر للقارئ وصل الكلام بعضه ببعض. (3) في المخطوطة قطع الآية عند قوله: "أن يتراجعا" ومضى في الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 597 جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين، فله الرجعة ما لم تنقض العدة. قال: والثالثة قوله:" فإن طلقها" يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره، فيدخل بها،"فإن طلقها"= هذا الأخير بعد ما يدخل بها،"فلا جناح عليهما أن يتراجعا" = يعنى الأول ="إن ظنا أن يقيما حدود الله". * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" فإن معناه: إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما. وقد بينا معنى"الحدود"، ومعنى"إقامة" ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وكان مجاهد يقول في تأويل قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" ما:- 4907 - حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة. (2) 4908 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * قال أبو جعفر: وقد وجه بعض أهل التأويل قوله" إن ظنا" إلى أنه بمعنى: إن أيقنا. (3) وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى   (1) انظر تفسير"الحدود" فيما سلف من هذا الجزء 4: 584 ومعنى"إقامة الحدود والصلاة" فيما سلف 1: 241 وهذا الجزء 4: 564، 565. (2) الدلسة: (بضم فسكون) الظلام ومثله"الدلس" (بفتحتين) ومن مجازها: دالس يدالس مدالسة: أي خادع وغدر لأنه يخفي عليك الشيء، كأنه يأتيك به في الظلام ولم أجد من استعمل"الدلسة" مجازا في المخادعة والغش إلا في هذا الأثر. وهو عربي عتيق فصيح. (3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 74. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 598 ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره:" إن ظنا" بمعنى طمعا بذلك ورجوا * * * "وأن" التي في قوله:" أن يقيما"، في موضع نصب بـ "ظنا"، و"أن" التي في" أن يتراجعا" جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض، (1) لأن معنى الكلام: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا- فلما حذفت"في" التي كانت تخفضها نصبها، فكأنه قال: فلا جناح عليهما تراجعهما. وكان بعضهم يقول: (2) موضعه خفض، وإن لم يكن معها خافضها، وإن كان محذوفا فمعروف موضعه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" وتلك حدود الله" هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات="حدود الله"- معالم فصول حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته=" يبينها"= يفصلها، فيميز بينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم، فيعرفون أنها من عند الله، فيصدقون بها، ويعملون بما أودعهم الله من علمه، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون   (1) يعني بهذا الفراء في معاني القرآن 1: 148. (2) هو الكسائي فيما نقله الفراء في كتابه 1: 148 أيضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 599 بأنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من الله، وأنها تنزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به. * * * الجزء: 4 ¦ الصفحة: 600 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وإذا طلقتم"، أيها الرجال نساءكم ="فبلغن أجلهن"، يعني: ميقاتهن الذي وقته لهن، من انقضاء الأقراء الثلاثة، إن كانت من أهل القرء، (1) وانقضاء الأشهر، إن كانت من أهل الشهور="فأمسكوهن"، يقول: فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة: وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين، كما قال تعالى ذكره: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . =وأما قوله:"بمعروف"، فإنه عنى: بما أذن به من الرجعة، من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة، دون الرجعة بالوطء والجماع. لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس ="أو سرحوهن بمعروف"، يقول: أو خلوهن يقضين تمام عدتهن وينقضي بقية أجلهن الذي أجلته لهن لعددهن، بمعروف. يقول: بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم، (2) على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم ="ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" = يقول: ولا تراجعوهن،   (1) في المطبوعة: "من أهل الأقراء"، وهي صواب، ولكن لا أدري لم غير ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "بإنفاقهن"، وهو فساد من الناسخ العجل، كما أسلفت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 إن راجعتموهن في عددهن، مضارة لهن، لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن، أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم، لمضارتكم إياهن، بإمساككم إياهن، ومراجعتكموهن ضرارا واعتداء. وقوله:"لتعتدوا"، يقول: لتظلموهن بمجاوزتكم في أمرهن حدودي التي بينتها لكم. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 4909- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق:"ولا تمسكوهن ضرارا"، قال: يطلقها، حتى إذا كادت تنقضي راجعها، ثم يطلقها، فيدعها، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها، ولا يريد إمساكها: فذلك الذي يضار ويتخذ آيات الله هزوا. 4910- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: كان الرجل يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، يضارها، فنهاهم الله عن ذلك. 4911- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف"، قال: نهى الله عن الضرار ="ضرارا"، أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل، حتى يفي لها تسعة أشهر، ليضارها به. 4912- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: نهى عن الضرار، والضرار في الطلاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها= وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو. 4913- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قيل انقضاء عدتها، ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية. (1) 4914- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة، ثم يدعها، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها، ثم يطلقها، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها. (2) ولا حاجة له فيها، إنما يريد أن يضارها بذلك. فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه، (3) وقال:"ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه". 4915- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها، فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان، ولا يحل له أن يراجعها ضرارا، وليست له فيها رغبة، إلا أن يضارها. 4916- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: هو في الرجل   (1) عضل المرأة يعضلها: لم يحسن عشرتها، ليضطرها بذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذي أمهرها. (2) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى. (3) قوله: "تقدم فيه"، أي أمرهم بأمره فيه ونهاهم عن فعله، وزجرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 يحلف بطلاق امرأته، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها، يضارها بذلك ويطول عليها، فنهاهم الله عن ذلك. 4917- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك بن أنس، عن ثور بن زيد الديلي: أن رجلا كان يطلق امرأته ثم يراجعها، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول عليها بذلك العدة ليضارها، فأنزل الله تعالى ذكره:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه"، يعظم ذلك. (1) 4918- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا"، هو الرجل يطلق امرأته واحدة ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، ليضارها بذلك، لتختلع منه. 4920- حدثنا موسى قال حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا"، قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار (2) طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها، (3) ثم طلقها، ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر، مضارَّةً يضارُّها، فأنزل الله تعالى ذكره:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا". 4921- حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، سمعت عبد العزيز   (1) الأثر: 4917- الموطأ: 588، بلفظه، إلا قوله: "يعظم ذلك" فإنها فيه"يعظهم الله بذلك". وفي المطبوعة: "ليعظم ذلك". (2) في المطبوعة: "ثابت بن بشار"، والصواب من المخطوطة، والدر المنثور 1: 285، وأسد الغابة، وذكر الخبر، ونسبه إلى الطبري وابن المنذر. (3) في المطبوعة: "أو ثلاثا" والصواب من المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 يسأل عن طلاق الضرار فقال: يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، فهذا الضرار الذي قال الله:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا". 4922- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها، ثم يطلقها تطليقة، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها="لتعتدوا"، قال: لا يطاول عليهن. * * * قال أبو جعفر: وأصل"التسريح"، من"سرح القوم"، وهو ما أطلق من نَعَمهم للرعي. يقال للمواشي المرسلة للرعي "هذا سرْح القوم" يراد به مواشيهم المرسلة للرعي. ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [سورة النحل: 5، 6] يعني بقوله:"حين تسرحون"، حين ترسلونها للرعي. فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه: سرحها، تمثيلا لذلك ب"تسريح" المسرح ماشيته للرعي، وتشبيها به. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومن يراجع امرأته = بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة = ضرارا بها ليعتدي حد الله في أمرها،   (1) هذا دليل آخر على أن الطبري كان أحيانا يرجئ تفسير كلمة أو ينساها، لرغبته في الاختصار وإلا فقد مضى"التسريح" آنفًا في الآية: 229، ولم يبينه هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 فقد ظلم نفسه، يعني: فأكسبها بذلك إثما، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك. * * * وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما ليس للفاعل فعله. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، في وحيه وتنزيله = استهزاء ولعبا، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه، ما لكم من الرجعة على نسائكم، في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم منها، وما الوجه الجائز لكم منها، وما الذي لا يجوز، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم ذلك فيه، وكيف وجوه ذلك، رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم، ليجعل بذلك لبعضكم = من مكروه، إن كان فيه من صاحبه ما يؤذيه = المخرج والمخلص بالطلاق والفراق، (2) وجعل ما جعل لكم عليهن من الرجعة سبيلا لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه، بعد فراقه إياهن منهن، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن، إنعاما منه بذلك عليكم، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي -تفضلا مني ببيانه عليكم   (1) انظر مراجع"الظلم" فيما سلف 4: 584، تعليق رقم: 2 (2) في المخطوطة والمطبوعة: "ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج. . . "، وهي جملة لا تكاد تستقيم، وأظن أن الناسخ العجل في هذا القسم من الكتاب، قد عجل كعادته، فنقل"ما يؤذيه""مما هو فيه" جعل"الياء" هاء، وشبك الذال في الياء وجعلها فاء. وسياق الجملة: "ليجعل بذلك لبعضكم المخرج والمخلص. . . من مكروه إن كان -فيه من صاحبه ما يؤذيه"_ أي: في هذا المكروه من صاحبه أذى له، وجملة"فيه من صاحبه ما يؤذيه"، صفة لقوله: "مكروه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 وإنعاما ورحمة مني بكم- لعبا وسخريا. * * * وبمعنى ما قلنا في ذلك قال، أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 4923- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أيوب بن سليمان قال، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، يطلق الرجل أو يعتق فيقال: ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا! قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه = قال الحسن: وفيه نزلت:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا". (1) . 4924- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) الحديث: 4923- عبد الله بن أحمد بن شبويه: مضى في: 1909- أبوه"أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان الخزاعي، أبو الحسن بن شبويه": ثقة، روى عنه ابن معين -وهو من أقرانه- وأبو زرعة وأبو داود، وغيرهم. أيوب بن سليمان بن بلال التيمي: ثقة من شيوخ البخاري. يروى عن أبيه بواسطة ابن أبي أويس. أبو بكر بن أبي أويس: هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله المدني الأعشى، مضى في: 4333. سليمان بن بلال: مضى في 41، 4333. محمد بن أبي عتيق: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، نسب إلى"أبي عتيق" كنية جده"محمد بن عبد الرحمن". وهو ثقة، أخرج له البخاري في صحيحه. سليمان بن أرقم، أبو معاذ البصري: ضعيف جدا، قال البخاري: "تركوه". وقال ابن معين: "ليس يسوى فلسا، وليس بشيء". وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث، ذاهب الحديث". وهو من تلاميذ الزهري، ولكن الزهري يروى عنه أحيانا، كما في هذا الإسناد. وهذا الحديث ضعيف، لإرساله، إلى ضعف راويه سليمان بن أرقم. وقد جاء هذا الحديث المرسل بإسناد أجود من هذا -على إرساله-: فرواه ابن أبي حاتم، عن عصام بن رواد، عن آدم بن أبي إياس، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن. ذكره ابن كثير 1: 555. ثم أشار إلى إسناد الطبري هنا. وذكره السيوطي 1: 286، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا"، قال: كان الرجل يطلق امرأته فيقول: إنما طلقت لاعبا! فنهوا عن ذلك، فقال تعالى ذكره:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا". 4925- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبي العلاء، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم غضب على الأشعريين -فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، غضبت على الأشعريين! فقال: يقول أحدكم:"قد طلقت، قد راجعت"!! ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها. 4926- حدثنا أبو زيد، عن ابن شبة قال، حدثنا أبو غسان النهدي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن أبي خالد -يعني الدالاني- عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:" لم يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك"؟ ليس هذا بطلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل طهرها. (1) * * *   (1) الحديثان: 4925، 4926- إسحاق بن منصور السلولي- في الإسناد الأول: ثقة، أخرج له الأئمة الستة. و"أبو زيد عن ابن شبة" -في الإسناد الثاني: لم أجد في هذه الطبقة من يعرف بأبي زيد، ولا في التي فوقها من يعرف بابن شبة. والظاهر أنه شيخ واحد، محرف عن"أبي زيد عمر بن شبة". أبو غسان النهدي: هو مالك بن إسماعيل بن درهم، مضى في: 2989. يزيد بن عبد الرحمن - في الإسناد الأول: هو"يزيد أبو خالد الدالاني". في الإسناد الثاني. مضت ترجمته في: 875. ووقع في الإسناد الثاني -هنا-"عن يزيد بن أبي خالد"، وزيادة"بن" خطأ. أبو العلاء الأودي: هو داود بن عبد الله الأودي الزعافري. وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وأخطأ من خلط بينه وبين"داود بن يزيد الأودي، عم ابن إدريس". "الزعافري": نسبة إلى"الزعافر"، وهم بطن من"أود". حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري: تابعي ثقة، أخرج له الأئمة الستة. والحديث رواه أيضًا البيهقي 7: 323، من طريق العباس بن محمد الدوري، عن مالك بن إسماعيل، وهو أبو غسان النهدي، عن عبد السلام بن حرب، به. وآخره عنده: "طلقوا المرأة في قبل طهرها". وقوله في الإسناد الثاني: "أنه قال: لم يقول أحدكم لامرأته" - في المطبوعة"لهم" بدل"لم". والظاهر أنها خطأ، فصححناه من رواية البيهقي. وإسنادا الطبري هذان صحيحان. وكذلك إسناد البيهقي. ونقله ابن كثير 1: 554، عن إسناد الطبري الأول، ثم أشار إلى الثاني. ونقله السيوطي 1: 285 - 286، ونسبة لابن ماجه، وابن جرير، والبيهقي. ثم نقله بنحوه 6: 230، ونسبه لعبد بن حميد، وابن مردويه. ورواية ابن ماجه ليست بهذا اللفظ، ولا من هذا الوجه. فرواه ابن ماجه: 2017، عن محمد بن بشار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، مرفوعا: "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله؟ يقول أحدهم: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك!! " وقال البوصيري في زوائده: "إسناده حسن، مؤمل بن إسماعيل اختلف فيه، فقيل: ثقة. وقيل: كثير الخطأ، وقيل: منكر الحديث". وقد أخطأ البوصيري من وجهين. فإن مؤمل بن إسماعيل ثقة، كما بينا في: 2057. ثم هو لم ينفرد بروايته حتى يعل به. فقد رواه البيهقي 7: 322، من طريق موسى بن مسعود النهدي، عن سفيان، وهو الثوري، بهذا الإسناد. ثم رواه أيضًا من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري. وموسى بن مسعود: ثقة، كما بينا في: 280، 1693. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام، الذي أنعم عليكم به فهداكم له، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه، واذكروا أيضا مع ذلك ما أنزل عليكم من كتابه، وذلك: القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم، (1) واذكروا ذلك فاعملوا به، واحفظوا حدوده فيه = و"الحكمة"، يعني: وما أنزل عليكم من الحكمة، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنها لكم.   (1) في المطبوعة: "من كتابه ذلك القرآن"، وهو سهو من الكاتب والصواب من المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى"الحكمة" فيما مضى قبل في قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (1) [سورة البقرة: 129] ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يعظكم به"، يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم = والهاء التي في قوله:"به"، عائدة على الكتاب. "واتقوا الله"، يقول: وخافوا الله = فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم لكم = أن تضيعوه وتتعدوا حدوده، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ونكال عذابه. وقوله:"واعلموا أن الله بكل شيء عليم"، يقول: واعلموا أيها الناس أن ربكم = الذي حد لكم هذه الحدود، وشرع لكم هذه الشرائع، وفرض عليكم هذه الفرائض، في كتابه وفي تنزيله على رسوله محمد صلي الله عليه وسلم= بكل ما أنتم عاملوه- من خير وشر، وحسن وسيئ، وطاعة ومعصية، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره، شيء، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا، وبالسيئ سيئا، إلا أن يعفو ويصفح، فلا تتعرضوا لعقابه وتظلموا أنفسكم. (3)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ويعلمكم الكتاب"، وصوابها هنا ما أثبت. (2) انظر ما سلف 3: 87، 88. (3) في المطبوعة: "ولا تظلموا أنفسكم"، والصواب من المخطوطة بحذف"لا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوجها من ابن عم لها فطلقها، وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه، وهي فيه راغبة. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك، فنزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم كان ذلك الرجل:"معقل بن يسار المزني". * ذكر من قال ذلك: 4927- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: كانت أخته تحت رجل فطلقها، ثم خلا عنها، (1) حتى إذا انقضت عدتها خطبها، فحمي معقل من ذلك، أَنَفًا، (2) وقال: خلا عنها وهو يقدر عليها!! (3) فحال بينه وبينها، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف". (4)   (1) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خَلَّى عَنْها" في الموضعين، وهي بمعناها. (2) قال ابن حجر في الفتح: "حمى - بكسر ثانية، وأنفًا، بفتح الهمزة والنون، أي ترك الفعل غيظا وترفعا" وحمى: أخذته الحمية، وهي الأنفة والغيرة. (3) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خلى عنها" في الموضعين، وهي بمعناها. (4) الأثر: 4927- أخرجه البخاري بروايته عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى (الفتح 9: 425-426) ، وفي رواية البخاري زيادة: "فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه. فترك الحمية واستقاد لأمر الله". وستأتي في مرسل قتادة الآتي برقم: 4930، وسأشرحها في التعليق هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 4928- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن معقل بن يسار: أن أخته طلقها زوجها، فأراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" إلى آخر الآية. (1) 4929- حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب وأمنعها الناس، حتى خطب إلي ابن عم لي فأنكحتها، فاصطحبا ما شاء الله، ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم خطبت إلي، فأتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس، فآثرتك بها، ثم طلقت طلاقا لك فيه رجعة، فلما خُطبت إلي آتيتني تخطبها مع الخطاب! والله لا أنكحكها أبدا! قال: ففي نزلت هذه الآية:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه. (2) 4930- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا   (1) الأثر: 4928- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 280 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يخرجاه"، وعقب عليه الذهبي فقال: "الفضل، ضعفه ابن معين، وقواه غيره". بيد أن ابن أبي حاتم ذكر في ترجمته في الجرح والتعديل 3/2/61: "سئل يحيى بن معين عن الفضل بن دلهم فقال: حديثه صالح" وانظر الاختلاف في أمر الفضل في ترجمته في التهذيب. (2) الأثر: 4929-"محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي" (بضم الميم وفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة، نسبة إلى"المخرم"، وهي محلة كانت ببغداد، بين الرصافة ونهر المعلى. توفي ببغداد سنة 260، قال النسائي: "كان أحد الثقات، ما رأينا بالعراق مثله". وقال الدارقطني: "ثقة جليل متقن". وقد مضت رواية الطبري عنه رقم: 3730. وكان في المطبوعة: "المخزومي". وهذا الأثر، أخرجه البخاري بروايته عن عبيد الله بن سعيد، عن أبي عامر العقدي، ولم يذكر إلا صدر الخبر، ليثبت به تحديث الحسن عن معقل لقوله: "حدثني معقل بن يسار" (فتح الباري 8: 143) . وأخرجه أبو داود، بروايته عن محمد بن المثنى، عن أبي عامر العقدي، وهو مختصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 تراضوا بينهم بالمعروف"، ذكر لنا أن رجلا طلق امرأته تطليقة، ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها، ثم قرب بعد ذلك يخطبها = والمرأة أخت معقل بن يسار= فأنف من ذلك معقل بن يسار، وقال: خلا عنها وهي في عدتها، ولو شاء راجعها، ثم يريد أن يراجعها وقد بانت منه! فأبى عليها أن يزوجها إياه. وذكر لنا أن نبي لله، لما نزلت هذه الآية، دعاه فتلاها عليه، فترك الحمية واستقاد لأمر الله. (1) 4931- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن"، إلى آخر الآية، قال: نزلت هذه الآية في معقل بن يسار. قال الحسن: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرشتك أختي وأكرمتك، ثم طلقتها، ثم جئت تخطبها! لا تعود إليك أبدا! قال: وكان رجل صدق لا بأس به، وكانت المرأة تحب أن ترجع إليه، قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف". قال، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله! فزوجها منه. (2)   (1) الأثر: 4930- هو إسناد الطبري الدائر في التفسير، من تفسير قتادة، بيد أنه من معنى رواية قتادة عن الحسن، رقم: 4927، وفي آخر الزيادة التي أشرنا إليه في رواية البخاري للأثر السالف. و"الحمية" الأنفة والغضب. واستفاد للشيء، أذعن وأطاع، من"قاد الدابة يقودها". أي ألقى بقيادة غير جامح ولا معاند. (2) الأثر: 4931- أخرجه البخاري. قال: "حدثنا أحمد بن أبي عمر، قال حدثنا أبي، قال حدثني إبراهيم، عن يونس" و"أحمد بن أبي عمر" هو: أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد. و"إبراهيم" هو: "إبراهيم بن طهمان، و"يونس" هو: يونس بن عبيد (الفتح 9: 160) وقد استقصى الكلام فيه الحافظ ابن حجر، ثم ذكره في (الفتح 8: 143) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 174، والبيهقي في السنن 7: 138، كلاهما من طريق أحمد بن حفص بمثل رواية البخاري، وهي مثل رواية الطبري، وإن كان فيها خلاف في بعض اللفظ، كما أشار إليه الحافظ في الفتح، وذكر ما فيه من الروايات. وها هنا خلاف لم يذكره الحافظ في قوله: "فرشتك أختي"، فهكذا هو في المخطوطة والمطبوعة، وفي المستدرك والذهبي جميعا، وفي سائر الروايات"أفرشتك"، وهما صواب في العربية جميعا. من قولهم: "فرشت فلانا بساطا واْفرشته إياه": إذا بسطته له. وفرش له أخته وأفرشها له: جعلها له فراشا. والفراش كناية عن المرأة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 4932- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كانت أخت معقل بن يسار تحت رجل فطلقها، فخطب إليه فمنعها أخوها، (1) فنزلت:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن" إلى آخر الآية. 4933- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، قال: نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبينت منه، فنكحها آخر، فعضلها أخوها معقل بن يسار، يضارها خيفة أن ترجع إلى زوجها الأول = قال ابن جريج، وقال عكرمة: نزلت في معقل بن يسار. قال ابن جريج: أخته جمل ابنة يسار، كانت تحت أبي البداح، (2) طلقها، فانقضت عدتها، فخطبها، فعضلها معقل بن يسار. 4934- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها، فعضلها أخوها أن ترجع إلى زوجها الأول = وهو معقل بن يسار أخوها.   (1) في المخطوطة: "إخوتها"، والذي في المطبوعة أحرى بالصواب، لمشاكلته سائر الروايات. (2) في المطبوعة: "جميل" بوزن التصغير، كما قال ابن حجر في الفتح والإصابة (9: 160) والذي في المخطوطة مضبوط بالقلم"جمل" بضم الجيم. وقد ذكرها فيه أيضًا وفي الإصابة (بضم أوله وسكون الميم) . وقال ابن حجر أنه وقع في تفسير الطبري"جميل"، ولكن هذه المخطوطة شاهدة على اختلاف نسخ الطبري. واختلف في اسمها واسم"أبي البداح" اختلاف طويل، فراجعه في فتح الباري 9: 160، والإصابة. وسيأتي في رقم: 4936 أن اسمها"فاطمة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 4935- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله = إلا أنه لم يقل فيه:"وهو معقل بن يسار". 4936- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق الهمداني: أن فاطمة بنت يسار طلقها زوجها، ثم بدا له فخطبها، فأبى معقل، فقال: زوجناك فطلقتها وفعلت! فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن". (1) 4937- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"فلا تعضلوهن"، قال: نزلت في معقل بن يسار، كانت أخته تحت رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها، فعضلها معقل فأبى أن ينكحها إياه، فنزلت فيها هذه الآية، يعني به الأولياء، يقول:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن". 4938- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن رجل، عن معقل بن يسار قال: كانت أختي عند رجل فطلقها تطليقة بائنة، فخطبها، فأبيت أن أزوجها منه، فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، الآية. * * * وقال آخرون كان الرجل:"جابر بن عبد الله الأنصاري". * ذكر من قال ذلك: 4939- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: نزلت في جابر بن عبد الله   (1) الأثر: 4936-"أبو إسحاق الهمداني"، هو"أبو إسحاق السبيعي، عمرو بن عبد الله بن عبيد، من سبيع، والسبيع من همدان" روى عن علي والمغيرة بن شعبة، ومات سنة 126. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 الأنصاري، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها. فأما جابر فقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته. فنزلت هذه الآية. * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل مضارة وليَّته من النساء، يعضلها عن النكاح. * ذكر من قال ذلك: 4940- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له في تزويجها وأن يراجعها، وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله سبحانه أن يمنعوها. 4941- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، كان الرجل يطلق امرأته تبين منه وينقضي أجلها، (1) ويريد أن يراجعها وترضى بذلك، فيأبى أهلها، قال الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف". 4942- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق في قوله:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" قال: كان الرجل يطلق امرأته ثم يبدو له أن يتزوجها، فيأبى أولياء المرأة أن يزوجوها، فقال الله تعالى ذكره:"فلا   (1) في المطبوعة: "تبين منه" بغير فاء، والصواب من المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف". 4943- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيم في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، قال: المرأة تكون عند الرجل فيطلقها، ثم يريد أن يعود إليها، فلا يعضلها وليها أن ينكحها إياه. 4944- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، فإذا طلق الرجل المرأة وهو وليها، فانقضت عدتها، فليس له أن يعضلها حتى يرثها، ويمنعها أن تستعف بزوج. 4945- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن"، هو الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يسكت عنها فيكون خاطبا من الخطاب، فقال الله لأولياء المرأة:"لا تعضلوهن"، يقول: لا تمنعوهن أن يرجعن إلى أزواجهن بنكاح جديد ="إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، = إذا رضيت المرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في هذه الآية أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء، بعضلهن عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهن، فبن منهن بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأمر أخته، أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه. وأي ذلك كان، فالآية دالة على ما ذكرت. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 ويعني بقوله تعالى:"فلا تعضلوهن"، لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد، تبتغون بذلك مضارتهن. * * * يقال منه:"عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلا"، وقد ذكر لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها:"عضل يعضل". فمن كان من لغته"عضل"، فإنه إن صار إلى"يفعَل"، قال:"يعضَل" بفتح"الضاد". والقراءة على ضم"الضاد" دون كسرها، والضم من لغة من قال"عضل". (1) * * * وأصل"العضل"، الضيق، ومنه قول عمر رحمة الله عليه:"وقد أعضل بي أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال"، (2) يعني بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به. ومنه أيضا"الداء العضال" وهو الداء الذي لا يطاق علاجه، لضيقه عن العلاج، وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علاج، ومنه قول ذي الرمة: ولم أقذف لمؤمنة حصان ... بإذن الله موجبة عضالا (3)   (1) هذا البيان لا تجده في كتب اللغة، وليس فيها ما رواه عن لغة هذا الحي من العرب. وقوله"عضل يعضل" بكسر الضاد الأولى وفتح الثانية، مضبوط بالقلم في المخطوطة، كما ضبطت سائر الأفعال. (2) روى الزمخشري وصاحب اللسان في مادة (عضل) : "أعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون بأمير ولا يرضى عنهم أمير" ثم قال الزمخشري: "وروى: غلبني أهل الكوفة، أستعمل عليهم المؤمن فيضعف، وأستعمل عليهم الفاجر فيفجر! " (3) ديوانه 441- من أبيات وصف بها صنعة شعره فقال: وشعر قد أرقت له غريب ... أجنبه المساند والمحالا غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا فبت أقيمه، وأقد منه ... قوافي لا أعد لها مثالا غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا فلم أقذف. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا البيت الأخير، يعرض فيه بأئمة الهجاء في عصره، جرير والفرزدق والأخطل وسائر من تراموا بالسباب. والحصان: العفيفة الطاهرة. والموجبة: أي التي توجب حد القذف، أو توجب النار، أعاذنا الله منها! والعضال: التي لا مخرج منها ولا علاج لها. وسياق البيت: ولم أقذف موجبة عضالا -لمؤمنة حصان. . . يعني: لم أرم الكلمة الشائنة والسباب الفاحش، أبغي به أمرأة عفيفة قد برأها الله مما يقال. ورواية الديوان"بحمد الله"، وهي أجود. هذا والبيت في المخطوطة فاسد: "لرمته حصال"!! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 ومنه قيل:"عضل الفضاء بالجيش لكثرتم"، إذا ضاق عنهم من كثرتهم. وقيل:"عضلت المرأة"، إذا نشب الولد في رحمها فضاق عليه الخروج منها، ومنه قول أوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا (1) ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا * * * و"أن" التي في قوله:"أن ينكحن"، في موضع نصب قوله:"تعضلوهن". ومعنى قوله:"إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، إذا تراضى الأزواج والنساء بما يحل، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهن من المهور، (2) ونكاح جديد مستأنف، كما:- 4946- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عمير بن عبد الله، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أنكحوا الأيامى. فقال رجل: يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال:"ما تراضى عليه أهلوهم". (3)   (1) ديوانه، القصيدة: 31. وهما بيتان قد كشفا عن سرائر الناس بلا مداجاة. فقلما تظفر بذلك. (2) الأبضاع جمع بضع (بضم فسكون) : وهو الفرج، والجماع، وعقد النكاح، والمهر، والمراد الأول. (3) الحديث: 4946- عبد الرحمن: هو ابن مهدي. سفيان: هو الثوري. عمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي: ثقة، وثقه ابن نمير وغيره. عبد الملك بن المغيرة الطائفي: تابعي ثقة، وهو يروي هنا عن تابعي آخر. عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر: تابعي ثقة، تكلم فيه بعض العلماء، والحق أن ما أنكر من حديثه إنما جاء مما رواه عنه ابنه محمد. وأما هو فثقة. وهذا الحديث ضعيف، لأنه مرسل. وقد رواه البيهقي 7: 239، من طريق قيس بن الربيع، عن عمير بن عبد الله، بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق حفص بن غياث وأبي معاوية، عن حجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، ثم قال: "هذا منقطع". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 4947- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن الحارث قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم، بنحو منه. (1) * * * قال أبو جعفر: وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال:"لا نكاح إلا بولي من العصبة". وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها -لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها إن كانت متى أردات النكاح جاز لها إنكاح نفسها، أو إنكاح من توكله إنكاحها، (2)   (1) الحديث: 4947- هو تكرار للحديث قبله، ولكنه في هذا متصل، بذكر"ابن عمر" فيه. وهو ضعيف أيضًا. بل هو أشد ضعفا من ذاك المرسل. محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع الحارثي: ثقة، متكلم فيه. وقد فصلنا القول في ترجيحه، في شرح المسند: 5371. محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني: ضعيف جدا، والبلاء في أحاديث أبيه، ثم في أحاديث محمد ابن الحارث الحارثي -إنما هو من ناحيته. روى عن أبيه أحاديث مناكير لا أصل لها، أو مراسيل لا أصل لوصلها، وروى عنه محمد الحارثي - فتكلم في كل منهما من أجله. وقد فصلنا القول في تضعيفه، في شرح المسند: 4910. وهذا الحديث رواه البيهقي 7: 239، من طريق بندار، وهو محمد بن بشار، شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق أبي عبد الرحمن الحضرمي صالح بن عبد الجبار، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عباس! ثم نقل عن أبي أحمد بن عدي، قال: محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف. ومحمد بن الحارث ضعيف. والضعف على حديثهما بين". ونقله السيوطي 1: 287، من حديث ابن عمر، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه. ثم سكت عن ضعفه. (2) في المطبوعة: "من توكله إنكاحها" بإسقاط الباء، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه، صحة القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقا لا يصح عقده إلا به. وهو المعنى الذي أمر الله به الولي:= من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به، وكان رضى عند أوليائها، جائزا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله= ونهاه عن خلافه: من عضلها، ومنعها عما أرادت من ذلك، وتراضت هي والخاطب به. * * * القول في تأويل قوله تعالى ذكره {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله ذلك، ما ذكر في هذه الآية: من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح، يقول: فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح، عظة مني من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الآخر- يعني يصدق بالله، فيوحده، ويقر بربوبيته، (1) "واليوم الآخر" يقول: ومن يؤمن باليوم الآخر، فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب، (2) ليتقي الله في نفسه، فلا يظلمها بضرار وليته ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها، ممن أذنت لها في نكاحه. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ذلك يوعظ به"، وهو   (1) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" في مادة (أمن) من فهارس اللغة في الأجزاء الماضية. (2) انظر ما سلف في تفسير"اليوم الآخر" 1: 271 / 2: 148. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 خطاب لجميع، وقد قال من قبل:"فلا تعضلوهن"؟ وإذا جاز أن يقال في خطاب الجميع"ذلك"، أفيجوز أن تقول لجماعة من الناس وأنت تخاطبهم:"أيها القوم، هذا غلامك، وهذا خادمك"، وأنت تريد: هذا خادمكم، وهذا غلامكم؟ قيل: لا إن ذلك غير جائز مع الأسماء الموضوعات، (1) لأن ما أضيف له الأسماء غيرها، (2) فلا يفهم سامع سمع قول قائل لجماعة:"أيها القوم، هذا غلامك"، أنه عنى بذلك هذا غلامكم - إلا على استخطاء الناطق في منطقه ذلك. فإن طلب لمنطقه ذلك وجها في الصواب، (3) صرف كلامه ذلك إلى أنه انصرف عن خطاب القوم بما أراد خطابهم به، إلى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم، وترك مجاوزة القوم بما أراد مجاوزتهم به من الكلام. (4) وليس ذلك كذلك في"ذلك" لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها، حتى صارت"الكاف" -التي هي كناية اسم المخاطب فيها- كهيئة حرف من حروف الكلمة التي هي متصلة. وصارت الكلمة بها كقول القائل:"هذا"، كأنها ليس معها اسم مخاطب. (5) فمن قال:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر"، أقر"الكاف" من"ذلك" موحدة مفتوحة في خطاب الواحدة من النساء، والواحد من الرجال، والتحدثنية، والجمع. ومن قال:"ذلكم يوعظ به"، كسر"الكاف" في خطاب الواحدة من النساء، وفتح في خطاب الواحد من الرجال، فقال في خطاب الاثنين   (1) "الأسماء الموضوعات"، كأن"الاسم الموضوع"، هو"الاسم المتمكن، أو المعرب"، ضريع"الاسم غير المتمكن، أو المبني". (2) قوله: "غيرها"، أي غير الأسماء. (3) في المطبوعة: "وجها فالصواب"، وهي خطأ محض، والصواب من المخطوطة. (4) في المطبوعة: "مجاوزة القوم. . . مجاوزتهم" بالجيم والزاي في الموضعين، وهو كلام غير بصير. والصواب ما في المخطوطة وما يقتضيه السياق. (5) يعني أنها صارت بمنزلة"هذا" في جريها كأنها كلمة واحدة، وهي مركبة من"الهاء" و"ذا"، الذي هو اسم إشارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 منهم: (1) "ذلكما"، وفي خطاب الجمع"ذلكم". وقد قيل: إن قوله:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله"، خطاب للنبي صلي الله عليه وسلم، ولذلك وحد (2) ثم رجع إلى خطاب المؤمنين بقوله:"من كان منكم يؤمن بالله". وإذا وجه التأويل إلى هذا الوجه، لم يكن فيه مؤونة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله"ذلكم" نكاحهن أزواجهن، ومراجعة أزواجهن إياهن، (3) بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد="أزكى لكم"، أيها الأولياء والأزواج والزوجات. * * * ويعني بقوله:"أزكى لكم"، أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن. وقد دللنا فيما مضى على معنى"الزكاة"، فأغنى ذلك عن إعادته. (4) * * * وأما قوله:"وأطهر"، فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة. وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب، لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال في خطاب. . . " بالفاء، وهو لا يستقيم. (2) في المطبوعة"ولذلك وجه"، وهو كلام مسلوب المعنى، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "نكاح أزواجهن لهن"، وفي المخطوطة: "نكاحهن أزواجهن لهن"، والذي في المطبوعة وجه من التصحيح لما في المخطوطة، ولكني رأيت أن للتصحيح وجها آخر، هو حذف"لهن". وذلك لأنه أراد بقوله: "نكاحهن أزواجهن"، ما جاء في الآية: "أن ينكحن أزواجهن" بإسناد"النكاح" إلى النساء، فلذلك آثرت هذا التصحيح، ولئلا يكون في الكلام تكرير لقوله بعد"ومراجعة أزواجهن إياهن". (4) انظر ما سلف 1: 573-574 /2: 297 / 3: 88. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر الله تعالى ذكره الأولياء -إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة، بنكاح مستأنف، في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع (1) = أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك، وأن يزوجها. لأن ذلك أفضل لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة. (2) ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع، أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك= لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة، فقال لهم تعالى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به، إن كنتم تؤمنون بي، وبثوابي وبعقابي في معادكم في الآخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة. وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والنساء اللواتي بن من أزواجهن،   (1) في المطبوعة: "أذن الله لهما"، والمخطوطة ليس فيها زيادة"الله". (2) "سبوق" مصدر"سبق"، لم يرد في كتب اللغة، ولكن الطيري يكثر استعماله كما أشرنا إليه آنفًا في الجزء 4: 287، 288 / ثم: 427 / ثم: 446، والتعليقات عليها. (3) هذا كلام حبر رباني حكيم، قد فقهه الله في أمور دينه، وآتاه الحكمة في أمور دنياه، وعلمه من تأويل كتابه، فحمل الأمانة وأداها، ونصح للناس فعلمهم وفطنهم، ولم يشغله في تفسير كتاب ربه نحو ولا لغة ولا فقه ولا أصول -كما اصطلحوا عليه- عن كشف المعاني للناس مخاطبا بها قلوبهم وعقولهم، ليبين لهم ما أنزل الله على نبيه، بالعهد الذي أخذه الله على العلماء. فرحم الله أبا جعفر، وغفر الله للمفسرين من بعده. وقلما تصيب مثل ما كتب في كتاب من كتب التفسير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق، أو ولدنهم منهم، (1) بعد فراقهم إياهن، من وطء كان منهم لهن قبل البينونة ="يرضعن أولادهن"، يعني بذلك: أنهن أحق برضاعهم من غيرهم. وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم، إذا كان المولود له ولد، (2) حيا موسرا. لأن الله تعالى ذكره قال في"سورة النساء القصرى" (3) (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: 6] ، فأخبر تعالى ذكره: (4) أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها. فكان معلوما بذلك أن قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الوالدان في رضاع المولود بعده، جعل حدا يفصل به بينهما، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"حولين"، فإنه يعني به سنتين، كما:- 4948- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، سنتين.   (1) في المطبوعة: "أو أولدنهم"، وهو خطأ فاحش. والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة"والدا"، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) هي"سورة الطلاق"، السورة الخامسة والستون من كتاب الله. وسموها"القصرى" لتسميتهم السورة الرابعة من القرآن: "سورة النساء الطولى"، للفرق بينهما. (4) في المطبوعة: "وأخبر تعالى أن الوالدة. . . "، والزيادة من المخطوطة. وفيهما جميعا"وأخبر" بالواو، والسياق يقتضي الفاء كما أثبتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 4949- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وأصل"الحول" من قول القائل:"حال هذا الشيء"، إذا انتقل. ومنه قيل:"تحول فلان من مكان كذا"، إذا انتقل عنه. * * * فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر"كاملين" في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، بعد قوله:"يرضعن حولين"، وفي ذكر"الحولين" مستغنى عن ذكر"الكاملين"، (1) إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين" ما يراد به؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟. قيل: إن العرب قد تقول:"أقام فلان بمكان كذا حولين، أو يومين، أو شهرين"، وإنما أقام به يوما وبعض آخر، أو شهرا وبعض آخر، أو حولا وبعض آخر، فقيل:"حولين كاملين" ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، (2) لا حول وبعض آخر. (3) وذلك كما قال الله تعالى ذكره: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [سورة البقرة: 203] . ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف، وكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، (4) وأنه ليس منه شيء تام، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة فتقول:"اليوم يومان منذ لم أره"،   (1) في المطبوعة: "وفي ذكر الحولين" بإسقاط"الهاء" الضمير. (2) في المطبوعة: "ليعرف سامع ذلك"، بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر ما سلف في تفسير قوله تعالى: "ولتكملوا العدة" 3: 476، 477 / ثم تفسير قوله تعالى: "تلك عشرة كاملة" في الجزء 4: 108، 109. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "فكذلك ذلك" بالفاء وهو خطأ مخل، والصواب ما أثبت. وفي معاني القرآن للفراء 1: 119: "وكذلك هو في اليوم. . . ". نص كلامه. ويعني أن اليوم الثالث من أيام التشريق هو أيضًا يوم غير تام. وانظر التعليق التالي ص: 33 رقم: 2 والمراجع فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر. وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة، على العام والزمان واليوم، فتقول:"زرته عام كذا - (1) وقتل فلان فلانا زمان صفين"، وإنما تفعل ذلك، لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه، فجاز أن ينطق"بالحولين"، و"اليومين"، على ما وصفت قبل. لأن معنى الكلام في ذلك: فعلته إذ ذاك، وفي ذلك الوقت. (2) فكذلك قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين (3) = (4) وكان الكلام لو أطلق في ذلك، بغير تضمين الحولين بالكمال، (5) وقيل:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر= نفي اللبس عن سامعيه بقوله: (6) "كاملين" أن يكون مرادا به حول وبعض آخر، وأبين بقوله:"كاملين" عن وقت تمام حد الرضاع، وأنه تمام الحولين بانقضائهما، دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية، من مبلغ غاية رضاع المولودين: أهو حد لكل مولود، أو هو حد لبعض دون بعض؟   (1) في المطبوعة: "رزقه عام كذا"، وهو كلام لا خير فيه، والصواب من المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة، وحروفها بسيطة القلم. (2) سلف هذا بغير هذا اللفظ في الجزء 4: 120، 121 وكثير من لفظه هنا في معاني القرآن للفراء 1: 119 - 120، ومن الموضعين صححنا ما صححناه آنفًا. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "لما كان الرضاع. . . " وهو تصحيف مخل جدا، والسياق يقتضي قراءته كما أثبت، حتى يستقيم المعنى. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان" بالفاء، والصواب بالواو، عطفا على قوله: "لما جاز. . . " (5) في المطبوعة: "تضمين الحولين بالكمال"، وفي المخطوطة: "تضمين" بغير نقط، والميم كأنها هاء قصيرة، ورجحت أن ذلك من عجلة الناسخ، وأن صوابها"تبيين"، لقوله بعد قليل: "وأبين بقوله: كاملين. . . "، لأن البيان هو التفسير، ومن الصفة تفسير وبيان. (6) سياق العبارة: "لما جاز الرضاع. . . وكان الكلام لو أطلق. . . نفى اللبس، جواب"لما". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 فقال بعضهم: هو حد لبعض دون بعض. * ذكر من قال ذلك: 4950- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في التي تضع لستة أشهر: أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا. 4951- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، بمثله، ولم يرفعه إلى ابن عباس. 4952- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي عبيد، قال: رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر، فقال: إنها رفعت [إلي امرأة] ، لا أراها إلا قد جاءت بشر -أو نحو هذا- ولدت لستة أشهر! فقال ابن عباس: إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. قال: وتلا ابن عباس: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف: 15] ، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. فخلى عثمان سبيلها. (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه، (2)   (1) الخبر: 4952- أبو عبيد: هو سعد بن عبيد، "مولى عبد الحمن بن أزهر"، ويقال له أيضًا: "مولى عبد الرحمن بن عوف". قال البخاري في الكبير 2 / 2 / 61: "لأنهما ابنا عم". وقال في صحيحه 4: 209"قال ابن عيينة: من قال مولى ابن أزهر، فقد أصاب، ومن قال مولى عبد الرحمن بن عوف، فقد أصاب". وهو تابعي ثقة قديم، من فقهاء أهل المدينة، روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم. ووقع في المطبوعة: "عن أبي عبيدة"، وهو خطأ، صححناه من كتاب المصنف لعبد الرزاق ج4 ورقة 97، وفيه: "عن أبي عبيد، مولى عبد الحمن بن عوف". ونقله السيوطي 6: 40، ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، فقط. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "إنها رفعت لا أراها"، وفي مصنف عبد الرزاق: "رفعت إلى امرأة، لا أراه إلا قال: وقد جاءت بشر". (2) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لإرضاع"، وما بينها بياض كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص: 34، 35، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 فأراد أحدهما البلوغ إليه، والآخر التقصير عنه. * ذكر من قال ذلك: 4953- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم قال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده. 4954- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه -لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء. (1) 4955- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران (2) = وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء= جميعا، عن الثوري في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان. قال: فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك. وإذا قالت المرأة:"أنا أفطمه قبل الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور". * * * وقال آخرون: بل دل الله تعالى ذكره بقوله:"والوالدات يرضعن أولادهن   (1) في المطبوعة: "إلا أن تشاء"، والصواب ما أثبت من المخطوطة. أي: إلا أن يشاء الزوج، ويوافقها على ما تريد من الزيادة. (2) هو"مهران بن أبي عمر العطار، أبو عبد الله الرازي". قال أبو حاتم ثقة صالح الحديث. وروى له ابن عدي أحاديث من رواية محمد بن حميد عنه، ثم قال: "وكل هذه الأحاديث عن مهران إلا القليل، يرويه عن مهران محمد بن حميد، وابن حميد له شغل في نفسه مما رواه عن الناس! ومهران خير منه". وقال الساجي: "في حديثه اضطراب، وهو من أكثر أصحاب الثوري رواية عنه". وقال العقيلي: "روي عن الثوري أحاديث لا يتابع عليها". وقال ابن حبان: "أسلم على يد الثوري، وله صنف (الجامع الصغير) ". التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 حولين كاملين"، على أن لا رضاع بعد الحولين، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين. * ذكر من قال ذلك: 4956- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، أخبرنا ابن أبي ذئب قال، حدثنا الزهري، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا إن الله تعالى ذكره يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا (1) 4957- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: كان ابن عمر وابن عباس يقولان: لا رضاع بعد الحولين. 4958- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الشيباني، عن أبي الضحى، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله قال: ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع. 4959- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين فقال: لا ترضعيه. 4960- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني قال: سمعت الشعبي يقول: ما كان من وجور أو سعوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرم، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا. (2)   (1) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط"بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف. (2) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط (بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 4961- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن عبد الله، أنه قال: لا رضاع بعد فصال، أو بعد حولين. 4962- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ليس يحرم من الرضاع بعد التمام، إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم (1) 4963- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس قال: لا رضاع بعد فصال السنتين. 4964- حدثنا هلال بن العلاء الرقي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى قال: سمعت ابن عباس يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: لا رضاع إلا في هذين الحولين. (2) * * * وقال آخرون: بل كان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"،   (1) الأثر: 4962-"الحسن بن عطية بن نجيح القرشي أبو علي البزار" روىعن الحسن وعلي ابني صالح، ويعقوب القمي، وحمزة الزيات، وإسرائيل بن يونس وطبقتهم. وعنه البخاري في التايخ، وعبد الأعلى بن واصل، وأبو كريب، وأبو زرعة، وأبو حاتم، صدوق. مات سنة 211. (2) الأثر: 4964- هلال بن العلاء بن هلال بن عمرو الباهلي، أبو عمرو الرقى". قال أبو حاتم: "صدوق" وقال النسائي: "صالح"، وقال في موضع آخر: "ليس به بأس، روى أحاديث منكرة عن أبيه، فلا أدري: الريب منه أو من أبيه". وذكره ابن حبان في الثقات. ولد سنة 184، ومات سنة 280. والعلاء بن هلال" أبوه، روى عن عبد الله بن عمرو الرقى، وخلف بن خليفة ومعتمر بن سليمان وجماعة. قال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث". وذكره ابن حبان في الضعفاء وقال: "يقلب الأسانيد ويغير الأسماء، فلا يجوز الاحتجاج به" ولد سنة 150، ومات سنة 215. و"عبيد الله"، هو: عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقى. روى عن عبد الملك بن عمير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي أنيسة وغيرهم. قال أبو حاتم: "صالح الحديث ثقة صدوق، لا أعرف له حديثا منكرا". ولد سنة 101 ومات سنة 180. و"زيد" هو: زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي، قال ابن سعيد"كان يسكن الرها، ومات بها". كان ثقة كثير الحديث، فقيها، راوية للعلم. مات سنة 125، وهو ابن ست وثلاثين سنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 دلالة من الله تعالى ذكره عباده، (1) على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله:"لمن أراد أن يتم الرضاعة"، فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود، كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود (2) * ذكر من قال ذلك: 4965- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك، فقال تعالى ذكره:"لمن أراد أن يتم الرضاعة". 4966- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، يعني المطلقات، يرضعن أودهن حولين كاملين. ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك، فقال:"لمن أراد أن يتم الرضاعة". * * * * ذكر من قال: إن"الوالدات"، اللواتي ذكرهن الله في هذا الموضع: البائنات من أزوجهن، على ما وصفنا قبل. (3) 4967- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف"، أما"الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها. 4968- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك،   (1) قوله: "عباده" منصوب مفعول به للمصدر"دلالة". (2) النظر: اختيار أحسن الأمور له، في الرعاية والحفظ والكلاءة، وطلب المصلحة. (3) انظر ما سلف في أول تفسير الآية ص: 30، 31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا. 4969- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، القول الذي رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ووافقه على القول به عطاء والثوري= والقول الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر: وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في رضاع المولود إذا اختلف والداه في رضاعه، (1) وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا، وأنه معني به كل مولود، لستة أشهر كان ولاده أو لسبعة أو لتسعة. (2) * * * فأما قولنا:"إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه"، فلأن الله تعالى ذكره لما حد في ذلك حدا، كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما دونه. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن للحد معنى معقول. وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل، لما كان وقت رضاع، كان ما وراءه غير وقت له، وأنه وقت لترك الرضاع= وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين، وكان التام من الأشياء لا معنى إلى الزيادة (3)   (1) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لا رضاع"، وما بينهما بياض كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص: 34، 35، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة. (2) ولدت المرأة تلد ولادا وولادة - بكسر الواو فيهما، بمعنى. (3) في المطبوعة: "وكان التمام من الأشياء لا معنى للزيادة فيه"، وهو كلام لا محصول له. وفي المخطوطة: "ولما كان التمام من الأشيا لا معنى للزيادة فيه" مع بياض بين الكلمتين، وهذا دليل على أن الناسخ ظن أن في الكلام سقطا، ولكن الحقيقة أن فيه تحريفا، قرأ"التام""التمام"، وقد أثبتنا الصواب الذي لا صواب غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 فيه، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين = وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما، كان ما وراءه غير محرم. وإنما قلنا:"هو دلالة على أنه معني به كل مولود، لأي وقت كان ولاده، لستة أشهر أو سبعة أو تسعة"، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض. وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه، أو على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم- في كتابنا (كتاب البيان عن أصول الأحكام) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. * * * فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى ذكره: قد بين ذلك بقوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف: 15] ، فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله تعالى ذكره. فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد في مدة الرضاع، وما زيد في مدة الحمل، نقص من مدة الرضاع. وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا، كما حده الله تعالى ذكره. قيل له: فقد يجب أن يكون مدة الحمل -على هذه المقالة- إن بلغت حولين كاملين، ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر، وإن بلغت أربع سنين، أن يبطل الرضاع فلا ترضع، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته = (1) أو يزعم قائل هذه المقالة: أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر، فيخرج من قول جميع الحجة، ويكابر الموجود والمشاهد، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك. فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة، وضح لذوي الفهم فساد قوله. * * *   (1) عطف على قوله: "فقد يجب أن تكون مدة الحمل". . . "أو يزعم. . . " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله -إن كان الأمر على ما وصفت-:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله تعالى ذكره، نظير ما دون حده في الحكم؟ وقد قلت: إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا؟ قيل: إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه، كما جعل قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع، (1) وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه، وإرادة أحدهما الضرار به. وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه. (2) فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها، فيضعنه متى شئن، ويتركن وضعه إذا شئن= كان معلوما أن قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا= لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا، لما وصفنا. وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) (3) [سورة الأحقاف: 15] .   (1) في المطبوعة: "لرضاع المولود التام الرضاع"، وهو أيضًا كلام بلا معنى مفهوم، غيروا ما في المخطوطة كما أثبتناه، ظنا منهم بأنه هو غير مفهوم!! وعنى بقوله: "الثابت الرضاع"، أي الذي ثبت له أنه"يرضع"، كما سيتبين من سياق كلامه بعد. (2) أي: وإلى المعصية بتركه. (3) هنا آخر التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا. ونص ما بعده: "وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 (1) فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم= وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا= (2) فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) [سورة الأحقاف: 15] ، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية. (3) وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله، (4) وكفرانه نعم ربه عليه، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده= (5) ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد. لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر، (6) أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين؛ كما أن من يولد لتسعة أشهر، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر. * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل المدينة   (1) أول التقسيم القديم، ونص ما قبله: "بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن يا كريم" (2) قوله: "فقد يجب" جواب قوله: "فإن ظن ذو غباء. . . ". (3) يعني أن آية سورة الأحقاف معنى بها خاص من الناس دون عام، كما يدل على ذلك ظاهر تلاوتها. (4) وجد الشيء يجده وجودا. وقوله: "من يستحكم" مفعول به للمصدر. (5) السياق: "في وجودنا من يستحكم كفره بالله. . . ما يعلم. . . "، مبتدأ مؤخر. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "لتسعة أشهر"، والصواب، أثبت كما يدل عليه سياق الحجة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 والعراق والشام:"لم أراد أن يتم الرضاعة" ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة"- بمعنى: لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده. وقرأه بعض أهل الحجاز:"لمن أراد أن تتم الرضاعة" ب"التاء" في"تتم"، ورفع"الرضاعة" بصفتها. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة". لأن الله تعالى ذكره قال:"والوالدات يرضعن أولادهن"، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها= وأنها القراءة (2) التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة، دون القراءة الأخرى. * * * وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر"الراء" التي فيها. فإن تكن صحيحة، (3) فهي نظيرة"الوكالة والوكالة" و"الدلالة والدلالة"، و"مهرت الشيء مهارة ومهارة"- فيجوز حينئذ"الرضاع" و"الرضاع"، كما قيل:"الحصاد، والحصاد". وأما القراءة فبالفتح لا غير. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وعلى المولود له"، وعلى آباء الصبيان للمراضع="رزقهن"، يعني: رزق والدتهن. * * *   (1) يعني بقوله: "بصفتها"، أي بالفعل اللازم الذي هو صفة لها فتقول: رضاعة تامة. (2) "وأنها القراءة. . . " معطوف على قوله: "لأن الله تعالى ذكره قال. . " (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن تكن. . . "، والجيد هنا الفاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 ويعني ب"الرزق": ما يقوتهن من طعام، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم. * * * و"كسوتهن"، ويعني: ب"الكسوة": الملبس. * * * ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما يجب لمثلها على مثله، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) [سورة الطلاق: 7] ، وكما: - 4970- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة، لا نكلف نفسا إلا وسعها. 4971- حدثني علي بن سهل الرملي قال حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= عن سفيان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان"، وعلى المولود له"= على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف (1) 4972- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، قال: على الأب. * * *   (1) الأثر: 4971 - انظر إسناد الأثر السالف: 4955، والآتي: 4973. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} (1) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) [سورة الطلاق: 7] ، كما: - 4973- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد = جميعا، عن سفيان:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، إلا ما أطاقت. (2) * * * "والوسع""الفعل" من قول القائل:"وسعني هذا الأمر فهو يسعني سعة"- ويقال:"هذا الذي أعطيتك وسعي"، أي: ما يتسع لي أن أعطيك، فلا يضيق علي إعطاؤكه= و"أعطيتك من جهدي"، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه. * * * فمعنى قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، هو ما وصفت: من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله، فلا يضيق عليها ولا يجهدها= لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه: لا تكلف نفس إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات. لأن ذلك لو كان كما زعمت، لكان قوله تعالى ذكره: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) [سورة الإسراء: 48 وسورة الفرقان: 9] ، = إذا كان دالا على أنهم غير مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه= واجبا أن يكون القوم في حال واحدة، قد أعطوا الاستطاعة على   (1) في المخطوطة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، عجل الناسخ فأخطأ التلاوة. (2) الأثر: 4973- انظر إسناد الأثرين السالفين: 4955، 4971. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 ما منعوها عليه. وذلك من قائله إن قاله، إحالة في كلامه، ودعوى باطل لا يخيل بطوله. (1) وإذ كان بينا فساد هذا القول، فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف النفوس من وسعها، غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه السبيل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام:"لا تضار والدة بولدها" بفتح"الراء"، بتأويل: لا تضارَرْ (2) = على وجه النهي، وموضعه إذا قرئ كذلك - جزم، غير أنه حرك، إذ ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر. (3) * * *   (1) قوله: "دعوى باطل" هي هنا بالإضافة، لا صفة لدعوى. ويقال في غير هذا: "دعوى باطل وباطلة" على الوصف. و"البطول" مصدر"بطل" كما أسلفنا في الجزء 4: 523، تعليق: 3 و"أخال الشيء يخيل": اشتبه، يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد" أي: لا يشكل. و"هو شيء مخيل"، أي: مشكل. (2) في المخطوطة: "لا تضارن" بالنون في آخره، وهو خطأ. (3) هكذا جاءت هذه الفقرة في المخطوطة والمطبوعة. وهي فاسدة كلها بلا شك، ومناقضة لما سيأتي في كلام الطبري في ص: 51 إلى ص: 52 ولست أرتاب في أن الكلام قد سقط منه شيء، تخطاه ناسخ قديم، فاضطرب ما أراد الطبري أن يقوله، ثم ما قاله بعد، اضطرابا شديدا. والذي استظهرته من قراءة كلامه من أول تفسير الآية إلى آخرها في ص: 54، يوجب أن يكون سياق كلامه هنا هكذا: "اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام: "لا تضار والدة بولدها"، بفتح"الراء"، على ما لم يسم فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه النهي. وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك - إذ ترك التضعيف بحركة الراء الأولى. وزعم بعض من قرأه كذلك، أن قراءة من قرأ: "لا تضار" بفتح"الراء" على ما سمي فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه النهي. وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك -إذ ترك التضعيف- بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت، فلأن الجزم إذا حرك، حرك إلى الكسر. وهذا خطأ في التأويل". ولعل بعض النساخ القدماء، سقط من نسخه شيء ثم جاء آخر، فلم يستطع أن يفهم ما كتبه، ولا أن يعرف موضع السقط فيه، فتصرف في كتابته على هذا الوجه الذي ثبت في مخطوطتنا وفي جميع المطبوع. وهو خطأ لا ريب فيه. وتناقض ظاهر، لا يقع في مثله أبو جعفر، فضلا عما فيه من الاختلال الشديد. وسأبين في التعليقات التالية ما يربط الكلام الآتي بهذه الجملة التي استظهرتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة:"لا تضار والدة بولدها"، رفع. (1) ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي، ولكنها تكون [على معنى] الخبر، (2) عطفا بقوله:"لا تضار" على قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها". (3) * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع:"لا تضار والدة بولدها"، هكذا في الحكم: - أنه لا تضار والدة بولدها- أي: ما ينبغي أن تضار. فلما حذفت"ينبغي"، وصار"تضار" في وضعه، صار على لفظه، واستشهد لذلك بقول الشاعر: (4)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: مكان"رفع"، "فعل"، وهو تحريف لا شك فيه، كما يدل عليه السالف والآتي. وكما تدل عليه القراءة. وفي المخطوطة قبله: "لا تضارر". (2) في المطبوعة: "ولكنها تكون بالخبر عطفا"، وكان في المخطوطة: "ولكنها تكون الخبر عطفا" بغير باء الجر. والسياق يدل على ضرورة ما أثبت من الزيادة بين القوسين. (3) في المخطوطة: "لا تكلف نفسا"، كما وقع في الآية في ص: 45 تعليق: 1. (4) لأبي اللحام التغلبي، وهو سريع بن عمرو (وعمرو هو اللحام) بن الحارث بن مالك بن ثعلبة بن بكر بن حبيب ويقال اسمه"حريث". وهو جاهلي، النقائض: 458، وشرح المفضليات: 434، والخزانة 3: 613 - 615. وفي سيبويه 1: 431، ونسبه الشنتمري لعبد الرحمن بن أم الحكم، ولم أجد نسبته إليه في مكان آخر. ولأبي اللحام شعر في ديوان عمرو بن كلثوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته، أن لا يجور ويقصد (1) فزعم أنه رفع"يقصد" بمعنى"ينبغي". والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال. وذلك أنه روي عنهم سماعا:"فتصنع ماذا"، إذا أرادوا أن يقولوا:"فتريد أن تصنع ماذا"، فينصبونه بنية"أن. وإذا لم ينووا"أن" ولم يريدوها، قالوا:"فتريد ماذا"، فيرفعون"تريد"، لأن لا جالب ل"أن" قبله، كما كان له جالب قبل"تصنع". فلو كان معنى قوله"لا تضار" إذا قرئ رفعا بمعنى:"ينبغي أن لا تضار" أو"ما ينبغي أن تضار"، ثم حذف"ينبغي" و"أن"، وأقيم"تضار" مقام"ينبغي"، لكان الواجب أن يقرأ- إذا قرئ بذلك المعنى- نصبا لا رفعا، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني المراد، كما فعل بقوله:"فتصنع ماذا"، ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على"تكلف": (2) ليست تكلف نفس إلا وسعها، وليست تضار والدة بولدها. يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين. * * * قال أبو جعفر: وأولى القرأتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين. فلو كان ذلك خبرا، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك. (3) * * *   (1) سيبويه 1: 431 الخزانة 3: 613 - 615، وشرح شواهد المغني: 263. وقال صاحب الخزانة: "البيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتا لأبي اللحام التغلبي أو ردها أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب له، وانتخبها أبو تمام، فأورد منها خمسة أبيات في مختار شعر القبائل، وهذا أولها: عمرت وأطولت التفكر خاليا ... وساءلت حتى كاد عمري ينفد (2) في المطبوعة: "لا تكلف" بزيادة"لا" وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "لكان حرام" بالرفع، والأجود ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 وبما قلنا في ذلك -من أن ذلك بمعنى النهي- تأوله أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 4974- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تضار والدة بولدها"، لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها. 4975- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 4976- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها= ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا. 4977- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، ترمي به إلى أبيه ضرارا،"ولا مولود له بولده"، يقول: ولا الوالد، فينتزعه منها ضرارا، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها، فهي أحق به إذا رضيت بذلك. 4978- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن:"لا تضار والدة بولدها"، قال: ذلك إذا طلقها، فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها، إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها= وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق، إذا كان إنسانا مسكينا، فتقذف إليه ولده. 4979- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"لا تضار والدة بولدها"، لا تضار أم بولدها ولا أب بولده. يقول: لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا، أو إلى عصبته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 إذا كان الأب ميتا. ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه. (1) 4980- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تضار والدة بولدها"، يقول لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به= ولا تضار والدة بولدها، فتطرح الأم إليه ولده، تقول:"لا أليه ساعة" تضيعه، (2) ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا. 4981- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب- وسئل عن قول الله تعالى ذكره"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال ابن شهاب: والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر، وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه، مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها. 4982- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا، عن سفيان في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها، تضاره بذلك="ولا مولود له بولده"، ولا ينزع الأب منها ولدها، يضارها بذلك. 4983- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال: لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه، ولا يجد ما يسترضعه به. 4984- حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني   (1) في المطبوعة: "ولا ينتزعه"، وهما سواء، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول لا إليه ساعة تضعه"، وهو في المخطوطة غير منقوط، ورأيت الصواب أن تكون هكذا قراءة الجملة، مع جعل"تضعه""تضيعه"، أي تضيعه بتركها إياه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 ابن جريج، عن عطاء في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، قال: لا تدعنه ورضاعه، من شنآنها مضارة لأبيه، (1) ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها. * * * وقال بعضهم:"الوالدة" التي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبي. (2) ذكر من قال ذلك: 4985- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، قال: هي الظئر. (3) * * * فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها، ولا والدة مولود والده بمولودها منه. ثم ترك ذكر الفاعل في"يضار"، فقيل: لا تضارر والدة بولدها ولا مولود له بولده، (4) كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله، ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه:"لا يكرم عمرو، ولا يجلس إلى أخيه"، ثم ترك التضعيف فقيل:"لا تضار" فحركت الراء الثانية التي كانت مجزومة- لو أظهر التضعيف- بحركة الراء الأولى. (5)   (1) في المطبوعة والمخطوطة"من شأنها"، والصواب ما أثبت، والشنآن: البغض والكره. (2) الظئر: العاطفة على ولد غير ولدها، المرضعة له. (3) الأثر: 4985-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، روى عنه البخاري، وأبو داود، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم، ثقة صدوق. مات سنة 222. و"هرون النحوي" و"هرون الأعور" هو: هرون بن موسى الأزدي العتكي - النحوي الأعور صاحب القراءات، كان ثقة مأمونا. و"الزبير بن الخريت" (بكسر الخاء وتشديد الراء المكسورة) . ثقة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الزبير بن الحارث"، هو خطأ صرف. (4) في المطبوعة: "لا تضار والدة. . . " كنص الآية، ولكنه أراد التضعيف هنا، كما يظهر من السياق، والصواب من المخطوطة. (5) من هذا الموضع أخذت ما زدته هناك ص: 46، 47 تعليق: 3 في التعليق على الجملة المضطربة التي بينت اضطرابها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع، لأنه آخر الحركات. (1) وليس للذي قال من ذلك معنى. لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك، لو كان معنى الكلام: لا تضارر والدة بولدها، (2) وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة. على أن معنى الكلام لو كان كذلك، لكان الكسر في"تضار" أفصح من الفتح، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح، كما أن:"مد بالثوب" أفصح من"مد به". (3) وفي إجماع القرأة على قراءة:"لا تضار" بالفتح دون الكسر، دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك. (4) فإن كان قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك: لا تضارر والدة، (5) وأن"الوالدة" مرفوعة بفعلها، وأن"الراء" الأولى حظها الكسر، فقد أغفل تأويل الكلام، (6) وخالف قول جميع من حكينا قوله من أهل التأويل. وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى كل أحد (7) من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما= لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود. وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارة الصبي،   (1) في المطبوعة: "لأنه أحد الحركات"، وهو كلام لا معنى له، والصواب ما أثبت، وقد مضى في مكان ما من التفسير مثل هذا الخطأ، ولم أستطع أن أعثر عليه بعد. وقوله: "آخر الحركات" معناه: أخفها. فالضم أثقل الحركات، ثم الكسر، ثم الفتح أخفها وآخرها. وأما السكون فلا يعد في الحركات. وهذا الذي قاله الطبري هنا دليل قاطع على فساد الجملة التي كانت في ص: 46، 47 (تعليق: 3) وأنه لا يجعل علة الفتح في معنى النهي: "أنه حرك إذ ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح"، ودليل على أن الصواب ما استظهرته في التعليق. وسيظهر ذلك بينا في رده الذي يأتي بعقب هذه الجملة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضارن"، وهو كلام لا معنى له. والصواب ما أثبت (بضم التاء وكسر الراء الأولى، وسكون الأخيرة) ، (3) انظر شرح الشافية 2: 243. (4) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في 1: 151، تعليق: 1، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة. (5) في المطبوعة: "لا تضار" براء مشددة، والصواب من المخطوطة. وقوله"مرفوعة بفعلها"، أي أنه فعل لازم، مثل"قاتل الرجل". (6) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في 1: 151، تعليق: 1، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة. (7) في المطبوعة: "كل واحد"، وهما قريبين. وقوله: تقدم إلى كذا بكذا، أي أمر بأمر أو نهي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 والصبي في حال ما هو رضيع - غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد؟ فلو كان ذلك معناه، لكل التنزيل: لا تضر والدة بولدها. (1) * * * وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في"تضار" جائز. (2) والكسر في ذلك عندي في هذا الموضع غير جائز، (3) لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى: لا تضارَرْ "- (4) الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله- إلى معنى"لاتضارر"، (5) الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله. (6) * * * قال أبو جعفر: فإذ كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما، فحق على إمام المسلمين= إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه، وهي تحضنه وتكلفه وترضعه، بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة= (7) أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها، ما دام محتاجا الصبي، إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق عليه= إذا كان الصبي لا يقبل ثدي غير   (1) في المخطوطة: "لا تضار" كنص الآية، وهي خطأ بلا شك. (2) هو الفراء في معاني القرآن 1: 149، وعنى الفراء برأيه هذا أنه لما سكنت الراء الأولى لإدغامهما في الثانية الساكنة، التقى ساكنان، فكسر، لأن الكسر هو الأصل في التقاء الساكنين هذا ما أجازه. (3) في المطبوعة: "والكسر في ذلك عندي غير جائز في هذا الموضع" وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "لا تضار"، والصواب التضعيف هنا للبيان، كما في المخطوطة. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضار" والصواب ما أثبت للعلة في التعليق السالف. (6) هذه الفقرة من كلام أبي جعفر في رد من قال بالكسر، تدل دلالة واضحة أيضًا على فساد الجملة الأولى التي صححناها في ص: 46، 47 تعليق: 3، وهي تبين لك عن صواب ما استظهرت أنه أصل كلام الطبري. (7) في المخطوطة والمطبوعة: "وترضعه"، والصواب بالياء كما أثبت. وسياق الجملة: "فحق على إمام المسلمين. . . أن يأخذ الوالد" وما بينهما فصل للحال. وقوله: "ما دام محتاجا الصبي" حال أخرى معترضة. وسياق الكلام"بتسليم ولدها. . . إليها في ذلك". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 والدته، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده وإن كان يقبل ثدي غير أمه، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا، ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده. (1) = أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته. (2) لأن الله تعالى ذكره إن حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، (3) فالإضرار به أحرى أن يكون محرما، مع ما في الإضرار به من مضارة صاحبه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الوارث" الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، وأي وارث هو: ووارث من هو؟ فقال بعضهم: هو وارث الصبي. وقالوا: معنى الآية: وعلى وارث الصبي إذا كان [أبوه] ميتا، (4) مثل الذي كان على أبيه في حياته. * ذكر من قال ذلك: 4986- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قالا حدثنا سعيد، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث الولد. 4987- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ما يتبرع عليه"، وهو خطأ فاسد، لأنه يريد أنه لم يجد من يتفضل عليه ويتطوع برضاع مولوده. وسياق هذه الجملة أيضًا: "وحق عليه. . . أن يأخذ والدته"، كما في الفقرة السالفة. (2) في المخطوطة: "أن يأخذ بوالدته الثانية من والدته البائنة من والده"، وقد أصابت المطبوعة الصواب، فحذفت"الثانية من والدته"، فهو تصحيف وتكرار. (3) في المطبوعة: "لأن الله تعالى ذكره حرم" بإسقاط"إن"، والواجب إثباتها كما جاءت في المخطوطة. (4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام، ويدل على وجودها ما بعده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث الولد. 4988- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث الصبي مثل ما على أبيه. * * * ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود، الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف. فقال بعضهم: هم وارث الصبي من قبل أبيه من عصبته، كائنا من كان، أخا كان، أو عما، أو ابن عم، أو ابن أخ. * ذكر من قال ذلك: 4989 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج: أن عمرو بن شعيب أخبره: أن سعيد بن المسيب أخبره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه= قال: في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال (1) = وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه، مثل العاقلة. (2) 4990- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن الحسن كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على العصبة. 4991- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو عاصم   (1) هذه الجملة بين الخطين، من كلام عمرو بن شعيب. بمعنى أن سعيد بن المسيب أخبره في قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك"، أن عمر بن الخطاب حبس. وهذا بين من سياق التحديث. (2) الأثر: 4989- في المخطوطة"قال: وقف بني عم منفوس بني عمه كلالة بالنفقة". وأما الذي في المطبوعة، فكأنه من نص الدر المنثور 1: 288، اجتلبه المصحح من هناك، وهذا نص الدر والمطبوعة: "حبس بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه"، وقد رأيت أن أقرأها كما أثبتها وكما في المحلى بهذا الإسناد 10: 102. والمخطوطة - كما قلت مرارا مضطربة في هذا القسم منها لعجلة الكاتب، كما ظهر في كثرة التصحيحات السالفة. وانظر الأثر رقم: 4991 والتعليق عليه. يقال: هو ابن عمه كلالة (بالنصب) ، وابن عم كلالة (بالإضافة) . أي من بني العم الأباعد، وهم العصبة وإن بعدوا. والعاقلة: هم عصبة الرجل وقرابته من قبل الأب الذين يعطون دية القتل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 قالا حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب قال: وقف عمر ابن عم على منفوس كلالة برضاعه. (1) 4992- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا توفي الرجل وامرأته حامل، فنفقتها من نصيبها، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته. قال: وكان يتأول قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الرجال. 4993- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: على العصبة الرجال، دون النساء. 4994- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام عن ابن سيرين: أتي عبد الله بن عتبة مع اليتيم وليه، ومع اليتيم من يتكلم في نفقته، فقال لولي اليتيم: لو لم يكن له مال لقضيت عليك بنفقته، لأن الله تعالى يقول:" وعلى الوارث مثل ذلك". (2) 4995- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال: أُتي عبد الله بن عتبة في رضاع صبي، فجعل رضاعه في ماله، وقال لوليه: لو لم يكن له مال جعلنا رضاعه في مالك، ألا تراه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"؟ (3) 4996- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب، إذا لم يكن للصبي مال. وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه، فعليه النفقة.   (1) الأثر: 4991- انظر الأثر السالف: 4989، وفي المطبوعة هنا"ابن عم على منفوس" بزيادة"على"، وأثبت ما في المخطوطة وانظر سنن البيهقي 7: 478 - 479، والمحلى 10: 102. (2) الأثران: 4994، 4995- انظر الأثر التالي رقم: 5004. والذي في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي يليه. (3) الأثران: 4994، 4995- انظر الأثر التالي رقم: 5004. والذي في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي يليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 4997- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الولي من كان. 4998- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 4999- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5000- حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يعقوب- يعني ابن القاسم- عن عطاء وقتادة- في يتيم ليس له شيء، أيجبر أولياؤه على نفقته؟ قالا نعم، ينفق عليه حتى يدرك. (1) 5001- حدثت عن يعلى بن عبيد، عن جويبر، عن الضحاك قال: إن مات أبو الصبي وللصبي مال، أخذ رضاعه من المال. وإن لم يكن له مال، أخذ من العصبة. فإن لم يكن للعصبة مال، أجبرت عليه أمه. * * * وقال آخرون منهم: بل ذلك على وارث المولود من كان، من الرجال والنساء. * ذكر من قال ذلك: 5002- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أنه كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث المولود ما كان على   (1) الأثر: 5000- عبد الله بن محمد بن يزيد أبو محمد الحنفي المروزي صاحب عبدان. سكن بغداد. قال الخطيب: "كان ثقة"، وتوفى سنة 275 مترجم في تاريخ بغداد 10: 85 و"عبدان"، لقب"عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي، روى عنه البخاري. مات سنة 220. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر الآتي برقم: 5009. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون. 5003 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم ثلاثة، كلهم يرث الصبي، أجر رضاعه. 5004- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عبد الله بن عتبة جعل نفقة صبي من ماله، وقال لوارثه: أما إنه لو لم يكن له مال أخذناك بنفقته، ألا ترى أنه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك". (1) * * * وقال آخرون منهم: هو من ورثته، من كان منهم ذا رحم محرم للمولود، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم، كابن العم والمولى ومن أشبههما، فليس من عناه الله بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك". والذين قالوا هذه المقالة: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد. * * * وقالت فرقةأخرى: بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، المولود نفسه. ذكر من قال ذلك: 5005- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة. أن بشير بن نصر المزني - وكان قاضيا قبل ابن حجيرة في زمان عبد العزيز- كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الوارث هو الصبي. (2)   (1) الأثر: 5004- بإسناده في المحلى 10: 103، وانظر الأثرين السالفين: 4994، 4995. (2) الأثر: 5005-"أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري" مضت ترجمته بتفصيل في رقم: 2377. وكان في المطبوعة هنا"حدثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد" كما كان هناك أيضًا، والصواب هنا من المخطوطة. وجعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي أبو شرحبيل المصري. قال أحمد: "كان شيخا من أصحاب الحديث ثقة". توفي سنة 136. مترجم في التهذيب. و"بشير ابن النضر المزني" مترجم في كتاب القضاة للكندي: 313 - 314 توفى سنة 69، وكان في المطبوعة والمخطوطة"بشر بن نصر"، وهو خطأ، وقد روى هذا الأثر بإسناده قال: "حدثنا محمد بن يوسف، قال حدثني محمد بن ربيع الجيزي، قال حدثني أبي، قال حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد. . . ". و"ابن حجيرة" هو: "عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني"، مترجم في كتاب القضاة: 314 - 320، توفى سنة 83، وكان فقيها من أفقه الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 5006- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد المقري قال، أخبرنا حيوة. قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة، عن قبيصة بن ذؤيب:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: هو الصبي. 5007- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال، أخبرني جعفر بن ربيعة: أن قبيصة بن ذؤيب كان يقول: الوارث هو الصبي= يعني قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك". (1) 5008- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: يعني بالوارث: الولد الذي يرضع. * * * قال أبو جعفر: وتأويل ذلك على ما تأوله هؤلاء: وعلى الوارث المولود، مثل ما كان على المولود له. * * * وقال آخرون: بل هو الباقي من والدي المولود، بعد وفاة الآخر منهما. ذكر من قال ذلك: 5009- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، أخبرنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في   (1) الأثران: 5006، 5007 - انظر المحلى 10: 103، وروايته هناك: "رضاع الصبي". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 صبي له عم وأم وهي ترضعه، قال: يكون رضاعه بينهما، ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم، لأن الأم تجبر على النفقة على ولدها. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مِثْلُ ذَلِكَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"مثل ذلك". فقال بعضهم: تأويله: وعلى الوارث للصبي بعد وفاة أبويه، (2) مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته، إذا لم يكن للمولود مال. ذكر من قال ذلك: 5010- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث رضاع الصبي. 5011- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع. 5012- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع. 5013- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع.   (1) الأثر: 5009- انظر إسناد الأثر السالف رقم: 5000، وفي المطبوعة: "ويدفع عن العم"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "على الوارث للصبي"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 5014- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عتبة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع. 5015- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد، عن عبد الله بن عتبة في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: النفقة بالمعروف. 5016- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب من الرضاع، إذا لم يكن للصبي مال. 5017- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: الرضاع والنفقة. 5018- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع. 5019- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي، قال: الرضاع. 5020- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا أبو عوانة، عن مطرف، عن الشعبي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع. 5021- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي مثله. 5022- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 قال، سمعت هشاما (1) عن الحسن في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع. 5023- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام وأشعث، عن الحسن مثله. 5024- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن:"وعلى الوارث مثل ذلك"، يقول في النفقة على الوارث، إذا لم يكن له مال. 5025- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد مثله. 5026- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: النفقة بالمعروف. 5027- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الولي كفله ورضاعه، إن لم يكن للمولود مال. 5028- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى الوارث من كان، مثل ما وصف من الرضاع= قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: مثل ذلك في الرضاعة= قال:" وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى الوارث أيضا كفله ورضاعه، إن لم يكن له مال، وأن لا يضار أمه. 5029- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن   (1) في المطبوعة: "سمعت وهشاما عن الحسن"، كأنه سقطا اسم راو عطف عليه قوله"وهشاما" وكأنه صوابه"سمعت أشعث وهشاما"، كما سيأتي في الأثر التالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: نفقته حتى يفطم، إن كان أبوه لم يترك له مالا. 5030- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث الولد ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له. 5031- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على وارث الصبي مثل ما على أبيه، إذا كان قد هلك أبوه ولم يكن له مال، (1) فإن على الوارث أجر الرضاع. 5032- حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: إذا مات وليس له مال، كان على الوارث رضاع الصبي. * * * وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى الوارث مثل ذلك: أن لا يضار. ذكر من قال ذلك: 5033- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن الضحاك بن مزاحم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار. 5034- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن الشعبي في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: لا يضار، ولا غرم عليه. 5035- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، أن لا يضار.   (1) في المطبوعة: "إذ كان قد هلك"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 5036- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، قال: الوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر. وليس لوالدة أن تضار بولدها، فتأبى رضاعه مضارة، وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته ضرارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطي غيرها=" وعلى الوارث مثل ذلك"، مثل الذي على الوالد في ذلك. 5037- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثنا علي قال: حدثنا زيد، عن سفيان:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار، وعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة. * * * وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى وارث المولود، (1) مثل الذي كان على المولود له، من رزق والدته وكسوتها بالمعروف. ذكر من قال ذلك: 5038- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث عند الموت، مثل ما على الأب للمرضع من النفقة والكسوة= قال: ويعني بالوارث: الولد الذي يرضع: أن يؤخذ من ماله- إن كان له مال- أجر ما أرضعته أمه. فإن لم يكن للمولود مال ولا لعصبته، فليس لأمه أجر، وتجبر على أن ترضع ولدها بغير أجر. 5039- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) في المطبوعة: "وعلى الوارث المولود"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على وارث الولد، مثل ما على الوالد من النفقة والكسوة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره. ذكر من قال ذلك: 5040- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله تعالى ذكره:"وعلى الوارث مثل ذلك"؟ قال: مثل ما ذكره الله تعالى ذكره. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك": أن يكون المعني بالوارث ما قاله قبيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم؛ ومن ذكرنا قوله آنفا: (1) من أنه معني بالوارث: المولود= وفي قوله:"مثل ذلك"، أن يكون معنيا به: مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف، إن كانت من أهل الحاجة، ومن هي ذات زمانة وعاهة، (2) ومن لا احتراف فيها، ولا زوج لها تستغني به، وإن كانت من أهل الغنى والصحة، فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعه. وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة، على ما قد بينا في أول كتابنا هذا. (3) وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، محتملا ظاهره: وعلى وارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له= ومحتملا وعلى وارث المولود له مثل الذي كان   (1) انظر الآثار السالفة: 5005 - 5008. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وهي ذات زمانة"، والسياق يقتضي ما أثبت. والاحتراف الاكتساب يقال: هو يحرف لعياله ويحترف، أي يكتسب. (3) يعني ما سلف في 1: 73 - 93، ثم ذكر ذلك في مواضع أخرى تجدها في الفهارس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود، وغير ذلك من التأويلات، على نحو ما قد قدمنا ذكرها= (1) وكان الجميع (2) من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه= (3) وصح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته، غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قبل أبيه أو أمه، في حكمه، (4) في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع، إذ كان مولى النعمة من ورثته، وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع. فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني- حكمه. (5) وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا- من أنه معني به ورثة المولود- فبطول القول الآخر= وهو أنه معني به ورثة المولود له سوى المولود= أحرى. لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه (6) - إذا لم يصح وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه- فالذي هو أبعد منه قرابة، أحرى أن لا يصح وجوب ذلك عليه. وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على ولدها -إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا -على مثل الذي كان يجب لها من ذلك على المولود له، فما لا خلاف فيه من أهل العلم جميعا. فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة عمن لا يجوز خلافه. وما عدا ذلك من التأويلات، فمتنازع فيه، وقد دللنا على فساده. * * *   (1) في المطبوعة: "قدمنا ذكره" وأثبت ما في المخطوطة. (2) قوله: "وكان الجميع" معطوف على قوله. وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله. . . " (3) سياق هذه الجملة من أولها: "وإذ كان ذلك كذلك. . .، وكان قوله. . .، محتملا. . . " ومحتملا. . . " وكان الجميع من الحجة. . . صح بذلك من الدلالة. . . "، وكان في المطبوعة: "وصح" بالواو، والسياق يقتضي حذفها، لأنها جواب"إذ". (4) السياق: "صح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته. . . في حكمه". (5) السياق: "أن حكم سائر ورثته. . . حكمه" خبر"أن"، يعني أن حكمهما واحد. (6) في المخطوطة: "الذي هو أقرب بالمولود قربه ممن هو أبعد منه"، والذي في المطبوعة أصح وأجود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا"، إن أراد والد المولود ووالدته="فصالا"، يعني: فصال ولدهما من اللبن. * * * ويعني ب"الفصال": الفطام، وهو مصدر من قول القائل:"فاصلت فلانا أفاصله مفاصلة وفصالا"، إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. فكذلك"فصال الفطيم"، إنما هو منعه اللبن، وقطعه شربه، وفراقه ثدي أمه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من الرجال. * * * وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 5041- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فإن أرادا فصالا"، يقول: إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين. 5042- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا"، فإن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده. 5043- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"، قال: الفطام. * * * وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني بذلك: عن تراض من والدي المولود وتشاور منهما. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنهما، إن فطماه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 عن تراض منهما وتشاور، وأي الأوقات الذي عناه الله تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور". فقال بعضهم: عنى بذلك، فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما. ذكر من قال ذلك: 5044- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، يقول: إذا أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك، فليفطماه. 5045- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين، فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور، فلا بأس به. 5046- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى. 5047- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين،"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور" دون الحولين"فلا جناح عليهما"، فإن لم يجتمعا، فليس لها أن تفطمه دون الحولين. 5048- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان عن ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين، ليس لها حتى يجتمعا. 5049- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني الليث قال، أخبرنا عقيل، عن ابن شهاب:"فإن أرادا فصالا"، يفصلان ولدهما="عن تراض منهما وتشاور"، دون الحولين الكاملين="فلا جناح عليهما". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 5050- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان قال: التشاور ما دون الحولين، إذا اصطلحا دون ذلك، وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور". فإن قالت المرأة:"أنا أفطمه قبل الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن تفطمه قبل الحولين. وإن لم ترض الأم، فليس له ذلك، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما". 5051- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: قبل السنتين="فلا جناح عليهما". * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، في أي وقت أرادا ذلك، قبل الحولين أرادا أم بعد ذلك. (1) ذكر من قال ذلك: 5052- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، أن يفطماه قبل الحولين وبعده. * * * وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني: عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه، كما: - 5053- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"،   (1) في المطبوعة: "قبل الحولين أرادا ذلك أم بعد الحولين"، ورددتها إلى المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما (1) ="فلا جناح عليهما". 5054- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال:"فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور"، لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه، ولا تشاور بعد انقضائه، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته. فإن ظن ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا= إذ كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه= فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنما هو علاج، كالعلاج بشرب بعض الأدوية، لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما، قبل انقضاء آخر مدته، فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى ذكره بقوله: (2) "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل. (3) * * * وأما الجناح، فالحرج، (4) كما: -   (1) في المخطوطة: "غير في ظلم أنفسهما" بياض بين الكلمتين، والذي أتمه مصحح المطبوعة لا بأس به، ولم أجد الأثر في مكان آخر. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما الحد الذي حده الله تعالى. . . "، وهو كلام غير مستقيم ألبتة، والصواب زيادة ما أثبته، فيكون سياقه: "وأما الرضاع. . . فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى. . . ". (3) انظر ما سلف في هذا الجزء 5: 39 وما قبلها وما بعدها. (4) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" 3: 230، 231/ و 4: 162، 163، 565. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 5055- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فلا جناح عليهما"، فلا حرج عليهما. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم= إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر، أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم، أو غير ذلك من الأسباب = فلا حرج عليكم في استرضاعهن، إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 5056- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، خيفة الضيعة على الصبي،"فلا جناح عليكم". 5057- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5058- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 5059- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، إن قالت المرأة:"لا طاقة لي به فقد ذهب لبني" فتُسترْضَع له أخرى. 5060- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال: ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع، ويسلمان، ويجبران على ذلك. قال: فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع، فإنه يعرض على الصبي المراضع. فإن قبل مرضعا جاز ذلك وأرضعته، (1) وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته. فإن لم يكن له مال ولا لعصبته، أكرهت على رضاعه. 5061- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم"، إذا أبت الأم أن ترضعه، فلا جناح على الأب أن يسترضع له غيرها. 5062- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها، ورضي الأب أن يسترضع ولده، فليس عليهما جناح. * * * واختلفوا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف". فقال بعضهم: معناه: إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهن عليه من الأجرة على رضاعهن، بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها= أو الحال التي عذر أبو الصبي بطلب مرضع لولده غير أمه، واسترضاعه له. ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "صار ذلك"، وفي المخطوطة"حار" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 5063- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: حساب ما أرضع به الصبي. 5064- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، حساب ما يرضع به الصبي. 5065- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، إن قالت - يعني الأم -:"لا طاقة لي به، فقد ذهب لبني"، فتسترضع له أخرى، وليسلم لها أجرها بقدر ما أرضعت. 5066- حدثني المثنى قال، حدثني سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت -يعني لعطاء-:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"؟ قال: أمه وغيرها="فلا جناح عليكم إذا سلمتم"، قال: إذا سلمت لها أجرها="ما آتيتم"، قال: ما أعطيتم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم، وتراض منكم ومنهن باسترضاعهم. (1) ذكر من قال ذلك: 5067- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم. 5068- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، أخبرني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: لا جناح عليهما أن يسترضعا أولادهما- يعني أبوي المولود- إذا سلما ولم يتضارا.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومنهم"، والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 5069- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع، من الأجرة، بالمعروف. ذكر من قال ذلك: 5070- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد =جميعا، عن سفيان في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف- يعني: إلى من استرضع للمولود، إذا أبت الأم رضاعه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال:"تأويله: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن، ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم، (1) ولم تروا ذلك من صلاحهم، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة، إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهن أو لغير علة (2) إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الآخرة حقوقهن التي آتيتموهن بالمعروف. يعني بذلك المعنى: الذي أوجبه الله لهن عليكم، وهو أن يوفيهن أجورهن على ما فارقهن عليه، في حال الاسترضاع،، ووقت عقد الإجارة. وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج، ووافقه على بعضه مجاهد والسدي ومن قال بقولهم في ذلك.   (1) في المطبوعة: "أنتم ووالدتهم"، وهو خطأ. (2) الظؤورة جمع ظئر (بكسر فسكون) : وهي المرضعة غير ولدها. والظؤورة مثل البعولة، جمع"بعل"، أو هما اسم جمع، كما يقول سيبويه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل الآية من غيره، لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، أمر فصالهم، وبين الحكم في فطامهم قبل تمام الحولين الكاملين فقال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"، في الحولين الكاملين"فلا جناح عليهما". فالذي هو أولى بحكم الآية- إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين- أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته= وأن يكون- إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما يرضع به غيرها من الأجرة- أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم، بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه، كما كان ذلك كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى، وذلك في قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: 6] . فأتبع ذكر بيان رضا الوالدات برضاع أولادهن، ذكر بيان امتناعهن من رضاعهن، فكذلك ذلك في قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم". وإنما اخترنا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" - ما اخترنا من التأويل، لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود تسليم حق والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد بينونتها منه، كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من مولده بسبيل، وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على رضاع ولده. فلم يكن قوله:"إذا سلمتم" بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن، بأولى منه بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن= ولا الغرائب من المولود، بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات (1) إذ كان الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من   (1) هذه الجملة بين الخطين، معطوفة على الجملة الأولى، فيكون سياق معناها: ولم يكن الغرائب من المولود بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 استأجره لرضاع ولده، من تسليم أجرتها إليها مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى. فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر تنزيل إلى باطن، (1) ولا نقل عام إلى خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها- فصح بذلك ما قلنا. * * * قال أبو جعفر: وأما معنى قوله:"بالمعروف"، فإن معناه: بالإجمال والإحسان، وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واتقوا الله"، وخافوا الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق، وفيما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم، وفيما أوجب عليكم لأولادكم، فاحذروه أن تخالفوه فتعتدوا - في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه - حدوده، (3) فتستوجبوا بذلك عقوبته="واعلموا أن الله بما تعملون" من الأعمال، أيها الناس، سرها وعلانيتها، وخفيها وظاهرها، وخيرها وشرها="بصير"، يراه ويعلمه، فلا يخفى عليه شيء، ولا يتغيب عنه منه شيء، (4) فهو يحصي ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم بخير ذلك وشره. * * * ومعنى"بصير"، ذو إبصار، وهو في معنى"مبصر". (5) * * *   (1) سلف مرارا ذكر"الظاهر" و"الباطن" فاطلبه في فهرس المصطلحات. (2) انظر ما سلف في بيان"المعروف" 3: 371 / ثم في الجزء 4: 549 / 5: 7، 44 وبيانه عن معنى"المعروف" هنا أوضح وأشمل. (3) في المطبوعة: "وحدوده" بزيادة واو مفسدة للكلام، فمعنى الكلام: فتعتدوا في ذلك حدوده. (4) في المطبوعة: "لا يغيب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء. (5) انظر ما سلف في تأويل"بصير" 2: 140، 376، 506، وغيرها من المواضع في فهرس اللغة، وفهرس مباحث العربية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم، من الرجال، أيها الناس، فيموتون، ويذرون أزواجا، يتربص أزواجهن بأنفسهن. (1) * * * فإن قال قائل: فأين الخبر عن"الذين يتوفون"؟ قيل: متروك، لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم، وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهن، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات، إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام. وهو نظير قول القائل في الكلام: (2) "بعض جبتك متخرقة"، (3) في ترك الخبر عما ابتدئ به الكلام، إلى الخبر عن بعض أسبابه. وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص، لما كان إنما ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن، صرف الكلام عن خبر من ابتدئ بذكره، إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه، كما قال الشاعر: (4) لعلي إن مالت بي الرٌيح ميلة ... على ابن أبي ذبان أن يتندما (5)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يتربصن"، وهو في المخطوطة غير منقوط، والذي أثبته هو الصواب. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "هو نظير" بإسقاط الواو، والواجب إثباتها. (3) يعني أن حق الكلام كان أن يقول: "بعض جبنك متخرق"، بالتذكير خبرا عن"بعض"، فصرفه إلى"جبتك". (4) هو ثابت قطنة العتكي، واسمه" ثابت بن كعب". . ذهبت عينه في الحرب، فكان يحشوها بقطنة، وهو شاعر فارسي من شعراء خراسان في عهد الدولة الأموية، قال فيه حاجب الفيل: لا يعرف الناس منه غير قطنته ... وما سواها من الأنساب مجهول (5) تاريخ الطبري 8: 160، ومعاني القرآن للفراء 1: 150، والصاحبي: 185، وهو من قصيدة له يرثى بها يزيد بن المهلب، لما قتل في سنة 102 في خروجه على يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو"ابن أبي ذبان". و"أبو ذبان" كنية أبيه عبد الملك بن مروان، لأنهم زعموا أنه كان أبخر، فإذا دنت الذبان من فيه، ماتت لشدة بخره. ورواية الطبري في التاريخ: "فعلى"، ويقول قبله: أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما على هالك هد العشيرة فقده، ... دعته المنايا فاستجاب وسلما على ملك، يا صاح، بالعقر جبنت ... كتائبه، واستورد الموت معلما أصيب ولم أشهد، ولو كنت شاهدا ... تسليت أن لم يجمع الحي مأتما وفي غير الأيام يا هند، فاعلمي، ... لطالب وتر نظرة إن تلوما فعلي، إن مالت. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ كما ترى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 فقال"لعلي"، ثم قال:"أن يتندما"، لأن معنى الكلام: لعل ابن أبي ذبان أن يتندم، (1) إن مالت بي الريح ميلة عليه= فرجع بالخبر إلى الذي أراد به، وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره. ومنه قول الشاعر: ألم تعلموا أن ابن قيس وقتله ... بغير دم، دار المذلة حلت (2) فألغى"ابن قيس" وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذل. (3) * * * وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر"الذين يتوفون" متروك، وأن معنى الكلام: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، ينبغي لهن أن يتربصن بعد موتهم. وزعم أنه لم يذكر"موتهم"، كما يحذف بعض الكلام- وأن"يتربصن" رفع، إذ وقع موقع"ينبغي"، و"ينبغي" رفع. وقد دللنا على فساد قول من قال في رفع"يتربصن"   (1) في والمخطوطة والمطبوعة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ. (2) لم أعرف قائله، والبيت في معاني القرآن للفراء 1: 150، والصاحبي: 185، وروايتهما بني أسد إن ابن قيس وقتله (3) هذا الذي سلف أكثره نص الفراء في معاني القرآن 1: 150-151، وفي معاني القرآن"فألقى ابن قيس"، والصواب ما في الطبري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 بوقوعه موقع"ينبغي" فيما مضى، فأغنى عن إعادته. (1) * * * وقال آخر منهم: (2) إنما لم يذكر"الذين" بشيء، لأنه صار الذين في خبرهم مثل تأويل الجزاء:"من يلقك منا تصب خيرا"= الذي يلقاك منا تصيب خيرا. (3) قال: ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء. * * * قال أبو جعفر: وفي البيتين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة على القول في ذلك بخلاف ما قالا. (4) * * * قال أبوجعفر: وأما قوله:"يتربصن بأنفسهن"، فإنه يعني به: يحتبسن بأنفسهن (5) معتدات عن الأزواج، والطيب، والزينة، والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن- أربعة أشهر وعشرا، إلا أن يكن حوامل، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن. فإذا وضعن حملهن، انقضت عددهن حينئذ. * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه: 5071- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها.   (1) انظر ما سلف في الجزء 5: 47، 48. (2) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم"، والصواب ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "من يلقك منا يصيب خيرا"، ثم"يصيب خيرا"، والصواب ما أثبته"تصب" في الجملة الأولى مجزومة، وبالتاء في أوله، ثم"تصيب" بالتاء في الثانية. (4) في المطبوعة: "الدلالة الواضحة" وأثبت ما في المخطوطة. (5) انظر فيما سلف تفسير"التربص" 4: 456، 515. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 5072- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب في قول الله: (1) "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال ابن شهاب: جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها، فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها، وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة فما استأخر، لا يحلها إلا أن تضع حملها. * * * قال أبو جعفر: وإنما قلنا: عنى ب"التربص" ما وصفنا، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بما: - 5073- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن شعبة= وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة=، عن حميد بن نافع قال: سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدث= قال أبو كريب: قال أبو أسامة: عن أم سلمة= أن امرأة توفى عنها زوجها واشتكت عينها، فأتت النبي صلي الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل، فقال: لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها، (2) فتمكث في بيتها حولا إذا توفي عنها زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة! أفلا أربعة أشهر وعشرا"! (3)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "عن قول الله"، والصواب ما أثبته. (2) الأحلاس جمع حلس: وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة، وكل ما يبسط تحت حر المتاع ليقيه فهو حلس. وعنى به هنا: المرذول من ثيابها. (3) الحديث 5073-"حميد بن نافع الأنصاري المدني": تابعي ثقة. روى عن أبي أيوب، وعبد الله بن عمر، وروى عن زينب بنت أم سلمة. وهو والد"أفلح بن حميد". ويقال له"حميد صفيراء". ففرق البخاري في الكبير 1 / 2 / 345 بين"حميد صفيراء، والد أفلح"، الراوي عن أبي أيوب وابن عمر، وبين"حميد" الراوي عن زينب، جعلهما اثنين تبعا لشيخه علي بن المديني، وروى هو عن شعبة أنهما واحد. وهو الصحيح الذي جزم به الإمام أحمد. فقد روى في المسند 6: 325 - 326 (حلبي) حديث حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة أم المؤمنين، ثم قال عقب الحديث"حميد بن نافع: أبو أفلح، وهو حميد صفيراء"، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 5: 224، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 229-230. و"صفيراء": لقب حميد. وهكذا رسم على الصواب في المسند، والتهذيب في ترجمة"أفلح"، والبخاري في ترجمة"حميد". ورسم في التهذيب في ترجمة"حميد": "صفير"، وهو تصحيف. ووقع في التهذيب أيضًا في ترجمة"حميد" أنه يروي عن"عبد الله بن عمرو" -وهو خطأ، صوابه - كما قلنا-"عبد الله بن عمر". والحديث سيأتي: 5079، بإسناد آخر، من حديث أم سلمة وحدها. وسيأتي بأسانيد أخر، في بعضها: "عن أم سلمة وأم حبيبة" وفي سائرها: "عن أم سلمة أو أم حبيبة" 5076- 5078، 5080. وسنذكرها في مواضعها، إن شاء الله. أما من الوجه الذي هنا -رواية شعبة عن حميد-: فرواه الطيالسي: 1596، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه أحمد في المسند 6: 291-292 (حلبي) ، عن يحيى بن سعيد -وهو القطان- ثم رواه 6: 311، عن محمد بن جعفر، وعن حجاج -وهو ابن محمد المصيصي- ثلاثتهم عن شعبة، به، نحوه. ورواه البخاري 9: 432، و 10: 131، مطولا ومختصرا، من طريقين عن شعبة. وكذلك رواه مسلم 1: 434، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة. وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 353-354، من طريق يحيى وهو القطان، عن شعبة. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 439، من طريق الطيالسي ويحيى بن أبي بكير - كلاهما عن شعبة. ورواه مالك في الموطأ، ص: 596 - 598، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها -ثالث احاديث ثلاثة حدثت زينب بها حميد بن نافع- بمعناه ومن طريق مالك هذه، رواه الأئمة: فرواه عبد الرزاق في المصنف 4: 66-67 (مخطوط مصور) والبخاري 9: 427-428، ومسلم 1: 433 - 434، وأبو داود: 2299، والترمذي 2: 220، والنسائي 2: 114، وابن حبان في صحيحه (2: 91-92 مخطوطة التقاسيم، و 6: 457-458 مخطوطة الإحسان) . وهو في المنتقى للمجد بن تيمية، برقم: 3811. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 5074- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، سمعت نافعا، عن صفية ابنة أبي عبيد: أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبي صلي الله عليه وسلم تحدث، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا"= قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، (1) ولا تكتحل، ولا تزين. (2)   (1) الورس: نبت أصفر، يتخذ منه صبغ أصفر تصبغ به الثياب، ومنه ما يكون للزينة، كالزعفران. (2) الحديثان: 5074، 5075 - هما حديث واحد، مطول ومختصر، بإسنادين. عبد الوهاب في الإسناد الأول: هو ابن عبد المجيد الثقفي. ويزيد -في الإسناد الثاني: هو ابن هرون. يحيى بن سعيد- في الإسنادين: هو الأنصاري. ونافع: هو مولى ابن عمر. صفية بنت أبي عبيد بن مسعود، الثقفية: وهي تابعية ثقة، من فضليات النساء، وذكرها بعضهم في الصحابة، ولا يصح، وهي زوج عبد الله بن عمر. وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب. وشتان بين الأخوين. ووقع في ترجمتها في التهذيب 12: 430 أنه يروي عنها"نافع مولى ابن عباس". وهو سهو أو خطأ ناسخ. بل الذي يروي عنها هو"نافع مولى ابن عمر". ولها ترجمة في ابن سعد 8: 346 - 347، والإصابة 8: 131. والحديث رواه مسلم 1: 435، من طريق عبد الوهاب، عن يحيى. وهو الطريق الأول هنا. ولم يذكر لفظه كله. وكذلك رواه البيهقي 7: 438، من طريق عبد الوهاب، وذكر لفظه. ورواه أحمد في المسند 6: 286، عن يزيد بن هارون، وهو الطريق الثاني هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 5075- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى، عن نافع، عن صفية ابنة أبي عبيد، عن حفصة ابنة عمر: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج. 5076- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول، أخبرني حميد بن نافع: أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته، عن أم سلمة -أو أم حبيبة- زوج النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم، فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها، وأنها قد خافت على عينها= فزعم حميد عن زينب: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر. (1) .   (1) الحديث: 5076- هو الحديث الماضي: 5073، إلا أنه هنا"عن أم سلمة أو أم حبيبة"، على الشك. وكذلك في الإسناد بعده: 5077، وسيأتي في الإسناد: 5080، أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة" معا، دون شك فيه. أما روايته بالشك، بحرف"أو" - فلم أجدها قط. وأخشى أن يكون تحريفا من الناسخين. نعم روى الدارمي 2: 167، قصة أخرى لأم حبيبة، في آخرها حديث"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة. . . " إلخ - رواه عن هاشم بن القاسم، عن شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم حبيبة. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه إلى زينب"تحدث عن أمها، أو امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه". ولكنه حديث آخر غير هذا الحديث، ولعل زينب شكت أيضًا في الرواية التي هنا، كما شكت في الرواية التي عند الدارمي. وكذلك رواه مسلم 1: 434، عن ابن المثنى، عن ابن جعفر، عن شعبة، - في قصة أم حبيبة فقط، ثم قال حميد: "وحدثتنيه زينب عن أمها، وعن زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن امرأة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم". ثم روي عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة: "عن حميد بن نافع بالحديثين جميعا، حديث أم سلمة في الكحل، وحديث أم سلمة وأخرى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. غير أنه لم تسمها زينب - نحو حديث محمد بن جعفر". وأيا ما كان، فإن هذا الشك لا يؤثر في صحة الحديث. والروايات الثابتة تدل على أنها روته عن أمها وأم حبيبة، كما سيأتي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 5077- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع: أنه سمع زينب ابنة أم سلمة، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحل عينها، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر= قال ابن بشار، قال يزيد، قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بالبعرة، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا فإذا مرت بها سنة ألقت بعرة وراءها. (1) 5078- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا شعبة، عن يحيى، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد مثله (2)   (1) الحديث: 5077- هو الحديث السابق أيضًا، بإسناد آخر. ووقع في المطبوعة هنا"أو أم سلمة" على الشك، كالرواية السابقة. ولكني أوقن -هنا- أنه خطأ من ابن بشار، شيخ الطبري. فالحديث رواه مسلم 1: 434، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد -كلاهما عن يزيد بن هارون. بهذا الإسناد. وفيه: "أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة، تذكران: أن امرأة. . . "- إلخ. فهذا صريح في الرواية عنهما معا، لا رواية عن إحداهما. وكذلك رواه ابن ماجه: 2084، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، نحو رواية مسلم. ويؤيده: أن النسائي رواه 2: 115، من طريق حماد، عن يحيى الأنصاري، عن حميد، عن زينب: "أن امرأة سألت أم سلمة وأم حبيبة. . . فقالتا: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . " (2) الحديث: 5078- هو تكرار للحديث قبله، لم يذكر لفظه، وهو من رواية يزيد بن هارون، عن شعبة، عن يحيى الأنصاري، عن حميد. وأنا أخشى أن يكون في الإسناد تحريف من الناسخين، وأن يكون صوابه: "حدثنا شعبة، ويحيى". لأن الإسناد قبله، هو من رواية يزيد بن هارون عن يحيى مباشرة. فقد تكون الفائدة في تكرار هذا الإسناد: أن يكون ابن بشار سمعه من يزيد مرتين: مرة عن يحيى وحده، ومرة عن يحيى وشعبة. وإذا كان ما ثبت في المطبوعة صحيحا، كان ابن بشار سمعه هكذا، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 5079- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مات زوجها فاشتكت عينها، أفتكتحل؟ (1) فقال، قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي الآن أربعة أشهر وعشر! = قال، قلت: وما"ترمي بالبعرة على رأس الحول"؟ قال: كان نساء الجاهلية إذا مات زوج إحداهن، لبست أطمار ثيابها، (2) وجلست في أخس بيوتها، فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار وقالت: قد حللت! (3) 5080- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أمها أم سلمة وأم حبيبة زوجي النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد خفت على عينها، وهي تريد الكحل؟ قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول! وإنما هي أربعة أشهر وعشر! = قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الحول؟ قالت زينب: كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها، عمدت إلى أشر بيت لها   (1) في المخطوطة: "أفتكحل". (2) الأطمار جمع طمر (بكسر فسكون) : وهو الثوب الخلق، والكساء البالي. (3) الحديث: 5079- أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص: قرشي مكي ثقة حافظ فقيه. مذكور في نسب قريس للمصعب، ص: 183. وهذا الحديث تكرار للحديث: 5073، بأنه عن أم سلمة وحدها - كما قلنا هناك. وقد رواه النسائي 2: 115 - من طريق الليث بن سعد، عن أيوب بن موسى. ثم من طريق سفيان ابن عيينة، عن يحيى الأنصاري، به، نحوه، مطولا، ومختصرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 فجلست فيه، (1) حتى إذا مرت بها سنة خرجت، ثم رمت ببعرة وراءها. (2) 5081- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة عن عائشة: أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها، أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ولا معصفرا، ولا تكتحل بالإثمد، ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها، ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب، ولا تلبس حليا، وتلبس البياض ولا تلبس السواد. (3) 5082- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها: لا تكتحل، ولا تطيب، ولا تبيت عن بيتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب تجلبب به. (4)   (1) قوله: "أشر" على وزن"أفعل"، هكذا جاء هنا. وقال أهل اللغة: إنه لغة قليلة أو رديئة. وقد جاء في كثير من أمثالهم وكلامهم"أشر" و"شرى"، كأفضل وفضلى. ومنه قول امرأة من العرب: "أعيذك بالله من نفس حرى، وعين شرى" أي خبيثة، وفي المثل: "شراهن مراهن". وفي خبر العبادي قيل له: "أي حماريك أشر؟ " قال: "هذا ثم هذا". (2) الحديث: 5080- أحمد بن يونس: هو أحمد بن عبد الله بن يونس، مضى في: 2144. وهذا الحديث تكرار -في المعنى- للحديث: 5073، وللأحاديث: 5076-5079. وقد رواه هنا أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن يحيى الأنصاري، وذكر فيه أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة" معا. ولكن رواه النسائي 2: 115 -بنحوه- من طريق ابن أعين، وهو الحسن بن محمد بن أعين، عن زهير بن معاوية، بهذا الإسناد، من حديث"أم سلمة"، ولم يذكر فيه أم حبيبة. (3) الخبر: 5081- هذا أثر من فتوى عائشة وكلامها. ولكن تدل على صحة فتواها الأحاديث الصحاح. وهذا إسناده إليها صحيح. ولم أجده في شيء من المراجع غير هذا الموضع. المعصفر: هو الثوب المصبوغ بالعصفر. والإثمد: هو الكحل، أو حجر يتخذ منه الكحل، وهو أسود إلى الحمرة. والصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر، وهو مر، يتخذ منه الدواء. (4) قوله: "تبيت عن بيتها" أي تبيت بعيدة عن بيتها وتنتقل إلى غيره. والعصب: برود من اليمن، يعصب غزلها -أي يجمع ويشد- ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. تجلببت المرأة: لبست جلبابها، وهو ملاءتها التي تشتمل بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 5083- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: بلغني عن ابن عباس قال: تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزين وتطيب. 5084- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس ثوبا مصبوغا، ولا تمس طيبا، ولا تكتحل، ولا تمتشط= وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد. * * * وقال آخرون: إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل، فلم تنه عن ذلك، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه. * ذكر من قال ذلك: 5085- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن: أنه كان يرخص في التزين والتصنع، ولا يرى الإحداد شيئا. (1) 5086- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، لم يقل تعتد في بيتها، تعتد حيث شاءت. 5087- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال، قال ابن عباس: إنما قال الله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل تعتد في بيتها، فلتعتد حيث شاءت. * * * واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره، إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية على الخصوص= وبما: -   (1) تصنعت المرأة تصنعا: تزينت وتجملت وعالجت وجهها وغيره حتى يحسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 5088- حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي قال، حدثنا أبو عاصم، وحدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا أبو عامر = قالا جميعا، حدثنا محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: تسلبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت. (1)   (1) الحديث: 5088- محمد بن إبراهيم بن صدران الأزدي السلمي: ثقة، وثقه أبو داود وغيره. وقد ينسب إلى جده، ولذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3 / 2 / 190 في اسم"محمد بن صدران". "السلمي": هكذا ثبت هنا، وكذلك في التقريب، وضبطه بفتح السين، وكذلك ثبت في نسخة بهامش التهذيب، وفي التهذيب والخلاصة"السليمي"، ونص صاحب الخلاصة على أنه بإثبات الياء. ولكني لا أطمئن إلى ضبطه. وشيخه أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد. وأبو عامر -في الإسناد الثاني: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو. محمد بن طلحة بن مصرف -بفتح الصاد وتشديد الراء المكسورة- اليامي: ثقة، أخرج له الشيخان. وبعضهم تكلم فيه بما لا يجرحه. عبد الله بن شداد بن الهاد: نسب أبوه إلى جده، فهو"شداد بن أسامة بن عمرو"، و"عمرو": هو الهاد. قال ابن سعد: "وإنما سمي الهادي، لأنه كان توقد ناره ليلا للأضياف، ولمن سلك الطريق". وعبد الله بن شداد: من كبار التابعين القدماء الثقات، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ذكره بعضهم في الصحابة. وله ترجمتان في ابن سعد 5: 43-44، و 6: 86-87، وفي الإصابة 5: 60-61، 145. وأمه"سلمى بنت عميس"، أخت أسماء بنت عميس، فهو يروي هذا الحديث عن خالته. وأسماء بنت عميس: صحابية جليلة. وهي أخت ميمونة بنت الحارث -أم المؤمنين- لأمها. تزوجت أسماء جعفر بن أبي طالب، فقتل عنها، ثم تزوجت أبا بكر الصديق، ثم علي بن أبي طالب. وولدت لهم جميعا. وهي أم محمد بن أبي بكر الصديق. والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 8: 206، في ترجمة أسماء -رواه عن عفان بن مسلم، وإسحاق بن منصور، كلاهما عن محمد بن طلحة. ووقع فيه "تسلمى" بالميم بدل الباء. وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخين لا من الرواة، وسيأتي أن هذا الخطأ وقع لابن حبان، لكن من الرواة. ورواه أحمد في المسند، بمعناه، 6: 369، 438، عن يزيد بن هارون، عن أبي كامل ويزيد بن هارون وعفان - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 2: 44 بخمسة أسانيد إلى محمد بن طلحة. ورواه البيهقي 7: 438، من طريق مالك بن إسماعيل، عن محمد بن طلحة، بهذا الإسناد. ثم قال: "لم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقد قيل فيه: عن أسماء. فهو مرسل. ومحمد بن طلحة ليس بالقوى"!! وهو تعليل ضئيل متهافت. تعقبه فيه ابن التركماني في الجوهر النقي. ورواه ابن حزم في المحلى 10: 280، من وجهين آخرين، عن عبد الله بن شداد، مرسلا، ورده بعلة الإرسال. ولكن ثبت وصله عن غير روايته. وذكره المجد في المنتقى: 3819، 3820، من روايتي المسند. ولم ينسبه إلى غيره. ولم يرو في واحد من الكتب الستة، على اليقين من ذلك. فهو من الزوائد عليها. ولكني لم أجده في مجمع الزوائد، بعد طول البحث، في أقرب المظان من أبوابه وأبعدها. وذكره الحافظ في الفتح 9: 429، ووصفه بأنه"قوي الإسناد". وقال: "أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان". ونسبه أيضًا للطحاوي. ثم قال: "قال شيخنا في شرح الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق، وهي والدة أولاده: عبد الله، ومحمد، وعون، وغيرهم. قال: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز". وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه، ثم ذهب يجمع بينه وبين الأحاديث التي يعارضها، بآراء بعضها قد يقبل، وبعضها فيه تكلف غير مستساغ. وأجود ما قال العلماء في ذلك -عندنا- ما ذهب إليه الطبري هنا في الفقرة الثالثة بعد الحديث: 5090. وقريب منه ما قال المجد بن تيمية في المنتقى: "وهو متأول على المبالغة في الإحداد والجلوس للتعزية". وقال الحافظ، في آخر كلامه، في شأن رواية ابن حبان: "وأغرب ابن حبان، فساق الحديث بلفظ: تسملي، بالميم بدل الموحدة! وفسره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله!! ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث، بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد، فلذلك قيدها بالثلاث! هذا معنى كلامه، فصحف الكلمة وتكلف لتأويلها! وقد وقع في رواية البيهقي وغيره: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتسلب ثلاثا. فتبين خطؤه". تسلبت المرأة: لبست السلاب (بكسر السين) : وهي ثياب الحداد السود، تلبسها في المأتم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 5089- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم وابن الصلت، عن محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء عن النبي صلي الله عليه وسلم بمثله. * * * قالوا: فقد بين هذا الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم: أن لا إحداد على المتوفى عنها زوحها، وأن القول في تأويل قوله:"يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، إنما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره. * * * قال أبو جعفر: وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها، فإنهم اعتلوا بظاهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 التنزيل، وقالوا: أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه، بل عم بذلك معاني التربص. قالوا: فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها. قالوا: فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة، مما هو داخل في عموم الآية، كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا: وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب، أما في النقلة فإن: - 5090- أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن محمد، عن فليح بن سليمان، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته، عن الفريعة ابنة مالك، أخت أبي سعيد الخدري، قالت: قتل زوجي وأنا في دار، فاستأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في النقلة، فأذن لي. ثم ناداني بعد أن توليت، فرجعت إليه، فقال: يا فريعة، حتى يبلغ الكتاب أجله. (1) * * *   (1) الحديث 5090- يونس بن محمد بن مسلم، الحافظ البغدادي المؤدب: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. فليح -بالتصغير- بن سليمان بن أبي المغيرة المدني: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. تكلم فيه ابن معين وغيره. والراجح توثيقه. وقال الحاكم: "اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره". و"فليح" لقب غلب عليه، واسمه"عبد الملك". سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: ثقة لا يختلف فيه، كما قال ابن عبد البر. وهو تابعي روى عن أنس بن مالك. وتكلم فيه ابن حزم في المحلى بما لا يضره، زعم أنه"غير مشهور الحال"، ومرة أنه"مضطرب في اسمه، غير مشهور الحال"، ومرة أنه"غير مشهور العدالة"! انظر المحلى 3: 273، و 4: 138، و 10: 302. وفي المطبوعة هنا"سعيد" بدل"سعد". وهو خطأ قديم، وقع في الموطأ، ص: 591. وليس اختلاف رواية، ولا خطأ من مالك. إنما هو من يحيى بن يحيى راوي الموطأ، ومن رواة آخرين تبعوه. قال ابن عبد البر في التقصي، رقم: 123 هكذا قال يحيى: سعيد بن إسحاق، وتابعه بعضهم. وأكثر الرواة يقولون فيه: سعد بن إسحاق. وهو الأشهر، وكذا قال شعبة وغيره". وعلى الصواب"سعد"- رواه الشافعي في الرسالة والأم عن مالك. وكذلك رواه عنه سويد بن سعد، في روايته الموطأ. وكذلك رواه عنه محمد بن الحسن في الموطأ. عمة سعد بن إسحاق: هي"زينب بنت كعب بن عجرة الأنصارية"، وهي تابعية ثقة. بل ذكرها بعضهم في الصحابة. انظر الإصابة 8: 97-98، وابن سعد 8: 352. ووقع هنا في المطبوعة"عن عمته الفريعة"، بحذف"عن" بعد كلمة"عمته". وهو خطأ ناسخ أو طابع. فإن زينب عمة سعد هي زوجة أبي سعيد الخدري، وأما الفريعة فإنها أخت أبي سعيد، كما في نص الحديث. و"الفريعة بنت مالك بن سنان": صحابية قديمة معروفة، شهدت بيعة الرضوان. رضي الله عنها. وهذا الحديث هنا مختصر. وقد جاء بأسانيد صحاح، من رواية سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة -مختصرا ومطولا. ويكفي أن نذكر مواضع روايته، فيما وصل إلينا: فرواه مالك في الموطأ، مطولا، ص: 591، عن"سعد بن إسحاق". وذكر فيه خطأ باسم"سعيد"، كما بينا من قبل. ورواه الشافعي في الرسالة: 1214 (بتحقيقنا) ، وفي الأم 5: 208-209، ومحمد بن الحسن في موطئه، ص: 268، وسويد بن سعيد في موطئه، ص: 123-124 (مخطوط مصور) - كلهم عن مالك، عن سعد بن إسحاق. ورواه الدارمي 2: 168، وابن سعد 8: 268، وأبو داود: 2300، والترمذي 2: 224-225، والبيهقي 7: 434، وابن حبان في صحيحه 6: 447-448 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن حزم في المحلى 10: 301- كلهم من طريق مالك، به. ورواه الطيالسي: 1664، وعبد الرزاق في المصنف 4: 60-61 (مخطوط مصور) ، وأحمد في المسند 6: 370، 420-421 (حلبي) ، وابن سعد 8: 267-268، والترمذي 2: 225، والنسائي 2: 113، وابن ماجه: 2031، وابن الجارود، ص: 349-350، وابن حبان 6: 449، والحاكم 2: 208، والبيهقي 7: 434-435، بأسانيد كثيرة، مطولا ومختصرا، من طريق سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة. وصححه الترمذي، ومحمد بن يحيى الذهلي، فيما حكاه عنه الحاكم، والذهبي. وذكره السيوطي 1: 289-290 نسبه إلى كثير ممن أشرنا إليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 قالوا: فبين رسول الله صلي الله عليه وسلم صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها، [وبطل] ما خالفه. (1) قالوا: وأما ما روي عن ابن عباس: فإنه لا معنى له، بخروجه عن ظاهر التنزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم. قالوا: وأما الخبر الذي روي عن أسماء ابنة عميس، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلب ثلاثا، ثم أن تصنع ما بدا لها - فإنه غير دال   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. والمطبوعة والمخطوطة سواء في نصهما هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 على أن لا حداد على المرأة، (1) بل إنما دل على أمر النبي صلي الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه، مما لم يكن زينة ولا مطيبا، (2) لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب، وذلك كالذي أذن صلي الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العصب وبرود اليمن، فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلب. وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه، فإن لها لبسه، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس. * * * قال أبوجعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل: وعشرة؟ وإذ كان التنزيل كذلك: أفبالليالي تعتد المتوفى عنها العشر، أم بالأيام؟ قيل: بل تعتد بالأيام بلياليها. فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فكيف قيل:"وعشرا"؟ ولم يقل: وعشرة؟ والعشر بغير"الهاء" من عدد الليالي دون الأيام؟ فإن أجاز ذلك المعنى فيه ما قلت، (3) فهل تجيز:"عندي عشر"، وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟ قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام، وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال النساء. وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة، إذا أبهمت العدد، غلبت فيه الليالي، حتى إنهم فيما روي لنا عنهم ليقولون:"صمنا عشرا من شهر رمضان"، لتغليبهم الليالي على الأيام. وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام. فإذا أظهروا مع العدد مفسره، (4) أسقطوا من عدد المؤنث"الهاء"،   (1) في المطبوعة: "أن لا إحداد"، وهما سواء. "حدت المرأة تحد حدا وحدادا" و"أحدت تحد إحدادا". لبست الحداد (بكسر الحاء) ، وهو ثياب المأتم السود. "الحداد" اسم ومصدر. (2) في المطبوعة: "ولا تطيبا". والصواب ما أثبته من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فإن أجاز ذلك المغني"، والصواب ما أثبت من المخطوطة. (4) المفسر: هو المميز. والتفسير: التمييز، انظر ما سلف 2: 338 تعليق: 1 / م 3: 90 تعليق: 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وأثبتوها في عدد المذكر، كما قال تعالى ذكره: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) [سورة الحاقة: 7] ، فأسقط"الهاء" من"سبع" وأثبتها في"الثمانية". وأما بنو آدم، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء، ثم أبهمت عددها: أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث. وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم، وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم. وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى، كما قيل للذكر والأنثى"شاة"، وقيل للذكور والإناث من البقر:"بقر"، وليس كذلك في بني آدم. (1) * * * فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر؟ قيل: قد قيل في ذلك، فيما: - 5091- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال: قلت: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح في العشر. 5092- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو عاصم، عن سعيد، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 151-152، فهذا من كلامه بغير لفظه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (1) فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهن فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهن- وذلك بعد انقضاء عدهن، ومضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة="فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، يقول: فلا حرج عليكم أيها الأولياء -أولياء المرأة- فيما فعل المتوفى عنهن حينئذ في أنفسهن، من تطيب وتزين ونقله من المسكن الذي كن يعتددن فيه، ونكاح من يجوز لهن نكاحه="بالمعروف"، يعني بذلك: على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن. (2) . * * * وقد قيل: إنما عنى بذلك النكاح خاصة. وقيل إن معنى قوله:"بالمعروف" إنما هو النكاح الحلال. * ذكر من قال ذلك: 5093- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: الحلال الطيب. 5094- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: المعروف النكاح الحلال الطيب. 5095- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال ابن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني تعالى ذكره بقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر ما سلف في تفسير"المعروف" 5: 76 والمراجع هناك في التعليق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 جريج، قال مجاهد: قوله:"فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: هو النكاح الحلال الطيب. 5096- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو النكاح. 5097- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: في نكاح من هويته، إذا كان معروفا. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله بما تعملون"، أيها الأولياء، في أمر من أنتم وليه من نسائكم، من عضلهن وإنكاحهن ممن أردن نكاحه بالمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم، ="خبير"، يعني ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء. (2) * * *   (1) في المطبوعة"هويته" بالجمع والنون، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر ما سلف في معنى"خيبر" في فهارس اللغة، ومباحث العربية. * * * وقد انتهى هنا التقسيم القديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا، وفيها ما نصه: "وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا على الأصل بلغت القراءة والسماع من أوله بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى السعدي، لأخيه علي وأحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، على القاضي أبي الحسن الخصيبي، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، وقابل به بكتاب القاضي الخصيبي، فصحت، وذلك في شعبان سنة ثمان وأربعمائة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 (1) القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا جناح عليكم، أيها الرجال، فيما عرضتم به من خطبة النساء، للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عددهن، ولم تصرحوا بعقد نكاح. والتعريض الذي أبيح في ذلك، هو ما: - 5098- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض أن يقول:"إني أريد التزويج"، و"إني لأحب امرأة من أمرها وأمرها"، يعرض لها بالقول بالمعروف. 5099- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال:"إني أريد أن أتزوج". 5100- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد: عن ابن عباس قال: التعريض ما لم ينصب للخطبة، (2)   (1) هذا نص أول التقسيم القديم: "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر". (2) نصب الشيء ينصب نصبا: إذا قصده وتجرد له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 = قال مجاهد: قال رجل لامرأة في جنازة زوجها: لا تسبقيني بنفسك! قالت: قد سبقت! 5101- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: في هذه الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض، ما لم ينصب للخطبة. 5102- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض أن يقول للمرأة في عدتها:"إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله"، و"لوددت أني وجدت امرأة صالحة"، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها. 5103- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، يقول: يعرض لها في عدتها، يقول لها:"إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك"، ونحو هذا من الكلام، فلا حرج. 5104- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: هو أن يقول لها في عدتها:"إني أريد التزويج، ووددت أن الله رزقني امرأة"، ونحو هذا، ولا ينصب للخطبة. 5105- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في هذه الآية، قال: يذكرها إلى وليها، يقول:"لا تسبقني بها". 5106- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يقول:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير". 5107- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنه كره أن يقول:"لا تسبقيني بنفسك". 5108- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قل: هو قول الرجل للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير". 5109- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يعرض للمرأة في عدتها فيقول: والله إنك لجميلة، وإن النساء لمن حاجتي، وإنك إلى خير إن شاء الله". 5110- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قال: هو قول الرجل:"إني أريد أن أتزوج، وإني إن تزوجت أحسنت إلى امرأتي"، هذا التعريض. 5111- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يقول:"لأعطينك، لأحسنن إليك، لأفعلن بك كذا وكذا. (1) 5012- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، أخبرني عبد الرحمن بن القاسم في قوله:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: قول الرجل للمرأة في عدتها يعرض بالخطبة:"والله إني فيك   (1) في المخطوطة والمطبوعة"لأحسن إليك"، والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 لراغب، وإني عليك لحريص"، ونحو هذا. 5113- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، هو قول الرجل للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير". 5114- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: كيف يقول الخاطب؟ قال: يعرض تعريضا، ولا يبوح بشيء. يقول:"إن إلي حاجة، وأبشري، وأنت بحمد الله نافقة"، ولا يبوح بشيء. قال عطاء: وتقول هي:"قد أسمع ما تقول"، ولا تعده شيئا، ولا تقول:"لعل ذاك". 5115- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم يقول في المرأة يتوفى عنها زوجها، والرجل يريد خطبتها ويريد كلامها، ما الذي يجمل به من القول؟ قال يقول:"إني فيك لراغب، وإني عليك لحريص، وإني بك لمعجب"، وأشباه هذا من القول. 5116- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا بأس بالهدية في تعريض النكاح. 5117- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة قال: كان إبراهيم لا يرى بأسا أن يهدى لها في العدة، إذا كانت من شأنه. (1) 5118- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،   (1) قوله: "من شأنه"، أي من حاجته وإرادته وقصده. يقال: شأن شأنه، أي قصد قصده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 عن عامر في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال يقول:"إنك لنافقة، وإنك لمعجبة، وإنك لجميلة" (1) وإن قضى الله شيئا كان". 5119- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان إبراهيم النخعي يقول:"إنك لمعجبة، وإني فيك لراغب". 5120- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني - يعني شبيبا- عن سعيد، عن شعبة، عن منصور، عن الشعبي أنه قال في هذه الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا تأخذ ميثاقها ألا تنكح غيرك. (2) 5121- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان أبي يقول: كل شيء كان، دون أن يعزما عقدة النكاح، فهو كما قال الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء". 5122- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال حدثنا زيد =جميعا، عن سفيان قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، والتعريض فيما سمعنا أن يقول الرجل وهي في عدتها:"إنك لجميلة، إنك إلى خير، إنك لنافقة، إنك لتعجبيني"، ونحو هذا، فهذا التعريض. 5123- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن خالته سكينة ابنة حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: يا ابنة حنظلة،   (1) في المخطوطة: "وإنك لمعجبة، لجميلة"، وهما سواء. (2) في المطبوعة: "لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق جدي علي، وقدمي في الإسلام. فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك! فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي! قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وكانت عتد ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شده تحامله على يده، فما كانت تلك خطبة. (1) 5124- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا جناح على من عرض لهن بالخطبة قبل أن يحللن، إذا كنوا في أنفسهن من ذلك. (2) 5125- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أييه أنه كان يقول في قول الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء": أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدة من وفاه زوجها:"إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله سائق إليك خيرا ورزقا"، ونحو هذا من الكلام. * * *   (1) الأثر: 5123- عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر الراهب" يعرف بابن الغسيل، وهو جد أبيه، حنظلة الذي غسلته الملائكة يوم أحد. وقال ابن معين: "ليس به بأس"، كان يخطئ ويهم، قال أحمد: صالح. مات سنة 171. مترجم في التهذيب. و"أبو جعفر محمد بن علي" هو محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابنه جعفر الصادق، وكان من فقهاء المدينة، وسيد بني هاشم في زمانه، جمع العلم والفقه والشرف والديانة والثقة والسؤدد وكان يصلح للخلافة، وهو أحد الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم - ولا عصمة إلا لنبي! توفى سنة 114. مترجم في التهذيب، وتاريخ الإسلام للذهبي 4: 299. ولم أجد هذا الخبر إلا في البغوي بهامش تفسير ابن كثير 1: 567. (2) كن الشيء في صدره وأكنه واكتنه: أخفاه وستره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في معنى"الخطبة". فقال بعضهم:"الخطبة" الذكر، و"الخطبة": التشهد. (1) وكأن قائل هذا القول، تأول الكلام: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن. (2) وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال:"لا تواعدوهن سرا"، لأنه لما قال:"ولا جناح عليكم"، كأنه قال: اذكروهن، ولكن لا تواعدوهن سرا. * * * وقال آخرون منهم:"خطبه، خطبة وخطبا". (3) قال: وقول الله تعالى ذكره: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) [سورة طه: 95] ، يقال إنه من هذا. قال: وأما"الخطبة" فهو المخطوب [به] ، من قولهم: (4) "خطب على المنبر واختطب". * * * قال أبو جعفر:"والخطبة" عندي هي"الفعلة"من قول القائل:"خطبت فلانة" ك"الجلسة"، من قوله:"جلس" أو"القعدة" من قوله"قعد". (5)   (1) هذا قول الأخفش، وانظر تفسير البغوي 1: 567. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "عندهم" وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبت، وانظر أيضًا تفسير البغوي 1: 567. (3) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم: الخطبة أخطب خطبه وخطبا"، وهو كلام فاسد التركيب، فيه زيادة من ناسخ. وفي المخطوطة: "وقال آخرون منهم: "الخطبة وخطبه وخطبا"، وهو فاسد أيضًا، والصواب ما أثبت. فإن يكن في كلام الطبري نقص أو خرم، فهو تفسير هذه الكلمة، وقد أبان عنها صاحب أساس البلاغة فقال: "فلان يخطب عمل كذا: يطلبه. وقد أخطبك الصيد فارمه - أي أكثبك وأمكنك. وأخطبك الأمر، وهو أمر مخطب: ومعناه: أطلبك- من"طلبت إليه حاجة فأطلبني". وما خطبك: ما شأنك الذي تخطبه. ومنه: هذا خطب يسير، وخطب جليل. وهو يقاسي خطوب الدهر". فقد أبان ما نقلته عن الزمخشري أنه أراد أن يقول: خطب الأمر يخطبه خطبة وخطبا، أي طلبه. ولم يستوف أبو جعفر تفسير هذه الكلمة في"سورة طه" الآية: 95، فأثبت تفسيره هنالك. (4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، يعني: الكلام المخطوب به. (5) يعني أنه مصدر، وانظر ما سلف في وزن"فعلة" في فهارس مباحث العربية في الأجزاء السالفة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 152، وتفسير أبي حيان 2: 221. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 ومعنى قولهم:"خطب فلان فلانة"، سألها خطبه إليها في نفسها، وذلك حاجته، من قولهم:"ما خطبك"؟ بمعنى: ما حاجتك، وما أمرك؟ * * * وأما"التعريض"، فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع الفهم ما يفهم بصريحه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، أو أخفيتم في أنفسكم، فأسررتموه، من خطبتهن، وعزم نكاحهن وهن في عددهن، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك، إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله. * * * يقال منه:"أكن فلان هذا الأمر في نفسه، فهو يكنه إكنانا"، و"كنه"، إذا ستره،"يكنه كنا وكنونا"، و"جلس في الكن" ولم يسمع"كننته في نفسي"، (2) وإنما يقال:"كننته في البيت أو في الأرض"، إذا خبأته فيه، ومنه قوله تعالى ذكره: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [سورة الصافات: 49] ، أي مخبوء، ومنه قول الشاعر: (3) ثلاث من ثلاث قداميات ... من اللائي تكن من الصقيع (4)   (1) لحن الكلام: هو الإيماء في الكلام دون التصريح، وعبارة الطبري في تفسير هذه الكلمة، عبارة جيدة. ليس لها شبيه في كتب اللغة في شرح هذا الحرف. (2) ذكر أصحاب اللغة أن ذلك قيل، واستشهدوا بقول أبي قطيفة: قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها ... وما ينالون حتى الموت مكنوني (3) لم أستطع أن أعرف قائله. (4) معاني الفراء 1: 152، واللسان (كنن) . قداميات جمع قدامى، والقدامى واحد. وجمع، وهو هنا واحد. والقدامى والقوادم في الطير: عشر ريشات في كل جناح. وقوله: "ثلاث من ثلاث قداميات"، كأنه يريد أنه اختار من قوادم ثلاث من الطير، ثلاث ريشات من ريشه، وكأنه يريد ذلك لأسهمه، يريش الأسهم بها. والصقيع: الذي يسقط بالليل، شبيه بالثلج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 و"تكن" بالتاء، وهو أجود، و"يكن". (1) ويقال:"أكنته ثيابه من البرد""وأكنه البيت من الريح". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5126- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو أكنتم في أنفسكم"، قال: الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف. 5127- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. 5128- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء، ولا يتكلم بشيء. 5129- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول، فذكر نحوه. 5130- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: جعلت في نفسك نكاحها وأضمرت ذلك.   (1) في المطبوعة: "بالتاء هو أجود"، وزيادة الواو من المخطوطة. هذه الجملة غير بينة المعنى عندي، وكأن صوابها"وتكن بالتاء المضمومة، وهو أجود وتكن". ويعني أن الأول من"أكن يكن"، وأن الأخرى من"كن يكن". كما هو ظاهر من استدلاله هذا. وقد عقب الفراء على هذا البيت بقوله: "وبعضهم يرويه"تكن" من"أكننت". فهذا يرجح ما ذهبت إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 5131- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"أوأكننتم في أنفسكم"، أن يسر في نفسه أن يتزوجها. 5132- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أسررتم. * * * قال أبو جعفر: وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح، (1) ما أبان عن افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح، منه. وإذا كان ذلك كذلك، تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به، وأن الحد بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به، لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة، نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فيها. وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في ذلك، الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف. * * * القول في تأويل قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: علم الله أنكم ستذكرون المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم، كما: - 5133- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: الخطبة.   (1) قوله: "لها" متعلق بقوله: "التعريض"، أي: التعريض لها، وسياق هذه الجملة والتي تليها: "وفي إباحة الله تعالى ذكره. . . ما أبان عن افتراق حكم التعريض". وقوله: "منه" في الجملة التالية، أي: افتراق حكم التعريض من حكم التصريح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 5134- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: ذكرك إياها في نفسك. قال: فهو قول الله:"علم الله أنكم ستذكرونهن". 5135- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: هي الخطبة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"السر" الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به. فقال بعضهم: هو الزنا. * ذكر من قال ذلك: 5136- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا همام، عن صالح الدهان، عن جابر بن زيد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: الزنا. (1) 5137- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي مجلز قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا. 5138- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز مثله. 5139- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،   (1) الأثر: 5136-"صالح الدهان"، هو صالح بن إبراهيم الدهان الجهني، أبو نوح. وهو ثقة. ترجم في الجرح والتعديل 2 / 1 / 393، وانظر التهذيب 4: 388. وجابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء. مترجم في التهذيب، وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير. مات سنة 93. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز مثله. 5140- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مجلز:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا= قيل لسفيان التيمي: ذكره؟ قال: نعم. 5141- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن رجل، عن الحسن في المواعدة مثل قولة أبي مجلز. 5142- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: الزنا. 5143- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا أشعث وعمران، عن الحسن مثله. 5144- حدثنا ابن بشار قال حدثنا، عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان، عن السدي قال: سمعت إبراهيم يقول:"لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا. 5145- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن إبراهيم مثله. 5146- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا. 5147- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا. 5148- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الفاحشة. 5149- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك= وحدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر عن الضحاك:"لا تواعدوهن سرا"، قال: السر: الزنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 5150- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تواعدوهن سرا"، قال: فذلك السر: الريبة. (1) كان الرجل يدخل من أجل الريبة وهو يعرض بالنكاح، فنهى الله عن ذلك إلا من قال معروفا. 5151- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور، عن الحسن وجويبر، عن الضحاك وسليمان التيمي، عن أبي مجلز أنهم قالوا: الزنا. 5152- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، للفحش والخضع من القول. (2) 5153- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: هو الفاحشة. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم. * ذكر من قال ذلك: 5154- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"لا تواعدوهن سرا"، يقول: لا تقل لها:"إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري"، ونحو هذا. 5155- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال:   (1) في المطبوعة: "الزنية" في هذا الموضع والذي يليه، والصواب من المخطوطة. والريبة (بكسر الراء) : الشك والظنة والتهمة، وهو كناية عن كل أمر قبيح يرتاب فيه وفي صاحبه. (2) الخضع (بفتح فسكون) مصدر خضع الرجل: ألان الكلام للمرأة: وقد ضبط في المخطوطة بضم الخاء، ولم أجده. و"خضع" من باب"نفع"، نص على ذلك صاحب معيار اللغة. وفي حديث عمر أن رجلا في زمانه مر برجل وامرأة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه، فرفع إلى عمر فأهدره" أي: لينا بينهما الحديث، وتكلما بما يطمع كلا منهما في الآخر. وسيأتي"خضع القول" أيضًا في تفسيره 22: 3 (بولاق) ، وسيأتي أيضًا في الأثر رقم: 5162. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 لا يقاضها على كذا وكذا أن لا تتزوج غيره. (1) 5156- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر. ومجاهد وعكرمة قالوا: لا يأخذ ميثاقها في عدتها، أن لا تتزوج غيره. 5157- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور قال: ذكر في عن الشعبي أنه قال في هذه الآية:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك. 5158- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الشعبي:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ ميثاقها في أن لا تتزوج غيره. 5159- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي قال: سمعته يقول في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك، ولا يوجب العقدة حتى تنقضي العدة. (2) 5160- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الشعبي:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ عليها ميثاقا أن لا تتزوج غيره. 5161- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكن لا تواعدهن سرا"، يقول:"أمسكي علي نفسك، فأنا أتزوج"= ويأخذ عليها عهدا="لا تنكحي غيري". (3)   (1) في المطبوعة: "لا يقاصها"، وهو كذلك في المخطوطة غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. قاضاه على الأمر: فصل فيه وأبرمه وحتمه وفرغ منه. وفي كتاب صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد. . . " وهو شبيه بالمعاهدة. (2) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي". . . "بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد. (3) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي". . . . "بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 5162- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تتزوج غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول بالمعروف، ونهى عن الفاحشة والخضع من القول. (1) 5163- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: إن تواعدها سرا على كذا وكذا،"على أن لا تنكحي غيري". 5164- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال: موعدة السر أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا أن تحبس نفسها عليه، ولا تنكح غيره. 5165- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل:"لا تسبقيني بنفسك". * ذكر من قال ذلك: 5166 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: قول الرجل للمرأة:"لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك"، هذا لا يحل. 5167- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو قول الرجل للمرأة:"لا تفوتيني". 5168- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: المواعدة أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك".   (1) انظر التعليق على الأثر السالف: 5152. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 5169- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سرا. * ذكر من قال ذلك: 5170- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" يقول: لا تنكحوهن سرا، ثم تمسكها، حتى إذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها. 5171- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكن تواعدوهن سرا"، قال: كان أبي يقول: لا تواعدوهن سرا، ثم تمسكها، وقد ملكت عقدة نكاحها، فإذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، تأويل من قال:"السر"، في هذا الموضع، الزنا. وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة"سرا"، لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه، فيسمى لخفائه"سرا"، من ذلك قوله رؤبة بن العجاج: فعف عن أسرارها بعد العسق ... ولم يضعها بين فرك وعشق (1) يعني بذلك: عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك، ومنه قول الحطيئة:   (1) ديوانه: 104، واللسان (عسق) (عشق) (فرك) (سرر) ، وفي اللسان في بعض مواده"إسرارها" بالكسر، وهو خطأ، وفي بعضها"الغسق"، وهو خطأ أيضًا. والأسرار جمع سر. والعسق، مصدر"عسق به يعسق": لزمه وأولع به. والفرك (بكسر الفاء وسكون الراء) بغضة الرجل امرأته، أو بغضة امرأته له. وامرأة فارك وفروك، تكره زوجها. ورجل مفرك (بتشديد الراء) . لا يحظى عند النساء. والعشق (بكسر فسكون) والعشق (بفتحتين) مصدر"عشق يعشق". والضمير في قوله: "فعف"، عائد إلى حمار الوحش الذي يصفه ويصف أتنه. والضمير في"أسرارها" عائد إلى الأتن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع (1) وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه:"سرا". ويقال:"هو في سر قومه"، يعني: في خيارهم وشرفهم. فلما كان"السر" إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف= فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو"السر" الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعد بين المتواعدين، (2) "والسر" الذي بمعنى الغشيان والجماع. فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معني به، صح أن الآخر هو المعني به. * * * فإن قال [قائل] : (3) فما الدلالة على أن مواعدة القول سرا، غير معني به= على ما قال من قال إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره، أو على ما قال من قال: قول الرجل لها:"لا تسبقيني بنفسك"؟ قيل: لأن"السر" إذا كان بالمعنى الذي تأوله قائلو ذلك، فلن يخلو ذلك"السر" من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره= أو   (1) ديوانه: 93، واللسان (أنف) يمدح بني رياح وبني كليب من بني يربوع. أنف كل شيء: طرفه وأوله. والقصاع جمع قصعة: وهي الجفنة الضخمة. يذكر عفتهم وحفاظهم وامتناعهم من انتهاك حرمة الجارة، واقتراف الإثم في حقها، ويصف كرمهم وإيثارهم جارهم بالطعام على أنفسهم، فلا يتقدمونه إلى الطعام حتى يأخذ منه ما يشتهي وما يكفيه. وقبل البيت: فليس الجار جار بني رياح ... بمقصى في المحل ولا مضاع هم صنعوا لجارهم، وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع (2) في المطبوعة: "نفس المواعدين المتواعدين"، والصواب من المخطوطة. (3) هذه الزيادة استظهرتها من مئات أشباهها مضت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه، بعد انقضاء عدتها، وبعد عقده له، دون الناس غيره. فإن كان"السر" الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات، هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون"السر" معناه: ما أخفى من الأمور في النفوس، أو نطق به فلم يطلع عليه، وصارت العلانية من الأمر سرا. وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل القرآن بلسانه. إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهن ذلك سرا بينهم وبينهن، لا أن نفس الكلام بذلك - وإن كان قد أعلن- سر. فيقال له إن قال ذلك: فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية، إذ كان المنهي عنه من المواعدة، إنما هو ما كان منها سرا. فإن قال: إن ذلك كذلك، خرج من قول جميع الأمة. على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأول الآية أن"السر" ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد. وإن قال: ذلك غير جائز. قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلى المرأة بالمواعدة. لأن معنى ذلك، لو كان كذلك، لم يحرم عليه مواعدتها مجاهرة وعلانية. وفي كون ذلك عليه محرما سرا وعلانية، ما أبان أن معنى"السر" في هذا الموضع، غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة بالمعاهدة أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها= أو يكون، إذا بطل هذا الوجه، معنى ذلك: الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل أن لا تعدوه إلى غيره. فذلك إذا كان، فإنما يكون بولي وشهود علانية غير سر. وكيف يجوز أن يسمى سرا، وهو علانية لا يجوز إسراره؟ وفي بطول هذه الأوجه أن يكون تأويلا لقوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" بما عليه دللنا من الأدلة، وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى الغشيان والجماع. وإذ كان ذلك صحيحا، فتأويل الآية: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 عرضتم به للمعتدات من وفاه أزوجهن، من خطبة النساء، وذلك حاجتكم إليهن، فلم تصرحوا لهن بالنكاح والحاجة إليهن، إذا أكننتم في أنفسكم، فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكم إياهن في أنفسكم، ما دمن في عددهن؛ علم الله أنكم ستذكرون خطبتهن وهن في عددهن، فأباح لكم التعريض بذلك لهن، وأسقط الحرج عما أضمرته نفوسكم -حكم منه (1) ولكن حرم عليكم أن تواعدوهن جماعا في عددهن، بأن يقول أحدكم لإحداهن في عدتها:"قد تزوجتك في نفسي، وإنما أنتظر أنقضاء عدتك"، فيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الجماع والمباضعة، فحرم الله تعالى ذكره ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} قال أبو جعفر: ثم قال تعالى ذكره:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، فاستثنى القول المعروف مما نهي عنه، من مواعدة الرجل المرأة السر، وهو من غير جنسه، ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل: أن يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة، وتكون"إلا" فيه بمعنى"لكن"، (2) فقوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا" منه- ومعناه: ولكن قولوا قولا معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن يقول لها المعروف من القول في عدتها، وذلك هو ما أذن له بقوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، كما: - 5172- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير:"إلا أن تقولوا   (1) في المطبوعة: "حلما منه" وأثبت صوب ما في المخطوطة. (2) انظر ما سلف 2: 263-265 / ثم 3: 204 - 206. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 قولا معروفا"، قال: يقول: إني فيك لراغب، وإني لأرجو أن نجتمع. 5173- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أنه تقولوا قولا معروفا"، قال: هو قوله:"إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك". 5174- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: يعني التعريض. 5175- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: يعني التعريض. 5176- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به خطبة النساء" إلى"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: هو الرجل يدخل على المرأة وهي في عدتها فيقول:"والله إنكم لأكفاء كرام، وإنكم لرغبة، (1) وإنك لتعجبيني، وإن يقدر شيء يكن". فهذا القول المعروف. 5177- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد- قالا جميعا، قال سفيان:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال يقول:"إني فيك لراغب، وإني أرجو إن شاء الله أن نجتمع". 5178- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال يقول:"إن لك عندي كذا، ولك عندي كذا، وأنا معطيك كذا وكذا". قال: هذا كله وما كان قبل أن يعقد عقدة النكاح،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "لرعة"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وقرأتها كذلك - لأنه أوفق، ولأني لم أجد لقوله"رعة" معنى. وسمى المرأة"رغبة"، كما يسميها"هوى" بالمصدر، أي: يرغب فيك. ومنه الرغيبة: وهو الشيء المرغوب فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 فهذا كله نسخه قوله:"ولا تعزموا وعقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله". 5179- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها، فيأتيها الرجل فيقول:"احبسي علي نفسك، فإن لي بك رغبة، فتقول:"وأنا مثل ذلك"، فتتوق نفسه لها. (1) فذلك القول المعروف. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح"، ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة، فتوجبوها بينكم وبينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة ="حتى يبلغ الكتاب أجله"، يعني: يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، فجعل بلوغ الأجل للكتاب، والمعنى للمتناكحين، أن لا ينكح الرجل المرأة المعتدة، فيعزم عقدة النكاح عليها حتى تنقضي عدتها، فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها، كما: - 5180- حدثنا محمد بن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد:"حتى يبلغ الكتاب أجلا"، قال: حتى تنقضي العدة. 5181- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) في المخطوطة: "فتؤتي نفسه لها"، ولم أجدها في مكان آخر، والذي في المطبوعة لا بأس به، وهو قريب الدلالة على المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 السدي قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنضي أربعة أشهر وعشر. 5182- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة. 5183- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 5184- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: تنقضي العدة. 5185- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة. 5186- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: لا يتزوجها حتى يخلو أجلها. (1) 5187- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي في قوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: مخافة أن تتزوج المرأة قبل انقضاء العدة. (2) 5188- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، حتى تنقضي العدة. 5189- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة. * * *   (1) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى. (2) الأثر: 5187-"أبو قتيبة"، هو: سلم بن قتيبة الشعيري، أبو قتيبة الخراساني. "ثقة، ليس به بأس، يكتب حديثه"، مات سنة 201. مترجم في التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واعلموا، أيها الناس، أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم، فاحذروه. يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه، من عزم عقدة نكاحهن، أو مواعدتهن السر في عددهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات، وفي غير ذلك="واعلموا أن الله غفور"، (1) يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها، فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة المعتدات، وذكرهم إياهن في حال عددهن، وفي غير ذلك من خطاياهم= وقوله:"حليم"، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم. * * * القول في تأويل قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم"، لا حرج عليكم إن طلقتم النساء. (2) يقول: لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم،   (1) انظر"غفور" فيما سلف، في فهارس اللغة في الأجزاء السالفة. (2) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 3: 230، 231 / ثم 4: 162، 566 / ثم 5: 71 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 ="ما لم تماسوهن"، (1) يعني بذلك: ما لم تجامعوهن. * * * "والمماسة"، في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع، كما: - 5190- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع= وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر= قالا جميعا، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: المس الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء. (2) 5191- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: المس: النكاح. * * * قال أبو جعفر: وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك. (3) فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والبصرة:"ما لم تمسوهن"، بفتح"التاء" من"تمسوهن"، بغير"ألف"، من قولك: مسسته أمسه مسا ومسيسا ومسيسى" مقصور مشدد غير مجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك، إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [سورة آل عمران: 47، سورة مريم: 20] . * * * وقرأ ذلك آخرون:"ما لم تماسوهن"، بضم"التاء والألف" بعد"الميم"، إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [سورة المجادلة: 3] ، وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك:"ماسست الشيء أمماسه مماسة ومساسا. (4)   (1) في المطبوعة والمخطوطة، نص الآية"تمسوهن"، وفي التفسير"تماسوهن"، وهذا دليل على أنها كانت قراءة الطبري في أصله، أما قراءة كاتب النسخة المخطوطة، وقراءتنا في مصحفنا هذا، فهي"تمسوهن"، وسيذكر الطبري القراءتين. (2) في المطبوعة: "ما يشاء بما شاء"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "وقد اختلفت القراء"، وأثبت ما في المخطوطة. والقَرَأَة (بفتحات) جمع قارئ. (4) ليس في المطبوعة: "أماسه" وزدتها في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 * * * قال أبو جعفر: والذي نرى في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، متفقا التأويل، وإن كان في إحداهما زيادة معنى، غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم. وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له:"مسست زوجتي"، أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماس، ما لاقاه مثله من بدن الماس. فكل واحد منهما = وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي ماس صاحبه= (1) معقول بذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه. (2) فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين= مع اتفاق معانيهما، وكثرة القرأة بكل واحدة منهما= (3) بأنها أولى بالصواب من الأخرى، بل الواجب أن يكون القارئ، بأيتهما قرأ، مصيب الحق في قراءته. * * * قال أبو جعفر: وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، المطلقات قبل الإفضاء إليهن في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا أن ذلك كذلك، لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين: إما مسمى لها الصداق، أو غير مسمى لها ذلك. فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره، أن المعنية بقوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، إنما هي المسمى لها. لأن المعنية بذلك، لو كانت غير المفروض لها الصداق، لما كان لقوله:"أو تفرضوا لهن فريضة"، معنى معقول. إذ كان لا معنى لقول قائل:"لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهن فريضة في نكاح لم تماسوهن فيه، أو ما لم تفرضوا لهن فريضة". فإذا كان لا معنى لذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك: لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تماسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "ماس صاحبه"، والأجود أن يقول: "مس صاحبه". (2) في المخطوطة: "فذلك الخبر نفسه"، وفي المطبوعة: "كذلك الخبر. . . "، وكلتاهما فاسدة مسلوبة المعنى. (3) في المطبوعة: "وكثرة القراءة"، وهو فاسد، والقَرَأَة جمع قارئ كما سلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو تفرضوا لهن"، أو توجبوا لهن. وبقوله:"فريضة"، صداقا واجبا. كما: - 5192- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"أو تفرضوا لهن فريضة"، قال: الفريضة: الصداق. * * * وأصل"الفرض": الواجب، (1) كما قال الشاعر: كانت فريضة ما أتيت كما ... كان الزناء فريضة الرجم (2) يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا. ولذلك قيل:"فرض السلطان لفلان ألفين"، (3) يعني بذلك: أوجب له ذلك، ورزقه من الديوان. (4) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومتعوهن"، وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم، (5) على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار. * * *   (1) انظر معنى"الفرض" فيما سلف 4: 121 (2) البيت للنابغة الجعدي، وقد سلف تخريجه وتفسيره في الجزء 3: 311، 312 / وفي الجزء 4: 287. (3) في المطبوعة: ". . . لفلان ألفين" بإسقاط"في"، والصواب من المخطوطة. (4) رزق الأمير جنده: أعطاهم الرزق، وهو العطاء الذي فرضه لهم. والديوان: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وأول من دون الدواوين عمر رضي الله عنه (5) انظر معنى"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / 3: 53 -55. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك. فقال بعضهم: أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، (1) ودونه الكسوة. * ذكر من قال ذلك: 5193- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة. 5194- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس بنحوه. 5195- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، قلت له: ما أوسط متعة المطلقة؟ قال: خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها. 5196- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره. فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك. 5197- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله:"ومتعوهن على الموسر قدر وعلى المقتر قدره"، قال: قلت للشعبي: ما وسط ذلك؟ قال: كسوتها في بيتها، ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها. قال الشعبي: فكان شريح يمتع بخمسمئة.   (1) الورق (بفتح فكسر) : الدراهم المضروبة. والورق (بفتحتين) : المال الناطق من الإبل والغنم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 5198- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن شريحا كان يمتع بخمسمئة، قلت لعامر: ما وسط ذلك؟ قال: ثيابها في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب. 5199- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عمار الشعبي أنه قال: وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب. 5200- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن شريحا متع بخمسمئة. وقال الشعبي: وسط من المتعة، درع وخمار وجلباب وملحفة. 5201- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدر وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، قال: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها. قال: أدنى ذلك ثلاثة أثواب، درع وخمار، وجلباب وإزار. 5202- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن" حتى بلغ:"حقا على المحسنين"، فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها. وكان يقال: إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار. (1) 5203- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن صالح بن صالح، قال: سئل عامر: بكم يمتع الرجل امرأته؟ قال: على قدر ماله.   (1) الواجد: القادر، الذي يجد ما يقضي به دينه أو ما شابه ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 5204- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت: كأني أنظر إلى جارية سوداء، حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها. (1) قيل لشعبة: ما"حممها"؟ قال. متعها. (2) 5205- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه، بنحوه، عن عبد الرحمن بن عوف. 5206- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال، كان يمتع بالخادم، أو بالنفقة أو الكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي - أحسبه قال: بعشرة آلاف. 5207- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعد بن إبراهيم: أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته فمتعها بالخادم. 5208- حدثت عن عبد الله بن يزيد المقري، عن سعيد بن أبي أيوب قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: أنه كان يقول في متعة المطلقة: أعلاه الخادم، وأدناه الكسوة والنفقة. ويرى أن ذلك على ما قال الله تعالى ذكره:   (1) في المطبوعة: "عبد الرحمن بن أم سلمة" وهو خلط فاحش، والصواب ما أثبته من المخطوطة. وأبو سلمة هو عبد الله الأصغر بن عبد الرحمن بن عوف، وأمه تماضر ابنة الأصبغ بن عمرو الكلبية، وهي أول كلبية نكحها قرشي. وإخوة أبي سلمة لأمه تماضر: أحيح وخالد ومريم، بنو خالد بن عقبة بن أبي معيط، خلف عليها بعد عبد الرحمن بن عوف. وكانت العرب تسمي المتعة: التحميم. وعدي "حممها" إلى مفعولين؛ لأنه في معنى أعطاها إياها. (2) الأثر: 5204- سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، رأى ابن عمر، وروى عن أبيه وعميه حميد وأبي سلمة. مات سنة 127، مترجم في التهذيب. وأم حميد بن عبد الرحمن هي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية أخت عثمان بن عفان لأمه، أسلمت قديما، وبايعت، وحبست عن الهجرة إلى أن هاجرت سنة سبع في الهدنة. ولدت لعبد الرحمن بن عوف حميد بن عبد الرحمن وإبراهيم بن عبد الرحمن، ورويا عنها. مترجمة في التهذيب وغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" * * * وقال آخرون: مبلغ ذلك - إذا اختلف الزوج والمرأة فيه - قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده. وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله: من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره، كما قال الله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه، لم يكن لقيله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، معنى مفهوم= ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن. وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها، ما يبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه، فكيف المقدور عليه؟ (1) وإذا فعل ذلك به، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" -ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها، إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك، قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه. * * *   (1) المقدور عليه: المضيق عليه رزقه. قدر عليه رزقه (بالبناء للمجهول) : ضيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 واختلف أهل التأويل في تأويل قوله."ومتعوهن"، هل هو على الوجوب، أو على الندب؟ فقال بعضهم: هو على الوجوب، يقضى بالمتعة في مال المطلق، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره. وقالوا: ذلك واجب عليه لكل مطلقة، كائنة من كانت من نسائه. * ذكر من قال ذلك: 5209- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن وأبو العالية يقولان: لكل مطلقة متاع، دخل بها أو لم يدخل بها، وإن كان قد فرض لها. 5210- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: لكل مطلقة متاع، وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها. 5211- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد عن جبير في هذه الآية: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: 241] ، قال: كل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين. 5212- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: لكل مطلقة متاع. 5213- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كان أبو العالية يقول: لكل مطلقة متعة. وكان الحسن يقول: لكل مطلقة متعة. 5214- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة قال، سئل الحسن، عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها: هل لها متاع؟ قال الحسن: نعم والله! فقيل للسائل= وهو أبو بكر الهذلي= أو ما تقرأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 هذه الآية: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) ؟ قال: نعم والله! * * * وقال آخرون: المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق. فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها، فإنها لا متعة لها، وإنما لها نصف الصداق المسمى. * ذكر من قال ذلك: 5215- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي طلقها ولم يدخل بها، وقد فرض لها، فلها نصف الصداق، ولا متعة لها. 5216- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه. 5217- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب- في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها- أنه قال في المتاع: قد كان لها المتاع في الآية التي في"الأحزاب"، (1) فلما نزلت الآية التي في"البقرة"، جعل لها النصف من صداقها إذا سمى، ولا متاع لها، وإذا لم يسم فلها المتاع. 5218- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد نحوه. 5219- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول: إذا لم يدخل بها جعل لها في"سورة   (1) ستأتي آية"سورة الأحزاب" بعد قليل في الأثر رقم 5220. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 الأحزاب" المتاع، ثم أنزلت الآية التي في"سورة البقرة": (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها، وكان قد سمى لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها. 5220- حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ) [سورة الأحزاب: 49] الآية التي في"البقرة". 5221- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حميد، عن مجاهد قال: لكل مطلقة متعة، إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها. 5222- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد- في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها، قال: ليس لها متعة. 5223- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق، ولا متاع لها. وإذا لم يفرض لها، فإنما لها المتاع. 5224- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سئل ابن أبي نجيح وأنا أسمع: عن الرجل يتزاوج ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها، هل لها متاع؟ قال: كان عطاء يقول: لا متاع لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 5225- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر- في التي فرض لها ولم يدخل بها، قال: إن طلقت، فلها نصف الصداق ولا متعة لها. 5226- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: أن شريحا كان يقول -في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد سمى لها صداقا- قال: لها في النصف متاع. 5227- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن شريح قال: لها في النصف متاع. * * * وقال آخرون: المتعة حق لكل مطلقة، غير أن منها ما يقضى به على المطلق، ومنها ما لا يقضى به عليه، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه. * ذكر من قال ذلك: 5228- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: متعتان، إحداهما يقضى بها السلطان، والأخرى حق على المتقين: من طلق قبل أن يفرض ويدخل، فإنه يؤخذ بالمتعة، فإنه لا صداق عليه. ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض، فالمتعة حق. 5229- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال الله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس عليه إلا متاع بالمعروف، يفرض لها السلطان بقدر، وليس عليها عدة. وقال الله تعالى ذكره:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، فإذا طلق الرجل المرأة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وقد فرض لها ولم يمسسها، فلها نصف صداقها، ولا عدة عليها. 5230- حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، أخبرنا زهير، عن معمر، عن الزهري أنه قال: متعتان يقضى بإحداهما السلطان، ولا يقضى بالأخرى: فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين. (1) * * * وقال آخرون: لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق، وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة. * ذكر من قال ذلك: 5231- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم: أن رجلا طلق امرأته، فخاصمته إلى شريح، فقرأ الآية: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: 241] ، قال: إن كنت من المتقين، فعليك المتعة. ولم يقض لها. قال شعبة: وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى. 5223- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: كان شريح يقول في متاع المطلقة، لا تأب أن تكون من المحسنين، لا تأب أن تكون من المتقين. 5233- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها: إن كنت من المتقين فمتع. * * * قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا   (1) الأثر: 5230- عمرو بن أبي سلمة التنيسي أبو حفص الدمشقي، مترجم في التهذيب و"زهير"، هو: زهير بن محمد التميمي، مترجم في التهذيب. قال أحمد في عمرو بن أبي سلمة: "روى عن زهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله، فغلظ فقلبها عن زهير". وكلاهما متكلم فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 للمطلقات، إلى أن قول الله تعالى ذكره:"حقا على المحسنين"، وقوله:"حقا على المتقين"، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس. وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استحدثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما قال:"وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم، لغير المفروض لها. فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس، (1) فيما لها على الزوج من الحقوق. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي، قول من قال:"لكل مطلقة متعة"، لأن الله تعالى ذكره قال:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض. فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام، إلى باطن خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها. (2) * * * فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس، إذا كان   (1) المسيس: المس، مصدر"مس"، كما سلف آنفًا ص: 118. (2) عند هذا الموضع، انتهى التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها بعد هذا ما نصه: "وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كثيرا" ثم يبدأ بعده. "بسم الله الرحمن الرحيم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 مفروضا لها، بقوله: (1) "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة؟ (2) قيل: إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه، الكفاية عن تكريره، حتى يدل على بطول فرضه. وقد دل بقوله،"وللمطلقات متاع بالمعروف"، على وجوب المتعة لكل مطلقة، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة. وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها، دلالة على بطول المتعة عنه. لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (3) وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" والمتعة. (4) فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا.= وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى = ثبت وصح وجوبهما لها. هذا، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل   (1) في المطبوعة: "قد خصص المطلقة. . . " وأثبت الصواب من المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "غير النصف الفريضة"، والصواب زيادة"من"، أو تكون"غير نصف الفريضة"، بحذف الألف واللام من"النصف". (3) في المخطوطة: "تماسوهن"، وقد أشرنا آنفًا ص: 118، تعليق: 1 إلى أنها هي قراءة أبي جعفر، وأنها كانت مثبتة هكذا في أصله. (4) يعني: بعطف"والمتعة" على قوله: "فنصف ما فرضتم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 المسيس، (1) دلالة غير قول الله تعالى ذكره:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن"، الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة،" كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء: أحدهما المفروض له، والآخر غير المفروض له. وذلك أنه لما قال:"أو تفرضوا لهن فريضة"، علم أن الصنف الآخر هو المفروض له، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس. لأنه قال:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم يمسوهن،" ثم قال تعالى ذكره:"ومتعوهن"، فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا، المفروض لهن، وغير المفروض لهن. فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، ثم عكس عليه القول في ذلك. فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * قال أبو جعفر: وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب، إذا طلقت، على زوجها المطلقها، على ما بينا آنفا - يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه، أو ببراءة تكون منها له. وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله، يحبس بها إن طلقها فيها، (2) إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه، إذا امتنع من إعطائها ذلك. وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى ذكره قال:"ومتعوهن،" فأمر الرجال أن يمتعوهن، وأمره فرض، إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد، لما   (1) في المطبوعة: "للمطلقة المفروض الصداق" بإسقاط"لها"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يحبس لها"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 قد بينا في كتابنا المسمى (بلطيف البيان عن أصول الأحكام) ، لقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف". ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك: وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف. وإذا كان ذلك كذلك، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل، من أداء أو إبراء على ما قد بينا. * * * فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال:"حقا على المحسنين" و"حقا على المتقين"، أنها غير واجبة، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن، والمتقي وغير المتقي= فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى، فهو على غيرهم أوجب، ولهم ألزم. وبعد، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله:"ومتعوهن"، وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله تعالى ذكره (1) فيما أوجب لهما من   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس، قال الله تعالى ذكره فيما أوجب لها من ذلك. . . ". وقد وقفت طويلا على هذه العبارة، فلم يخلص لها معنى عندي، ولم أستحل أن أدعها بغير بيان فسادها، وإثبات صحة ما رأيته. ومراد الطبري في سياق هذا الاحتجاج الأخير الذي بدأه في هذه الفقرة، أن يتمم حجته في رد قول من ظن أن المتعة غير واجبة، لقوله تعالى: "حقا على المحسنين" و"حقا على المتقين"، فقال: إن قول الله تعالى"ومتعوهن" قد أوجبت المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، -كما أوجب قوله تعالى"فنصف ما فرضتم"، نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس- وهي الآية التي لم يذكر فيها: "حقا على المحسنين" ولا"حقا على المتقين". ففي إجماع الحجة على وجوب ذلك لهما، الدليل الواضح على أن قوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف"، يوجب المتعة لكل مطلقة-"وإن كان قال: حقا على المتقين" بعقب هذه الآية. ثم بين هذه الحجة في الفقرة التالية بيانا شافيا، فقال إن إجماعهم على إيجاب المتعة للمطلقة غير المفروض لها بقوله: "ومتعوهن" مع تعقيب ذلك بقوله في الآية: "حقا على المحسنين" دليل على أن ذلك كذلك في قوله: "وللمطلقات متاع بالمعروف"، مع تعقيب ذلك بقوله: "حقا على المتقين"، فالمتعة واجبة لكل مطلقة، كما وجبت في الآية الأخرى. من أجل هذا السياق الذي بينته، رأيت أن نص المخطوطة والمطبوعة فاسد غير دال على معنى، فاقتضى ذلك أن أجعل"قال الله تعالى ذكره" -"بقول الله تعالى ذكره"، وأن أزيد بعدها: "فنصف ما فرضتم"، وأن أجعل"فيما أوجب لها"-"فيما أوجب لهما" على التثنية. هذا ما رجح عندي وثبت وصح، والحمد لله أولا وآخرا، وكأنه الصواب في أصل الطبري إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 ذلك = (1) الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، وإن كان قال:"حقا على المتقين". ومن أنكر ما قلنا في ذلك، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس. فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة، (2) ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة، وما أشبه ذلك. (3) فإن أوجب ذلك لها، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها، والوجوب لكل مطلقة، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين. فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * قال أبو جعفر: واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة. * ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: 5234- حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها، فليس لها إلا المتاع. 5235- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال، قال الحسن: إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فليس لها إلا المتاع.   (1) قوله: "الدليل الواضح" اسم"إن" في قوله في أول الفقرة: "فإن في إجماع الحجة. . . " (2) في المخطوطة: "فإن أنكر وجوب من قول جميع الحجة"، وهو خطأ بين، وفي المطبوعة: "وجوبه" ورجحت ما أثبت. (3) يعني بذلك ما كان في إجماع كإجماعهم على وجوب الزكاة في عشرين دينارا، ووجوب زكاة العروض إذا كانت للتجارة، فيجادل في أمر المتعة، بما يجادل به المنكر والدافع لوجوب الزكاة فيهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 5236- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها، فإنما لها المتاع. 5237- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف. 5238- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة،" قال: ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف. 5239- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: ولا متاع إلا بالمعروف. 5240- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن" إلى:"ومتعوهن" قال: هذا الرجل توهب له فيطلقها قبل أن يدخل بها، فإنما عليه المتعة. 5241- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال في هذه الآية: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها. 5242- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 5243- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، [حدثنا عبيد بن سليمان قال] ، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة"، هذا رجل وهبت له امرأته، فطلقها من قبل أن يمسها، فلها المتعة ولا فريضة لها، وليست عليها عدة. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 قال أبو جعفر: وأما"الموسع"، فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى، يقال منه:"أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع". * * * وأما"المقتر"، فهو المقل من المال، يقال:"قد أقتر فهو يقتر إقتارا، وهو مقتر". * * * واختلف القرأة في قراءة"القدر". (1) فقرأه بعضهم:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره". بتحريك"الدال" إلى الفتح من"القدر"، توجيها منهم ذلك إلى الاسم من"التقدير"، الذي هو من قول القائل:"قدر فلان هذا الأمر". * * * وقرأ آخرون بتسكين"الدال" منه، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك، كما قال الشاعر. (2) وما صب رجلي في حديد مجاشع ... مع القدر، إلا حاجة لي أريدها (3) * * * والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة، ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى، بل هما متفقتا المعنى. فبأي- القراءتين قرأ القارئ ذلك، فهو للصواب مصيب. وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة   (1) في المطبوعة: "واختلف القراء"، وأثبت ما في المخطوطة، والمطبوعة تغير نص المخطوطة حيثما ذكر"القَرَأَة" إلى"القراء"، فلن نشير إليه بعد هذا الوضع. (2) هو الفرزدق فيما يقال. (3) ديوانه: 215 نقلا عن اللسان (صبب) ، وهو في اللسان أيضًا في (قدر) ، ومقاييس اللغة 5: 62، والأساس (صبب) ، وإصلاح المنطق: 109، وتهذيب إصلاح المنطق 1: 168 وقال أبو محمد: "ذكر يعقوب أن هذا البيت للفرزدق، ولم أجده في شعره ولا في أخباره". وكأن البيت ليس للفرزدق، لذكره"حديد مجاشع"، وهو جده. وجرير كان يعيره بأنه"ابن القين"، فأنا أستبعد أن يذكر الفرزدق في شعره"حديد مجاشع". وقال التبريزي في شرح البيت: "يقول: كان حبسي قدره الله علي، وكان لي فيه حاجة، ولم يكن لي منه بد". وهو معنى غير بين. ويقال: صب القيد في رجله، أي قيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها. وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا حرج عليكم، أيها الناس، لأن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن، (1) وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومتعوهن متاعا. وقد يجوز أن يكون"متاعا" منصوبا قطعا من"القدر". (2) لأن"المتاع" نكرة، و"القدر" معرفة. * * * ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما أمركم الله به من إعطائكم إياهن ذلك، (3) بغير ظلم، ولا مدافعة منكم لهن به. (4) ويعني بقوله:"حقا على المحسنين"، متاعا بالمعروف الحق على المحسنين. فلما دل إدخال"الألف واللام" على"الحق"، وهو من نعت"المعروف"، و"المعروف" معرفة، و"الحق" نكرة، نصب على القطع منه، (5) كما يقال:"أتاني الرجل راكبا".   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "لأن طلقتم النساء" والسياق يقتضي صواب ما أثبت. (2) القطع: الحال، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. (3) في المطبوعة: "من إعطائكم لهن ذلك"، وفي المخطوطة"إعطائكم هن" قد سقط منها"إيا". (4) انظر معنى"المعروف" فيما سلف 3: 371 / ثم 4: 547، 548 / 5: 7، 44، 76، 93. (5) القطع: الحال، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 وجائز أن يكون نصب على المصدر من جملة الكلام الذي قبله، كقول القائل:"عبد الله عالم حقا"، ف"الحق" منصوب من نية كلام المخبر، كأنه قال: أخبركم بذلك حقا. (1) والتأويل الأول هو وجه الكلام، لأن معنى الكلام: فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا. * * * وقد زعم بعضهم أن ذلك منصوب بمعنى: أحق ذلك حقا. والذي قاله من ذلك، بخلاف ما دل عليه ظاهر التلاوة. لأن الله تعالى ذكره جعل المتاع للمطلقات حقا لهن على أزواحهن، فزعم قائل هذا القول أن معنى ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه يحق أن ذلك على المحسنين. فتأويل الكلام إذا- إذ كان الأمر كذلك-: ومتعوهن على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف الواجب على المحسنين. * * * ويعني بقوله:"المحسنين"، الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إنك قد ذكرت أن"الجناح" هو الحرج، (2) وقد قال الله تعالى ذكره:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، فهل علينا من جناح لو طلقناهن بعد المسيس، فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس؟ قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات". (3)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 154-155. (2) انظر معنى"الجناح" في فهارس اللغة عن هذا الجزء والأجزاء السالفة. (3) رجل ذواق: مطلاق كثير النكاح، كثير الطلاق، وكذلك المرأة. والذوق: استطراف النكاح وقتا بعد وقت، كأنه يذوق ويختبر، ثم يتحول ليذوق غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 5244- حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1) * * * وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقولون: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك". 5245- حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) * * * فجائز أن يكون"الجناح" الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس، هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *   (1) الحديث: 5244- شهر بن حوشب: تابعي ثقة، كما بينا في: 1489. فالحديث بهذا الإسناد مرسل. وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 335، من حديث عبادة بن الصامت. وقال: "رواه الطبراني، وفيه راو لم يسم. وبقية إسناده حسن". وذكر أيضًا حديثا لأبي موسى، مرفوعا: "لا تطلق النساء إلا من ريبة، إن الله تبارك وتعالى لا يحب الذواقين ولا الذواقات". وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وأحد أسانيد البزار فيه عمران القطان، وثقه أحمد وابن حبان، وضعفه يحيى بن سعيد وغيره". وليس بين يدي أسانيد هذين الحديثين، حتى أعرف مدى درجاتهما، ولا أن شهر بن حوشب روى واحدا منها. وقوله: "الذواقين والذواقات"- قال ابن الأثير: "يعني السريعي النكاح السريعي الطلاق". وذكره الزمخشري في المجاز من كتاب الأساس. وقال: "كلما تزوج أو تزوجت، مد عينه أو عينها إلى أخرى أو آخر". (2) الحديث: 5245- هذا إسناد صحيح. ورواه ابن ماجه: 2017، عن محمد بن بشار -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وقد مضت الإشارة إليه، وإلى ما قيل في تعليله والرد عليه. وإلى رواية البيهقي إياه من هذا الوجه ومن رواية موسى بن مسعود عن سفيان الثوري= في: 4925، 4926. ولم نكن رأينا رواية الطبري - هذه، إذ ذاك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 وقد كان بعضهم يقول: معنى قوله في هذا الموضع:"لا جناح"، لا سبيل عليكم للنساء- إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة -في إتباعكم بصداق ولا نفقة. وذلك مذهب، لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء: أحدهما المفروض لها، والآخر غير المفروض لها. فإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يقال: لا سبيل لهن عليكم في صداق، إذا كان الأمر على ما وصفنا. * * * وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر: وهو أن يكون معناه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن، في أي وقت شئتم طلاقهن. لأنه لا سنة في طلاقهن، فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب. وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست، لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء- إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه. فيكون"الجناح" الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها، (1) هو"الجناح" الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها، أو في طهر قد جامعها فيه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ} قال أبو جعفر: وهذا الحكم من الله تعالى ذكره، إبانة عن قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة". (2) وتأويل ذلك:   (1) في المخطوطة: "لم يمسهن" وهو خطأ وسهو. (2) في المخطوطة: "ما لم تماسوهن"، وهي قراءة الطبري كما أسلفنا مرارا. وستأتي على قراءته في تأويل الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 لا جناح عليكم أيها الناس إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فلهن عليكم نصف ما كنتم فرضتم لهن من قبل طلاكم إياهن، يعني بذلك: فلهن عليكم نصف ما أصدقتموهن. وإنما قلنا: إن تأويل ذلك كذلك، لما قد قدمنا البيان عنه من أن قوله:"أو تفرضوا لهن فريضه"، بيان من الله تعالى ذكره لعباده حكم غير المفروض لهن إذا طلقهن قبل المسيس. فكان معلوما بذلك أن حكم اللواتي عطف عليهن ب"أو"، غير حكم المعطوف بهن بها. وإنما كرر تعالى ذكره قوله:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة"، وقد مضى ذكرهن في قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن" ليزول الشك عن سامعيه واللبس عليهم، من أن يظنوا أن التي حكمها الحكم الذي وصفه في هذه الآية، هي غير التي ابتدأ بذكرها وذكر حكمها في الآية التي قبلها. * * * وأما قوله:"إلا أن يعفون"، فإنه يعني: إلا أن يعفو اللواتي وجب لهن عليكم نصف تلك الفريضة، فيتركنه لكم، ويصفحن لكم عنه تفضلا منهن بذلك عليكم، إن كن ممن يجوز حكمه في ماله وهن بوالغ رشيدات، فيجوز عفوهن حينئذ ما عفون عنكم من ذلك، فيسقط عنكم ما كن عفون لكم عنه منه. وذلك النصف الذي كان وجب لهن من الفريضة بعد الطلاق وقيل العفو إن عفت عنه- أو ما عفت عنه. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قالة أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5246- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) السياق: وذلك النصف. . . أو ما عفت عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"؛ فهذا الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فلها نصف صداقها، ليس لها أكثر من ذلك. 5247- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، (1) قال: إن طلق الرجل امرأته وقد فرض لها، فنصف ما فرض، إلا أن يعفون. 5248- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5249- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها وقد كان سمى لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها. 5250- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، قال: هو الرجل يتزوج المرأة وقد فرض لها صداقا ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف ما فرض لها، ولها المتاع، ولا عدة عليها. 5251- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم   (1) ساق بقية الآية في المطبوعة، وأخطأ الناسخ في المخطوطة، فساق بقيتها ولم يتمها، ووضع في أول ما أراد حذفه"لا" وفي آخره"إلى"، وهي علامة الحذف قديما، تقوم مقام الضرب عليها بالقلم والمداد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، قال: إذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسها، فلها نصف صداقها ولا عدة عليها. * * * * ذكر من قال في قوله:"إلا أن يعفون" القول الذي ذكرناه من التأويل: 5252- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول: إذا طلقها قبل أن يمسها وقد فرض لها، فنصف الفريضة لها عليه، إلا أن تعفو عنه فتتركه. 5253- حدثنا عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا أن يعفون"، قال: المرأة تترك الذي لها. 5254- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أن يعفون"، هي المرأة الثيب أو البكر يزوجها غير أبيها، فجعل الله العفو إليهن: إن شئن عفون فتركن، وإن شئن أخذن نصف الصداق. 5255- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا أن يعفون"، تترك المرأة شطر صداقها، وهو الذي لها كله. 5256- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5257- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"إلا إذ يعفون"، قال: المرأة تدع لزوحها النصف. 5258- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح:"إلا أن يعفون"، قال: إن شاءت المرأة عفت فتركت الصداق. 5259- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح مثله. 5260- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع قوله:"إلا أن يعفون"، هي المرأة يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فتعفو عن النصف لزوجها. 5261- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا أن يعفون"، أما أن"يعفون"، فالثيب أن تدع من صداقها، أو تدعه كله. 5262- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب:"إلا أن يعفون"، قال: العفو إليهن، إذا كانت المرأة ثيبا فهي أولى بذلك، ولا يملك ذلك عليها ولي، لأنها قد ملكت أمرها. فإن أرادت أن تعفو فتضع له نصفها الذي عليه من حقها، جاز ذلك. وإن أرادت أخذه، فهي أملك بذلك. 5263- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا معمر قال، وحدثني ابن شهاب:"إلا أن يعفون"، قال: النساء. 5264- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح:"إلا أن يعفون"، قال: الثيب تدع صداقها. 5265- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح:"إلا أن يعفون"، قال قال: تعفو المرأة عن الذي لها كله. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 قال أبو جعفر: ما سمعت أحدا يقول:"حماد بن زيد بن أسامة"، إلا أبا هشام. (1) * * * 5266- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: إن شاءت عفت عن صداقها= يعني في قوله:"إلا أن يعفون". 5267- حدثنا أبو هشام قال، (2) حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن شريح قال: تعفو المرأة وتدع نصف الصداق. 5268- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال الزهري:"إلا أن يعفون"، الثيبات. 5269- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"إلا أن يعفون"، قال: تترك المرأة شطرها. 5270- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إلا أن يعفون"، يعني النساء. 5271- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إلا أن يعفون"، إن كانت ثيبا عفت. 5272- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قوله:"إلا أن يعفون"، يعني المرأة. 5273- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= جميعا، عن سفيان:"إلا أن يعفون"، قال: المرأة إذا لم يدخل بها: أن تترك له المهر، فلا تأخذ منه شيئا. * * *   (1) الأثر: 5265- هو"حماد بن أسامة بن زيد"، وقد سلفت ترجمته في رقم: 29، 51، 223 والذي قاله أبو هشام الرفاعي لم يذكر في كتب التراجم. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "ابن هشام"، والصواب أبو هشام الرفاعي، الذي مضى في الأسانيد السالفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره بقوله:"الذي بيده عقدة النكاح". فقال بعضهم: هو ولي البكر. وقالوا: ومعنى الآية: أو يترك، الذي يلي على المرأة عقد نكاحها من أوليائها، للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه، إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في مالها. * ذكر من قال ذلك: 5274- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: أذن الله في العفو وأمر به، فإن عفت فكما عفت، وإن ضنت وعفا وليها جاز وإن أبت. 5275- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، وهو أبو الجارية البكر، جعل الله سبحانه العفو إليه، ليس لها معه أمر إذا طلقت، ما كانت في حجره. 5276- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:"الذي بيده عقدة النكاح"، الولي. 5277- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال، قال علقمة: هو الولي. 5278- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: هو الولي. 5279- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر، عن حجاج، عن النخعي، عن علقمة قال: هو الولي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 5280- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن بيان النحوي، (1) عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وأصحاب عبد الله قالوا: هو الولي. 5281- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: هو الولي. 5282- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر، عن حجاج، أن الأسود بن زيد، قال: هو الولي. 5283- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد، عن شعبة، عن أبي بشر قال: قال طاوس ومجاهد: هو الولي = ثم رجعا فقالا هو الزوج. 5284- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر قال، قال مجاهد وطاوس: هو الولي = ثم رجعا فقالا هو الزوج. 5285- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: هو الولي. 5286- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: زوج رجل أخته، فطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فعفا أخوها عن المهر، فأجازه شريح ثم قال: أنا أعفو عن نساء بني مرة. فقال عامر: لا والله، ما قضى قضاء قط أحق منه: أن يجيز عفو الأخ في قوله:"إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، فقال فيها شريح بعد: هو الزوج، إن عفا عن الصداق كله فسلمه إليها كله، أو عفت هي عن النصف الذي سمى لها، وإن تشاحا كلاهما أخذت نصف صداقها، قال:"وأن تعفوا هو أقرب للتقوى". (2)   (1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "بيان النحوي"، وأنا أرجح أنه: شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي. مترجم في التهذيب يروي عن الأعمش، ويروي عنه عبيد الله بن موسى. فكأن الصواب"شيبان النحوي". (2) الأثر: 5286- رواه البيهقي في السنن 8: 251 بإسناده"عن سعيد بن منصور، عن جرير، عن مغيرة" بغير هذا اللفظ، ولكنه يصححه. فقد كان في المطبوعة والمخطوطة"ما قضى قضاء قط أحق منه"، والصواب من البيهقي، وما أعرف قومه: "نساء بني مرة". كأن مرة من أهله، أخت أو بنته. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 5287- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: هو الولي. 5288- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، قال مغيرة، أخبرنا عن الشعبي، عن شريح أنه كان يقول: الذي بيده عقدة النكاح هو الولي - ثم ترك ذلك فقال: هو الزوج. 5289- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيار، عن الشعبي: أن رجلا تزوج امرأة فوجدها دميمة فطلقها قبل أن يدخل بها، فعفا وليها عن نصف الصداق، قال: فخاصمته إلى شريح فقال لها شريح: قد عفا وليك. قال: ثم إنه رجع بعد ذلك، فجعل الذي بيده عقدة النكاح: الزوج. 5290- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن - في الذي بيده عقدة النكاح - قال: الولي. 5291- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن منصور أو غيره، عن الحسن، قال: هو الولي. 5292- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: هو الولي. 5293- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن الذي بيده عقدة النكاح، قال: هو الولي. 5294- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: هو الذي أنكحها. 5295- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الولي. 5296- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع وابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: هو الولي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 5297- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي، عن أبي عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا هو الولي. 5298- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: هو الولي. 5299- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح:"أو يعفو الذي بيد عقدة النكاح"، قال: ولي العذراء. 5300- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال: قال لي الزهري:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، ولي البكر. 5301- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، هو الولي. 5302- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه= وعن رجل، عن عكرمة= قال معمر: وقاله الحسن أيضا= قالوا: الذي بيده عقدة النكاح، الولي. 5303- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: الذي بيده عقدة النكاح، الأب. 5304- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة قال: هو الولي. 5305- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن مجاهد قال: هو الولي. 5306- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذي بيده عقدة النكاح"، هو ولي البكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 5307- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - في الذي بيده عقدة النكاح-: الوالد= ذكره ابن زيد عن أبيه. 5308- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن مالك، عن زيد وربيعة:"الذي بيده عقدة النكاح"، الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته. (1) 5309- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك: وذلك إذا طلقت قبل الدخول بها، فله أن يعفو عن نصف الصداق الذي وجب لها عليه، ما لم يقع طلاق .... (2) 5310- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: الذي بيدة عقدة النكاح، هي البكر التي يعفو وليها، فيجوز ذلك، ولا يجوز عفوها هي. 5311- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول:"إلا أن يعفون"، أن تعفو المرأة عن نصف الفريضة لها عليه فتتركه. فإن هي شحت إلا أن تأخذه، فلها ولوليها الذي أنكحها الرجل = عم، أو أخ، أو أب= أن يعفو عن النصف، فإنه إن شاء فعل وإن كرهت المرأة. 5312- حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به، فإن امرأة عفت جاز عفوها، وإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه. (3) .   (1) الأثر: 5308- في الموطأ: 528. (2) مكان النقط بياض في المطبوعة والمخطوطة. وقد جهدت أن أجد نص مالك فيما بين يدي من الكتب، فلم أجده. (3) الخبر: 5312- سعيد بن الربيع الرازي، شيخ الطبري: لم نجد له ترجمة بعد طول البحث. وستأتي الرواية عنه أيضًا: 5520، دون نسبته الرازي". وفي المطبوعة"المرادي"- بدل"الرازي". وهو خطأ. فإن ابن كثير نقل هذا الخبر 1: 574، عن هذا الموضع، وفيه"الرازي". وكذلك روى الطبري عنه، في كتاب"ذيل المذيل"، الملحق بتاريخه 13: 53، قال: "حدثني حوثرة بن محمد المنقري، وسعيد بن الربيع الرازي، قالا: حدثنا سفيان، عن عمرو. . ". ثم لم نجدهم ذكروا للربيع بن سليمان المرادي ولدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 5313- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح، الولي. * * * وقال آخرون: بل الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. قالوا: ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملا. * ذكر من قال ذلك: 5314- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو شحمة قال، حدثنا حبيب، عن الليث، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. (1) 5315- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح فقال: هو الولي. فقال علي: لا ولكنه الزوج. 5316- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحا قال: قال: قال لي علي: من الذي   (1) الخبر: 5314-"أبو عثمة"؛ هكذا رسم في المخطوطة دون نقط. وأما المطبوعة ففيها"أبو شحمة"!! وهو خطأ. إذ لم نجد من يدعى بها. و"أبو عثمة": الراجح عندنا أنه"محمد بن خالد بن عثمة"، وقد مضت ترجمته برقم: 90، 91. وبينا هناك أن"عثمة" أمه. فليس ببعيد أن يكنى باسمها، خصوصا أنهم لم يذكروا له كنية أخرى. ويرجح أنه هو: أن من الرواة عنه في ترجمته"بندار"، وهو محمد بن بشار، الراوي عنه هنا. و"عثمة": بفتح العين المهملة وسكون الثاء المثلثة. "حبيب"، الذي يروي عن الليث بن سعد هنا: لم نعرف من هو، ولا وجدنا ما يرشد إليه. وهو هكذا في المخطوطة والمطبوعة. ولو كان محرفا عن"شعيب" -أعني شعيب بن الليث- لم يكن بعيدا. "خلاس" -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام- بن عمرو الهجري البصري: تابعي كبير ثقة ثقة. تكلموا في سماعه من علي، وأن حديثه عنه من صحيفة كانت عنده. ونص البخاري على ذلك في التاريخ الكبير 2 / 1 / 208. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 بيده عقدة النكاح؟ قلت: ولي المرأة. قال: لا بل هو الزوج. 5317- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: هو الزوج. 5318- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال: قلت لحماد بن سلمة: من الذي بيده عقده النكاح؟ فذكر عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: الزوج. 5319- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: هو الزوج. 5320- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن عباس وشريح قالا هو الزوج. 5321- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي، عن عبد الله بن جعفر، عن واصل بن أبي سعيد، عن محمد بن جبير بن مطعم: أن أباه تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل بالصداق وقال: أنا أحق بالعفو. (1) 5322- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن صالح بن كيسان: أن جبير بن مطعم تزوج امرأه، فطلقها قبل أن يبني بها، وأكمل لها الصداق، وتأوّل:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" (2) 5323- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمرو،   (1) الأثر: 5321- عبد الله بن جعفر، هو المخرمي الزهري، من ولد المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف. مترجم في التهذيب. و"واصل بن أبي سعيد" مترجم في الجرح والتعديل 4 / 2 / 30، والكبير للبخاري 4 / 2 / 172. (2) الخبر: 5322- هكذا ثبت هذا الخبر هنا: "صالح بن كيسان: أن جبير بن مطعم" فيكون منقطعا، لأن صالح بن كيسان لم يدرك جبير بن مطعم. ثم هو مخالف لما ثبت في مصنف عبد الرزاق 3: 284 (مخطوط مصور) ، فإن الخبر ثابت فيه"عن صالح بن كيسان: أن نافع بن جبير تزوج. . . " - فيكون الخبر متصل الإسناد، لأن صالحا يروي عن نافع بن جبير بن مطعم. وهو الصواب، إن شاء الله. ولعل الطبري أو شيخه الحسن بن يحيى وهم فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 عن نافع، عن جبير: أنه طلق امرأته قبل أن يدخل بها، فأتم لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو. 5324- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح:"أو يعفو الذي بيدة عقدة النكاح"، قال: إن شاء الزوج أعطاها الصداق كاملا. 5325- حدثنا حميد قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين بنحوه. 5326- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. 5327- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن شريحا قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. فرد ذلك عليه. 5328- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الزوج. قال، وقال إبراهيم: وما يدري شريحا! 5329- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر قال، حدثنا حجاج، عن شريح قال: هو الزوج. 5330- حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج. 5331- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، وهو الزوج. (1)   (1) الأثر: 5331-"حماد بن زيد بن أسامة"، هو حماد بن أسامة بن زيد، وانظر الأثر السالف رقم: 5265، والتعليق عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 5332- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن شريح قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، قال: الزوج يتم لها الصداق. 5333- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن الشعبي، وعن الحجاج، عن الحكم، عن شريح، وعن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج. 5334- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح قال: هو الزوج، إن شاء أتم لها الصداق، وإن شاءت عفت عن الذي لها. 5335- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: قال شريح:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. 5336- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أيون، عن ابن سيرين، عن شريح:"أن يعفو الذي بيدة عقدة النكاح"، قال: إن شاء الزوج عفا فكمل الصداق. 5337- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج. 5338- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، قال: هو الزوج. 5339- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: هو الزوج. 5340- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدى، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: هو الزوج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 5341- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: الزوج. 5342- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل= جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، زوجها: أن يتم لها الصداق كاملا. 5343- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب= وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد= وعن أيوب، وعن ابن سيرين، عن شريح= قالوا:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. 5344- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج ="أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، إتمام الزوج الصداق كله. 5345- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة قال، قال سعيد بن جبير:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. 5346- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، هو الزوج. قال: وقال مجاهد وطاوس: هو الولي. قال قلت لسعيد: فإن مجاهدا وطاوسا يقولان: هو الولي؟ قال سعيد:"فما تأمرني إذا؟ " (1) قال: أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة، أكان   (1) هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة: "فما أنا مرني" غير معجمة، ولم أجد الأثر في مكان آخر، وأنا في شك من صحة هذه العبارة. هذا وقد رواه ابن حزم في المحلى 9: 512 من طريق"الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر -وهو جعفر بن إياس بن أبي وحشية- عن سعيد بن جبير قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الزوج. وقال مجاهد وطاوس وأهل المدينة: هو الولي. قال فأخبرتهم بقول سعيد بن جبير، فرجعوا عن قولهم. وانظر السنن الكبرى 8: 251، قريب من لفظ ابن حزم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 يجوز ذلك؟ فرجعت إليهما فحدثتهما، فرجعا عن قولهما وتابعا سعيدا. 5347- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حميد، عن الحسن بن صالح، عن سالم الأفطس، عن سعيد قال: هو الزوج. (1) 5348- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد قال: هو الزوج= وقال طاوس ومجاهد: هو الولي- فكلمتهما في ذلك حتى تابعا سعيدا. 5349- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد بنحوه. 5350- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو الحسين، يعني زيد بن الحباب، عن أفلح بن سعيد قال، سمعت محمد بن كعب القرظي قال: هو الزوج، أعطى ما عنده عفوا. (2) 5351- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود الطيالسي، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن الشعبي قال: هو الزوج. 5352- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله، عن نافع قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج-"إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: أما قوله:"إلا أن يعفون"، فهي المرأة التي يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها. فإما أن تعفو عن النصف لزوجها، وأما أن يعفو الزوج فيكمل لها صداقها.   (1) الأثر: 5347-"حميد" هو: حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي. ثقة، مات سنة 192. مترجم في التهذيب. و"الحسن بن صالح" بن صالح الثوري. قال ابن سعد: "كان ناسكا عابدا فقيها حجة، صحيح الحديث كثيره، وكان متشيعا"، مات سنة 169. مترجم في التهذيب و"سالم الأفطس"، هو: سالم بن عجلان الأموي. ثقة كثير الحديث. كان يخاصم في الإرجاء. قتل بحران سنة 132. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 5350- في المخطوطة والمطبوعة: "أبو الحسن"، والصواب"أبو الحسين"، وهو مترجم في التهذيب، والجرح والتعديل 1 / 2 / 560. وفي المخطوطة"أفلح بن سعد"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 5353- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. 5354- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم قال: كان شريح يجاثيهم على الركب (1) ويقول: هو الزوج. 5355- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج، يعفو أو تعفو". (2) 5356- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: الزوج، وهذا في المرأة يطلقها زوجها ولم يدخل بها وقد فرض لها، فلها نصف المهر، فإن شاءت تركت الذي لها وهو النصف، وإن شاءت قبضته. 5357- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. 5358- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.   (1) يجاثيهم على الركب: أي يقعد لهم بالخصومة ويخاصمهم خصاما شديدا، وكان الخصم يجثو على ركبتيه ويخاصم، إذا اشتد الخصام. (2) الأثر: 5355- قال ابن كثير في تفسيره 1: 573-574: "قال ابن أبي حاتم: ذكر ابن لهيعة، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولى عقدة النكاح، الزوج -وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة، وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله. . . - فذكره، ولم يقل عن أبيه عن جده". وقال البيهقي في السنن 8: 251-252: "وروي عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: ولى عقدة النكاح الزوج. قال البيهقي: "وهذا غير محفوظ، وابن لهيعة غير محتج به، والله أعلم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 5359- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية:"إلا أن يعفون"، النساء، فلا يأخذن شيئا="أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج، فيترك ذلك فلا يطلب شيئا. 5360- ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور قال، قال شريح في قوله:"إلا أن يعفون"، قال: يعفو النساء="أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعني بقوله:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب، صبية صغيرة كانت أو مدركة كبيرة، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها، أو وهبه له أو عفا له عنه- أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل، وأن صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه. فكان سبيل ما أبرأه من ذلك بعد طلاقه إياها، سبيل ما أبرأه منه قبل طلاقه إياها. وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها، لو وهب لزوجها المطلقها بعد بينونتها منه درهما من مالها، على غير وجه العفو منه عما وجب لها من صداقها قبله، أن هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة. وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها مال من مالها، فحكمه حكم سائر أموالها. وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها، وأن بعضهم لو عفا عن مالها [لزوجها، قبل دخوله بها] أو بعد دخوله بها (1) -: إن عفوه ذلك عما عفا له عنه منه باطل، وإن حق المرأة   (1) هذه الجملة التي بين القوسين، استظهرتها من السياق حتى يستقيم الكلام، وبين أن فيه سقطا قبل قوله: "أو بعد دخوله بها". والمخطوطة والمطبوعة متفقتان في هذا السقط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 ثابت عليه بحاله. فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنا من كان من الأولياء، والدا كان أو جدا أو خالا لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقد النكاح دون بعض في جواز عفوه، إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله. ويقال لمن أبى ما قلنا= ممن زعم أن"الذي بيده عقدة النكاح"، ولي المرأة=: هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين، إذ كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي عندك: إما أن يكون ذلك كل ولي جاز له تزويج وليته، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض؟ = فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلا. فإن قال: إن ذلك كذلك. قيل له: فأي ذلك عني به؟ فإن قال: لكل ولي جاز له تزويج وليته. قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟ فإن قال نعم! قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسيس؟ فإن قال: نعم خرج من قول الجميع. وإن قال: لا! قيل له: ولم؟ وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها الذي بيده عقدة نكاحها؟ ثم يعكس القول عليه في ذلك، ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره. وإن قال: لبعض دون بعض. سئل البرهان على خصوص ذلك، وقد عمه الله تعالى ذكره فلم يخصص بعضا دون بعض. ويقال له: من المعني به، إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟ فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم، سئل البرهان عليه، وعكس القول فيه، وعورض في قوله ذلك بخلاف دعواه. ثم لن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 فإن ظن ظان أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة، فكان معلوما بذلك أن الزوج غير معني به، وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها. وفي بطول ذلك أن يكون حينئذ بيد الزوج، صحة القول أنه بيد الولي الذي إليه عقد النكاح إليها. وإذا كان ذلك كذلك، صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي= فقد غفل وظن خطأ. (1) وذلك أن معنى ذلك: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه، وإنما أدخلت"الألف واللام" في"النكاح" بدلا من الإضافة إلى"الهاء" التي كان"النكاح" - لو لم يكونا فيه (2) مضافا إليها، كما قال الله تعالى ذكره: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [سورة النازعات: 41] ، بمعنى: فإن الجنة مأواه، وكما قال نابغة بني ذبيان: لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الناس، فالأحلام غير عوازب (3)   (1) قوله:: فقد أغفل. . . "، جواب"إن" في قوله: "فإن ظن ظان". وأغفل: دخل في الغفلة، كما بينته فيما سلف 1: 151، وغيره من المواضع. (2) في المطبوعة: "لو لم تكن أل فيه"، والذي حدا بهم إلى هذا التغيير أنها في المخطوطة مضطربة، كتبت هكذا: "لو لم يكن ما فيه" - الواو ممدودة منقوطة كأنها نون. والصواب ما أثبت. والضمير في"يكونا" إلى"الألف واللام". (3) ديوانه: 45، وسيأتي في التفسير 13: 4 (بولاق) من قصيدته في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الأعرج الغساني، وذلك حين فر من النعمان بن المنذر إلى الشام في أمر المتجردة. والضمير في: "لهم" إلى ملوك غسان من بني جفنة. والشيمة: الطبيعة. ورواية الديوان: "من الجود" بدل"من الناس" ورواية الطبري في سياق هذه القصيدة أجود، لأن البيت جاء بعد وصفهم في الحروب بشدة القتال، حتى قال قبله: بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كإيزاغ المخاض الضوارب فالشيمة هنا: هي صبرهم على لأواء القتال. فلا تطير نفوسهم من الروع، ولا تضطرب عقولهم وتدبيرهم إذا بلغ القتال مبلغا يشتت حكمة الحكيم، والعوازب جمع عازب، من قولهم"عزب حلمه" إذا فارقه وبعد عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 بمعنى: فأحلامهم غير عوازب. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى. * * * فتأويل الكلام: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، (1) وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده= لأن معناه: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه الولي ولي المرأة. لأن ولي المرأة لا يملك عقدة نكاح المرأة بغير إذنها، إلا في حال طفولتها، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها، في قول أكثر من رأى أن الذي بيده عقدة النكاح الولي. ولم يخصص الله تعالى ذكره بقوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" بعضا منهم، فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأولوه، لو كان لما قالوا في ذلك وجه. * * * وبعد، فإن الله تعالى ذكره إنما كنى بقوله:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون" = عن ذكر النساء اللاتي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها، وذلك قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، والصبايا لا يسمين"نساء"، وإنما يسمين صبيا أو جواري، وإنما"النساء" في كلام العرب أجمع، اسم المرأة، ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة"امرأة"، كما لا تقول للصبي الصغير"رجل". وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، عند الزاعمين أنه الولي إنما هو: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما الصغر وإما السفه، (2) والله تعالى ذكره إنما اقتص في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه، وجعل   (1) في المخطوطة والمطبوعة"عقدة النكاح"، والصواب الذي يقتضيه التأويل وسياق الكلام بعده، هو ما أثبت. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "إما لصغر وإما لسفه"، والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 لهن العفو بقوله:"إلا أن يعفون"= (1) كان معلوما بقوله:"إلا أن يعفون"، أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعض، إذ كان معلوما أن عفو من تولى عليه ماله منهن باطل. وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن التأويل في قوله: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ، من العفو عما وهب لهن من الصداق بالطلاق قبل المسيس، (2) مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار المولى عليهن أموالهن السفه. وفي إنكار القائلين:"إن الذي بيده عقدة النكاح الولي"، عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفنا، وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر- ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك. ويسأل القائلون بقولهم في ذلك، الفرق بين ذلك من أصل أو نظير، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في خلافه مثله. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله:"وأن تعفوا أقرب للتقوى". فقال بعضهم: خوطب بذلك الرجال والنساء. * ذكر من قال ذلك: 5361- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت أبن جريج يحدث، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"، قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو.   (1) السياق من أول العبارة: وإذ كان ذلك كذلك. . . كان معلومًا. (2) في المخطوطة"السا الرشد"، وكأنها كانت"النساء الرشد" ولكنها ستأتي بعد أسطر"الثيبات الرشد". وأنا أرجح أنها في الموضعين"النساء الرشد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 5362- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"، قال: يعفون جميعا. * * * فتأويل الآية على هذا القول: وأن يعفوا، أيها الناس، بعضكم عما وجب له قبل صاحبه من الصداق قبل الافتراق عند الطلاق، أقرب له إلى تقوى الله. * * * وقال آخرون: بل الذي خوطبوا بذلك أزواج المطلقات. * ذكر من قال ذلك: 5363- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"،: وأن يعفو هو أقرب للتقوى. * * * فتأويل ذلك على هذا القول: وأن تعفوا أيها المفارقون أزواجهم، فتتركوا لهن ما وجب لكم الرجوع به عليهن من الصداق الذي سقتموه إليهن، أو تتموا لهن- (1) بإعطائكم إياهن الصداق الذي كنتم سميتم لهن في عقدة النكاح إن لم تكونوا سقتموه إليهن- أقرب لكم إلى تقوى الله. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين بتأويل الآية عندي في ذلك. ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى ذلك: وأن يعفو بعضكم لبعض= أيها الأزواج والزوجات، بعد فراق بعضكم بعضا عما وجب لبعضكم قبل بعض، فيتركه له إن كان قد بقي له قبله. وإن لم يكن بقي له، فبأن يوفيه بتمامه= أقرب لكم إلى تقوى الله. * * *   (1) في المطبوعة: "أو إليهن بإعطائكم. . . " بياض في أصولها، وفي المخطوطة: "وأن + بإعطائكم"؛ كأن الناسخ لم يستطع أن يجيد قراءة الكلمة، فكتب التاءين في الأول ثم وقف، ولم يعد. وقد مضت الآثار في إكمال الصداق وإتمامه مثل رقم: 5323 وما بعده وما قبله، فمن هناك استظهرت صواب هذه الأحرف الناقصة، وبما يقتضيه معنى الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 فإن قال قائل: وما في الصفح عن ذلك من القرب من تقوى الله، فيقال للصافح العافي عما وجب له قبل صاحبه: فعلك ما فعلت أقرب لك إلى تقوى الله؟ قيل له: الذي في ذلك من قربه من تقوى الله، مسارعته في عفوه ذلك إلى ما ندبه الله إليه، ودعاه وحضه عليه. فكان فعله ذلك- إذا فعله ابتغاء مرضاة الله، وإيثار ما ندبه إليه على هوى نفسه- معلوما به، إذ كان مؤثرا فعل ما ندبه إليه مما لم يفرضه عليه على هوى نفسه، أنه لما فرضه عليه وأوجبه أشد إيثارا، ولما نهاه أشد تجنبا. وذلك هو قربه من التقوى. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تغفلوا، أيها الناس، الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه، (1) ولكن ليتفضل الرجل المطلق زوجته قبل مسيسها، فيكمل لها تمام صداقها إن كان لم يعطها جميعه. وإن كان قد ساق إليها جميع ما كان فرض لها، فليتفضل عليها بالعفو عما يجب له ويجوز له الرجوع به عليها، وذلك نصفه. فإن شح الرجل بذلك وأبى إلا الرجوع بنصفه عليها، فالتتفضل المرأة المطلقة عليه برد جميعه عليه، إن كانت قد قبضته منه. وإن لم تكن قبضته، فتعفو [عن] جميعه. (2) فإن هما لم يفعلا ذلك وشحا وتركا ما ندبهما الله إليه - من أخذ أحدهما على صاحبه بالفضل - فلها نصف ما كان فرض لها في عقد النكاح وله نصفه.   (1) انظر معنى"النسيان" فيما سلف 2: 9، 476. (2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5364- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق. قال: قيل له: فلم تزوجتها؟ قال: عرضها علي فكرهت ردها! قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ 5365- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم". قال: إتمام الزوج الصداق، أو ترك المرأة الشطر. 5366- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: إتمام الصداق، أو ترك المرأة شطره. 5367- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5368- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، في هذا وفي غيره. 5369- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: يقول ليتعاطفا. 5370- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير"، يرغبكم الله في المعروف، ويحثكم على الفضل. 5371- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 عن الضحاك في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: المرأة يطلقها زوجها وقد فرض لها ولم يدخل بها، فلها نصف الصداق. فأمر الله أن يترك لها نصيبها، وإن شاء أن يتم المهر كاملا. وهو الذي ذكر الله:"ولا تنسوا الفضل بينكم". 5372- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، حض كل واحد على الصلة- يعني الزوج والمرأة، على الصلة. 5373- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخيرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول في قول الله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، وذلك الفضل هو النصف من الصداق، وأن تعفو عنه المرأة للزوج أو يعفو عنه وليها. 5374- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: يعفى عن نصف الصداق أو بعضه. 5375- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: حث بعضهم على بعض في هذا وفي غيره، حتى في عفو المرأة عن الصداق، والزوج بالإتمام. 5376- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: المعروف. 5377- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد قال، سمعت تفسير هذه الآية:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: لا تنسوا الإحسان. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن الله بما تعملون"، أيها الناس، مما ندبكم إليه وحضكم عليه، من عفو بعضكم لبعض عما وجب له قبله من حق بسبب النكاح الذي كان بينكم وبين أزواجكم، وتفضل بعضكم على بعض في ذلك، وفي غيره (1) مما تأتون وتذرون من أموركم في أنفسكم وغيركم مما حثكم الله عليه وأمركم به أو نهاكم عنه ="بصير"، يعني بذلك: ذو بصر، (2) لا يخفى عليه منه شيء من ذلك، بل هو يحصيه عليكم ويحفظه، حتى يجازي ذا الإحسان منكم على إحسانه، وذا الإساءة منكم على إساءته. (3) * * *   (1) في المخطوطة "ولغيره"، وفي المطبوعة: "وبغيره"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر القول في تفسير"بصير" فيما سلف 2: 140، 376، 506 / ثم 5: 76. (3) انتهى عند هذا الموضع جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه. "يتلوه القول في تأويل قوله: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم" ثم يبتدئ بعده: "بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 القول في تأويل قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، وتعاهدوهن والزَمُوهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5378- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا أبو زهير، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله:"حافظوا على الصلوات"، قال: المحافظة عليها: المحافظة على وقتها، وعدم السهو عنها. 5379- حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في هذه الآية:"حافظوا على الصلوات"، فالحفاظ عليها: الصلاة لوقتها= والسهو عنها: ترك وقتها. (1) * * * ثم اختلفوا في"الصلاة الوسطى". فقال بعضهم: هي صلاة العصر. * ذكر من قال ذلك: 5380- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد= جميعا قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: والصلاة الوسطى"صلاة العصر. (2) .   (1) الأثر: 5379- هو: يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي. روى عن أبيه وجده. قال النسائي: "صدوق"، وذكره ابن حبان في الثقات مترجم في التهذيب. (2) الخبر: 5380- روى أبو جعفر هنا، في تفسير الصلاة الوسطى 113 خبرا، بين مرفوع وموقوف وأثر، على اختلاف الروايات في ذلك، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، مما لم نجده مستوعبا وافيا في غير هذا الموضع من الدواوين. واجتهد -لله دره- حتى أوفى على الغاية، ثم أبان عن القول الراجح الصحيح: أنها صلاة العصر، كعادته في الترجيح، واختيار ما يراه أقوى دليلا. فأولها: هذا الخبر عن علي، وهو موقوف عليه، وإسناده ضعيف جدا. سفيان: هو الثوري الإمام. أبو إسحاق: هو السبيعي الإمام. الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني. وهو ضعيف جدا، كما بينا فيما مضى: 174. وهذا الخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق به، ولم يذكر لفظه، إحالة على روايات قبله. وسيأتي هذا القول عن علي، بأسانيد، فيها صحاح كثيرة 5382 - 5386، 5422 - 5429، 5444. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 5381- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق قال، حدثني من سمع ابن عباس وهو يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: العصر. (1) 5382- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام، عن أبي حيان، عن أبيه، عن علي قال: والصلاة الوسطى صلاة العصر. (2) 5383- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيان، عن أبيه، عن علي مثله. (3) 5384- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن الحارث قال: سمعت عليا يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (4) 5385- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق،   (1) الخبر: 5381- وهذا موقوف على ابن عباس أيضًا. وإسناده ضعيف، لجهالة الرجل المبهم الرواية عنه"من سمع ابن عباس". وسيأتي عن ابن عباس، من أوجه كثيرة: 5413، 5416، 5433-5435، 5468، 5472-5479، 5481. (2) الخبر: 5382- هذا إسناد حسن على الأقل. مصعب بن سلام التميمي: صدوق، وثقه بعضهم، وضعفه آخرون. والظاهر من ترجمته أن الكلام فيه لأحاديث غلط فيها، فما لم يثبت غلطه فيه فهو مقبول. وله ترجمة مفصلة في تاريخ بغداد 13: 108-110. أبو حيان: هو التيمي الكوفي العابد، واسمه: يحيى بن سعيد بن حيان. وهو ثقة، كان الثوري يعظمه ويوثقه. أخرج له أصحاب الكتب الستة. أبوه سعيد بن حيان: تابعي ثقة، روى عن علي، وأبي هريرة. (3) الخبر: 5383- وهذا إسناد صحيح، متابعة صحيحة من ابن علية لمصعب بن سلام، في حديثه السابق. وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4: 259، نحو هذا المعنى: "عن يحيى بن سعيد القطان، عن أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي، حدثني أبي: أن سائلا سأل عليا: أي الصلوات، يا أمير المؤمنين، الوسطى؟ وقد نادى مناديه العصر، فقال: هي هذه". (4) الخبر: 5384- الأجلح: هو ابن عبد الله الكندي، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة. وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 68، فلم يذكر فيه جرحا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 عن الحارث قال: سألت عليا عن الصلاة الوسطى، فقال: صلاة العصر. (1) 5386- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري يقول: سألت علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى فقال: هي صلاة العصر، وهي التي فتن بها سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم. (2) 5387- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا سيمان التيمي= وحدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا التيمي= عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال:"الصلاة الوسطى"صلاة العصر. (3)   (1) الخبر: 5385- عنبسة: هو ابن سعيد بن الضريس الأسدي. مضى مرارا، منها: 3356. وهذا الإسناد والذي قبله ضعيفان، من أجل الحارث الأعور، كما قلنا في: 5380. (2) الخبر: 5386- أبو زرعة، وهب الله بن راشد، مضى في: 2377، 2891. ووقع في المطبوعة هنا"وهب بن راشد"، وهو خطأ، وثبت على الصواب في المخطوطة. أبو صخر: هو حميد بن زياد الخراط، صاحب العباء، سكن مصر. وهو ثقة، أخرج له مسلم في الصحيح. أبو معاوية البجلي: عقد له صاحب التهذيب ترجمة خاصة في الكنى 12: 240، ونقل عن أبي أحمد الحاكم أنه"عمار الدهني"، وجعل ذلك قولا. والصحيح أنه هو"عمار بن معاوية الدهني البجلي"، وهو ثقة، أخرج له مسلم في الصحيح. وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 390. و"الدهني": بضم الدال المهملة وسكون الهاء، نسبة إلى"دهن بن معاوية"، بطن من بجيلة. أبو الصهباء البكري: لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم 4 / 2 / 394، قال: "أبو الصهباء البكري، أنه سأل علي بن أبي طالب، روى عنه سعيد بن جبير". ثم قال: "سئل أبو زرعة عن اسمه؟ فقال: لا أعرف اسمه". ولم يذكر فيه جرحا. وقد استفدنا من هذا الموضع من الطبري أنه روى عنه أيضًا أبو معاوية البجلي، فارتفعت عنه الجهالة، وعرف شخصه. فهذا إسناد صحيح. وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4: 259، نحو معناه عن علي، من وجه آخر، من رواية سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي. وذكر السيوطي 1: 305، نحوه أيضًا، وذكر كثيرا ممن خرجوه، منهم: وكيع، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب. (3) الخبر: 5387- أبو صالح: هو السمان الزيات، مولى جويرية بنت الأحمس، واسمه: ذكوان. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وهو والد سهيل، وصالح، وعبد الله، روى عنه أولاده وغيرهم، من التابعين فمن بعدهم. وهذا الخبر ذكره ابن حزم في المحلى 4: 258، "من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة"، موقوفا. وكذلك رواه البيهقي 1: 460 - 461، من طريق إبراهيم بن عبد الله البصري، عن الأنصاري، وهو محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن سليمان التيمي، قال: "فذكره موقوفا". ثم رواه من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل. عن أبيه؛"حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، فذكره موقوفا". ثم حكى عن عبد الله بن أحمد، بالإسناد نفسه متصلا به، قال: "قال أبي: ليس هو أبو صالح السمان، ولا باذام. هذا بصري، أراه ميزان، يعني: اسمه باذام". وهذا الظن من الإمام أحمد رحمه الله، ينفيه تصريح من ذكرنا من الرواة بأنه"أبو صالح السمان". وأما"أبو صالح ميزان"، فإنه تابعي آخر ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 /2 / 67. ولكنهم لم يذكروا له رواية عن أبي هريرة. بل إنَّه قد رواه البيهقي أيضًا، قبل ذلك مرفوعا: فرواه من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سليمان التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مرفوعا. وسيأتي -مرفوعا- من هذا الوجه: 5432. وسيأتي -موقوفا- من رواية سليمان التيمي، عن أبي صالح: 5390. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 5388- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن غنم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، ألا وهي العصر، ألا وهي العصر. (1)   (1) الخبر: 5388- سويد: هو ابن نصر بن سويد المروزي، مضى في: 2941. عبد الله بن عثمان بن خثيم: مضى في: 4341. وجده"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة. ووقع في المطبوعة"غنم"، وهو خطأ. وثبت على الصواب في المخطوطة. ابن لبيبة: هو عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي، لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم 2 /2 /294، قال: "روى عن أبي هريرة، وابن عمر. روى عنه عبد الله بن عثمان بن خثيم، ويعلى بن عطاء". فهو تابعي معروف، لم يذكر بجرح، فهو ثقة. وذكر اسمه عند الطحاوي والسيوطي: "عبد الرحمن بن لبيبة"، وعند ابن حزم"عبد الرحمن نافع" فقط. كما سيأتي في التخريج. والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103-104، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، "عن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي: أنه سأل أبا هريرة. . . " فذكره مطولا. وذكره السيوطي 1: 304، مطولا، كرواية الطحاوي. ونسبه إليه وإلى عبد الرزاق في المصنف. وهو تساهل منه. لأن رواية عبد الرزاق مختصرة جدا. وذكره ابن حزم في المحلى 4: 258-259، مطولا، "من طريق إسماعيل بن إسحاق، حدثنا علي بن عبد الله، هو ابن المديني، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن نافع: أن أبا هريرة سئل عن الصلاة الوسطى؟ . . . "، فذكره. وأما رواية عبد الرزاق في المصنف 1: 182 (مخطوط مصور) - فإنها مختصرة جدا: "عبد الرزاق عن معمر، عن ابن خثيم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة، قال: هي العصر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 5389- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله"،"فكان ابن عمر يرى لصلاة العصر فضيلة للذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أنها الصلاة الوسطى. (1) 5390- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه قال، زعم أبو صالح، عن أبي هريرة أنه قال: هي صلاة العصر. (2)   (1) الحديث: 5389- هذا إسناد صحيح جدا. وأصل الحديث المرفوع، دون رأي ابن عمر في آخره- رواه أحمد في المسند: 4545، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أصحاب الكتب الستة، كما في المنتقى: 556. ورواه أحمد أيضًا، من طرق كثيرة، عن نافع، عن ابن عمر. بيناها في الاستدراكين: 1299، 1542. وأما الحديث، على النحو الذي رواه أبو جعفر هنا، بزيادة رأي عبد الله بن عمر-: فقد رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 181، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، بنحوه، مختصرا قليلا. وكذلك ذكره السيوطي 1: 304، ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد. ونسى أن ينسبه للطبري. وسيأتي بنحوه: 5391. وذكر ابن حزم في المحلى 4: 259- رأى ابن عمر، دون أن يذكر الحديث المرفوع. وكذلك روى الطحاوي في معاني الآثار 1: 101 قول ابن عمر، موقوفا عليه، صريح اللفظ: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" - من طريق عبد الله بن صالح، ومن طريق عبد الله بن يوسف، كلاهما عن الليث، عن ابن الهاد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. قوله: "وتر أهله وماله": هو بالبناء لما لم يسم فاعله. قال ابن الأثير: "أي نقص، يقال: وترته، إذا نقصته. فكأنك جعلته وترا بعد أن كان كثيرا. وقيل: هو من الوتر: الجناية التي يجنيها الرجل على غيره، من قتل أو نهب أو سبي. فشبه ما يلحق من فاتته صلاة العصر بمن قتل حميمه، أو سلب أهله وماله. يروى بنصب الأهل ورفعه، فمن نصب جعله مفعولا ثانيا لوتر، وأضمر فيه مفعولا لم يسم فاعله عائدا إلى الذي فاتته الصلاة. ومن رفع لم يضمر، وأقام الأهل مقام ما لم يسم فاعله، لأنهم المصابون المأخوذون. فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما". (2) الخبر: 5390- هو تكرار للخبر: 5387. وكان مكانه أن يذكر عقبه، أو عقب الذي بعده. لأن إثباته في هذا الموضع فصل بين حديثي ابن عمر: 5389، 5391- دون ما حاجة لذلك ولا حكمة. و"معتمر" - في هذا الإسناد: هو ابن سليمان التيمي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 5391- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه= قال ابن شهاب، وكان ابن عمر يرى أنها الصلاة الوسطى. (1) 5392- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري قال: الصلاة الوسطى: صلاة العصر. (2) 5393- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا ابن عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة قالت: أوصت عائشة لنا بمتاعها، فوجدت في مصحف عائشة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر وقوموا لله قانتين". (3)   (1) الحديث: 5391- هو تكرار للحديث: 5389، فصل بينهما -دون ما حاجة- بخبر أبي هريرة. فأوجب شبهة أن يكون قوله في هذا الحديث"بنحوه"، راجعا إلى خبر أبي هريرة. وليس كذلك، بل هو تكرار للحديث المرفوع ولرأي ابن عمر الذي استنبطه من الحديث. (2) الخبر: 5392- عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار: ثقة من شيوخ أحمد والبخاري. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 12: 269-277. الحسن: هو البصري. وقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 15، عن علي بن المديني، أن الحسن لم يسمع من أبي سعيد الخدري شيئا، وكذلك روى نحوه عن بهز. فهذا الخبر منقطع لهذا. والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، عن ابن مرزوق، عن عفان عن همام، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على ما قبله. وسيأتي في: 5451، رواية عن أبي سعيد الخدري: أنها الظهر. وهذا هو الذي ذكره السيوطي 1: 302 نقلا عن الطبري. وأبو سعيد ممن روي عنه أنها الظهر، وروي عنه أنها العصر، كما في ابن كثير 1: 577، 578، وفتح الباري 8: 146. وقد ذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى عن أبي سعيد -من قوله- أنها صلاة العصر. وهذه الرواية لم أجدها في المسند، فما أدري: أهي في موضع آخر عرضا غير مسند أبي سعيد؟ أم في كتاب آخر من كتب أحمد غير المسند؟ وإن كان مقتضى الإطلاق أن يراد المسند! (3) الخبر: 5393- ابن عامر: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة! ولست أدري من هو؟ والراجح -عندنا- أنه خطأ، صوابه"أبو عامر"، وهو"أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو" فهو يروي عن محمد بن أبي حميد، ويروي عنه محمد بن معمر، شيخ الطبري. حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة: لا أدري من هي، ولا ما شأنها؟ لم أجد لها ذكرا في كل المصادر التي بين يدي، ولا في كتاب الثقات لابن حبان، فأمرها مشكل حقا. وسيأتي خبران"عن أبي يونس مولى عائشة": 5466، 5467، وهذا تابعي معروف، كما سيأتي، فلعل هذه ابنته. وقد ذكر السيوطي 1: 304 نحو هذا الخبر، هكذا: "وأخرج وكيع عن حميدة، قالت: قرأت في مصحف عائشة: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، صلاة العصر". وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 84، عن محمد بن معمر، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي حميد، قال: "أخبرتني حميدة"، ولم يذكر نسبها. وستأتي أخبار أخر عن عائشة: 5394 - 4397، 5400، 5401، 5466، 5467. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 5394- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرنا عبد الملك بن عبد الرحمن: أن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن سألت عائشة عن الصلاة الوسطى، قالت: كنا نقرؤها في الحرف الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى= [قال أبو جعفر: أنه قال] = صلاة العصر وقوموا لله قانتين". 5395- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد ابنة عبد الرحمن: أنها سألت عائشة، فذكر نحوه= إلا أنه قال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1)   (1) الحديثان: 5394، 5395- عبد الملك بن عبد الرحمن بن خالد بن أسيد -بفتح الهمزة- القرشي: ثقة ترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /355، قال: "روى عن أمه أم حميد، قالت: سمعت عائشة. روى عنه ابن جريج". ووهم العقيلي، فلم يرفع نسبه، وقال: "من ولد عتاب بن أسيد". واستدرك عليه الحافظ في لسان الميزان 4: 65-66، ونقل ترجمته من ثقات ابن حبان، نحو كلام ابن أبي حاتم. أمه"أم حميد ابنة عبد الرحمن": لم أتوثق من ترجمتها. ففي التهذيب 12: 465- ترجمة هكذا: "أم حميد، ويقال: أم حميدة، بنت عبد الرحمن، عن عائشة، روى ابن جريج عن أبيه عنها". فإن لم تكنها فلا أدري؟ وهذان الحديثان بمعنى واحد، إلا أن في أولهما: "صلاة العصر"، بدون الواو، وفي ثانيهما: "وصلاة العصر"، بإثبات الواو. وهذه الواو العاطفة- في رواية إثباتها: هي من عطف الصفة على الموصوف، لا عطف المغايرة. كما يدل عليه الرواية الآتية: 5397، "وهي صلاة العصر". وانظر فتح الباري 8: 148، وما يأتي: 5465-5468. وهذا المعنى -عن عائشة- رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن ابن جريج، بهذا الإسناد، ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية قبله، فيها إثبات الواو. ورواه ابن حزم في المحلى 4: 257-258، بإسناده، من طريق عبد الرزاق. ورواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 84، بإسنادين: من طريق أبي عاصم، ومن طريق حجاج- كلاهما عن ابن جريج، به. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق الحجاج بن محمد، عن ابن جريج، به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 5396- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو أبي سهل الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة في قوله:" الصلاة الوسطى"، قالت: صلاة العصر. (1) 5397- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". (2)   (1) الخبر: 5396- أبو سهل محمد بن عمرو الأنصاري الواقفي البصري: الراجح عندنا توثيقه، ترجم له البخاري في الكبير 1 /1 /194، فلم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات، ثم ذكره في الضعفاء. وترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /32، فذكر الأقوال في تضعيفه فقط. وقال ابن حزم في المحلى 4: 256، "ثقة. روى عنه ابن مهدي، ووكيع، ومعمر، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم". ووقع في المطبوعة: "محمد بن عمرو وأبي سهل الأنصاري"! وزيادة الواو قبل الكنية خطأ، وقع في المخطوطة أيضًا. ووقع في المطبوعة أيضًا: "قال صلاة العصر". وهو خطأ واضح. صوابه"قالت". والخبر، ذكر ابن حزم في المحلى 4: 256 أنه رواه"من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري، عن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر". ثم قال ابن حزم: "فهذه أصح رواية عن عائشة". وقوله في الإسناد"عن محمد بن أبي بكر" - هكذا وقع في المحلى، فلا أدري، الرواية عن ابن مهدي هكذا؟ فيكون محمد بن عمرو رواه عن القاسم بن محمد وعن أبيه! أم هو خطأ من ناسخي المحلى؟ وأنا أرجح أنه خطأ؛ لأن محمد بن أبي بكر الصديق قديم الوفاة. وشيوخ محمد بن عمرو كلهم مقارب لطبقة القاسم بن محمد، ثم إنهم لم يذكروا محمد بن أبي بكر في شيوخ محمد بن عمرو. وأكثر من هذا أنهم لم يذكروا -قط- راويا عن محمد بن أبي بكر، غير ابنه القاسم بن محمد. ولكن ابن حزم يشير بعد ذلك، ص: 259 إلى رواية القاسم بن محمد عن عائشة"مثل ذلك". فالظاهر أن الخطأ قديم، في الكتب التي نقل عنها ابن حزم. (2) الخبر: 5397 -المثنى- شيخ الطبري: هو ابن إبراهيم الآملي، كما بينا فيما مضى: 186، 187. ووقع في ابن كثير، نقلا عن هذا الموضع: "ابن المثنى"، وهو خطأ. الحجاج: هو ابن المنهال الأنماطي، كما مضى في رواية المثنى عنه: 682، 1682، 1683 حماد: هو ابن سلمة، كما تبين من رواية ابن حزم التي سنذكر. والخبر نقله ابن كثير 1: 580، عن هذا الموضع. ونقله الحافظ في الفتح 8: 146، والسيوطي 1: 304، ولم ينسباه لغير الطبري. وذكره ابن حزم في المحلى 4: 254"عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة". ولكن فيه: "وصلاة العصر"، بدون كلمة"هي". وكذلك هو بنحوه، في كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص: 83، من طريق يزيد، عن حماد، عن هشام، عن أبيه. ورواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن معمر، عن هشام بن عروة، قال: "قرأت في مصحف عائشة رضي الله عنها: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". فلم يذكر كلمة"هي". وجعله من قراءة هشام نفسه في مصحف عائشة، لا من روايته عن أبيه. وهذه الرواية ذكرها السيوطي 1: 302، ونسبها لعبد الرزاق، وابن أبي داود. ولم أجدها في كتاب المصاحف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 5398- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن داود بن قيس قال، حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني. فأعلمتها، فأملت علي:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر". (1) 5399- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: كان الحسن يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (2)   (1) الخبر: 5398- داود بن قيس الفراء الدباغ المدني: ثقة حافظ، كما قال الشافعي. ووثقه ابن المديني وغيره. عبد الله بن رافع المخزومي، أبو رافع المدني، مولى أم سلمة أم المؤمنين عتاقة: تابعي ثقة. وهذا الخبر رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن داود بن قيس ولكن بلفظ: "وصلاة العصر"، بزيادة الواو. وكذلك هو في المحلى 4: 254، نقلا عن عبد الرزاق. وكذلك نقله السيوطي 1: 303. ونسبه لوكيع، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر. ونسى أن ينسبه لعبد الرزاق. وهو في كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص: 87 - 88، من طريق ابن نافع، وطريق وكيع، وطريق سفيان - ثلاثتهم عن داود بن قيس. وفي الطريقين الأولين بإثبات الواو، وفي الثالث بحذفها. وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 148، ونسبه لابن المنذر، فقط. ووقع فيه"عبيد الله بن رافع" وهو خطأ من ناسخ أو طابع. (2) الخبر: 5399- هو أثر من كلام الحسن، بإسناد ضعيف مجهول، بقول الطبري: "حدثت عن عمار". وسيأتي بإسناد آخر عن الحسن: 5419. وسيأتي نحو معناه عن الحسن، مرفوعا مرسلا: 5441. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 5400- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه قال، حدثنا قتادة، عن أبي أيوب، عن عائشة أنها قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر. 5401- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عائشة مثله. (1) 5402- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. 5403- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. 5404- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: صلاة الوسطى صلاة العصر. 5405- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سالم، عن حفصة: أنها أمرت رجلا يكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذا المكان فأعلمني. فلما بلغ"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: اكتب   (1) الخبران: 5400، 5401- المعتمر -في الإسناد الأول: هو ابن سليمان التيمي. يحيى- في الإسناد الثاني: هو ابن سعيد القطان. أبو أيوب: هو يحيى بن مالك المراغي العتكي الأزدي. وهو تابعي ثقة مأمون. و"المراغي": نسبة إلى"المراغ"، وهي بطن من الأزد. و"العتكي": نسبة إلى"العتيك" ابن الأزد". فالظاهر أن المراغ من العتيك. وأخطأ ابن حزم في المحلى، فذكر أن اسم أبي أيوب: "يحيى بن يزيد". وهو خلاف لما في الدواوين، بل قد ثبت اسمه في صحيح مسلم 1: 170 في حديث آخر: "عن قتادة، عن أبي أيوب، واسمه: يحيى بن مالك الأزدي، ويقال المراغي. والمراغ: حي من الأزد". والخبر نقله ابن حزم في المحلى 4: 259، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي، به. وذكره السيوطي 1: 305، قال: "وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، من طرق عن عائشة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 "صلاة العصر". (1) 5406- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أخبرها قالت: اكتب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". (2)   (1) الخبر: 5405- أبو بشر: هو جعفر بن أبي وحشية، مضى في: 3348. وسيأتي هذا الخبر مطولا: 5461، من طريق شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم. وفيه هناك: "وصلاة العصر". فظهر أن هذا الإسناد منقطع بين أبي بشر وسالم. وندع الكلام عليه إلى ذاك الموضع، إن شاء الله. (2) الخبر: 5406- نافع مولى ابن عمر: تابعي ثقة. ولكن روايته عن حفصة بنت عمر مرسلة، كما نص على ذلك ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 81، وكذلك نقل عنه في التهذيب. وهذا الخبر سيأتي أيضًا: 5463، من طريق أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. وفيه: "وصلاة العصر"، بدل"وهي صلاة العصر". وكذلك سيأتي: 5462، من طريق عبد الوهاب، عن عبيد الله. ويدل على انقطاع هذا الإسناد والإسنادين الآتيين: أن ابن أبي داود رواه في المصاحف، ص 85، عن محمد بن بشار -قال: ولم نكتبه عن غيره-: "حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة. . . ". وفيه أيضًا: "وصلاة العصر". ثم رواه: 85-86، عن عمه وإسحق بن إبراهيم، قالا: "حدثنا حجاج، حدثنا حماد، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن حفصة، مثله. ولم يذكر فيه ابن عمر". فقد ظهر أنه اختلف على الحجاج بن منهال في وصله وانقطاعه. والوصل زيادة ثقة، فتقبل. وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن ابن جرير، قال: "أخبرني نافع: أن حفصة. . . " - وفيه أيضًا: "وصلاة العصر". ورواية ابن جريج هذه -ذكرها ابن حزم في المحلى 4: 253. ونستدرك هنا: أننا أشرنا في التعليق عليه إلى رواية الطبري هذه-: 5406- وقلنا هناك: "وإسناده صحيح جدا". وقد تبين لنا الآن أن هذا كان خطأ، وأن الإسناد ضعيف لانقطاعه، كما قلنا. نعم إن رواية ابن أبي داود، التي فيها زيادة"عن ابن عمر"، دلت على وصل الخبر، ولكنه إنما يكون صحيحا فيها، لا في رواية الطبري هذه. وستأتي أسانيد أخر عن حفصة: 5458، 5464، 5465، 5470. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 5407- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش قال: صلاة الوسطى هي العصر. 5408- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، كنا نحدث أنها صلاة العصر، قبلها صلاتان من النهار، وبعدها صلاتان من الليل. 5409- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: أمروا بالمحافظة على الصلوات. قال: وخص العصر،"والصلاة الوسطى"، يعني العصر. (1) 5410- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والصلاة الوسطى"، هي العصر. (2) 5411- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال:"الصلاة الوسطى" صلاة العصر. 5412- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"حافظوا على الصلوات" - يعني المكتوبات-"والصلاة الوسطى"، يعني صلاة العصر. 5413- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد، عن ابن عباس قال: سمعته يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: صلاة العصر. (3)   (1) الخبر: 5409- في المطبوعة"جبير" بدل"جويبر". وهو خطأ. (2) الأثر: 5410- في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن سليمان"، وهو خطأ. هذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 5356. (3) الخبر: 5413- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. قيس: هو ابن الربيع الأسدي الكوفي، رجحنا توثيقه في: 4842، وفي المسند: 661، 7115. أبو إسحق: هو السبيعي. وفي المطبوعة: "عن ابن إسحاق"، وهو تحريف ناسخ أو طابع. رزين بن عبيد: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /296، وابن أبي حاتم 1 /2/ 507 - فلم يذكرا فيه جرحا. وهذا كاف في توثيقه. والخبر سيأتي: 5416، من رواية إسرائيل، وهو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن جده أبي إسحاق. وكذلك رواه البخاري في الكبير، في ترجمة"رزين"، من طريق إسرائيل. وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق إسرائيل. ووقع فيه خطأ في اسم التابعي. وذكره السيوطي 1: 305، "عن رزين بن عبيد: أنه سمع ابن عباس يقرؤها: والصلاة الوسطى صلاة العصر"! هكذا ذكره السيوطي، ونسبه لأبي عبيد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطحاوي؛ وفيه تساهل، فاللفظ عند البخاري والطبري والطحاوي ليس النص على قراءة الآية كذلك. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309، أن البزار روى عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الوسطى صلاة العصر". قال الهيثمي: "ورجاله موثقون" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 5414- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن مجاهد قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (1) 5415- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. 5416- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد قال: سمعت ابن عباس يقول: هي صلاة العصر. (2) 5417- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، أنبأنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة الوسطى صلاة العصر". (3)   (1) الخبر: 5414- ثوير -بالتصغير-: هو ابن أبي فاختة، وهو ضعيف جدا. كما مضى في: 3212. ووقع في المطبوعة "ثور". وهو خطأ، وثبت على الصواب في المخطوطة. (2) الخبر: 5416- هو تكرار للخبر: 5413، بمعناه. وقد سبق الكلام عليه مفصلا. (3) الخبر: 5417- إسماعيل بن مسلم: هو المكي، بصري سكن مكة. وحديثه عندنا حسن، كما بينا في المسند في حديث آخر: 1689، وفي شرح الترمذي 1: 454. الحسن: هو البصري. وسمرة: هو ابن جندب الصحابي المعروف. وسماع الحسن من سمرة، فيه كلام طويل لأئمة الحديث. والراجح سماعه منه. كما رجحه ابن المديني، والبخاري، والترمذي، والحاكم، وغيرهم. وانظر في ذلك شرحنا للترمذي 1: 343، والجوهر النقي 5: 288-289، وعون المعبود 1: 369-370، وغير ذلك من المراجع. والحديث سيأتي بأسانيد أخر: 5438-5439. ورواه أحمد في المسند 5: 7، 12، 13 -بأسانيد، من طريق سعيد، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وكذلك رواه الترمذي، رقم: 182 بشرحنا، في كتاب الصلاة (1: 159-160 شرح المباركفوري) ، ورواه أيضًا في كتاب التفسير 4: 77 (شرح المباركفوري) ، من طريق ابن أبي عروبة. وقال في الموضع الأول: "حديث سمرة في الصلاة الوسطى حديث حسن". وقال في الموضع الثاني: "هذا حديث حسن صحيح". وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق روح بن عبادة، عن ابن أبي عروبة، به. مرفوعا. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية سابقة. ورواه البيهقي 1: 460، من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وذكره ابن كثير 1: 578-579، عن روايات المسند بأسانيدها. وذكره السيوطي 1: 304، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والطبراني. وذكره قبله بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وسماها لنا، وإنما هي صلاة العصر". ونسبه لأحمد، وابن جرير، والطبراني. هكذا قال. ولم أجد هذا اللفظ في المسند، ولا في تفسير الطبري، وإن كان موافقا في المعنى لما عندنا فيهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 5418- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر، عن سعيد بن الحكم قال: سمعت أبا أيوب يقول: صلاة الوسطى صلاة العصر. (1)   (1) الخبر: 5418- مرة بن مخمر: ترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /366، قال: "مرة بن مخمر، روى عن سعيد بن الحكم، عن أبي أيوب، روى عنه يزيد بن أبي حبيب". ولم أجد له غير هذه الترجمة. ومن عجب أن البخاري لم يترجم له، في حين أنه أشار إليه مرتين، في الإشارة إلى هذا الخبر، كما سيأتي، ووقع اسمه في المشتبه للذهبي، ص: 6"مرة بن حمير"! وهو خطأ. سعيد بن الحكم: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1/ 425، قال: "سمع أبا أيوب: "الوسطى العصر". قاله وهب، حدثنا أبي سمعت يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة. ويقال سعد بن أحكم". وهذه إشارة إلى هذا الإسناد، إذ رواه الطبري هنا من طريق وهب بن جرير عن أبيه. ثم ترجم البخاري 2 /2 /53، قال: "سعد بن أحكم، من السفاكة، بطن من يحصب ثم من حمير، سمع أبا أيوب. قاله يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة. وقال وهب بن جرير، عن أبيه". ثم انقطع الكلام، ويظهر أن فيه سقطا، يفهم مضمونه من الترجمة الماضية. وترجم ابن أبي حاتم 2 /1 /13: "سعيد بن الحكم، مصري روى عن أبي أيوب. روى يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر، عنه". وترجم ابن أبي حاتم 2 /1 /81-82: "سعد بن الحكم، مصري، من حمير. . . "،. ثم ذكر نحو ما قاله في"سعيد". والذي لا أشك فيه أن ابن أبي حاتم أخطأ في الترجمة الثانية، إذ أتى بقول ثالث لم يقله أحد، وهو"سعد بن الحكم". وإنما الاختلاف فيه بين"سعيد بن الحكم"، و"سعد بن أحكم"، كما صنع البخاري. وقد نقل العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني -في تعليقه على الموضع الأول من التاريخ الكبير - أن ابن حبان ذكره على القولين، كصنيع البخاري، وأن الأمير ابن ماكولا ذكره كذلك، وأنه رواه أيضًا "ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر الحميري، عن سعد بن أحكم". وكذلك نص على ضبطه"سعد بن أحكم" - الذهبي في المشتبه، ص: 6، والحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه (المخطوط مصور عندنا) . وعندي أن رواية"سعد بن أحكم" أرجح وأقرب إلى الصواب، لأنه هكذا رواه اثنان عن يزيد بن أبي حبيب، وهما: ابن إسحاق، فيما ذكر البخاري، وابن لهيعة، فيما ذكر ابن ماكولا. وانفرد يحيى ابن أيوب بتسميته"سعيد بن الحكم". واثنان أولى بالحفظ والثبت من واحد. والخبر رواه البخاري في الكبير -إشارة- كما ذكرنا. وذكره السيوطي 1: 305، وزاد نسبته لابن المنذر. أبو أيوب: هو الأنصاري الخزرجي، الصحابي الجليل. واسمه: "خالد بن زيد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 5419- حدثنا ابن سفيان قال، حدثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن الحسن قال: صلاة الوسطى صلاة العصر. (1) * * * وعلة من قال هذا القول ما: - 5420- حدثني به محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد -يعني ابن طلحة- عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرَّت، أو احمرت- فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا (2)   (1) الخبر: 5419- ابن سفيان - شيخ الطبري: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة، ولا ندري من هو؟ ويحتمل أن يكون محرفا عن"ابن سنان". وهو: "محمد بن سنان القزاز". مضت روايته عن أبي عاصم، ورواية الطبري عنه: 157، 485، 702. (2) الحديث: 5420 - أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو. محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، مضى في: 5088. زبيد، بالتصغير: هو ابن الحارث بن عبد الكريم، مضى في: 2521 مرة: هو مرة الطيب، بن شراحيل الهمداني، مضى أيضًا في: 2521. عبد الله: هو ابن مسعود الصحابي الكبير. وهذا الحديث رواه الطبري هنا من طريق أبي عامر العقدي. وسيرويه بعد ذلك: 5421، من طريق يزيد بن هرون. ثم: 5430، من طريق ثابت بن محمد - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة بن مصرف. وقد رواه أيضًا أبو داود الطيالسي في مسنده: 366، عن محمد بن طلحة، مختصرا. ورواه أحمد في المسند: 3716، عن يزيد، وهو ابن هارون. و: 3829، عن خلف بن الوليد. و: 4365، عن هاشم، وهو ابن القاسم أبو النضر - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة، مطولا ومختصرا. ورواه مسلم 1: 174، عن عون بن سلام، عن محمد بن طلحة. ورواه الترمذي: 181 بشرحنا، مختصرا، من طريق الطيالسي، وأبي النضر - كلاهما عن محمد بن طلحة. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه ابن ماجه: 686، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون - كلاهما عن محمد بن طلحة. ورواه البيهقي 1: 460، من طريق الفضل بن دكين، وعون بن سلام - وكلاهما عن محمد بن طلحة. وذكره السيوطي 1: 303، ونسبه لبعض من ذكرنا ولعبد بن حميد، وابن المنذر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 5421- حدثني أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا محمد بن طلحة، عن زبيد عن مرة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه- إلا أنه قال: ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى". (1) 5422- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي حسان، عن عبيدة السلماني، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو بطونهم نارا= شك شعبة في البطون والبيوت. (2)   (1) الحديث: 5421- أحمد بن سنان الواسطي، القطان، الحافظ - شيخ الطبري: ثقة متقن من الأثبات. روى عنه الشيخان وغيرهما. مترجم في تذكرة الحفاظ 2: 93-94. والحديث مكرر ما قبله. (2) الحديث: 5422- أبو حسان الأعرج: اسمه"مسلم"، دون ذكر اسم أبيه، في جميع المراجع، إلا التهذيب وفروعه ورجال الصحيحين، فإن فيها زيادة"بن عبد الله". وهو تابعي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. عبيدة- بفتح العين: هو السلماني، مضت ترجمته في: 245. والحديث رواه مسلم 1: 174، عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -شيخي الطبري هنا- بهذا الإسناد. ورواه ابن حزم في المحلى 4: 252، من طريق مسلم. ورواه أحمد في المسند: 1150، عن محمد بن جعفر عن شعبة، بهذا الإسناد. ثم رواه: 1151، عن حجاج، وهو ابن محمد، عن شعبة، به. ورواه النسائي 1: 83، مختصرا، من طريق خالد، عن شعبة. وسيأتي الحديث من رواية أبي حسان عن عبيدة: 5429، 5444، ومضى قول علي: "الصلاة الوسطى صلاة العصر": 4380، وأشرنا إلى سائر الروايات الآتية من حديثه، ومنها هذا الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 5423- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر قال: قلت لعبيدة السلماني: سل علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى. فسأله، فقال: كنا نراها الصبح= أو الفجر= حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا"! (1)   (1) الحديث: 5423- عبد الرحمن: هو ابن مهدي وسفيان: هو الثوري. وعاصم: هو ابن أبي النجود. وزر: هو ابن حبيش. وهذا الحديث من رواية زر بن حبيش عن علي، بحضرته سؤال عبيدة السلماني وجواب علي. وهو يؤيد رواية أبي حسان الأعرج عن عبيدة: 5422. والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 181-182، عن الثوري، عن عاصم، عن زر ابن حبيش، به. وسيأتي: 5428، من رواية إسرائيل، عن عاصم. ورواه ابن أبي حاتم -فيما نقل عنه ابن كثير 1: 578- عن أحمد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، بهذا الإسناد. ثم قال ابن كثير: "رواه ابن جرير، عن بندار، عن ابن مهدي، به". يعني هذا الإسناد. وبندار: هو محمد بن بشار شيخ الطبري. ورواه ابن حزم في المحلى 4: 252-253، بإسناده إلى محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، به. ورواه البيهقي 1: 460، من طريق محمد بن كثير، عن سفيان، عن عاصم، عن زر. ورواه ابن ماجه: 684، مختصرا، من طريق حماد بن زيد، عن عاصم، عن زر. وأشار ابن حزم في المحلى 4: 253، إلى رواية حماد بن زيد. وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والبخاري والنسائي، وابن المنذر. وهو تساهل منه في نسبته للبخاري، فإني لم أجده في البخاري إلا من رواية ابن سيرين عن عبيدة، كما سيأتي في: 5427. وإسناد هذا الحديث -من رواية سفيان، عن عاصم، عن زر- إسناد صحيح. ومع ذلك فإن الإمام أحمد لم يروه في المسند من هذا الوجه بإسناد صحيح. بل روى نحوه مختصرا: 1287، من طريق شعبة، عن جابر، وهو الجعفي، عن عاصم، عن زر. وهو إسناد ضعيف، من أجل جابر الجعفي. وروى ابنه عبد الله -في المسند-: 990، معناه مختصرا جدا، بإسناد ضعيف أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 5424- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن علي قال: شغلونا يوم الأحزاب عن صلاة العصر، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو أجوافهم نارا (1) 5425- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، يوم الأحزاب، على فرضة من فرض الخندق، فقال:"شغلونا   (1) الحديث: 5424- أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح -بضم الصاد المهملة- الهمداني الكوفي، وهو تابعي ثقة كثير الحديث. شتير بن شكل بن حميد العبسي: تابعي ثقة، يقال إنه أدرك الجاهلية. ولذلك ترجمه الحافظ في الإصابة، في قسم المخضرمين 3: 219-220. "شتير": بضم الشين المعجمة وفتح التاء المثناة. و"شكل": بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين. وهذان الاسمان من نادر الأسماء. والحديث سيأتي: 5426، بنحوه من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، وهو أبو الضحى. ورواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن سفيان الثوري، به. ورواه أحمد في المسند: 1245، عن عبد الرزاق. ورواه أيضًا: 1036، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي، عن سفيان. ورواه البيهقي 1: 460، من طريق محمد بن شرحبيل بن جعشم، عن الثوري. وأما طريق أبي معاوية الآتية: فقد رواه أحمد في المسند: 617، 911، عن أبي معاوية، عن الأعمش. ورواه مسلم 1: 174، من طريق أبي معاوية. وذكره ابن حزم في المحلى 4: 253، من طريق مسلم. ورواه أيضًا أحمد في المسند: 1298، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الأعمش. وذكره ابن كثير 1: 578، من رواية أحمد عن أبي معاوية. ثم ذكر أنه رواه مسلم والنسائي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم، نارا= أو بطونهم وبيوتهم نارا. (1) 5426- حدثني أبو السائب وسعيد بن نمير قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن شتير بن شكل، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! ثم صلاها بين العشاءين، بين المغرب والعشاء. (2) 5427- حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا علي بن عاصم، عن خالد، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي قال، لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلا بعد ما غربت الشمس، فقال: ما لهم! ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا! منعونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس. (3)   (1) الحديث: 5425- الحكم: هو ابن عتيبة، مضى في: 3297. يحيى بن الجزار العرني الكوفي: تابعي ثقة. وجزم شعبة بأنه لم يسمع من علي بن أبي طالب إلا ثلاثة أحاديث، هذا أجدها. والحديث رواه أحمد في المسند: 1305، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 1132، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة. ورواه مسلم 1: 174، من طريق وكيع، ومعاذ، وهو العنبري الحافظ - كلاهما عن شعبة. وأشار ابن كثير 1: 578، إلى رواية مسلم هذه. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق أبي عامر العقدي، عن شعبة، بهذا الإسناد. الفرضة: ما انحدر من جانب الخندق في موضع شقه. من"الفرض": وهو الشق. ومنه"فرضة النهر": وهو مشرب الماء منه. وهي ثلمة في شاطئه. وفرضة البحر: محط السفن. (2) الحديث: 5426- أبو السائب -شيخ الطبري: هو مسلم بن جنادة، مضى مرارا. سعيد بن نمير- شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ذكرا ولا ترجمة في شيء من المراجع. وأخشى أن يكون محرفا عن شيء لا أعرفه الآن. وكلمة"نمير" رسمت في المخطوطة رسما غير واضح، يمكن أن يكون محرفا عن"يحيى". فإن يكنه يكن: "سعيد بن يحيى بن الأزهر الواسطي". وهو ثقة، يروي عن أبي معاوية، وهو من طبقة شيوخ الطبري. ولا نجزم ولا نرجح عن غير ثبت. والحديث مضى: 5424، من رواية الثوري عن الأعمش، وأشرنا إلى هذا، وإلى تخريجه هناك. (3) الحديث: 5427- الحسين بن علي الصدائي: مضى في: 2093. علي بن عاصم بن صهيب الواسطي: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني. وبعضهم تكلم فيه، ورجحنا توثيقه في المسند: 343. خالد: هو ابن مهران الحذاء، مضى في: 1683. الحديث رواه أحمد في المسند، مختصرا قليلا: 994، عن يحيى، وهو القطان، عن هشام، وهو ابن حسان، عن محمد، وهو ابن سيرين. ورواه أيضًا: 1220، عن يزيد، وهو ابن هرون، عن هشام. ورواه البخاري 6: 76 / و7: 312 / و8: 145 /و11: 165 (فتح) ، من طرق عن هشام. ورواه أبو داود: 409، من طريق هشام أيضًا. ورواه ابن حزم في المحلى 4: 252، من طريق البخاري. وانظر ما مضى: 5423. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 5428- حدثنا زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن عاصم، عن زر قال: انطلقت أنا وعبيدة السلماني إلى علي، فأمرت عبيدة أن يسأله عن الصلاة الوسطى فقال: يا أمير المؤمنين، ما الصلاة الوسطى؟ فقال: كنا نراها صلاة الصبح، فبينا نحن نقاتل أهل خيبر، فقاتلوا، حتى أرهقونا عن الصلاة، وكان قبيل غروب الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ قلوب هؤلاء القوم الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى وأجوافهم نارا= أو املأ قلوبهم نار = قال: فعرفنا يومئذ أنها الصلاة الوسطى. (1) 5429- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا= أو: كما حبسونا= عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! (2)   (1) الحديث: 5428- هذا الحديث في معنى الحديث: 5423. ولكن هذه الرواية فيها شذوذ، في أن الحديث كان في غزوة خيبر. والروايات الصحاح كلها على أنه كان في غزوة الأحزاب. ولذلك أفردها السيوطي بالذكر 1: 303، فقال: "وأخرج ابن جرير من وجه آخر عن زر. . . ". فلم ينسبها لغير الطبري، ولم أجد ما يؤيدها. بل روى الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من هذا الوجه، مثل سائر الروايات: فرواه من طريق زائدة بن قدامة، عن عاصم، عن زر، عن علي، وفيه: "قاتلنا الأحزاب". ثم روى من طريق سفيان، عن عاصم، عن زر، أنه كلف عبيدة سؤال علي، قال: "فذكر نحوه". (2) الحديث: 5429- يزيد: هو ابن زريع. وسعيد: هو ابن أبي عروبة. والحديث مضى: 5422، من رواية شعبة، عن قتادة. ورواه أحمد في المسند: 591، عن محمد بن أبي عدي. و: 1134، عن عبد الوهاب، وهو ابن عطاء الخفاف، و: 1307، عن محمد بن جعفر -ثلاثتهم عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة. ورواه أيضًا: 1313، عن بهز، و: 1326، عن عفان- كلاهما عن همام، عن قتادة. ورواه الترمذي 4: 77، عن هناد، عن عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روى من غير وجه عن علي". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 5430- حدثنا سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا ثابت بن محمد قال، حدثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس= أو: احمرت= فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله بيوتهم وقلوبهم نارا= أو حشا الله قلوبهم وبيوتهم نارا. (1) 5431- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول قال، سمعت طلحة قال: صليت مع مرة في بيته فسها = أو قال: نسي = فقام قائما يحدثنا= وقد كان يعجبني أن أسمعه من ثقة= قال: لما كان يوم الخندق - يعني يوم الأحزاب - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهم! شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا. (2)   (1) الحديث: 5430- ثابت بن محمد، أبو إسماعيل الشيباني العابد: ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 1 /2 /170. وفي التهذيب كلمة موهمة، لعلها سبق قلم من الحافظ! قال: ذكره البخاري في الضعفاء، وأورد له حديثا وبين أن العلة من غيره"! والبخاري لم يذكره في الضعفاء، وإنما روى له حديثا -كما قال الحافظ- وبين أن العلة في غيره - فلا شأن له في ضعف الحديث إن كان ضعيفا. وهذه عادة للبخاري في كثير من التراجم. والحديث مضى: 5420، 5421، بإسنادين من طريق محمد بن طلحة. وانظر الحديث التالي لهذا. (2) الحديث: 5431- هذا الحديث ضعيف من وجهين: أولهما: من جهة"سهل بن عامر البجلي"، وهو ضعيف جدا، كما بينا في: 1971، وثانيهما: من جهة إرساله. لأن مرة تابعي. مالك بن مغول -بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو- بن عاصم، البجلي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. طلحة: هو ابن مصرف اليامي، وهو تابعي ثقة باتفاقهم. قال ابن إدريس: "كانوا يسمونه سيد القراء". وهذا الحديث في ذاته صحيح. مضى بثلاثة أسانيد صحاح، من رواية محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود: 5420، 5421، 5430. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 5432- حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن ابن عطاء، عن التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الوسطى صلاة العصر. (1) 5433- حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له، فحبسه المشركون عن صلاة العصر حتى أمسى بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى! (2)   (1) الحديث: 5432- أحمد بن منيع البغوي الأصم الحافظ -شيخ الطبري: ثقة، أخرج له الجماعة. عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق. وثقه ابن معين وغيره. ووقع في المطبوعة هنا: "عبد الوهاب عن ابن عطاء"! جعله راويين. وهو خطأ لا شك فيه. التيمي: هو سليمان بن طرخان. وهذا الحديث مضى موقوفا من كلام أبي هريرة: 5387، 5388، 5390. وهو هنا مرفوع بإسناد صحيح. والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة. ورواه البيهقي 1: 460، من طريق محمد بن عبيد الله بن المنادي: "حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سليمان التيمي. . . ". ونقله ابن كثير 1: 579، عن هذا الموضع من الطبري. وذكره الحافظ في الفتح 8: 145، ونسبه للطبري. وذكره السيوطي 1: 304، ونسبه للطبري والبيهقي. (2) الحديث: 5433- علي بن مسلم الطوسي -شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 4170. عباد بن العوام -بتشديد الباء والواو فيهما- الواسطي. ثقة، من شيوخ أحمد. هلال بن خباب -بالخاء المعجمة وتشديد الباء- العبدي: ثقة مأمون. من شيوخ الثوري وأبي عوانة بينا في شرح المسند: 2303 أنه لم يختلط ولم يتغير، خلافا لمن قال ذلك. والحديث رواه أحمد في المسند: 2745، عن عبد الصمد، وهو ابن عبد الوارث، عن ثابت، وهو ابن يزيد الأحول، عن هلال، وهو ابن خباب، به. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق أبي عوانة، عن هلال بن خباب، به. نحوه. ثم رواه من طريق عباد، عن هلال. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309. وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير، والأوسط، ورجاله موثقون". وذكره السيوطي 1: 303-304، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، فقط. وسيأتي عقب هذا: 5434، 5435، بنحوه، من رواية مقسم، عن ابن عباس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 5434- حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا إسحاق، عن عبد الواحد الموصلي قال، حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! (1) 5435- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا خالد، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: شغل الأحزاب   (1) الحديث: 5434- موسى بن سهل الرملي -شيخ الطبري: صدوق ثقة، كما قال ابن أبي حاتم 4 /1 /146. ومضت رواية أخرى للطبري عنه: 878. إسحاق بن عبد الواحد الموصلي القرشي: ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، وفي التهذيب أن أبا علي النيسابوري الحافظ قال فيه: "متروك الحديث" -فيما نقل ابن الجوزي. وجزم الذهبي في الميزان- دون دليل - بأنه واه. وفي التهذيب أن الخطيب روى خبرا باطلا، من طريق عبد الرحمن بن أحمد الموصلي، عن إسحاق -هذا- عن مالك، وقال الخطيب: "الحمل فيه على عبد الرحمن، وإسحاق بن عبد الواحد لا بأس به". وترجمه ابن أبي حاتم 1 /1 /229، فلم يذكر فيه جرحا. وهذا دليل على توثيقه إياه. ثم إن إسحاق لم ينفرد برواية هذا الحديث، فسيأتي -عقبه- من رواية عمرو بن عون، عن خالد. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "إسحاق، عن عبد الواحد الموصلي"، وهو خطأ. خالد بن عبد الله: هو الطحان، مضت ترجمته في: 4433. ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد بينا فيما مضى في الحديث: 32 أنه صدوق سيئ الحفظ، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد سبق قبله بإسناد آخر صحيح عن ابن عباس. الحكم: هو ابن عتيبة، مضى في: 3297. مقسم: هو ابن بجرة، مضى في: 4086. وفي التهذيب عن أحمد -في ترجمة الحكم- أن الحكم لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث، عينها. وليس هذا منها، فعلى هذا فهو منقطع. والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8: 146، ونسبه لابن المنذر فقط. وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته للطبراني في الكبير، ولكنه جعله"من طريق مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس". فلعل رواية سعيد بن جبير تكون عند الطبراني. ثم وجدت رواية سعيد بن جبير عند الطحاوي، فرواه في معاني الآثار 1: 103، من طريق محمد ابن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن ابن أبي ليلى -وهو محمد والد عمران- عن الحكم، عن مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذا إسناد جيد متصل. محمد بن عمران بن أبي ليلى، وأبوه: ثقتان. والحكم بن عتيبة: لم يختلف في سماعه من سعيد بن جبير، بل روايته عنه ثابتة في الصحيحين في غير هذا الحديث، كما في كتاب رجال الصحيحين، ص 100. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو أجوافهم نارا. (1) 5436- حدثني المثنى قال، حدثنا سليمان بن أحمد الحرشي الواسطي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني صدقة بن خالد قال، حدثني خالد بن دهقان، عن جابر بن سيلان، عن كهيل بن حرملة قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فقال: أنا أعلم لكم ذلك. فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه، ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر. (2)   (1) الحديث: 5435- عمرو بن عون بن أوس الواسطي الحافظ: ثقة، أخرج له الجماعة. والحديث مكرر ما قبله. (2) الحديث: 5436- سليمان بن أحمد الجرشي الشامي، نزيل واسط: ضعيف، بل رماه بعضهم بالكذب، ولكنه لم ينفرد بهذا الحديث، كما سيجيء. وهو مترجم في الكبير 2 /2 /4. وقال: "فيه نظر". وعند ابن أبي حاتم 2 /1 /101، وتاريخ بغداد 9: 49-50، ولسان الميزان 3: 72. صدقة بن خالد الأموي الدمشقي: ثقة. وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم. وأخرج له البخاري في صحيحه. خالد بن دهقان الدمشقي: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /135، وقال: "سمع خالد سبلان، روى عنه صدقة بن خالد، ومحمد بن شعيب". وبذلك ترجمه أيضًا ابن أبي حاتم 1 /2 /329. خالد سبلان: هو خالد بن عبد الله بن الفرج، أبو هاشم مولى بني عبس. وهو ثقة، وثقه أبو مسهر، كما نقل ابن عساكر، وترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /141، قال: "خالد سبلان. عن كهيل بن حرملة الشامي. روى عنه خالد بن دهقان، وسمع منه سعيد بن عبد العزيز". ونحو ذلك عند ابن أبي حاتم 1 /2 /363، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق (5: 67 من تهذيبه للشيخ عبد القادر بدران) ، وزاد أنه سمع معاوية وعمرو بن العاص. "سبلان": بفتح السين المهملة والباء الموحدة وتخفيف اللام، كما ضبطه ابن ماكولا، فيما نقل عنه ابن عساكر، وكما في المشتبه للذهبي، ص: 256. وهو لقب لخالد هذا، لقب به لعظم لحيته. والبخاري وابن أبي حاتم لم يذكرا نسب خالد هذا، بل ترجمه البخاري في"باب السين" فيمن اسمه"خالد". وابن أبي حاتم ترجمه في باب"خالد" الذين لا ينسبون". وإنما ذكر نسبه -الذي ذكرنا- ابن عساكر، وابن ماكولا في الإكمال، كما نقل عنه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش التاريخ الكبير وابن أبي حاتم. وذكره الذهبي في المشتبه باسم"خالد بن عبد الله". وذكر الحافظ في التهذيب 3: 87، في شيوخ"خالد بن دهقان"، باسم"خالد بن عبد الله سبلان". فيكون"سبلان" لقب خالد، كما بينا. ووقع اسمه في المطبوعة هنا محرفا جدا: "جابر بن سيلان"!! وشتان هذا وذاك والراجح -عندي- أن هذا تحريف من الناسخين، لم يجدوا في التهذيب أو أحد فروعه. اسم"خالد سبلان"، ثم وجدوا ترجمة"جابر بن سيلان" (التهذيب 2: 40) فظنوه هو، وغيروه إلى ذلك. أو شيئا نحو هذا. وثبت اسمه على الصواب في ابن كثير، إذ نقله عن هذا الموضع من الطبري، ولكن زيد فيه"بن" بين الاسم واللقب. والظاهر أنه من تصرف الناسخين. كهيل بن حرملة النميري: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 4 /1 /238، وقال: "سمع أبا هريرة. روى عنه خالد سبلان". ونحو ذلك في ابن أبي حاتم 3 /2 /173، ولم يذكرا فيه جرحا. وذكره ابن حبان في الثقات، ص: 318. والحديث رواه ابن حبان في الثقات -في ترجمة كهيل- من طريق أبي مسهر، وهو عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي الثقة الثبت، عن صدقة بن خالد، بهذا الإسناد. وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق أبي مسهر. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 638، من طريق العباس بن الوليد بن مزيد، وهو ثقة من شيوخ الطبري، مضت ترجمته: 891، عن محمد بن شعيب بن شابور، وهو أحد الثقات الكبار - عن خالد سبلان، بهذا الإسناد. ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، بإسناده إلى خالد سبلان - في ترجمته، ولكن مختصره الشيخ عبد القادر بدران حذف الإسناد إليه. ونقله ابن كثير 1: 579، عن هذا الموضع. ثم قال: "غريب من هذا الوجه جدا". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، والبزار، وقال: لا نعلم روى أبو هاشم بن عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث وحديثا آخر. قلت [القائل الهيثمي] : ورجاله موثقون". ونقله الحافظ في الفتح 8: 145 - 146، ولم ينسبه لغير الطبري. ونقله السيوطي 1: 304، ونسبه لابن سعد، والبزار، وابن جرير، والطبراني، والبغوي في معجمه. ووهم الحافظ في الإصابة جدا، في ترجمة"أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس" راوي هذا الحديث 7: 197 - 198، ونسبه لأبي داود، والترمذي، والنسائي، والبغوي، والحاكم أبي أحمد!! أما كتابا البغوي والحاكم أبي أحمد، فليسا عندي، ولا أستطيع أن أقول في نقله عنهما شيئا. وأما السنن الثلاث، فأستطيع أن أجزم بأنه ليس في واحد منها، على اليقين من ذلك. ولذلك لم ينسبه الحافظ نفسه إليها في الفتح. ولذلك ذكره صاحب مجمع الزوائد، وهو الزوائد على الكتب الستة. ولذلك لم يذكره النابلسي في ذخائر المواريث في ترجمة"أبي هاشم بن عتبة". وقد نبهت إلى هذا الوهم، في شرحي للترمذي 1: 341 - 342. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 5437- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي، وحدثنا ابن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد = قالا جميعا، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة العبدي، عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية:"حافظوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 على الصلوات وصلاة العصر"، قال: فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن نقرأها. ثم إن الله نسخها فأنزل:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، قال: فقال رجل كان مع شقيق: فهي صلاة العصر! قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، والله أعلم. (1) 5438- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر ومحمد بن عبد الله الأنصاري= قالا جميعا، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، وحدثنا! بو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل، عن سعيد= عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (2) 5439- حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن عن سمرة قال: أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي العصر. (3)   (1) الحديث: 5437- الحسين بن علي الصدائي -شيخ الطبري- وأبوه، مضيا في 2093. ابن إسحاق الأهوازي - شيخ الطبري بعد تحويل الإسناد: هو أحمد بن إسحاق بن عيسى، مضى في: 1841. أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. فضل بن مرزوق الأغر الكوفي: ثقة، وثقه الثوري، وابن معين، وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا"فضيل بن مسروق"! وهو خطأ من الناسخين. شقيق بن عقبة العبدي الكوفي: تابعي ثقة. وثقه أبو داود، وابن حبان. والحديث رواه مسلم في صحيحه 1: 75، عن إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم، عن فضيل بن مرزوق، به. ثم قال: "ورواه الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب". فوهم صاحب التهذيب، في ترجمة"شقيق بن عقبة" 4: 363، فقال: "له في مسلم حديث واحد في الصلاة الوسطى، قال: وهو معلق. . . "، ثم ذكر كلام مسلم. وغفل عن أنه رواه متصلا قبل هذا التعليق مباشرة. ورواه ابن حزم في المحلى 4: 258، من طريق مسلم. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن فضيل بن مرزوق، به. ولكن وقع في نسخة الطحاوي: "محمد بن فضيل بن مرزوق"! وهو خطأ يقينا. ثم ليس في الرواة من يسمى بهذا. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 281، من طريق يحيى بن جعفر بن الزبرقان، عن أبي أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي! وعليهما في ذلك استدراك، أنه رواه مسلم، كما ذكرنا. ورواه البيهقي 1: 459، عن الحاكم، بإسناده. ووقع في المستدرك المطبوع بياض في"أبو أحمد الزبيري". صححناه من البيهقي. ثم ذكر البيهقي أنه رواه مسلم، ثم ذكر إشارة مسلم إلى الرواية المعلقة، رواية الأشجعي عن سفيان الثوري. ثم رواه البيهقي من طريق الأشجعي، بإسناده متصلا. والحديث ذكره أيضًا الحافظ في الفتح 1: 147، عن صحيح مسلم. وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه. ولكنه لم ينسبه للحاكم. وذكره ابن كثير 1: 582، عن صحيح مسلم. ثم قال: "فعلى هذا تكون هذه التلاوة، وهي تلاوة الجادة - ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها، إن كانت الواو دالة على المغايرة. وإلا فلفظها فقط" وهذا فقه دقيق وبديع. وقوله في متن الحديث: "فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" - هذا هو الصواب الموافق لسياق القول: "فقرأناها"، والموافق لسائر الروايات. ورسمت في المطبوعة"فقرأتها". وهو غير جيد. ولعلها رسمت الأصول المنقول عنها على الكتبة القديمة بدون ألف ولا نقط "فقراتها" -فظنها الناسخ تاء المتكلم، إذ لم يجد بعدها ألفا. فأثبتها بالتاء على ظنه ومعرفته. (2) الحديث: 5438- رواه الطبري عن ثلاثة من شيوخه: حميد بن مسعدة، ومحمد بن بشار، وأبي كريب محمد بن العلاء. فحميد رواه له عن شيخ واحد، وابن بشار عن شيخين، وأبو كريب عن ثلاثة شيوخ. وهؤلاء الستة: يزيد بن زريع، ومحمد بن بكر، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وعبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر، وعبد الله بن إسماعيل - رووه جميعا عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة. يزيد بن زريع: مضت ترجمته في: 1769. محمد بن بكر بن عثمان البرساني - بضم الباء وسكون الراء: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو داود، وغيرهما. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري: ثقة من شيوخ أحمد، وابن المديني، والبخاري أخرج له الجماعة. عبدة بن سليمان الكلابي: مضت ترجمته في: 2323. محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي: مضى في: 4222. عبد الله بن إسماعيل: كوفي، زعم أبو حاتم - فيما رواه عنه ابنه 2 /2 /3: أنه مجهول، وجزم الحافظ المزي في الأطراف بأنه"عبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد"، كما نقل عنه الحافظ ابن حجر في التهذيب. والحديث مضى: 5417، من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة. وخرجناه هناك من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وهي هذه الطريق. (3) الحديث: 5439- عصام بن رواد بن الجراح، وأبوه: مضيا في: 2183. سعيد بن بشير الأزدي: مضى في: 126 أنه صدوق يتكلمون في حفظه، ولكن كان سفيان بن عيينة يصفه بأنه"كان حافظا". والظاهر أن الكلام فيه عن غير تثبت، فإنهم أنكروا كثرة ما روى عن قتادة. فروى ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: "قلت لأحمد بن صالح: سعيد بن بشير دمشقي شامي، كيف هذه الكثرة عن قتادة؟ قال: كان أبوه بشير شريكا لأبي عروبة، فأقدم بشير ابنه سعيدا بالبصرة يطلب الحديث مع سعيد بن أبي عروبة". فهذا هذا. فالإسناد إذن صحيح كالإسناد قبله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 5440- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس= قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عدي. (1)   (1) الحديث: 5440- هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وسليمان: هو الأعمش. وهذا الحديث -عن أم حبيبة- لم أجده في مصدر آخر، غير هذا الموضع من الطبري، بل لم أجد إشارة إليه قط، إلا فيما نقل ابن كثير 1: 578، عن الحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، أنه ذكر"أم حبيبة" فيمن حكي عنهم القول بأن الصلاة الوسطى هي العصر. وهذه إشارة أرجح أنها إشارة لهذا الحديث، دون تصريح. وشتير بن شكل: تابعي قديم، كما قلنا في: 5424. ولكن التهذيب، حين ذكر الصحابة الذين روى عنهم (4: 311) . قال: "وأم حبيبة، إن كان محفوظا"؛ فجهدت أن أعرف إلى أي حديث يشير؟ إلى هذا الحديث أم غيره؟ فوجدت أحمد قد روى في المسند: 6: 325 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم". وهذا إسناد كالشمس صحة. ولكن رواه مسلم 1: 305، وابن ماجه: 1685، عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم -وهو أبو الضحى- عن شتير بن شكل، عن حفصة. ثم رواه مسلم -أعني حديث القبلة للصائم- من طريق أبي عوانة وجرير، كلاهما عن منصور، كذلك، أي من حديث حفصة. ففهمت أن الإشارة بالتعليل"إن كان محفوظا"، هي لحديث القبلة للصائم، وأنهم رجحوا رواية ثلاثة: أبي معاوية عن الأعمش، وأبي عوانة وجرير عن منصور -في روايتهم ذاك الحديث من حديث حفصة- على رواية شعبة، في روايته إياه من حديث أم حبيبة! وهذا ترجيح تحكم، لا دليل عليه. وشتير بن شكل: سمع عليا، وابن مسعود، وحفصة. وهم أقدم موتا من أم حبيبة. والمعاصرة -مع ثقة الراوي، وبراءته من تهمة التدليس- كافية في الحكم بوصل الحديث. ورواية التابعي حديثا عن صحابي، لا تنفي أبدا روايته إياه عن صحابي آخر، بل إن كلا من الروايتين تؤيد الأخرى، إلا أن يقوم دليل قوي على الخطأ في إحدى الروايتين. ورواية شتير عن أم حبيبة -إن فرض وجود شبهة فيها في حديث القبلة للصائم- فإن روايته عنها هنا -في حديث الصلاة الوسطى- ترفع كل شبهة، وتدل على أن روايته عنها محفوظة. ثم إن رواية ذاك الحديث، رواها محمد بن جعفر عن شعبة، ورواية هذا الحديث رواها محمد بن أبي عدي عن شعبة، وكلاهما لا يدفع عن الحفظ والإتقان والتثبت والمعرفة. وذاك من رواية شعبة عن منصور عن أبي الضحى، وهذا من روايته عن الأعمش عن أبي الضحى. وقد استوثق الطبري -رحمه الله- من رواية هذا الحديث هنا، خشية أن يظن به الخطأ أو بشيخه، فحكى كلمة شيخه"ابن المثنى"، وهو: محمد بن المثنى أبو موسى الزمن الحافظ، إذ استوثق هو أيضًا مما قاله شيخه"ابن أبي عدي"، وهو: محمد بن إبراهيم بن أبي عدي - فقال: "قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عدي". وهذا احتياط دقيق، قصد به إلى رفع شبهة الخطأ أو التعليل، عن رواية شعبة هذه. وشعبة بن الحجاج: أمير المؤمنين في الحديث، كما قال الثوري. والذي"كان أمة وحده في هذا الشأن"، كما قال أحمد -لا يدفع عن رواية يرويها، ولا يحكم عليه بالخطأ فيها، إلا أن يستبين ذلك عن دلائل قاطعة، أو كالقاطعة. ولا يكفي في تعليل روايته حديثي أم حبيبة- في قبلة الصائم والصلاة الوسطى - كلمة عابرة: "إن كان محفوظا"!! وشعبة الحافظ الحجة الثقة المأمون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 5441- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، وهي العصر (1) 5442- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن سالم مولى أبي نصير قال، حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال: يا فلان، اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير أسأله عن الصلاة الوسطى، فأخذ إصبعي الصغيرة فقال: هذه الفجر- وقبض التي تليها. وقال: هذه الظهر- ثم قبض الإبهام فقال: هذه المغرب- ثم قبض التي تليها ثم قال: هذه العشاء- ثم قال: أي أصابعك بقيت؟ فقلت: الوسطى: فقال: أي صلاة بقيت؟ قلت: العصر. قال: هي العصر. (2)   (1) الحديث: 5441- هذا الحديث مرسل. ولكن معناه صحيح، بما مضى من أحاديث صحاح. (2) الحديث: 5442- هذا إسناد مجهول - عندي على الأقل؟ فلست أدري من"عبد السلام" شيخ أبي أحمد؟ وفي هذا الاسم كثرة. سالم مولى أبي نصير: هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وفي ابن كثير 1: 579 - نقلا عن هذا الموضع: "مسلم مولى أبي جبير"! ولم أجد هذا ولا ذاك. بل لم أجده أيضًا في ترجمة"سلم"، لاحتمال التصحيف، بزيادة ميم في أوله، أو زيادة ألف بعد السين. إبراهيم بن يزيد الدمشقي: مترجم في التهذيب، وأنه كان من حرس عمر بن عبد العزيز، وترجمه البخاري في الكبير 1 /1 /335. وابن أبي حاتم 1 /1 /145، وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق، ونسبه: "النصري من أهل دمشق". (مختصر تاريخ ابن عساكر 2: 310) . وذكره ابن حبان في الثقات، كما في التهذيب. ولو عرفنا مخرج هذا الحديث، وعرفنا الروايتين"عبد السلام" وشيخه، وكانا مقبولين -لكان الحديث جيدا: حسنا أو صحيحا، لأن الرجل الجالس عند عبد العزيز بن مروان، الذي حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكون صحابيا، إذ يخبر أنه أرسله أبو بكر وعمر لسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما لا يرسلان لمثل هذا السؤال -إن شاء الله- إلا غلاما فاهما مميزا. ويظهر لي أن الحافظ ابن كثير خفي عليه مخرجه، فوصفه بعد نقله عن الطبري، بأنه"غريب جدا". ونقله أيضًا السيوطي 1: 304، ولم يقل فيه شيئا، إلا نسبته للطبري. وكذلك نقله الحافظ ابن حجر في الفتح 1: 146، عن الطبري - مختصرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 5443- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أن المشركين شغلوهم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس! ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا! 5444- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن أبي سلمة قال، حدثنا صدقة، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب: اللهم املأ بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس. (1)   (1) الحديث: 5444- ابن البرقي: هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، مضى في: 22، 160. عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي: ثقة، من شيوخ الشافعي. وله رواية بالموطأ عن مالك. ووقع في المطبوعة هنا: "عمرو عن أبي سلمة"! وهو خطأ بين، من ناسخ أو طابع. صدقة: هو ابن عبد الله السمين الدمشقي. وهو ضعيف جدا، كما قال أحمد. وقال مسلم: "منكر الحديث". وضعفه البخاري، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم. سعيد: هو ابن أبي عروبة. والحديث -وإن كان إسناده هذا ضعيفا- فقد مضى بإسناد صحيح: 5429، من رواية يزيد بن زريع، عن ابن أبي عروبة، به. وخرجناه هناك. ومضى أيضًا: 5422، بإسناد آخر صحيح، من رواية شعبة، عن قتادة. ومضى معناه من أوجه كثيرة عن علي، أشرنا إليها في: 5380. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 5445- حدثني محمد بن عوف الطائي قال، حدثني محمد بن إسماعيل بن عياش قال، حدثنا أبي قال، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة الوسطى صلاة العصر". (1) * * * وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة الظهر. * ذكر من قال ذلك: 5446- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال،   (1) الحديث: 5445- محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي -شيخ الطبري، حافظ ثقة، معروف بالتقدم والمعرفة. وهو من الرواة عن أحمد بن حنبل، له عنه مسائل. ومع ذلك فإن أحمد سمع منه حديثا، كما في تذكرة الحفاظ، في ترجمته 2: 144 - 145، وهو مترجم أيضًا في التهذيب. مات سنة 272. محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي: ضعيف. قال أبو داود: "لم يكن بذاك، قد رأيته، ودخلت حمص غير مرة وهو حي، وسألت عمرو بن عثمان عنه فذمه". والظاهر أنهم ضعفوه لروايته عن أبيه دون سماع، قال أبو حاتم: "لم يسمع من أبيه شيئا، حملوه على أن يحدث فحدث"! ومثل هذا جريء على الحديث، لا يوثق بروايته. أبوه إسماعيل بن عياش الحمصي: ثقة، تكلم فيه بعضهم من أجل خطئه في بعض ما يروي عن غير الشاميين، أما أحاديثه عن أهل الشأم فمقبولة. ضمضم بن زرعة بن ثوب -بضم الثاء المثلثة وفتح الواو وآخره باء موحدة- الحضرمي الحمصي: ثقة، وثقه ابن معين، وضعفه أبو حاتم، وترجمه البخاري في الكبير 2 /2 /339، فلم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات. شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي الحمصي: تابعي ثقة. والحديث نقله ابن كثير 1: 579، عن هذا الموضع. ثم قال: "إسناده لا بأس به". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد -ضمن حديث-وقال: "رواه الطبراني، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف". وذكره السيوطي 1: 304، ونسبه للطبري والطبراني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (1) 5447- حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد، يعني ابن ثابت- مثله. (2) 5448- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن زيد بن   (1) الخبر: 5446- إسناده صحيح. وهو موقوف من كلام زيد بن ثابت. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، عن ابن مرزوق، عن عفان، بهذا الإسناد. ورواه البيهقي 1: 459، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن عفان، به. ورواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد بن ثابت. فسقط من إسناده"ابن عمر" بين ابن المسيب وزيد. فإما أنه رواه هكذا، وإما أنه خطأ من الناسخين؟ وسيأتي هذا المعنى من أوجه مختلفة، عن زيد بن ثابت: 5447، 5448، 5449، 5450، 5452، 5453، 5454، 5458، 5459، 5460. (2) الخبر: 5447- محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي - بضم الميم وفتح الخاء وكسر الراء المشددة: ثقة حافظ حجة. مضى في: 3730. مترجم في تاريخ بغداد 5: 423-425، وتذكرة الحفاظ 2: 92-93. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة"المخزومي". وهو خطأ. أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو. والخبر مكرر ما قبله. وإسناده صحيح أيضًا. وقد ذكره ابن كثير 1: 577، مع الذي قبله، دون نسبة. وذكرهما السيوطي، وزاد نسبتهما لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف. ثم قال السيوطي: "وأخرج مالك، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جررير، وابن المنذر، من طرق، عن زيد بن ثابت، قال: "الصلاة الوسطى صلاة الظهر". وهذا يصلح إشارة إلى كثير من الروايات الآتية عن زيد بن ثابت. ورواية مالك، هي في الموطأ ص: 139، عن داود بن الحصين، عن ابن يربوع المخزومي، سمع زيد بن ثابت. ورواية عبد الرزاق، هي في المصنف 1: 182، عن مالك، به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 ثابت قال: الصلاة الوسطى الظهر. (1) 5449- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة= قال، أخبرني عمر بن سليمان -من ولد عمر بن الخطاب- قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، يحدث عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى هي الظهر. (2) 5450- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عمر بن سليمان= هكذا قال أبو زائدة=، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت في حديثه، رفعه -: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (3)   (1) الخبر: 5448- حفص: هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب. وهو تابعي ثقة مجمع عليه. والخبر مكرر ما قبله. وإسناده صحيح كذلك. (2) الخبر: 5449- إسناده صحيح. عمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب: ثقة، وثقه ابن معين، والنسائي، وغيرهما. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1 /112، وروي عن ابن معين أنه وصفه بأنه"صاحب حديث زيد بن ثابت"، وفي التهذيب أنه"قيل في اسمه: عمرو". وهو ثابت باسم"عمرو" في رواية الدارمي والطحاوي، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله. عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان: ثقة عابد، قليل الحديث، وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات. أبوه أبان بن عثمان: ثقة من كبار التابعين. وعده يحيى القطان في فقهاء المدينة. وهذا الخبر موقوف أيضًا على زيد بن ثابت، كالأخبار الثلاثة قبله. وذكره ابن كثير 1: 577، قال: "وقال أبو داود الطيالسي، وغيره، عن شعبة. . . "، فساقه بهذا الإسناد. وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، من طريق حجاج بن محمد، عن شعبة، عن"عمرو بن سليمان"، به فسمى شيخ شعبة في هذه الرواية"عمرا". وسيأتي عقب هذا روايته مرفوعا. وهو -عندي- وهم ممن فهم أنه مرفوع. (3) الحديث: 5450- إسناده صحيح، إلا أن في رفعه علة، سنذكرها إن شاء الله. زكريا بن يحيى: مضت ترجمته في: 1219. عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث العنبري. "عمر بن سليمان": مضت ترجمته في الخبر الذي قبل هذا. وهكذا ثبت في المطبوعة! فلا يكون هناك معنى لقول الطبري: "هكذا قال أبو زائدة" - يعني شيخه زكريا بن يحيى، إذ لا اختلاف في اسمه بين هذه الرواية وتلك. ووقع في المخطوطة: "عمر بن سلمان". فتكون المغايرة بين الروايتين واقعة. ولكني أرجح أن كليهما خطأ، إذ لم يذكر قول في اسمه أنه"عمر بن سلمان". والراجح -عندي- أن الصواب في هذا الإسناد"عمرو بن سليمان". وهو القول الثاني في اسمه عند بعض الرواة، كما ذكرنا. وقوله في هذه الرواية: "في حديثه رفعه" -يعني أن رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل لفظ"الصلاة الوسطى صلاة العصر"- من كلامه صلى الله عليه وسلم. وكذلك نقل السيوطي 1: 302، "وأخرج ابن جرير في تهذيبه، من طريق عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، في حديث يرفعه. . . ". ولعله لم يره في تفسير الطبري، فنقله عن كتابه"التهذيب". ولفظ السيوطي الذي نقله: "في حديث" -أجود من اللفظ الثابت هنا: "في حديثه". بل الظاهر أن هذه محرفة من الناسخين. وعندي أن ادعاء رفع الحديث وهم ممن قاله: اختصر حديثا مطولا، فأوهم وظن أن كلمة في آخره مرفوعة. وهي واضحة في أصل الحديث أنها موقوفة. فقد رواه أحمد في المسند 5: 183 (حلبي) -مطولا- عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، بهذا الإسناد إلى أبان بن عثمان: "أن زيد بن ثابت خرج من عند مروان نحوا من نصف النهار، فقلنا: ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه، فقمت إليه فسألته، فقال: أجل، سألنا عن أشياء، سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه. . . " فذكر حديثا مطولا مرفوعا، ثم قال في آخره: "وسألنا عن الصلاة الوسطى، وهي الظهر". فهذا ظاهر واضح أن مروان سأل زيدا عن الصلاة الوسطى فأجابه، لم يذكره في الحديث المرفوع، ولا وصله به. ورواه الدارمي 1: 75، عن عصمة بن الفضل، عن حرمى -بفتح الحاء والراء- بن عمارة، عن شعبة، عن عمرو بن سليمان، بهذا الإسناد، نحو رواية المسند، مطولا. وفي آخره بعد سياق الحديث المرفوع: "قال: وسألته عن صلاة الوسطى، فقال: هي الظهر". فسمى شيخ شعبة في هذه الطريق"عمرا". والظاهر من سياق هذه الرواية أن أبان بن عثمان هو الذي سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى. والأمر في هذا قريب. أما الأمر البعيد، والذي لا يدل عليه سياق الكلام في الروايتين: رواية أحمد، ورواية الدارمي -فهو الزعم بأن"الصلاة الوسطى" مرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو وهم -كما قلنا- ممن اختصر الحديث، فأخذ آخره دون أن يتأمل سياق القول ومعناه. والقسم المرفوع المطول من هذا الحديث -رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 66 بتحقيقنا، من طريق يحيى بن سعيد -شيخ أحمد فيه- وطوى أيضًا الكلمة الموقوفة. وقد خرجناه هناك. ويؤيد ما قلنا: أن زيد بن ثابت إنما قال هذا استنباطا، كما سيأتي: 5459، 5460. ولو كان هذا عنده مرفوعا لما جاوزه إلى الاستنباط، إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 5451- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد: أن سعيد بن المسيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 حدثه أنه كان قاعدا هو وعروة بن الزبير وإبراهيم بن طلحة، فقال سعيد بن المسيب: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الصلاة الوسطى هي الظهر. فمر علينا عبد الله بن عمر، فقال عروة: أرسلوا إلى ابن عمر فاسألوه. فأرسلوا إليه غلاما فسأله، ثم جاءنا الرسول فقال: يقول: هي صلاة الظهر. فشككنا في قول الغلام، فقمنا جميعا فذهبنا إلى ابن عمر، فسألناه فقال: هي صلاة الظهر. (1) 5452- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب قال، حدثني رجل من الأنصار، عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: هي الظهر. (2) 5453- حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن أبي ذئب= وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا ابن أبي ذئب=، عن   (1) الخبر: 5451- عبد الله بن يزيد: هو المقرئ. مضت ترجمته في: 3180. زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام التيمي: تابعي ثقة، قال ابن أبي حاتم 1 /2 / 615"أدرك ابن عمر، ولا أدري سمع منه أم لا؟ " وتعقبه الحافظ في التهذيب، بالجزم بأنه سمع منه، وأن في البخاري ما يدل على ذلك. إبراهيم بن طلحة: لم أتبين من هو؟ وليس له رواية في الخبر، ولا شأن في الإسناد، إنما كان أحد حاضري المجلس. والخبر رواه البيهقي 1: 458-459، من طريق محمد بن سنان البصري، عن عبد الله بن يزيد، به. وسيأتي: 5457، من طريق نافع، عن زهرة بن معبد، بنحوه. وذكره السيوطي 1: 302، ونسبه للبيهقي، وابن عساكر فقط. وهذا الخبر على صحة إسناده - فيه أن أبا سعيد الخدري وعبد الله بن عمر يريان أن الصلاة الوسطى هي الظهر. وقد مضى عن أبي سعيد بإسناد صحيح أيضًا: 5392، أنها العصر. وكذلك مضى عن ابن عمر بإسنادين صحيحين: 5389، 5391، أنه يرى أنها العصر. وأبو سعيد وابن عمر ممن اختلفت الرواية عنهما في ذلك على القولين. ذلك أنهما لم يرويا فيه حديثا مرفوعا يكون حجة عليهما، إنما اجتهدا واستنبطا ما استطاعا، وانظر ابن كثير 1: 577. (2) الخبر: 5452- العوام -بتشديد الواو- بن حوشب بن يزيد الشيباني: ثقة مجمع عليه. يروي عن كبار التابعين. ولكنه هنا روى عن رجل مجهول، صار به الإسناد ضعيفا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 الزبرقان بن عمرو، عن زيد بن ثابت قال، الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (1) 5454- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن زيد بن ثابت أنه قال: الصلاة الوسطى: هي صلاة الظهر. (2) 5455- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان قال، حدثني عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: أنه سئل عن الصلاة الوسطى قال: هي التي على أثر الضحى. (3) 5456- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد: أن سلمة بن أبي مريم حدثه: أن نفرا من قريش أرسلوا إلى عبد الله بن عمر يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال له: هي التي على أثر صلاة الضحى. فقالوا له: ارجع واسأله، فما زادنا إلا عياء بها!! فمر بهم عبد الرحمن بن أفلح مولى عبد الله بن عمر، فأرسلوا إليه أيضا فقال: هي التي توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة. (4)   (1) الخبر: 5453- هذا الخبر مختصر. وسيأتي مطولا: 5460، من هذا الوجه، من رواية ابن أبي ذئب، عن الزبرقان. (2) الخبر: 5454- الحجاج: هو ابن المنهال. وحماد: يحتمل أن يكون ابن زيد، وأن يكون ابن سلمة. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم. ونافع: هو مولى ابن عمر. وأخشى أن تكون روايته عن زيد بن ثابت مرسلة. فما أظنه أدرك طبقته من الصحابة. وقد نص ابن أبي حاتم على أن روايته عن حفصة وعائشة مرسلة. (3) الخبر: 5455- ابن أبي مريم: هو سعيد بن أبي مريم، وهو سعيد بن الحكم، مضت ترجمته في: 3877. نافع بن يزيد الكلاعي المصري: ثقة مأمون، ثبت في الحديث، لا يختلف فيه. الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان: تابعي ثقة. وقد حققنا ترجمته في شرح المسند: 5721. وهذا الخبر مختصر. وسيأتي عقبه مطولا، عن تابعي آخر، غير عبد الله بن دينار. (4) الخبر: 5456- مسلم بن أبي مريم، واسم أبيه: يسار، السلولي المدني: تابعي ثقة، روى عنه شعبة، ومالك، وابن جريج، والليث، وغيرهم. ووقع في المخطوطة والمطبوعة اسمه"سلمة" بدل"مسلم"، وهو خطأ من الناسخين. وليس في التراجم من يسمى بهذا. والخبر رواه -بنحوه- الطحاوي 1: 99، من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير، عن موسى بن ربيعة، عن الوليد بن أبي الوليد المديني، عن عبد الرحمن بن أفلح: "أن نفرا من أصحابه أرسلوه إلى عبد الله بن عمر. . . "، فذكر معناه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309 مختصرا، بنحوه. قال: "وعن عبد الرحمن بن أفلح: أن نفرا من الصحابة أرسلوني إلى ابن عمر، يسألونه عن الصلاة الوسطى. فقال: كنا نتحدث أنها الصلاة التي وجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، الظهر". وقال: "رواه الطبراني، ورجاله موثقون". ونقله السيوطي بنحوه 1: 301 أكثر اختصارا من هذا، ونسبه للطبراني في الأوسط"بسند رجاله ثقات". فروايتا الطحاوي والطبراني تؤيدان رواية ابن جرير هذه، لأنها عن"عبد الرحمن بن أفلح" الذي أرسله هؤلاء النفر من قريش يسأل ابن عمر. وموسى بن ربيعة المصري: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /142 - 143. وقال: "سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: كان يكون بمصر، وهو ثقة لا بأس به". ولم أجد له ترجمة عند غيره. والوليد بن أبي الوليد، كما سمع الخبر من مسلم بن أبي مريم، سمعه أيضًا من الرسول الذي أرسله النفر من قريش إلى ابن عمر. و"عبد الرحمن بن أفلح": مترجم في ابن أبي حاتم 2 /2 /210: "عبد الرحمن بن أفلح مولى أبي أيوب. وهو أخو كثير بن أفلح. روى عن. . . روى عنه أبو النضر حديث العزلة. سمعت أبي يقول ذلك". وموضع النقط بياض في أصل كتاب ابن أبي حاتم وقال مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني: "في الثقات: عن أم ولد أبي أيوب". وترجمه ابن سعد 5: 220، هكذا: "عبد الرحمن بن أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاري. وهو رضيع الخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري. وسمع من عبد الله بن عمر بن الخطاب". ولم أجد له ترجمة غير ذلك، فهو هو الذي في هذا الخبر. ولعل بعض الرواة وهم في جعله"مولى عبد الله بن عمر". وقوله"إلا عياء بها": يقال"عي بالأمر عيا (بالكسر) وعياء": جهله وأشكل عليه أمره. وفي الحديث: "شفاء العي السؤال". وذكر المصدر الثاني (عياء) في المعيار للشيرازي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 5457- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، حدثني زهرة بن معبد قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه كان قاعدا هو وعروة وإبراهيم بن طلحة، فقال له سعيد: سمعت أبا سعيد يقول: إن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى. فمر علينا ابن عمر، فقال عروة: أرسلوا إليه فاسألوه. فسأله الغلام فقال: هي الظهر. فشككنا في قول الغلام، فقمنا إليه جميعا فسألناه، فقال: هي الظهر. (1)   (1) الخبر: 5457- نافع في هذا الإسناد: هو نافه بن يزيد، الذي ترجمنا له في: 5455. وهذا إسناد صحيح. والخبر مختصر من الخبر الماضي: 5451، من رواية حيوة وابن لهيعة، عن زهرة بن معبد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 5458- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر، عن عبد الرحمن بن قيس، عن ابن أبي رافع، عن أبيه - وكان مولى لحفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت لي: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرأنيها. فلما أتيت على هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، أتيتها فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، فقلت: يا أبا المنذر، إن حفصة قالت كذا وكذا!! قال: هو كما قالت، أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في غنمنا ونواضحنا! (1) * * *   (1) الحديث: 5458- عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق، أخرج له الجماعة. أبو عامر: هو الخزاز -بمعجمات- واسمه: صالح بن رستم، وهو ثقة، وثقه الطيالسي، وأبو داود، وغيرهما. عبد الرحمن بن قيس العتكي، أبو روح البصري: ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما، وترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /277-278 ترجمتين: 1320، 1321، وهما واحد، ولم يذكر فيه جرحا. "ابن أبي نافع عن أبيه": لم أعرف من"ابن أبي رافع" هذا؟ ولم أجد له ترجمة، إلا أنه ذكر في التهذيب هكذا، في ترجمة عبد الرحمن بن قيس العتكي، في شيوخه الذين روى عنهم. ويحتمل جدا أن يكون ابنا لعمرو بن رافع، الذي سيأتي ذكره في شرح: 5463. وفي إسناد: 5464. وهذا الحديث مجهول الإسناد، كما ترى. وسيأتي بهذا الإسناد واللفظ: 5470، إلا حرفا واحدا، سنذكره. وذكره السيوطي 1: 302، بنحوه مختصرا قليلا، قال: "أخرج عبد الرزاق، والبخاري في تاريخه وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف عن أبي رافع مولى حفصة. . . ". فأما ابن جرير، فهذه روايته. وأما البخاري في التاريخ، فلم أعرف موضعه منه. وأما عبد الرزاق وابن أبي داود -فلم أجد عندهما من رواية أبي رافع- على اليقين عندي من ذلك. فلا أدري كيف هذا؟! وهو حديث مرفوع، لقول حفصة: "حتى أملها عليك كما أقرأنيها". وفي الرواية الآتية: "كما أقرئتها"، بالنباء لما لم يسم فاعله. والذي يقرئ حفصة وتأخذ عنه القرآن، هو زوجها المنزل عليه الكتاب، صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي تصريحها بذلك، في: 5462، 5463، 5465. وقولها"أملها": هكذا ثبت في المخطوطة. وفي المطبوعة"أمليها". وكلاهما صحيح، يقال: "أمللت الكتاب، وأمليته". وكلاهما نزل به القرآن: (فليملل وليه بالعدل) . من"أمللت". و: (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) ، من"أمليت". قال الفراء: "أمللت: لغة أهل الحجاز وبني أسد. وأمليت: لغة بني تميم وقيس". قوله: "فلقيت أبي بن كعب، أو زيد بن ثابت، فقلت: يا أبا المنذر" - إلخ: شك الراوي في أيهما لقي، ثم رجح أنه أبي بن كعب، إذ أن كنيته: "أبو المنذر"، وأما زيد فكنيته: "أبو سعيد" ويقال: "أبو خارجة". النواضح: جمع"ناضح"، وهو من الإبل: ما يستقى عليه الماء. ونضح زرعه: سقا بالدلو. يعني: أنهم في شغل بسقي نخيلهم على النواضح من إبلهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 وعلة من قال ذلك، ما: - 5459- حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمرو بن أبي حكيم قال: سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها، قال: فنزلت:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى". وقال:"إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين". (1)   (1) الحديث: 5459- عمرو بن أبي حكيم: هو عمرو بن كردي، أبو سعيد الواسطي، وهو ثقة، وثقه أبو داود، والنسائي، وغيرهما. ورواية شعبة عنه أمارة توثيقه عنده أيضًا. الزبرقان: هو ابن عمرو بن أمية الضمري، بذلك جزم ابن سعد 5: 184، ذكره بعد"جعفر ابن عمرو"، بأنه"لم يفرق البخاري فمن بعده بينهما، إلا ابن حبان، ذكر هذا في ترجمة مفردة عن الذي يوي عنه كليب بن صبح"، ثم أنحى على ابن حبان لما فعل. وهذا عجب من العجب! فإن البخاري أفرد ترجمة"زبرقان، عن عمرو بن أمية، روى عنه كليب. ولكنهما فرقا بينهما، فما أدري ما الذي أنكره احافظ على ابن حبان؟! والزبرقان بن عمرو، هذا: ثقة. والحديث رواه أحمد في المسند 5: 183، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. ورواه أبو داود: 411، عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. ورواه البخاري في الكبير - في ترجمة الزبرقان، عن إسحاق. عن عبد الصمد، عن شعبة، به، موجزا كعادته. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة، به. وكذلك رواه البيهقي 1: 458، من طريق عمرو بن مرزوق. وذكره ابن كثير 1: 577، عن رواية المسنج. ثم أشار إلى رواية أبي داود. وذكره السيوطي 1: 301، وزاد نسبته للروياني، وأبي يعلى، والطبراني. وهذه أسانيد صحاح. وسيأتي عقب هذا، مطولا، غير موصول الإسناد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 5460- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان قال: إن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت فأرسلوا إليه رجلين يسألانه عن الصلاة الوسطى. فقال زيد: هي الظهر. فقام رجلان منهم فأتيا أسامة بن زيد فسألاه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، الناس يكونون في قائلتهم وفي تجارتهم، فقال رسول الله:"لقد هممت أن أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة بيوتهم! قال: فنزلت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى". (1) * * * وكان آخرون يقرءون ذلك:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". * ذكر من كان يقول ذلك كذلك:   (1) الحديث: 5460- هو مطول للحديث قبله، ولكنه هنا منقطع، كما سنذكر. ورواه أحمد في المسند 5: 206 (حلبي) ، عن يزيد - وهو ابن هرون، عن ابن أبي ذئب، به، ولكن في روايته زيادة في أوله: "مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون، فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العص. فقام إليه رجلان منهم فسألاه، فقال: هي الظهر". ففي رواية أحمد أن زيد بن ثابت قال للغلامين: هي العصر. وأنه قال للرجلين اللذين قاما إليه: هي الظهر. وقد حذف من رواية الطبري هنا سؤال الغلامين وجواب زيد بأنها العصر. وهذه الزيادة ثابتة أيضًا في ابن كثير 1: 577، في نقله الحديث من مسند أحمد. ولم أجدها في شيء من مصادر هذا الحديث غير ذلك. ووقع في المسند"حدثنا يزيد بن أبي ذئب، عن الزبرقان"! وهو تخليط من الناسخين، ثبت أيضًا في مخطوطة المسند (م) ! فليس في الرواة من هذا اسمه. والحديث حدي"يزيد بن هرون"، عن"ابن أبي ذئب"، كما دلت عليه رواية الطبري هنا. وزادت نسخة ابن كثير تخليطا إلى تخليط. في النقل عن المسند: "حدثنا يزيد بن أبي وهب، عن الزبرقان"!! ولسنا ندري، أهو من الناسخين أم من المطبعة؟! والحديث رواه أيضًا الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، عن الربيع بن سليمان المرادي، عن خالد بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ذئب، عن الزبرقان. ولكنه مختصر، حذف منه ذكر أسامة بن زيد، وجعل قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير. . . " -إلى آخر الحديث- من كلام زيد بن ثابت، لا من كلام أسامة، ولعل هذا الاختصار سهو من بعض الرواة. فقد أشار البخاري إليه من طريق ابن أبي ذئب، كعادته في الإيجاز، وأثبت أنه عن زيد وأسامة، فذكره في ترجمة الزبرقان 2 /1 /397، قال: "وقال هشام: حدثنا صدقة، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثنا زبرقان الضمري، عن زيد وأسامة- نحوه". يعني نحو حديث قبله سنذكره. ثم قال حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، قال حدثنا زبرقان الضمري- نحوه". ثم قال: "ورواه يحيى بن أبي بكير، عن ابن أبي ذئب نحوه". فرواية أسامة بن زيد ثابتة في هذا الحديث من هذا الوجه، في كل الروايات، فحذفها وهم. وكذلك هي ثابتة في مصادر أخر. فقد ذكره السيوطي كاملا 1: 301، ونسبه لأحمد، وابن منيع والنسائي، وابن جرير، والشاشي، والضياء. وروى الطيالسي، نحوه، مختصرا: 628، عن أبي ذئب، عن الزبرقان، عن زهرة، قال"كنا جلوسا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد، فسألوه عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي: الظهر، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير". وكذلك رواه البيهقي 1: 458، من طريق الطيالسي. وذكره البخاري في الكبير 2 /1 /396-697، عن أبي داود، وهو الطيالسي، به. ونقله ابن كثير 1: 577، من مسند الطيالسي. والحديث المطول الذي هنا منقطع الإسناد كما قلنا. ودل على انقطاعه: الإسناد قبله، الذي فيه رواية الزبرقان عن عروة، ورواية الطيالسي، التي فيها روايته عن زهرة. ولذلك قال ابن كثير -بعد نقله إياه من رواية مسند الإمام أحمد: "والزبرقان: هو ابن عمرو بن أمية الضمري، لم يدرك أحدا من الصحابة. والصحيح ما تقدم من روايته عن زهر بن معبد، وعروة. ابن الزبير". وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 308-309، "رواه أحمد، ورجاله موثقون، إلا أن الزبرقان لم يسمع من أسامة بن زيد بن ثابت". ومما يجدر التنبيه إليه: أن السيوطي نسبه للنسائي -كما ذكرنا- ولكني لم أجده في النسائي. وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه النسائي. وقال الشيخ في الأطاف: ليس في السماع، ولم يذكره أبو القاسم". يريد أن الحافظ المزي قال ذلك، فلعله ثابت في رواية بعض الرواة لسنن النسائي دون بعض. الهاجرة، والهجير: نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر، وهو حينئذ أشد الحر. والقائلة: الظهيرة، نصف النهار. والقيلولة: نومة نصف النهار، قال يقيل. وتسمى القيلولة"القائلة" أيضًا. وهو المراد هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 5461- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم بن عبد الله: أن حفصة أمرت إنسانا فكتب مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فآذني. فلما بلغ آذنها، فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1) 5462- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا، فقالت: إذا بلغت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فلما بلغها، أمرته فكتبها:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا الله قانتين"= قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه"الواو". (2)   (1) الخبر: 5461- أبو بشر: هو جعفر بن أبي وحشية، مضت ترجمت في: 3348. عبد الله بن يزيد الأزدي". ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /2000، فلم يذكر فيه جرحا، ونسبه: "الأزدي أو الأزدي". والخبر رواه ابن أبي داود في المصاحف- ص: 85، عن محمد بن بشار -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد، وفيه بعد قوله: "الأزدي"-: "قال ابن أبي داود: وبعضهم يقول: الأودي". ونقله ابن كثير 1: 581، عن ذا الموضع من الطبري. وقد مضى هذا الخبر مختصرا: 5405، من رواية هشيم، عن أبي بشر، عن سالم، وظهر من هذه الرواية انقطاع ذاك الإسناد، إذ سقط منه"عبد الله بن يزيد" بين أبي بشر وسالم. (2) الحديث: 5462- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت تجمت في: 2039. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم. والحديث رواه ابن أبي داود، ص: 86، عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، وهو القفي، بذا الإسناد. ولفظه في آخره: "قال نافع: فقرأت ذلك في المصحف، فوجدت الواوات"! هكذا ثبت فيه، وأخشى أن يكون من تخليط المستشرق ناشر الكتاب. ورواه البيهقي 1: 462، بنحوه، من طريق عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله، به، وفي آخره: "قال نافع: فرأيت الواو معلقة". قال البيهقي: "وهذا مسند، إلا أن فيه إرسالا من جهة نافع، ثم أكده بما أخبر عن رؤيته". ونقله ابن كثير 1: 581، عن هذا الموضع من الطبري. وقد مضى نحو هذا الحديث: 5406، من رواية حماد بن سلمة، عن عبيد الله. وبينا هناك انقطاعه بين نافع وحفصة، وسيأتي عقب هذا بنحو، من طريق حماد بن سلمة أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 5463- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى آمرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فلما أخبرها قالت: اكتب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1)   (1) الحديث: 5463- هو تكرار للذي قبله، بنحوه، إلا أن في هذا التصريح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل الرواية الماضية: 5406، من طريق حماد بن سلمة أيضًا، وهو منقطع بين نافع وحفصة، كسابقيه. وهذه الروايات الثلاث المنقطعة بين نافع وحفصة: 5406، 5462، 5463- هي في حقيقتها متصلة، إذ عرفنا الواسطة بينهما، وهو"عمرو بن رافع" مولى عمر، أو مولى حفصة بنت عمر. وهو الذي كتب لها المصحف المذكور في هذه الروايات: فروى نحوه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، قال: "حدثني أبو جعفر محمد بن علي، ونافع مولى عبد الله بن عمر، أن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما: أنه كان يكتب المصاحف عى عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قال: استكتبتني حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم مصحفا، وقالت لي: إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني، فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما بلغتها أتيتها بالورقة التي أكتبها، فقالت: اكتب: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 86، من طريق محمد بن إسحاق. بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه البيهقي 1: 462 - 463، بإسناده من طريق ابن إسحاق، إلا أن في روايته"عمر بن رافع" بدل"عمرو"، وكأنه في كلامه يشير إلى أن هذا خطأ من ابن إسحاق. وهو في هذا واهم، فإن روايتي الطحاوي وابن أبي داود من طريق ابن إسحاق - فيما"عمرو" على الصواب. فالخطأ هو ممن دون ابن إسحاق عنده. وإسناد الحديث من هذا الوجه صحيح. أبو جعفر محمد بن علي: هو الباقر، محمد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب، وهو تابعي ثقة مجمع عليه. عمرو بن رافع مولى عمر: تابعي ثقة. ترجمه ابن سعد في الطبقات 5: 220، وابن أبي حاتم 3 /1 /232، ووثقه ابن حبان. وقال السيوطي في رجال الموطأ: "ليست له رواية في الكتب الستة، ولا مسند أحمد". وفي التهذيب أن البخاري ذكره فقال: "قال بعضهم: عمر بن رافع، ولا يصح. وقال بعضهم: أبو رافع". وقال بعضهم أيضًا: "عمرو بن نافع". وهي ثابتة في رواية ابن أبي داود. والراجح الصحيح: "عمرو بن رافع"، لثبوته كذلك في روايات أخر لهذا الحديث مرفوعا وموقوفا، ومنها الروايتان الآتيان عقب هذه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 320"عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب". وقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات". وذكره السيوطي 1: 302، وزاد نسبته لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف. وروى مالك في الموطأ، نحو هذا الحديث، ص: 139، موقوفا على حفصة - عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع. وكذلك رواه الطحاوي 1: 102، وابن أبي داود. ص: 86-87، والبيهقي 1: 162 - كلهم من طريق مالك، به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 5464- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو سلمة، عن عمرو بن رافع مولى عمر قال: كان مكتوبا في مصحف حفصة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". (1) 5465- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبي وشعيب، عن الليث قال، حدثنا خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد، عن عمرو بن رافع قال: دعتني حفصة فكتبت لها مصحفا فقالت: إذا بلغت آية الصلاة فأخبرني. فلما كتبت:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قالت:"وصلاة العصر"، أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)   (1) الخبر: 5464- هذا إسناد صحيح. وهو مختصر مما قبله. وكذلك رواه الطحاوي 1: 102، مختصرا، من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، به. ورواه ابن أبي داود، ص: 87، من طريق يزيد، وهو ابن هارون، عن محمد بن عمرو، مطولا. ورواية ابن أبي داود: "وصلاة العصر"، كرواية الطبري هنا. وأما رواية الطحاوي ففيها: "وهي صلاة العصر". وانظر 5458، 5470. (2) الحديث 5465- خالد بن يزيد الجمحي الإسكندراني المصري. أبو عبد الحيم: ثقة، قال ابن يونس: "كان فقيها مفتيا"، ووثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما. ابن أبي هلال: هو سعيد بن أبي هلال الليثي المصري، مضت ترجمته في: 1495. زيد: هو ابن أسلم العدوي، الفقيه المدني، وهو تابعي ثقة. روى عنه مالك، وابن جرير، والثوري وغيرهم. عمرو بن رافع: مضت ترجمته في شرح: 5463. ووقع هنا في المخطوطة: "عن أبي هلال، عن زيد بن عمر بن رافع". وهو تخليط من الناسخ. والحديث مضى معناه مرارا، وخرجناه مفصلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 5466- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث قال، أخبرني خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة مثل ذلك. 5467- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد، عن زيد بن أسلم: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة، عن عائشة مثل ذلك. (1)   (1) الحديثان: 5466، 5467- أولهما منقطع بين زيد بن أسلم وأبي يونس، ثم هو مرسل، لم تذكر فيه. والثاني منقطع، ولكن فيه"عن عائشة". وهما حديث واحد، وحقيقته أنه متصل صحيح. فرواه مالك في الموطأ، ص: 138-139، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، قال: "أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) . فلما بلغتها آذنتها، فأملت على: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم". ورواه أحمد في المسند 6: 73 (حلبي) ، عن إسحاق، وهو ابن عيسى الطباع، عن مالك، به. ونقله ابن كثير 1: 580، عن رواية أحمد في هذا الموضع. ورواه أحمد أيضًا 6: 178 (حلبي) ، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي، عن مالك. وكذلك رواه مسلم 1: 174-175، وأبو داود: 410، والترمذي 4: 76، والنسائي 1: 82-83، والطحاوي في معاني الآثار 1: 102، وابن أبي داود في المصاحف، ص: 84، والبيهقي 1: 462 - كلهم من طريق مالك. وذكره ابن حزم في المحلى 4: 254، من رواية مالك. وذكره السيوطي 1: 302، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف. ورواه ابن أبي داود أيضًا، ص: 83-84، بنحوه، عن محمد بن إسماعيل الأحمسي، عن جعفر ابن عون، عن هشام، وهو ابن سعد، عن زيد، عن أبي يونس - فذكره كرواية مالك، ولكن ليس قولها أنها سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا أيضًا إسناد صحيح، رواته ثقات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 5468- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قالا أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمير بن مريم، عن ابن عباس:" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1) - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: كان عبيد بن عمير يقرأ:"وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". 5470- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر، عن عبد الرحمن بن قيس، عن ابن أبي رافع، عن أبيه - وكان مولى حفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرئتها. فلما أتيت على هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، أتيتها فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر"، فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت فقلت: يا أبا المنذر،   (1) الخبر: 5468- هبيرة، بضم الهاء وفتح الباء الموحدة، بن يريم، بفتح الياء التحتية في أوله وكسر الراء بعدها تحتية ساكنة: مضت ترجمته: 3001. ووقع اسمه هنا في المخطوطة والمطبوعة"عمير بن مريم". وهو خطأ. ووقع في المحلى -في رواية هذا الخبر- مرتين"عمير بن يريم"، ولم نعرف صوابه حين كتبنا التعليق على المحلى، فذكرنا أقوالا فيما يحتمل من التصويب، كلها تكلف. ثم استبان الصواب من رواية البيهقي هذا الخبر، كما سيأتي. والخبر رواه البيهقي 1: 463، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق -وهو السبيعي- عن هبيرة بن يريم، عن ابن عباس، ولم يذكر لفظه. وذكره ابن حزم في المحلى 4: 254، تعليقا - عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن أبي إسحاق، به، بلفظ: "وصلاة العصر". ثم ذكره 4: 255، تعليقا أيضًا - عن وكيع، عن شعبة، به بلفظ: "صلاة العصر"، وقال: "هكذا بلا واو". ورواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 77، عن محمد بن بشار، عن محمد [وهو ابن جعفر] ، عن شعبة، به، بلفظ: "وصلاة العصر". ووقع في الإسناد أيضًا "عمير بن يريم". وصوابه: "هبيرة"، كما قلنا آنفًا. وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. ووقع أيضًا: "عمير بن مريم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 إن حفصه قالت كذا وكذا. قال: هو كما قالت! أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في نواضحنا وغنمنا؟ (1) * * * وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة المغرب. * ذكر من قال ذلك: 5471- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن إسحاق بن أبي فروة، عن رجل عن قبيصة بن ذؤيب قال: الصلاة الوسطى صلاة المغرب، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها؟ (2) * * * قال أبو جعفر: ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله:"الوسطى" إلى معنى: التوسط الذي يكون صفة للشيء، يكون عدلا بين الأمرين، كالرجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطا طوله ولا قصيرة قامته، ولذلك قال:"ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها". * * * وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى التي عناها الله بقوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، هي صلاة الغداة. * ذكر من قال ذلك: 5472- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال، حدثنا   (1) الحديث: 5470- مضى بهذا الإسناد: 5458، وفصلنا القول فيه هناك. وثبت هنا في المطبوعة، كما ثبت هناك"أمليها" -بدل"أملها". وانظر أيضًا: 5464، 5465. (2) الحديث: 5471- هذا إسناد منهار، لا شيء! عبد السلام: هو ابن حرب، وهو ثقة. مضى في: 1184. إسحاق بن أبي فروة: هو إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني، وهو ضعيف جدا. قال ابن معين: "كذاب". وقال أبو حاتم: "متروك الحديث". وقال البخاري: "تركوه". وقال أيضًا: "نهى أحمد بن حنبل عن حديثه". ثم رواه إسحاق -على ضعفه- عن رجل مبهم فزاده ضعفا، مما جعله"عن قبيصة بن ذؤيب"، مرسلا، فضاعف ضعفه. وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي: تابعي كبير ثقة، من علماء هذه الأمة وفقهائها، ولكن أنى يصل هذا الإسناد إليه؟! وهذا الحديث نقله السيوطي 1: 305، ولم ينسبه لغير الطبري. ونقل ابن كثير 1: 582، والحافظ في الفتح 8: 147 - القول بأنها المغرب، عن قبيصة بن ذؤيب، نقلا عن رواية الطبري وحده! وما كان لهما أن ينسباه إليه مع انهيار إسناده! فالقول لا ينسب لعالم إلا أن يثبت عنه. وهذا لم يثبت عن قبيصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: الصلاة الوسطى صلاة الفجر. (1) 5473- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن أبي رجاء قال: صليت مع ابن عباس الغداه في مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله:   (1) الخبر: 5472- صالح أبو الخليل: هو صالح بن أبي مريم الضبعي، كنيته: أبو الخليل. مضى في: 1899، 3343. ووقع في المطبوعة: "صالح بن الخليل". وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. والخبر رواه الطحاوي 1: 101، عن ابن مرزوق، عن عفان، بهذا الإسناد. ورواه البيهقي 1: 461، من طريق إبراهيم بن مروزق، عن عفان، بهذا الإسناد. وذكره السيوطي 1: 301، ولم ينسبه لغير الطبري والبيهقي. ورواه النسائي 1: 102 في حديث مطول، رواه عن أبي عاصم، عن حبان بن هلال، عن حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: "أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى. وهي صلاة الوسطى". فالحديث مرفوع، إلا بيان أنها صلاة الوسطى، فإنه موقوف على ابن عباس من كلامه، كما هو ظاهر. وهذا إسناد صحيح. حبان بن هلال الباهلي: ثقة. قال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة". و"حبان" في هذا: بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة. حبيب: هو ابن أبي حبيب الأنماطي الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء. وهو ثقة/ لينه بعضهم دون حجة. وذكر البخاري في الكبير 1 /2 /313 في ترجمته، عن حبان، قال"حدثنا حبيب بن أبي حبيب الجرمي، ثقة". ولم يذكر فيه جرحا. عمرو بن هرم الأزدي البصري: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم وغيرهم. جابر بن زيد: هو أبو الشعثاء الأزدي البصري، وهو تابعي ثقة عالم مشهور، مجمع عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 "وقوموا لله قانتين". 5474- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس، فذكر نحوه. 5475- حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال، حدثنا شريك، عن عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الفجر، فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين. 5476- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن أبي رجاء قال: صلى بنا ابن عباس الفجر، فلما فرغ قال: إن الله قال في كتابه:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، فهذه الصلاة الوسطى. 5477- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان، يعني ابن معاوية -، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس نحوه. (1) 5478- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف،   (1) الأخبار: 5473-5477، كلها بمعنى، وكلها من رواية عوف، وهو ابن أبي جميلة الأعرابي، عن أبي رجاء، وهو العطاردي. وعوف بن أبي جميلة: مضى في: 2905. وأبو رجاء العطاردي: هو عمران بن ملحان، وهو تابعي قديم مخضرم، ثقة. أخرج له الجماعة. عمر عمرا طويلا، أزيد من 120سنة. وعباد بن يعقوب الرواجني الأسدي -شيخ الطبري في الإسناد (5475) -: ثقة في الحديث، شيعي في الرأي. روى عنه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وغيرهم. والخبر رواه الطحاوي 1: 101، من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عوف به. ورواه البيهقي 1: 461، من طريق عمرو بن حبيب، عن عوف، به. ونقله ابن كثير 1: 576، عن روايات الطبري هذه. وذكره الحافظ في الفتح 8: 146، عن الطبري. وذكره السيوطي 1: 301، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن الأنباري في المصاحف، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وهو في مصنف عبد الرزاق 1: 83، مختصرا، عن جعفر بن سليمان، وهو الضبعي، عن عوف. والخبر بالإسنادين الأولين: 5473، 5474 سيأتي بهما مجموعين في سياق واحد: 5533. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 عن أبي المنهال، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أنه صلى الغداة في مسجد البصرة، فقنت قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكر الله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين". (1) 5479- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا المهاجر، عن أبي العالية قال: سألت ابن عباس بالبصرة ها هنا، وإن فخذه لعلى فخذي، فقلت: يا أبا فلان، أرأيتك صلاة الوسطى التي ذكر الله في القرآن، ألا تحدثني أي صلاة هي؟ قال: وذلك حين انصرفوا من صلاة الغداة، فقال: أليس قد صليت المغرب والعشاء الآخرة؟ قال قلت: بلى! قال: ثم صليت هذه؟ قال: ثم تصلي الأولى والعصر؟ قال قلت: بلى! قال: فهي هذه. (2) 5480- حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة زمن عمر صلاة الغداة، قال: فقلت لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبي: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذا الصلاة. (3)   (1) الخبر: 5478- هذا إسناد صحيح. عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. أبو المنهال: هو سيار بن سلامة الرياحي البصري. وهو ثقة معروف، أخرج له الجماعة. أبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحي البصري. مضى في: 184، 1783. والخبر نقله ابن كثير 1: 576، عن هذا الموضع. وكذلك نقله السيوطي 1: 301. وأشار الحافظ في الفتح 8: 146، إلى هذا الخبر مع الأخبار الثلاثة بعده - إشارة واحدة. (2) الخبر: 5479- وهذا إسناد صحيح. المهاجر: هو ابن مخلد، أبو مخلد، مولى البكرات. وهو ثقة، لينه بعضهم. وترجمه البخاري في الكبير 4 /1 /381، فلم يذكر فيه جرحا. وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير ولا السيوطي، إنما أشار إليه الحافظ في الفتح مع الذي قبله واللذين بعده، كما قلنا آنفًا. (3) الخبر: 5480- الربيع بن أنس البكري الخراساني: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /248، وابن سعد 7 /2 /102-103، وابن أبي حاتم 1 /2 / 454. عبد الله بن قيس، الذي صلى خلفه أبو العالية: هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. كما بين ذلك في رواية الطحاوي هذا الخبر. وهذا الخبر رواه أبو العالية عن رجل من الصحابة لم يذكر اسمه. وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معروف عند أهل العلم بالحديث. ورواه الطحاوي 1: 101، من طريق أبي داود، عن عبد الله بن المبارك، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير 1: 576، عن هذا الموضع من الطبري. وكذلك ذكره السيوطي 1: 301، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن الأنباري. وإسناده صحيح، وسيأتي بنحوه: 5482 بإسناد ضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 5481- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عوف، عن خلاس بن عمرو، عن ابن عباس: أنه صلى الفجر فقنت قبل الركوع، ورفع إصبعيه وقال: هذه الصلاة الوسطى. (1) 5482- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: أنه صلى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فلما أن فرغوا قال، قلت لهم: أيتهن الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي صليتها قبل. (2) 5483- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن   (1) الخبر: 5481- خلاس بن عمرو: مضى في: 5314. وهذا إسناد صحيح. والخبر ذكره ابن كثير 1: 576، موجزا منسوبا لابن جرير. ولم يذكره السيوطي. (2) الخبر: 5482- هو في معنى الخبر: 5480، ولكن هذا ضعيف الإسناد لإبهام الشيخ الذي روى عنه الطبري. وذكره ابن كثير 1: 576، فقال: "وروى من طريق أخرى عن البيع. . . ". يعني هذه الرواية. ومع هذا فإن مخرج الخبر معروف بإسناد صحيح، غير هذا الذي جهله الطبري. فرواه عبد الرزاق في المصنف 1: 183، "عبد أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: صلينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فلما فرغنا قلت: أي صلاة صلاة الوسطى؟ قال: التي صليت الآن". فلا يضر بعد جهالة شيخ الطبري، لأن عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي -والد ابن أبي جعفر- مباشرة. وأبو جعفر: مضت ترجمته في: 164. ولذلك ذكر السيوطي 1: 301 هذا الخبر، نسبه لعبد الرزاق، وابن جرير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 بشير، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح. (1) 5484- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: كان عطاء يرى أن الصلاة الوسطى صلاة الغداة. 5485- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة في قوله:" والصلاة الوسطى"، قال: صلاة الغداة. 5486- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: الصبح. 5487- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5488- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة. 5489- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة. * * * وعلة من قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره قال:"حافظوا على الصلوات   (1) الخبر: 5483- إسناده صحيح. ابن عثمة: هو محمد بن خالد، و"عثمة" أمه. مضى في: 90، 5314. والخبر نقله ابن كثير 1: 576، عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 1: 301، ولم ينسبه لغير الطبري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، بمعنى: وقوموا لله فيها قانتين. قال: فلا صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس فيها قنوت سوى صلاة الصبح، فعلم بذلك أنها هي دون غيرها. * * * وقال آخرون: هي إحدى الصلوات الخمس، ولا نعرفها بعينها. * ذكر من قال ذلك: 5490- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني هشام بن سعد قال: كنا عند نافع، ومعنا رجاء بن حيوة، فقال لنا رجاء: سلوا نافعا عن الصلاة الوسطى. فسألناه، فقال: قد سأل عنها عبد الله بن عمر رجل فقال: هي فيهن، فحافظوا عليهن كلهن. (1) 5491- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن قيس بن الربيع، عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة قال: سألت الربيع بن خثيم عن الصلاة الوسطى، قال: أرأيت إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ قلت: لا! فقالا فإنك إن حافظت عليهن فقد حافظت عليها. (2)   (1) الخبر: 5490- وهذا إسناد صحيح. هشام بن سعد المدني: ثقة. تكلم فيه بعضهم من جهة حفظه. وترجمه البخاري في الكبير 4 /2 /200، فلم يذكر فيه جرحا. وقال: "سمع نافعا". والخبر ذكره السيوطي 1: 300، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم. وذكره الحافظ في الفتح 8: 147، وأنه أخرجه ابن أبي حاتم"بإسناد حسن، عن نافع". وأنه"آخر ما صححه ابن أبي حاتم". وأشار ابن كثير 1: 582، إلى روايته عند ابن أبي حاتم فقط. ثم قال: "وفي صحته نظر. والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري، إمام ما وراء البحر [يعني الأندلس] . وإنها لإحدى الكبر؛ إذا اختار مع اطلاعه وحفظه، ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر"!! هكذا قال ابن كثير. والظاهر من سياق هذا الخبر: أن ابن عمر يريد الحض على المحافظة على الصلوات كلها، لا أنه يريد أنها غير معينة. وقد صح عنه تعيينها في قولين: العصر، والظهر. انظر ما مضى: 5389، 5391، 5451، 5455. ولا معنى للإنكار على ابن عبد البر، فإنه لم ينفرد بذلك. وقد اختاره أيضًا إمام الحرمين من الشافعية، كما ذكر الحافظ في الفتح 8: 147. (2) الخبر: 5491- نسير بن ذعلوق أبو طعمة: تابعي ثقة. وثقه ابن معين وغيره. "نسير": بضم النون وفتح السين المهملة، و"ذعلوق": بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة وضم اللام، "أبو طعمة": بضم الطاء وسكون العين المهملتين، وهي كنية"نسير". ووقع اسم في المخطوطة"سير" بدون النون. وهو خطأ. ووقع فيها وفي المطبوعة: "بن ذعلوق، عن أبي فطيمة"! وهو خطأ سخيف. فليس في الرواة من يسمى بهذا. بل هو: "عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة" ذكر باسمه ونسبه وكنيته. فأخطأ الناسخون، فحرفوا"طعمة" إلى"فطيمة"؛ ثم زادوا الخطأ تخليطا، فزادوا بين الرجل وكنيته حرف"عن". ونسير معروف بالرواية عن الربيع بن خثيم، وهو الذي سأله. الربيع بن خثيم: مضى في: 1430. ووقع في المطبوعة هنا"خيثم"، كما وقع فيها هناك. وهو خطأ صوابه"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة وسكون الياء التحتية. وثبت على الصواب في المخطوطة. وهذا القول عن الربيع بن خثيم، نقله عنه أيضًا الحافظ في الفتح 8: 147، وذكر أنه قال به أيضًا: سعيد بن جبير وشريح القاضي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 5492- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه هكذا= يعني مختلفين في الصلاة الوسطى= وشبك بين أصابعه. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله: وهو أنها العصر. والذي حث الله تعالى ذكره عليه من ذلك، نظير الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث عليه. كما: - 5493- حدثني به أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن خير بن نعيم الحضرمي، عن عبد الله بن هبيرة النسائي= قال:   (1) الخبر: 5492- إسناده صحيح جدا. والخبر نقله ابن كثير 1: 583، عن هذا الموضع. وكذلك نقله الحافظ في الفتح 8: 147، عن ابن جرير، وقال: "بإسناد صحيح". ونقله السيوطي 1: 300، ولم ينسبه لغير الطبري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 وكان ثقة=، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فلما انصرف قال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فتوانوا فيها وتركوها، فمن صلاها منكم أضعف أجره ضعفين، ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد= والشاهد: النجم. (1) 5494- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خير بن نعيم، عن ابن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني: أن أبا بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمخمص فقال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فضيعوها وتركوها، فمن حافظ عليها منكم أوتي أجرها مرتين. (2) * * * وقال صلى الله عليه وسلم:"بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من فاتته العصر حبط عمله".   (1) الحديث: 5493- أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة، ولكن رواية الطبري عنه ثابتة في تاريخه مرارا. يعقوب: هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. يزيد بن أبي حبيب المصري: مضت ترجمته في: 4348. خير بن نعيم بن مرة الحضرمي المصري، قاضي مصر: ثقة. قال يزيد بن أبي حبيب: "ما أدركت من قضاة مصر، ص: 348-352. "خير": بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء التحتية، وكتب في المخطوطة -في هذه الرواية والتي بعدها- غير منقوط. وكتب في المطبوعة -في الموضعين-"جبر"، وهو تصحيف. عبد الله بن هبيرة السبائي: مضت ترجمته في: 1914. و"السبائي"! بفتح السين المهملة والباء الموحدة ثم همزة مقصورة، نسبة إلى"سبأ بن يشجب". ووقع في المطبوعة"النسائي"! وهو تصحيف جاهل. أبو تميم الجيشاني: هو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم الجيشاني الرعييني المصري، وأصله من اليمن. وهو من كبار التابعين، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة معروف. وترجم له الحافظ في الإصابة، في الكنى 7: 25، وأحال على موضعه في الأسماء ولكنه لم يذكره حيث أشار! "الجيشاني": بفتح الجيم وسكون الياء التحتية ثم شين معجمة، نسبة إلى"جيشان": قبيل كبير من اليمن. أبو بصرة الغفاري: صحابي معروف، روى عنه بعض الصحابة وبعض التابعين. واختلف في اسمه: والراجح الذي جزم به البخاري في الكبير 2 /1 /114 أنه"حميل -بضم الحاء المهملة- بن بصرة". وكذلك هو في التهذيب، وذكره ابن أبي حاتم 1 /1 /517 في حرف الجيم، في اسم"جميل". وترجمه الحافظ في الإصابة، في الكنى 7: 20. و"بصرة": بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة. ووقع في المخطوطة -في هذا الحديث والذي بعده-"نصرة". في المطبوعة في الموضعين"نضرة". وكلاما خطأ وتصحيف، وهذا التصحيف في كنيته قديم. وقع فيه الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق، (المصنف 1: 183) . وقال أبو سعيد راويه عن الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق، (المصنف 1: 183) . وقال أبو سعيد راويه عن الدبري: "هكذا قال الدبري: أبو نصرة، بالصاد والنون في أصله وكذا قال الدبري. والصواب: "أبو بصرة". والحديث رواه أحمد في المسند 6 396-397، عن يعقوب، وهو ابن إبراهيم بن سعد، بهذا الإسناد. ورواه مسلم 1: 228، عن زهير بن حرب، عن يعقوب، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على الرواية التي قبله، وهي التالية لهذا هنا. ورواه أحمد أيضًا 6: 397، عن يحيى بن إسحاق، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، بهذا الإسناد، نحوه. وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر. وقوله هنا وفي الرواية الآتية: "فرضت على من كان قبلكم" - في رواية المسند عن يعقوب: "عرضت"، بدل"فرضت". وكذلك في روايته عن يحيى بن إسحاق. وكذلك في سائر الروايات التي سنذكر في الحديث التالي، وأنا أرجح أن ما هنا تحريف من الناسخين. (2) الحديث: 5494- علي بن داود بن يزيد التميمي القنطري، شيخ الطبري: ثقة، وثقه الخطيب وغيره. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 11: 424 - 425. عبد الله بن صالح: هو أبو صالح، كاتب الليث بن سعد. مضت ترجمته في: 186. والحديث رواه أحمد 6: 397 (حلبي) ، عن يحيى بن إسحاق، عن ليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية ابن لهيعة قبله. ورواه مسلم 1: 228، عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، به - وساق لفظه. ورواه البيهقي 1: 448، من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، به. ورواه النسائي 1: 90، عن قتيبة، كرواية مسلم عن قتيبة نفسه. ولكن وقع في طبعتي النسائي بمصر خطأ في الإسناد، ففيهما: "الليث عن خالد بن نعيم الحضرمي، عن ابن جبيرة"! والظاهر أنه خطأ قديم من بعض الناسخين، إذ ثبت الخطأ نفسه في مخطوطة الشيخ عابد السندي، ولكن ثبت الإسناد على الصواب في نسخة النسائي المطبوعة في الهند سنة 1296، ص: 92. ولم يقع هذا الخطأ للحفاظ الذين ترجموا لرواة الكتب الستة، إذن لأشاروا إليه. ولم يفعلوا. ونقله ابن كثير 1: 580، من رواية المسند من طريق ابن لهيعة. ثم أشار إلى روايتي مسلم والنسائي ووقع فيه هناك تحيف مطبعي كثير. وذكره السيوطي 1: 299، ونسبه لمسلم، والنسائي، والبيهقي. "المخمص": بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الميم الثانية مفتوحة وآخره صاد مهملة. وهو طريق في جبل عير إلى مكة، كما قال ياقوت. واختلف في ضبطه: فضبط بالقلم في ياقوت بفتحة فوق الميم وسكون على الخاء وكسرة تحت الميم الثانية، ولم ينص ياقوت بالكتابة على ضبطه. وقال الفيروزبادي"والمخمص، كمنزل: اسم طريق". ونقل شارحه الزبيدي أن الصاغاني ضبطه"كمقعد". وبهذا ضبطه البكري في معجم ما استعجم، ص: 1197، وقال: "موضع في ديار بني كنانة". فالظاهر من هذا أنه غير الذي في هذا الحديث. والعبرة هنا بالرواية المتلقاة عن الثقات الأثبات حفاظ السنة. فالذي ضبطناه به هو الثابت في نسخ مسلم المعتمدة الموثقه، مثل مخطوطة الشطي التي عندي، ومثل طبعة الآستانة 2: 208. ويؤيد هذا ويوكده ضبطه فيه ضبط رواية ولغة، لا ضبط لغة فقط. وهو الذروة العليا في الإتقان. ووقع في مطبوعة الطبري هنا بدله"بالمغمس"، بالغين المعجمة والسين. وهو اسم موضع آخر، ولكنه غير الذي في هذه الرواية. فالظاهر أنه تصحيف أو تحريف من الناسخين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 5495- حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، [عن الأوزاعي، عن يحيى بن كثير] عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)   (1) الحديث: 5495- وقع هذا الإسناد ناقصا راويين في المخطوطة والمطبوعة. وقد اضطررت لزيادتهما بين قوسين: [عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير] ، حتى يستقيم الإسناد. فأما أولا: فإن وكيعا وأيوب بن سويد لم يدركا أن يرويا عن أبي قلابة، وكلاهما يروي عن الأوزاعي. وأما ثانيا: فإن هذا الحديث حديث الأوزاعي، عرف به، وعرف أنه خالف غيره في إسناده ومتنه. ونص على ذلك الأئمة. وأما ثالثا: فإن تخريجه إنما هو على هذا النحو، كما سيأتي في التخريج، إن شاء الله. وقد رواه أبو جعفر هنا من طريقين: رواه عن أبي كريب عن وكيع، ورواه عن محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم عن أيوب بن سويد - ثم يجتمع الإسنادان. فيرويه وكيع وأيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة. وأيوب بن سويد الرملي، أبو مسعود السيباني: ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال البخاري في الكبير 1 /1 / 417: "يتكلمون فيه". وقد قلت في شرح الحديث 7000 من المسند، ج11 ص204: "عندي أن أعدل ما قيل فيه، ما نقل الحافظ في التهذيب عن ابن حبان في الثقات، قال: كان رديء الحفظ، يخطئ، يتقي حديثه من رواية ابنه محمد بن أيوب عنه، لأن أخباره إذا سبرت من غير رواية ابنه عنه، وجد أكرها مستقيمة". ثم هو لم ينفرد هنا برواية هذا الحديث، بل رواه معه وكيع. ووكيع هو وكيع. و"السيباني"، بفتح السين المهملة: نسبة إلى"سيبان"، بطن من حمير. وأبو المهاجر: تابعي، كما هو ظاهر من الإسناد. ولم يقولوا فيه شيئا، إلا أن الأوزاعي ذكره هكذا في الإسناد، وأن المحفوظ: "عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن بريدة". كما سيأتي. والحديث -من هذا الوجه- رواه أحمد في المسند 5: 361 (حلبي) ، عن وكيع: "حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة، قال: كما معه في غزاة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بكروا بالصلاة في اليوم الغنيم، فإنه من فاته صلاة العصر فقد حبط عمله". وكذلك رواه ابن ماجه: 694، من طريق الوليد بن مسلم: "حدنا الأوزاعي، حدثني يحيى ابن أبي كير، عن أبي قلابة. . . " فذكره بنحوه. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبري 1: 444، من طريق عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الأوزاعي، بهذا الإسناد، نحوه. وأما الرواية التي خالفها الأوزاعي: فهي ما روى البخاري 2: 26 (فتح) ، عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام -وهو الدستوائي-: "أخبرنا يحيى بن أبي كير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، قال: كنا مع بريدة في غزوة، في يوم ذي غنيم، فقال: بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله". ثم رواه البخاري مرة أخرى 2: 53 (فتح) ، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن يحيى، بهذا الإسناد نحوه. وقد جعل البخاري عنوان الباب لهذا الحديث: "باب التبكير بالصلاة في يوم غيم". وهذا يدل على أنه لا يرى ضعف رواية الأوزاعي، وإن لم تكن على شرطه، وهذه عادته. ولذلك قال الحافظ: "من عادة البخاري أن يترجم ببعض ما اشتمل عليه ألفاظ الحديث، ولو لم يوردها، بل ولو لم يكن على شرطه. وقال الحافظ في الموضع الأول: "وتابع هشاما على هذا الإسناد عن يحيى بن أبي كير-: شيبان، ومعمر، وحديثهما عند أحمد. وخالفهم الأوزاعي، فرواه عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة. والأول هو المحفوظ. وخالفهم أيضًا في سياق المتن". يعني لأن الأوزاعي جعل الأمر بالتبكير في صلاة الغيم، من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآخرون جعلوه من كلام بريدة. وأن المرفوع هو: "من فاتته العصر فقد حبط عمله". وأنا أميل إلى صحة الروايتين، إذ هما من مخرجين: فأحد الروايين سمع الصحابي يقوله من عند نفسه، والآخر يقوله مرفوعا. ومثل هذا كثير. وقد وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا، حين ذكر رواية الأوزاعي 1: 580، وقال إنها"في الصحيح"! فإن رواية الأوزاعي لم يروها من أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. والرواية الأخرى -رواية هشام الدستوائي- لم يروها منهم إلا البخاري والنسائي. ووقع في نسخة ابن كثير خطأ في الإسناد. نرجح أنه من الناسخين. ورواية هشام الدستوائي، رواها أيضًا أحمد في المسند 5: 349-350، 357، 360 (حلبي) ورواه النسائي 1: 83، والبيهقي 1: 444. ورواية شيبان، ومعمر، عن يحيى بن أبي كثير، اللتين أشار الحافظ إلى أنهما عند أحمد - ما في المسند 5: 350، 360 (حلبي) . وذكر السيوطي 1: 299 آخره المرفوع في الروايتين، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 وقال صلى الله عليه وسلم:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". (1) * * * 5497- وقال صلى الله عليه وسلم:"من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لم يلج النار" (2) . * * * فحث صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها حثا لم يحث مثله على غيرها من الصلوات، وإن كانت المحافظة على جميعها واجبة، فكان بينا بذلك أن التي خص الله بالحث على المحافظة عليها، (3) بعد ما عم الأمر بها جميع المكتوبات، هي التي اتبعه فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، فخصها من الحض عليها بما لم يخصص به غيرها من الصلوات، وحذر أمته من تضييعها ما حل بمن قبلهم من الأمم التي وصف أمرها، ووعدهم من الأجر على المحافظة عليها ضعفي ما وعد على غيرها من سائر الصلوات. وأحسب أن ذلك كان كذلك، لأن الله تعالى ذكره جعل الليل سكنا، والناس من شغلهم بطلب المعاش والتصرف في أسباب المكاسب= هادئون، إلا القليل منهم، وللمحافظة على فرائض الله وإقام الصلوات المكتوبات فارغون. (4) وكذلك   (1) الحديث: 5496- ووقع في المطبوعة هنا: "قال" بدون واو العطف، ودون ذكر الصلاة على رسول الله صلى عليه وسلم. فأوهم هذا الصنيع أن هذا الحديث متن للإسناد السابق. وهو غير مستقيم. والصواب ما أثبتنا عن المخطوطة: أن هذا حديث آخر مستأنف، ذكره الطبري دون إسناد. وقد مضى من حديث عبد الله بن عمر، بإسناده: 5389. (2) الحديث: 5497- هذا حديث معلق أيضًا، ذكره الطبري دون إسناد. وهو حديث صحيح، رواه مسلم 1: 175-176، عن عمارة بن رويبة، قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. يعني الفجر والعصر". ورواه أيضًا أبو داود والنسائي، كما في ذخائر المواريث، رقم: 5537. ولعل الطبري رواه بالمعنى. (3) في المطبوعة: "حض الله"، وفي المخطوطة غي منقوطة، وصواب قراءتها هو ما أثبت، والسياق قاطع بوجوب قراءتها كذلك. (4) في المطبوعة: "فازعون"، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 ذلك في صلاة الصبح، لأن ذلك وقت قليل من يتصرف فيه للمكاسب والمطالب، ولا مؤونة عليهم في المحافظة عليها. وأما صلاة الظهر، فان وقتها وقت قائلة الناس واستراحتهم من مطالبهم، في أوقات شدة الحر وامتداد ساعات النهار، ووقت توديع النفوس والتفرغ لراحة الأبدان في أوان البرد وأيام الشتاء= وأن المعروف من الأوقات لتصرف الناس في مطالبهم ومكاسبهم، والاشتغال بسعيهم لما لا بد منه لهم من طلب أقواتهم- وقتان من النهار. أحدهما أول النهار بعد طلوع الشمس إلى وقت الهاجرة. وقد خفف الله تعالى ذكره فيه عن عباده عبء تكليفهم في ذلك الوقت، وثقل ما يشغلهم عن سعيهم في مطالبهم ومكاسبهم، وإن كان قد حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة، ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه، من غير أن يفرضها عليهم، وهي صلاة الضحى. والآخر منهما آخر النهار، وذلك من بعد إبراد الناس إمكان التصرف وطلب المعاش صيفا وشتاء، إلى وقت مغيب الشمس. وفرض عليهم فيه صلاة العصر، ثم حث على المحافظة عليها لئلا يضيعوها= لما علم من إيثار عباده أسباب عاجل دنياهم وطلب معايشهم فيها، على أسباب آجل آخرتهم= بما حثهم به عليه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ووعدهم من جزيل ثوابه على المحافظة عليها ما قد ذكرت بعضه في كتابنا هذا، وسنذكر باقيه في كتابنا الأكبر إن شاء الله من (كتاب أحكام الشرائع) . * * * قال أبو جعفر: وإنما قيل لها"الوسطى" لتوسطها الصلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهن. * * * "والوسطى""الفعلى" من قول القائل:"وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطا"، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذكر فيه:"هو أوسطنا" وللأنثى:"هي وسطانا". (1) * * *   (1) انظر معنى"الوسط" فيما سلفه 3: 141، 172. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 القول في تأويل قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله"قانتين". فقال بعضهم: معنى"القنوت"، الطاعة. ومعنى ذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له فيما أمركم به فيها ونهاكم عنه. * ذكر من قال ذلك: 5498- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن عون، عن الشعبي في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين. 5499- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن عون، عن الشعبي مثله. 5500- حدثني ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو المنيب، عن جابر بن زيد:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين. (1) . 5501- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن عثمان بن الأسود، عن عطاء:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين. 5502- حدثنا أحمد بن عبدة الحمصي قال، حدثنا أبو عوانة، عن ابن يشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين. (2) 5503- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،   (1) الأثر: 5500-"أبو المنيب"، هو: عبيد الله بن عبد الله العتكي، مضى في رقم: 1634. (2) الأثر: 5502- هكذا في المطبوعة والمخطوطة"أحمد بن عبدة الحمصي"، ولم أجده منسوبا حمصيا، وقد مضى في الإسناد رقم: 59"الضبي" وروي عنه في التاريخ أيضًا، و"أحمد بن عبدة الضبي"، هو أبو عبد الله البصري، مات سنة 245، مترجم في التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن"القنوت"، فقال: القنوت الطاعة. (1) 5504- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: القنوت، الذي ذكره الله في القرآن، إنما يعني به الطاعة. 5505- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"وقوموا لله قانتين"، قال: إن أهل كل دين يقومون لله عاصين، فقوموا أنتم لله طائعين. 5506- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: قوموا لله مطيعين في كل شيء، وأطيعوه في صلاتكم. 5507- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول:"وقوموا لله قانتين"، القنوت الطاعة، يقول: لكل أهل دين صلاة، يقومون في صلاتهم لله عاصين، فقوموا لله مطيعين. 5508- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"قانتين"، يقول: مطيعين. 5509- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين. 5510- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثني شريك، عن   (1) الأثر: 5503-"الربيع بن أبي راشد"، هو أخو: "جامع بن أبي راشد الكوفي"، سمع سعيد بن جبير، وروى عنه مالك بن مغول، وسيفان الثوري، وشريك، مترجم في الكبير للبخاري 2 /1 /250، والجرح 1 / 2 / 461. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 سالم، عن سعيد:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين. 5511- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا خطاب بن عثمان قال، حدثنا أبو روح عبد الرحمن بن سنان السكوني= حمصي لقيته بأرمينية= قال، سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في قوله:" وقوموا لله قانتين"، قال: طائعين. 5512- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين. 5513- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5514- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين. 5515- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: كانوا يأمرون في الصلاة بحوائجهم، حتى أنزلت:"وقوموا لله قانتين"، فتركوا الكلام. قال:"قانتين"، مطيعين. 5516- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم حتى نزلت:"وقوموا لله قانتين"، فتركوا الكلام في الصلاة. 5517- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: كان أهل دين يقومون فيها عاصين، فقوموا أنتم لله مطيعين. 5518- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 الله عليه وسلم أنه قال: كل حرف في القرآن فيه"القنوت"، فإنما هو الطاعة". (1) 5519- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: القنوت طاعة الله، يقول الله تعالى ذكره:"وقوموا لله قانتين"، مطيعين. 5520- حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان قال، قال ابن طاوس: كان أبي يقول: القنوت طاعة الله. * * * وقال آخرون:"القنوت" في هذه الآية، السكوت. وقالوا: تأويل الآية: وقوموا لله ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم. * ذكر من قال ذلك: 5521- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقوموا لله قانتين"، القنوت، في هذه الآية، السكوت. 5522- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدى في خبر ذكره، عن مرة، عن ابن مسعود قال: كنا نقوم في الصلاة فنتكلم، ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته، ويخبره، ويردون عليه إذا سلم، حتى أتيت أنا فسلمت فلم يردوا علي السلام، فاشتد ذلك علي، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن   (1) الحديث 5518- دراج أبو السمح، وأبو الهيثم سليمان بن عمرو: ترجمنا لما فيما مضى: 1387. والحديث رواه أحمد في المسند: 11734 (3: 75 حلبي) ، عن حسن، وهو ابن موسى الأشيب، عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 320، وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في الأوسط. وفي إسناد أحمد، وأبي يعلى،: ابن لهيعة، وهو ضعيف". وابن لهيعة: ليس بضعيف، كما قلنا مضى: 2941. وانظر الأثر الآتي رقم: 7050، حيث رواه بإسناد آخر إلى ابن لهيعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة= والقنوت: السكوت. (1) 5523- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كنا نتكلم في الصلاة، فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي، فلما انصرف قال: قد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة، ونزلت هذه الآية:"وقوموا لله قانتين". (2) 5524- حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال، أخبرنا محمد بن يزيد، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، وابن نمير، ووكيع، ويعلى بن عبيد= جميعا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه في الحاجة، حتى نزلت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، فأمرنا بالسكوت. (3)   (1) الحديث: 5522- هذا الإسناد من تفسير السدي. وقد مضى شرحه مفصلا في الخبر: 168. وأما هذا الحديث بعينه، فقد ذكره السيوطي 1: 306، ولم ينسبه لغير الطبري. ولكن في لفظه: و" يسارر الرجل صاحبه" - بدل: "ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته". وانظر الحديث التالي لهذا، والحديث: 5526. (2) الحديث: 5523- وهذا الإسناد ضعيف جدا، من أجل الحكم بن ظهير. وقد بينا ضعفه فيما مضى: 249. والحديث -من هذا الوجه- ذكره السيوطي 1: 306، ولم ينسبه لغير الطبري. وانظر الحديث الذي قبله، والحديث الآتي: 5526. (3) الحديث: 5524- عبد الحميد بن بيان السكري - شيخ الطبري: مضى في رقم 30، بوصف"القناد"، وهما واحد معنى. الحارث بن شبيل بن عوف الكوفي: ثقة. قال ابن معين -فيما روى عنه ابن أبي حاتم 1 /2 /76-77: "لا يسأل عن مثله". يعني لجلالته. و"شبيل": بالشين المعجمة مصغرا. وفي المطبوعة"شبل". والتصويب من المخطوطة، ولكن يقال فيه قول آخر أن اسم أبيه"شبل". وأشار الحافظ في التهذيب إلى أن هذا القول شبه خطأ من المزي صاحب تهذيب الكمال، وأنه تبع في ذلك الكلاباذي، لأن البخاري وابن أبي حاتم فرقا بين" الحارث بن شبيل" و"الحارث بن شبل". وأن الأول كوفي ثقة، والثاني بصري ضعيف. وحقا لقد فرقا بينهما في الكبير 1 /2 /268-269، وابن أبي حاتم 1 / 2 /76-77. ولكن البخاري مع فرقة بينهما، حكى في ترجمة"ابن شبيل" أنه يقال فيه أيضًا "ابن شبل". فلم يخطئ المزي ولا الكلاباذي فيما حكيا من القول الآخر. أبو عمرو الشيباني: وسعد بن إياس الكوفي. وهو تابعي قديم مخضرم، أدرك الجاهلية كبيرا، وعاش 120 سنة، وهو مجمع على ثقته. والحديث رواه أحمد في المسند 4: 368 (حلبي) عن يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، به. وكذلك رواه البخاري في الصحيح 3: 59، و 8: 149، وفي التاريخ الكبير 1 /2 /269. ومسلم 1: 151 - كلاهما من طريق إسماعيل بن أبي خالد، به. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 1: 248، من طريق إسماعيل. ورواه أيضًا أبو جعفر النحاس، في كتاب الناسخ والمنسوخ، ص: 16، من طريق إسماعيل وقال: "وهذا إسناد صحيح". ونقله ابن كثير 1: 583-306، من رواية المسند. ثم قال: "رواه الجماعة، سوى ابن ماجه، من طرق، عن إسماعيل، به". وذكره السيوطي 1: 305 - 306، وزاد نسبته إلى وكيع، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، والطحاوي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني. ولكن وقع فيه اسم الصحابي: "زيد بن أسلم"! وهذا خطأ مطبعي يقينا، صوابه: "زيد بن أرقم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 5525- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله:" وقوموا لله قانتين"، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، يجيء خادم الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته، فنهوا عن الكلام. 5526- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة، عن الزبير بن عدي، عن كلثوم بن المصطلق، عن عبد الله بن مسعود قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عودني أن يرد علي السلام في الصلاة، فأتيته ذات يوم فسلمت فلم يرد علي، وقال: إن الله يحدث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث لكم في الصلاة أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله، وما ينبغي من تسبيح وتمجيد:"وقوموا لله قانتين". (1)   (1) الحديث: 5526- هذا إسناد صحيح. هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي. وعنبسة، وهو ابن سعيد بن الضريس قاضي الري. والزبير بن عدي قاضي الري: مضوا في: 3356. كلثوم بن المصطلق الخزاعي: تابعي ثقة. خلط بعضهم بينه وبين آخرين يختلفان عنه نسبا ورواية. والحق أنهم ثلاثة، كما صنع البخاري 4 /1 /226-227، بالأرقام: 976، 977، 978. وابن أبي حاتم 3 /2 /163-164، بالأرقام: 922، 923، 625. والحديث -من هذا الوجه، وبهذا اللفظ- ذكره السيوطي 1: 306، ولم ينسبه لغير الطبري. وقد قصر السيوطي في ذلك. فإن الحديث رواه النسائي 1: 181، من طريق سفيان، وهو الثوري، عن الزبير بن عدي، بهذا الإسناد، وبلفظ أطول قليلا. وهو في معنى الحديثين الماضيين: 5522، 5523، إلا أن إسناد الأول محل نظر، وإسناد الثاني ضعيف جدا، وهذا إسناده صحيح. وأصل المعنى ثابت عن ابن مسعود، في المسند، والصحيحين، وغيرهما، إلا أنه ليس فيه النص على آية (قوموا لله قانتين) . فروى أحمد في المسند: 3563، من حديث علقمة، عن ابن مسعود، قال: "كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا. فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا. فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: إن في الصلاة لشغلا". وكذلك رواه البخاري 3: 58-59، ومسلم: 1: 151 - كلاهما من حديث علقمة عن ابن مسعود. وانظر المسند: 3575، 3884، 3885، 3944، 4145. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 5527- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: إذا قمتم في الصلاة فاسكتوا، لا تكلموا أحدا حتى تفرغوا منها. قال: والقانت المصلي الذي لا يتكلم. * * * وقال آخرون:"القنوت" في هذه الآية، الركوع في الصلاة والخشوع فيها. وقالوا في تأويل الآية: وقوموا لله في صلاتكم خاشعين، خافضي الأجنحة، غير عابثين ولا لاعبين. * ذكر من قال ذلك: 5528- حدثني سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد:"وقوموا لله قانتين"، قال: فمن القنوت طول الركوع، وغض البصر، وخفض الجناح، والخشوع من رهبة الله. كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت، أو أن يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 5529- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد نحوه= إلا أنه قال: فمن القنوت الركود والخشوع. 5530- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد:"وقوموا لله قانتين"، قال: من القنوت الخشوع، وخفض الجناح من رهبة الله. وكان الفقهاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدهم إلى الصلاة، لم يلتفت، ولم يقلب الحصى، ولم يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا حتى ينصرف. 5531- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله"وقوموا لله قانتين"، قال: إن من القنوت الركود، ثم ذكر نحوه. 5532- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: القنوت الركود- يعني القيام في الصلاة والانتصاب له. * * * وقال آخرون: بل"القنوت"، في هذا الموضع، الدعاء. قالوا: تأويل الآية: وقوموا لله راغبين في صلاتكم. (1) * ذكر من قال ذلك: 5533- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر= جميعا، عن عوف، عن أبي رجاء، قال: صليت مع ابن عباس الغداة في مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله:"وقوموا لله قانتين". (2)   (1) أخشى أن يكون الصواب"داعين"، ولكن"راغبين" صحيحة المعنى، لأن الراغب إلى ربه إنما رغبته دعاؤه، والقنوت: دعاء رغبة. (2) الحديث: 5533- مضى بالإسنادين جميعا مفرقين: 5473، 5474. وجمعهما أبو جعفر هنا سياقا واحدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وقوموا لله قانتين"، قول من قال: تأويله:"مطيعين". وذلك أن أصل"القنوت"، الطاعة، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهى الله [عنه] من الكلام فيها. (1) ولذلك وجه من وجه تأويل"القنوت" في هذا الموضع، إلى السكوت في الصلاة= أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها= إلا عن قراءة قرآن أو ذكر له بما هو أهله. ومما يدل على أنهم قالوا ذلك كما وصفنا، قول النخعي ومجاهد الذي: - 5534- حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، ومجاهد قالا كانوا يتكلمون في الصلاة، يأمر أحدهم أخاه بالحاجة، فنزلت"وقوموا لله قانتين"، قال: فقطعوا الكلام. و"القنوت": السكوت، و"القنوت" الطاعة. * * * فجعل إبراهيم ومجاهد"القنوت" سكوتا في طاعة الله، على ما قلنا في ذلك من التأويل. وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع، وخفض الجناح، وإطالة القيام، وبالدعاء، لأن كل [ذلك] غير خارج من أحد معنيين: (2) من أن يكون مما أمر به المصلي، أو مما ندب إليه، والعبد بكل ذلك لله مطيع، وهو لربه فيه قانت. و"القنوت": أصله الطاعة لله، ثم يستعمل في كل ما أطاع الله به العبد. * * * فتأويل الآية إذا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله فيها مطيعين، بترك بعضكم فيها كلام بعض وغير ذلك من معاني الكلام، سوى قراءة   (1) في المطبوعة: "عما نهى الله من الكلام"، وفي المخطوطة"عما نهاه الله"، والزيادة بين القوسين لا بد منها، كأنها سقط من ناسخ. (2) في المطبوعة: "لأن كلا غير خارج"، وفي المخطوطة: "لأن كل غير خارج"، فرجحت سقوط"ذلك" من ناسخ المخطوطة، واجتهد مصحح المطبوعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 القرآن فيها، أو ذكر الله بالذي هو أهله، أو دعائه فيها، غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها، والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له= لما قد بيناه من معناه= فإن خفتم من عدو لكم، أيها الناس، تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله= فصلوا"رجالا"، مشاة على أرجلكم، وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم="أو ركبانا"، على ظهور دوابكم، فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم، قانتين. (1) * * * ولما قلنا من أن معنى ذلك كذلك، جاز نصب"الرجال" بالمعنى المحذوف. وذلك أن العرب تفعل ذلك في الجزاء خاصة، لأن ثانيه شبيه بالمعطوف على أوله. ويبين ذلك أنهم يقولون:"إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا"، بمعنى: إن تفعل خيرا تصب خيرا، وإن تفعل شرا تصب شرا، فيعطفون الجواب على الأول لانجزام الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، بمعنى: إن خفتم أن تصلوا قياما بالأرض، فصلوا رجالا. * * * "والرجال" جمع"راجل" و"رجل"، وأما أهل الحجاز فإنهم يقولون لواحد"الرجال""رجل"، مسموع منهم:"مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا"، (2)   (1) في المخطوطة: "من القيام منكم أو قانتين"، بزيادة"أو"، وهو لا معنى له، إلا أن يكون في الكلام سقطا، وتركت ما في المطبوعة على حاله، فهو مستقيم. (2) هذا البيان عن لغات العرب في"رجل"، غي مستوفي في كتب اللغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 وقد سمع من بعض أحياء العرب في واحدهم"رجلان"، كما قال بعض بني عقيل: على إذا أبصرت ليلى بخلوة ... أن ازدار بيت الله رجلان حافيا (1) فمن قال"رجلان" للذكر، قال للأنثى"رجلى"، وجاز في جمع المذكر والمؤنث فيه أن يقال:"أتى القوم رجالى ورجالى" مثل"كسالى وكسالى". * * * وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك:"فإن خفتم فرجالا"مشددة. وعن بعضهم أنه كان يقرأ:"فرجالا"، (2) وكلتا القراءتين غير جائزة القراءة بها عندنا، لخلافها القراءة الموروثة المستفيضة في أمصار المسلمين. (3) * * * وأما"الركبان"، فجمع"راكب"، يقال:"هو راكب، وهم ركبان وركب وركبة وركاب وأركب وأركوب"، يقال:"جاءنا أركوب من الناس وأراكيب". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5535- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: سألته عن قوله:"فرجالا أو ركبانا"، قال: عند المطاردة، يصلى حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويصلي ركعتين يومئ إيماء. 5536- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان،   (1) اللسان (رجل) ، عن ابن الأعرابي، واستشهد به ابن هشام في"باب الحال" وتعدده للمفرد، وروايته: ". . . ليلى بخفية زيارة بيت الله. . . ". وقوله: "ازدار" هو"افتعل" من"الزيارة". (2) يعني بضم الراء وتخفيف الجيم المفتوحة، وهي مذكورة في شواذ القراءات. (3) في المطبوعة: "بخلاف القراءة الموروثة"، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 عن مغيرة عن إبراهيم في قوله:"فرجالا أو ركبانا" قال: صلاة الضراب ركعتين، يومئ إيماء. 5537- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:"فرجالا أو ركبانا"، قال: يصلي ركعتين حيث كان وجهه، يومئ إيماء. 5538- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير."فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا طردت الخيل فأومئ إيماء. 5539- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن مالك، عن سعيد قال: يومئ إيماء. 5540- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه، يومئ إيماء. 5541- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القتال على الخيل، فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا، أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه. 5542- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: أو راكبا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أيضا: أو راكبا، أو ما قدر أن يومئ برأسه= وسائر الحديث مثله. 5543- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 عن الضحاك في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا التقوا عند القتال وطلبوا أو طلبوا أو طلبهم سبع، فصلاتهم تكبيرتان إيماء، أي جهة كانت. 5544- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"رجالا أو ركبانا"، قال: ذلك عند القتال، (1) يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا إذا كان يطلب أو يطلبه سبع، فليصل ركعة، يومئ إيماء، فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين. 5545- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ركعة وأنت تمشي، وأنت يوضع بك بعيرك ويركض بك فرسك، على أي جهة كان. (2) 5546- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أما"رجالا" فعلى أرجلكم، إذا قاتلتم، يصلي الرجل يومئ برأسه أينما توجه، والراكب على دابته يومئ برأسه أينما توجه. (3)   (1) في المطبوعة: "ذاك عند القتال"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) وضع البعير يضع وضعا، وأوضعه أيضاعا: وهو سير حثيث وإن كان لا يبلغ أقصى الجهد. (3) عند هذا انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه المخطوطة، فيها هنا ما نصه: "وصلى الله على محمد النبي وعلى آل وصحبه وسلم كثيرا على الأصل المنقول منه هذه النسخة: بغلت بالسماع وأخي علي حرسه الله، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري، ومحمد بن علي الأرموي، ونصر بن الحسين الطبري - بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري. وذلك في شعبان من سنة ثمان وأربعمئة، وهو يقابلني بكتابه. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في التاريخ، وسمع عبد الرحيم بن أحمد (النحوي؟؟) من موضع سماعه إلى هاهنا مع الجماعة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 5547- (1) حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، الآية، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال، أن تصلي وأنت راكب، وأنت تسعى، تومئ برأسك من حيث كان وجهك، إن قدرت على ركعتين، وإلا فواحدة. 5548- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ذاك عند المسايفة. 5549- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا طلب الأعداء فقد حلَّ لهم أن يصلوا قِبَل أي جهة كانوا، رجالا أو ركبانا، يومئون إيماء ركعتين= وقال قتادة: تجزي ركعة. 5550- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتين، راكبا كان أو راجلا. 5551- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو راكبانا"، قال: يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان جهه، يومئ إيماء عند كل ركوع وسجود، ولكن السجود أخفض من الركوع. فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا، هذا في المطاردة. 5552- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي قال: كان قتادة يقول: إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة، يومئ إيماء، إن شاء راكبا أو راجلا قال الله تعالى ذكره:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا".   (1) بدأ في التقسيم القديم: "بسم الله الرحمن الرحيم" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 5553- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن قال، في الخائف الذي يطلبه العدو، قال: إن استطاع أن يصلي ركعتين، وإلا صلى ركعة. 5554- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: ركعة. 5555- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة. 5556- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة، عن صلاة المسايفة، فقالوا: يومئ إيماء حيث كان وجهه. 5557- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد والحكم وقتادة: أنهم سئلوا عن الصلاة عند المسايفة، فقالوا: ركعة حيث وجهك. 5558- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار قال: سألت ابن سيرين عن صلاة المنهزم فقال: كيف استطاع. 5559- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن جابر بن غراب قال: كنا نقاتل القوم وعلينا هرم بن حيان، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة، الصلاة! فقال هرم: يسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة. قال: ونحن مستقبلو المشرق. (1) 5560- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي   (1) الأثر: 5559-"جابر بن غراب النمري البصري"، روى عن هرم بن حيان، روى عنه أبو نصرة. مترجم في الكبير 1 /2 /209، والجرح والتعديل 1 /1 / 497. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "جابر بن عراب"، وهو تصحيف. و"سعيد بن يزيد"، و"أبو مسلمة" الآتي في رقم: 5561. وهذا الأثر رواه ابن حزم في المحلى 5: 36 من طريق: "شعبة عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة. . . "، بغير هذا اللفظ كما سيأتي في رقم: 5561. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 نضرة قال: كان هرم بن حيان على جيش، فحضروا العدو فقال: يسجد كل رجل منكم تحت جنته حيث كان وجهه سجدة، أو ما استيسر= فقلت لأبي نضرة: ما"ما استيسر"؟ قال: يومئ. (1) 5561- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا أبو مسلمة، عن أبي نضرة قال، حدثني جابر بن غراب قال: كنا مع هرم بن حيان نقاتل العدو مستقبلي المشرق، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة! فقال: يسجد الرجل تحت جنته سجدة. (2) 5562- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: تصلي حيث توجهت راكبا وماشيا، وحيث توجهت بك دابتك، تومئ إيماء للمكتوبة. 5563- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا هبة بن الوليد قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة. (3)   (1) الأثر: 5560- هو مختصر الذي قبله والذي يليه، غير مرفوع إلى جابر بن غراب. وفي المخطوطة: "فحصروا العدو" بالصاد المهملة، وكأن الصواب ما في المطبوعة. كما تدل عليه معاني الأثرين: السالف والتالي. وفي المطبوعة: "تحت جيبه" وفي المخطوطة: "تحت حسه" غي منقوطة. والصواب من المحلى 5: 36. والجنة (بضم الجيم وتشديد النون) : هي ما واراك من السلاح واستترت به، كالدروع وغيره من لباس الوقاية في الحرب. في المطبوعة: "ما استيسر"، بحذف"ما" الثانية الاستفهامية، وهو خطأ. (2) الأثر: 5561- انظر الأثرين السالفين، والتعليق عليهما. وفي المطبوعة: "مستقبل المشرق"، وهو خطأ ناسخ. وفي المطبوعة: "تحت جيبه" كما في رقم: 5560، وفي المخطوطة: "تحت حسه" غير منقوطة، والصواب من المحلى 5: 36، ونص ما رواه: "وعن شعبة، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن جابر بن غراب، كنا مصافي العدو بفارس، ووجوهنا إلى المشرق، فقال هرم بن حيان: ليركع كل إنسان منكم ركعة تحت جنته حيث كان وجهه". (3) الأثر: 5563-"سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني" أبو عثمان الحمصي، روى عن بقية، والمعافى بن عمران الحمصي وغيرهما. وعنه النسائي، صدوق، ذكره ابن حبان في القات. مترجم في التهذيب. و"بقية بن الوليد"، قال أحمد، وسئل عن بقية وإسماعيل بن عياش: "بقية أحب إلي، وإذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوا عنه". وكان في المطبوعة والمخطوطة: "هبة بن الوليد" وهو خطأ. والصواب من تفسير ابن كثبر 1: 585. و"المسعودي"، هو: عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي. و"يزيد الفقير" هو: يزيد بن صهيب الفقير، أبو عثمان الكوفي، روي عن جابر وأبي سعيد وابن عمر، ثقة صدوق. وسمي"الفقير"، لأنه كان يشكو فقار ظهره. مترجم في التهذيب وغيره. وانظر السنن الكبرى 3: 263، والمحلى 5: 35. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 5564- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا موسى بن محمد الأنصاري، عن عبد الملك، عن عطاء في هذه الآية قال: إذا كان خائفا صلى على أي حال كان. (1) . 5565- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك- وسألته عن قول الله:"فرجالا أو ركبانا" - قال: راكبا وماشيا، ولو كانت إنما عنى بها الناس، لم يأت إلا"رجالا" وانقطعت الآية. (2) إنما هي"رجال": مشاة، وقرأ: (3) (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [سورة الحج: 87] ، قال: يأتون مشاة وركبانا. * * * قال أبو جعفر: الخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا وراكبا جائلا (4) الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال من أمر   (1) الأثر: 5564"موسى بن محمد الأنصاري"، يعد في الكوفيين، مترجم في الكبير للبخاري 4 /1 /294، وابن أبي حاتم 4 /1 /160، وهو ثقة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "انقطعت الألف"، وقد استظهر مصحح الطبعة الأميرية أنها"وانقطعت الآية"، وأرجح أنها الصواب، والناسخ في هذا الموضع من النسخة عجل كثير السهو والخطأ، كما رأيت فيما مضى، وكما سترى فيما يأتي. وقد خلط بعضهم في تعليقه على هذا الموضع من الطبري. (3) في المطبوعة: "وعن يأتوك رجالا. . . "، وهو خطأ لا شك فيه. أما المخطوطة ففيها"ومزايا ترك"، وصواب تحريفها وتصحيفها، هو ما أثبت. ويعني أن مالكا استدل بهذه الآية على معنى"فرجالا" كما هو بين. (4) الجائل: هو الذي يجول في الحرب جولة على عدوه، وجولته: دورانه وهو على فرسه ليستمكن من قرنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 بقتاله، (1) من عدو للمسلمين، أو محارب، أو طلب سبع، أو جمل صائل، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه. (2) وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن، فإنه إذا كان ذلك كذلك، فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه، يومئ إيماء لعموم كتاب الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع، بعد أن يكون الخوف، صفته ما ذكرت. * * * وإنما قلنا إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها، وذلك حال شدة الخوف، لأن: - 5566- محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة، ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو. ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة. ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه، وإن كان خوف أشد من ذلك"فرجالا أو ركبانا". (3)   (1) في المطبوعة: "الخوف على المهمة عند السلمة"، وهو خلط غث. وفي المخطوطة: "الخوف على المهمة عند المسلة"، والصواب ما أثبت من قراءتي لهذا النص. والمهجة: الروح، وخالص النفس. والسلة: استلال السيوف، يقال: "أتيناهم عند السلة"، أي عند استلال السيوف إذا حمي الوطيس. (2) صال الجمل يصول، فهو صائل وصؤول: وذلك إذا وثب على راعيه فأكله، وواثب الناس يأكلهم ويعدو عليهم ويطردهم من مخافته. (3) الحديث: 5566- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي. عبد الله بن نافع مولى ابن عمر: ضعيف جدا. قال فيه البخاري في الضعفاء: "منكر الحديث". فصلنا القول في تضعيفه في المسند: 4769. وهذا الحديث هكذا رواه جرير عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر - مرفوعا. وكذلك رواه ابن ماجه: 12587، عن محمد بن الصباح، عن جرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا أيضًا. وإسناده صحيح. وأشار الحافظ في الفتح 2: 360 إلى رواية ابن ماجه هذه، وقال: "وإسناده جيد". ورواه -بمعناه- مالك في الموطأ، ص: 184، "عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال. . . "، فذكر نحوه من كلام ابن عمر، ثم قال في آخره: "قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر حدثه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكذلك رواه البخاري 8: 150، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وروى الشافعي في الأم 1: 197، عن مالك - قطعه من أوله، ثم أشار إلى سائره وذكر آخره. وكذلك رواه البيهقي3: 256، من طريق الشافعي عن مالك. وذكره السيوطي 1: 308، من رواية مالك، وزاد نسبته لعبد الرزاق. فهذا الشك في رفعه من نافع عند مالك -ثم الجزم برفعه في رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عند ابن ماجه-: يقويان رواية جرير عن عبد الله بن نافع، التي هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 5567- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريح، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا اختلطوا - يعني في القتال - فإنما هو الذكر، وأشارة بالرأس. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن كانوا أكثر من ذلك، فيصلون قياما وركبانا". (1) * * * = ففصل النبي بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة، على ما روينا عن ابن عمر. فكان معلوما بذلك أن قوله تعالى ذكره:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، إنما عنى به الخوف الذي وصفنا صفته.   (1) الحديث: 5567- سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مضت ترجمته في: 2255. وهذا الحديث رواه البخاي 3: 259 (فتح) ، عن سعيد بن يحيى -شبخ الطبري- بهذا الإسناد ولم يذكر لفظه كاملا. وذكر الحافظ، ص: 360، رواية الطبري هذه، أيضاحا لرواية البخاري. ورواه البيهقي 3: 255-256، من طريق الهيثم بن خلف الدوري، عن سعيد بن يحيى الأموي، به. وذكر لفظه، ثم أشار إلى رواية البخاري. وقوله: "اختلطوا": يعني اختلط الجيشان، حال المسايفة والالتحام. وهكذا ثبت هذا الحرف في الفتح نقلا عن الطبري، والسنن الكبرى للبيهقي، ووقع في المخطوطة والمطبوعة: "اختلفوا" - بالفاء بدل الطاء. وهو تحريف من الناسخين. وقوله: "وإشارة بالرأس": يعني أنهم يصلون بالإيماء، يذكرون ويقرءون، ويشيرون إلى الركوع والسجود. وهذا هو الثابت في الفتح والسنن الكبرى. ووقع في المخطوطة والمطبوعة: "وأشار بالرأس". وهو تحريف أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 وبنحو الذي روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن ابن عمر أنه كان يقول: 5568- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: في صلاة الخوف: يصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم. ثم يحيي أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم، وتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. قال: فإن كان خوف أشد من ذلك"فرجالا أو ركبانا". (1) * * * وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة، فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن. وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة، رأيتها مجزئة، لأن: - 5569- بشر بن معاذ حدثني قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكر بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. (2) * * *   (1) الخبر: 5568- هذا موقوف على ابن عمر، صريحا، وهو في معنى الحديث الماضي: 5566. (2) الحديث: 5569 بكير بن الأخنس الليثي الكوفي: تابعي ثقة. و"بكير": بالتصغير. ووقع في المطبوعة"بكر" - بدون الياء، وهو خطأ. والحديث رواه أحمد بن المسند: 2124 عن يزيد، و: 2293، عن عفان، و: 3332، عن وكيع - ثلاثتهم عن أبي عوانة، به. ورواه البخاري في التاريخ الكبير -موجزا كعادته- في ترجمة بكير 1 /2 /112، عن أبي نعيم، عن أبي عوانة. ورواه مسلم 1: 192، عن أربعة شيوخ، عن أبي عوانة. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 3: 135، من طريق يحيى بن يحيى، عن أبي عوانة. ورواه أحمد أيضًا: 2177، عن القاسم بن مالك المزني، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، به. وكذلك رواه مسلم 1: 192، من طريق القاسم بن مالك. ورواه البيهقي 3: 263-264، بإسنادين من طريق أيوب بن عائذ. وذكره ابن كثير 1: 585، وزاد نسبته لأبي داود، والنسائي، وابن ماجه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 القول في تأويل قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) } قال أبو جعفر: وتأويل ذلك:"فإذا أمنتم"، أيها المؤمنون، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم- ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم- فاطمأننتم، ="فاذكروا الله" في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه، على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله، = كما ذكركم بتعليمه إياكم من أحكامه، وحلاله وحرامه، وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة، والأنباء الحادثة بعدكم- في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، التي جهلها غيركم وبصركم، من ذلك وغيره، إنعاما منه عليكم بذلك، فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون. * * * وكان مجاهد يقول في قوله:"فإذا أمنتم"، ما: - 5570- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"فإذا أمنتم"، قال: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة. * * * وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد: 5571- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" فإذا أمنتم فاذكروا الله"، قال: فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم- إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة. * * * وقوله ها هنا:"فاذكروا الله"، قال: الصلاة،"كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون". (1) * * *   (1) من أول قوله: "وقوله ها هنا: اذكروا الله. . . " إلى آخر هذه الفقرة، هي من كلام مجاهد في الأثر: 5570 فيما أرجح، وأخشى أن يكون الناسخ قد أفسد سياق الكلام، وأنا أرجح ان قوله آنفًا: "وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد" ثم الأثر رقم 5571، ينبغي أن يكون مقدما على الأثر: 5570. وأرجح أن قوله: "وقوله ها هنا" كلام فاسد، وأن"ها هنا" كانت في الأصل القديم إشارة إلى تأخير الكلام من أول قوله: "وكان مجاهد يقول. . . " ثم الأثر: 5570، إلى ما بعد الأثر: 5571، فيكون السياق: "فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون. وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد: 5570- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب. . . وكان مجاهد يقول في قوله: "فإذا أمنتم" ما: - 5571- حدنا به أبو كريب، قال حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: "فإذا أمنتم"، قال: خرجتم من السفر إلى دار الإقامة. وقوله: "اذكروا الله"، قال: الصلاة، "كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون". قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد. . . " هذا ما أرجح أن أصل الطبري كان عليه، وأخطأ الناسخ فهم إشارة الناسخ قبله بقوله: "ها هنا" يعني نقل الكلام من هناك إلى"ها هنا". ولكني لم أستجز هذا التغيير في المطبوعة، وإن كنت لا أشك فيما رجحته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد، قول غيره أولى بالصواب منه، لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال، فواجب على المصلي المكتوبة- وإن كان في سفر- أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها، وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب، كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره وبلده، إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره. ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر، فيتوجه قوله:"فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون"، إليه. وإنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن، وحال شده الخوف، فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما. (1) ثم قال:"فإذا أمنتم" فزال الخوف، فأقيموا صلاتكم   (1) في المخطوطة: "وصفه الواجب عليهم"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 وذكري فيها وفي غيرها، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف. وبعد، (1) فإن كان جرى للسفر ذكر، ثم أراد الله تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصلاة بعد مقامهم، لقال: فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون= ولم يقل:"فإذا أمنتم". وفي قوله تعالى ذكره:"فإذا أمنتم"، الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه، وخلاف قول مجاهد. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والذين يتوفون منكم"، أيها الرجال ويذرون أزواجا = يعني زوجات كن له نساء في حياته، بنكاح= لا ملك يمين. ثم صرف الخبر عن ذكر من ابتدأ الخبر بذكره، نظير الذي مضى من ذلك في قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] (3) إلى الخبر عن ذكر أزواجهم. وقد ذكرنا وجه   (1) في المطبوعة: "قبل حدوث حال الخوف وبعده، فإن كان جرى للسفر ذكر. . . " وهو خلط قبيح، جعل بعض المصححين يضع مكان"فإن كان جرى"، "فلو كان جرى. . . " فترك الكلام خلطا لا معنى له، وصحح ما ليس في حاجة إلى تصحيح!! هذا، والصواب ما في المخطوطة كما أثبته. (2) في المطبوعة: "وإلى خلاف قول مجاهد"، بزيادة"إلى"، وهي زيادة فاسدة مفسدة. وقوله: "خلاف" معطوف على قوله: "على صحة قول. . . " (3) اقتصر في المخطوطة والمطبوعة على ذكر الآية إلى قوله: "ويذرون أزواجا"، فأتممتها للبيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 ذلك، ودللنا على صحة القول فيه في نظيره الذي قد تقدم قبله، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * ثم قال تعالى ذكره:"وصية لأزواجهم"، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأ بعضهم:"وصية لأزواجهم"، بنصب"الوصية"، بمعنى: فليوصوا وصية لأزواجهم، أو: عليهم [أن يوصوا] وصية لأزواجهم. (2) * * * وقرأ آخرون: (وَصِيِّةٌ لأزْوَاجِهِمْ) برفع"الوصية". * * * ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع"الوصية". فقال بعضهم: رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية. واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله. (3) فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم- ثم ترك ذكر"كتبت"، ورفعت"الوصية" بذلك المعنى، وإن كان متروكا ذكره. * * * وقال آخرون منهم: بل"الوصية" مرفوعة بقوله:"لأزواجهم" فتأول: لأزواجهم وصية. * * * والقول الأول أولى بالصواب في ذلك، وهو أن تكون"الوصية" إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتبت عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت، فإذا أظهرت بدأت به قبلها، فتقول:"جاءني رجل اليوم"،   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 77-79. (2) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. (3) قراءة عبد الله بن مسعود: {كتب عليكم الوصية لأزواجكم} انظر شواذ القراءات لابن خالويه: 15، ومعاني القرآن للفراء: 1/156، وغيرها المصححون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 وإذا قالوا:"رجل جاءني اليوم" لم يكادوا أن يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب"هذا"، (1) أو غائب قد علم المخبر عنه خبره، أو بحذف"هذا" وإضماره وإن حذفوه، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم، كما قال الله تعالى ذكره: (سورة أنزلناها) [سورة النور: 1] و (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة التوبة: 1] ، فكذلك ذلك في قوله:" وصية لأزواجهم". * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا كان حقا لها قبل نزول قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] ، وقبل نزول آية الميراث (2) =ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك، أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به. * * * فإن قال قائل: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: لما قال الله تعالى ذكره:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم"، وكان الموصي لا شك، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته، (3) وكان محالا أن يوصي بعد وفاته، كان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته (4) =، (5) علمنا أنه حق لها وجب في ماله بغير وصية منه   (1) في المخطوطة"لم يكادوا أن يقولونه. . . "، وفي المطبوعة: "أن يقولوه"، وأرجح أن الصواب ما أثبت بإسقاط"أن" التي في المخطوطة. (2) انظر ما سيأتي ص: 254-258. (3) في المطبوعة: "يؤمر بإنفاذه. . . "، والصواب من المخطوطة. (4) في المطبوعة: "فكان تعالى ذكره إنما جعل. . . " بالفاء مكان الواو، والصواب من المخطوطة. وفي المطبوعة: "سكنى الحول"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء. (5) في المطبوعة: "علما بأنه حق لها"، وفي المخطوطة"علمنا به حق" غير منقوطة، والصواب ما أثبت، وسياق الجملة: "لما قال الله تعالى. . . وكان الموصى. . . وكان محالا. . . وكان تعالى ذكره. . . = علمنا أنه حق. . . " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 لها، إذ كان الميت مستحيلا أن يكون منه وصية بعد وفاته. * * * ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال:"فليوص وصية"، لكان التنزيل: والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا، وصية لأزواجهم، (1) كما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) [سورة البقرة: 18] * * * وبعدُ، فلو كان ذلك واجبًا لهن بوصية من أزواجهن المتوفّين، لم يكن ذلك حقًّا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن قبل وفاتهم، ولكان قد كان لورثتهم إخراجهن قبل الحول، (2) وقد قال الله تعالى ذكره:"غير إخراج". ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئُه:"وصيةً لأزواجهم"، بمعنى: أن الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ. وإنما تأويل ذلك: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في"سورة النساء" (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) [سورة النساء: 12] ، ثم ترك ذكر:"كتب الله"، اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ورفعت"الوصية" بالمعنى الذي قلنا قبل. * * * فإن قال قائل: فهل يجوز نصب"الوصية" [على الحال، بمعتى موصين] لهن وصية؟ (3)   (1) هذا رد الطبري على من قرأها بالنصب. (2) في المطبوعة: "ولكان لورثتهم إخراجهن" بإسقاط"قد كان"، وفي المخطوطة: "ولكان لورثتهم قد كان إخراجهن"، بتقديم"لورثتهم"، والصواب ما أثبت. (3) كان مكان ما بين القوسين بياض في المخطوطة والمطبوعة، وهذه الزيادة بين القوسين استظهرتها من سياق الكلام. وهو يريد في كلامه الآتي خروج الحال مصدرا نحو قولهم: "طلع بغتة، وجاء ركضا، وقتلته صبرا، ولقيته كفاحا". وانظر سيبوبه 1: 186، وأوضح المسالك 1: 195 وغيرهما. هذا ما استطعت أن أقدره من كلام أبي جعفر ورده هذا القول، وكأنه الصواب إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 قيل: لا لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم"الوصية" من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه، فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منه، فغير جائز نصبها بذلك المعنى. * * * * ذكر بعض من قال: إن سكنى حول كامل كان حقا لأزواج المتوفين بعد موتهم= على ما قلنا= (1) أوصى بذلك أزواجهن لهن أو لم يوصوا لهن به، وأن ذلك نسخ بما ذكرنا من الأربعة الأشهر والعشر والميراث. 5572- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، فقال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في"سورة النساء"، فجعل لها فريضة معلومة: الثمن إن كان له ولد، والربع إن لم يكن له ولد، وعدتها أربعة أشهر وعشرا، فقال تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول. 5573- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" الآية، قال: كان هذا من قبل أن تنزل آية الميراث، فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت، فنسخ ذلك في"سورة النساء"، فجعل لها فريضة معلومة: جعل لها الثمن إن كان له ولد، وإن لم يكن له ولد فلها الربع، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشر، فقال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .   (1) انظر ما سلف ص: 252 والتعليق رقم: 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 5574- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، فكان الرجل إذا مات وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته، ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها. إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) [سورة النساء: 12] ، فبين الله ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة. 5575- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، كان الرجل إذا توفي أنفق على امرأته في عامه إلى الحول، ولا تزوج حتى تستكمل الحول. وهذا منسوخ: نسخ النفقة عليها الربع والثمن من الميراث، ونسخ الحول أربعة أشهر وعشر. 5576- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، قال: الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول، ولا تزوج حتى يمضي الحول، فأنزل الله تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، فنسخ الأجل الحول، ونسخ النفقة الميراث الربع والثمن. 5577- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، قال: كان ميراث المرأة من زوجها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 من ربعه: (1) أن تسكن إن شاءت من يوم يموت زوجها إلى الحول، يقول:"فإن خرجن فلا جناح عليكم" الآية، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث= قال، وقال مجاهد:"وصية لأزواجهم" سكنى الحول، ثم نسخ هذه الآية الميراث. 5578- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان لأزواج الموتى حين كانت الوصية، نفقة سنة. فنسخ الله ذلك الذي كتب للزوجة من نفقة السنة بالميراث، فجعل لها الربع أو الثمن= وفي قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، قال: هذه الناسخة. * * * * ذكر من قال: كان ذلك يكون لهن بوصية من أزواجهن لهن به: 5579- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" الآية، قال: كانت هذه من قبل الفرائض، فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء. ثم نسخ ذلك بعد، فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم، وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن، وإن لم يكن له ولد فلها الربع. وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها، ثم تحول من بيته. فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا، ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون. 5580- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم"، إلى"فيما فعلن في أنفسهن من معروف"، يوم نزلت هذه الآية، كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته   (1) في المطبوعة: "من ريعه" بالياء المثناة التحتية. وليس لها معنى هنا. والربع: المنزل والدار والمسكن، وفي حديث أسامة أنه قال له: "هل ترك لنا عقيل من ربع؟ ": أي منزل، والجمع رباع وربوع وأربع. وهذه الكلمة"من ربعه" أسقطها الدر المنثور من روايته للأثر 1: 309. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 بنفقتها وسكناها سنة، وكانت عدتها أربعة أشهر وعشرا، فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا، انقطعت عنها النفقة، فذلك قوله:"فإن خرجن"، وهذا قبل أن تنزل آية الفرائض، فنسخه الربع والثمن، فأخذت نصيبها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة. 5581- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، يزعم قتادة أنه كان يوصى للمرأة بنفقتها إلى رأس الحول. * * * * ذكر من قال:"نسخ ذلك ما كان لهن من المتاع إلى الحول، من غير تبيينه على أي وجه كان ذلك لهن": (1) 5582- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن إبراهيم في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول"، قال: هي منسوخة. 5583- حدثنا الحسن بن الزبرقان قال، حدثنا أسامة، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت إبراهيم يقول، فذكر نحوه. 5584- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن حصين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، نسخ ذلك بآية الميراث وما فرض لهن فيها من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا. 5585- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام يخطب الناس ها هنا، فقرأ لهم سورة   (1) في المطبوعة: "من غير بينة"، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 البقرة، فبين لهم فيها، (1) فأتى على هذه الآية: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) [سورة البقرة: 180] ، قال: فنسخت هذه. ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" إلى قوله:"غير إخراج"، فقال: وهذه. (2) * * * وقال آخرون: هذه الآية ثابتة الحكم، لم ينسخ منها شيء. * ذكر من قال ذلك: 5586- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] ، قال: كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها، فأنزل الله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، إلى قوله:"من معروف". قال: جعل الله لهم تمام السنة، سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره:"غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم"، قال: والعدة كما هي واجبة. 5587- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5588- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل= عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهله، تعتد   (1) في المطبوعة: "فبين لهم فيها"، والصواب ما في المخطوطة ورقم: 2652، أي فسر لهم منها ما فسر. (2) الأثر: 5585- مضى مختصرا برقم: 2652. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 حيث شاءت، وهو قول الله:"غير إخراج". قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله تعالى ذكره:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن" = قال عطاء: جاء الميراث بنسخ السكنى، تعتد حيث شاءت ولا سكنى لها. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم، سكنى حول في منزله، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة، (1) ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه، وإن هن تركن حقهن من ذلك وخرجن، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج. ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث، وأبطل مما كان جعل لهن من سكنى حول سبعة أشهر وعشرين ليلة، وردهن إلى أربعة أشهر وعشر، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5589- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج قال، أخبرنا حيوة بن شريح، عن ابن عجلان، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وأخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة، عن فريعة أخت أبي سعيد الخدري: أن زوجها خرج في طلب عبد له، فلحقه بمكان قريب فقاتله، وأعانه عليه أعبد معه فقتلوه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها خرج في طلب عبد له، فلقيه علوج فقتلوه، وإني في مكان ليس فيه أحد غيري، وإن أجمع لأمري أن أنتقل إلى أهلي! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل امكثي مكانك حتى يبلغ الكتاب أجله. (2)   (1) في المخطوطة: "إلى انقضاء وجب"، وما بينهما بياض، وما في المطبوعة أشبه بالصواب (2) الحديث: 5589- حجاج: هو ابن رشدين بن سعد. وهو الذي يروي عن حيوة بن شريح، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وهو -عندنا- ثقة. وقد مضت ترجمته مفصلة في: 763. ابن عجلان: هو محمد بن عجلان المدني الثقة، مضى في: 304. سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: مضى في: 5090. وقد وقع في المطبوعة هنا"سعيد" بدل"سعد" - كما وقع فيما مضى. والأشهر ما أثبتنا. والحديث مضى مختصرا: 5090، من رواية فليح بن سليمان، عن سعد بن إسحاق، بهذا الإسناد. وفصلنا القول في تخريجه، مطولا ومختصرا، كأنا استوعبنا هناك ما وجدنا من طرقه، إلا روايات الطحاوي فقد رواه في معاني الآثار 2: 45-46 بتسعة أسانيد. وإلا الطريق التي هنا، فلم نكن رأيناها. ثم لم نجد هذه الطريق في شيء من الدواوين، غير الطبري. أما الحديث في ذاته فصحيح، ورواياته الصحاح - التي أشرنا إليها هناك: مطولة مفصلة بأكثر مما هنا. فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد: هي بضم الفاء بالتصغير، في أكثر الروايات. ووقع اسمها في المخطوطة هنا"الفارعة". ولم أجدها في شيء من الروايات هكذا، إلا في إحدى روايات النسائي 2: 113. وكذلك لم يذكر الحافظ في الإصابة هذ الرواية إلا عن رواية النسائي. والحديث ذكره ابن كثير 1: 588-589، عن رواية الموطأ، التي أشرنا إليها فيما مضى. وهي في الموطأ، ص: 591. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 وأما قوله:"متاعا"، فإن معناه: جعل ذلك لهن متاعا، أي الوصية التي كتبها الله لهن. وإنما نصب"المتاع"، لأن في قوله:"وصية لأزواجهم"، معنى متعهن الله، فقيل:"متاعا"، مصدرا من معناه لا من لفظه. * * * وقوله:"غير إخراج"، فإن معناه أن الله تعالى ذكره جعل ما جعل لهن من الوصية متاعا منه لهن إلى الحول، لا إخراجا من مسكن زوجها= يعني: لا إخراج فيه منه حتى ينقضي الحول. فنصب"غير" على النعت ل"لمتاع"، كقول القائل:"هذا قيام غير قعود"، بمعنى: هذا قيام لا قعود معه، أو: لا قعود فيه. * * * وقد زعم بعضهم أنه منصوب بمعنى: لا تخرجوهن إخراجا، وذلك خطأ من القول. لأن ذلك إذا نصب على هذا التأويل، كان نصبه من كلام آخر غير الأول، وإنما هو منصوب بما نصب"المتاع" على النعت له. (1) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 156. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم، ونهى ورثته عن إخراجهن، إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن، وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن، بغير إخراج من ورثة الميت. ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا حرج على أولياء الميت في خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن. لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل، لم يكن فرضا عليهن، وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى ذكره لهن إن أقمن تمام الحول محدات. فأما إن خرجن فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف، وذلك ترك الحداد. يقول: فلا حرج عليكم في التزين إن تزينّ وتطيبن وتزوجن، لأن ذلك لهن. وإنما قلنا:"لا حرج عليهنّ في خروجهن"، وإن كان إنما قال تعالى ذكره:"فلا جناح عليكم"، لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح، لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج، مع قدرتهم على منعهنّ من ذلك. ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد، وضع عن أولياء الميت وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف، وذلك في أنفسهن. وقد مضت الرواية عن أهل التأويل بما قلناه في ذلك قبل. * * * وأما قوله:"والله عزيز حكيم"، فإنه يعني تعالى ذكره:"والله عزيز"، في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء، فمنع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 كان من الرجال نساءهم وأزواجهم ما فرض لهن عليهم في الآيات التي مضت قبل: من المتعة والصداق والوصية، وإخراجهن قبل انقضاء الحول، وترك المحافظة على الصلوات وأوقاتها= ومنع من كان من النساء ما ألزمهن الله من التربص عند وفاة أزواجهن عن الأزواج، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات="حكيم"، فيما قضى بين عباده من قضاياه التي قد تقدمت في الآيات قبل قوله:"ولله عزيز حكيم"، وفي غير ذلك من أحكامه وأقضيته. * * * القول في تأويل قوله جل ذكره {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج،"متاع". يعني بذلك: ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم، وغير ذلك مما يستمتع به. وقد بينا فيما مضى قبل معنى ذلك، واختلاف أهل العلم فيه، والصواب من القول من ذلك عندنا، بما فيه الكفاية من إعادته. (1) * * * وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات. فقال بعضهم: عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن. قالوا: وإنما قلنا ذلك، لأن [الحقوق اللازمة للمطلقات] غير المدخول بهن في المتعة، (2) قد بينها الله   (1) انظر معنى"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 /ثم 3: 53-55 /ثم الموضع الذي عناه الطبري هنا: 120-135. (2) في المخطوطة: "لأن غير المدخول بهن"، وبينهما بياض، فجاءت المطبوعة وصلت الكلام: "لأن غير المدخول بهن" فاختلت الجملة، واستظهرت ما زدته بين القوسين من معنى الآيات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 تعالى ذكره في الآيات قبلها، فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك. * ذكر من قال ذلك: 5590- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء في قوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، قال: المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف. 5591- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله= وزاد فيه: ذكره شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء. * * * وقال آخرون: بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة، إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت، وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة. * ذكر من قال ذلك: 5592- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، قال: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين. 5593- حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يونس، عن الزهري- في الأمة يطلقها زوجها وهي حبلى- قال: تعتد في بيتها. وقال: لم أسمع في متعة المملوكة شيئا أذكره، (1) وقد قال الله تعالى ذكره:"متاع بالمعروف حقا على المتقين"، ولها المتعة حتى تضع.   (1) في المطبوعة: "وقال: لم أسمع. . . "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 5594- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى (1) قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قلت له: أللأمة من الحر متعة؟ قال: لا. قلت: فالحرة عند العبد؟ قال: لا= وقال عمرو بن دينار: نعم،"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين". * * * وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة: 236] ، قال رجل من المسلمين: فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن. فأنزل الله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فوجب ذلك عليهم. * ذكر من قال ذلك: 5595- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فقال رجل: فإن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل! فأنزل الله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله سعيد بن جبير، من أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة. لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء، خصوصا من النساء، فبين في الآية التي قال فيها: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [سورة البقرة: 236] ، وفي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "هناد بن موسى"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم. والصواب ما أثبت/ انظر الأثر قبله رقم: 5593، وفي مواضع كثيرة قبل ذلك بمثل هذا الإسناد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [سورة الأحزاب: 49] ، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس، وبقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) [سورة الأحزاب: 28] ، حكم المدخول بهن، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن، وحكم الكوافر والإماء. فعم الله تعالى ذكره بقوله:" وللمطلقات متاع بالمعروف" ذكر جميعهن، وأخبر بأن لهن المتاع، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن، (1) ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية. * * * وأما قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، فإنا قد بينا معنى قوله:"حقا"، ووجه نصبه، والاختلاف من أهل العربية في قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة: 236] ، ففي ذلك مستغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * فأما"المتقون": فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له، ووجلا منهم من عقابه. وقد تقدم بيان تأويل ذلك نصا بالرواية. (3) * * * القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم، أيها المؤمنون، وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض   (1) في المطبوعة: "كما أبان المطلقات. . . "، وفي المخطوطة: "كما المطلقات" وما بين الكلامين بياض، واستظهرت من قوله: "نعم الله تعالى. . . "، أن اللفظ الناقص في البياض هو"خص"، أو معنى يشبهه ويقاربه. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 137، 138. (3) انظر فهارس اللغة فيما سلف مادة"وقى". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 في هذه الآيات، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب، لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، وعاجلكم وآجلكم، فتعلموا به ليصلح ذات بينكم، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم. * * * القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ألم تر"، ألم تعلم، يا محمد؟ = وهو من"رؤية القلب" لا رؤية العين"، (1) لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر، و"رؤية القلب": ما رآه، وعلمه به. (2) فمعنى ذلك: ألم تعلم يا محمد، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟ * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وهم ألوف". فقال بعضهم: في العدد، بمعنى جماع"ألف". * ذكر من قال ذلك: 5596- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع= قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم   (1) انظر ما سلف في معنى"الرؤية" 3: 75-79. (2) في المطبوعة: "وعلمه به" بزيادة الواو، وهي فاسدة، والصواب من المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 وهم ألوف حذر الموت"، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا:"نأتي أرضا ليس فيها موت"! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله:"موتوا". فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية:"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". (1) 5597- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم الله، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم. 5598- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم وقالوا:"يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه"! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا، فإن فيها أربعة آلاف= قال وهب: وهم الذين قال الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع. فناداهم حزقيل فقال: (2) "يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي"! فاجتمع عظام كل   (1) الأثران: 5596، 5597- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 281، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الذهبي"ميسرة، لم يرويا له وروى له البخاري في الأدب المفرد. وانظر ابن كثير 1: 590، والدر المنثور 1: 310. و"ميسرة"، هو: "ميسرة بن حبيب النهدي"، مترجم في التهذيب. (2) في المخطوطة: "فناداه"، وعلى الهاء من فوق حرف"ط"، وفي الدر المنثور 1: 311"فنادى حزقيل"، وفي المطبوعة: "فناداهم"، وأثبت ما في تاريخ الطبري 1: 237. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 إنسان منهم معا. (1) ثم نادى ثانية حزقيل فقال:"أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم"، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال:"أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك"! (2) فقاموا بإذن الله، وكبروا تكبيرة واحدة. (3) 5599- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، يقول: عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فذلك قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . 5600- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أشعث بن أسلم البصري قال: بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه = وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى= (4) فقال أحدهم لصاحبه، (5) أهو هو؟ فلما انفتل عمر قال: (6)   (1) بعد هذا في الدر المنثور 1: 311: [ثم قال: "أيتها العظام، إن الله يأمرك أن ينبت العصب والعقب" فتلازمت واشتدت بالعصب والعقب] . وفي تاريخ الطبري: "يا أيتها العظام النخرة" (2) في المطبوعة: "إلى أجسادك"، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري، والدر المنثور. (3) الأثر: 5598: "محمد بن سهل بن عسكر" التميمي، أبو بكر النجاري الحافظ الجوال قال النسائي وابن عدي: "ثقة" سكن بغداد ومات بها سنة 251، مترجم في التهذيب و"إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه الصنعاني"، روى عن ابن عمه إبراهيم بن عقيل، وعمه عبد الصمد بن معقل، وروى عنه أحمد بن حنبل، قال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. توفي باليمن سنة 210. مترجم في التهذيب. والأثر رواه الطبري بهذا الإسناد في التاريخ 1: 237، والدر المنثور 1: 311. (4) خوى الرجل في سجوده: تجافى وفرج ما بين عضديه وجنبيه وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد خوى. (5) في المطبوعة: "فقال أحدهم"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري. (6) انفتل فلان من صلاته: انصرف بعد قضائها، ومثله: "فتل وجهه عن القوم"، صرفه ولواه عنهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ (1) فقالا إنا نجده في كتابنا: (2) "قرنا من حديد، يعطى ما يعطى حزقيل الذي"أحيى الموتى بإذن الله". فقال عمر: ما نجد في كتاب الله"حزقيل" ولا"أحيى الموتى بإذن الله"، إلا عيسى. فقالا أما تجد في كتاب الله (وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ، (3) [سورة النساء: 164] ، فقال عمر: بلى! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك: إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله، (4) فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، الآية. (5) 5601- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج بن أرطأة قال: كانوا أربعة آلاف.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "رأيت" بغير همزة استفهام، والصواب من الطبري، والدر المنثور. وقول العرب"أرأيت كذا"، يريدون به معنى الاستخبار، بمعنى أخبرني عن كذا. (2) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "إنا نجد في كتابنا"، وفي المخطوطة والد المنثور: "نجده" وهو الذي أثبت. وفي تاريخ الطبري بعد"يعطي ما أعطى حزقيل". والقرن (بفتح فسكون) : الحصن، والقرن أيضًا: الجبيل المنفرد. وقرن الجبل: أعلاه. (3) في المطبوعة: "رسلا لم يقصصهم" بحذف الواو، وبالياء من"يقصصهم"، وفي المخطوطة كذلك إلا أن"الياء" غير منقوطة، وأثبت نص الآية، على ما جاءت في تاريخ الطبري. (4) في المطبوعة: "فقام عليهم ما شاء الله"، والصواب من المراجع والمخطوطة. (5) الأثر: 5600- رواه الطبري في تاريخه 1: 238، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 311. وفي المطبوعة والمخطوطة والدر: "أشعث بن أسلم البصري"، وفي التاريخ"أشعث عن سالم النصري"، و"أشعث بن أسلم العجلي البصري ثم الربعي"، روى عن أبيه أنه رأى أبا موسى الأشعري، روى عنه سعيد بن أبي عروبة. مترجم في ابن أبي حاتم 1 /1 /269. وأما"سالم النصري"، فهو: سالم بن عبد الله النصري، هو"سالم سبلان"، مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2 /1 /184، روى عن عمان وعائشة وأبي سعيد، وأبي هريرة. روى عنه سعيد المقبري، وبكير بن عبد الله وغيرهما. وأنا أظن أن الذي في التاريخ أقرب إلى الصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 5602- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، إلى قوله:"ثم أحياهم"، قال: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، (1) وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كبير. (2) فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم! فوقع في قابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح، (3) فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا! فماتوا، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم، مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه، (4) فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ = قال: وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم= فقال: نعم! فقيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي! "، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض، حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما"، فاكتست لحما ودما، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها. ثم قيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي"، فقاموا. 5603- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر، عن مجاهد: أنهم قالوا حين أحيوا:"سبحانك ربنا وبحمدك   (1) في المخطوطة: "دار وردان" بزيادة راء، والصواب ما في تاريخ الطبري، والدر المنثور، ومعجم البلدان، وهي من نواحي شرقي واسط، بينهما فرسخ. (2) في التاريخ: "فلم يمت منهم كثير". (3) الأفيح والفياح: الواسع المنتشر النواحي، ويقال: روضة فيحاء، من ذلك. (4) في المطبوعة: "يلوي شدقيه"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. ولوى شدقه: أماله متعجبا مما يرى ويشهد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 لا إله إلا أنت"، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، (1) لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، (2) حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. (3) 5604- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة، عن عطاء الخراساني:" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، قال: كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر. 5605- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، (4) حظر عليهم حظائر، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا، (5) فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم بالجهاد، فذلك قوله:" وقاتلوا في سبيل الله" الآية. 5606- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق،   (1) السحنة (بفتح فسكون) : الهيئة واللون والحال، وبشرة الوجه والمنظر. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "إلا عاد كفنا دسما"، وضبط في التاريخ بضم الدال وسكون السين، وهو خطأ، فإن هذا جمع أدسم ودسما، وليس هذا مقام جمع. وقوله: "كفنا دسما مثل الكفن" ليس بلبسان عربي، فحذفتها وأثبت ما في التاريخ، وأما الرواية الأخرى في الدر المنثور فهي: "إلا عاد كفنا دسما"، بحذف"مثل الكفن"، فهذه أو تلك هي الصواب. والدسم: ودك اللحم والشحم. وفلان: دسم الثوب وأدسم الثوب، إذا كان ثوبه متلطخا وسخا قد علق به وضر اللحم والشحم. وأكفان الموتى دسم، لما يسيل من أجسادهم بعد تهرئهم وتعفن أبدانهم. (3) الأثران: 5602، 5603- في تاريخ الطبري 1: 237، 238، والدر المنثور 1: 310 بغير هذا اللفظ. (4) في المخطوطة والمطبوعة"أو ثمانية آلاف"، وهو لا يستقيم، والصواب في الدر المنثور 1: 311. (5) الحظائر جمع حظيرة: ما أحاط بالشيء، تكون من قصب وخشب، ليقي البرد والريح والعادية. وحظ حظيرة: اتخذها. والحظر: الحبس والمنع. أروح الماء واللحم وغيرهما وأراح: تغيرت رائحته وأنتن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع، (1) خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي= (2) وهو ابن العجوز، وإنما سمي"ابن العجوز" أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فلذلك قيل له"ابن العجوز"= وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". (3) . 5607- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء= من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس= حذرا من الموت، وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله:"موتوا"، فماتوا جميعا. فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا. فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوزى، (4) فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم، (5) فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم! فقيل له: نادهم فقل: (6) "أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه". فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا. ثم قيل له: قل:"أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك"، قال: فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح. ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء   (1) في التاريخ: "يوفنا" بالفاء. (2) في التاريخ: "بوذي" بالذال. (3) الأثر: 5606- في تاريخ الطبري 1: 237، ثم 238 مختصرا، والدر المنثور: 1: 311. (4) في التاريخ: "بوذى" بالذال. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "ودخله رحمة. . . "، وأثبت ما في تاريخ الطبري. (6) في المخطوطة والمطبوعة: "نادهم فقال. . . "، والصواب من التاريخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 كربه حتى غشي عليه منه، (1) ثم أفاق والقوم جلوس يقولون:"سبحان الله، سبحان الله" قد أحياهم الله. (2) * * * وقال آخرون: معنى قوله"وهم ألوف" وهم مؤتلفون. (3) * ذكر من قال ذلك: 5608- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قول الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم"، قال: قرية كانت نزل بها الطاعون، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت، والتي خرجت لم يصبهم شيء. (4) ثم ارتفع، ثم نزل العام القابل، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت. فلما كان العام الثالث، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم، فقال الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، ليست الفرقة أخرجتهم، كما يخرج للحرب والقتال، قلوبهم مؤتلفة، إنما خرجوا فرارا. فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة، قال لهم الله:"موتوا"، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة. فماتوا، ثم أحياهم الله،"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، (5) فوقف   (1) في المخطوطة: "فتغساه من السماء كربه" غير منقوطة. وفي المطبوعة: "فتغشاهم من السماء كدية"، وهذا كلام بلا معنى، وما أثبته هو نص الطبري في التاريخ. وكربه الأمر: غشيه واشتد عليه وأخذ بنفسه، فهو مكروب النفس. (2) الأثر: 5607- في تاريخ الطبري 1: 238. (3) يعني أنه جمع"إلف" (بكسر الهمزة وسكون اللام) . وقال ابن سيده في"ألوف": "وعندي أنه جمع آلف، كشاهد وشهود"، وانظر سائر كتب التفسير. (4) في المطبوعة: "لم يصبها"، وأثبت ما في المخطوطة. (5) لاح البرق والسيف والعظم يلوح: تلألأ ولمح، وذلك لبياض العظام في ضوء الشمس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 ينظر فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ "، فأماته الله مائة عام. (1) * * * * ذكر الأخبار عمن قال: كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون. 5609- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن الأشعث، عن الحسن في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال. خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم قبل آجالهم، ثم أحياهم إلى آجالهم. 5610- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: 34"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله:"موتوا"! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم. 5611- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فهلك الذين بقوا في القرية، وبقي الآخرون. ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية، فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي. فنجى الله الذين خرجوا، وهلك الذين بقوا. فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [وقد أنكروا قريتهم، ومن تركوا] . وكثروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض: من أنتم؟ (2)   (1) الأثر: 5608- أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 311 مختصرا. وسيأتي مختصرا برقم: 5905. (2) في المخطوطة: "فرجعوا إلى بلادهم، وقد قريتهم ومن تركوا، وكثروا بها، يقول بعضهم لبعض"، بياض بين الكلام، أما المطبوعة فقد أسقطت هذا البياض، فجعلت الكلام: "فرجعوا إلى بلادهم وكروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض"، بزيادة"حتى"، فآثرت أن استظهر معنى الكلام، فأثبت ما في المخطوطة، وظننت أن مكان البياض ما أثبت. هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 5612- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: وقع الطاعون في قريتهم= ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. 5613- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف" الآية، مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم الله عقوبة، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم. 5614- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن هلال بن يساف في قوله تعالى:"ألم تر إلى الذين خرجوا" الآية، قال: هؤلاء القوم من بني إسرائيل، (1) كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم، وأقام فقراؤهم وسفلتهم. قال: فاستحر الموت على المقيمين منهم، ونجا من خرج منهم. فقال الذين خرجوا: لو أقمنا كما أقام هؤلاء، لهلكنا كما هلكوا! وقال المقيمون: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء، لنجونا كما نجوا! فظعنوا جميعا في عام واحد، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم. فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق. قال: فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد، فمر بهم نبي فقال: يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال نعم! قال: فقل: كذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه. ثم تكلم بما أمر، فإذا العظام تكسى لحما. ثم أمر بأمر فتكلم به، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون. ثم قيل لهم: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)   (1) في المطبوعة: "كان هؤلاء القوم من بني إسرائيل، إذا وقع فيهم الطاعون" وفي المخطوطة: "كان هؤلاء قوما من بني إسرائيل، كان إذا وقع. . . "، وضرب الناسخ على ألف"قوما"، وجعلها"قوم"، فتبين لي أن"كان" زائدة من الناسخ، كما جاءت على الصواب في الدر المنثور 1: 311. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 5615- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن حماد بن عثمان، عن الحسن: أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال: هم قوم فروا من الطاعون، فأماتهم الله عقوبة ومقتا، ثم أحياهم لآجالهم. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل قوله:"وهم ألوف" بالصواب، قول من قال:"عنى بالألوف كثرة العدد"= دون قول من قال:"عنى به الائتلاف"، بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن فرارا: إما من الجهاد، وإما من الطاعون= لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين. * * * وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم:"ألوف". وإنما يقال"هم آلاف"، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف. وإنما جمع قليله على"أفعال"، (2) ولم يجمع على"أفعل"= مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا (3) للألف التي في أوله. وشأن العرب في كل   (1) الأثر: 5615-"حماد بن عثمان"، وروى عن عبد العزيز الأعمى عن أنس. روى عنه سعيد بن أبي أيوب، وروى عن الحسن البصري قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حماد بن عثمان فقال: هو مجهول". ترجم له البخاري في الكبير 2 /1 /20، وابن أبي حاتم 1 /2 /144. (2) في المخطوطة: "وإنما جمع قليله وكثيره على أفعال"، وزيادة"كثيره" خطأ، والصواب ما في المطبوعة. (3) في المخطوطة: "وعلى سائر مثل الجمع القليل"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 حرف كان أوله، ياء أو واوا أو ألفا، اختيار جمع قليله على أفعال، كما جمعوا"الوقت""أوقاتا" و"اليوم""أياما"، و"اليسر"و"أيسارا"، للواو والياء اللتين في أول ذلك. وقد يجمع ذلك أحيانا على"أفعل"، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا، ومنه قول الشاعر: (1) كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ... ألفين أعجم من بني الفدام (2) * * * وأما قوله:"حذر الموت"، فإنه يعني: أنهم خرجوا من حذر الموت، فرارا منه. (3) كما: - 5616- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،   (1) هو بكير، أصم بني الحارث بن عباد. (2) النقائض: 645، وتاريخ الطبري 2: 155، والأغاني 20: 139، واللسان (ألف) وغيرها. وهذا البيت من أبيات له في يوم ذي قار، وهو اليوم الذي انتصفت فيه العرب من العجم، وهزمت كسرى أبرويز بن هرمز. وكانت وقعة ذي قار بعد يوم بدر بأشهر، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرها قال: "هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا". وكانت بنو شيبان في هذا اليوم أهل جد وحد، فمدحهم الأعشى وبكير الأصم. هذا وقد روى الطبري هنا"كانوا ثلاثة آلف"، ورواية المراجع جميعا: "عربا ثلاثة آلف. . . " وذلك أن كسرى عقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه: الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلف. وعقد أيضًا للهامرز التستري على ألف من الأساورة، وعقد الخنابزين على ألف، فكانت العجم ألفين. (الأغاني 20/134) ، فهذا تصحيح الرواية المجمع عليها وبيانها، وأول هذه الأبيات: إن كنت ساقية المدامة أهلها ... فاسقي على كرم بني همام وأبا ربيعة كلها ومحلما ... سبقا بغاية أمجد الأيام ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم ... بالمشرفي على مقيل الهام عربا ثلاثة آلف. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وعنى بقوله: "بني الفدام"، الفرس. وذلك أن المجوس كان مما يتدينون به أنهم إذا شرابا، شدوا على أفواههم خرقة كاللثام، فسميت هذه الطائفة منهم: بنو الفدام. (3) انظر ما سلف 1: 354، 355 في تفسير: "حذر الموت" وإعرابها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حذر الموت"، فرارا من عدوهم، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيهم: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة البقرة: 246] * * * قال أبو جعفر: وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، (1) والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه، دون خلقه= وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء، إلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته، (2) كما لم ينفع الهاربين من الطاعون= الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فرارهم من أوطانهم، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة، وبالموئل النجاة من المنية، حتى أتاهم أمر الله، فتركهم جميعا خمودا صرعى، وفي الأرض هلكى، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لذو فضل ومن. على خلقه، بتبصيره إياهم سبيل الهدى، وتحذيره لهم طرق الردى، وغير ذلك من نعمه التي   (1) في المطبوعة: "في سبيل الله" وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "بعقوبته"، وهي في المخطوطة غير منقوطة. وعقوة الدار: ساحتها وما حولها قريبا منها. يقال: نزل بعقوته، ونزلت الخيل بعقوة العدو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم، عبرة يعتبرون بهم، وليعلموا أن الأمور كلها بيده، فيستسلموا لقضائه، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه. (1) ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة، ويمن عليه بمننه الجسيمة، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره، ويتخذ إلها من دونه، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه، ومن الحمد ما يثقله، فقال تعالى ذكره:"ولكن أكثر الناس لا يشكرون"، يقول: لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم، وفضلي الذي تفضلت به عليهم، بعبادتهم غيري، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "فيستسلمون. . . ويصرفون"، وفي المخطوطة: "فيستسلمون. . . ويصرفوا" (2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة بعده ما نصه: "وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا". ثم يبدأ التقسيم التالي بما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وقاتلوا"، أيها المؤمنون="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي هداكم له، (1) لا في طاعة الشيطان= أعداء دينكم، (2) الصادين عن سبيل ربكم، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم، ولا تجبنوا عن حربهم، (3) فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم، (4) فتذلوا، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه، (5) كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، الذين قصصت عليكم قصتهم، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري، وحل بهم قضائي، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه، إذ دافعت عنهم مناياهم، وصرفتها عن حوبائهم، (6) فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني، فإن من حيي منكم فأنا أحييه، (7) ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.   (1) انظر ما سلف في تفسير: "سبيل الله" 3: 583، 592، والمراجع هناك. (2) "أعداء. . . " مفعول"قاتلوا"، والسياق: "قاتلوا أيها المؤمنون. . . أعداء دينكم". (3) في المخطوطة"ولا تحموا عن قتاله عند لقائهم، ولا تحبوا عن حربهم" غير منقوطة، بإفراد ضمير"قتاله"، فغيرها مصححوا المطبوعة، إذ لم يحسنوا قراءتها فجعلوها: "ولا تجبنوا عن لقائهم، ولا تقعدوا عن حربهم" غيروا وبدلوا واسقطوا وفعلوا ما شاءوا!! . وقوله: "ولا تحتموا عن قتالهم" من قولهم: احتميت من كذا وتحاميته: إذا اتقيته وامتنعت منه. و"من" و"عن" في هذا الموضع سواء. (4) في المطبوعة: "فيدعوه ذلك إلى التفريد"، وهو خطأ، وزاده خطأ بعض من علق على التفسير، بشرح هذا اللفظ المنكر. والتعريد: الفرار وسرعة الذهاب في الهزيمة. يقال: "عرد الرجل عن قوله"، إذا أحجم عنه ونكل وفر. (5) وأل إلى المكان يئل، وؤولا ووئيلا ووألا: لجأ إليه طلب النجاة. والموئل: الملجأ. (6) الحوباء: النفس، أو ورع القلب. (7) في المطبوعة: "فأنا أحيحه"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 ثم قال تعالى ذكره لهم: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم"سميع" لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي: لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا="عليم" بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم، (1) وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي. يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين: فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي، وغير ذلك من أمري ونهيي، إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، محيط بذلك كله، حتى أجازي كلا بعمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. * * * قال أبو جعفر: ولا وجه لقول من زعم أن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال، بعد ما أحياهم. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة: = إما أن يكون عطفا على قوله:"فقال لهم الله موتوا"، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله. = أو يكون عطفا على قوله:"ثم أحياهم"، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله بالقتال، وقوله:"ثم أحياهم"، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟ = أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، ثم أسقط"القول"،   (1) في المطبوعة: "بما تخفيه صدورهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وأجن الشيء: ستره وكتمه وأخفاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 كما قال تعالى ذكره: (إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: 12] ، بمعنى يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها. * * * القول في تأويل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: من هذا الذي ينفق في سبيل الله، فيعين مضعفا، (1) أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه. وإنما سماه الله تعالى ذكره"قرضا"، لأن معنى"القرض" إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له، ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة، سماه"قرضا"، إذ كان معنى"القرض" في لغة العرب ما وصفنا. وإنما جعله تعالى ذكره"حسنا"، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه، احتسابا منه. فهو لله طاعة، وللشياطين معصية. (2) وليس   (1) أضعف الرجل فهو مضعف: ضعفت دابته، يعينه بإبداله دابة غيرها. (2) في المطبوعة: "وللشياطين معصية"، وفي المخطوطة: "وللسلطان"، وهو سهو من الناسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه، ولكن ذلك كقول العرب:"عندي لك قرض صدق، وقرض سوء"، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته، (1) كما قال الشاعر: (2) كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيئا، ومدينا بالذي دانا (3) * * * فقرض المرء: ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره: (4) (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 261] . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول: 5617- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال: هذا في سبيل الله="فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: بالواحد سبعمئة ضعف. 5618- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ مما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال: فكان النبي صلى الله   (1) في المطبوعة"يأتي فيه الرجل. . . "، وفي المخطوطة: "يأتي فيه الرجل" غير منقوطة، ونقل أبو حيان في تفسيره 2: 248 هذا القول عن الأخفش، ونصه: "لأمر تأتي مسرته أو مساءته"، ولكني استظهرت قراءتها كما أثبت، فجميع ما مضى تحريف. (2) هو أمية بن أبي الصلت. (3) ديوانه: 63، واللسان (قرض) ، وروايته"أو مدينا مثل ما دنا"، وفي الديوان: "كالذي دانا". (4) في المطبوعة: "قال الله فيها تعالى ذكره"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 عليه وسلم يقول:"كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة! (1) . 5619- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية قال:"أنا أقرض الله"، فعمد إلى خير حائط له فتصدق به. قال، وقال قتادة: يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده. (2) 5620- حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال أبو الدحداح:   (1) الحديث: 5618 - هذا حديث مرسل، فهو ضعيف الإسناد، لأن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر من حدثه به من الصحابة. والحديث ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: 31 (مخطوط مصور) ، عن معمر، به. وهو عند السيوطي 1: 312، ولم ينسبه لغير عبد الرزاق والطبري. وقد ذكر ابن كثير 1: 594 أن ابن مردويه روى نحو الحديث الآتي: 5620"من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، مرفوعا بنحوه". وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ضعيف جدا، كما بينا في: 185 فلا قيمة لهذا الرواية. وسيأتي عقب هذا حديث آخر مرسل بمعناه، ثم: 5620، من حديث ابن مسعود. ونرجئ بيان أصل القصة حتى نتحدث عنها هناك. قوله"ابن الدحداح" و"لابن الدحاح": هذا هو الثابت في تفسير عبد الرزاق، وهو الذي أثبتناه هنا. وفي المخطوطة -فيهما-"الدحداحة". وفي المطبعة"أبو الدحداح"، و"لأبي الدحداح". وما في تفسير عبد الرزاق أرجح، لأنه الأصل الذي روى عنه الطبري. قوله: "إنما أعطانا لأنفسنا": هو الثابت عند عبد الرزاق، وهو أجود. وكان في المطبوعة"مما" بدل"إنما". "العذق" (بفتح فسكون) : النخلة. أما"العذق" -بكسر العين: فهو عرجون النخلة. و"المذلل"- بفتح اللام الأولى مشددة: الذي قد دليت عناقيده، حتى يسهل اجتناء ثمرته، لدنوها من قاطفها. (2) الحديث: 5619- وهذا مرسل أيضًا، فهو ضعيف الإسناد، وآخره موقوف من كلام قتادة. وذكره السيوطي 1: 312، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، فقط. ولم يذكر كلام قتادة في آخره. في المخطوطة: "ويسعر عباده"، هكذا غير معجمة ولا مبينة، وتركت ما في المطبوعة على حاله، فهو في سياقة المعنى. والأثر في الدر المنثور 1: 321، ولكنه أسقط هذه الجملة الأخيرة عن قتادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: (1) . فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "قال: يدك قبل، فناوله"، وفي المخطوطة: "يدك قيل" ثم وضع ألفا على رأس الياء بعد القاف، كأن أراد أن يجعلها"قال" كما أثبتها ورجحتها، لنص مجمع الزوائد 9: 324: "قال: أرنا يدك. قال: فناوله يده". (2) الحديث: 5620 - وهذا إسناد ضعيف جدا. محمد بن معاوية بن يزيد الأنماطي - شيخ الطبري: ثقة مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 3: 274- 275. خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي: ثقة، تغير في آخر عمره، مات نحو سنة 181، وهو ابن 101 سنة، وقد فصلنا القول في ترجمته في المسند: 5885. حميد الأعرج الكوفي القاص: هو حميد بن علي، على ما جزم به البخاري في +الكثير 1/ 2 / 351، والضعفاء، ص: 9. ويقال: "حميد بن عطاء" وهو الذي جزم به ابن أبي حاتم 1 / 2 / 226 - 227، وابن حبان في كتاب المجروحين، رقم: 265. وهو ضعيف جدا. قال البخاري: "منكر الحديث". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، منكر الحديث، قد لزم عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود، ولا يعرف لعبد الله بن الحارث عن ابن مسعود شيء! ". وقال ابن حبان: "يروى عن عبد الله بن الحرث عن ابن مسعود- نسخة كأنها موضوعة. لا يحتج بخبره إذا انفرد". عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب: ثقة. سبق في ترجمة الراوي عنه قول أبي حاتم أنه لا يعرف له شيء عن ابن مسعود. فالبلاء في هذه الرواية من حميد الأعرج. وهذا الحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن خلف بن خليفة، بهذا الإسناد. على ما نقله عنه ابن كثير 1: 593- 594. وذكره السيوطي 1: 312، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن سعد، والبزار، وابن المنذر، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 320، بنحوه. وقال: "رواه البزار، ورجاله ثقات". ثم ذكره مرة أخرى 9: 324 بلفظ آخر نحوه. وقال: " رواه أبو يعلى، والطبراني، ورجالهما ثقات. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح". هكذا قال الهيثمي في الموضعين. وليس عندي إسناد من الأسانيد التي نسبه إليها، ولا الكتب التي ذكرها السيوطي، إلا ابن سعد. ولم أجده فيه، لأن النسخة المطبوعة من طبقات ابن سعد تنقص كثيرا من الكتاب، كما هو معروف. ولقصة أبي الدحداح أصل آخر صحيح. من حديث أنس، رواه أحمد في المسند: 12509 (3: 146 حلبي) ، بإسناد صحيح: "عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي! ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم،. فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من عذق راح، لأبي الدحداح، في الجنة. قالها مرارا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها". وحديث أنس هذا في مجمع الزوائد 9: 323-324. وقال: "رواه أحمد، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح". ووقع في مطبوعة مجمع الزوائد سقط نحو سطر أثناء الحديث، يصحح من هذا الموضع. وله أصل ثان صحيح. فروى مسلم في صحيحه 1: 264، عن جابر بن سمرة، قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح، ثم أتى بفرس عري، فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به، ونحن نتبعه نسعى خلفه، قال: فقال رجل من القوم: إن لنبي صلى الله عليه وسلم قال: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح". "أو قال شعبة: لأبي الدحداح". و"أبو الدحداح": هو ثابت بن الدحداح، أو ابن الدحداحة. ويكنى"أبا الدحداح" أو"أبا الدحداحة"، مترجم في الإصابة 1: 199. ثم ترجمه في الكنى 7: 57 - 58، وذكر الخلاف في أنه واحد أو اثنان. ثم زعم أن الحق أن الثاني غير الأول! واستدل بحديث نقله من رواية أبي نعيم ضعيف، وأن في إسناده رجلا"واهى الحديث"!! فسقط الاستدلال به دون ريب. الحائط: بستان النخيل إذا كان عليه جدار يحيط به، فإن لم يكن عليه الحائط فهو"ضاحية". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وأما قوله:"فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حد له ولا نهاية، كما: - 5621- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو. وقد: - 5622- وقد حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال: إن الله أعطاكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة، إلى أكثر من ذلك. وإن أخذها منكم وأنتم كارهون، فصبرتم وأحسنتم، كانت لكم الصلاة والرحمة، وأوجب لكم الهدى. (1) * * * قال أبو جعفر: وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (فيضاعفه) بالألف ورفعه، بمعنى: الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له= نسق"يضاعف" على قوله:"يقرض". * * * وقرأه آخرون بذلك المعنى: (فيضعفه) ، غير أنهم قرءوا بتشديد"العين" وإسقاط"الألف". * * * وقرأه آخرون: (فيضاعفه له) بإثبات"الألف" في"يضاعف" ونصبه، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام: من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله:"فيضاعفه" جوابا للاستفهام، وجعلوا:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" اسما. لأن"الذي" وصلته، بمنزلة"عمرو" و"زيد". فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل:"من أخوك فتكرمه"، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء= إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل= نصبه. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: (فيضاعفه له) بإثبات"الألف". ورفع"يضاعف". لأن في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" معنى الجزاء. والجزاء إذا دخل في جوابه"الفاء"، لم يكن جوابه   (1) يريد قول الله تعالى في [سورة البقرة: 156، 157] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 ب"الفاء" لا رفعا. فلذلك كان الرفع في"يضاعفه" أولى بالصواب عندنا من النصب. وإنما اخترنا"الألف" في"يضاعف" من حذفها وتشديد"العين"، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب. * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي: - 5623- حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج= وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا= حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد وقتادة، عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله الباسط القابض الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال". (1) . * * *   (1) الحديث: 5623 -عبد الملك بن محمد الرقاشي أبو قلابة- شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 4331. الحجاج؛ هو ابن المنهال الأنماطي. أبو ربيعة: هو زيد بن عوف القطعي، ولقبه"فهد". تكلموا فيه كثيرا لأحاديث رواها عن حماد بن سلمة. وأما البخاري فقال في الكبير 2/1/ 369: "سكتوا عته". وهو مترجم أيضًا في ابن أبي حاتم 1/2/ 570 - 571، ولسان الميزان. ومهما يكن من شأنه، فإنه لم ينفرد بهذا الحديث، فلا يؤثر فيه ضعفه إن كان ضعيفا. والحديث صحيح بهذا الإسناد، من جهة الحجاج بن المنهال، ومن الروايات الأخر التي سنذكر. فرواه أحمد في المسند: 12618 (3: 156 حلبي) ، عن سريج ويونس بن محمد، عن حماد ابن سلمة، عن قتادة وثابت البناني، عن أنس. ورواه أيضًا: 14102 (3: 286 حلي) ، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وثابت وحميد، عن أنس. ورواه الترمذي 2: 271- 272، وابن ماجه: 2200- كلاهما من طريق الحجاج بن النهال بهذا الإسناد. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه أبو دواد: 3451، من طريق عفان، عن حماد، به. وذكره السيوطي 1: 313، وزاد نسبته للبيهقي في السنن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 قال أبو جعفر: يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره:،"والله يقبض ويبسط"، يعني بقوله:"يقبض"، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه= ويعني بقوله: و"يبسط" يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم. وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله، فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله، (1) فقال تعالى ذكره: من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني -أيها الموسع- (2) الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به= والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به، من غنى وفاقة، وسعة وضيق، عند رجوعكما إلي في آخرتكما، ومصيركما إلي في معادكما. * * *   (1) الحمولة (بفتح الحاء) : كل ما يحمل عليه الناس من إبل وحمير وغيرها. والحمولة (بضم الحاء) الأحمال والأثقال. هذا وأخشى أن يكون صواب العبارة في الأصل"بالأنفاق عليه وعلىحملته" وقوله: "علي النهوض" متعلق بقوله: "ومعونته". (2) في المطبوعة: "فإني أنا الموسع الذى قبضت"، وهو كلام لا يستقيم أبدا، والصواب ما في المخطوطة. و"الموسع": الغني الذى كثر ماله. من قولهم: "أوسع الرجل"، صار ذا سعة وغنى وكثر ماله. وقال الله تعالى: "علي الموسع قدره وعلي المقتر قدره". وانظر ما سلف في تفسير"الوسع" في هذا الجزء: 45. وسياق العبارة"فانى .... الذي قبضت". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" الآية، قال: علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى، فندب هؤلاء فقال:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط"؟ قال: بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، (1) وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له، فقوه مما في يدك، يكن لك في ذلك حظ. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإلى الله معادكم، أيها الناس، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه، وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عن رزقه- إقتاره على معصيته، والتقدم على ما نهاه، (2) فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه، ما لا قبل له به من أليم عقابه. (3) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يبسط عليك" مضارعا، وهو لا يطابق قوله بعد: "وقبض". فجعلتها"بسط"، وإن شئت جعلت الأخرى: "ويقبض"، كما في الدر المنثور 1: 313، وأنا أرجع الأولى. (2) في المطبوعة: "وأن يحل بالمقتر منكم فقبض عنه رزقه، إقتاره .... "، وهو كلام فاسد وفي المخطوطة: "وأن يحمل المقتر منكم فقبض عنه رزقه. . . " وهو لا يستقيم أيضًا، ورجحت أن تكون الأولى" المقتر" كما في المخطوطة، وأن تكون الأخرى"إذ قبض"، أو"بقبضه عنه ... " وسياق الجملة: "وأن يحمل المقتر منكم ... إقتاره علي معصيته) . (3) في المطبوعة: "فيستوجب بذلك منه بمصيره. . . وهو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "عنه مصيره"، وظاهر أن الهاء المرسلة من"عنه"، دال"عند". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 وكان قتادة يتأول قوله:"وإليه ترجعون"، وإلى التراب ترجعون. (1) 5625- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإليه ترجعون"، من التراب خلقهم، وإلى التراب يعودون. (2) * * *   (1) في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب ... " وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق. (2) في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب ... " وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر"، ألم تر، يا محمد، بقلبك، (1) فتعلم بخبري إياك، يا محمد="إلى الملأ"، يعني: إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم="من بعد موسى"، يقول: من بعد ما قبض موسى فمات="إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل (2) بن بالى (3) بن علقمة (4) بن يرحام (5) بن إليهو (6) بن تهو بن   (1) انظر معنى"ألم تر"، و" الرؤية" فيما سلف: ص: 266، والمراجع في التعليق. (2) ساذكر في التعليقات الآتية ما جاء في هذا النسب من الأسماء، على رسمها في كتاب القوم الذي بين أيدينا، من أخبار الأيام الأول. في الإصحاح السادس. و"شمويل" هناك هو"صموئيل". (3) "بالي"، لم يرد له ذكر في نسب"شمويل" من كتاب القوم، بل هو عندهم"صموئيل بن"القانة". (4) (ألقانة) (5) (يروحام) . وفي المطبوعة: "برحام" خطأ، وهو في المخطوطة غير منقوط وأما في تاريخ الطبري 1: 242 فهو بالحاء المعجمة. (6) (إيليئيل) . الظاهر أنه هو"إليهو". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 صوف (1) بن علقمة بن ماحث (2) بن عموصا (3) بن عزريا بن صفنية (4) بن علقمة بن أبي ياسف (5) بن قارون (6) بن يصهر (7) بن قاهث (8) بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. 5626- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (9) عن وهب بن منبه. 5627- وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: هو شمويل، هو شمويل- ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق. (10) * * * وقال السدي: بل اسمه شمعون. وقال: إنما سمي"شمعون"، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب الله لها دعاءها، فرزقها، فولدت غلاما فسمته   (1) (توح) ، وفي المطبوعة: "يهو صوق"، وهو خطأ، وفي المخطوطة"بهو صوف" غير منقوط، وكلاهما أسقط"بن" بين الكلمتين. والصواب من تاريخ الطبري. و" توح" مذكور في كتاب القوم، في كتاب صموئيل الأول، الإصحاح الأول برسم: "توحو". (2) (محث) . (3) (عما ساى) والنسب في كتاب القوم بعد ذلك: "عما ساى بن ألقانة بن يوثيل بن عز ريا بن صفنيا بن تحث بن أسير بن أبياساف"، وبعضه لم يذكر في النسب الذي رواه الطبري، وفيما رواه بعد ذلك تقديم وتاخير كما ترى. (4) (صفنيا) ، وفي المطبوعة والمخطوطة: " صفية". (5) (أبياساف) وفي المطبوعة: "أبى ياسق"، وفي المخطوطة" أبي ياسف". (6) (قورح) . (7) (يصهار) . (8) (قهات) . (9) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في الطبري عن"محمد بن إسحق" صاحب السيرة. (10) في المخطوطة والمطبوعة: "كما نسبه إسحاق"، وهو خطأ ظاهر، وانظر التعليق السالف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 "شمعون"، تقول: الله تعالى سمع دعائي. 5628- حدثني [بذلك] موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (1) * * * فكأن"شمعون""فعلون" عند السدي، من قولها: إنَّه سمع الله دعاءها. (2) * * * 5629- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم"، قال: شمؤل. (3) * * * وقال آخرون: بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، يوشع (4) بن نون بن أفراثيم (5) بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. 5630- حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ، قال: كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون، قال: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. (6) * * * وأما قوله:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، فاختلف أهل التأويل في   (1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، كما في إسناد الأثر السالف، (2) في المطبوعة: "من قولها سمع" أسقط" أنه" وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: " شمعون"، وهو خطأ لا شك فيه، والصواب ما في المخطوطة والدر المنثور 1: 315. (4) (يشوع) . (5) (أفرايم) ، وفي المطبوعة (أفراثيم) ، والصواب ما أثبت من التاريخ 1: 225، وفي المخطوطة غير منقوطة. (6) يعني المذكورين في قوله تعالى في [سورة المائدة: 23] {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} ، الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك. فقال بعضهم: كان سبب مسألتهم إياه، ما: - 5631- حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا (1) يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل (2) بن بوزي، وهو ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس (3) بن نسى (4) بن فنحاص (5) بن العيزار (6) بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، (7) وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره. وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا، إلا ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام، كل ملك   (1) (يفنة) وفي المطبوعة: " يوقنا"، والصواب من المخطوطة والتاريخ 1: 238. (2) (حزقيال) في كتاب القوم. (3) (إيليا) ، وهو"إيليا التشبى" مذكور في"الملوك الأول" إصحاح: 17. (4) لم أجد نسب"إيليا"، وقوله: "نسى"لم أجده. وهو في المخطوطة"سى" غير منقوطة ولا واضحة، وفي تاريخ الطبري 1: 239"إلياس بن ياسين". (5) (فينحاس) . (6) (العازار) . (7) (أخاب) "في الملوك الأول" الإصحاح: 16، 17. وهو في المطبوعة والتاريخ والمخطوطة: "أحاب"، مهمل الحاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 له ناحية منها يأكلها. (1) فقال ذلك الملك= الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه = يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا! والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل (2) - قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، (3) ما ينقص من دنياهم [أمرهم الذي تزعم أنه باطل] ؟ (4) وما نرى لنا عليهم من فضل. ويزعمون - (5) والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون. (6) ثم خلف من بعده فيهم اليسع، (7) فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم، (8) إلا هزم الله ذلك العدو. (9) ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء، (10) وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم -فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته. فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه، فمات كمدا عليه. فمرج أمرهم عليهم، (11) ووطئهم عدوهم، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم. (12) وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم، فكانوا لا يقبلون منه شيئا، يقال له"شمويل"، (13) وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد:"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" إلى قوله:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، يقول الله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، إلى قوله:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين". = قال ابن إسحاق: فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر   (1) (يأكلها) أي يغلب عليها، ويصير له ما لها وخراجها. وفي حديث عمرو بن عنبسة: (ومأكول حمير من آكلها، الماكول: الرعية -والآكلون: الملوك. وهم يسمون سادة الأحياء الذين يأخذون المرباع وغيره" الآكال"، وفي الحديث: "أمرت بقرية تأكل القرى"، هي المدنية، أي يغلب أهلها بالإسلام على غيرها من القرى. (2) في المطبوعة: "يعدد ملوكا. . " وأثبت ما في المخطوطة، وفي تاريخ الطبري: "يعد". (3) في المطبوعة: "مالكين"، وفي المخطوطة: "ملكين"، وأثبت ما في تاريخ الطبري. (4) الزيادة التي بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام إلا بها. (5) في المطبوعة: "ويزعمون" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (6) إلى هذا الموضع رواه الطبري بإسناده هذا في تاريخه1: 239 / ثم الذي يليه في 1 / 240 فصلت بينهما روايات أخرى. (7) (أليشع) في كتاب القوم. (8) في المطبوعة والمخطوطة: "وكانوا. . . "، وأثبت ما في التاريخ، فهو أجود. (9) بعد هذا في التاريخ ما نصه: "والسكنية - فيما ذكر ابن إسحق، عن وهب بن منبه، من بعض أهل إسرائيل -رأس هرة ميتة، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرة، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح. (10) (عالي) في كتاب القوم وفي تاريخ الطبري"إيلاف". والمرجح أن الذي في المطبوعة والمخطوطة هو الصواب، لقربه من لفظ"عالي" وإن كان الطبري قد ذكر في تاريخه 1: 243"عيلى"،. وعالي، من عظماء كهنة بني إسرائيل وقضى لهم أربعين سنة. وخبر موت عالي عند استلاب التابوت، مذكور في كتاب القوم"صموئيل الأول" الإصحاح الرابع. (11) في تاريخ الطبري: "فمرج أمرهم بينهم". ومرج الأمر: اختلط والتبس واضطرب في الفتنة. (12) إلى هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في التاريخ 1: 240-241. (13) (صموئيل) في كتاب القوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا، وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو، فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا. 5632- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل" إلى:"والله عليم بالظالمين"، قال الربيع: ذكر لنا -والله أعلم- أن موسى لما حضرته الوفاة، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى. ثم إن وشع بن نون توفي، واستخلف فيهم آخر، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم، (1) فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا"، إلى قوله:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم". 5633- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال قال ابن عباس: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم. (2)   (1) في المطبوعة: "في نفوسهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) استخرج (بالبناء للمجهول) : حمل على الخروج من بلاده. وهذا لفظ لم يذكره أصحاب المعاجم، وهو عربية معرقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 5634- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان. * * * وقال آخرون: كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك، ما: - 5635- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، قال: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت، (1) وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى، فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته شمعون. (2) فكبر الغلام، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس، (3) وكفله شيخ من علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ= وكان لا يتمن عليه أحدا غيره= (4) فدعاه بلحن الشيخ:"يا شماول! "، (5) فقام   (1) (جليات) في كتاب القوم. (2) في تاريخ الطبري بعد قوله شمعون: "تقول": الله سمع دعائي". وانظر الأثر السالف رقم: 5628 وما قبله وما بعده. (3) في المطبوعة: "فأرسلته يتعلم"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (4) في المطبوعة: "لا يأتمن"، وفي تاريخ الطبري مطبوعة مصر: "لايئتمن" في الأوربية والمخطوطة: "لا يتمن". وأمنه وأمنه وائتمنه واتمنه (بتشديد التاء) سواء، وانظر تعليق صاحب اللسان على قول من قال إن الأخيرة نادرة. (5) اللحن: اللغة واللهجة. وفي التاريخ: "شمويل"، وظاهر هذا الخبر يدل على أن"شمعون" هو"شمويل" وأنهما لغتان بمعنى واحد. وانظر الآثار السالفة 5626 -5629، والتعليقات عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 الغلام فزعا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول:"لا" فيفزع الغلام، فقال: يا بني ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية، فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني! فلما كانت الثالثة، ظهر له جبريل فقال: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! (1) وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك! فقال لهم شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا. (2) * * * قال أبو جعفر: وغير جائز في قول الله تعالى ذكره:"نقاتل في سبيل الله" إذا قرئ"بالنون" غير الجزم، على معنى المجازاة وشرط الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون، بمعنى: الذي نقاتل به في سبيل الله، (3) فإن ذلك غير جائز. لأن العرب لا تضمر حرفين. (4) ولكن لو كان قرئ ذلك"بالياء" لجاز رفعه، لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل"الملك"، فيصير تأويل الكلام حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله، كما قال تعالى ذكره: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) [سورة البقرة: 129] ، لأن قوله" يتلو" من صلة الرسول. (5) * * *   (1) في المطبوعة"ولم تنل لك" وهو تصحيف. وفي تاريخ الطبري: "ولم تبالك"، من المبالاة، وهي ليست بشيء. وفي الدر المنثور: "ولم يأن لك"، وفي المخطوطة: "ولم تنل لك" وظاهر أنها"تئن". من"آن يئين أينا": أي حان. مثل"أني لك يأني"، بمعناه، أي لم تبلغ بعد أوان أن تكون نبيا. (2) الأثر: 5635- في تاريخ الطبري 1: 242، والدر المنثور 1: 315، وفي المطبوعة ختم الأثر بقوله: "والله أعلم"، وهي زيادة من ناسخ لا معنى لها هنا، وليست في المخطوطة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: " الذي نقاتل" بحذف"به"، وهو خطأ يدل عليه السياق، وما جاء في معاني القرآن للفراء 1: 157. (4) يعني"الذي" و"به". (5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 157- 162، فهو قد استوعب القول في هذه القراءة، وفي هذا الباب من العربية. و"الصلة": التابع، كالنعت والحال، ويعني به نعت النكرة، هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 القول في تأويل قوله: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله:"هل عسيتم"، هل، تعدون (1) "إن كتب"، يعني: إن فرض عليكم القتال (2) ="ألا تقاتلوا"، يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ ="قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، يعني: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله="وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟ * * * فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول"أن" في قوله:"وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، وحذفه من قوله: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) ؟ [سورة الحديد: 8] قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف"أن" مرة مع قولها: (3) "ما لك"، فتقول:"ما لك لا تفعل كذا"، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما قال الشاعر: (4) * ما لك ترغين ولا ترغو الخلف * ...   (1) انظر هذا التفسير في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 77. (2) انظر معنى" كتب" فيما سلف 3: 357، 364- 365، 409/ 4: 297. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "مع قولنا"، والسياق الآتي يقتضي ما أثبت. (4) لم أعرف قائله، وإن كنت أذكر أنى قرأته مع أبيات أخر من الرجز. وهو في معاني القرآن للفراء 1: 163، واللسان (خلف) . والخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) الناقة الحامل، وجمعها خلف، وهو نادر، وهذا البيت شاهده، وإنما الجمع السائر أن يقال للنوق الحوامل"مخاض"، كقولهم: "امرأة، ونسوه"، وهذا الراجز يقول لناقته: ما زغاؤك، والحوامل لا ترغو؟ يعني أنها إنما ترغو حنينا إلى بلاده وبلادها. حيث فارق من كان يحب، كما قال الشماطيط الغطفاني لناقته: أرار الله مخك في السلامى ... إلى من بالحنين تشوقينا!! فإني مثل ما تجدين وجدي، ... ولكني أسر وتعلنينا! وبي مثل الذي بك، غير أني ... أجل عن العقال، وتعقلينا! هذا، وقد كان في المطبوعة"ملك ترعين ولا ترعوا الخلف"، وهو في المخطوطة على الصواب، ولكنه غير منقوط كعادة ناسخها في كثير من المواضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب. = وتثبت"أن" فيه أخرى، توجيها لقولها:"ما لك" إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: 12] ، ثم قال في سورة أخرى في نظيره: (مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [سورة الحجر: 32] ، فوضع"ما منعك" موضع"ما لك"، و"ما لك" موضع"ما منعك"، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر: (1) يقول إذا اقلولى عليها وأقردت: ... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم? (2)   (1) هو الفرزدق. (2) ديوانه: 863، والنقائض: 753، ومعاني القرآن للفراء 1: 164، واللسان (قرد) (قلا) (هلل) يهجمو جريرا، ويعرض بالبعث، وقبله، يعرض بأن قوم جرير، وهم كليب بن يربوع، كان يغشون الأتن: وليس كليبي، إذا جن ليله ... إذا لم يجد ريح الأتان، بنائم يقول- إذا اقلولي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي المطبوعة: "تقول". وقد شرحه ابن بري على هذه الرواية شرحا فاسدا جدا في"قرد"، وشرحه ابن الأعرابي أيضًا في (قلا) على هذه الرواية، فكان أيضًا شرحا شديد الفساد. ورغم أنه أراد امرأة يزنى بها. والصواب أنه أراد ما ذكرت من غشيان إناث الحمير، لا إناث البشر!! وقوله: "اقلولي" أي علا على ظهرها مستوفزا قلقا لا يستقر، واختيار الفرزدق لهذا الحرف عجب من العجب في تصوير ما أراد. وأقرد الرجل وغيره: سكن وتماوت. يريد أن الأتان قد رضيت فأسمحت فسكت له. فلما بلغ ذلك منه ومنها قال: "ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم"، يكشف عن شدة حبه وشغفه بذلك، وأنه يأسف ويتحسر علي أنه أمر ينقضي ولا يدوم. وقد زعموا أن"هل" هنا بمعنى الجحد أي ليس أخو عيش لذيذ بدائم. (اللسان: هلل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 فأدخل في"دائم""الباء" مع"هل"، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر" ما" التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد. (1) * * * وكان بعض أهل العربية يقول: (2) أدخلت" أن" في:"ألا تقاتلوا"، لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال:"ما لك أن قمت= وما لك أنك قائم"، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما يقال:"منعتك أن تقوم"، ولا يقال:"منعتك أن قمت"، فلذلك قيل في" مالك":"مالك ألا تقوم" ولم يقل:"ما لك أن قمت". * * * وقال آخرون منهم: (3) " أن" ها هنا زائدة بعد" ما لنا"، كما تزاد بعد" لما" و" لو"، (4) وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل" أن" وهي زائدة، وقال الفرزدق: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إذن للام ذوو أحسابها عمرا (5)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 163- 164، وقد استوفى الكلام فيما فتحه الطبري. (2) هو الكسائي، كما صرح به الفراء في معاني القرآن 1: 165. (3) هو أبو الحسن الأخفش، كما يتبين من تفسير أبي حيان والقرطبي والمغني. (4) في المطبوعة: " زائدة بعد فلما ولما ولو"، وهو تخليط. وفي المخطوطة "بعد مليما. . . " مضطربة الكتبة، فالصواب عندي أن تكون: "مالنا"، ولما أخطأ الناسخ الكتابة والقراءة، حذف "كما تزاد"، وهذا هو صواب المعنى والحمد لله (5) ديوانه: 283، وسيأتي في التفسير 9: 165، والخزانة 2: 87، والعيى (الخزانة) 2: 322 يهجو عمر بن هبيرة الفزاري وهو أحد الأمراء وعمال سليمان بن عبد الملك. وقومه. فزارة ابن ذبيان، من ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. وهو شعر جيد في بابه، وقبل البيت أبيات منها: يا قيس عيلان، إني كنت قلت لكم ... يا قيس عيلان: أن لا تسرعوا الضجرا إني متى أهج قوما لا أدع لهم ... سمعا، إذ استمعوا صوتي، ولا بصرا ثم قال بعد ذلك أبيات: لو لم تكن غطفان. . . . . . . هذا مجمع من رأيت يذهب إلى إن"الذنوب"جمع"ذنب"، وهو عندي ليس بشيء، وإنما انحطوا في آثار الأخفش، حين استشهد بالبيت على إعمال"لا" الزائدة. وصواب البيت عندي (لا ذنوب لها) وليس في البيت شاهد عندئذ. والظاهر أن الأخفش أخطأ في الاستشهاد به. والذنوب (بفتح الذال) : الخط والنصب، وأصله الدلو الملأى. وهو بهذا المعنى في قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، أي حظا من العذاب. قال الفراء: " الذنوب الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب به إلى الحظ والنصيب". وقال الزمخشري: "ولهم ذنوب من كذا" أي نصيب، قال عمرو ابن شأس: وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب أقول: يقول الفرزدق: لو لم تكن غطفان خسيسة لاحظ لها من الشرف والحسب والمروءة -"إذن للام ذوو أحسابها عمرا". وبذلك يبرأ البيت من السخف ومن تكلف النحاة. هذا وانظر هجاء الفرزدق لعمر بن هبيرة في طبقات فحول الشعراء: 287- 288وقوله: فسد الزمان وبدلت أعلامه ... حتى أمية عن فزارة تنزع يقول: تبدلت الدنيا، حتى صارت أمية تحتمي بفزارة وتصدر عن رأيها. يتعجب من ذلك لخسة فزارة عنده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب=" ولا" زائدة فأعملها. (1) = وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل" أن" زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن" أن" زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله: * لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها * ...   (1) استشهد بهذا على إعمال الزائدة وهو"لا"، كما أعملت"أن" في الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 = فإن" لا" غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله:"لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها"، إثبات الذنوب لها، كما يقال:"ما أخوك ليس يقوم"، بمعنى: هو يقوم. * * * وقال آخرون: معنى قوله:"ما لنا ألا نقاتل": ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت"الواو" فتركت، كما يقال في الكلام:"ما لك ولأن تذهب إلى فلان"، فألقي منها"الواو"، لأن"أن" حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال:"ما لك أن تقوم"، ولا نجيز:"ما لك القيام"، لأن القيام اسم صحيح و" أن" اسم غير صحيح. وقالوا: قد تقول العرب:"إياك أن تتكلم"، بمعنى: إياك وأن تتكلم. * * * وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون جائزا:"ضربتك بالجارية وأنت كفيل"، بمعنى: وأنت كفيل بالجارية= وأن تقول:"رأيتك إيانا وتريد"، بمعنى:"رأيتك وإيانا تريد". (1) لأن العرب تقول:"إياك بالباطل تنطق"، قالوا: فلو كانت"الواو" مضمرة في"أن"، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز، لأن ما بعد"الواو" من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، (2) واستشهدوا على فساد قول من زعم أن"الواو" مضمرة مع" أن" بقول الشاعر: فبح بالسرائر في أهلها ... إياك في غيرهم أن تبوحا (3)   (1) في المطبوعة: "رأيتك أبانا ويزيد، بمعنى: رأيتك وأبانا يزيد"، وهو كلام ساقط هالك. والصواب من المخطوطة، وإن كان غير منقوط الحروف، ومن معاني القرآن للفراء 1: 165. (2) "الأفاعيل" الأفعال. ووقوعها على ما قبلها، إما بالعمل فيه أو بالتعليق به. (3) لم أعرف قائله، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 165، والسرائر جمع سريرة، والسريرة: السر هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 = وأنَّ " أن تبوحا"، لو كان فيها"واو" مضمرة، لم يجز تقديم"في غيرهم" عليها. (1) * * * وأما تأويل قوله تعالى:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، فإنه يعني: وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم. * * * وأما قوله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله="تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد. والقليل الذي استثناهم الله منهم، هم الذين عبروا النهر مع طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى منهم، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله، إذا أتينا عليه. * * * يقول الله تعالى ذكره:"والله عليم بالظالمين"، يعني: والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه. * * * وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه   (1) في المخطوطة والمطبوعة: " تقديم غيرهم" بإسقاط"في"، والصواب من معاني القرآن للفراء 1: 166، وقد استوفى الكلام في ذلك، وكأن ما هنا منقول عنه بنصه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 فيه، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى. * * * وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام:"قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"= فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال=" فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل: إن الله قد أعطاكم ما سألتم، وبعث لكم طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك، قالوا: أنى يكون لطالوت الملك علينا، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب= وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة= ونحن أحق بالملك منه، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب="ولم يؤت سعة من المال"، يعني: ولم يؤت طالوت كثيرا من المال، لأنه سقاء= وقيل: كان دباغا. * * * وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل، وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"، ما: - 5636- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له، سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 لهم ملكا، فقال الله له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك، (1) فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، (2) فهو ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه وملكه عليهم، وأخبره بالذي جاءه- (3) فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه. (4) وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، (5) وكان من سبط بنيامين بن يعقوب. وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا ملك. فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته، (6) ومعه غلام له. فمرا ببيت النبي عليه السلام، فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا، فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير! فقال طالوت. ما بما قلت من بأس! فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها، إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام إليه النبي عليه السلام فأخذه، ثم قال لطالوت: قرب رأسك! فقربه، فدهنه منه، ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم! = وكان اسم"طالوت" بالسريانية: شاول (7) بن قيس بن أبيال (8) بن ضرار (9) بن يحرب (10) بن أفيح بن آيس (11) بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم= فجلس عنده، وقال الناس: ملك طالوت!! فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له: ما شأن طالوت يملك علينا، وليس في بيت النبوة المملكة؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا! فقال لهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". 5637- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل، عن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: قالت بنو إسرائيل لأشمويل: (12) ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله! قال: قد كفاكم الله القتال! قالوا: إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه! فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا، وادهنه بدهن القدس. فضلت حمر لأبي طالوت، (13) فأرسله وغلاما له يطلبانها، فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، (14) فقال: إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل. قال: أنا؟ قال: نعم! قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ (15) قال: بلى. قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي؟! قال: بلى! قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال:   (1) القرن: قرن الثور وغيره، وكأنه أراد هنا: القنينة التي يكون فيها الدهن والطيب، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها، وقد سموا المحجمة التي يحتجم بها"قرنا" ولم أجد هذا الحرف بهذا المعنى في كتب اللغة، ولكنه صحيح كما رأيت. (2) نش الماء ينش نشا: ونشيشا: صوت عند الغليان. (3) في المخطوطة"بالذي حاه" غير منقوطة، ولولا أن في المطبوعة، صواب أيضًا، لقلت إنها: "بالذي حباه الله"، يعني الملك. (4) هكذا جاءت هذه الجملة في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 1: 351. وأخشى أن تكون"متى" زائدة، أو تكون"مأتى ذلك الرجل 00". (5) الأدم جمع أديم. وهو جمع عزيز، وقال سيبوله: هو اسم للجمع. قال التوزي: "الجلد أول ما يدبغ فهو أديم، فإذا رد في الدباغ مرة أخرى فهو اللديم". (6) يقال: أضله الأمر: إذا ذهب عنه وفارقه فلم يقدر عليه. وهذا من عجيب العربية. وفي المخطوطة: "أطلته"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة والدر المنثور. (7) في المخطوطة والمطبوعة: "شادل". والصواب من التاريخ 1: 247، والدر المنثور 1: 315، وهو كذلك في كتاب القوم. (8) (أبيئيل) في كتاب القوم. (9) (صرور) في كتاب القوم. (10) (بكورة) في كتاب القوم، وفي التاريخ"بحرت"، وكأنها الصواب. (11) لم أجد في كتاب القوم، وفي التاريخ (أيش) . (12) في تاريخ الطبري 1: 244"لأشمويل"، وفيما سيأتي بعد"أشمويل" في سائر المواضع. وكذلك في المخطوطة، أما المطبوعة، فكان فيما"لشمويل"، وفي سائر المواضع"شمويل" فأثبيت ما في المخطوطة والتاريخ. (13) في المطبوعة: " وضلت"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (14) في المخطوطة والمطبوعة: "فجاؤوا. . . يسألونه عنها"، والصواب ما في التاريخ كما أثبته. (15) في المخطوطة والمطبوعة: " وما علمت" وأثبت ما في التاريخ، وهو مقتضى السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 بلى! قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي! فدهنه بدهن القدس. فقال لبني إسرائيل:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". 5638- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما كذبت بنو إسرائيل شمعون، (1) =وقالوا له: إن كنت صادقا، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك. قال لهم شمعون: عسى أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" الآية= دعا الله، فأتي بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له، فضل حماره، فانطلق يطلبه في الطريق. فلما رأوه دعوه فقاسوه بها، فكان مثلها، فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". قال القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة! ونحن من سبط المملكة، وليس هو من سبط المملكة، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك! فقال النبي:"إن الله اصطفاه عليكم وزاد بسطة في العلم والجسم". (2) 5639- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: كان طالوت سقاء يبيع الماء. 5640- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بعث الله طالوت ملكا، وكان من سبط بنيامين، سبط لم يكن فيهم   (1) انظر الأثر السالف: 5635، وما قبله في الاختلاف في اسم هذا النبي عليه السلام. (2) الأثر: 5638- هو تتمة الأثر السالف: 5635، وهو في تاريخ الطبري بعلوله 1: 242- 243. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 مملكة ولا نبوة. وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط مملكة. وكان سبط النبوة سبط لاوي، إليه موسى = وسبط المملكة يهوذا، إليه داود وسليمان. فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة! فقال الله تعالى ذكره:"إن الله اصطفاه عليكم". 5641- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ابعث لنا ملكا"، قال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ قال: وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة، فقال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". 5642- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط خلافة، فلذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ يقولون: ومن أين يكون له الملك علينا، وليس من سبط النبوة ولا سبط الخلافة"؟ قال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". 5643- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"أنى يكون له الملك علينا"، فذكر نحوه. 5644- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال"؟ الآية، قال: فبعث الله طالوت ملكا. قال: وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة. فلما بعث لهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 ملكا، أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة؟ فقال:"إن الله اصطفاه عليكم" الآية. 5645- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أما ذكر طالوت إذ قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان: كان في أحدهما النبوة، وكان في الآخر الملك، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة، ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك. وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين، واختاره عليهم، وزاده بسطة في العلم والجسم. ومن أجل ذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من واحد من السبطين؟ قال: ف"إن الله اصطفاه عليكم" إلى:"والله واسع عليم". 5646- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى" الآية، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم ="فلما كتب عليهم القتال"، وذلك حين أتاهم التابوت. قال: وكان من بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة، = فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من أحد السبطين: لا من سبط النبوة، ولا سبط الخلافة؟ "قال إن الله اصطفاه عليكم"، الآية. (1) * * *   (1) الأثر: 5646- هو تتمة الأثر السالف: 5633. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 وقد قيل: إن معنى"الملك" في هذا الموضع: الإمرة على الجيش. * ذكر من قال ذلك: 5647- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، قال: كان أمير الجيش. 5648- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله= إلا أنه قال: كان أميرا على الجيش. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"أنى"، ومعنى"الملك"، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال نبيهم شمويل لهم:"إن الله اصطفاه عليكم"، يعني: اختاره عليكم، كما: - 5649- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اصطفاه عليكم"، اختاره. (2) 5650- حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال: اختاره عليكم.   (1) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398- 416، وتفسير معنى"الملك" فيما سلف 1: 148- 150، ثم 2: 488. (2) انظر تفسير"الاصطفاء" فيما سلف 3: 91. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 5651- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم"، اختاره. * * * وأما قوله:"وزاده بسطة في العلم والجسم"، فإنه يعني بذلك أن الله بسط له في العلم والجسم، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله، وأما"في الجسم"، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم. كما: - 5652- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: لما قالت بنو إسرائيل:" أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". قال: واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا. * * * وقال السدي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا طالوت بها فكان مثلها. 5653- حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده" مع اصطفائه إياه"بسطة في العلم والجسم". يعني بذلك: بسط له مع ذلك في العلم والجسم. * ذكر من قال ذلك: 5654- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، بعد هذا. * * *   (1) الأثر: 5653- هو بعض الأثر السالف: 5638. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه="يؤتيه"، يقول: يؤتي ذلك من يشاء، فيضعه عنده ويخصه به، ويمنعه من أحب من خلقه. (1) يقول: فلا تستنكروا، يا معشر الملإ من بني إسرائيل، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا على الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، الملك بيد الله يضعه حيث شاء، ليس لكم أن تختاروا فيه. 5656- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: ملكه سلطانه. 5657- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، سلطانه. * * * وأما قوله:"والله واسع عليم"، فإنه يعني بذلك"والله واسع" بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء= (2) "عليم" بمن هو أهل لملكه الذي   (1) في المطبوعة: "ويمنحه من أحب ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "فينعم له، والصواب ما في المطبوعة: وفي المطبوعة: "ويريد به من يشاء"، وفي المخطوطة: " ويريد فيه ... " غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل: إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه به، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم"، فقالوا له: ما آية ذلكإن كنت من الصادقين؟ (2) ="قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت". وهذه القصة = (3) وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله، ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته، (4) ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله، من   (1) في المخطوطة: "وإما لا نه" وبينهما بياض على قدر كلمة، ولم أستطع أن أجد كلمة في البياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وإن كنت لا أرضاه كل الرضى. (2) في المطبوعة: "فقالوا له: ائت بآية على ذلك ... "، وفي المخطوطة: " مما أتى به ذلك" وقد ضرب على الباء من"أتى". واستظهرت قراءتها كما أثبتها، لقوله تعالى بعد: " إن آية ملكه". (3) في المطبوعة: " هذه القصة" بإسقاط الواو، وإسقاطها مخل بالكلام. (4) في المطبوعة: " بناء عما كان منهم من تكذيبهم"، وهو غث من الكلام. وفي المخطوطة: "بنا عما كان. . . " غير منقوطة، والصواب ما أثبت مع زيادة"الواو" عطفا على قوله: "وإن كانت خبرا. . . ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 الجهاد في سبيل الله، بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه، وفتح الله على القليل من الفئة، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه= (1) فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه= مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقيقة نبوته، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم = (2) أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي، مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقية نبوته، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم، ابتداء منهم بذلك نبيهم، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك= (3) وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدو، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله= (4) وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب، وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة: 249] ،= (5) وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر. * * * وأما تأويل قوله:"قال لهم نبيهم"، فإنه يعني: للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". * * * وقوله:"إن آية ملكه"،: إن علامة ملك طالوت= (6) التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي: إن الله بعثه عليكم ملكا، وإن كان من غير سبط المملكة="أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم قدموه أمامهم، وزحفوا معه، فلا يقوم لهم معه عدو، ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم، حتى ضيعوا أمر الله، (7) وكثر اختلافهم على أنبيائهم، فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة، يرده إليهم في كل ذلك، حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم، (8) ولن يرد إليهم آخر الأبد. (9) * * * ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء؟ فقال بعضهم: بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه، (10) حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به، ثم رده الله عليهم آية لملك طالوت. وقال في   (1) سياق الجملة: وهذه القصة، وإن كانت خبرا من الله00 0 ونبأ عما كان منهم ... فإنه تأديب ... ". (2) سياق هذه الجملة: "وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا ... أن يكونوا كأسلافهم ... ". (3) قوله: "وحض ... " معطوف على قوله آنفًا: "فإنه تأديب ... ". (4) قوله: "وشخذ ... " معطوف ثان على قوله آنفًا: " فإنه تأديب ... ". (5) قوله: " وإعلام ... " معطوف ثالث على قوله: "فإنه تأديب ... ". (6) انظر تفسير"آية" فيما سلف 1: 106 / 2: 397، 398، 553 / 3: 184 / 4: 271. (7) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى منعوا أمر الله". وهو تصحيف لا معنى له، والصواب ما أثبت. (8) في المطبوعة: "حتى سلبهم آخر مرة"، والذي في المخطوطة هو الصواب الجيد، وإن كانت الأخرى قريبة من الصواب على ضعف. (9) في المخطوطة: "ولم يرده إليهم آخر الأبد"، وهو خطأ بين. (10) في المطبوعة: " كان ذلك عندهم"، بحذف"بل". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما: - 5658- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: كان لعيلي الذي ربى شمويل، ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه. كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين (1) فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، (2) فجعله ابناه كلاليب. (3) وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن. فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي، إذ سمع صوتا يقول: أشمويل!! (4) فوثب إلى عيلي فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لا! ارجع فنم! فرجع فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول: أشمويل!! فوثب إلى عيلي أيضا، فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل:"لبيك" مكانك،"مرني فأفعل"! فرجع فنام، فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل!! فقال: لبيك أنا هذا! مرني أفعل! قال: انطلق إلى عيلي فقل له:"منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما"! فلما أصبح سأله عيلي فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا. فسار إليهم عدو ممن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " كان مشرط القربان الذي يشرطونه به"، وهو خطأ لا معنى له، والصواب من تاريخ الطبري 1: 243. والمسوط (بكسر الميم) : المسواط خشبة أو ما يشبهها، يحرك بها ما في القدر ليختلط. ساط الشيء في القدر يسوطه سوطا: إذا حركة وخاصه، ليختلط ويمتزج. وقربان اليهود هذا هو"التقدمة"، كانت من دقيق مع زيت ولبان، يؤخذ قليل من الدقيق المقدم والزيت وكل اللبان، ويوقد على المذبح، أو يعمل منه قطائف علي صاج، وأما البقية فكانت للكمهنة (قاموس الكتاب المقدس 2: 208) . والكلاب (يضم الكاف وتشديد اللام) : سفود من حديد أو خشب، في رأسه عقافة معطوفة كالخطاف، وجمعه: "كلاليب". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "للكاهن الذي يستوطنه"، وهو خطأ، صوابه من التاريخ. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فجعل ابناه ... "، والصواب من التاريخ. (4) في المخطوطة والتاريخ في هذا الموضع وما بعده: "أشمويل"، والذي قبله: "شمويل"، وأثبت ما فيهما، كما سلف قريبا ص: 308، تعليق: 5. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 حولهم، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو. فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به. (1) فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم، جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا! قال: فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدو! قال: فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات. وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم، والصنم من فوقه، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت. فقال بعضهم لبعض: قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوه من بيت آلهتكم! فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟! فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل: لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم! فأخرجوه من قريتكم! قالوا: كذبت! قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهم العجل، (2) ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، (3) حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، (4) ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات. فقال لهم نبيهم شمويل: اعترضوا، (5) فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه. فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل، (6) أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة. فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. (7) 5659- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، وإن آية ملكه= وإن تمليكه من قبل الله= أن يأتيكم التابوت، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو، وتظهرون به عليه. قالوا: فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثان، وكان فيهم جالوت. وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة في البطش، وشدة في الحرب، مذكورا بذلك في الناس. وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها:"أزدود"، (8) فكانوا قد جعلوا التابوت في   (1) في التاريخ: "لينتصروا به"، أي ليجلبوا النصر لأنفسهم به. (2) في المطبوعة: "وراءهم" والصواب من التاريخ والمخطوطة. والنير: الخشبة التي تكون على عنق الثور بأداتها. (3) في المطبوعة: " ينطلقان مذعنين"، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (4) في المطبوعة: "حضار"، وفي المخطوطة: "حصار"، غير منقوطة، والصواب ما في التاريخ. (5) في التاريخ: "اعرضوا"، وهما سواء. (6) في التاريخ: "فلم يقدر أحد على أن يدنو منه"، والذي في المخطوطة والمطبوعة حسن. (7) الأثر: 5658- في التاريخ 1: 243- 244، وهو صدر الأثر السالف رقم: 5637، وساقهما الطبري في التاريخ سياقا واحدا. (8) في المطبوعة: "يقال لها: أردن"، وهو خطأ لا شك فيه، وأما ما في المخطوطة فهو، "أردود" بالراء، وأنا أظنه بالزاي وأثبته كذلك. فإنه الذي في كتاب القوم في"كتاب صموئيل الأول" الإصحاح الخامس: "أشدود"، وقال صاحب قاموسهم: "أشدود" (حصن، معقل) ، إحدى مدن فلسطين الخمس المحالفة ... وموقعها على ثلاثة أميال من البحر المتوسط بين غزة ويافا. قال: وهي الآن قرية حقيرة تسمى: أسدود، وفي جوارها خرائب كثيرة". والذي يرجع ما ظننته أنها بالزاي أن ابن كثير قال في تفسيره 1: 602 أنه يقال لها: " أزدوه"، وقال مصحح التفسير بهامشه أنها في نسخة الأزهر: "أزدرد". وفي البغوي بهامش ابن كثير 1: 601"أزدود" كما أثبتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 كنيسة فيها أصنامهم. فلما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان: من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم- جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا، (1) قد أكلت ما في جوفه من دبره. قالوا: تعلمون والله، لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله، (2) وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا!! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها! فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت، ثم علقوها بثورين، ثم ضربوا على جنوبهما، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا. فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران، حتى وقف على بني إسرائيل، فكبروا وحمدوا الله، وجدوا في حربهم، واستوسقوا على طالوت. (3) 5660- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما قال لهم نبيهم: إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم- أبوا أن يسلموا له الرياسة، حتى قال لهم:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم". فقال لهم: أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله للملائكة!!   (1) في المطبوعة: "تثبت الفأرة"، وليست صوابا، والذي في المخطوطة" تبيت" غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت. بيت القوم العدو: أتوهم في جوف الليل فأوقعوا بهم وهم في غفلة عنه. والاسم: "البيات"، وفي البغوي 1: 601 (بهامش ابن كثير) : "فكانت الفأرة تبيت مع الرجل". (2) في المطبوعة: "أمة من الأمم قبلكم"، وفي المخطوطة: "أمة من الأمم قبله"، والذي أثبت أقرب إلى رسم المخطوطة، مع التصحيف فيها. (3) في المطبوعة: "واستوثقوا". وهو خطأ والصواب ما في المخطوطة. ومعناه: اجتمعوا على طاعته. وأصله من"الوسق"وهو ضم الشيء إلى الشيء، وفي حديث أحد: "استوسقوا كما يستوسق جرب الغم. أي: استجمعوا وانضموا. وفي حديث النجاشي: "واستوسق عليه أمر الحبشة"، أي اجتمعوا على طاعته. وهو المراد هنا. وانظر ما سيأتي في الأثر: 5707. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 = وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها. فنزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت= قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها. قال: وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت- والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا- فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت، حتى وضعته عند طالوت. فلما رأوا ذلك قالوا: نعم! فسلموا له وملكوه. قال: وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم. ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن. وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة. 5661- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل فقال:"أنى يحيى هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام". ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة، رد الله إليه روحه، وقد عمرت، فهي على حالتها الأولى. (1) (2) ................................................................................ ................................................................................ ................................................................................ فلما أراد أن يرد عليهم التابوت، أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم: إما دانيال وإما غيره: إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض، فأخرجوا عنكم هذا التابوت! قالوا: بآية ماذا؟ قال: بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط، فإذا نطرتا   (1) الأثر: 5661- سيأتي هذا الأثر نفسه برقم: 5912 وهو أثر"مبتور" بلا شك ولم أستطع أن أتمه، وانظر التعليق على الأثر التالي المذكور آنفًا. (2) أما موضع النقط هذا، فإنه سقط بلا شك فيه، فإن خبر أرميا السالف، لا يمكن أن يكون هذا الكلام من صلته، فإن فيه ذكر رد التابوت في عهد طالوت وداود، وهما قبل أرميا بدهر طويل. وأخشى أن يكون الناسخ قد قدم ورقة على ورقة في النسخة العتيقة، أو تخطى وجها من الكتاب الذي نسخ منه. وليس من الممكن إتمام هذا النقص، فلذلك فصلت بين الكلامين بهذه النقط، حتى يتيح الله نسخة أقدم من النسخ التي بين أيدينا تسد هذا الخرم أو تصحح مكان الكلام. وهذا الذي بعد النقط، خبر عن القرية التي وضع فيها التابوت حين سبي، كما ذكر في الأثر رقم: 5658، وهو أثر ضاع صدره عن وهب بن منبه، كما هو واضح في السياق الآتي. ولم أجد صدره في شيء من الكتب التي بين يدي. هذا ونسختنا في الموضع كثيرة الخطأ السهو، كما يتبين ذلك من خط كاتبها، ومن الأخطاء السالفة التي ذكرتها في التعليقات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما، (1) ثم يشد التابوت على عجل، ثم يعلق على البقرتين، ثم يخليان فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما. ففعلوا ذلك، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما، وقطعتا حبالهما، وذهبتا. فنزل إليهما داود ومن معه، فلما رأى داود التابوت حجل إليه فرحا به = فقلنا لوهب: ما حجل إليه، قال: شبيه بالرقص= فقالت له امرأته: لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت! قال: أتبطئيني عن طاعة ربي!! لا تكونين لي زوجة بعد هذا. ففارقها. * * * وقال آخرون: بل التابوت= الذي جعله الله آية لملك طالوت= كان في البرية، وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلفه عند فتاه يوشع، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت. (2)   (1) في المخطوطة: "فإذا نظرتا إليها"، والصواب ما في المطبوعة. (2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها هنا ما نصه: "يتلوه إن شاء الله تعالى: ذكر من قال ذلك: وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا. على الأصل. بلغت بالقراءة من أوله والسماع على القاضي أبي الحسن الخصيب، عن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، والقاضي ينظر في كتابه. وسمع معي أخي على حرسه الله، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن علي ... وعبد الرحيم بن أحمد البخاري. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي، في شعبان سنة ثمان وأربعمئة بمصر" "ثم يتلو في أول الجزء التالي: "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 * ذكر من قال ذلك: 5662- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره. 5663- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" الآية، قال: كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية. فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح التابوت في داره. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه: من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت"، و"الألف واللام" لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم. * * * فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما، وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع، فإن الذين قالوا هذه المقالة، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها، فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا، (1) أبين الدلالة على صحة القول الآخر، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما. * * * وكانت صفة التابوت فيما بلغنا، كما: - 5664- حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى قالا أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال: سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى: ما كان؟ قال: كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "ففساد هذا القول"، "والصواب ما في المخطوطة. (2) الأثر: 5664-"محمد بن عسكر"، هو محمد بن سهل بن عسكر، سلف في رقم: 5598. بكار بن عبد الله اليماني، روي عن وهب منبه. روى عنه بن ابن المبارك، وهشام بن يوسف وعبد الرزاق. قال أحمد: ثقة. مترجم في الكبير 1/2/120، وابن أبي حاتم 1/1 /408. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 القول في تأويل قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فيه"، في التابوت="سكينة من ربكم". * * * واختلف أهل التأويل في معنى"السكينة". فقال بعضهم: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. * ذكر من قال ذلك: 5665- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي وائل، عن علي بن أبي طالب قال: السكينة، ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. 5666- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان= عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي ريح هفافة. 5667- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سلمة بن كهيل، عن علي بن أبي طالب في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، قال: ريح هفافة لها صورة= وقال يعقوب في حديثه: لها وجه= (1) وقال ابن المثنى: كوجه الإنسان. 5668- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سلمة بن كهيل قال، قال علي: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة. (2)   (1) في المخطوطة: "كما وجه"، وما بينهما بياض، ولعل أقرب ذلك ما في المطبوعة. (2) في المخطوطة: "هى ريح" بإسقاط الواو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 5669- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال، قال علي: السكينة ريح خجوج، ولها رأسان. (1) 5670- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة، يحدث عن علي، نحوه. 5671- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص، كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، نحوه. (2) * * * وقال آخرون: لها رأس كرأس الهرة وجناحان. * ذكر من قال ذلك: 5672- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" فيه سكينة من ربكم"، قال: أقبلت السكينة [والصرد] وجبريل مع إبراهيم من الشأم= (3) قال ابن أبي نجيح، سمعت مجاهدا يقول: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان. 5673- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 5674- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: السكينة لها جناحان وذنب.   (1) الأثر: 5669- هو بعض الأثر السالف رقم: 2058 في ذكر بناء الكعبة. (2) الأثران: 5670، 5671- انظر الأثران السالفان: 2059، 2060. (3) ما بين القوسين، زيادة من الأثار التي رويت عن مجاهد في ذلك، في تاريخ مكة للأزرقي 1: 22-28، ونصه في لسان العرب (صرد) . والصرد (بضم الصاد وفتح الراء: طائر أبقع ضخم يكون في الشجر وشعب الجبال لا يقدر عليه أحد، وهو من سباع الطير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 5675- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة. * * * وقال آخرون: بل هي رأس هرة ميتة. * * * * ذكر من قال ذلك: 5677- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال: السكينة رأس هرة ميتة، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح. * * * وقال آخرون: إنما هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء. * ذكر من قال ذلك: 5678- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس:"فيه سكينة من ربكم"، قال: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء. 5679- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فيه سكينة من ربكم"، السكينة: طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح. وكانت الألواح، فيما بلغنا، من در وياقوت وزبرجد. * * * وقال آخرون:"السكينة"، روح من الله تتكلم. * ذكر من قال ذلك: 5680- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 بن عبد الله، قال، سألنا وهب بن منبه فقلنا له: السكينة؟ قال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون. 5681- حدثنا محمد بن عسكر قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا بكار بن عبد الله: أنه سمع وهب بن منبه، فذكر نحوه. (1) وقال آخرون:"السكينة"، ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه. * ذكر من قال ذلك: 5682- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"فيه سكينة من ربكم"، الآية، قال: أما السكينة فما يعرفون من الآيات، يسكنون إليها. * * * وقال آخرون:"السكينة"، الرحمة. * ذكر من قال ذلك: 5683- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فيه سكينة من ربكم"، أي رحمة من ربكم. * * * وقال آخرون:"السكينة"، هي الوقار. * ذكر من قال ذلك: 5684- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، أي وقار. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى"السكينة"، ما قاله عطاء بن أبي رباح: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها. وذلك أن   (1) الأثران: 5680، 5681-"محمد بن عسكر"، و"بكار بن عبد الله". انظر التعليق على الأثر رقم: 5664. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 "السكينة" في كلام العرب"الفعيلة"، من قول القائل:"سكن فلان إلى كذا وكذا"= إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه="فهو يسكن سكونا وسكينة"، مثل قولك:"عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة"، و"قضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية"، ومنه قول الشاعر: (1) لله قبر غالها! ماذا يجن? ... لقد أجن سكينة ووقارا * * * وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفت، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس، وتثلج بهن الصدور. وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفنا، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره، (2) لدلالة الكلام عليه. * * * القول في تأويل قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وبقية"، الشيء الباقي، من قول القائل:"قد بقي من هذا الأمر بقية"، وهي"فعلية" منه، نظير"السكينة" من"سكن". * * *   (1) أنشده ابن بري لأبي عريف الكليبي. وأنا في شك من صحة اسمه. (2) يعني بقوله: " الفعل" مصدر الفعل"سكن"، وهو"السكينة"، كما يقال: "رجل عدل"، فلو سميت الرجل"عدلا"، كان مسمى بالفعل، وهو غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 وقوله:"مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني به: من تركة آل موسى، وآل هارون. * * * واختلف أهل التأويل في"البقية" التي كانت بقيت من تركتهم. فقال بعضهم: كانت تلك"البقية" عصا موسى ورضاض الألواح. (1) * ذكر من قال ذلك: 5685- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عكرمة قال: أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح. 5686- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر قال، حدثنا داود، عن عكرمة= قال داود: وأحسبه عن ابن عباس= مثله. 5687- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى ورضاض الألواح. 5688- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح، فيما ذكر لنا. 5689- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: البقية عصا موسى ورضاض الألواح. 5690- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، أما البقية، فإنها عصا موسى   (1) انظر صفحة 332، تعليق: 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 ورضاضة الألواح. (1) 5691- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، عصا موسى وأثور من التوراة. (2) 5692- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: التوراة ورضاض الألواح والعصا= قال إسحاق، قال وكيع: ورضاضه كسره. 5693- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح. * * * وقال آخرون: بل تلك"البقية" عصا موسى وعصا هارون، وشيء من الألواح. (3) * ذكر من قال ذلك: 5694- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن ابن أبي خالد، عن أبي صالح:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان فيه عصا موسى وعصا هارون، ولوحان من التوراة، والمن. (4)   (1) رضاض الشيء (بضم الراء) : كساره (بضم الكاف) ، وهو ما تكسر منه، وقطعه. ورض الشيء رضا: كسره فصار قطعا. و"رضاضة" بالتاء في آخر رقم: 5690، وهي عربية صحيحة، وإن لم تذكر في المعاجم. ومثلها في مطول هذا الأثر في التاريخ 1: 243. (2) في المطبوعة: "وأمور من التوراة". وفي المخطوطة: "وأسور من التوارة". ورجحت قراءتها"وأثور" جمع أثر: وهو بقية الشيء، وما بقى من رسم الشيء، وجمعه آثار وأثور. وهي هنا بمعنى الرضاض. (3) في المخطوطة: "بل ذلك البقية ... "، والذي في المطبوعة أجود الصواب. (4) الأثر: 5694- في الدر المنثور 1: 317 مطولا. وفي المخطوطة والمطبوعة: "عن إسماعيل عن ابن أبي خالد"، والصواب ما أثبت، وهو الذي يروي عنه جابر بن نوح، مترجم التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 5695- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ورضاض الألواح. * * * وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان. * ذكر من قال ذلك: 5696- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، سألت الثوري عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: منهم من يقول: البقية قفيز من من ورضاض الألواح- ومنهم من يقول: العصا والنعلان. (1) * * * وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها. * ذكر من قال ذلك: 5697- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، قلنا لوهب بن منبه: ما كان فيه؟ = يعني في التابوت= قال: كان فيه عصا موسى والسكينة. (2) * * * وقال آخرون: بل كان ذلك، رضاض الألواح وما تكسر منها. * ذكر من قال ذلك: 5698- حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:" وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها، فجعل الباقي في ذلك التابوت.   (1) القفيز: مكيال من المكاييل، كان عند أهل العراق ثمانية مكاكيك. (2) الأثر 5697- بكار بن عبد الله اليماني، مضى في الآثار: 5664، 5680، 5681، وكان في المطبوعة والمحفوظة"بكار عن عبد الله"، وهو خطأ محض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 5699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، [قال] العلم والتوراة. (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك الجهاد في سبيل الله. * ذكر من قال ذلك: 5700- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني ب"البقية"، القتال في سبيل الله، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه = الذي قال لأمته: (2) "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" = أن فيه سكينة منه، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. (3) وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح، والتوراة، أو بعضها، والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله = وجائز أن يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول. * * *   (1) زدت ما بين القوسين: لظني أنها سقطت من الناسخ لعجلته، كما يتبين من خطه في هذا الموضع. (2) في المطبوعة: "لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته"، زاد: "وسلم"، وأسقط"الذي قال"، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "مما تركه آل موسى"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 القول في تأويل قوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت. فقال بعضهم: معنى ذلك: تحمله بين السماء والأرض، حتى تضعه بين أظهرهم. * ذكر من قال ذلك: 5701- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت. 5702- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قال لهم= يعني النبي، لبني إسرائيل: ="والله يؤتي ملكه من يشاء". قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا! ما هو إلا لهواك فيه! قال: إن كنتم قد كذبتموني واتهمتمون، فإن آية ملكه:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية. قال: فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين". 5703- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما قال لهم نبيهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، قالوا: فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك! قال:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة". وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت. 5704- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 معمر، عن قتادة في قوله:"تحمله الملائكة"، قال: تحمله حتى تضعه في بيت طالوت. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله. * ذكر من قال ذلك: 5705- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن بعض أشياخه قال: تحمله الملائكة على عجلة على بقرة. 5706- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال:"حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل". (1) وذلك أن الله تعالى ذكره قال:"تحمله الملائكة"، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته. لأن"الحمل" المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله على غيره = وإن كان جائزا في اللغة أن يقال"حمله" بمعنى معونته الحامل، (2) وبأن حمله كان عن سببه= فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه   (1) في المطبوعة: "حتى وضعته في دار طالوت" بإسقاط"لها"، أي لبني إسرائيل. وفي المطبوعة: "في دار طالوت بين أظهر بني إسرائيل" بإسقاط"قائما"، وكانت هذه اللفظة في المخطوطة: "ما بين أظهر لبني إسرائيل"، وقرأتها: "قائما". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقال في حمله بمعنى معونته"، والصواب إسقاط"في". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، (1) ما وُجد إلى ذلك سبيل. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة="لآية لكم"، يعني: لعلامة لكم ودلالة، (2) أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك="إن كنتم مؤمنين"، يعني بذلك: (3) إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه. * * * وإنما قلنا ذلك معناه، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، بقولهم:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، = وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا، (4) فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار: لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله: = وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه، لأنهم سألوا الآية   (1) في المطبوعة: "أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر00"، وهو خلط من كلم الموسومين!! وفي المخطوطة"إلى إلى أن لا يلر". وضرب على"إلى" الثانية. وصواب قراءته ما قرأت، وقد مضى مثله مرارا في كلام الطبري. (2) انظر معنى"آية" فيما سلف قريبا: 317 تعليق: 1 وفيه المراجع. (3) انظر تفسير"الإيمان" بمعنى"التصديق" فيما سلف من الأجزاء. في فهارس للغة. (4) في المطبوعة: "فإن كان ذلك منهم"، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه، فقال لهم: في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم، وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله:"فلما فصل طالوت بالجنود". وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له، لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها. * * * وأما قوله:"فصل" فإنه يعني به: شخص بالجند ورحل بهم. * * * وأصل"الفصل" القطع، يقال، منه:"فصل الرجل من موضع كذا وكذا"، يعني به قطع ذلك، فجاوزه شاخصا إلى غيره،"يفصل فصولا"، و"فصل العظم والقول من غيره، فهو يفصله فصلا"، إذا قطعه فأبانه، و"فصل الصبي فصالا"، إذا قطعه عن اللبن (1) . و"قول فصل"، يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد. * * *   (1) انظر تفسير"الفصال" فيما سلف من هذا الجزء: 67. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته، أو كبير لهرمه، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه. * ذكر من قال ذلك: 5707- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة، أو ضرير معذور، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها. (1) 5708- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. (2) * * * قال أبو جعفر: فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا، قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، يقول: إن الله مختبركم بنهر، ليعلم كيف طاعتكم له. * * * وقد دللنا على أن معنى"الابتلاء"، الاختبار، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3) * وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول. 5709- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله تعالى:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. * * *   (1) الأثر: 5707- استوسقوا له: اجتمعوا له بالطاعة: ودانوا، (انظر ما سلف ص: 231) في آخر الأثر: 5659، والتعليق عليه. والضرير: المرض المهزول، قد أضر به المرض. (2) الأثر: 5708- في التاريخ 1: 243 من خبر طويل مضى أكثره فيما سلف. (3) انظر ما سلف 2: 49/3: 7، 220. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 وقيل: إن طالوت قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله:"إن الله مبتليكم بنهر". * ذكر من قال ذلك: 5710- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر" الآية. * * * "والنهر" الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به، قيل: هو نهر بين الأردن وفلسطين. * ذكر من قال ذلك: 5712- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أنه نهر بين الأردن وفلسطين. 5712- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" إن الله مبتليكم بنهر"، قال: ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين. 5713- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين. 5714- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت، قال طالوت لبني إسرائيل:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: نهر بين فلسطين والأردن، نهر عذب الماء طيبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين. * ذكر من قال ذلك: 5715- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل، نهر فلسطين. 5716- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله مبتليكم بنهر"، هو نهر فلسطين. * * * وأما قوله:" فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم". فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده، إذ شكوا إليه العطش، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر، (1) ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه= يعني بذلك: أنه ليس من أهل ولايته وطاعته، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) ، وأخبرهم أنه من لم يطعمه= يعني: من لم يطعم الماء من ذلك النهر."والهاء" في قوله:"فمن شرب منه"، وفي قوله:"ومن لم يطعمه"، عائدة على"النهر"،   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "00 عن طالوت أنه قال لجنوده، 00 فأخبر أن الله"، وهي عبارة لا تستقيم علي جادة الكلام، فجعلت"أنه"، "بما"، وجعلت"فأخبر"، "فأخبرهم". وأعود فأقول إن الناسخ في هذا الموضع كثير السهو والخطأ من فرط عجلته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر"الماء" اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك: (1) أن المراد به الماء الذي فيه. * * * ومعنى قوله:"لم يطعمه"، لم يذقه، يعني: ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني= يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من"من" في قوله:"ومن لم يطعمه"، المغترفين بأيديهم غرفة، (2) فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر، (3) إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني. * * * ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا من اغترف غرفة بيده". فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (غرفة) ، بنصب"الغين" من"الغرفة" بمعنى الغرفة الواحدة، من قولك،"اغترفت غرفة"، و"الغرفة"، و"الغرفة" هي الفعل   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "كذلك"، والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: اكتفاء بفهم السامع لذلك بذكر النهر: أن المراد00 (2) أكثر المفسرين قد جعل الاستثناء من قوله: "فن شرب منه"، وقال أبوحيان في تفسيره 1: 265 وقال: "وقع في بعض التصانيف ما نصه: "إلا من اغترف"، استثناء من الأولى، وإن شئت من الثانية، لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه. والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه. وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها: أن من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه، فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك. وهكذا الإستثناء، يكون من النفى إثباتا، ومن الإثبات نفيا، على الصحيح من المذاهب في هذه المسالة". وانظر أيضًا تعليق ابن المنير على الكشاف بهامش 1: 149- 150، وأما العكبري في إعراب القرآن إنه قال: "إلا من اغترب-استثناء من الجنس، وموضعه نصب. وأنت بالخيار، إن شئت جعلته استثناء من"من الأولى، وإن شئت من"من"الثانية". وهذا يرجع صواب معنى الطبري، وصواب ما صححناه، فإنهكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم استثنى من قوله00". والمخطوطة كما أسلف مرارا مضطربة في هذا الموضع، وفي مواضع من أشياء ذلك. وسترى ذلك في التعليق التالي. والظاهر أن الطبري أراد أن القوم كانوا فئتين: فئه شربت من الماء، وفئة مؤمنة لم تطعم من الماء إلا غرفة. وبذلك يصح كل ما قاله. وهذا بين سيأتي بعد في ص 348- 350 أن من جاوز مع طالوت النهر: الذي لم يشرب من الماء إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير". وكأن المؤمنين جميعا -عنده- قد شربوا من الماء غرفة. هذا ما أرجحه، والله ولى التوفيق. (3) في المخطوطة: "فقالوا: من لم يطعم ومن لم يطعم ماء ذلك النهر00" وهو خلط من الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 بعينه من"الاغتراف". (1) . * * * وقرأه آخرون بالضم، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف. ف"الغرفة" الاسم"، و"الغرفة" المصدر. * * * وأعجب القراءتين في ذلك إلي، ضم"الغين" في"الغرفة"، بمعنى: إلا من اغترف كفا من ماء= لاختلاف"غرفة" إذا فتحت غينها، وما هي له مصدر. وذلك أن مصدر"اغترف"،"اغترافة"، وإنما"غرفة" مصدر:"غرفت". فلما كانت"غرفة" مخالفة مصدر"اغترف"، كانت"الغرفة" التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا، أشبه منها ب"الغرفة" التي هي بمعنى الفعل. (2) * * * قال أبو جعفر: وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء، فكان من شرب منه عطش، ومن اغترف غرفة روي. * ذكر من قال ذلك: 5717- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه. 5718- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، قال: كان الكفار يشربون فلا يروون، وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.   (1) "الفعل" يعني المصدر، كما سلف آنفًا ص: 330 تعليق: 1، وكما سيصرح به الجمل التالية إلى آخر الكلام. (2) هذا تفصيل جيد قلما تصيبه في كتب اللغة. وانظر اللسان مادة (غرف) وقوله الكسائي وغيره في ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 5719- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا، فشربوا منه إلا قليلا منهم= يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه. 5720- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني"، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر منهم أربعة آلاف، (1) ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي. (2) . 5721- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود، فقال: لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يتبعه منافق، ... رجعوا كفارا، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا:"لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير" = (3) وذلك   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فعبر منهم" بإسقاط"معه"، وأثبتها من التاريخ. (2) الأثر: 5720-هو جزء من الخبر الذي في التاريخ 1: 242- 243، وقد جزأه الطبري في هذا التفسير في مواضع كثيرة أشرنا إليها رقم: 5635، 5638، 5679، 5690، 5708. (3) في المخطوطة: "ولم تتبعه منافق، رجعوا كفارا، فلما رأى قلتهم قالوا: لن نمس هذه الماء" وكلتا العبارتين لا تستقيم في الحالتين. وأنا أرجح أنه قد سقط من الناسخ سطر أو بعض سطر، معناه: أن بعض الذين خرجوا معه، رجعوا كفارا لكذبهم في قيلهم ذلك. والذى يرجح ذلك عندي أنه يقول بعد"قال: وأخذ البقية الغرفة"، فهذا دليل على أنه قد أجرى قبل ذلك ذكر الذين شربوا من النهر. فن هذا، وقد كان في المطبوعة: "ولا غيرها"، فأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 أنه قال لهم:"إن الله مبتليكم بنهر"، الآية، فقالوا: لن نمس من هذا، غرفة ولا غير غرفة = (1) قال: وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم، وفضل منهم. (2) قال: والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها. 5722- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه، روي لطاعته. (3) ومن شرب فأكثر، عصى فلم يرو لمعصيته. 5723- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في حديث ذكره، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، يقول الله تعالى ذكره:"فشربوا منه إلا قليلا منهم"، وكان -فيما يزعمون- من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه، ومن لم يطعمه إلا كما أمر: غرفة بيده، أجزاه وكفاه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلما جاوزه هو"، فلما جاوز النهر طالوت."والهاء" في"جاوزه" عائدة على"النهر"، و"هو" كناية   (1) في المطبوعة: "لن نمس من هذا" بزيادة"من"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فشربوا منها"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "روي بطاعته" والذي أثبت، أشبه بالمخطوطة وبالصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 اسم طالوت= وقوله:"والذين آمنوا معه"، يعني: وجاوز النهر معه الذين آمنوا، قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. * * * ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ، ومن قال منهم:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر: ثلثمئة رجل وبضعة عشر رجلا. * ذكر من قال ذلك: 5724- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري= قالا جميعا، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه، ولم يجز معه إلا مؤمن: ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. (1) 5725- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر. (2)   (1) الحديث: 5724 - هذا الحديث عن البراء بن عازب في عدة أهل بدر. وقد رواه الطبري بستة أسانيد، كلها عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب. ورواه أحمد في المسند 4: 290 (حلبي) ، عن وكيع عن أبيه -هو الجراح بن مليح- وسفيان. وهو الثوري، وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي إسحاق، عن البراء. ورواه البخاري 8: 228، من طريق زهير، ومن طريق إسرائيل، ومن طريق الثوري - ثلاثتهم عن أبي إسحاق، به. وذكره ابن كثير 1: 603، عن روايات الطبري، ملخصة الأسانيد. ثم ذكر أنه رواه البخاري. وذكره السيوطي 1: 318، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. ولكنه نسي أن ينسبه لأحمد. (2) الحديث: 5725-أبو بكر-الراوى عن أبي إسحاق: هو ابن عياش. وقد ذكر أخي السيد محمود محمد شاكر أنه وجد في المخطوطة، في آخر هذا الحديث"كلمة غريبة جدا، بعد قوله" الذين جاوزوا النهر" وهي"فسكت"-واضحة جدا. ولم أجدها في مكان آخر ولم أستطع أن أعرف ما هي. وقد حذفت في المطبوعة". وأقول: إني لم أجد-أيضًا- هذه الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما هي؟ ولذلك رأينا حذفها من مطبوعتنا هذه، مع بيان ذلك، أداء للأمانة العلمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 5726- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه، وما جاز معه إلا مؤمن. (1) 5727- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه. (2) 5728- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر، وما جاوز معه إلا مسلم. (3) 5729- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء مثله. (4) 5730- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة   (1) احديث: 5726-أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو. (2) الحديث: 5727-والد وكيع: هو الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي، وهو ثقة، تكلم فيه بغير حجة، كما بينا في شرح المسند، في الحديث: 650. ورواية وكيع عن أبيه هذا الحديث- هي إحدى روايات المسند، التي أشرنا إليها في الحديث الماضي: 5724. (3) الحديث: 5728-مؤمل: هو ابن إسماعيل العدوى. وسفيان-في هذا والذي قبله: هو الثوري. (4) الحديث: 5729 -أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. مسعر: هو ابن كدام، مضت ترجمته في: 1974. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. 5731- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: محص الله الذين آمنوا عند النهر، وكانوا ثلثمئة، وفوق العشرة ودون العشرين، فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة. * * * وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق، حين لقوا جالوت. * ذكر من قال ذلك: 5732- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت، رجعوا أيضا وقالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر، عدة أهل بدر. (1) 5733- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال الذين شربوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت   (1) الأثر: 5732 -هو جزء من الأثر الطويل الذى رواه في التاريخ 1: 242- 243، وجزأه في التفسير، كما أشرنا إليه في التعليق على الأثر: 5720. ورواية أبي جعفر هنا: "وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر"، وفي التاريخ"وتسعة عشر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 ولقائه، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق= (1) وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" = ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم، وهم أهل الثبات على الإيمان، فقالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". * * * فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة، لأن الله تعالى ذكره قال:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه"، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان، على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان= (2) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان- أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر، وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، عن المؤمنين بالمجاوزة، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين. والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، قول الله تعالى ذكره:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، فأوجب الله تعالى ذكره أن"الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو   (1) في المطبوعة: "وانخذل عنه"، بالذال، وهو خطأ غث لا يقال هنا، والصواب في المخطوطة. وانخزل عنه: انقطع وانفرد، وفي حديث آخر: "انخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان"، أي انفرد ورجع بقومه. (2) السياق: "فإن ظن ذو غفلة00 فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 الله- وأن"الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله، أو شك فيه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين= أعني القائلين:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، والقائلين:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، من هما؟ فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، هم أهل كفر بالله ونفاق، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر. * ذكر من قال ذلك: 5734- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي بذلك. * * * وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا. (2) * * * 5735- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) هذه حجة بينة ماضية، تتضمن من البصر والفهم والدقة ما ينبغي أن يوقف عنده. (2) انظر الأثر رقم: 5722. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 ابن جريج:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين اغترفوا وأطاعوا، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون، وجلس الذين شكوا. * * * وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان، ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة، بل كانوا جميعا أهل طاعة، ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". والآخرون كانوا أضعف يقينا. وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". * ذكر من قال ذلك: 5736- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، ويكون [والله] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض، وهم مؤمنون كلهم. (1) 5737- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت: ثلثمئة. = قال قتادة: وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر. 5438- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا، وهم الذين قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". * * * ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب: أنه لم يجاوز النهر مع طالوت   (1) ما بين القوسين زيادة من المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 إلا عدة أصحاب بدر- أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به، أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا. (1) * * * وأما تأويل قوله:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، فإنه يعني: قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله. (2) 5739- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين يستيقنون. * * * فتأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله، للذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"="كم من فئة قليلة"، يعني ب"كم"، كثيرا، غلبت فئة قليلة="فئة كثيرة بإذن الله"، يعني: بقضاء الله وقدره= (3) "والله مع الصابرين"، يقول: مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته. (4) * * * وقد أتينا على البيان عن وجوه"الظن"، وأن أحد معانيه: العلم اليقين، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (5) * * * وأما"الفئة"، فإنهم الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، وهو مثل"الرهط" و"النفر"، يجمع (6) "فئات"، و"فئون" في الرفع، و"فئين" في   (1) انظرما سلف: 349، 350. (2) انظر القول في قوله: "ملاقو الله" فيما سلف 2: 20-22 /4: 419. (3) انظر تفسي"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450/ 4: 287، 371. (4) انظر معنى"الصبر" فيما سلف 2: 11، 124/ 3: 214، 349، وفهارس اللغة. (5) انظر ما سلف 2: 17 - 20/ ثم: 265. (6) في المطبوعة: "جمعه"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 النصب والخفض، بفتح نونها في كل حال. و"فئين" بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها، وفي النصب"فئينا"، وفي الخفض"فئين"، فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها. وفي كل ذلك مقرة فيها"الياء" على حالها. فإن أضيفت قيل:"هؤلاء فئينك"، (1) بإقرار النون وحذف التنوين، كما قال الذين لغتهم:"هذه سنين"، في جمع"السنة"=:"هذه سنينك"، بإثبات النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة. وكذلك العمل في كل منقوص مثل"مئة" و"ثبة" و"قلة" و"عزة": فأما ما كان نقصه من أوله، فإن جمعه بالتاء، مثل"عدة وعدات"، و"صلة وصلات". * * * وأما قوله:"والله مع الصابرين" فإنه يعني: والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله، المخالفين منهاج دينه. * * * وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره:"هو معه"، بمعنى هو معه بالعون له والنصرة. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولما برزوا لجالوت وجنوده"، ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده. * * *   (1) في المطبوعة: " فئنك"، وهو خطأ. (2) انظر تفسير"فيما سلف 3: 214. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 ومعنى قوله:"برزوا" صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر منها واستوى. ولذلك قيل للرجل القاضي حاجته:"تبرز"، لأن الناس قديما في الجاهلية، إنما كانوا يقضون حاجتهم في البراز من الأرض. وذلك كما قيل: (1) "تغوط"، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في"الغائط" من الأرض، وهو المطمئن منها، فقيل للرجال:"تغوط" أي صار إلى الغائط من الأرض. * * * وأما قوله:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، فإنه يعني أن طالوت وأصحابه قالوا:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، يعني أنزل علينا صبرا. * * * وقوله:"وثبت أقدامنا"، يعني: وقو قلوبنا على جهادهم، لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم="وانصرنا على القوم الكافرين"، الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك، واتخذوا الأوثان أربابا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فهزموهم"، (2) فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت. وفي هذا الكلام متروك، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه. وذلك أن معنى الكلام:"ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "لذلك كما قيل"، والسياق يقتضي ما أثبت، وليست"لذلك" من تمام الجملة السالفة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني تعالى ذكره بقوله فهزم طالوت ... "، والسياق يقتضي زيادة"فهزموهم" من نص الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"، فاستجاب لهم ربهم، فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم، ونصرهم على القوم الكافرين="فهزموهم بإذن الله" ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله:"فهزموهم بإذن الله"، على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به. * * * ومعنى قوله:"فهزموهم بإذن الله"، فلوهم بقضاء الله وقدره. (1) يقال منه:"هزم القوم الجيش هزيمة وهزيمى". (2) * * * "وقتل داود جالوت". وداود هذا هو داود بن إيشى، (3) نبي الله صلى الله عليه وسلم. وكان سبب قتله إياه، كما: - 5740- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، سمعت وهب بن منبه يحدث قال: لما خرج= أو قال: لما برز= طالوت لجالوت، قال جالوت: أبرزوا إلي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم! فأتي بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، (4) وأن يحكمه في ماله. فألبسه طالوت سلاحا، فكره داود أن يقاتله بسلاح، (5) وقال: إن الله لم ينصرني عليه، لم يغن السلاح! فخرج إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار، ثم برز له. قال له جالوت: أنت تقاتلني! ! قال داود:   (1) انظر معنى الإذن فيما سلف قريبا: 352، تعليق: 3. ومراجعة هناك، وأما قوله"فلوهم"، فهو من قولهم: " فللت الجيش فلا"، هزمته وكسرته. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "قتلوهم" من القتل، وهو خطأ لا خير فيه، فإن الهزيمة الانكسار، لا القتل. وهزمه: كسره، لا قتله. (2) " هزيمى" بكسر الهاء وتشديد الزاى المكسورة، وميم مفتوحة للألف المقصورة. (3) (يسى) في كتاب القوم، (صموئيل الأول: الإصحاح السابع عشر) . (4) قاضاه على كذا: صالحه عليه، وهو من القضاء الفصل والحكم، ومثله ما جاء في صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد". (5) قوله" بسلاح" ليست في المطبوعة ولا المخطوطة، وهي لا غنى عنها، زدتها من نص الأثر في الدر المنثور 1: 318- 319. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 نعم! قال: ويلك! ما خرجت إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! (1) لأبددن لحمك، (2) ولأطعمنّه اليوم الطير والسباع! فقال له داود: بل أنت عدو الله شر من الكلب! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع، فأصابت بين عينيه حتى نفذ في دماغه، (3) فصرع جالوت وانهزم من معه، واحتز داود رأسه. فلما رجعوا إلى طالوت، ادّعى الناس قتل جالوت، فمنهم من يأتي بالسيف، وبالشيء من سلاحه أو جسده، وخبأ داود رأسه. فقال طالوت: من جاء برأسه فهو الذي قتله! فجاء به داود، ثم قال لطالوت: أعطني ما وعدتني! فندم طالوت على ما كان شرط له، وقال: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاحتمل صداقها ثلثمئة غلفة من أعدائنا. (4) وكان يرجو بذلك أن يقتل داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمئة وقطع غلفهم، وجاء بها. فلم يجد طالوت بدا من أن يزوجه، ثم أدركته الندامة. فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل، فنهض إليه طالوت فحاصره. فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه، فهبط إليهم داود فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، (5) ثم رجع داود إلى مكانه فناده: أن [قد نمت ونام] حرسك، (6) فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت، فإنه هذا إبريقك، وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك! وبعث [به] إليه، (7) فعلم طالوت أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك عليه فأمنه، وعاهده بالله لا يرى منه بأسا. ثم انصرف. ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس لقتله. وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم، حتى مات= قال بكار: وسئل وهب وأنا أسمع: أنبيا كان طالوت يوحى إليه؟ فقال: لم يأته وحي، ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه، وهو الذي ملك طالوت. 5741- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان داود النبي وإخوة له أربعة، معهم أبوهم شيخ كبير، فتخلف أبوهم، وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له، وكان من أصغرهم. وخرج إخوته الأربعة مع طالوت، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض. = قال ابن إسحاق: وكان داود، فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: رجلا قصيرا أزرق، (8) قليل شعر الرأس، وكان طاهر القلب نقيه= (9) فقال له أبوه: يا بني، إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوون به على عدوهم، فاخرج به إليهم، فإذا دفعته إليهم فأقبل إلي سريعا! فقال: أفعل. فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته، ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة، ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنمه. حتى إذا فصل من عند أبيه، فمر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر يعقوب! فأخذه فجعله في مخلاته، ومشى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر آخر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي   (1) في المخطوطة: "أما رحب إلا كما تخرج"، وفي المطبوعة: "إما تخرج إلي إلا كما يخرج" والذي في الدر المنثور، إقرب إلى ما في المخطوطة، مع نسخ الناسخ في هذا الموضع خاصة. (2) في المخطوطة: "لأردن لحمك"، وكأن ما في المطبوعة هو الصواب، وكذلك هو في الدر المنثور. (3) في المطبوعة والدر المنثور: "فأصابت بين عينيه ونفذت"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) الغلفة والغرلة والقلفة (بضم أولها وسكون ثانيها"، هو الغشاء الذي يقع عليه الختان من عورة الرجل. (5) هدب الثوب وهدبته: طرفه مما يلي طرته. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "فناداه أن ... حرسك" بياض بينهما، وهكذا رأيت أن تكون ولو اختار أن تكون: "أن بدل حرسك"، لكان حسنا أيضًا. (7) ما بين القوسين زيادة يتقضيها السياق. (8) قوله: "أزرق"، يريد أزرق العينين، وكانت العرب تتشاءم من الزرق. (انظر الحيوان 5: 330- 333) . (9) هذه الفقرة من الأثر، رواها أبو جعفر في تاريخه 1: 247. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 جالوت، فإني حجر إسحاق! فأخذه فجعله في مخلاته، ثم مضى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر إبراهيم! فأخذه فجعله في مخلاته. ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم، فأعطى إخوته ما بعث إليهم معه. وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت وعظم شأنه فيهم، (1) وبهيبة الناس إياه، وبما يعظمون من أمره، (2) فقال لهم: والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدو شيئا ما أدري ما هو! ! والله إني لو أراه لقتلته! فأدخلوني على الملك. فأدخل على الملك طالوت، فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو! والله إني لو أراه لقتلته! فقال: يا بني! ما عندك من القوة على ذلك؟ (3) وما جربت من نفسك؟ (4) قال: قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه، فآخذ برأسه، فأفك لحييه عنها، فآخذها من فيه، (5) فادع لي بدرع حتى ألقيها علي. فأتي بدرع فقذفها في عنقه، ومثل فيها ملء عين طالوت ونفسه ومن حضره من بني إسرائيل، (6) فقال طالوت: والله، لعسى الله أن يهلكه به! فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت، فلما التقى الناس قال داود: أروني جالوت! فأروه إياه على فرس عليه لأمته، (7) فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته، فيقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! فأخذ أحدها فجعله في مقذافه، ثم فتله به، ثم أرسله، فصك به بين عيني جالوت فدمغه، (8) وتنكس عن دابته، فقتله. ثم انهزم جنده، وقال الناس: قتل داود جالوت! وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه، حتى لم يسمع لطالوت بذكر= إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود، هم بأن يغتال داود وأراد قتله، فصرف الله ذلك عنه وعن داود، وعرف خطيئته، والتمس التوبة منها إلى الله. * * * وقد روي عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين اللتين ذكرنا قبل، وهو ما: - 5742- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى إلى نبي بني إسرائيل: (9) أن قل لطالوت فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا إلا قتله، فإني سأظهره عليهم. فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل من كان فيها إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم. فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، (10) فجاء بملكهم أسيرا، وساق مواشيهم! فالقه. فقل له: لأنزعن الملك من بيته ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم من أطاعني، وأهين من هان   (1) في المخطوطة: "سمع دوحرص الناس بذكر جالوت"، ولم يتبين لي كيف كانت، ولا ما هي، فتركت ما في المطبوعة على حاله، فإنه قريب المعنى صحيحه. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما يعظمون"، وما أثبت أشبه بالسياق. والمخطوطة كثيرة التحريف والتصحيف هنا كما ترى. (3) في المطبوعة: "فأتني ما عندك من القوة"، وهو كلام سخيف. والصواب من المخطوطة، لم يحسن الطابع أو الناسخ قراءتها. والنظر ما سيأتي في الأثر: 5742، وقوله: "يا بني"، وسؤاله: "هل آنست من نفسك شيئا"، ص: (4) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما جربت"، والسياق يوجب ما أثبت. (5) اللحيان العظمان اللذان فيهما الأسنان. وهما حائطا الفم، الواحد"لحى" (بفتح فسكون) . (6) في المطبوعة: " ومثل فيها فملأ عين طالوت"، وفي المخطوطة: "وسل فيها مل عين طالوت". غير منقوطة ولا بينة. وأثبت"مثل" من المطبوعة، وكأنها قربية من الصواب. وفي المطبوعة: "ومن حضر"، وأثبت في المخطوطة. (7) اللأمة (بفتح فسكون) : الدرع الحصينة وبيضة الرأس، من لباس الحرب. (8) دمغه دمغا: شجه، حتى بلغت الشجة الدماغ. وهذه الشجة تسمى"الدامغة". (9) في المخطوطة: "أوحى إلى بني بني إسرائيل"، وفي المطبوعة: "أوحى إلى نبي بني إسرائيل"، وأثبت ما في تاريخ الطبري. (10) في المطبوعة: "فاختان فيه"، من الخيانة. وكان في المخطوطة: " فاختار فيه"، من الاختيار، أي اختار ما شاء منه ولم ينفذه على وجهه تماما. وأثبت ما في التاريخ. و"اختل" من الخلل: وهو الفساد والوهن في الأمر، وترك إبرامه وإحكامه. يقال: "أخل بالأمر"، لم يف به. و"أخل بمكانه": غاب عنه وتركه. فمعنى"أختل فيه". أي ضعف فيه وأدخل عليه الخلل. ولم أجد نصها في كتب اللغة، ولكنها عربية البناء. هذا، وكان في المخطوطة والمطبوعة: " إذ أمرته فاختان"، بحذف"بأمري"، وأثبتها من التاريخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 عليه أمري! فلقيه فقال له: (1) ما صنعت!! لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقتَ مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقربها. (2) قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك الملك، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة! فأوحى الله إلى أشمويل: أن انطلق إلى إيشى، فيعرض عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى فقال: اعرض علي بنيك! فدعا إيشى أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه فقال: الحمد لله، إن الله لبصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك يبصران ما ظهر، وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، (3) اعرض علي غيره، فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول: ليس بهذا. فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى! لي غلام أمغر، (4) وهو راع في الغنم. فقال: أرسل إليه. فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر، فدهنه بدهن القدس وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل، فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال. فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يقتل قومي وقومك؟ (5) ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحا: من يبرز لجالوت، فإن قتله فإن الملك يُنْكحه ابنته، ويشركه في ملكه. (6) فأرسل إيشى داود إلى إخوته= قال الطبري، هو أيشى، ولكن قال المحدث: إشى = (7) وكانوا في العسكر فقال: اذهب فزود إخوتك، (8) وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا؟ فجاء إلى إخوته وسمع صوتا: إن الملك يقول: من يبرز لجالوت! فإن قتله أنكحه الملك ابنته. فقال داود لإخوته: ما منكم رجل يبرز لجالوت فيقتله وينكح ابنة الملك؟ فقالوا: إنك غلام أحمق! ومن يطيق جالوت، وهو من بقية الجبارين!! فلما لم يرهم رغبوا في ذلك قال: فأنا أذهب فأقتله! فانتهروه وغضبوا عليه، فلما غفلوا عنه ذهب حتى جاء الصائح فقال: أنا أبرز لجالوت! فذهب به إلى الملك، فقال له: لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل، هو هذا! قال: يا بني، أنت تبرز لجالوت فتقاتله! قال: نعم. قال: وهل آنست من نفسك شيئا؟ قال: نعم، كنت راعيا في الغنم فأغار علي الأسد، فأخذت بلحييه ففككتهما. فدعا له بقوس وأداة كاملة، فلبسها وركب الفرس، ثم سار منهم قريبا، ثم صرف فرسه، فرجع إلى الملك، فقال الملك ومن حوله: جبن الغلام! فجاء فوقف على الملك، فقال: ما شأنك؟ قال داود: إن لم يقتله الله لي، لم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح! فدعني فأقاتل كما أريد. فقال: نعم يا بني. فأخذ داود مخلاته فتقلدها، وألقى فيها أحجارا، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به، (9) ثم مضى نحو جالوت. فلما دنا من عسكره قال: أين جالوت يبرز لي؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله، فلما رآه جالوت قال: إليك أبرز؟! قال نعم. قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كم يؤتى إلى الكلب! قال: هو ذاك. قال: لا جرم أني سوف أقسم لحمك بين طير السماء وسباع الأرض! قال داود: أو يقسم الله لحمك! فوضع داود حجرا في مقلاعه ثم دوره فأرسله نحو جالوت، فأصاب أنف البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه، فوقع من فرسه. فمضى داود إليه فقطع رأسه بسيفه، فأقبل به في مخلاته، وبسلبه يجره، حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرحوا فرحا شديدا. وانصرف طالوت، فلما كان داخل المدينة سمع الناس يذكرون داود، فوجد في نفسه. (10) فجاءه داود فقال: أعطني امرأتي! فقال: أتريد ابنة الملك بغير صداق؟ فقال داود: ما اشترطت علي صداقا، وما لي من شيء!! قال: لا أكلفك إلا ما تطيق، أنت رجل جريء، وفي جبالنا هذه جراجمة يحتربون الناس، (11) وهم غلف، فإذا قتلت منهم مئتي رجل فأتني بغلفهم. (12) فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط، حتى نظم مئتي غلفة. ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى بها إليه (13) فقال: ادفع إلي امرأتي، قد جئت بما اشترطت. فزوجه ابنته، (14) وأكثر الناس ذكر داود، وزاده عند الناس عجبا. (15) فقال طالوت لابنه: لتقتلن داود! قال: سبحان الله، ليس بأهل ذلك منك! قال: إنك غلام أحمق! ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك! فلما سمع ذلك من أبيه انطلق إلى أخته فقال لها: إني قد خفت أباك أن يقتل زوجك داود، فمريه أن يأخذ حذره ويتغيب منه. فقالت له امرأته ذلك، فتغيب. فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود، وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته. فلما جاء رسول طالوت قال: أين داود؟ ليجب الملك! فقالت له: بات شاكيا ونام الآن، ترونه على الفراش. فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك، فمكث ساعة ثم أرسل إليه، فقالت: هو نائم لم يستيقظ بعد. فرجعوا إلى الملك فقال: ائتوني به وإن كان نائما! فجاؤوا إلى الفراش فلم يجدوا عليه أحدا، فجاؤوا الملك فأخبروه، فأرسل إلى ابنته فقال: ما حملك على أن تكذبين؟ قالت: هو أمرني بذلك، وخفت إن لم أفعل أمره أن يقتلني! وكان داود فارا في الجبل حتى قتل طالوت وملك داود بعده. 5743- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان طالوت أميرا على الجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لي فأقتل جالوت؟ قال: لك ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي. (16) فأخذ مخلاته، فجعل فيها ثلاث مروات، (17) ثم سمى حجارته تلك:"إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب"، ثم أدخل يده فقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! فخرج على"إبراهيم"، فجعله في مرجمته، فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ثلاثين ألفا من ورائه. 5744- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر، مع ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه. فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته! فقال: أبشر يا بني! فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك. ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبت عليه فأخذت بأذنيه، فلم يهجني! (18) قال: أبشر يا بني! فإن هذا خير يعطيكه   (1) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط"له"، وأثبتها من التاريخ. (2) أي: لأجعلها قربانا لله، يذبحها قربانا. (3) قوله: " فقال: ليس بهذا"، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وأثبتها من التاريخ. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "بني لي غلام ... "، وأثبت ما في التاريخ. وقوله"أمغر" هنا، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وأثبتها من التاريخ. والأمغر: الذي في وجهه حمرة وبياض. وفي كتاب القوم (صموئيل الأول، الإصحاح السادس عشر) أنه كان أشقر. (5) في المطبوعة: "لم تقتل قومي وأقتل قومك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (6) عند هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في تاريخه 1: 247- 248 من هذا الأثر. (7) هذه الجملة المعترضة ثابتة في المخطوطة، وحذفت من المطبوعة. (8) في المخطوطة والمطبوعة: "فرد إخوتك"، وليس صحيحا، بل الصحيح أنه أرسله بزاد إلى إخوته كما سلف في الماضية، وكأن الصواب"فزود"، أو"بزاد إخوتك". (9) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأجدر أن يقال: "يرمي به". (10) وجد في نفسه: أي غضب، فلم يظهر غضبه، وحسده على ما أصاب من ذكر الناس له. (11) الجراجمة: نبط الشام. واحتربه: استلبه وانتهبه، يقول: هم لصوص يستلبون الناس وينتهبونهم. (12) الغلف (بضم فسكون) جمع أغلف"، وهو الذي لم يختتن. وأما"فأتني بغلفهم" فهو جمع غلفة (بضم فسكون) : وهي الغرلة التي يقع عليها الختان. (13) في المخطوطة: "مئتي غلفة إلى طالوت"، وما بينهما بياض، وقد تركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه سياق لا بأس به، إلا أنه كان فيها: "ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى إليه"، فجعلتها كما ترى. (14) في المخطوطة: "قد ... وأكثر الناس" ما بعد"قد" بياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله، لوفائه بالسياق. (15) كأنها في المخطوطة تقرأ: " ورأوه عند الناس عجبا"، ولكني لم أستطع تحققها، فتركت ما في المطبوعة كما هو، فهو قريب المعنى. (16) في المطبوعة: "ثلث مالي"، والذى في المخطوطة: "ثلث مللى"، فرجحت أنها"ملكي" لما سيأتي في الأثر رقم: 5744، 5747. (17) مروات جمع مروة، والمرو: حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، والمرو أصلب الحجارة. (18) هاج الشيء يهيجه: أزعجه ونفره. يعني: لم يزعجني عن مكاني منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 الله. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبّح، فما يبقى جبل إلا سبح معي! فقال: أبشر يا بني! فإن هذا خير أعطاكه الله. وكان داود راعيا، وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام. (1) فأتى النبي (2) [عليه السلام] بقرن فيه دهن، (3) وسَنَوَّرٍ من حديد، (4) فبعث به إلى طالوت فقال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي حتى يدهن منه، ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا السَّنَوَّر فيملأه. (5) فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم به، فلم يوافقه منهم أحد. (6) فلما فرغوا، قال طالوت لأبي داود: هل بقي لك من ولد لم يشهدنا؟ قال: نعم! بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام. (7) فلما أتاه داود، مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت! قال: فأخذهن فجعلهن في مخلاته. وكان طالوت قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي. فلما جاء داود، وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه، ولبس السَّنَوَّر فملأه= وكان رجلا مسقاما مصفارا= (8) ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه. فلما لبسه داود تضايق الثوب عليه حتى تنقض. (9) . ثم مشى إلى جالوت= وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم= فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى! ارجع، فإني أرحمك أن أقتلك! قال داود: لا بل أنا أقتلك! فأخرج الحجارة فجعلها في القذافة، كلما رفع حجرا سماه، (10) فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل. ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت، فنقبتُ رأسَه فقتلته، (11) ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه، تنفذ منه حتى لم يكن يحيا لها أحد. فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت، فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود فأحبوه. فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده، فأراد قتله. فعلم به داود أنه يريد به ذلك، فسجى له زق خمر في مضجعه، (12) فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطرة من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود! ما كان أكثر شربه للخمر!! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه، وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، (13) ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: يرحم الله داود! هو خير مني، ظفرت به فقتلته، وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود! = وكان داود إذا فزع لا يدرك= فركض على أثره طالوت، ففزع داود فاشتد فدخل غارا، (14) وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا. فلما انتهى طالوت إلى الغار، نظر إلى بناء العنكبوت فقال: لو كان دخل ها هنا لخرق بيت العنكبوت!! فخيل إليه، (15) فتركه. (16) 5745- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار. وإن جالوت برز لهم فنادى: ألا رجل لرجل! فقال طالوت: من يبرز له؟ وإلا برزت له؟ فقام داود فقال: أنا! فقام له طالوت فشد عليه درعه، فجعل يراه يشخص فيها ويرتفع، (17) فعجب من ذلك طالوت، فشد عليه أداته كلها= وإن داود رماهم بحجر من تلك الحجارة، فأصاب في القوم، ثم رمى الثانية بحجر، فأصاب فيهم، ثم رمى الثالثة فقتل جالوت. فآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، وصار هو الرئيس عليهم، وأعطوه الطاعة. 5746- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) ، فقرأ حتى بلغ: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، قال: أوحى الله إلى نبيهم: إن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن تضعه على رأسه فيفيض ماء. فأتاه فقال: إن الله أوحى إلي أن في ولدك رجلا   (1) في تاريخ الطبري: "يأتي أبيه وإلي إخوته"، والصواب ما في التفسير. (2) قوله: "فأتى النبي ... " إلى آخر الكلام، يوهم القارئ أنه منقطع، وليس كذلك، فإن الطبري كعادته يقسم الأثر ويجزئه في مواضع من تفسيره. وهذا الأثر الذي هنا، تتمة الآثار السالفة: 5720، 5732، كما أشرنا إليه في التعليق هناك، وكما سنشير إليه بعد. والنبي هو شمعون، كما مضى في تلك الآثار. (3) انظر تفسير"القرن" فيما سلف: 307، تعليق: 1. (4) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري، وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين، وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: 358، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: 5746، 5747. (5) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري، وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين، وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: 358، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: 5746، 5747. (6) في المخطوطة والمطبوعة: "فجربهم فلم يوافقه" بإسقاط"به" وأثبت ما في التاريخ. (7) في المطبوعة: "بطعامنا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (8) رجل مسقام، وامرأة مسقام أيضًا: كثير السقم لا يكاد يبرأ. مصفار من قولهم: اصفار لونه: غلبته، وذلك من المرض والضعف. (9) يقال: تنقضت الغرفة وغيرها: تشققت، وسمع لها نقيض، وهو صوت التكسر والتشقق. وكان في المطبوعة: "ينقض" بالياء التحتية، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (10) زدت"منها" من التاريخ. (11) في المطبوعة: "فنقب رأسه فقتله"، والصواب من التاريخ، ومن المخطوطة على بعض الخطأ فيها. (12) سجى الشيء والميت: غطاه ومد عليه ثوبا. والزق (بكسر الزاى) : جلد الشاة يسلخ من رجل واحدة، ومن رأسه وعنقه، ثم يعالج حتى يكون سقاء، وكانوا أكثر ما يتخذونه للخمر. (13) في المخطوطة والمطبوعة: "سهمين" مرة واحدة، وأثبت ما في التاريخ، وهو الصواب. وقوله بعد: "ثم نزل"، زيادة من التاريخ ليست في المخطوطة ولا المطبوعة. (14) اشتد: عدا عدوا سريعا. والشد: العدو السريع. (15) قوله: "خيل إليه"، يعني دخلته الشبهة في أمره، لما أشكل عليه، ولم أجد هذا التعبير بنصه في كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية، من قولهم: "أخال الشيء": أي اشتبه. (16) الأثر: 5744-هو تمام الآثار السالفة التي أشرت إليها في التعليق على الأثرين: 5720، 5732، كما أشرت إليه آنفًا في التعليقات القريبة. وهو في الدر المنثور1: 319، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 1: 604-608، بغير هذا اللفظ، وإن كان قريبا منه. (17) شخص يشخص شخوصا: ارتفع وعلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 يقتل الله به جالوت! (1) فقال: نعم يا نبي الله! قال: فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري، (2) وفيهم رجل بارع عليهم، (3) فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع! فيردده عليه. فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم. قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره! فقال: كذب! فقال: إن ربي قد كذبك! وقال: إن لك ولدا غيرهم! فقال: صدق يا نبي الله، (4) . لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس، فجعلته في الغنم! قال: فأين هو؟ قال في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا. فخرج إليه، فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها، (5) قال: ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ولا يخوض بهما السيل. (6) فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه! هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض. (7) فقال له: ابن أخي! هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك؟ (8) قال: نعم، إذا سبحت، سبحت معي الجبال، وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة، قمت إليه فافتح لحييه عنها فلا يهيجني! قال: وألفى معه صفنه. (9) قال: فمر بثلاثة أحجار ينتزى بعضها على بعض، (10) كل واحد منها يقول: أنا الذي يأخذ! ويقول هذا: لا! بل إياي يأخذ! ويقول الآخر مثل ذلك. قال: فأخذهن جميعا فطرحهن في صُفْنِه. فلما جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا، قال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله في كتابه، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين". قال: واجتمع أمرهم وكانوا جميعا، وقرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين". (11) وبرز جالوت على بِرْذَوْن له أبلق، في يده قوس نُشَّاب، (12) فقال: من يبرز؟ أبرزوا إلي رأسكم! قال: ففظع به طالوت، (13) قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: من رجل يكفيني اليوم جالوت؟ فقال داود: أنا. فقال: تعال! قال: فنزع درعا له، فألبسه إياها. قال: ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه. قال: فرمى بنشابة فوضعها في الدرع. قال: فكسرها داود ولم تضره شيئا، ثلاث مرات، ثم قال له: خذ الآن! فقال داود: اللهم اجعله حجرا واحدا. قال: وسمى واحدا إبراهيم، وآخر إسحاق، وآخر يعقوب. قال: فجمعهن جميعا فكن حجرا واحدا. قال: فأخذهن وأخذ مقلاعا، فأدارها ليرمي بها فقال: أترميني كما يرمي السبع والذئب؟ أرمني بالقوس! قال: لا أرميك اليوم إلا بها! فقال له مثل ذلك أيضا، فقال: نعم! وأنت أهون علي من الذئب! فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله. قال: فخلى سبيلها مأمورة. قال: فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من قفاه، (14) ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا، وهزمهم الله. 5747- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما قطعوا ذلك= يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا عن قيل طالوت لجنوده:"إن الله مبتليكم بنهر"= وجاء جالوت، وشق على طالوت قتاله، فقال طالوت للناس: لو أن جالوت قتل، أعطيت الذي يقتله نصف ملكي، وناصفته كل شيء أملكه! فبعث الله داود= وداود يومئذ في الجبل راعي غنم، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود، وهم أبدّ منه، (15) وأغنى منه، (16) وأعرف في الناس منه، وأوجه عند طالوت منه، فغزوا وتركوه في غنمهم= فقال داود حين ألقى الله في نفسه ما ألقى، وأكرمه: لأستودعن ربي غنمي اليوم، ولآتين الناس، (17) فلأنظرن ما الذي بلغني من قول الملك لمن قتل جالوت! فأتى داود إخوته، فلاموه   (1) في المطبوعة: "أن في ولد فلان ... " مرة أخرى، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (2) السواري جمع السارية: وهي الأسطوانة، من حجارة أو آجر، وفي الحديث أنه نهى أن يصل بين السواري، وهي أسطوانة المسجد، وذلك في صلاة الجماعة، من أجل انقطاع الصف. (3) برع يبرع فهو بارع: تم في كل فضيلة وجمال، وفاق أصحابه في العلم وغيره. ويقال: امرأة بارعة: فائقة الجمال والعقل. وكل مشرف يفوق ويعلو، فهو بارع وفارغ. وفي التاريخ"بارع" بحذف"عليهم" وهما سواء، وسيأتي وصفه بعد قليل بأنه"الجسيم"، وهما بمعنى متقارب. (4) في المطبوعة: "صدق" بإسقاط"قد"، وهي في المخطوطة والتاريخ. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "بينه وبين التي يريح ... ": والصواب من التاريخ. وأراح غنمه وأبله يريحها إراحة. ردها إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا. والمراح (بضم الميم) : مأوى الإبل والغنم. وهو من الرواح، وهو السير بالعشي. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "يحمل شاتين، يجوز بهما، ولا يخوض" بإسقاط"شاتين""الثانية" وأسقطت المطبوعة: "السيل" الأولى، فأثبت ما في التاريخ وهو الصواب. يقال: "جاز المكان وأجازه" بمعنى واحد. وفي حديث الصراط: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز عليه" بضم الياء. (7) عند هذا الموضع انتهى ما رواه الطبري في تاريخه من هذا الأثر الطويل 1: 247. (8) أعجبه الأمر يعجبه: استخرج عجبه به، إذ يراه أمرا عجيبا. (9) في المطبوعة، أسقط بين الكلامين: "قال"، وهي لا بد منها، لأن الحديث غير متصل، كما سترى الذي يليه: "قال فمر ... "، يعني دواد. والصفن (بضم فسكون) : خريطة الراعي، يكون فيها طعامه وزاده وما يحتاج إليه. (10) في المطبوعة: "يأثر بعضها على بعض"، وهو كلام بلا معنى. وفي المخطوطة: " ينترى" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. وانتزى فلان على فلان وتنزى عليه: إذا تسرع إليه بالشر وتواثبا. من"النزو"، وهو الوثب. (11) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه: وبرز جالوت على برذون أبلق في يده قوس نشاب وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرا" ثم بعد ذلك: "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر". (12) في المطبوعة: "قوس ونشاب"، وأثبت ما في المخطوطة. (13) أفظعه الأمر، وفظع به فظاعة وفظعا (بفتحتين) واستفظعه وأفظعه: رآه فظيعا، فهاله وغلبه، فلم يثق بأن يطيقه. (14) أظل الشيء يظل: أقبل ودنا. وفي حديث مالك: "فلما أظل قادما حضرني بثى". (15) في المطبوعة: أند منه"، ولا يظهر لها معنى. وفي المخطوطة"أند" غير منقوطة، وقرأتها كذلك من"البدد"، وهو عرض ما بين المنكبين، وعظم الخلق، وتباعد ما بين الأعضاء. وهذه صفة إخوته كما سلف في آثار ماضية. هذا على أنهم يقولون في الصفة: "رجل أبد، وامرأة بداء". (16) في المطبوعة: "وأعتى منه"، وفي المخطوطة: " وأعنى منه"، وكأن الصواب ما أثبت. (17) في المخطوطة: "ولا / ببر"، في سطرين، وكأن الصواب ما في المطبوعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 حين أتاهم، فقالوا: لم جئت؟ قال: لأقتل جالوت، فإن الله قادر أن أقتله. (1) فسخروا منه= قال ابن جريج، قال مجاهد: كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات، ثم سماهن"إبراهيم" و"إسحاق" و"يعقوب"= قال ابن جريج، قالوا: وهو ضعيف رث الحال، فمر بثلاثة أحجار فقلن له: خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت! فأخذهن داود وألقاهن في مخلاته. فلما ألقاهن سمع حجرا منهن يقول لصاحبه: أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثاني: أنا حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثالث: أنا حجر داود الذي أقتل جالوت! فقال الحجران: يا حجر داود، نحن أعوان لك! فصرن حجرا واحدا. وقال الحجر: يا داود، اقذف بي، فإني سأستعين بالريح= وكانت بيضته، فيما يقولون والله أعلم، فيها ستمئة رطل= (2) فأقع في رأس جالوت فأقتله! قال ابن جريج، وقال مجاهد: سمى واحدا إبراهيم، والآخر إسحاق، والآخر يعقوب، وقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! وجعلهن في مرجمته- قال ابن جريج: فانطلق حتى نفذ إلى طالوت (3) فقال: إنك قد جعلت لمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملكه! أفلي ذلك إن قتلته؟ قال: نعم! والناس يستهزئون بداود، وإخوة داود أشد من هنالك عليه. وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده، فإذا لم تكن قدرا عليه نزعها عنها. (4) وكانت درعا سابغة من دروع طالوت، فألبسها داود، فلما رأى قدرها عليه أمره أن يتقدم. فتقدم داود، فقام مقاما لا يقوم فيه أحد، وعليه الدرع. فقال له جالوت: ويحك! من أنت؟ إني أرحمك! ليتقدم إلي غيرك من هذه الملوك! أنت إنسان ضعيف مسكين! فارجع. فقال داود: أنا الذي أقتلك بإذن الله، ولن أرجع حتى أقتلك! فلما أبي داود إلا قتاله، تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه، فأخرج الحجر من المخلاة، فدعا ربه ورماه بالحجر، فألقت الريح بيضته عن رأسه، فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه فقتله= قال ابن جريج، وقال مجاهد: لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا، قال الله تعالى:"وقتل داود جالوت". فقال داود لطالوت: ف لي بما جعلت. (5) فأبى طالوت أن يعطيه ذلك. فانطلق داود فسكن مدينة من مدائن بني إسرائيل حتى مات طالوت. فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود فجاؤوا به فملّكوه، وأعطوه خزائن طالوت، وقالوا: لم يقتل جالوت إلا نبي! قال الله:"وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه مما يشاء="والهاء" في قوله:"وآتاه الله"، عائدة على داود ="والملك" السلطان (6) "والحكمة"، النبوة. (7) وقوله:"وعلمه مما يشاء"، يعني: علمه صنعة الدروع والتقدير في السرد، كما قال الله تعالى ذكره: (وعلمناه صنعة لبوس   (1) "قادر" من قولهم: "قدر الله الشيء وقدره"، قضاه. (2) ما بين الخطين، كلام معترض بين كلام الحجر. والضمير في"بيضته"، لجالوت. (3) قوله: "فانطلق" الضمير لداود. (4) القدر (بفتحتين، وفتح وسكون) : المقدار، أي على مقداره وعلى قدره. (5) في المطبوعة: " وف بما جعلت"، وفي المخطوطة"ولي بما جعلت"، وصواب قراءتها ما أثبت وقواه: "ف" هو الأمر من قولهم: " وفى له بالشيء يفي". أمر على حرف واحد. (6) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148- 150/ 2: 488/ وهذا: 311، 312، 314. (7) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88، 211/ وهذا: 16، 17. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 لكم لتحصنكم من بأسكم) [سورة الأنبياء: 80] . * * * وقد قيل إن معنى قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، أن الله آتَى داودَ ملك طالوت ونبوَّة أشمويل. * ذكر من قال ذلك: 5748- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: مُلِّك داودُ بعدما قتل طالوتَ، وجعله الله نبيًّا، وذلك قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، قال: الحكمة هي النبوة، آتاه نبوّة شمعون وملك طالوت. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولولا أنّ الله يدفع ببعض الناس= وهم أهل الطاعة له والإيمان به= بعضًا، وهم أهلُ المعصية لله والشرك به- كما دفعَ عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له، وقد أعطاهم ما سألوا ربَّهم ابتداءً: من بَعْثةِ ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله= بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر، جالوتَ وجنوده= (1) "لفسدت الأرض"، يعني: لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض= (2) ولكن الله ذو منٍّ على خلقه وتطوُّلٍ عليهم، بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر. * * *   (1) سياق هذا الجملة"كما دفع عن المتخلفين عن جالوت ... بمن جاهد معه ... جالوت وجنوده"، على دأب أبي جعفر في الفصل الطويل المتتابع. (2) انظر معنى"الفساد فيما سلف 1: 287، 416/ 4: 239، 243، 244. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 وهذه الآية إعلامٌ من الله تعالى ذكره أهلَ النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلِّفين عن مَشاهده والجهادِ معه للشكّ الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم، والمشركين وأهلِ الكفر منهم، وأنه إنما يدفع عنهم معاجَلَتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله، الذين هم أهل البصائر والجدّ في أمر الله، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعدَه على جهاد أعدائه وأعداء رسوله، من النصر في العاجل، والفوز بجنانه في الآجل. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5749- حدثني محمد بن عمر قال، حدثنا أبو عاصم عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولولا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفع الله بالبَرِّ عن الفاجر، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض، (2) "لفسدت الأرض"، بهلاك أهلها. 5750- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفاع الله بالبَرِّ عن الفاجر، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض (3) لهلك أهلها. 5751- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حنظلة، عن أبي مسلم قال: سمعت عليًّا يقول: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم.   (1) في المطبوعة: "في الآخرة"، وفي المخطوطة: "في الأخر"، ولو شاء أن يجعلها على ذلك لقال: "من النصر في العاجلة، والفوز بجنانه في الآخرة". ولكني أجده تصحيف ما أثبت. (2) في المطبوعة: "بالبار"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة والدر المنثور 1: 320" أخلاق الناس"، والأخلاف جمع خلف، بمعنى الذين خلفوا الصالحين من أهل البر والصلاح والتقوى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 5752- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: لهلك من في الأرض. 5753- حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا حفص بن سليمان، عن محمد بن سوقة، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مئةِ أهلِ بيت من جيرانه البلاءَ"، ثم قرأ ابن عمر:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". (1) 5754- حدثني أحمد أبو حميد الحمصي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال:   (1) الحديث: 5753-أحمد بن المغيرة، أبو حميد الحمصي-شيخ الطبري: هو أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار، نسب هنا إلى جده. وهو ثقة، روى عنه النسائي ووثقه. وترجمه ابن أبي حاتم 1/ 1/ 72، باسم: "أحمد بن محمد بن سيار"، وقال"كتب عنه، وهو صدوق ثقة". يحيى بن سعيد: هو العطار الأنصاري، أبو زكريا، الشامي الحمصي. ضعفه ابن معين وغيره. وقال أبو داود: "جائز الحديث". وقال محمد بن مصفي الحمصي الحافظ: "حدثنا يحيى بن سعيد العطار، ثقة". فهذا بلديه وتلميذه يوثقه، والظن أن يكون أعرف به من غيره. وترجمه البخاري في الكبير 4/2/277، فلم يذكر فيه جرحًا. وجازف ابن حبان -في كتاب المجروحين -مجازفة شديدة دون برهان، فقال: "كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، والمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به بحال، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار لأهل الصناعة". حفص بن سليمان: هو الأسدي البزاز الكوفي القارئ، صاحب"قراءة حفص" المعروفة، التي يقرأ لها الناس بمصر وغيرها. وهو ضعيف جدًا، متروك الحديث، على إمامته في القراءة. وقد بينت ضعفه مفصلا في شرح المسند: 1267. محمد بن سوقة -بضم السين المهملة - الغنوي الكوفي العابد: ثقة متفق عليه. وبرة بن عبد الرحمن: تابعي ثقة معروف، أخرج له الشيخان وغيرهما. والحديث ذكره ابن كثير 1: 606 607، عن هذا الموضع. وقال: "وهذا إسناد ضعيف. فإن يحيى بن سعيد هذا: هو العطار الحمصي، هو ضعيف جدًا". وذكره الذهبي في الميزان، في ترجمة"يحيى بن سعيد العطار" 3: 290 -عن يحيى هذا، بهذا الإسناد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليُصلح بصلاح الرجل المسلم ولدَه وولد ولدِه، وأهلَ دُوَيْرَته ودُويْراتٍ حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. (1) * * * قال أبو جعفر: وقد دللنا على قوله:"العالمين"، وذكرنا الرواية فيه. (2) * * * وأما القرأة، فإنها اختلفت في قراءة قوله:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض". فقرأته جماعة من القرأة: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ) على وجه المصدر، من قول القائل:   (1) الحديث: 5754 -عثمان بن عبد الرحمن: هكذا في نقل ابن كثير إياه عن هذا الموضع. فإنه يكنه يكن"عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني"، فهو من الطبقة، ولكنه لم يذكر في شيوخ"يحيى بن سعيد العطار"، ولا في الرواة عن"محمد بن المنكدر". ولم نجد فيما رأينا من ترجم من اسمه"عثمان بن عبد الرحمن" -من يستقيم به الإسناد غيره. وهذا الوقاصي: ضعيف جدًا، رماه ابن معين بالكذب. وقال أبو حاتم: "متروك الحديث، ذاهب الحديث، كذاب". وقال البخاري في الضعفاء، ص: 25: "تركوه". والراجح -عندي-أن اسم هذا الراوي محرف في نسخ الطبري. وأكاد أجزم أن صوابه"عنبسة بن عبد الرحمن" فهو الذي يروي عن محمد بن المنكدر، ويروي عنه يحيى بن سعيد العطار. وقد يؤيد ذلك: أن كاتب المخطوطة رسم هذا الاسم بدون ألف بعد الميم -على الكتبة القديمة-"عثمن". ولكن يظهر أنه كتبه على تردد، عن نسخة غير واضحة الرسم. لأنه بسط آخر الكلمة فكتب النون مبسوطة كأنها سين، ثم اشتبه عليه الاسم، فاصطنع الحرف المبسوط جعله نونًا. وتغيير الحرفين قبله سهل: ينقط النون بثلاث نقط فتصير ثاء مثلثة، ثم يدير نبرة الباء فتكون ميما. ويخرج الاسم من"عنبسة" إلى"عثمن". وأيًا ما كان الراوي هنا"عثمان" أو"عنبسة" -فالحديث واهي الإسناد منهار، لا تقول له قائمة. فإن"عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص": ضعيف جدًا. قال أبو حاتم: "هو متروك الحديث، كان يضع الحديث". واسم جده"عنبسة" كاسمه. ووقع في التهذيب محرفًا"عيينة". وهو خطأ مطبعي. والحديث ذكره ابن كثير 1: 607، وقال: "وهذا أيضًا غريب ضعيف، لما تقدم أيضًا"! يريد لضعف"يحيى بن سعيد العطار". وقد بينا في الحديث السابق أنه غير ضعيف. وذكره السيوطي 1: 320، ونسبه الطبري"بسند ضعيف". ثم لم ينسبه لغير الطبري. (2) انظر ما سلف 1: 143 -146/ 2: 23 -26. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 "دفعَ الله عن خلقه فهو يدفع دفعًا". واحتجت لاختيارها ذلك، بأن الله تعالى ذكره هو المتفرِّد بالدفع عن خلقه، ولا أحد يُدافعه فيغالبه. * * * وقرأت ذلك جماعة أُخَر من القرأة: (1) (وَلَوْلا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ) على وجه المصدر، من قول القائل:"دافع الله عن خلقه فهو يُدافع مدافعة ودفاعًا" واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرًا من خلقه يعادون أهل دين الله وولايته والمؤمنين به، فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم، لله مُدافعون بظنونهم، (2) ومغالبون بجهلهم، والله مُدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به. * * * قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القرأة، وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالةُ معنى الآخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه بشيء دافع. (3) ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع، فهو لمدافعه مدافع. (4) ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولةُ مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النُّصرة. وذلك هو معنى"مدافعة الله" عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فبيِّنٌ إذًا أن سَواءً قراءةُ من قرأ: (5) (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ، وقراءة من قرأ: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض) ، في التأويل والمعنى. * * *   (1) في المطبوعة: "جماعة أخرى من القراء"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "مدافعون بباطلهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فمدافعه عنه دافع"، وفي المخطوطة: "فمدافعة عنه ليس دافع" غير واضحة، والصواب ما أثبت. وذلك لأن الله دافع الكفار عما تضمن للمؤمنين من النصرة ببعض الناس. فصح إذًا أن عبارة الطبري تقتضي أن تكون الكلمة"بشيء". (4) في المطبوعة: "لمدافعه مدافع" والصواب من المخطوطة. (5) في المطبوعة: "فتبين إذًا"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك آيات الله" (1) هذه الآيات التي اقتص الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى قوله:"والله ذو فضل على العالمين". ويعني بقوله:"آيات الله"، حججه وأعلامه وأدلته. (2) . * * * يقول الله تعالى ذكره: فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد، وأعلمتك= من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة وهم ألوف، وإحيائي إياهم بعد ذلك، وتمليكي طالوت أمر بني إسرائيل، بعد إذ كان سقاء أو دباغا من غير أهل بيت المملكة، وسلبي ذلك إياه بمعصيته أمري، وصرفي ملكه إلى داود لطاعته إياي، ونصرتي أصحاب طالوت، مع قلة عددهم، وضعف شوكتهم على جالوت وجنوده، مع كثرة عددهم، وشدة بطشهم= (3) حججي على من جحد نعمتي، وخالف أمري، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية، التي يعلمون أنها من عندي، (4) . لم تتخرصها ولم تتقولها أنت يا محمد، لأنك أمي، ولست ممن قرأ الكتب، فيلتبس عليهم أمرك، ويدعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض أسفارهم= ولكنها حججي عليهم أتلوها   (1) انظر مجيء"ذلك"و"تلك" بمعنى: "هذا، وهذه"، فيما سلف 1: 225 -227/ 3: 335. (2) انظر تفسير"الآية" فيما سلف 1: 106، ثم هذا الجزء: 337 والمراجع في التعليق هناك. (3) في المطبوعة: "حجج على من جحد"، وأثبت ما في المخطوطة. والسياق: "فهذه الحجج ... حججي". (4) في المخطوطة: "من الأنباء الحصه" غير منقوطة ولا بينة، وما في المطبوعة صحيح المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 عليك يا محمد، بالحق اليقين كما كان، لا زيادة فيه، ولا تحريف، ولا تغيير شيء منه عما كان="وإنك" يا محمد"لمن المرسلين"، يقول: إنك لمرسل متبع في طاعتي، وإيثار مرضاتي على هواك، فسألك في ذلك من أمرك سبيل من قبلك من رسلي الذين أقاموا على أمري، وآثروا رضاي على هواهم، ولم تغيرهم الأهواء، ومطامع الدنيا، كما غير طالوت هواه، وإيثاره ملكه، على ما عندي لأهل ولايتي، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون الذين قبلك. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك"، الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم = والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم = ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة، كما:- 5755 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره:"تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض"، قال: يقول: منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافة. 5756 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك:= 5757 - قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا" (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال أبو جعفر:يعني تعالى ذكره بقوله: (2) "وآتينا عيسى ابن مريم البينات"، وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته: (3) من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه. * * * ويعني تعالى ذكره بقوله:"وأيدناه"، وقويناه وأعناه= (4) "بروح القدس"، يعني بروح الله، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح   (1) الأثر: 5757 -ساقه بغير إسناد، وقد اختلف ألفاظه، وهو من حديث ابن عباس في المسند رقم: 2742، والمسند 5: 145، 147، 148، 161، 162 (حلبي) والمستدرك 2: 424 ورواه مسلم بغير اللفظ 5: 3، والبخاري، (الفتح 1: 369، 444) مواضع أخرى. وهو حديث صحيح. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يعنى تعالى ذكره بذلك"، وهو لا يستقيم. (3) انظر تفسير"البينات"فيما سلف 2: 328/ 4: 271، والمراجع هناك، وانظر فهرس اللغة. (4) انظر تفسير"أيد"فيما سلف 2: 319، 320. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو أراد الله=" ما اقتتل الذين من بعدهم"، (2) يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه. * * * ويعني بقوله:"من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني: من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل. * * * وقد قيل: إن"الهاء" و"الميم" في قوله:"من بعدهم"، من ذكر موسى وعيسى. * ذكر من قال ذلك: 5758 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات"، يقول: من بعد موسى وعيسى.   (1) انظر ما سلف 2: 320- 323. (2) في المطبوعة، أتم الآية: "من بعد ما جاءتهم البينات"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 5759 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات" يقول: من بعد موسى وعيسى. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل، لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي، (1) بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته. ثم قال تعالى ذكره لعباده:"ولو شاء الله ما اقتتلوا"، يقول: ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم- عن معصيته فلا يقتتلوا، ما اقتتلوا ولا اختلفوا="ولكن الله يفعل ما يريد"، بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه. * * *   (1) في المخطوطة: "أتوا ما أنزل من الكفر"، وهو سهو فاحش من شدة عجلة الكاتب، كما تتبين ذلك جليا من تغيُّر خطه في هذا الموضع أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه: 5760 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم"، قال: من الزكاة والتطوع. * * * ="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، يقول: ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم، بالنفقة منها في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة، بتقديم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه، بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه"، يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه، يقول: لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه- بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها- بما أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين، (1) لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ- أو   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم به"، وهو كلام مختل، سقط فيما أرجح ما أثبته: "رزقتكموها، بما". وسياق العبارة: ما كنتم على ابتياعه ... بما أمرتكم به ... قادرين". والذي بينهما فواصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 بالعمل بطاعة الله، سبيل (1) . ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم = مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال، (2) إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به = يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) كما قال الله تعالى ذكره، (3) وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ= مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء من الإخوان (4) = لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء: 100-101] * * * وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص، وإنما معناه:"من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، لأهل الكفر بالله، لأن أهل   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فيكون لهم إلى ابتياع ... " والصواب في هذا السياق: "لكم وقوله: "سبيل" اسم كان في"فيكون لكم إلى ابتياع ... ". (2) ارتفاع العمل: انقضاؤه وذهابه. يقال: "ارتفع الخصام بينهما"، و"ارتفع الخلاف" أي انقضى وذهب، فلم يبق ما يختلفان عليه أو يختصمان. وهو مجاز من"ارتفع الشيء ارتفاعا": إذا علا. وهذا معنى لم تقيده المعاجم، وهو عربى صحيح كثير الورود في كتب العلماء، ن وقد سلف في كلام أبي جعفر، وشرحته ولا أعرف موضعه الساعة. (3) هى آية"سورة الزخرف": 67. (4) النصراء جمع نصير. والخلان جمع خليل: والظهراء جمع ظهير: وهو المعين الذي يقوى ظهرك ويشد أزرك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 ولاية الله والإيمان به، يشفع بعضهم لبعض. وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) . * * * وكان قتادة يقول في ذلك بما:- 5761 - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين. * * * وأما قوله:"والكافرون هم الظالمون"، فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله="هم الظالمون"، يقول: هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما ليس لهم قوله. * * * وقد دللنا على معنى"الظلم" بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته (2) . * * * قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع:"والكافرون هم الظالمون"، دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله:"ولا خلة ولا شفاعة"، إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك:"والكافرون هم الظالمون". فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم. * * *   (1) انظر ما سلف 2: 23، 33. (2) انظر معنى"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة / ومعنى"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524، وفي فهارس اللغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان؟ قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل كفر، والآخر أهل إيمان، وذلك قوله:"ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر". ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به، بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته (1) وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته. وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله، فقال تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي= من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم= ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي. وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم، (2) وهم الظالمون أنفسهم دوني، لأني غير ظلام لعبيدي. وقد:- 5762 - حدثني محمد بن عبد الرحيم، قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان، يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال:"والكافرون هم الظالمون"، ولم يقل:"الظالمون هم الكافرون". * * *   (1) في المطبوعة: "يحض" بالياء في أوله، فعلا. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بباء الجر، اسما. وقوله: "بحض"، متعلق بقوله: "ثم عقب الله". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهذا يومئذ فعل بهم"، وصواب السياق يقتضى ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله:"الله" (1) . * * * وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو" فإن معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية. يقول:"الله" الذي له عبادة الخلق="الحي القيوم"، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئا سوى الحي القيوم الذي لا يأخذه سِنة ولا نوم، (2) والذي صفته ما وصف في هذه الآية. * * * وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات= (3) من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض= واختلفوا فيه، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به، ووفقنا للإقرار. * * * وأما قوله:"الحي" فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد، (4) إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا   (1) انظر تفسير"الله" فيما سلف 1: 122- 126. (2) في المطبوعة: "ولا تعبدوا شيئا سواه الحي القيوم"، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "المختلفين في البينات"، بزيادة"في"، وهو خطأ مخل بالكلام، والصواب ما في المخطوطة، و"البينات"فاعل"جاءت به"، و"المختلفين"مفعوله. والجملة التي بين الخطين، معترضة، وقةله: بعد"واختلفوا فيه فاقتتلوا فيه ... "، عطف على قوله: "عما جاءت به ... ". (4) في المطبوعة: "لا أول له يحد" بالياء، فعلا، ثم جعل التي تليها"ولا آخر له يؤمد"، فأتى بفعل عجيب لا وجود له في العربية، وفي المخطوطة: "بحد" غير منقوطة وصواب قراءتها بباء الجر في أوله. وفيها"بأمد" كما أثبت، والأمد: الغاية التي ينتهى إليها. بقول: ليس له أول له حد يبدأ منه وليس له آخر له أمد ينتهى إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 فلحياته أول محدود، وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، (1) وينقضي بانقضاء غايتها. * * * وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5763 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحي" حي لا يموت. 5764 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. * * * قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك (2) . فقال بعضهم: إنما سمي الله نفسه"حيا"، لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتدبير لا بحياة. وقال آخرون: بل هو حي بحياة هي له صفة. وقال آخرون: بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به، فقلناه تسليما لأمره (3) . * * *   (1) في المطبوعة: "وآخر مأمود"، أتى أيضًا بالعجب في تغيير المخطوطة، وباستخراج كلمة لا يجيزها اشتقاق العربية، ولم تستعمل في كلام قط. وفي المخطوطة"ممدود"كما أثبتها. وهي من قولهم: "مد له في كذا" أي طويل له فيه. بل أولى من ذلك أن يقال إنها من"المد"، وهي الطائفة من الزمان. وقد استعملو من المدة: "ماددت القوم". أي جعلت لهم مدة ينهون إليها. وفي الحديث: "يا ويح قريش، لقد نهكتهم الحرب! ما ضرهم لو ماددناهم مدة"، أي جعلنا لهم مدة، وهي زمان الهدنة. وقال ابن حجر في مقدمته الفتح: 182"قوله: (في المدة التي فيها أبا سفيان) : أي جعل بينه وبينه مدة صلح، ومنه: (إن شاؤوا ماددتهم) . فهو"فاعل" من"المد". ولا شك أن الثلاثى منه جائز أن يقال: " مد له مدة" أي جعل له مدة ينتهى من عند آخرها. وكأتى قرأتها في بعض كتب السير، فأرجو أن أظفر بها فأقيدها إن شاء الله، فمعنى قوله: "وآخر ممدود ينقطع بانقطاع أمدها" أي: آخر قد ضربت له مدة ينقطع بانقطاع غايتها. (2) هذه أول مرة يستعمل فيها الطبري: "أهل البحث"، ويعنى بذلك أهل النظر من المتكلمين. (3) في المطبوعة: "فقلناه"، وما في المخطوطة صواب أيضًا جيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 وأما قوله:"القيوم"، فإنه"الفيعول" من"القيام" وأصله"القيووم"،: سبق عين الفعل، وهي"واو"،"ياء" ساكنة، فأدغمتا فصارتا"ياء" مشددة. وكذلك تفعل العرب في كل"واو" كانت للفعل عينا، سبقتها"ياء" ساكنة. ومعنى قوله:"القيوم"، القائم برزق ما خلق وحفظه، كما قال أمية: (1) . لم تخلق السماء والنجوم ... والشمس معها قمر يعوم (2) قدره المهيمن القيوم ... والجسر والجنة والجحيم (3) إلا لأمر شأنه عظيم * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5765 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القيوم"، قال: القائم على كل شيء. 5766 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه. 5767 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"القيوم" وهو القائم.   (1) هو: أمية بن أبي الصلت الثقفى. (2) ديوانه: 57، والقرطبي 3: 271، وتفسير أبي حيان 25: 277. وفي المطبوعة والقرطبي"قمر يقوم"، وهو لا معنى له، والصواب في المخطوطة وتفسير أبي حيان. عامت النجوم تعوم عوما: جرب، مثل قولهم: "سبحت النجوم في الفلك تسبح سبحا" (3) في المراجع كلها"والحشر"، وهو خطأ وتصحيف لا ريب فيه عندي، وهو في المخطوطة"والحسر" غير منقوطة، وصواب قراءتها"الجسر" كما أثبت. وفي حديث البخاري: "ثم يؤتى بالجسر" قال ابن حجر: أي الصراط، وهو كالقنطرة بين الجنة والنار، يمر عليها المؤمنون. ولم يذكر في بابه في كتب اللغة، فليقيد هناك، فإن هذا هو سبب تصحيف هذه الكلمة. وفي بعض المراجع: "والجنة والنعيم"، والذي في الطبري هو الصواب. هذا وشعر أمية كثير خلطه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 5768 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الحي القيوم"، قال: القائم الدائم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة"، لا يأخذه نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما. * * * "والوسن" خثورة النوم، (1) ومنه قول عدي بن الرقاع: وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم (2)   (1) الخثورة: نقيض الرقة، يقال: "خثر اللبن والعسل ونحوهما"، إذا ثقل وتجمع، والمجاز منه قولهم: "فلان خاثر النفس" أي ثقيلها، غير طيب ولا نشيط، قد فتر فتورا. واستعمله الطبري استعمالا بارعا، فجعل للنوم"خثورة"، وهي شدة الفتور، كأنه زالت رقته واستغلط فثقل، وهذا تعبير لم أجده قبله. (2) من أبيات له في الشعر والشعراء: 602، والأغانى 9: 311، ومجاز القرآن 1: 78، واللسان (وسن) (رنق) ، وفي جميعها مراجع كثيرة، وقبل البيت في ذكرها صاحبته"أم القاسم": وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم وسنان أقصده النعاس .......... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يصطاد يقظان الرجال حديثها ... وتطير بهجتها بروح الحالم والجآذر بقر الوحش، وهي حسان العيون. وجاسم: موضع تكثر فيه الجآذر. و" أقصده النعاس" قتله النعاس وأماته. يقال: "عضته حبة فإقصدته"، أي قتلته على المكان -أي من فوره. و"رفقت" أي خالطت عينه. وأصله من ترنيق الماء، وهو تكديره بالطين حتى يغلب على الماء. وحسن أن يقال هو من ترنيق الطائر بجناحيه، وهو رفرفته إذا خفق بجناحيه في الهواء فثبت ولم يطر، وهذا المجازأعجب إلى في الشعر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 ومن الدليل على ما قلنا: من أنها خثورة النوم في عين الإنسان، قول الأعشى ميمون بن قيس: تعاطى الضجيع إذا أقبلت ... بعيد النعاس وقبل الوسن (1) وقال آخر: (2) باكرتها الأغراب في سنة النو ... م فتجري خلال شوك السيال (3)   (1) ديوانه: 15، وهو يلي البيت الذي سلف 1: 345، 346، وفي ذكر نساء استمع بهن: إذا هن نازلن أقرانهن ... وكان المصاع بما في الجون تعاطى الضجيع ........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . صريفية طيبا طعمها ... لها زبد بين كوب ودن وقوله"تعاطى" من قولهم للمرأة: "هى تعاطى خلها" أي صاحبها -أن تناوله قبلها وريقها. وقوله: "أقبلت"، هو عندي بمعنى: سامحت وطاوعت وانقادت، من"القبول" وهو الرضا. ولم يذكر ذلك أصحاب اللغة، ولكنه جيد في العربية، شبيه بقولهم: "أسمحت"، من السماح، إذا أسهلت وانقادت ووافقت ما يطلبه صاحبها. وذلك هو الجيد عندي. ليس من الإقبال على الشيء. بل من القبول. ويروي مكمان ذلك: "إذا سامها"، ورواية الديوان: "بعيد الرقاد وعند الوسن" والصريفية: الخمر الطيبة، جعلها صريفية، لأنها أخذت من الدن ساعتئذ، كاللبن الصريف وهو اللبن الذي ينصرف من الضرع حارا إذا حلب. وفي الديون: "صليفية"، باللام، والصواب بالراء يقول: إذا انقادت لصاحبها بعيد رقادها، أو قبل وسنها، عاطته من ريقها خمرا صرفا تفور بالزبد بين الكوب والدن، ولم يمض وقت عليها فتفسد. يقول: ريفها هو الخمر، في يقظتها قبل الوسن -وذلك بدء فتور الفس وتغير الطباع -وبعد لومها، وقد تغيرت أفواه البشر واستكرهت روائحها ينفي عنها العيب في الحالين. وذلك قل أن يكون في النساء أو غيرهن. (2) هو الاعشى أيضًا (3) ديوانه: 5، واللسان (غرب) ، من قصيدة جليلة، أفضى فيها إلى ذكر صاحبته له يقول قبله: وكأن الخمر العتيق من الإسفنط ... ممزوجة بماء زلال باكرتها الأغراب ....................... ... ............................... الإسفنط: أجود أنواع الخمر وأغلاها. وباكرتها، أي في أول النهار مبادرة إليها. والأغراب جمع غرب (بفتح فسكمون) ، وهو القدح. والسيال: شجر سبط الأغصان، عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا اعذارى، وتشبه به أسنانهن يقول: إذا نامت لم يتغير طيب ثغرها، بل كأن الخمر تجرى بين ثناياها طيبة الشذا. وقوله: "باكرتها الأغراب"، وهو كفوله في الشعر السالف أنها"صريفية" أي أخذت من دنها لسعتها. يقول: ملئت الأقداح منها بكرة، يعنى تبادرت إليها الأقداح من دنها، وذلك أطيب لها. هذا، وقد جاء في شرح الديوان: الأغراب: حد الأسنان وبياضها، وأظال في شرحه، ولكنى لا أرتضيه، والذي شرحته موجود في اللسان، وهو أعرق في الشعر، وفي فهمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها، يقال منه:"وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان"، إذا كان كذلك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5769 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله تعالى:"لا تأخذه سنة" قال: السنة: النعاس، والنوم: هو النوم (1) . 5770 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تأخذه سنة" السنة: النعاس. 5771 - حدثنا الحسن بن يحيي، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله:"لا تأخذه سنة" قالا نعسة. 5772 - حدثني المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" قال: السنة: الوسنة، وهو دون النوم، والنوم: الاستثقال، 5773 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن   (1) يعنى أن النوم معروف، والسنة غير النوم، وانظر الأثر الآتي: 5772 وما بعده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 جويبر، عن الضحاك:"لا تأخذه سنة ولا نوم" السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال. 5774 - حدثني يحيي بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله سواء. 5775 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تأخذه سنة ولا نوم" أما"سنة"، فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان (1) . 5776 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"لا تأخذه سنه ولا نوم" قال:"السنة"، الوسنان بين النائم واليقظان. 5777 - حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا منجاب بن الحرث، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع:"لا تأخذه سنه" قال: النعاس (2) . 5778 - حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" قال:"الوسنان": الذي يقوم من النوم لا يعقل، حتى   (1) في المخطوطة"ريح" غير منقوطة. والريح هنا: الغلبة والقوة، كما جاء في شعر أعشى فهو أو سليك بن السلكة. أتنظران قليلا ريث غفلتهمأوتعدوان فإن الريح للعادى أي الغلبة. وربما قرئت أيضًا: "الرنح" (بفتح الراء وسكون النون) وهو الدوار. ومنه: "ترنح من السكر" إذا تمايل، و"رنح به" (بالبناء للمجهول مشددة النون) إذا دير به كالمغشى عليه، أو اعتراه وهن في عظامه من ضرب أو فزع أو سكر. (2) الأثر: 5777 -"عباس بن أبي طالب"، هو: "عباس جعفر بن الزبرقان" مضت ترجمته في رقم: 880، و"المنجاب بن الحارث"، مضت ترجمته في رقم: 322 -328، و"على بن مسهر القرشي" الكوفي الحافظ، روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، واسماعيل بن أبي خلد. ثقة، مات سنة 189. مترجم في التهذيب. و" اسناعيل" هو" اسماعيل بن أبي خالد الأحمس" روي عن أبيه، وأبيجحيفة، ن وعبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حريث، وأبي كاهل، وهؤلاء صحابة. وعن زيد بن وهب والشعبي وغيرهما من كبار التابعين. كان ثقة ثبتا. مات سنه 146. مترجم في التهذيب. و"يحيى بن رافع" أبو عيسى الثقفى. روي عن عثمان وأبي هريرة، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد. مترجم في الكبير 4/ 2/ 273، وابن أبي حاتم 4/2/ 143. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 ربما أخذ السيف على أهله. * * * قال أبو جعفر: وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات. وذلك أن"السنة" و"النوم"، معنيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه. * * * فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"الله لا إله إلا هو الحي" الذي لا يموت="القيوم" على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال="لا تأخذه سنة ولا نوم"، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوبا مقهورا، لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما دكا، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه. (1) كما: 5779 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر= قال: أخبرني الحكم بن أبان، (2) عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله:"لا يأخذه سنة ولا نوم" أن موسى سأل الملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى الله إلى الملائكة، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يديه،   (1) في المطبوعة: "يمانع" بالياء في أوله، وهو خطأ لا خير فيه. وإنما أخطأ قراءة المخطوطة للفتحة على الميم، اتصلت بأولها. (2) في المطبوعة والمخطوطة"وأخبرنى الحكم"، وكأن الصواب حذف الواو"أخبرنا معمر قال، أخبرنى الحكم بن أبان" كما أثبته فإن معمرا يروي عن الحكم بن أبان. انظر ترجمته في التهذيب، وكما جاء في ابن كثير 2: 11 على الصواب. وقال بمقبه: "وهو من أخبار بني إسرائيل، وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل، وهو منزه عنه". وأصاب ابن كثير الحق، فإن أهل الكتاب ينسبون إلى أنبياء الله، ما لو تركوه لكان خيرا لهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 في كل يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما= قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله، يقول: فكذلك السموات والأرض في يديه. 5780 - حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال: وقع في نفس موسى: هل ينام الله تعالى ذكره؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، أمره أن يحتفظ بهما. قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله مثلا له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض (1) . * * *   (1) الأثر: 5780 -"إسحق بن أبى إسرائيل-واسمه إبراهيم- بن كما مجرا، أبو يعقوب المروزي" نزيل بغداد. روى عنه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائى وغيرهم. قال ابن معين: "من ثقات المسلمين، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه". وكرهه أحمد لوقفه في أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فتركه الناس حتى كان الناس يمرون بمسجده، وهو فيه وحيد لا يقربه أحد. وقال أبو زرعة: "عندي أنه لا يكذب، وحدث بحديث منكر". مات سنه 240. مترجم في التهذيب. و"هشام بن يوسف الصنعائي"قاضي صنعاء، ثقة. روى عنه الأئمة كلهم. روي عن معمر، وابن جريج، والقاسم بن فياض، والثوري، وغيرهم. قال عبد الرزاق: "إن حدثكم القاضي -يعنى هشام بن يوسف- فلا عليكم أن لا تكتبوا عن غيره". مترجم في التهذيب. و"أمية بن شبل الصنعائي"، سمع الحكم بن أبان طاوس. روى عنه هشام بن يوسف وعبد الرزاق، وثقه ابن معين، مترجم في الكبير 1/2/ 12، ولم يذكر فيه جرحا، وابن أبي حاتم 1/ 1/ 302، ولسان الميزان 1: 467. وقال الحافظ في لسان الميزان: "له حديث منكر، رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة، عن أبي هريرة، مرفوعا، قال"وقع في نفس موسى عليه السلام، هل ينام الله"، الحديث، رواه عنه هشام بن يوسف، وخالفه معمر، عن الحكم، عن عكمرمة، فوقفة، وهو أقرب. ولا يسوغ أن يكون هذا وقعا في نفس موسى عليه السلام، وإنما روي أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك". وساق ابن كثير في تفسير 1: 11، هذه الآثار، ثم قال: "وأغرب من هذا كله، الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحق بن أبي إسرائيل ... "، وساق الخبر، ثم قال: " وهذا حديث غريب، والأظهر أنه إسرائيل لا مرفوع، والله أعلم". والذي قاله ابن حجر قاطع في أمر هذا الخبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"له ما في السموات وما في الأرض" أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود (1) . وإنما يعنى بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه. * * * وأما قوله:"من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" يعني بذلك: من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم، إلا أن يخليه، ويأذن له بالشفاعة لهم. (2) وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! (3) فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي. * * *   (1) انظر ما سلف في تفسير: "له ما في السموات ... "، 2: 537. (2) انظر معنى"شفع" فيما سلف 2: 31 - 33، وما سلف قريبا: 382 - 384. ومعنى"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450/ ثم4: 286، 370/ ثم هذا 352، 355. (3) هذا تأويل آية"سورة الزمر": 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5781 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم:"يعلم ما بين أيديهم"، الدنيا="وما خلفهم"، الآخرة. 5782 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يعلم ما بين أيديهم"، ما مضى من الدنيا="وما خلفهم" من الآخرة. 5783 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج قوله:"يعلم ما بين أيديهم" ما مضى أمامهم من الدنيا="وما خلفهم" ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة. 5784 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"يعلم ما بين أيديهم"، قال: [وأما] "ما بين أيديهم"، فالدنيا="وما خلفهم"، فالآخرة (1) . * * * وأما قوله:"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"، فإنه يعني تعالى ذكره: أنه العالم الذي لا يخفي عليه شيء محيط بذلك كله، (2)   (1) زيادة ما بين القوسين، لاغنى عنها. (2) انظر تفسير"الإحاطة" فيما سلف 2: 284. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 محص له دون سائر من دونه= وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه، فأراد فعلمه، وإنما يعني بذلك: أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم؟! يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها، (1) يعلمها، لا يخفي عليه صغيرها وكبيرها. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5786 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا يحيطون بشيء من علمه" يقول: لا يعلمون بشيء من علمه ="إلا بما شاء"، هو أن يعلمهم (2) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الكرسي" الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض. فقال بعضهم: هو علم الله تعالى ذكره. * ذكر من قال ذلك: 5787 - حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة، قالا حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وسع كرسيه" قال: كرسيه علمه. 5788 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مطرف،   (1) في المطبوعة: "أخلصوا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. (2) سقط من الترقيم: 5785، سهوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله= وزاد فيه: ألا ترى إلى قوله:"ولا يؤوده حفظهما"؟ * * * وقال آخرون:"الكرسي": موضع القدمين. * ذكر من قال ذلك: 5789 - حدثني علي بن مسلم الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، عن أبي موسى، قال: الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل (1) . 5790 - حدثني موسى بن هاوون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وسع كرسيه السموات والأرض"، فإن السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه. 5791 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال: كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم، 5792 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، قال: الكرسي: موضع القدمين (2) .   (1) الأثر: 5789 -"علي بن مسلم بن سعيد الطوسي" نزيل بغداد. روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، ثقة، مات سنة 253، مترجم في التهذيب. و"عمارة بن عمير التيمي"، رأى عبد الله لابن عمرو، وروي عن الأسود بن يزيد النخعي، والحارث بن سويد التيمي، وإبراهيم بن أبي موسى الأشعري. لم يدرك أبا موسى. والحديث منقطع. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 327، ونسبه لابن المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقى في الأسماء والصفات. الأطيط: صوت الرحل والنسع الجديد، وصوت الباب، وهو صوت متمدد خشن ليس كالصرير بل أخشن. (2) الأثر: 5792 -خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 13 من طريق سفيان عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ونسبه لوكيع في تفسيره. ورواه الكاكم في المستدرك 2: 282 مثله، موقوفا علي ابن عباس، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ووافقه الذهبى قال ابن كثير: " وقد رواه ابن مردويه، من طريق الحاكم بن ظهير الفزارى الكوفي، وهو متروك، عن السدى عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح أيضًا". وانظر مجمع الزوائد 6: 323: والفتح 8: 149. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 5793 - حدثني عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال: لما نزلت:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنزل الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى قوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67] (1) . 5794 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال ابن زيد: فحدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس= قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض (2) . * * * وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه. * ذكر من قال ذلك: 5795 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان الحسن يقول: الكرسي هو العرش. * * * قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-   (1) الأثر: 5793 - لم يرد في تفسير الآية من"سورة الزمر". (2) الأثر: 5794 -أثر أبي ذر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 328، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 13 وساق لفظ ابن مردويه وإسناده، من طريق محمد بن عبد التميمي، عن القاسم بن محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 5796 - حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع- ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله" (1) . 5797 - حدثني عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. 5798 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: جاءت امرأة، فذكر نحوه (2) . * * *   (1) الأثر: 5796 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني"، هو"عبد الله بن الحكم بن أبي زيادة" سلفت ترجمته برقم: 2247. و"عبيد الله بن موسي بن أبي المختار، وأسمه باذام، العبسى مولاهم"، روى عنه البخاري، وروى عنه هو والباقون بواسطة أحمد بن أبي سريج الرازى، وأحمد بن إسحق البخاري، وأبي بكر بن أبي شبية، وعبد الله بن الحكم القطواني وغيرهم. ثقة صدوق حسن الحديث، كان عالما بالقرآن رأسا فيه، وأثبت أصحاب إسرائيل. مترجم في التهذيب. و"عبد الله بن خليفة الهمداني الكوفي" روي عن عمر وجابر، روى عنه أبو إسحق السبيعى ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وهكذا روى الطبري هذا الأثر موقوفا، وخرجه ابن كثير وفي تفسيره 2: 13 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه. قال ابن كثير: "وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور، وعبد بن بن حميد، وابن جرير في تفسيريهما، والطبراني، وابن أبي عاصم في كتابي السنة، لها، والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور. وفي سماعه من عمر نظطر: ثم منهم من يرويه عنه، عن عمر موقوفا -قلت: كما رواه الطبري هنا -ومنهم من يرويه عن عمر مرسلا، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غربية -قلت: وهي زيادة الطبري في هذا الحديث -ومنهم من يحذفها. وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش، كما رواه أبو داود في كتاب السنة من سنته (رقم: 4726) ، والله أعلم". قال بيده: أشار بها، وانظر ما سلف من تفسير الطبري لذلك في 2: 546 -548. (2) الأثران: 5797، 5798 -يحيى بن أبي بكير، واسمه نسر، الأسدي"، أبو زكريا الكرماني الأصل. سكن بغداد، روي عن بن عثمان، وإبراهيم بن طهمان، وإسرائيل، وزائدة. روى عنه الستة، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن أحمد بن أحمد بن أبي خلف، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 208 أو 209. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"يحيى بن أبي بكر" وهو خطأ. وهذا الأثر، والذي يليه، إسنادان آخران للأثر السالف رقم: 5796، فانظر التعليق عليهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال:"هو علمه" (1) . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره:"ولا يؤوده حفظهما" على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر: 7] ،   (1) العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع! فإنه بدأ فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى"الكرسي" هو الذي جاء في الحديث الأول، ويكون معناه أيضًا "العلم"، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن. وكيف يجمع في تأويل واحد، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر! ! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد علىشرط الشيخين، كما قال الحاكم، وكما في مجمع الزوائد 6: 323" رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح"، كما بينته في التعليق على الأثر: 5792. ومهما قيل فيها، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له. وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي: "والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: "الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره. قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها. قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل"، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله. وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو"العلم"، بقوله تعالى: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما"، فلم لم يجعل"الكرسي" هو"الرحمة"، وهما في آية واحدة؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى في سورة الأعراف: 156: "قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"؟ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري، ضعيف جدا، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة. وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى"الكرسي"، فإن أكثره لا يقوم على شيء، وبعضه منكر التأويل، كما سأبينه بعد إن شاء الله. وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع، بالمعنى الذي قالوه، وأنه جاء في الآية الأخرى بما ثبت في صحيح اللغة من معنى"الكرسي"، وذلك قوله تعالى في"سورة ص": "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب". وكتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض". * * * قال أبو جعفر: وأصل"الكرسي" العلم. (1) ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب"كراسة"، ومنه قول الراجز في صفة قانص: * حتى إذا ما احتازها تكرسا * (2) . يعني علم. ومنه يقال للعلماء"الكراسي"، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال:"أوتاد الأرض". يعني بذلك أنهم العلماء الذي تصلح بهم الأرض، (3) ومنه قول الشاعر: (4) يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب (5) يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء"الكرس"، يقال منه:"فلان كريم الكرس"، أي كريم الأصل، قال العجاج:   (1) أخشى أن يكون الصواب: "وأصل الكرس: العلم" (بفتح الكاف وسكون الراء) مما رواه ابن العرابى من قولهم: "كرس الرجل" (بفتح ثم كسر) : إذا ازدحم علمه على قلبه. وجعل أبي جعفر هذا أصلا، عجب أي عجب! فمادة اللغة تشهد على خلافه، وتفسير ابن الأعرابى هذا أيضًا شاهد على خلافه. وأنما أصل المادة (كرس) من تراكم الشيء وتلبد بعضه على وتجمعه. وقوله بعد: " ومنه قيل للصحيفة كراسة"، والأجود أن يقال: إنه من تجمع أوراقه بعضها على بعض، أو ضم بعضها إلى بعض. (2) لم أجد الرجز، وقوله: "احتازها"، أي حازها وضمها إلى نفسه. ولا أدرى إلى أي شيء يعود الضمير: إلى القانص أم إلى كلبه؟ والاستدلال بهذا الرجز على أنه يعنى بقوله: "تكرس"، علم، لا دليل عليه، حتى نجد سائر الشعر، ولم يذكره أحد من أصحاب اللغة. (3) هذا التفسير مأخوذ من قول قطرب كما سيأتى، أنهم العلماء، ولكن أصل مادة اللغة يدل على أن أصل ذلك هو ذلك هو الشيء الثابت الذي يعتمد عليه، كالكرسي الذي يجلس عليه، وتسمية العلماء بذلك مجاز محض. (4) لم أعرف قائله. (5) لم أجد البيت، إلا فيمن نقل عن الطبري، وفي أساس البلاغة (كرس) أنشده بعد قوله: "ويقال للعلماء الكراسي -عن قطرب" وأنشد البت. ولم أجد من ذكر ذلك من ثقات أهل اللغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 قد علم القدوس مولى القدس ... أن أبا العباس أولى نفس ... * بمعدن الملك الكريم الكِرْس * (1) يعني بذلك: الكريم الأصل، ويروى: * في معدن العز الكريم الكِرْس * * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا يؤوده حفظهما"، ولا يشق عليه ولا يثقله. * * * يقال منه:"قد آدني هذا الأمر فهو يؤودني أودا وإيادا"، (2) ويقال:"ما آدك فهو لي آئد"، يعني بذلك: ما أثقلك فهو لي مثقل. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5799 - حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال:   (1) ديوانه: 78، واللسان (قدس) (كرس) . و"القدس" هو الله -سبحانه الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. والقدس. ومولاها: ربها. وقد سلف تفسير معنى"القدس" و"القدس" في هذا التفسير 1: 475، 476/ 2: 322، 323. و"أبو العباس" هو أبو العباس السفاح، الخليفة العباسي. وروى صاحب اللسان" القديم الكرس"، و"المعدن" (بفتح الميم وكسر الدال) : مكان كل شيء وأصله الثابت، ومنه: "معدن الذهب والفضة"، وهو الموضع الذي ينبت الل فيه الذهب والفضة، ثم تستخرج منه، وهو المسمى في زماننا"المنجم". يقول: أبو العباس أولى نفس بالخلافة، الثابتة الأصل الكريمته. (2) قوله: "إيادا" مصدر لم أجده في كتب اللغة، زادناه الطبري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه. 5800 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه حفظهما. 5801 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا يؤوده حفظهما" لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما. 5802 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه شيء. 5803 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"ولا يؤود حفظهما" قال: لا يثقل عليه حفظهما. 5804 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة= وحدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد= قالا جميعا: أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه. 5805 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن عبيد، عن الضحاك، مثله. 5806 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته = يعني خلادا = يقول: سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية:"ولا يؤوده حفظهما"، قال: لا يكبر عليه (1) . 5807 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يكثر عليه" والصواب ما أثبت: "كبر عليه"، ثقل عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يكرثه (1) . 5808 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه. 5809 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه حفظهما. 5810 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يعز عليه حفظهما. * * * قال أبو جعفر:"والهاء"، و"الميم" و"الألف" في قوله:"حفظهما"، من ذكر"السموات والأرض". فتأويل الكلام: وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض. * * * وأما تأويل قوله:"وهو العلي" فإنه يعني: والله العلي. * * * و"العلي""الفعيل" من قولك:"علا يعلو علوا"، إذا ارتفع،"فهو عال وعلي"،"والعلي" ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته. * * * وكذلك قوله:"العظيم"، ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. كما:- 5811 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"العظيم"، الذي قد كمل في عظمته. * * *   (1) كرثه الأمر يكرثه: اشتد عليه وبلغ منه المشقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 قال أبو جعفر: واختلف أهل البحث في معنى قوله: (1) . "وهو العلي". فقال بعضهم: يعني بذلك; وهو العلي عن النظير والأشباه، (2) وأنكروا أن يكون معنى ذلك:"وهو العلي المكان". وقالوا: غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم. * * * وكذلك اختلفوا في معنى قوله:"العظيم". فقال بعضهم: معنى"العظيم" في هذا الموضع: المعظم، صرف"المفعل" إلى"فعيل"، كما قيل للخمر المعتقة،"خمر عتيق"، كما قال الشاعر: (3) . وكأن الخمر العتيق من الإس ... فنط ممزوجة بماء زلال (4) وإنما هي"معتقة". قالوا: فقوله"العظيم" معناه: المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإنما يحتمل قول القائل:"هو عظيم"، أحد معنين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم، والآخر: أنه عظيم في المساحة والوزن. قالوا: وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيم في المساحة والوزن، صحة القول بما قلنا. * * *   (1) انظر ما سلف في ذكره" أهل البحث" فيما سلف قريبا: 387، التعليق: 2. (2) في المخطوطة: "النظر"، بغير ياء. و"النظر" (بكسر فسكون) ، مثل"النظير"، مثل: "ند ونديد". وجائز أن يكون"النظر" (بضمتين) جمع"نظير"، وهم يكسر"فعيلا" الصفة، على"فعل"، بضمتين تشبيها له"بفعيل" الاسم، كما قالوا في"جديد، جدد"، و"نذير، نذر". أما النظائر جمع نظير، فهو شاذ عن بابه. (3) هو الأعشى. (4) ديوانه: 5، وقد مضى هذا البيت في تعليقنا آنفًا: 390، تعليق: 3. والزلال: الماء الصافى العذب البارد السائغ في الحلق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 وقال آخرون: بل تأويل قوله:"العظيم" هو أن له عظمة هي له صفة. وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات، (1) . وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد. لأن ذلك تشبيه له بخلقه، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها، وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه"معظم"، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال. * * * وقال آخرون: بل قوله: إنه"العظيم" وصف منه نفسه بالعظم. وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته. * * * القول في تأويل قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار- أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. * ذكر من قال ذلك: 5812 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة،   (1) الإثبات: إثبات الصفات لله سبحانه كما وصف نفسه، بلا تأويل، خلافا للمعتزلة وغيرهم وانظر ما سلف 1: 189، تعليق: 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". 5813 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد = قال شعبة. وإنما هو مقلات = فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال: فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". قال: من شاء أن يقيم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب (1) . 5814 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا داود= وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود= عن عامر، قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم، فقالوا: إنما جعلناهم على دينهم، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا! وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم! فنزلت:"لا إكراه في الدين"، فكان   (1) الأثران: 5812، 5813 -في ابن كثير 2: 15، والدر المنثور 1: 329 قال ابن كثير: "رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به، ومن وجوه أخرى عن شعبة به نحوه. ورواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به". والسنن الكبرى للبيهقى 9: 186، وسنن أبي داود -3: 78 -79 رقم: 2682. وكان في المطبوعة والمخطوطة في رقم 5813، "حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد"، وهو خطأ صوابه"شعبة". وقوله: "قال: من شاء أن يقيم أقام" وهو من كلام سعيد بن جبير، كما في السنن للبيهقى. والحديث مرفوع هناك إلى ابن عباس وهو الصواب ولكني تركت ما في الطبري على حاله. وامرأة مقلت (بضم الميم) ومقلات (بكسر الميم) ، هى المرأة التي لايعيش لها ولد. ويأتى أيضًا "مقلات"، أنها المرأة التي ليس لها إلا ولد واحد. ولكن الأول هو المراد في هذا الأثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام، فمن لحق بهم اختار اليهودية، ومن أقام اختار الإسلام= ولفظ الحديث لحميد. 5815 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود، عن عامر، بنحو معناه= إلا أنه قال: فكان فصل ما بينهم، إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم، وبقي من أسلم. 5816 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عامر بنحوه= إلا أنه قال: إجلاء النضير إلى خيبر، فمن اختار الإسلام أقام، ومن كره لحق بخيبر (1) . 5817 - حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك (2) . 5818 - حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال: نزلت هذه في الأنصار، قال: قلت خاصة! قال: خاصة! قال: كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود،   (1) الآثار 5814 -5816- هى ألفاظ مختلفة لحديث واحد، وانظر 1: 329، وقال": أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر"، ثم انظر الأثرين رقم: 5823، 5824 فيما يأتي بعد. (2) الأثر: 5817 -انظر ما قاله الحافظ ابن حجر في تحقيق اسم الصحابي في"حصين الأنصاري" غير منسوب، ثم في باب الكنى"أبو الحصين الأنصاري السالمي"، وفيهما تحقيق جيد. وانظر تفسير ابن 2: 15، والدر المنثور 1: 329. وانظر الأثر التالي رقم: 5819. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 تلتمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير قالوا: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، قال: فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم" قال: فأجلوهم معهم (1) . 5819 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" إلى:"لا انفصام لها" قال: نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (2) إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال:"لا إكراه في الدين" (3) . ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله! هما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة النساء: 65] ثم إنه نسخ:"لا إكراه في الدين" فأمر بقتال أهل الكتاب في" سورة براءة" (4) .   (1) الأثر: 5818 -في السنن الكبرى للبيهقى 9: 186 من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانة، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 329 وزاد نسبته إلى"سعيد بن منصور، وعبدبن حميد، وابن المنذر" وفيها زيادة: "كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت نزورا مقلاتا تنذر لئن ولدت ولدا لتجعلنه في اليهود" وسائر الخبر سواء. وكتب في البيهقي والدر المنثور"مقلاة" بالتاء المربوطة وهو خطأ، و"امرأة نزرة" (بفتح وكسر" وامرأة نزور" قليلة الولد. وفي الدر"نزورة" وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "إلى رسول الله صلى عليه وسلم"، والصواب من المخطوطة والدر المنثور. (3) في المطبوعة: إتمام الآية"قد تبين الرشد من الغى"، وليس في المخطوطة ولا الدر المنثور. (4) الأثر: 5819 -في الدر المنثور 1: 329، وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وأشار إليه ابن كثير في تفسيره 2: 15. هذا ولم يذكر أبو جعفر هذا الأثر في تفسير آية"سورة النساء"، ولم يجعلها قولا غير الأقوال التي ذكرها. وهو دليل على اختصاره هذا التفسير، كما رووا عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 5820 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"لا إكراه في الدين" قال: كانت في اليهود بني النضير، (1) أرضعوا رجالا من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم! فمنعهم أهلوهم، وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية. 5821 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد = جميعا، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"لا إكراه في الدين"، قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". 5822 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني الحجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا،= ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم= قال ابن جريج، وأخبرني عبد الكريم، عن مجاهد: أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس، (2) دانوا بدين النضير. 5823 - حدثني المثنى، قال: لنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار:   (1) في المطبوعة: "كانت في اليهود يهود أرضعوا ... "، وفي المخطوطة كانت اليهود يهودا أرضعوا" وهما خطأ. وفي الدر المنثور 1: 329: " كانت النضير أرضعت". واستظهرت أن تكون العبارة أثبتها، سقط من الناسخ"بني النضير" -أو يكون صوابها كما سيأتى في الأثر رقم: 5822: "كانت النضير يهودا ... ". (2) في المخطوطة: "قد دانوا بدينهم أبناء الأوس"، وأخشى أن يكون ما في المطبوعة أصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان؟ فلما إذ جاء الله بالإسلام، (1) . أفلا نكرههم على الإسلام؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". 5824 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود، عن الشعبي مثله = وزاد: قال: كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام (2) . 5825 - حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا إكراه في الدين" إلى قوله:"العروة الوثقى" قال: قال منسوخ. 5826 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ووائل، عن الحسن: أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم، فنزلت:"لا إكراه في الدين". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية في خاص من الكفار، ولم ينس منها شيء. * ذكر من قال ذلك: 5827 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن   (1) في المطبوعة: "فلما أن جاء الإسلام"، وفي المخطوطة: "فلما إذ جاء"، وصواب ذلك ما أثبت. (2) الأثران: 5823، 5824 -انظر الآثار السالفة: 5814 -5816. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 قتادة:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: أكره عليه هذا الحي من العرب، لأنهم كانوا أمة أميه ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم (1) . 5828 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: هو هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية، ولم يقتلوا. 5829 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا"لا إله إلا الله"، أو السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية، فقال:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". 5830 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس، إذا أعطوا الجزية. 5831 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني: يا جرير أسلم. ثم قال: هكذا كان يقال لهم. 5832 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال:   (1) في المخطوطة: " فخلى عنهم"، وهما سواء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية. * * * وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال. * ذكر من قال ذلك: 5833 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين"، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس- وقال: عنى بقوله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين"، أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا (1) . وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لما قد دللنا عليه في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام) : من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ، فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي، وباطنه الخصوص، فهو من الناس والمنسوخ بمعزل (2) . وإذ كان ذلك كذلك = وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه   (1) في المخطوطة: "منسوخ"، والصواب ما في المطبوعة. (2) انظر ما قاله فيما سلف في شرط النسخ 3: 358، 563. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم = (1) كان بينا بذلك أن معنى قوله:"لا إكراه في الدين"، إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام. ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم، بالإذن بالمحاربة. * * * فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه: من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام؟ قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس وغيره - إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها، وإقرارهم عليها، على النحو الذي قلنا في ذلك. * * * قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"لا إكراه في الدين". لا يكره أحد في دين الإسلام عليه، (2) وإنما أدخلت"الألف واللام" في"الدين"، تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله: (3) "لا إكراه فيه"، وأنه هو الإسلام.   (1) سياق الجملة: "وإذ كان ذلك كذلك ... كان بينا". وما بين الخطين، عطوف متتابعة فاصلة بينهما. (2) "عليه"، أي على الإسلام. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "تصريفا للدّين"، وهو تحريف، والصواب الواضح ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من"الهاء" المنوية في"الدين"، (1) فيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلي العظيم، لا إكراه في دينه، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"قد تبين الرشد"، فإنه مصدر من قول القائل:"رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا"، وذلك إذا أصاب الحق والصواب (2) . * * * وأما"الغي"، فإنه مصدر من قول القائل:"قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية"، وبعض العرب يقول:"غوى فلان يغوى"، والذي عليه قراءة القرأة: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [سورة النجم: 2] بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه، فضل. * * * فتأويل الكلام إذا: قد وضح الحق من الباطل، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه، فتميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من أهل الكتابين= ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه=، (3) . [أحدا] على دينكم، دين الحق، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له، فإلى ربه أمره، وهو ولي عقوبته في معاده. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطاغوت". فقال بعضهم: هو الشيطان.   (1) قوله: "عقيبا" أي بدلا وخلفا منه. أصله من العقيب: وهو كل شيء أعقب شيئا. وعقيبك: هو الذي يعاقبك في العمل، يعمل مرة، وتعمل أنت مرة. (2) انظر ما سلف في معنى"رشد" 3: 484، 485. (3) أي، فلا تكرهوا من أهل الكتاب ... أحدا على دينكم ... والزيادة مما يقتضيه السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 * ذكر من قال ذلك: 5834 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر بن الخطاب: الطاغوت: الشيطان (1) . 5835 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر، مثله. 5836 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الطاغوت: الشيطان. 5837 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، قال: الطاغوت: الشيطان. 5838 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن يكفر بالطاغوت" قال: الشيطان. 5839 - حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: الطاغوت: الشيطان. 5840 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"فمن كفر بالطاغوت" بالشيطان. * * * وقال آخرون: الطاغوت: هو الساحر. * ذكر من قال ذلك: 5841 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود،   (1) الأثر: 5834 -"حسان بن فائد العبسي". روى عنه أبو إسحق السبيعي. قال أبو حاتم"شيخ"، وقال البخاري يعد في الكوفيين. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مترجم في التهذيب، والكبير 2/ 1/ 28، وابن أبي حاتم 1/2 /223. وكان في المطبوعة: "العنسي"، والصواب من المخطوطة. وهذا الأثر ساقه ابن كثير بتمامه في تفسيره 2: 16 -17 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر. * * * وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية، وأنا أذكر الخلاف بعد (1) . * * * 5842 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن محمد، قال: الطاغوت: الساحر (2) . * * * وقال آخرون: بل"الطاغوت" هو الكاهن. * ذكر من قال ذلك: 5843 - حدثني ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الطاغوت: الكاهن (3) . 5844 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفيع، قال: الطاغوت: الكاهن (4) . 5845 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم = أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان. * * *   (1) في لأثر الآتي رقم: 5844. (2) الأثر: 5842 -حماد بن مسعدة، سلف ترجمته في رقم: 3056. وكان في المطبوعة"حميد بن مسعدة"، وهو هنا خطأ، صوابه من المخطوطة. أما"حميد بن مسعدة، فهو شيخ الطبري، سلف ترجمته في الأثر رقم: 196. (3) الأثر: 5843 -كان في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد بن جعفر، قال حدثنا سعيد"، والصواب"شعبة"، وانظر مثل ذلك في هذا الإسناد نفسه مما سلف رقم: 5813، والتعليق عليه. (4) الأثر 5844 -رفيع، هو أبو العالية الرياحي، وقد مضت ترجمته مرارا فيما سلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في"الطاغوت"، أنه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانا كان ذلك المعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنما، أو كائنا ما كان من شيء. * * * وأرى أن أصل"الطاغوت"،"الطغووت" من قول القائل:"طغا فلان يطغوا"، إذا عدا قدره، فتجاوز حده، ك"الجبروت"" من التجبر"، و"الخلبوت" من"الخلب"، (1) . ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير"فعلوت" بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه - أعني لام"الطغووت" فجعلت له عينا، وحولت عينه فجعلت مكان لامه، كما قيل:"جذب وجبذ"، و"جاذب وجابذ"، و"صاعقة وصاقعه"، وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال. * * * فتأويل الكلام إذا: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله، فيكفر به="ويؤمن بالله"، يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده (2) ="فقد استمسك بالعروة الوثقى"، يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه، كما:- 5846 - حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن حميد بن عقبة، عن أبي الدرداء: أنه عاد مريضا من جيرته، فوجده في السوق وهو يغرغر، لا يفقهون ما يريد.   (1) في المطبوعة والمخطوطة"الحلبوت من الحلب" بالحاء المملة، والصواب ما أثبت. يقال: "رجل خلبوت وامرأة خلبوت"، وهو المخادع الكذوب، وجاء في الشعر، وما أصدق ما قال هذا العربى، وما أبصره بطباع الناس، وما أصدقه على زماننا هذا: ملكتم فلما أن ملكتم خلبتم ... وشرالملوك الغادر الخلبوت. (2) اطلب معنى"الإيمان" فيما سلف في فهارس اللغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 فسألهم: يريد أن ينطق؟ قالوا: نعم يريد أن يقول:"آمنت بالله وكفرت بالطاغوت". قال أبو الدرداء: وما علمكم بذلك؟ قالوا: لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلح صاحبكم! إن الله يقول:"فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا الفصام لها والله سميع عليم" (1) . * * *   (1) الأثر: 5846-"أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي"، أبو العباس، روي عن بقية بن الوليد، وعثمان بن سعيد الحمصي، روى عنه النسائي. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 1/1 / 53. و"حميد بن عقبة"، هو: حميد بن عقبة بن رومان بن زرارة القرشي و"يقال، الفلسطيني. سمع ابن عمر، وأبا الدرداء. وروى عنه أبو بكر بن مريم والوليد بن سليمان بن أبي السائب. قال أحمد: "حدثنا أبو الغيرة: سألت أبا بكر فقلت: حميد بن عقبة أراه كبيرا، وأنت تحدث عنه عن أبي الدرداء؟ قال: حدثني أن كل شيء حدثني عن أبي الدرداء، سمعه من أبي الدرداء"، مترجم في الكبير 1/ 2/ 347، وابن أبي حاتم 1/ 2 /226، وتعجيل المنفعة: 106. يقال: "فلان في السوق، وفي السياق" أي في النزع عند الموت، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه. و"هو يسوق نفسه ويسوق بنفسه": أي يعالج سكرة الموت ونزعه. ويقال: "غرغر فلان يغرغر" جاد بنفسه عند الموت، و"الغرغرة" تردد الروح في الحلق، وأكثر ذلك أن يكون معها صوت، كغرغرة الماء في الحلق. وقوله: "حتى انكسر لسانه": أي عجز عن النطق. وكل من عجز عن شيء، فقد انكسر عنه. وهو هنا عبارة جيدة تصور ما يكون في لسان الميت. * * * وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: " يتلوه القول في تأويل قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى. وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا" ثم يبدا الجزء بعده: "بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 القول في تأويل قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} قال أبو جعفر:"والعروة"، في هذا المكان، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به، بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته. وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله، ومن أوثق عرى الأشياء بقوله:"الوثقى" * * * و"الوثقى"،"فعلى" من"الوثاقة". يقال في الذكر:"هو الأوثق"، وفي الأنثى:"هي الوثقى"، كما يقال:"فلان الأفضل، وفلانة الفضلى". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5847 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بالعروة الوثقى"، قال: الإيمان. 5848 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 5849 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال:"العروة الوثقى"، هو الإسلام. 5850 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير قوله:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، قال: لا إله إلا الله (1) .   (1) الأثر: 5850، 5851-"أبو السوداء"، هو: "عمرو بن عمران النهدي"، روي عن المسيب بن عبدخير، وأبي مجلز، وعبد الرحمن بن باسط والضحاك بن مزاحم، وروى عنه حفص ابن عبد الرحمن بن سوقة والسفيانان. ثقه، مترجم في التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 5851 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء النهدي، عن سعيد بن جبير مثله. 5852 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، الضحاك:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، مثله. * * * القول في تأويل قوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا انفصام لها"، لا انكسار لها."والهاء والألف"، في قوله:"لها" عائد على"العروة". * * * ومعنى الكلام: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها (1) . * * * وأصل"الفصم" الكسر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: ومبسمها عن شتيت النبات ... غير أكس ولا منفصم (2) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "كالتمسك بالوثيق". والصواب الذي يقتضيه السياق ما أثبت. (2) ديوانه: 2 من قصيدة من جيد شعر الأعشى، وقبله أبيات من تمام معناه: أتهجر غانية أم تلم ... أم الحبل واه بها منجذم أم الرشد أحجى فإن امرءا ... سينفعه علمه إن علم كما راشد تجدن امرءا ... تبين، ثم انتهى إذ قدم عصى المشفقين إلى غيه ... وكل نصيح له يتهم وما كان ذلك إلا الصبا ... وإلا عقاب امرئ قد أثم ونظرة عين على غرة ... محل الخليط بصحراء زم ومبسمها .............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فبانت وفي الصدر صدع لها ... كصدع الزجاجة ما يلتئم وقوله: "ومبسهما" منصوب عطفا ما قبله، وهو مصدر ميمى، أي ابتسامها. والشتيت: المتفرق المفلج، يعنى: عن ثغرها شتيت النبات، غير متراكب نبتة الأسنان. والأكس، من الكسس (بفتحتين) : وهو أن يكون الحنك الأعلى أقصر من الأسفل، فتكون الثنيتان العلييان وراء السفليين من داخل الفم. وهو عيب في الخلفية. ورواية الديوان: "منقصم" وهي أجود معنى. يقال: ينصدع الشيء دون أن يبين. وأما"القصم" فهو أن ينكسر كسرا فيه بينونة. ولكن الطبري استشهد به على"الفصم" بالفاء. وكلاهما عيب. وكان البيت مصحفا في المطبوعة: " ... عن سنب النبات غير كسر"، والصواب في المخطوطة، ولكنه غير منقوط فأساؤوا قراءته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5853 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا انفصام لها"، قال: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 5854 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 5855 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا انفصام لها"، قال: لا انقطاع لها. * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله سميع"، إيمان المؤمن بالله وحده، الكافر بالطاغوت، عند إقراره بوحدانية الله، وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 من دون الله="عليم" بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه، (1) وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه، لا ينكتم عنه سر، ولا يخفى عليه أمر، حتى يجازي كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه، وأضمرته نفسه، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. * * *   (1) السياق: "بما عزم عليه ... قلبه"، مرفوعا فاعل"عزم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 القول في تأويل قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"الله ولي الذين آمنوا"، نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه= (1) "يخرجهم من الظلمات" يعني بذلك: (2) . يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وإنما عنى ب"الظلمات" في هذا الموضع، الكفر. وإنما جعل"الظلمات" للكفر مثلا لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر [عن] أبصار القلوب. (3) .   (1) انظر تفسيره"الولى" فيما سلف 2: 488، 489 / ثم: 563، 564. (2) انظر القول في"الظلمات" فيما سلف 1: 338. (3) الزيادة بين القوسين، لا غنى عنها، وليست في المطبوعة ولا المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به، فقال:"والذين كفروا"، يعني الجاحدين وحدانيته="أولياؤهم"، يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم="الطاغوت"، يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يعني ب"النور" الإيمان، على نحو ما بينا="إلى الظلمات"، ويعني ب"الظلمات" ظلمات الكفر وشكوكه، الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: * ذكر من قال ذلك: 5856 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الضلالة إلى الهدى="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، الشيطان: ="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الهدى إلى الضلالة. 5857 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر. (1) . 5858 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله تعالى ذكره:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الكفر إلى الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الإيمان إلى الكفر.   (1) في المخطوطة: "من الظلمات إلى الكفر"، وهو خطأ بين جدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 5859- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد أو مقسم في قول الله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، قال: كان قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى= أي: يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم= (1) "والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم= قال:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات". (2) . 5860 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن رجل، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، إلى"أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، وأنزلت فيهم هذه الآية. (3) . * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة   (1) في المطبوعة: "أي: يخرج الذين آمنوا إلى الإيمان بمحمد ... "، وهو لايستقيم، وفي المخطوطة: "فلما بعث الله محمدا آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى إلى الإيمان بمحمد ... " سقط من الناسخ لعجلته: "أي يخرج الذين كفروا بعيسى"، وهو ما أثبته استظهارا من سياق الكلام، ومن الأثر بالتالي، على خطئه فيه، ومن الدر المنثور 1: 230، وانظر التعليق على الأثر التالي. (2) الأثر: 5859، -"عبدة بن أبي لبابة الأسدي" روي عن ابن عمر وزر بن حبيش وأبي وائل ومجاهد وغيرها من ثقات أهل الكوفة. مترجم في التهذيب، وكان في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع"عبد الله بن أبي لبابة""، وهو خطأ، وسيأتي فيهما على الصواب في الأثر التالي. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فلما جاءهم محمد صلى الله عليه آمنوا به". والصواب ما أثبت، أخطأ في نسخه وعجل. وانظر الدر المنثور 1: 230، ففيه الصواب، وهو الذي يدل عليه سياق الطبري فيما سيأتي أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 يدل على أن الآية معناها الخصوص، وأنها -إذ كان الأمر كما وصفنا- نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى، وسائر الملل التي كان أهلها يكذِّب بعيسى. * * * فإن قال قائل: أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فكذَّبوا به؟ قيل: من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فكان على حق، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النساء: 136] . * * * فإن قال قائل: فهل يحتمل أن يكون قوله:"والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونكم من النور إلى الظلمات"، أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وعبدة: (1) أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى، أو غير أهل الردة والإسلام؟ (2) . قيل: نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان، ويضلونهم فيكفرون، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان، يعني صدهم إياهم عنه، وحرمانهم إياهم خيره، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل، كقول الرجل:" أخرجني والدي من ميراثه"، إذا ملك ذلك في حياته غيره، فحرمه منه حظَّه= (3) ولم يملك ذلك القائل هذا   (1) في المطبوعة: "مجاهد وغيره". وهي في المخطوطة: "عنده" غير منقوطة وإنما عنى عبدة ابن أبي لبابة، كما في الآثار السالفة، وما بعدها. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "الردة والإسلام" وهو هنا عطف لا يستقيم، فإنه إنما عنى المرتدة عن الإسلام. (3) في المطبوعة: "فحرمه منه خطيئة"، وهو كلام خلو من المعنى. وفي المخطوطة: "فحرمه منه حطه" غير منقوطة، وكلها فاسدة. أن المعنى: إذا ملك الميراث غير أبيه، فحرمه حظه من ميراث أبيه. والحظ: النصيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 الميراث قط فيخرج منه، ولكنه لما حرمه، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه، قيل:"أخرجه منه"، وكقول القائل:"أخبرني فلان من كتيبته"، يعني لم يجعلني من أهلها، ولم يكن فيها قط قبل ذلك. فكذلك قوله:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى، (1) وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية. (2) . * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور"، فجمع خبر"الطاغوت" بقوله:"يخرجونهم"، و"الطاغوت" واحد؟ قيل: إن"الطاغوت" اسم لجماع وواحد، وقد يجمع"طواغيت". وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد، كان نظير قولهم:"رجل عدل، وقوم عدل" و"رجل فطر وقوم فطر"، (3) وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها، (4) وكما قال العباس بن مرداس: فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ (5) * * *   (1) في المطبوعة: "يحتمل" بالياء في أوله، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة معا: "مجاهد وغيره"، وهو خطأ، وانظر التعليق السالف: ص: 427 تعليق: 1. (3) أي رجل مفطر، وقوم مفطرون. (4) في المطبوعة: "التي تأتي موحدة في اللفظ ... "، وفي المخطوطة: "التي يأتي موحد في اللفظ"والصواب ما أثبت. (5) سيرة ابن هشام 4: 95 واللسان (أخو) ومجاز القرآن 1: 79، من قصيدة له طويلة في يوم حنين، وفي هزيمة هوازن: ويذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت، وبعد البيت: كأن القوم - إذ جاؤوا إلينا ... من البغضاء بعد السلم - عور وهو يخاطب هوازن بن منصور بن عكرمة، إخوة سليم بن منصور، وهم قوم العباس بن مرداس السلمي. وهذا البيت يجعلونه شاهدا على جمع"أخ" بالواو والنون كقول عقيل بن علقة المري: وكان بنو فزارة شر عم ... وكنت لهم كشر بني الأخينا فقوله: "أخوكم"، أي: إخوتكم. فهذا وجه آخر غير الذي استشهد له بهذا البيت والشاهد على قوله الطبري ما جاء في الأثر: "أنتم الوالد ونحن الولد". والإحن جمع إحنة: وهي الحقد الغالب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هؤلاء الذين كفروا="أصحاب النار"، أهل النار الذين يخلدون فيها- يعني في نار جهنم- دون غيرهم من أهل الإيمان، إلى غير غاية ولا نهاية أبدا. (1) . * * * القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" ألم تر، يا محمد، بقلبك (2) . ="الذي حاج إبراهيم"، يعني الذي خاصم (3)   (1) انظر تفسير"أصحاب النار""وخالدون" فيما سلف 2: 286، 287/ 4: 317. (2) انظر تفسير"الرؤية"فيما سلف 3: 75 -79 /3: 160 / وهذا الجزء: 266، 291. (3) انظر معنى"حاج" فيما سلف 3: 121 -200. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 "إبراهيم"، يعني: إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم =" في ربه أن آتاه الله الملك"، يعني بذلك: حاجه فخاصمه في ربه، لأن الله آتاه الملك. * * * وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت"إلى" في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج"، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله، قالوا:"ما ترى إلى هذا"؟! والمعنى: هل رأيت مثل هذا، أو كهذا؟! (1) . * * * وقيل: إن" الذي حاج إبراهيم في ربه" جبار كان ببابل يقال له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح = وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. * ذكر من قال ذلك: 5861 - حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: هو نمرود بن كنعان. 5862 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 5863 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. 5864 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد، مثله. (2) .   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 170. (2) الأثر: 5864 -"النضر بن عربي الباهلي" مضت ترجمته في: 1307، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن عدي"، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 5865 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ، (1) وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل. 5866 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو اسمه نمروذ، وهو أول ملك تجبر في الأرض، حاج إبراهيم في ربه. 5867 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ، وهو أول جبار تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل. 5868 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هو نمروذ بن كنعان. 5869 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو نمروذ. 5870 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، مثله. 5871 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، بمثله. 5872 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: هو نمرود= قال ابن جريج: هو نمرود، ويقال إنه أول ملك في الأرض. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "كنا نتحدث"، وما أثبت هو الصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر، يا محمد، إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم:"ربي الذي يحيي ويميت"، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له= وذلك عند العرب يسمى"إحياء"، كما قال تعالى ذكره: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [سورة المائدة: 32] = وأقتل آخر، فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها- إن كنت صادقا أنك إله- من مغربها! قال الله تعالى ذكره:"فبهت الذي كفر"، يعني انقطع وبطلت حجته. * * * يقال منه:"بهت يبهت بهتا". وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى:"بهت". ويقال:"بهت الرجل"= إذا افتريت عليه كذبا="بهتا وبهتانا وبهاتة". (1) . * * * وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ:" فبهت الذي كفر"، بمعنى: فبهت إبراهيم الذي كفر. * * *   (1) "بهاتة"، مصدر لم أجده في كتب اللغة، وهو صحيح في القياس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5873 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت"، وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحي الآخر، فقال: أنا أحيي هذا! أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك:"فإن الله يأتي بالشمس من المغرب فأت بها من المغرب"،"فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين". 5874 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"أنا أحيي وأميت"، أقتل من شئت، وأستحيي من شئت، أدعه حيا فلا أقتله. وقال: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم. 5875 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمروذ، (1) . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت! حتى مر إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر. قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم على أهله، (2) . فمر على كثيب أعفر، (3) فقال: ألا آخذ من هذا، فآتي به   (1) في التاريخ: "نمرود" بالدال المهملة، وفي المخطوطة كذلك، إلا أنها لا تعجم المعجم. وكلاهما جائز، بالدال المهملة والذال المعجمة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "على أهله"، والجيد ما في تاريخ الطبري، وهو ما أثبت. (3) في المطبوعة: "على كثيب من رمل أعفر" بهذه الزيادة، وليست في المخطوطة ولا في التاريخ والأعفر: الرمل الأحمر، أو تخالطه الحمرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 أهلي، (1) فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد (2) ، فصنعت له منه، فقربته إليه، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم طعام، (3) فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به! فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال: وهل رب غيري؟! فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام! فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله. (4) وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) (5) [النحل: 26] . 5876 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه، فإذا دخلوا عليه، قال: من ربكم؟ فيقولون: أنت!   (1) في التاريخ: "هلاّ" (بفتح الهاء وتشديد اللام) وهما سواء، "ألاّ" أيضًا مشددة اللام. (2) في المطبوعة: "فإذا هى بأجود طعام رأته"، والذي أثبت نص المخطوطة والتاريخ، فليت شعرى لم غيره المغيرون في الطبع! ! . (3) الأثر: 5875 -في المطبوعة: "وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام"، وأثبت ما في المخطوطة. والتاريخ، وعجب لهؤلاء المبدلين، استدلوا الركيك الموضوع، بالجزء المرفوع! ! والأثر في التاريخ الطبري 1: 148. (4) في المطبوعة: "ثم أماته الله"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (5) في المخطوطة: "فأتي الله بنيانه من القواعد"، ثم أراد أن يصححها، فكررها كما هى، ولم يضرب على الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 فيقول: أميروهم. (1) فلما دخل إبراهيم، ومعه بعير خرج يمتار به لولده، قال: فعرضهم كلهم، فيقول: من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول: أميروهم! (2) حتى عرض إبراهيم مرتين، فقال: من ربك!؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت! قال: أنا أحيي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت استحييتك. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب!! " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين". قال: أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا! فخرج القوم كلهم قد امتاروا، وجوالقا إبراهيم يصطفقان، (3) حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله، قال: ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق! (4) لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء، فذهبت بهما، قرت عينا صبيي، حتى إذا كان الليل أهرقته! قال: فملأهما، ثم خيطهما، ثم جاء بهما. فترامى عليهما الصبيان فرحا، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما يجلسني! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا، (5) لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم! قال: فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه. قال: فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها، فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط، (6) فأخذت منه فعجنته وخبزته، (7) فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه، فقال: أي شيء هذا يا سارة؟ قالت: من جوالقك، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير قال: فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله، فعرف من أين ذاك. 5877 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت قال هو -يعني نمروذ: فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين، فاستحي أحدهما، وقتل الآخر، قال: أنا أحيي وأميت،= قال: أي أستحيي من شئت= فقال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب"فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين". 5878 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما خرج إبراهيم من النار، أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه، وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! أنا أدخل أربعة نفر بيتا، فلا يطعمون ولا يسقون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك، قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مجنون! فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وأن النار لم تأكله! وخشي أن يفتضح في قومه = أعني نمروذ = وهو قول الله تعالى ذكره: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام: 83] ، فكان يزعم أنه رب= وأمر بإبراهيم فأخرج. 5879 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: قال: أنا أحيي وأميت، أحيي فلا أقتل، وأميت من قتلت= قال ابن جريج، كان أتى   (1) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة. (2) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة. (3) الجُوالق (يضم الجيم، وكسر اللام أو فتحها) ، وجمعه جوالق وجوالقات، وهو وعاء من الأوعية، نسميه ونحرفه اليوم"شوال". واصطفق الشيء: اضطرب، يعنى من فراغهما. (4) في المطبوعة: "ليحزنني"، والصواب ما في المخطوطة. (5) لغب: قد أعيى أشد الإعياء. من اللغوب. وأكثر ما يقولون: لاغب، أما"لغب"، فهو قليل في كلامهم، وهو هنا اتباع. (6) الحواري (بضم الخاء وتشديد الواو، والراء مفتوحة) : وهو لباب الدقيق الأبيض وأخلصه وأجوده. والنقى: وهو البر إذا جرى فيه الدقيق. (7) في المطبوعة: "فطحنته وعجنته"، وفي المخطوطة"فعجنته وعجنته". واستظهرت أن تكون كما أثبتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، فقال: أنا أحيي وأميت، قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيي= قال: استحيي= فلا أقتل. 5880 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لنا والله أعلم: أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، (1) وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ، ولم يرجع إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره:"فبهت الذي كفر"، يعني وقعت عليه الحجة= يعني نمروذ. * * * قال أبو جعفر: وقوله:"والله لا يهدي القوم الظالمين"، يقول: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة. * * * وقد بينا أن معنى"الظلم" وضع الشيء في غير موضعه، (2) والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.   (1) في المطبوعة: "الذي تعبده وتدعو إلى عبادته"، وفي المخطوطة"الذي تعبدونه وتدعو ... " صواب قراءتها ما أثبت. (2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524 / 2: 369، 519، ثم أخيرا ما سلف قريبا: 384. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 5881 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق:"والله لا يهدي القوم الظالمين"، أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من الضلالة. * * * القول في تأويل قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو كالذي مر على قرية"، نظير الذي عنى بقوله:"ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه"، من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه. * * * وقوله:"أو كالذي مر على قرية" عطف على قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإنما عطف قوله:"أو كالذي" على قوله:"إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما. لأن قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ = ثم عطف عليه بقوله:"أو كالذي مر على قرية" لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه. * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أن"الكاف" في قوله،"أو كالذي مر على قرية"، زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مر على قرية. * * * وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) . * * *   (1) انظر ما سلف 1: 439 -441 / 2: 331، 400. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 واختلف أهل التأويل في" الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها". فقال بعضهم: هو عزير. * ذكر من قال ذلك: 5882 - حدثنا محمد بن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناحية بن كعب."أو كالذي مر على قرية خاوية على عروشها" قال: عزير. (1) . 5883 - حدثنا ابن حميد. قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو خزيمة، قال: سمعت سليمان بن بريدة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: هو عزير. 5884 - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" قال، ذكر لنا أنه عزير. 5885 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده [مثله] . (2) . 5886 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير. 5887 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج عن ابن حريج، عن عكرمة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" قال: عزير.   (1) الأثر: 5882 -"ناجية بن كعب الأسدي" روي عن علي، وعمار بن ياسر، وعبد الله ابن مسعود. روى عنه أبو إسحق السبيعي، وأبو حسان الأعرج، ويونس بن أبي إسحق. مترجم في التهذيب، والكبير 4/ 2/ 107، وابن أبي حاتم 4/ 1/486. (2) الزيادة بين القوسين لا بد منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 5888 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي:"أو كالذي مر على قرية" قال: عزير. 5889 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" إنه هو عزير. 5890 - حدثني يونس، قال: قال لنا سلم الخواص: كان ابن عباس يقول: هو عزير. (1) . * * * وقال آخرون: هو أورميا بن حلقيا، (2) وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر. 5891 - حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: اسم الخضر= فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران. (3) . * ذكر من قال ذلك: 5892 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنى يحيي هذه الله   (1) الأثر: 5890 -"يونس"، هو يونس بن عبد الأعلى سلفت ترجمته مرارا. و"سلم الخواص" هو: سلم بن ميمون الخواص الرازى الزاهد، من كبار الصوفية. دفن كتبه، وكان يحدث من حفظه فيغلط. قال ابن حبان: كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح، حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به. مترجم في لسان الميزان، وفي الجرح 2/1/ 267. وكان في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. (2) هو في كتاب القوم (إرميا) . وكان في المطبوعة مثله، ولكنى أثبت ما في المخطوطة لأنه مضى عليه في جميع ما يأتي، وكذلك كان يرسم في غيره من الكتب. انظر"سفر أرميا" في كتابهم. (3) هذا القول رده الطبري ونقضه في تاريخه 1: 194، وما قبلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 بعد موتها"، أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها". (1) . 5893 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو أورميا. 5894 - حدثني محمد بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله. 5895 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها"، قال: كان نبيا وكان اسمه أورميا. 5896 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد، مثله. 5897 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن [مضر] ، قال: يقولون والله أعلم: إنه أورميا. (2) . * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها-"أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك   (1) الأثر: 5892 -هو بعض الأثر السالف رقم: 5661. (2) الأثر: 5897 -في المطبوعة والمخطوطة بياض مكان ما بين القوسين وقد زدته استظهارا من الأسانيد السالفة. وقد مضت ترجمة"بكر بن مضر المصري" في رقم: 2031، وانظر هذا الإسناد فيما سيأتي رقم: 5929 - 5949. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت= من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب= (1) وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، (2) فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه. * * * واختلف أهل التأويل في"القرية" التي مر عليها القائل:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها". فقال بعضهم: هي بيت المقدس. * ذكر من قال ذلك: 5898 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن   (1) السياق: " تعريف المنكرين ... من قريش ... ". وسياق ما بين الخطين: وإنما المقصود بها تعريف المنكرين ... وتثبيت الحجة ... ". (2) يعنى بالأمي: الذي لا كتاب له، وانظر تفسير"الأمي" فيما سلف 2: 257 -259. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 منبه، قال: لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها". 5899 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي بيت المقدس. 5900 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك. 5901 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عليه عزير بعد ما خربه بخت نصر البابلي. 5902 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، أنه مر على الأرض المقدسة. 5903 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية: بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت نصر. (1) . 5904 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية بيت المقدس، مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر. * * * وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "بختنصر"، كلمة واحدة، وكذلك في التاريخ وغيره، ولكن المخطوطة في هذا الموضع وكل ما يليه كتبت كلمتين مفصولتين، فأثبتها كما هى، فهى صواب أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 5905 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) ، قال: قرية كان نزل بها الطاعون= ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ= (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) ، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، (1) فماتوا ثم أحياهم الله، (إ ن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) [سورة البقرة: 243] . قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه" إلى قوله"لم يتسنه". (2) . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل:"أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها" سواءً لا يختلفان. * * * القول في تأويل قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وهي خاويه" وهي خالية من أهلها وسكانها. * * * يقال من ذلك:"خوَت الدار تخوِي خوَاء وخُوِيًّا"، وقد يقال للقرية:"خَوِيَت"، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نُفَساء فإنه يقال:"خَوِيَت تَخْوَى خَوًى" منقوصًا، وقد يقال فيها:"خَوَت تخوِي، كما يقال في   (1) في الأثر السالف: 5608 -"ذهبوا إليه" بزيادة"إليه". (2) الأثر: 5905 - هو بعض الأثر: 5608. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 الدار. وكذلك:"خَوِيَ الجوف يخوَى خوًى شديدًا"، (1) ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابًا، غير أن الفصيح ما ذكرت. * * * وأما"العُرُوش"، فإنها الأبنية والبيوت، واحدها"عَرْش"، وجمع قليله"أعرُش". (2) . وكل بناء فإنه"عرش". ويقال:"عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا"، (3) ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [سورة الأعراف: 137] يعني يبنون، ومنه قيل:"عريش مكه"، يعني به: خيامها وأبنيتها (4) . * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك. 5906 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"خاوية"، خراب= قال ابن جريج: بلغنا أن عُزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرَّبه بخت نصَّر، (5) فوقف   (1) في المطبوعة: "خواء شديدًا"، والصواب من المخطوطة، هذا على أنه يقال في ذلك أيضًا، "خواء" ممدودًا، ولكن القصر أعلى. (2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "أعرش"، والذي نص عليه أصحاب اللغة"أعراش"، وكلاهما جمع قلة، ولم يذكروا"أعرش" فيما رأيت، ولكنها قياس الباب، فإن"فعل" (بفتح فسكون) يغلب على جمعه في جمعه في القلة"أفعل" (بضم العين) مثل فلس وأفلس، إلا أن يكون أجوف، واويًا أو بائيًا، فإن الغالب في قلته"أفعال" مثل ثوب وأثواب، وبيت وأبيات. فعن هذا يتبين أن نص الطبري صحيح جار على قياس اللغة، وأن جمعه على"أعراش" مما شذ عن بابه. (3) في المطبوعة: "عرش فلان ويعرش ويعرش وعرش عريشًا"، وهو لا يستقيم، وإنما أراد تصحيح ما كان في المخطوطة فأفسده، وإذ لم يحسن قراءته، وفي المخطوطة: "عرش فلان إذا يعرش ويعرش عرشًا" ولكنه كتب أولا"تعرشا" غير منقوطة ثم عاد فوضع العين"ع" في رأس الكلمة"يعر"فلما رأي المصحح في النص"إذا" حذفها، وتصرف في سائره، ولم يحسن التصرف! . (4) في اللسان: "العروش بيوت مكة" وفي حديث ابن عمر: " أنه كان يقطع التلبية إذا نظر إلى عروش مكة". قال ابن الأثير: "بيوت مكة، لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظلل عليها" وقالوا: وهي بيوت أهل الحاجة منهم. (5) انظر التعليق السالف ص: 443 رقم: 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلةِ والمال ما كان!! فحزن. (1) . 5907 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"وهي خاوية على عروشها" قال: هي خراب. 5908 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: مرّ عليها عزير وقد خرَّبها بخت نصر. 5909 - حدثت موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وهي خاويه على عروشها" يقول: ساقطة على سُقُفِها. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} قال أبو جعفر: ومعنى ذلك فيما ذُكر لنا: (2) . أنّ قائله لما مرَّ ببيت المقدس = أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به = خرابا بعد ما عهدهُ عامرًا قال: أنَّى يحيي هذه الله بعد خرابها؟ (3) . فقال بعضهم: (4) . كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة الله على إحيائه.   (1) في المطبوعة: "من المقدس"، وهو خطأ صرف، والقدس: الطهر والتنزيه والبركة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى ذلك فيما ذكرت أن ... "، وهو لا يستقيم، وصواب السياق ما أثبت. (3) في المطبوعة: ذكر نص الآية"بعد موتها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، ليكون تفسرا لقواه: "بعد موتها"، كما يدل عليه السياق. وانظر تفسير"الموت" بمعنى: خراب الأرض، ودثور عمارتها، فيما سلف 3: 274. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعضهم"، كأنه متصل بما قبله، ولو كان ذلك كذلك لفسد سائر الكلام واضطراب، ولاحتاج الطبري أن يذكر أقوال آخرين فيما يأتي، ولكنه لم يفعل. فالصواب الذي يقتضيه السياق، فيما سبق بعد تصحيحه، وفيما يستقبل، يوجب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمرَ ما كان قبل خرابه. (1) . * * * وذلك أن قائل ذلك كان -فيما ذكر لنا- عهده عامرًا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويًا على عروشه، قد باد أهله، وشتَّتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد للحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وَجه يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها، (2) . استنكارًا فيما -قاله بعض أهل التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان في إدواته وفي طعامه، (3) . ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره (4) ، فلما رأى ذلك قال: (أعلمُ أنّ الله على كل شيء قدير) . * * * وكان سبب قِيله ذلك، كالذي: - 5910 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله لأرميا حين بعثه نبيًّا إلى   (1) قوله: "أحيى ما رآه ... "و"أعمر ما كان ... "، هو"أفعل" التفضيل من"الحياة" و"العمارة"، وليسا فعلين، أي أحسن حياة، وأكثر عمرانا. (2) انظر تفسير"أني" فيما سلف 4: 413 -416 /وهذا الجزء 5: 312. (3) في المطبوعة: "وفيما كان من شرابه وطعامه"، لم يحسن قراءة المخطوطة لتصحيفها. وفي المخطوطة: "وفيما كان من إدا وبه وطعامه"، وصواب هذه الجملة المصحفة ما أثبت. والإداوة (بكسر الهمزة) : هي إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وجمعها"أداوى" بفتح الواو، وزدت"في" بين" وطعامه" لضرورتها في السياق. (4) في المطبوعة: "بإظهاره إحياء ما كان عجبًا. لرأي عينه"، وفي المخطوطة: "بإظهاره إحيائه ما كان.." وسائره مثله. والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: بإظهاره على إحيائه ذلك رأي عينه"، بحذف اللام من "لرأي"، ونصب "رأي" يقول: أظهره على إحياء ما أحيي رأي العين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 بني إسرائيل: (1) ."يا أرميا، من قبل أنْ أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك، (2) . ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبَّيتُك، (3) . ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك، (4) . ولأمر عظيم اجتبيتك، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه; قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلّوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب، فأوحى الله إلى أورميا: (5) . أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم = ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل = (6) . قال: ثم أوحى الله إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث -ويافثُ أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحيَ ربّه، صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يومٌ ولدت فيه، ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة، (7) . ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه، فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء إلا لما هو شر علي! (8) . لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول، (9) . ناداه: أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به، (10) . فقال الله: وعزتي العزيزة، (11) . لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا! (12) . ثم أتى ملكَ بني إسرائيل، وأخبره بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر وقال: إن يعذِّبنا ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته. = ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية، وتمادوا في الشر، (13) . وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحيُ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة، (14) . وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من الله، وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم، (15) . فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن   (1) انظر ما سلف في ص 440، وكتابتها هناك "أورميا"، وهي هنا كما أثبتها. وستأتي بعد أسطر على ما سلف. (2) في تاريخ الطبري: "في بطن أمك"، سواء. (3) في المطبوعة: "نبأتك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. ولأجود ترك الهمزة فيه، وحمله على لفظ"النبي" ونباه: جعله نبيا أو كتبه عنده نبيا. و"تنبى الكذاب"، إذا ادعى النبوة. (4) في التاريخ: "اختبرتك"، وما في التفسير، هو الجيد الصواب. وسيأتي اختلاف في بعض اللفظ لا أقيده حتى أجده صالحا للتعيين. (5) أثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وانظر التعليق السالف رقم: 1. (6) ما بين الخطين من كلام أبي جعفر، فقد قطع سياق الخبر، وانتقل إلي ما أراد، والذي يأتي يبدأ في تاريخه في ج 1: 287. (7) في المطبوعة والمخطوطة: "لقيت التوراة"، وزدت"فيه" من التاريخ، وهي أجود. وفي التاريخ: "لقنت" من التلقين، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب جدا. لقي الشيء يلقاه (بتشديد القاف والبناء للمجهول) : علمه، ونبه إليه، ولقنه. فهما سواء في المعنى. وبذلك جاء في كتاب الله: (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) . (8) في المخطوطة: "إلا لما هو أشر على"، ولا بأس بها. (9) "الخضر" هو"أرميا" نفسه، فيما زعم وهب بن منبه راوي هذا الأثر، كما سلف ذلك عنه في رقم: 5891. (10) في المخطوطة والمطبوعة: "أهلكنى في بني إسرائيل" سقط منها"قبل أن أروي"، وأثبت صوابها من التاريخ. (11) في التاريخ: "وعزتي وجلالي" والذي في المخطوطة والمطبوعة قسم عزيز قلما أصبته فيما قرأت. (12) " لا آمر ربي" يعنى: لا أسأله ذلك ولا أدعوه. وهو مجاز من الأمر" جيد عربي فصيح، وقلما تصيبه في كتب اللغة، وقلما تصيب الشاهد عليه. وذلك أنه إذا دعا قال: "رب أهلكهم"، فذلك دعاء، وكل دعاء يقتضى هذا الفعل الأمر، وليس بأمر لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا المجاز في النفى، أجود منه في الإثبات. وانظر ما سيأتي في الخبر ص: 450، وتعليق: ك 4. (13) في التاريخ: "وتماديا في الشر" وهو أجود. (14) في المطبوعة: "حتى لم يكونوا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو العربي الصحيح. (15) في التاريخ: "وقيل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 تاب إليه! (1) . فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه، (2) . وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن نبوذراذان [بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر = ونمروذ صاحب إبراهيم صلى الله عليه وسلم، الذي حاجّه في ربّه] = (3) . أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس; فلما فصَل سائرًا، أتى ملكَ بني إسرائيل الخبرُ أن بخت نصّر أقبلَ هو وجنوده يريدكم. فأرسل الملك إلى أرميا، فجاءه فقال: يا أرميا، أين ما زعمت لنا أنّ ربنا أوحى إليك أن لا يُهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمرُ في ذلك؟ (4) . (5) . فقال أرميا للملك: إنّ ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق. = فلما اقترب الأجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على هلاكهم، بعث الله مَلَكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى أرميا فاستفته = وأمره بالذي يستفتيه فيه. فأقبل الملك إلى أرميا، وقد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل، (6) . فقال له أرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال المَلَك: يا نبيَّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رَحِمي، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حَسَنًا، ولم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله؟ فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله،   (1) في المطبوعة: "رحيم من تاب عليه"، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (2) "نزع عن الشيء ينزع نزوعا": كف وانتهى. (3) في المطبوعة"بختنصر بن نعون بن زادان، والصواب من المخطوطة والتاريخ. وهذا الزيادة بين القوسين، لم تكن في المخطوطة، ولكنى زدتها من التاريخ، لحاجة الكلام إليها بعد في ذكر سنحاريب، وأنه جد بخت نصر. وقوله: "بن نبوذراذان" هو في كتاب القوم (بن نبو بولا سار) ، وأما"نبوذراذان"، فهو مذكور عندهم أنه رئيس حامية"بنو خذ ناصر"، وهو"بخت نصر". وهذا النسب قد ساقه الطبري قبل هذا الموضع في تاريخه 1: 283 مع بعض الاختلاف. (4) الأمر: الدعاء والسؤال. وانظر التعليق السالف ص: 449، تعليق: 4. (5) في المطبوعة"وقد تمثل" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو جيد جدا. (6) في المطبوعة: "رجل ... " بحذف"أنا" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 وصِلْ ما أمرك الله به أن تصل، وأبشر بخير. فانصرف عنه الملَك; فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! (1) . فقال له نبي الله، أو ما طهُرت لك أخلاقهم بعد، (2) . ولم تر منهم الذي تحب؟ فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحدٌ من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضلَ من ذلك! فقال النبي: ارجعْ إلى أهلك فأحسنْ إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، (3) . وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنِّبكم سخطه! فقام الملك من عنده، فلبث أيامًا، وقد نزل بخت نصّر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد، (4) . ففزع بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا أرميا، فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق. = ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين، (5) . فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبلَ اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أنّ ما بهم في ذلك سخطي، (6) . فلما   (1) في التاريخ وحده: "أتيتك أستفتيك في شأن أهلي". (2) يقال: "رجل طاهر الأخلاق"، أي يتنزه عن دنس الأخلاق، ويكف عن الإثم. (3) في التاريخ: "واسأل الله"، بالواو في أوله، وكأنه أمر للرجل. وأن يكون دعاء من النبي له، أقرب وأحسن. (4) في المطبوعة: "بجنوده"، وفي المخطوطة"جنوده" بغير واو، وأثبت ما في التاريخ، وفيه أيضًا: "بأكثر من الجراد". (5) في التاريخ: "أتيتك في شأن أهلي ... ". (6) في المطبوعة: "أنما قصدهم في ذلك سخطي"، وفي التاريخ: "أن مآ لهم في ذلك سخطي" وفي المخطوطة: "أنما نهم في ذلك سخطي"، والأول تبديل للنص، والآخران تصحيف، صوابه ما أثبت. يقال: "ما بك إلا مساءتى"، أي ما تريد إلا مساءتى. فكذلك قوله: "أن ما بهم في ذلك سخطي"، أن الذي يريدون في فعلهم ذلك، سخطي واستثارة غضبى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله، ولا يحبه الله، فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سَخَط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدَّ عليهم غضبي، (1) . وصبرتُ لهم ورَجوتهم، ولكن غضبتُ اليوم لله ولك، (2) . فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله -الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. (3) . فقال أرميا: يا مالك السماوات والأرض، (4) . إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه، فأهلكهم! فلما خرجت الكلمة مِن فِيّ أرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهبَ مكان القُربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها; فلما رأى ذلك أرميا صَاح وشق ثيابه، ونَبَذ الرَّماد على رأسه، فقال يا ملك السماء، ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي: أرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفُتياك التي أفتيتَ بها رسولنا، فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاثَ مرات، وأنه رسول ربه، فطار إرميا حتى خالط الوحوش. = ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرَّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي; (5) . فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل، فأصاب كل واحد منهم أربعةُ غلمة، وكان من أولئك الغلمان:"دانيال"، و"عزاريا"، و"ميشايل"، و"حنانيا". (6) . وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثًا أقر بالشام، وثلثًا سَبَى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. (7) . وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، (8) . فكانت هذه الوقعةَ الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره ببني إسرائيل، بإحداثهم وظلمهم. (9) . = فلما ولّى بخت نصر عنه راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصيرٌ من عنب في زُكْرَة وسَلَّة تين، (10) . حتى أتى إيليا، فلما وقف عليها، ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيرُه وسلة تينه عنده حيث أماته   (1) في المطبوعة وحدها: "ولو كانوا ... " بالواو لا بالفاء. (2) في المطبوعة وحدها: "ولكن غضبت ... ". (3) في المطبوعة وحدها: "الذي بعثك" بحذف"هو". (4) في المطبوعة وحدها: "يا مالك السموات ... ". (5) في المطبوعة: "تسعين ألف صبى"، وفي المخطوطة: "سبعين صبى" بإسقاط"ألف"، أما في التاريخ: "فاختار منهم مئة ألف صبى"، ولكنه عاد بعد ذلك فروي سيأتي: "وذهب بالصبيان السبعين الألف"، فأخشى أن يكون ما في التاريخ خطأ، صوابه"فاختار منهم سبعين ألف صبى من مئة ألف صبى". (6) "عزريا"، "ميشائيل"، "حننيا" هكذا رسم أسمائهم في"سفر دانيال" الإصحاح الأول. وكان في المطبوعة: "مسايل" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفي التاريخ بعد هذا الموضع تعداد هؤلاء الغلمان من أسباط بني إسرائيل. (7) في المطبوعة وحدها: "بأسبية بيت المقدس"، وهو خطأ لا معنى له هنا. (8) في المطبوعة والمخطوطة: "التسعين الألف". وهو يخالف ما مضى من الخبر في المخطوطة كما أسلفنا في التعليق: 1، وأثبت ما في التاريخ. (9) في المطبوعة وحدها: "الواقعة الأولى التي ذكر الله ... "، ثم يلي ذلك في المخطوطة والمطبوعة" ... تعالى ذكره نبي الله بإحداثهم ... "، والصواب من التاريخ. (10) الزكرة (بضم فسكون) : زق صغير من أدم يجعل فيه الشراب. وفي التاريخ"ركوة"، والصواب ما في التفسير، فإن"الركوة" (بكسر فسكون) : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، هو كالكوب لا كالزق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 الله، وأمات حماره معه. (1) . فأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد، ثم بعثه الله تعالى، فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قال: بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه"، يقول: لم يتغير ="وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا" فنظر إلى حماره يَاتَصِل بعضٌ إلى بعض - (2) . وقد كان مات معه - (3) . بالعروق والعصب، ثم كيف كسي ذلك منه اللحمَ حتى استوى، (4) . ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق، ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وَضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . ثم عمَّر الله أرميا بعد ذلك، فهو الذي يُرَى بفلوات الأرض والبلدان. 5911 - حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر: أن الحق بأرض إيليا، فإن هذه ليست لك بأرضِ مقامٍ، فركب حماره، حتى إذا كان ببعض الطريق، ومعه سلة من عنب وتين، وكان معه سقاءٌ جديدٌ فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومات حماره معه"، وأثبت ما في التاريخ. (2) في المطبوعة وحدها: " يتصل بعضه إلى بعض"وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ وما سيأتي رقم: 5933، وفي التاريخ"يتصل" كالمطبوعة. وأما قوله: "ياتصل" وأصلها"يفتعل" من"وصل" فأصل الفعل"ارتصل، يوتصل، فهو موتصل"، فلغة أهل الحجاز وقريش خاصة: أن لا تدغم هذه الواو وأشباهها، وغيرها يدغم فيقول"ايتصل، ياتصل، فهو موتصل" ومن"وفق" يقول: "ايتفق ياتفق، فهو موتفق" وما أشبهه ذلك، وقد جرى الشافعي في الرسالة على استعمال ذلك. انظر الفقرات رقم 95، 569، 574، 662، 1275، 1333، وتعليق أخى السيد أحمد على الفقرة رقم 95. وفي الحديث: "كان اسم نبله عليه السلام: الموتصلة"، سميت بذلك تفاؤلا بوصولها إلى العدو. وانظر التعليق على الأثر رقم: 5933 فيما سيأتي. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقد مات معه" بحذف"كان" وأثبت ما في التاريخ، وما سيأتي رقم: 5933. (4) في المطبوعة: "ثم كيف كسى ... "، وسيأتي في رقم: 5933، كما أثبته، وهو الصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 حوله من القُرى والمساجد، ونظر إلى خراب لا يوصف، (1) . ورأى هَدْمَ بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: (2) . أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وسار حتى تبوَّأ منها منزلا فربط حماره بحبل جديد. وعلَّق سقاءه، وألقى الله عليه السُّبات; فلما نام نزع الله روحه مائة عام; فلما مرّت من المائة سبعون عامًا، أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِك من ملوك فارس عظيم يقال له:يوسك"، (3) . فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمِّر بيت المقدس وإيليا وأرضها، حتى تعود أعمَر ما كانت، فقال الملك: أنظرني ثلاثه أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل، فأنظره ثلاثة أيام، فانتدب ثلاثمائة قَهْرَمان، ودفع إلى كل قَهْرَمَان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، (4) . فسار إليها قهارمته، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل; (5) . فلما وقعوا في العمل، ردّ الله روح الحياة في عين أرميا، وآخِرُ جسده ميت، (6) . فنظر إلى إيليا وما حولها من القُرى والمساجد والأنهار والحُروث تعمل وتعمِّر وتتجدد، (7) . حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائه، رد إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، (8) . وقد أتى على ذلك ريحُ مائة عام، وبرد مائة عام، وحرُّ مائة عام، لم تتغير ولم تنتقض شيئًا، (9) . وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحمًا جديدًا، ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزها ثم نكسوها لحمًا فلما تبين لهُ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) . (10) . 5912- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) : أن أرميا لما خُرِّب بيت المقدس وحُرِّقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام) ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة; فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض، (11) . ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا. فلما تبين له ذلك قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) فقال الله تعالى ذكره: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه) قال: فكان طعامه تينًا   (1) في المطبوعة والمخطوطة"ونظر إلى خراب" والصواب حذف هذه الواو، وانظر التعليق التالي. (2) في المطبوعة: "ورأى هدم ... "، وفي المخطوطة: "وسياق المعنى يقتضى إثبات ما في المخطوطة، وحذف الواو من"ونظر" كما سلف في التعليق قبله. (3) لم أعرف صحة هذا الاسم ولم أجده في كتاب آخر. (4) القهرمان: من أمناء الملك وخاصته، كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجل. (5) في المطبوعة: "قهرمته"، والقهارمة جمع قهرمان. (6) في المطبوعة: "وآخر جسده ميتا"، والصواب ما في المخطوطة في هذا الموضع، وفيما سيأتي في المخطوطة والمطبوعة رقم: 5938 وقوله: "آخر" هنا بمعنى: الباقى بعد رده الروح رأسه. وهو مجاز عربي لا يعاب. وانظر التعليق على رقم: 5938 فيما سيأتي بعد. (7) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "والحروث"، وأخشى أن يكون الصواب: "والحراث" جمع حارث، وهو الذي يحرث الأرض. (8) الرمة (بضم الراء، أو كسرها، وتشديد الميم) : قطعة من حبل يقيد به الأسير، أو يوضع في عنق البعير، وأصحاب اللغة يقولون: هي القطعة البالية. ولكنه هنا استعملها بغير هذه الصفة، بل وصفها بأنها رمة جديدة، وهو جيد لا بأس به. (9) في المخطوطة والمطبوعة: "لم تنتقص" بالصاد المهملة، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. انتض الحبل وغيره، فسد ما أبرمت منه وضعت قواه وبليت. وقوله: "شيئا"، أي قليلا ولا كثيرا، وهو تعبير جيد في العربية. (10) الأثر: 5911 -"محمد بن عسكر"، هو: محمد بن سهل بن عسكر البخاري، مضت ترجمته في رقم: 5598. و"ابن زنجويه" رجلان: محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي، روى عنه الأربعة وعبد الله بن أحمد وآخرون. مات سنه 258. وهو ثقة كثير الخطأ، والآخر: حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدى، روى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم وغيرهم. كان حسن الفقه، وكتب ورحل، وكان رأسا في العلم، قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "ما قدم علينا من فتيان خراسان مثل ابن زنجويه وابن شبويه". اختلف في وفاته بين سنة 247، إلى سنة 251. وأطن هذا هو شيخ الطبري، ولعل فيما يأتي ما يرجح تعيينه إن شاء الله. (11) التأم الشيء يلتئم، والتام يلتام (بتسهيل الهمزة) : إذا انضم بعضه إلى بعض واجتمع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 في مِكتل، وقلّة فيها ماء. (1) . 5913 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) وذلك أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ وعنب وتين; فلما مرّ بالقرية فرآها، وقف عليها وقلَّب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ =ليس تكذيبًا منه وشكًّا= فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا، ومرّ عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير = (لم يتسنَّه) ، الآية. * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ثم بعثه) ، ثم أثاره حيًّا من بعد مماته. * * * وقد دللنا على معنى"البعث"، فيما مضى قبل. (2) . * * * وأما معنى قوله (كم لبثت) فإن"كم" استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، (3) . وهو في هذا الموضع نصب ب"لبثت"، وتأويله: قال الله له:   (1) الأثر: 5912 -قد مضى مبتورا في رقم 5661، وانظر التعليق عليه هناك. و"المكتل" (بكسر الميم) : الزبيل الذي يجعل فيه التمر أو العنب أو غيرهما. (2) انظر ما سلف 2: 84، 85. (3) انظر ما سلف في معنى"كم" في هذا الجزء 5: 352. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم. * * * وذكر أن المبعوث هو أرميا، أو عزيرٌ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر. * * * وإنما قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) لأن الله تعالى ذكره كان قبض رُوحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخرَ النهار بعد المائة عام فقيل له: (كم لبثت) ؟ قال: لبثت يومًا; وهو يرى أنّ الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يومًا لأنه ذُكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتًا آخر النهار، وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: (لبثت يومًا) ، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: (أو بعض يوم) ، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] ، بمعنى: بل يزيدون. (1) . فكان قوله: (أو بعض يوم) رجوعًا منه عن قوله: (لبثت يومًا) . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5914 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض يوم) ، قال: ذكر لنا أنه مات ضُحًى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: (لبثت يومًا) . ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: (أو بعض يوم) . فقال: (بل لبثت مائة عام) . 5915 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،   (1) انظر ما سلف في"أو" بمعنى"بل" 2: 235 -237. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 عن قتادة: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) قال: مر على قرية فتعجّب، فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) فأماته الله أوّل النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه في آخر النهار، فقال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) ، قال: (بل لبثت مائة عام) . 5916 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: قال الربيع: أماته الله مائة عام، ثم بعثه، قال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) . قال: (بل لبثت مائة عام) . 5917 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: لما وقفَ على بيت المقدس وقد خرّبه بخت نصر، قال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ! كيف يعيدها كما كانت؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضُحى، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، فقال: (كم لبثت) ؟ قال: (يومًا) . فلما رأى الشمس، قال: (أو بعض يوم) . * * * القول في تأويل قوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فانطر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه) لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه. * * * وكان طعامه -فيما ذكر بعضهم- سلة تين وعنب، وشرابه قلة ماء. وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين، وشرابه زِقًّا من عصير. (1) . وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دَنَّ خمر -أو زُكْرَةَ خمر. (2) .   (1) في المخطوطة والمطبوعة: " زق" بالرفع، والنصب أجود. (2) الزكرة (بضم فسكون) : سقاء صغير من أدم يجعل فيه شراب أو خل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك، (1) . ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله. * * * وأما قوله: (لم يتسنَّه) ففيه وجهان من القراءة: أحدهما:"لَمْ يَتَسَنَّ" بحذف"الهاء" في الوصل، وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في"يتسنَّه" زائدة صلة، (2) . كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90] وجعل"تفعّلت" منه: (3) ."تسنَّيتُ تسنِّيًا"، واعتل في ذلك بأن"السنة" تجمع سنوات، فيكون"تفعلت" على صحة. (4) . ومن قال في"السنة""سنينة" فجائز على ذلك = وإن كان قليلا = أن يكون"تسنَّيت" (5) ."تفعَّلت"، بدّلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا:"تظنَّيت" وأصله"الظن"; وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: 26، 28، 33] وهو المتغير. وذلك أيضًا إذا كان كذلك، فهو أيضًا مما بُدِّلت نونه ياء. (6) . وهو قراءة عامة قراء الكوفة. * * *   (1) يعنى الآثار التي سلفت في خبر"الذي مر على القرية". (2) "صلة" أي زيإدة وحشوا بمعنى الإلغاء، انظر ما سلف 1: 190، 405، تعليق: 4/ 406 تعليق: 2ثم: 548. (3) في المطبوعة: "فعلت" وهو خطأ، وأما المخطوطة، فقد كتب الناسخ هذه الكلمة مضطربة فلم يحسن ناشر المطبوعة أن يقرأها على وجهها، وسيأتي بعد قليل جدا ذكر"تفعلت"، هذه، مما يدل على صواب قراءتنا. (4) في المطبوعة: "على نهجه" والصواب في المخطوطة: "على صحه"، ولكنها لما كانت غير منقوطة تصرف الطابع فيها ما شاء! ! وفي معاني القرآن للفراء واللسان"على صحة" فلذلك أثبتها منهما. (5) في المطبوعة: "تسننت" بالنونات، والصواب ما أثبت من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء. (6) هذا برمته من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 172، 173 واللسان (سنة) مع قليل من الخلاف في بعض اللفظ00 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 والآخر منهما: إثبات"الهاء" في الوصل والوقف. ومن قرأه كذلك، فإنه يجعل"الهاء" في"يتسنَّه" لامَ الفعل، ويجعلها مجزومة ب"لم"، ويجعل"فعلت" منه:"تسنَّهت"، و"يفعل":"أتسنَّه تسنُّها"، (1) وقال في تصغير"السنة":"سُنيهة" و"سنيَّة"،"أسنيتُ عند القوم" و"أسنهتُ عندهم"، إذا أقمت سنة. (2) . وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ"الهاء" في الوصل والوقف، لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك. * * * ومعنى قوله: (لم يتسنَّه) ، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر، على لغة من قال:"أسنهت عندكم أسْنِه": إذا أقام سنة، وكما قال الشاعر: (3) . وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ ... وَلكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ (4)   (1) أراد هنا بقوله"فعل"و"يفعل" الماضي والمضارع، وهو غير قوله"تفعلت" السالفة التي صححناها كما جاء في ص: 460، التعليق رقم: 3. (2) في المطبوعة حذف وزيادة وتغيير، كان فيها: "وقال في تصغير السنة سنيهه، ومنه: أسهنت عند القوم وتسهنت عندهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب، وإن كانت الشبهة قد دخلت عليه من ذكر"سنية" و"أسنيت"، ولكن جائز أن يكون قائل هذا القول ممن يرى جواز كليهما، فلذلك أثبته كما كان في المخطوطة، ولا يبدل إلا بحجة، وسيأتي كلام الطبري بعد قليل: "أن ذلك وجه صحيح في كلتا الحالتين". (3) سويد بن الصامت الأنصاري، ويقال: أحيحة بن الجلاح. (4) معاني القرآن للفراء 1: 173. والأمالى 1: 21، وسمط اللآلى: 361، وتهذيب الألفاظ: 520، واللسان (عرا) (قرح) (سنه) (خور) (رجب) ، والإصابة في ترجمته، من أبيات يقولها في دين كان قد أدانه فطولب به، فاستغلت في قضائه بقومه فقصر واعنه. وترتيبها فيها أستظهر: وَأَصْبَحْتُ قد أنكَرْتُ قوْمِي كَأَنَّنِي ... جَنَيْتُ لَهُمْ بالدَّيْنِ إحْدَى الفَضَائِحِ أَدِينُ، وَمَا دَيْنِي عَلَيْهِم بِمَغْرَمٍ ... وِلكِنْ عَلَى الشُّمِّ الجِلاَدِ القَرَاوِحِ عَلَى كُلِّ خَوَّارٍ، كَأَنَّ جُذُوعَها ... طُلِينَ بِقَارٍ أوْ بِحَمْأَةِ مَائِحِ وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلاَ رُجَّبِيَّةٍ ... وَلَكنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الجَوَائِحِ أَدِينُ عَلَى أَثْمَارِهَا وَأُصُولِهَا ... لِمَوْلًى قَرِيبٍ أو لآخَرَ نَازِحِ دان يدين: استقرض مالا. والشم: الطوال. والجلاد: الشديدة الصبر على العطش والحر والبرد، يعنى النخل. والقراوح جمع قراوح: وهي النخلة التي انجرد كربها وطالت، وذلك أجود لها. والخوار: الغزيرة الحمل. وجعلها مطلية بالفار أو بالحمأة، لأن جذوعها إذا كانت كذلك فهو أشد لها وأكرم. والمائح: الذي يمتاح من البئر، أي يستقي. والسنهاء: التي حملت عاما، ولم تحمل آخر، وهذا من عيب النخل. وقوله: "رجبية" (بضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة، أو فتحها بغير تشديد) وكلتاهما نسبة شاذة إلى الرجبة (بضم فسكون) : وذلك أن تعمد النخلة الكريمة إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثر حملها، فيبني تحتها دكان ترجب به -أي تعمد به. وذلك حين تبلغ إلى الضعف، ولكنه يكرمها بذلك. والعرايا جمع عربة: وهي التي يوهب ثمرها في عامها. يفعل بها ذلك لكرمه. والجوائح: السنين المجدبة الشداد التي تجتاح المال. يقول لقومه: قد جئت أستدينكم، على أن أؤدي من نخلي ومالي، ففيم الجزع؟ أتخافون أن يكون ديني مغرما تغرمونه! ! وهذه نخلي أصف لكم من جودتها وكرمها ما أنتم به أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 فجعل"الهاء" في"السنة" أصلا وهي اللغة الفصحى. * * * وغير جائز حذف حرف من كتاب الله = في حال وقف أو وصل = لإثباته وجه معروف في كلامها. فإن أعتلّ معتلٌ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهنّ، وذلك كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90] وقوله: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) [الحاقة: 25] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غيرَ زائد، فغير جائز = وهو في مصحف المسلمين مثبتٌ = صرفُه إلى أنه من الزوائد والصلات. (1) .   (1) انظر معنى"الصلة" فيما سلف قريبا ص: 460 تعليق: 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 على أن ذلك، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد، (1) . فإن العرب قد تصل الكلام بزائد، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع، فيكون وَصْلها إياه وقطعُها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات"الهاء" في الوصل والوقف. غير أنّ ذلك، وإن كان كذلك، فلقوله: (لم يتسنّه) حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. (2) . * * * ومما يدل على صحة ما قلنا، من أن"الهاء" في"يتسنه" من لغة من قال:"قد أسنهت"، و"المسانهة"، ما:- 5918 - حدثت به عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا ابن مهدي، عن أبي الجراح، عن سليمان بن عمير، قال: حدثني هانئ مولى عثمان، قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله:"لم يتسنّ"، أو"لم يتسنَّه"، فقال عثمان: اجعلوا فيها"هاء". 5919 - حدثت عن القاسم = وحدثنا محمد بن محمد العطار، عن القاسم، وحدثنا أحمد والعطار = جميعًا، عن القاسم، قال: حدثنا ابن مهدي، عن ابن المبارك، قال: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها:"لَمْ يَتَسَنَّ" و"فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين" [الطارق: 17] و"لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ" [الروم: 30] .   (1) في المطبوعة: "وإن كان زائدا"، والصواب ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه" بالتذكير، وهو صواب جدا، ولكن لا أدرى لم غير نص المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 قال: فدعا بالدواة، فمحا إحدى اللامين وكتب (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ومحا"فأمْهِلْ" وكتب (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) وكتب: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ألحق فيها الهاء. (1) . * * * قال أبو جعفر: ولو كان ذلك من"يتسنى" أو"يتسنن" لما ألحق فيه أبيّ"هاء" لا موضع لها فيه، (2) ولا أمرَ عثمان بإلحاقها فيها. وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ بن كعب. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لم يتسنَّه) . فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير. * ذكر من قال ذلك: 5920 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن المفضل، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: (لم يتسنَّه) لم يتغير. 5921 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لم يتسنَّه) لم يتغير. 5922 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 5923 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط،   (1) الأثر: 5918 -"هانئ" هو هانئ البربري، مولي عثمان بن عفان مترجم في الكبير 4/ 2/ 229، وابن أبي حاتم 4/ 2/ 100، وسليمان بن"، روي عن هانئ مولي عثمان روى عنه عبد الله بن المبارك. مترجم في الكبير 2/ 2/ 30، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 133. أما"أبو الجراح" فلم أعرفه، وانظر الأثر التالي، فإني أخشى أن يكون إسنادهما قد اختلط، فإن ابن المبارك هو الذي يروي عن"سليمان بن عمير". وانظر الدر المنثور 1: 323. (2) في المخطوطة: "لما ألحق فيه أبي هو لا موضع فيه" هذا فاسد، والذي في المطبوعة مستقيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 عن السدي: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) يقول:"فانظر إلى طعامك" من التين والعنب ="وشرابك" من العصير ="لم يتسنه"، يقول: لم يتغير فيحمُض التين والعنب، ولم يختمر العصير، هما حُلوان كما هما. وذلك أنه مرّ جائيًا من الشام على حمار له، معه عصير وعنب وتين، فأماته الله، وأمات حماره، ومر عليهما مائة سنة. (1) . 5924 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) يقول: لم يتغير، وقد أتى عليه مائة عام. 5925 - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه. 5926 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لم يتسنه) لم يتغير. 5927 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة: (لم يتسنه) لم يتغير. 5928 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (لم يتسنه) لم يتغير في مائة سنة. 5929 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خرّبها بخت نصر، فخرج منها إلى مصر فكان بها. فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة، فنظر إليها فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فإذا حمارُه حي قائم على رباطه، وإذا طعامه سَلُّ عنب   (1) الأثر: 5923 -هو تمام الأثر السالف رقم: 5913. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 وسَلُّ تين، لم يتغير عن حاله = (1) . قال يونس: قال لنا سلم الخواص: (2) . كان طعامه وشرابه سل عنب، وسل تين، وزِقَّ عصير. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن. * ذكر من قال ذلك: 5930 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (لم يتسنه) لم ينتن. 5931 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 5932 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قال مجاهد قوله: (إلى طعامك) قال: سَلُّ تين = (وشرابك) ، دنُّ خمر = (لم يتسنه) ، يقول: لم ينتن. * * * قال أبو جعفر: وأحسب أن مجاهدًا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما، (3) . رأوا أن قوله: (لم يتسنه) من قول الله تعالى ذكره: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: 26، 28، 33] بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل:"تسنَّن". وقد بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك. (4) . فإن ظن ظانّ أنه من"الأسَن" من قول القائل:"أسِنَ هذا الماء يأسَنُ أسَنًا،   (1) الرباط: ما ربط به، وأراد هنا الموضع الذي ربط فيه، وهو المربط. و"السل والسلة"، سواء: وهو الجؤنة التي يحمل فيها الخبز وغيره. ويقال"سل" جمع"سلة"، وهو من الجموع العزيزة، لأنه مصنوع غير مخلوق، لا يكون الفارق بينه وبين واحده التاء، مثل عنب وعنبه، وبر وبرة. (2) في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وهو سلم بن ميمون الخواص، مضت ترجمته في رقم: 5890. (3) لم يذكر الطبري خبرا عن"الربيع" قبل، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ خبره، وقد مضى قول الربيع في تفسير بعض هذه الآية فيما سلف بإسناده رقم: 5916. (4) انظر ما سلف، ص: 460. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 كما قال الله تعالى ذكره: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد: 15] ، فإنّ ذلك لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسَّن، ولم يكن"يتسنه". * * * [فإن قيل] : (1) . فإنه منه، غير أنه ترك همزه. قيل: فإنه وإن ترك همزه، فغير جائز تشديدُ نونه، لأن"النون" غير مشددة، وهي في"يتسنَّه" مشددة، ولو نطق من"يتأسن" بترك الهمزة لقيل:"يَتَسَّنْ" بتخفيف نونه بغير"هاء" تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من "الأسَن". * * * القول في تأويل قوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وانظر إلى حمارك) . فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارَك، وإلى عظامه كيف أنشِزها ثم أكسوها لحمًا. ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويلَ. فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه خلقًا سويًّا، ثم أراد أن يحيي حماره = تعريفًا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = مستنكرًا إحياء الله إياها. * ذكر من قال ذلك: 5933 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم،   (1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 عن وهب بن منبه، قال: بعثه الله فقال: (كم لبثت قال لبثتُ يومًا أو بعض يوم) إلى قوله: (ثم نكسوها لحمًا) قال: فنظر إلى حماره ياتصل بعضٌ إلى بعض = (1) . وقد كان مات معه = بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) . (2) . 5934 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن الله أحيا عُزيرًا، فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، وانظر إلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا. فبعث الله ريحًا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت، فركّب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارًا من عظام ليس له لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا العظام لحمًا ودمًا، فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه روح. ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه فنهق الحمار، فقال: (أعلم أنه الله على كل شيء قديرٌ) . * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوله قائلُ هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا، ولنجعلك آية للناس = فيكون في قوله: (وانظر إلى حمارك) ، متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: (وانظر إلى العظام) بدلا من"الهاء" المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه - يعني: إلى عظام الحمار. * * *   (1) في المطبوعة: "يتصل بعض إلى بعض"، وقد مضى في رقم 5910، أن المخطوطة هناك"ياتصل"، وعلقت عليها في ص: 454، تعليق: 2 وقد جاءت هنا في المخطوطة"ياتصل" أيضًا، فهذا حجة قاطعة على صواب نص المخطوطة في هذين الموضعين المتابعدين. فراجع ما كتب هناك. (2) الأثر: 5933 -هو آخر الأثر السالف رقم: 5910. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. (1) . قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سواه خلقًا سويًّا، وقبل أن يحيى حماره. * ذكر من قال ذلك: 5935 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان هذا رجلا من بني إسرائيل نُفخ الروح في عينيه، فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله، (2) . وإلى حماره حين يحييه الله. 5936 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 5937 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح، ثم بعظامه فأنشزها، ثم وَصَل بعضها إلى بعض، ثم كساها العصب، ثم العروق، ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره، فإذا حماره قد بَلي وابيضَّت عظامه في المكان الذي ربطه فيه، فنودي:"يا عظام اجتمعي، فإن الله منزلٌ عليك روحًا"، فسعى كل عظم إلى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق. ثم اللحم، ثم الجلد، ثم الشعر، وكان حماره جَذَعًا، فأحياه الله كبيرًا قد تشنَّن، (3) . فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن. وكان طعامه سَلَّ عنب، وشرابه دَنَّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله. * * *   (1) في المطبوعة: "في عينه" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فنظر"، وفي المخطوطة: "فنظر" غير منقوطة والصواب كما قرأتها لك. (3) الجذع (بفتحتين) : الصغير السن من الحيران وغيره. وتشنن الجلد والسقاء: إذا يبس وتشنج من القدم أو من الهرم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره، وجسدُه ميتٌ، (1) . فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها. * ذكر من قال ذلك: 5938 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ردَّ الله روح الحياة في عين أرْميا وآخرُ جسده ميت، (2) . فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه، لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير، جديدةً. (3) . 5940 - حدثت عن الحسين، قال: (4) . سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) ، فنظر إلى حماره قائمًا قد مكث مائة عام، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام، (وانظر إلى العظام كيف نُنشرها ثم نكسوها لحمًا) فكان أول شيء أحيا الله منه رأسَه، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يُخلق. 5941 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) فنظر إلى حماره قائمًا، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير، فكان أول شيء خلق منه رأسه، فجعل ينظر   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وجسده ميتا"، وهو خطأ، ويدل على صواب ما أثبت، الآثار التالية. (2) يعنى بقوله: "وآخر جسده ميت"، أي سائره وباقيه، وقد جاءت هذه الكلمة هنا على الصواب في المطبوعة والمخطوطة، وقد مضت في المطبوعة في الأثر رقم: 5911، محرفة، فهذا دليل آخر على صواب قراءتنا للنص. (3) الأثر: 5938 -انظر الأثر السالف رقم: 5911، والتعليق عليه. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "الحسن"، وهو خطأ، بل هو"الحسين بن الفرج"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 5924. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما تبيَّن له، قال: (أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير) . 5942 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسَه، ثم ركبت فيه عيناه، ثم قيل له: انظر! فجعل ينظر، فجعلت عظامه تَواصَلُ بعضها إلى بعض، وبِعَيْن نبيّ الله عليه السلام كان ذلك، فقال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) . 5943 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك) وكان حماره عنده كما هو = (ولنجعلك آيه للناس) ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها) . قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه، ثم قيل انظر! فجعل ينظر إلى العظام يَتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقال: (1) . (أعلم أن الله على كل شيء قدير) . 4644 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد قال قوله: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك) واقفًا عليك منذ مائة سنة = (ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام) يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا:"كيف نحيي هذه"؟ (2) . قال: فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه، ثم قال: ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح، وانظر ببصرك. قال: فكان ينظر إلى الجمجمة. قال: فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه. قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه، حتى اتصلت وهو يراها، حتى أن الكِسْرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه، فتلصَقُ به حتى وصل إلى جمجمته،   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقيل: أعلم ... "، وهو سبق قلم من الناسخ. (2) في المطبوعة: "كيف نحيى هذه الأرض بعد موتها"، وليس ذلك في المخطوطة، بل الذي أثبت، وهما سواء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق، وأجرى عليها اللحم والجلد، ثم نفخ فيها الروح، ثم قال: (انظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمًا) فلما تبين له ذلك، (قال أعلم أن الله على شيء قدير) . قال: ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال: (أنَّى يُحيي هذه الله بعد موتها) كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها الله كما أحياهُ. 5945 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة عام، ثم بعثه، (1) فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رباطه. قال: وردَّ الله إليه بصره، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال: فيقولون والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: (أوْ كالذي مرّ على قرية وهي خاوية ... ) ، الآية. (2) . * * * ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم نكسوها لحمًا، فنحييها بحياتك، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها. * * *   (1) في المطبوعة: "أرميا"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد سلف مثل ذلك مرارا، حتى في الأثر الواحد، انظر ما سلف -ص: 448 تعليق: 1. (2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما نصه: " يتلوهُ: ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس. * * * وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله وصحبه وسلم كثيرًا" ثم يبدأ بعده بما نصه: " بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر يا كريم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قولُ من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها) من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العِبرة في طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل. وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأنّ قوله: (وانظر إلى العظام) إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزُها، ثم نكسوها لحمًا. وقد كان حماره أدركه من البلى = في قول أهل التأويل جميعًا = نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: (وانظر إلى العظام) إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذْ كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً. * * * القول في تأويل قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (ولنجعلك آيه للناس) أمتناك مائة عام ثم بعثناك. وإنما أدخلت"الواو" مع اللام التي في قوله: (ولنجعلك آيه للناس) وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 بمعنى"كي"، لأن في دخولها في كي وأخواتها دِلالة على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدها، بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك. (1) . ولو لم تكن قبل"اللام" أعني"لام" كي"واو"، كانت"اللام" شرطًا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس. * * * وإنما عنى بقوله: (ولنجعلك آية) ، ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكَّ في عظمتي، (2) . وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كلُّه، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري. * * * وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس، بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده، شابًّا وهم شيوخ. * ذكر من قال ذلك: 5946 - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: (ولنجعلك آيه للناس) قال: جاء شابًّا وولده شيوخ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدِم عليه من قومه. * ذكر من قال ذلك: 5947 - حدثني موسى، قال، حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: رجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبُنيت، وهلك من كان يعرفه،   (1) انظر معاني القرآن 1: 173. (2) انظر معنى"آية" فيما سلف في هذا الجزء 5: 377، والتعليق: 2، ومراجعه هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير! قالوا: أليس قد هلك عزيرٌ منذ كذا وكذا!! قال: فإن عزيرًا أنا هو، كان من حالي وكان! فلما عرفوا ذلك، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: أن الله تعالى ذكره، أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في هذه الآية حُجة للناس، فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده وقوْمه ممن علم موته، وإحياءَ الله إياه بعد مماته، وعلى من بُعث إليه منهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} قال أبو جعفر: دللنا فيما مضى قبلُ على أنّ العظام التي أمِر بالنظر إليها، هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته. * * * وأما قوله: (كيف ننشزُها) فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأ بعضهم: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركّب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم. * * * وأصل"النشوز": الارتفاع، (1) . ومنه قيل:"قد نشز الغلام"، إذا ارتفع   (1) جاء في المطبوعة والمخطوطة "وأصل النشز": الارتفاع"، وأنا أرى صوابه: "النشوز"، لأنه هو المصدر، ولا مصدر لهذا الفعل غيره في رواية أهل اللغة، ومحال أن يدع الطبري المعروف إلى المجهول. والمخطوطة في هذا الوضع سيئة جدا، كثيرة التصحيف والإهمال، وبحضه لم أشر إليه لشدة وضوحه، وفساد خط كاتبه وإهماله، كما ترى في التعليق التالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 طوله وشبَّ، ومنه"نشوز المرأة" على زوجها. (1) . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض:"نَشَز ونَشْز ونشاز"، (2) . فإذا أردت أنك رفعته، قلت:"أنشزته إنشازًا"، و"نشز هو"، إذا ارتفع. * * * فمعنى قوله: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها إلى أماكنها من الجسد. (3) . * * * وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5948 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (كيف ننشزها) كيف نُخرجها. 5949 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف ننشزها) قال: نحرِّكها. * * * وقرأ ذلك آخرون:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا" بضم النون. قالوا: من قول القائل،"أنشرَ الله الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا"، وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحمًا. * ذكر من قال ذلك: 5950 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كيف نُنشِرها" قال: انظر إليها حين يحييها الله. (4) .   (1) في المخطوطة: "وفيه نشور المرأة على وجهها"، وهذا دليل على شدة إهماله. (2) في المخطوطة: "نشر ونشره ونشاره"، وهو خطأ كله، والصواب ما أثبت. (3) في المخطوطة: "فبرزها إلى أماكنها"، وهو فاسد. وفي المطبوعة: " الجسم"، ورددته إلى المخطوطة. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "نظر إليها"، والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 5951 - حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 5952 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مثله. 5953 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وانظر إلى العظام كيف نُنشرُها" قال: كيف نحييها. * * * واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس: 22] ، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله:"وانظر إلى العظام كيف ننشرها" به. (1) . * * * وقرأ ذلك بعضهم:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا"، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك إلى مثل معنى: نَشْرِ الشيء وطيِّه. (2) . وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول:"أنشر الله الموتى"، فنشروا هم" بمعنى: أحياهم فحيُوا هم. ويدل على ذلك قوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) [الأنبياء: 21] ؛ (3) .. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي، الميت وعاش بعد مماته، قيل:"نَشَر"، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: (4) . حَتَّى يَقُولَ النَّاسَ مِمَّا رَأَوْا: ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ (5)   (1) هو ابن عباس، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1: 173. (2) هو الحسن، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1: 173. (3) سقت الآية بتمامها، وفي المطبوعة والمخطوطة: "آلهة من الأرض هم ينشرون". (4) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط: "ومنه"، وهو غير مستقيم. (5) ديوانه: 105، وسيأتي في التفسير 19: 14 / 25: 32 / 30: 36 (بولاق) وهو في أكثر الكتب، وقد مضى بيتان منها في 1: 474، تعليق: 2 /3: 131. وقبله يذكر صاحبته، فأجاد وأبدع: عَهْدِي بِهَا فِي الحَيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ ... هَيْفَاءَ مِثْلَ المُهْرَةِ الضَّامِرِ قَدْ نَهَدَ الثَّدْيُ عَلَى نَحْرِهَا ... فِي مُشْرِقٍ ذِي صَبَحٍ نَاثِرِ لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلى قَابِرِ حتَّى يَقُولَ الناسُ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الصبح (بفتحتين) بريق اللون والحلى والسلاح، تراه مشربًا كالجمر يتلألأ. ونائر: نير. يقال: "نار الشيء فهو نير ونائر" و"أنار فهو منير". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 وروي سماعًا من العرب:"كان به جَرَبٌ فنَشَر"، إذا عاد وَحَيِيَ. (1) . * * * قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنّ معنى"الإنشاز" ومعنى"الإنشار" متقاربان، لأن معنى"الإنشاز": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى"الإنشار" إعادة الحياة إلى العظام. (2) . وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، (3) . ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى. (4) . * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 30. (2) في المخطوطة والمطبوعة: " ... ورد العظام من العظام، وإعادتها لا شك ... " وهذا كلام لا يستقيم قط، والنسخة في هذا الموضع محرفة أشد التحريف، والناسخ كثير الإهمال والإسقاط كما سلف في التعليقات الماضية، فلذلك اجتهدت في تصحيح هذا، وما يليه حتى يستقيم معناه ولفظه. (3) في المخطوطة: " لا نعماد ومعنها"، والصواب ما في المطبوعة. وقوله: "لانقياد معنييهما"، أي لاستقامة معنييهما واستوائهما وتساوقهما على نهج واحد لا يختلف، كأن يقود أحدهما الآخر. وانظر ما مضى 4: 105 تعليق: 1، في قوله: "قاد قوله" وتفسير قولهم: "هذا لا يستقيم على قود كلامك". (4) في المطبوعة: "لإحداهما من القضاء" بزيادة"من"، وفي المخطوطة"لأحدهما من القضاء" بزيادة وخطأ، والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 فإن ظنّ ظانٌ أن"الإنشارَ" إذا كان إحياءً، (1) . فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = [فقد أخطأ] . (2) . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عنى به ردُّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يُحيى، (3) . لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. (4) . والذي يدل على ذلك قوله: (ثم نكسوها لحمًا) . ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم. (5) وإذ كان ذلك كذلك، (6) . وكان معنى"الإنشاز" تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى"الإنشار" =. (7) . وكان معلومًا استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه. * * * وأما القراءة الثالثة، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي، وهي قراءة من قرأ:"كَيْفَ نَنْشُرُهَا" بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب. * * *   (1) في المخطوطة: "إذا كان حيا" خطأ صرف، وفي المطبوعة: "إذا كان إحياء"، وهو الصواب، إلا أن حق الكلام في هذا الموضع"إذ" لا"إذا". (2) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه السياق. ولا معنى لالتماس تصحيح هذه الجملة، بتعليق قوله: فإن إحياء العظام ... " جوابا لقوله: "فإن ظن ظان ... ". (3) يحيى"بالبناء للمجهول، من"الإحياء". (4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا إعادة الروح ... "، وهو خطأ بين، بدل عليه سياق ما بعده. فإنه يعنى أن"إحياء العظام" مركب من أمرين: رد العظام إلى أماكنها، وإعادة الروح إليها. وسترى ذلك في حجته بعد. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "العظام التي أنشرت" بالراء، وهو خطأ، والصواب بالزاى، أى ركبت وردت إلى مواضعها. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا كان ذلك كذلك"، والصواب"إذ". (7) قوله: "وكان ذلك معنى الإنشار"، وكان معنى الإنشار أيضًا، هو رد العظام إلى أما كنها من الجسد لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات، كما سلف منذ قليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (1) . (ثم نكسوها) أي العظام (لحمًا) ، و"الهاء" التي في قوله: (ثم نكسوها لحمًا) من ذكر العظام. * * * ومعنى"نكسوها": نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطَّى شيئًا وواراه، لباسًا له وكُسوة، (2) . ومنه قول النابغة الجعدي: (3) . فَالْحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبَالا (4) فجعل الإسلام -إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه- كُسوةً له وسِربالا. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بذلك" مكان"بقوله"، وهو لا يستقيم. (2) انظر ما سلف في معنى"لباس" و"كسوة" 3: 489 -492 / ثم هذا الجزء: 44. (3) وينسب هذا البيت إلى"لبيد بن ربيعة العامري" وإلى"قردة بن نفاثة السلولي"، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: 228: "وقد قال أكثر أهل الأخبار أن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله: ... " وذكر البيت، ثم قال: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولى، وهو أصح عندي". ثم عاد في ص 536، فذكر قردة بن نفائة السلولى فقال: "كان شاعرًا، قدم على رسوله الله صلى الله عليه وسلم في من بني سلول، فأمّره عليهم بعد أن أسلم وأسلموا، فأنشأ يقول: بَانَ الشَّبَابُ فَلَمْ أَحْفِلْ بِهِ بَالاَ ... وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ والإِسْلاَمُ إِقْبَالاَ وَقَدْ أُرَوِّي نَدِيمِي مِنْ مُشَعْشَعَةٍ ... وَقَدْ أُقَلِّبُ أَوْرَاكًا وَأَ كْفَالاَ الْحَمْدُ لله. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد قيل إن البيت للبيد. قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام غيره". وذكر ذلك أبو الفرج في أغانيه 14: 94، وغيره. وانظر معجم الشعراء: 338، 339، والشعر والشعراء: 232 والمعمرين 66، وديوان لبيد، الزيادات: 56. وغيرها كثير. (4) انظر التعليق السالف، وهذا البيت ثابت في قصيدة النابغة (في ديوانه: 86) ، في هجائه ابن الحيا، والحيا أمه، واسمه سوار بن أوفي القشيري -وكان هجا الجعدي وسب أخواله من الأزد، وهم بأصبهان متجاورون، فقال في ذلك قصيدته التي أولها: إِمَّا تَرَي ظُلَلَ الأَيَّامِ قَدْ حَسَرَتْ ... عنِّي، وشَمَّرْتُ ذَيْلاً كَانَ ذَيَّالاَ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فلما تبيَّنَ له) ، فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك = (1) . (قال: أعلم) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان = (2) . (أن الله على كل شيء قدير) . * * * ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: (قال أعلم أن الله) . فقرأه بعضهم:"قَالَ اعْلَمْ" على معنى الأمر بوصل"الألف" من"اعلم"، وجزم"الميم" منها. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ" على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته، (3) . فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس. 5954- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثني حجاج، عن هارون، قال: هي في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ" على وجه الأمر. (4) .   (1) انظر معنى"بين" فيما سلف في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة. (2) في المطبوعة: "بعد المعاينة والاتضاح به والبيان" وهو فاسد مريض، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "للذي أحيى" وما في المخطوطة عين الصواب. (4) الأثر: 5954 -"أحمد بن يوسف التغلبي"، الأحوال، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، مشهور بذلك. روى عن سليمان بن حرب، ومسلم بن إبراهيم، ورويم بن زيد، وأبي عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم. روى عنه أبو عبد الله نفطويه النحوي، ومحمد بن مخلد، وأبو عمرو بن السماك، ومكرم بن أحمد، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: "ثفة"، مات سنة 272، وصحبته لأبي عبيد القاسم ابن سلام ترجم عندي أنه المعنى في الأثر السالف رقم: 5919، وانظر التعليق عليه. وفي المطبوعة والمخطوطة: "الثعلبي". وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 5955 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه = أحسبه، شكَّ أبو جعفر الطبري =، سمعت ابن عباس يقرأ:"فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ" قال: إنما قيل ذلك له. 5956 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له"انظر"! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقيل:"اعلم أن الله على كل شيء قدير". * * * قال أبو جعفر: فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبيَّن من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صَرف متأوِّلٌ قوله:"قال اعلم" -وقد قرأه على وجه الأمر- إلى أنه من قِبَل المخبَرِ عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجهًا صحيحًا، وكان ذلك كما يقول القائل:"اعلم أن قد كان كذا وكذا"، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه. * * * وقرأ ذلك آخرون: (قَالَ أَعْلَمُ) ، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به، بهمز ألف"أعلم" وقطعها، ورفع الميم، بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال المتبيِّن ذلك: (1) . أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير. وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، (2) . وبعض قرأة أهل العراق. وبذلك من   (1) في المخطوطة: "قال أليس ذلك أعلم الآن ... "، وهو كلام يرتكس في الفساد ارتكاسًا. وفي المخطوطة: "المسن" غير منقوطة، وهي الصواب عين الصواب. (2) سقط من الناسخ"قرأة" في هذا الموضع والذي يليه، وكتبها في الهامش مرة واحدة، لم يكررها، ولذلك أثبتها الطابع في موضع واحد، هو الأخير منهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 التأويل تأوَّله جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 5957 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما عاين من قدرة الله ما عاينَ، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) . 5958 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) . 5959 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: بعين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم = (1) .، يعني إنشازَ العظام = فقال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) . 5960 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: قال عزير عند ذلك -يعني عند معاينة إحياء الله حماره- (أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) . 5961 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصلُ بعضه إلى بعض، (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) . 5962 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، نحوه. * * * وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"اعْلَمْ" بوصل   (1) في المطبوعة: "يعنى نبي الله عليه السلام"، وفي المخطوطة مضطربة وغير منقوطة، فمن أجل ذلك لم يحسن قراءتها. أي: أن إنشاز العظام كان بعين النبي، يراه عيانا، وقد مضى مثل ذلك آنفًا في رقم: 5942. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 "الألف" وجزم"الميم" على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن الله = الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه، من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه، حتى عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظِه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير = (1) . على كل شيء قادرٌ كذلك. (2) وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره; لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره: قولا للذي أحياه الله بعد مماته، وخطابًا له به، وذلك قوله: (فانظر إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ... وانظر إلى العظام كيف ننشزها) ، فلما تبين له ذلك جوابًا عن مسألته ربَّه: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ! قال الله له:"اعلم أن الله" = الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت = على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله، (3) . كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم = بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) = (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (4) . فأمر إبراهيم بأن يعلم، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم. فكذلك أمر الذي سأل فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها = أن يعلم أنّ الله على كل شيء قدير. (5) . * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وحفظ عليه طعامه ... "، وهو اختلال في الكلام، والصواب ما أثبت. وقوله: "وحفظه" مجرور معوطف على قوله: "من إحيائه إياه وحماره ... ". (2) قوله: "على كل شيء قادر كذلك" متعلق بقوله: بأن يعلم أن الله ... على كل شيء قادر"، وما بينهما صفة لله تعالى، فصلت بين اسم"إن" وخبرها. (3) سياق هذه الجملة كالسالفة في التعليق السالف: "أعلم أن الله ... على غير ذلك من الأشياء قدير". (4) هي الآية التالية من"سورة البقرة". (5) في المخطوطة والمطبوعة: "وكذلك أمر الذي سأل ... " بالواو، والصواب بالفاء. هذا وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 173 - 174. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: ربِّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: (وإذ قال إبراهيم) على قوله: (أو كالذي مرّ على قرية) ، وقوله: (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه) لأن قوله: (ألم تر) ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، (1) . فهو وإن كان لفظه لفظ"الرؤية" فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه. * * * واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربَّه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به. * ذكر من قال ذلك: 5963 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) ذكر لنا أنّ خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتى على دابة توزعتها الدوابّ والسباع، فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) . 5964 - حدثنا عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد،   (1) انظر معنى"الرؤية" فيما سلف من هذا الجزء 5: 429، والتعليق عليه رقم: 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى) قال: مر إبراهيم على دابة ميت قد بَلي وتقسَّمته الرياح والسباعُ، فقام ينظر، فقال: (1) . سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادرٌ على ذلك: فذلك قوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى) . 5965- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها، (2) . وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب، (3) . ثم قال: ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن، قال: بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة. 5966 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مر إبراهيم بحوت نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: (4) . يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي! * * * وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك، المناظرةُ والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المخطوطة: "فقدم ينظر"، والصواب ما في المطبوعة. (2) تمزع القوم الشيء: تقاسموا وفرقوه بينهم،. من التمزيع: وهو التقطيع والتفريق. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "فوقف" بالفاء، والأجود حذفها. (4) الخبيث، يعنى إبليس لعنه الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 5967 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في"سورة الأنبياء"، قال نمروذ، فيما يذكرون، لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكُر من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت! قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ = ثم ذكر ما قصّ الله من محاجته إياه = قال: فقال إبراهيم عند ذلك: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي = من غير شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنه أحبَّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال:"ليطمئن قلبي"، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه. * * * قال أبو جعفر: وهذان القولان -أعني الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا. * * * وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيِّدًا. * ذكر من قال ذلك: 5968 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره = وكان إبراهيم أغيرَ الناس، إن خرج أغلق الباب = فلما جاء ووجد في داره رجلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 ثار إليه ليأخذه، (1) . قال: من أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت! وعرف أنه ملك الموت. قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشِّرك بأن الله قد اتخذك خليلا! فحمد الله وقال: يا ملك الموت، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاسَ الكفار. قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأعرِضْ! فأعرضَ إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهبُ النار. فغشي على إبراهيم، ثم أفاقَ وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت، لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتَك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين؟ قال: فأعرض! فأعرض إبراهيم، ثم التفت، فإذا هو برجل شابّ أحسنِ الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، (2) . في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمن عند ربّه من قرَّة العين والكرامة إلا صورتك هذه، لكان يكفيه. فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك! قال: أولم تؤمن بأني خليلك؟ = يقول: تصدق = قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي بِخُلولتك. (3) .   (1) في المطبوعة: "فلما جاء وجد في داره رجلا، فثار إليه ليأخذه قال"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) من العربي المعرق، عود الضمير على الجمع مذكرًا مفردًا، كما جاء في الخبر، وكما جاء في خبر عمار بن ياسر (ابن سعد 3 /1 /183) : " كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا" وكما في الحديث: "خبر النساء صوالح قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"، وكقول ذي الرمة. وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيدًا ... وَسَالِفَةً، وَأَحْسَنُهُ قَذَالاَ. (3) الخلة (بضم وفتح اللام المشددة) والخلالة (بفتح الخاء وكسرها) والخلولة والخلالة (بضم الخاء) : الصداقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 5969 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: بالخُلَّة. (1) . * * * وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى. * ذكر من قال ذلك: 5970 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرْجَى عندي منها. (2) . 5971 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل، عن سعيد بن المسيب، قال: اتَّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا. قال: ونحن يومئذ شَبَبَة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (3) . [الزمر: 53] حتى ختم الآية. فقال ابن عباس: أمَّا إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه   (1) الأثر: 5969 -"عمرو بن ثابت بن هرمز البكري" ويقال له: عمرو بن أبي المقدام روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، والأعمش وغيرهم، روى عنه أبو داود الطيالسي، وسهل بن حماد، ويحيى بن آدم وغيرهم. قال ابن المبارك: "لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف"، وضعفه أبو زرعة وابن معين والبخاري. وقال أبو داود في السنن: " رافضي خبيث وكان رجل سوء". مات سنة 172، مترجم في التهذيب. وأبو: ثابت بن هرمز أبو المقدام. روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرها. وروى عنه ابنه والثوري وشعبة وغيرهم. كان شيخًا عاليًا صاحب سنة. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 5970 -أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 335 ونسبه لعبد الرزاق وابن جرير. وقوله: "أرجي" أفعل تفضيل من"الرجاء"، وهو الأمل نقيض اليأس. (3) زدت في أول الآية: "قل" على سنن القراءة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) . (1) . 5972 - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كلف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) قال: دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوبَ الناس، فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى) ، قال: (فخذ أربعةً من الطير) ، ليريه. 5973 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قالا حدثنا سعيد بن تليد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نحنُ أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي". (2) .   (1) الأثر: 5971 -خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 335، ونسبه لعبد بن حميد، وابن المنذر وابن جرير، والحاكم قال: "وصححه". وهو في المستدرك بغير هذا اللفظ 1: 60 من طريق"بشر بن حجر السامي، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر قال: التقى ابن عباس وابن عمرو، فقال له ابن عباس ... " ثم قال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع". وكأن علة انقطاعه أن عبد العزيز بن أبي سلمة لم يدرك محمد بن المنكدر، فإنه مات سنة 130. هذا: ومعنى قوله: "أما إن كنت تقول إنها"، فإن في الجملة حذوفًا جارية على لغة العرب في الاجتزاء، ومعناه: "أما إن كنت تقول ذلك، إنها لمن أرجى الآيات، وأرجى منها قول إبراهيم. وحذف خبر"إن" كثير في العربية، من ذلك ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، إن الأنصار قد فضلونا، إنهما آوونا، وفعلوا بنا وفعلوا، فقال: ألستم تعرفون ذلك لهم؟ قالوا: بلى! قال: فإن ذلك". فقوله"فإن ذلك"، معناه: فإن ذلك مكافأة منكم لهم، أي معرفتكم بصنيعهم وإحسانهم، مكافأة لهم. قال أبو عبيد: "وهذا اختصار من كلام العرب، يكتفي منه بالضمير، لأنه قد علم ما أراد به قائله"، انظر أمالي ابن الشجري 1: 322، وغيره. (2) الأثر: 5973 -"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب. و"سعيد بن تليد"، هو: "سعيد بن عيسى بن تليد الرعيني" نسب إلى جده. روى عنه البخاري وروى له النسائي بواسطة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري. كان ثقة ثبتا في الحديث. وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي المصري". روى عن مالك الحديث والمسائل، وعن بكر بن مضر، ونافع بن أبي نعيم القاري. قال ابن يونس: "ذكر أحمد بن شعيب النسوي ونحن عنده، عبد الرحمن بن القاسم، فأحسن الثناء عليه وأطنب" وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان خيرًا فاضلًا ممن تفقه على مالك، وفرع على أصوله، وذب عنها، ونصر من انتحلها". مترجم في التهذيب. و"عمرو ابن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري". روى عن أبيه وسالم بن أبي النضر، والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن القاسم، ويونس بن يزيد الأيلى وهو من أقرانه. روى عنه مجاهد ابن جبر وصالح بن كيسان، وهما أكبر منه، وقتادة وبكير بن الأشج، وهما من شيوخه، ورشدين ابن سعد، وبكر بن مضر وغيرهم. وهو ثقة. قال أبو حاتم: "كان أحفظ أهل زمانه، ولم يكن له نظير في الحفظ" وقال سعيد بن عفير: "كان أخطب الناس وأرواهم". مترجم في التهذيب. وانظر بقية تخريجه في الأثر التالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 5974 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نحوه. (1) . * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال، وهو قوله:"نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ " = وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرضَ في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا: (2) . من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانًا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي   (1) الأثر: 5974 -هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، قال: "حدثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن وهب" كمثل إسناد الطبري. وبمثل لفظه في الإسناد السابق. انظر الفتح 8: 150، 151، واستوفى الكلام فيه الحافظ في الفتح أيضًا في شرح" كتاب أحاديث الأنبياء"، من البخاري (الفتح 6: 293، 294) ، وأشار إلى إسناد ابن جرير السالف. وانظر كلام الحافظ في إسناده. (2) يعنى الأثر رقم: 5966، والذي قاله الطبري من تمام الأثر فيما أرجح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: (أولم تؤمن) ؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت. 5975 - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد. (1) . * * * ومعنى قوله: (ليطمئن قلبي) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه. * * * وهذا التأويل الذي. قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى قوله: (ليطمئن قلبي) إلى أنه: ليزداد إيمانًا = أو إلى أنه: ليوقن. (2) . * ذكر من قال ذلك: ليوقن = أو ليزداد يقينًا أو إيمانًا. (3) . 5976 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليوقن. (4) . 5977 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقيني. 5978 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (ولكن ليطمئن قلبي) يقول: ليزداد يقينًا. 5979 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه. 5980 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر وقال قتادة: ليزداد يقينًا.   (1) الأثر: 5975 - هو من تمام الأثر الذي أشرت إليه رقم: 5966. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3: 300. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3: 300. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3: 300. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 5981 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا. 5982 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن كثير البصري، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقيني. 5983 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقينًا. 5984 - حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا خلف بن خليفة، قال: حدثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وإبراهيم في قوله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني. 5985 - حدثنا صالح، قال: حدثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد الله العامري، قال: حدثنا ليث، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير في قول الله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني. * * * وقد ذكرنا فيما مضى قولَ من قال: معنى قوله: (ليطمئن قلبي) بأني خليلك. (1) . * * * وقال آخرون: معنى قوله: (ليطمئن قلبي) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثران رقم: 5968، 5969. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 5986 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليطمئن قلبي) قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. * * * وأما تأويل قوله: (قال أولم تؤمن) ، فإنه: أولم تصدق؟ (1) . كما:- 5987 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي. 5988 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: (أولم تؤمن) قال: أولم توقن بأني خليلك؟ 5989 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (أولم تؤمن) قال: أولم توقن. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: (فخذ أربعة من الطير) ، فذكر أن الأربعة من الطير: الديكُ، والطاوُوس، والغرابُ، والحمام. * ذكر من قال ذلك: 5990 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا. 5991 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن   (1) انظر فهارس اللغة فيما سلف"الإيمان" بمعنى التصديق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والحمام. 5992 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج: (قال فخذ أربعة من الطير) قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة. 5993 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (قال فخذ أربعة من الطير) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامًا، وغرابًا، وديكًا; مخالِفةٌ أجناسُها وألوانُها. * * * القول في تأويل قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد من قول القائل:"صُرْت إلى هذا الأمر" (1) . إذا ملت إليه ="أصُورُ صَوَرًا"، ويقال:"إني إليكم لأصْوَر" أي: مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر: (2) . اللهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ الفِرَاقِ إلَى أَحْبَابِنَا صُورُ (3) وهو جمع"أصْور، وصَوْراء، وصُور، مثل أسود وسوداء" ومنه قول الطرماح:   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "صرت هذا الأمر" بإسقاط"إلى"، والصواب ما أثبت. (2) غير معروف قائله، وأنشده الفراء. (3) اللسان (صور) والخزانة 1: 58، وشرح شواهد المغني: 266 وغيرها كثير، وكان في المطبوعة هنا: "إلى أحبابنا"، وأثبت ما في المخطوطة. وبعد البيت بيت من الشواهد المستفيضة: وَأَنَّنِي حَوْثُمَا يَثْنِي الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَوْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 عَفَائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَا ... هَوًى، والْهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ (1) يعني بقوله:"أو أن يصورها هوى"، يميلها. * * * فمعنى قوله: (فصُرْهن إليك) اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما يقال:"صُرْ وجهك إليّ"، أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله: (فصرهن إليك) إلى هذا التأويل، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده: قال: (فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك) ، ثم قطعهن، (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) . * * * وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم"الصاد": قطِّعهن، كما قال توبة بن الحميِّر: فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ ... بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا ...   (1) ديوانه: 152، وهو من أبيات جياد، قبله: إِذَا ذُكِرَتْ سَلْمَى لَهُ، فَكَأَنَّمَا ... تَغَلْغَلَ طِفْلٌ فِي الفُؤَادِ وَجِيعُ وَإِذْ دَهْرُنَا فِيهِ اغْتِرَارٌ، وَطَيْرُنَا ... سَوَاكِنٌ فِي أَوْكَارِهِنَّ وُقُوعُ قَضَتْ مِنْ عِيَافٍ وَالطَّرِيدَةِ حَاجَةً ... فَهُنَّ إلى لَهْوِ الحَدِيثِ خُضُوعُ عَفَائِفُ إلاّ ذَاكَ. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَآلَيْتُ أَلْحَى عَاشِقًا مَا سَرَى القَطَا ... وَأَجْدَرَ من وادِي نَطَاةَ وَلِيعُ قوله: "طفل"، أي من هم الهوى والحب، ينمو منذ كانوا أطفالا. وعياف، والطريدة، لعبتان من لعب صبيان الأعراب، فيقول: إن سلمى وأترابها، قد أدركن وكبرن، فترفعن عن لعب الصغار والأحداث، وحبب إليهن الحديث والغزل. فهن يخضعن له ويملن، ولكنهن عفيفات مسلمات، ليس لهن من نزوات الصبا إلا الأحاديث والغزل، وإلا أن يعطف قلوبهن الهوى والعشق، والهوى صروع قتال، يصرع من يلم به. فلما رأى ذلك منهز ومن نفسه، أقسم أن لا يلوم محبًّا على فرط عشقه. وقوله: "أجدر" أي أخرج الشجر ثمره كالحمص. والوليع: طلع النخل. ووادي نطاة: بخبير، وهو كثير النخل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا ... بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا (1) يعني: يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله: (فصرهن) ، كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن = ويكون"إليك" من صلة"خذ". * * * وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة:"فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ" بالكسر، بمعنى قطعهن. وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون:"فصُرهن" ولا"فصرهن" بمعنى قطعهن، في كلام العرب -وأنهم لا يعرفون كسر"الصاد" وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد، = وأنهما جميعًا لغتان بمعنى"الإمالة" = وأن كسر"الصاد" منها لغة في هذيل وسليم; وأنشدوا لبعض بني سليم: (2) . وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ ... عَلَى الِّليتِ قِنْوَانُ الكُرُوم الدَّوَالِح (3)   (1) هذان البيتان من قصيدة طويلة عندي في شعر توبة بن الحير. والبيت الأول هنا ينبغي أن يؤخر، لأن المعنى لا يستقيم على رواية أبي جعفر: وترتيبها في رواية شعره، مع اختلاف الرواية: فَنَادَيْتُ لَيْلَى، والحُمُولُ كَأَنَّهَا ... مَوَاقِيرُ نَخْلٍ زَعْزَعَتْهَا دُبُورَها فَقَالَتْ: أَرَى أَنْ لا تُفِيدَكَ صُحْبَتِى ... لِهَيْبَةِ أعْدَاءٍ تَلَظَّى صُدُورُهَا فَمَدَّتْ لِيَ الأَسْبَابَ حتَّى بَلَغْتُهَا ... بِرِفْقِي، وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا فَلَمَّا دَخَلْتُ الخِدْرَ أَطَلَّتْ نُسُوعُهُ ... وَأَطْرَافُ عِيْدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا ورواية الطبري"فلما جذبت الحبل" و"بأطراف عبدان"، ليست جيدة، والأسباب جمع سبب: وهي الحبال، حتى يصعد إليها في خدرها. وقوله"نهضي" في روايته، أي نهوضي وحركتي من حيث كنت مختفيًا. وأط الرحل يئط: سمع صوت عيدانه وصريرها. والنسوع جمع نسع: وهو سير مضفور تشديد به الرحال. كانت الحبال جديدة فأطت وسمع صوتها. والأسور جمع أسر: وهو عقد الخلق وقوته. أي أن العيدان جديدة شديدة القوى. متينة. فذلك أشد لأطيطها. (2) لا أعرف قائله. (3) معاني القرآن للفراء 1: 174. اللسان (صير) الفرع الشعر التام الحثل، وحف أسود حسن كثير عزيز، الليت صحفة العنق. وهما الليتان، قنوان: جمع قنو (بكسر فسكون) وهو عذق النحل وما فيه من الرطب. والدوالح جمع دالح: وهو المثقل بالحمل هنا. وأصله فيما يمشي، يقال بعير دالح: إذا مشى بحمله الثقيل مشيًا غير منبسط. وكذلك السحاب دالح، أي مثقل بطيء المر. وهي استعارة جيدة محكمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 يعني بقوله:"يصير"، يميل = وأنّ أهل هذه اللغة يقولون:"صاروه وهو يصيره صَيرًا"،"وصِرْ وَجهك إليّ"، أي أمله، كما تقول:"صُره". (1) . * * * وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: (فصُرهن) ولا لقراءة من قرأ:"فصرهن" بضم"الصاد" وكسرها، وجهًا في التقطيع، (2) . إلا أن يكون"فصِرْ هن إليك"! في قراءة من قرأه بكسر"الصاد" من المقلوب، وذلك أن تكون"لام" فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فيكون من"صَرَى يصري صَرْيًا"، فإن العرب تقول:"بات يَصْرِي في حوضه": إذا استقى، ثم قطع واستقى، (3) . ومن ذلك قول الشاعر: (4) . صَرَتْ نَطْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ ... غَدَا وَالْعَوَاصِي مِنْ دَمِ الجَوْفِ تَنْعَرُ (5) "صَرَت"، قطعتْ نظرة، ومنه قول الآخر: (6) . يَقُولُونَ: إنّ الشَّأَمَ يَقْتُلُ أَهْلَهُ ... فَمَنْ لِي إِذَا لَمْ آتِهِ بِخُلُودِ ... تَعَرَّبَ آبَائِي، فَهَلا صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي! ? (7)   (1) انظر ما سلف في معاني القرآن للفراء 1: 174. (2) أي: بمعنى التقطيع. (3) هذا بيان جيد، لا تجده في كتب اللغة. (4) لم أعرف قائله. (5) اللسان (نعر) (عصا) ، ومعاني القرآن 1: 174 -جوز كل شيء: وسطه، والدراع: لابس الدرع. والعواصى جمع عاص، يقال: "عرق عاص" وهو الذي لا يرقأ ولا ينقطع دمه، كأنه يعصى في الانقطاع الذي يبغي منه ولا يطيع، وأشد ما يكون ذلك في عروق الجوف. ونعر العرق بالدم: إذا فار فورانًا لا يرقأ، كأن له صوتًا من شدة خروج الدم منه. فهو نعار ونعور. (6) لم أعرف قائلهما. (7) معاني القرآن للفراء 1: 174، معجم ما استعجم: 773، اللسان (عرب) (شأم) . وتعرب القوم: أقاموا بالبادية، ولم يحضروا القرى. يقول سكن آبائي وجدودي البوادي وأقاموا فيها ولم يحضروا القرى، فلم يك ذلك نجاة لهم من المنايا. وقوله: "وجدودي، عطف على"آبائي"، ورواية البيت في اللسان أجود: تَعَرَّبَ آبائِي، فَهَلاَّ صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ رَمْلاَ عَالِجٍ وزَرُودِ وهما موضعان مصحان من أرض العرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 يعني: قطعهم، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل، وحوّلت عينها فجعلت لامها، فقيل:"صار يصير"، كما قيل:"عَثِي يَعْثَى عَثًا"، ثم حولت لامها، فجعلت عينها، فقيل:"عاث يعيث. (1) . * * * فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: (فصرهن إليك) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع التقطيع. قالوا: وهما لغتان: إحداهما:"صار يصور"، والأخرى:"صَار يصير"، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل، وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي (2) . وَجَاءَت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُورُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ (3)   (1) انظر ما سلف من ذلك في 2: 123، 124. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "بن حماد"، وهو تصحيف، فإن المراجع كلها اتفقت على أنه"ابن جمال" بالجيم أو"بني حمال" بالحاء. وهو ينسب لأوس بن حجر التميمي، ولآخر غيره يقال له: أوس بن حجر كما ترى في المراجع المذكورة بعد. (3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 81 وأمالي القالي 2: 52، والتنبيه: 93، وسمط اللآلي: 685، 686، ثم في لسان العرب (ظأب) (ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عنق) (زنم) ، وفي كتب أخرى، ويأتي البيت منسوبًا لأوس بن حجر هكذا: يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمٌ ... لَهُ ظَأْب كمَا صَخِبَ الغرِيمُ وهو بيت ملفق، وصواب رواية الشعر مادة (زنم) من اللسان: وجَاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ يُفَرِّقُ بَيْنَهَا صَدْعٌ رَبَاعٌ ... لَهُ ظَأْبٌ كَما صَخِبَ الغَرِيمُ الخلعة بكسر الخاء وضمها: خيار المال، يعنى المعزي التي سيقت إليه، كانت كلها خيارًا. والدهس جمع دهساء: وهي من المعزى، السوادء المشربة حمرة لا تغلو. وقوله: "يصوع" هذه الرواية أخرى بمعنى يفرق. وذلك إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. وعنوق جمع عناق: وهي أنثي المعز. وهو جمع عزيز. والأحوى: الذي تضرب حمرته إلى السواد، يعنى تيس المعز، ويعنى أنه كريم. والزنيم: الذي له زنمتان في حلقة. والصدع (بفتح الصاد وسكون الدال أو فتحها) : وهو الفتى الشاب المدمج الخلق، الصلب القوي. ورباع: أي دخل في السنة الرابعة، وذلك في عز شبابه وقوته. وظأب التيس: صوته وجلبته وصياحه وصخبه، وهو أشد ما يكون منه عند السفاد. والغريم: الذي له الدين على المدين، ويقال للمدين غريم. يقول: إذا أراد سفادها هاج وفرقها، وكان له صخب كصخب صاحب الدين على المدين الذي يماطله ويماحكمه ويلويه دينه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 بمعنى: يفرِّق عنوقها ويقطعها = وببيت خنساء: *لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ* (1) يعني بالشم: الجبال، أنها تتصدع وتتفرق -وببيت أبي ذؤيب: فَانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ (2) قالوا: فلقول القائل:"صُرْت الشيء"، معنيان: أملته، وقطعته. وحكوا سماعًا:"صُرْنا به الحكم": فصلنا به الحكم. * * *   (1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 81 وفيه مراجعه. والبيت ليس في ديوانها. (2) ديوانه: 12 المفضليات: 873، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 81، والأضداد للأصمعي وابن السكيت 33، 187. وهذه الرواية التي رواها أبو عبيدة والأصمعي وابن السكيت والطبري" فانصرن"، رواية غربية، وهي في سياقه الشعر أغرب. وأنا أنكر معناها وأجده مخلا بالشعر. وذلك أن سياقه في صفة ثور الوحش، ثور من قد تقضى شبايه، لم تزل كلاب القناص تروعه حتى شعفت فؤاده. فإذا أصبح الصباح داخله الفزع خشية أن يباكره صياد بكلا به. فهو لا يزال يرمي بعينه في غيوب الأرض ثم يغضي ليتسمع، فيصدق سمعه ما يرى. وهو عندئذ واقف في الشمس يتشمس من ندى الليل، فيقول أبو ذؤيب: فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ، فَبَدَا لَهُ ... أُولَى سَوَابِقِها قَرِيبًا تُوزَعُ يقول: بدت له طلائع الكلاب قد دنت منه، والقناص يكفها حتى يرسلها جميعا عليه. فَاهْتَاجَ من فَرَعٍ، وسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ يقول هاجه الفزع فعدا عدوًا شديدًا والكلاب من خلفه وحواليه قد أخذت عليه مذهبه. ويروى"فانصاع من فزع" أي ذهب في شق. والغبر الضواري: هي كلاب الصياد، "منها وافيان": كلبان سالما الأذنين. والأجدع: مقطوع الأذن. إما علامة له، وإما من طول ممارسته لصيد الثيران وضربها له بقرونها حتى انقطعت آذانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين =: من أن معنى الضم في"الصاد" من قوله: (فصرهن إليك) والكسر، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان، معناهما في هذا الموضع: فقطعهن - وأنّ معنى"إليك" تقديمها قبل"فصرهن"، من أجل أنها صلة قوله:"فخذ" = (1) . أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويّي الكوفيين، الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - (2) . لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله: (فصرهن) غير خارج من أحد معنيين: إما"قطِّعهن"، وإما"اضْمُمْهن إليك"، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك = على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين، أعني الكسر والضم = أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله: (فصرهن) بمعنى فقطعهن، على أنّ أصل الكلام"فاصرهن"، ثم قلبت فقيل:"فصِرْهن" بكسر"الصاد"، لتحول"ياء"،"فاصرهن" مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شكّ -مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم- قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز لمن قلب"فاصِرهن" إلى"فصِرهن" أن يقرأه"فصُرْهن" بضم"الصاد"، وهم، مع اختلاف قراءتهم ذلك، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر"الصاد" بتأويل: التقطيع، مقلوب من:"صَرِي يَصْرَى" إلى"صار يصير" = وجهل من زعم أن قول القائل:"صار يصور"، و"صار يصير" غير معروف في كلام العرب بمعنى: قطع. * * *   (1) قوله"أولى بالصواب"، خبر قوله: "وهذا القول الذي ذكرناه ... أولى بالصواب ... ". (2) سياق العبارة: " ... أولى بالصواب ... لإجماع جميع أهل التأويل ... ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره: (فصرهن) أنه بمعنى: فقطّعهن. 5994 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (فصرهن) قال: هي نبطيَّة، فشقِّقْهن. (1) . 5995 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جَمْرة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) ، قال: إنما هو مثلٌ. قال: قطعهن، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، رُبعًا ههنا، ورُبعًا ههنا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا. (2) . 5996 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (فصرهن) قال: قطعهن. 5997 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن. 5998 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، مثله. 5999 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن   (1) الأثر: 5994 -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط". قال ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي فقال: صدوق، وسمعت حجاج ابن الشاعر يبالغ في الثناء عليه ويذكره بالخير. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداء 9: 52. و"محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي" مضى برقم: 3002. و"أبو كدينة" هو: يحيى بن المهلب البجلى. مضى في رقم 4193 بغير ترجمة. قال ابن معين وأبو داود والنسائي: ثقة. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 5995 -"أبو جمرة" هو: نصر بن عمران بن عصام الضبعي. روى عن أبيه وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وعنه شعبة وإبراهيم بن طهمان وابنه علقمة وغيرها. مترجم في التهذيب. وقد مضى غير مترجم في رقم: 3250، وسقط في الطبع من اسمه راء"جمرة". وفي المطبوعة والمخطوطة"أبو حمزة"، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 جعفر، عن سعيد: (فصرهن) قال: قال جناح ذِه عند رأس ذِه، ورأس ذِه عند جناح ذِه. 6000 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة في قوله: (فصرهن إليك) قال: قال عكرمة بالنبطيَّة: قطّعهن. 6001 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن يحيى، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: قطعهن. 6002 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا، (1) ثم اخلط لحومهن بريشهن. 6003 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا. (2) 6004 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (فصرهن إليك) أمر نبيُّ الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن. 6005 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فصرهن إليك) قال: فمزقهن. قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء، والريش بالريش،"ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا". 6006 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا   (1) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى. (2) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك: (فصرهن إليك) يقول: فشقِّقهن، وهو بالنبطية"صرّى"، وهو التشقيق. 6007 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فصرهن إليك) يقول قطعهن. 6008 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن إليك ومزقهن تمزيقًا. 6009 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فصرهن إليك) أي قطعهن، وهو"الصَّوْر" في كلام العرب. * * * قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله: (فصرهن إليك) أنه بمعنى: فقطعهن إليك، دلالةٌ واضحة على صحة ما قلنا في ذلك، وفساد قول من خالفنا فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم"الصاد":"فصُرْهن" إليك أو كسرها"فصِرْهن" إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد. (1) . غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ به"فصُرْهن إليك" بضم"الصاد"، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما في إحياء العرب. * * * [وأما قول من تأوّل قوله: (فصرهن إليك) بمعنى: اضممهن إليك ووجّهن نحوك واجمعهن، فهو قولٌ قال به من أهل التأويل نفر قليل] . (2) .   (1) في المطبوعة: "أن كانت اللغتان معروفتين"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لسرعة الكاتب فيما كتب وإهماله. (2) هذا الذي بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق التفسير، وهو رده على القول الأول الذي مضى في ص 469 س 3 إلى 7، ولم يعد ثانية إلى ذكره. وكان مكانه في المطبوعة: "وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى: أوثق". وهو تصرف من ناسخ قديم أو طابع. أما المخطوطة، فكان نصها هكذا متصلا بما قبله وما بعده. "وأكثرهما في أحياء العرب من أهل التأويل نفر قليل" ذكر من قال ذلك". والذي استظهرته أقرب إلى سياق التفسير إن شاء الله. وهذا دليل آخر على شدة إهمال الناسخ في كثير من المواضع لعجلته وقلة حذره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 * ذكر من قال ذلك: 6010 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فصرهن إليك) "صرهن": أوثِقْهُنّ. 6011 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: (فصرهن إليك) قال: اضممهن إليك. 6012 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (فصرهن إليك) قال: اجمعهن. * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) . فقال بعضهم: يعني بذلك: على كل ربع من أرباع الدنيا جزءًا منهن. * ذكر من قال ذلك: 6013 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: اجعلهن في أرباع الدنيا: ربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، (ثم ادعهن يأتينك سعيا) . (1) .   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي حمزة"، وهو خطأ. انظر ما سلف من التعليق على الأثر: 5995. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 6014 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: لما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا. 6015 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن على أربعة أجبُل، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن، (1) وأمسك برؤوسهن بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن، ويلقي كل طير برأسه. (2) . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها. 6016 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم قسّمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا، يقول: شدًّا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم، يقول: كما بعثتُ هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها. 6017 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذَ الأطيار الأربعة، ثم قطَّع   (1) لم أفهم لقوله: "شكل على أجنحتهن" معنى، ولعل فيها تصحيفًا لم أتبينه، ولعل معناه أنه نثر ريش أجنحتهن. ولم أجد الخبر في مكان آخر. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " ويلقي كل طير برأسه"، والصواب زيادة"إلى". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال:"تعالين بإذن الله كما كنتُن"، فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامِها ويَمنها! فأراه الله إحياء الموتى بقدرته، حتى عرف ذلك، يعني: ما قال نمروذ من الكذب والباطل. (1) . 6018 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامة، وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه. (2) . فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعًا، فقال الله: كما ناديتهن فجئنَك، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعدَ هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا - يعني الموتى. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها، أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال. * كر من قال ذلك: 6019 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما قال إبراهيم ما قال = عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطيرُ   (1) في المطبوعة: "بغير ما قال نمرود ... " وفي المخطوطة: " بعير ما قال" غير منقوطة، وصواب قراءته ما أثبت. وهذا تفسير للإشارة في قوله: "حتى عرف ذلك". (2) الجؤشوش: الصدر. يقال: "مضى جؤشوش من الليل" أي: صدر منه، مجاز من ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربّه ما سأل = قال: (فخذ أربعة من الطير) = قال ابن جريج: فذبحها = ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، (1) . ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا حيث رأيت الطيرَ ذهبت والسباعَ. قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل بَضْعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعَيْن، حتى وصلت رأسها. 6020 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) ، ثم اجعل على سبعة أجبال، فاجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطّعهن أعضاء، لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه. ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسَّمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعًا. * * * وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل. * ذكر من قال ذلك: 6021 - حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ، قال: ثم بدِّدهن على كل جبل يأتينك سعيًا، وكذلك يُحيي الله الموتى. 6022 - حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن يأتينك سعيًا، كذلك يحيى الله الموتى. هو مثل ضربه الله لإبراهيم.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "ثم خلط ... "، فعل ماض، والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 6023 - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ثم بددهن أجزاءً على كل جبل = ثم (ادعهن) ، تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم. 6024 - حدثني المثنى، قال: حدثني إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أمره أن يُخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا. 6025 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن الله تعالى ذكره قال له: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) و"الكل" حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع. (1) . فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة، عليها خارجةً من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا، أو جميعا. (2) . فإن كانت"بعضًا" فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم   (1) انظر ما سلف في معنى"كل" 3: 195. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أو جمعا"، والصواب ما أثبت، وسيأتي على الصواب بعد قليل في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه. = أو يكون"جميعا"، فيكون أيضًا كذلك. (1) . وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على"كل جبل"، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، (2) وإمَّا ما في الأرض من الجبال. فأما قول من قال:"إن ذلك أربعة أجبل"، وقول من قال:"هن سبعة"، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به، وإنما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن = كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال = أطيارًا أحياءً يطرن، فيطمئنّ قلب إبراهيم، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث القيامة، (3) . وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى. (4) . * * * قال أبو جعفر: و"الجزْء" من كل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. فهو بذلك من معناه مخالف معنى"السهم". لأن"السهم" من الشيء، هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة. ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءَهم من المواريث:"السهام" دون"الأجزاء". (5) . * * *   (1) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "من كل جبل وقد عرفهن ... " في المخطوطة: " ... قد عرفهن" بغير واو. وقد زدت"من أجبل" حتى تستقيم العبارة، مستظهرًا مما مضى. (3) في المطبوعة: "أن كذلك يجمع الله ... " وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "قبل الرد"، والصواب من المخطوطة. والردى: الهلاك. (5) هذه تفرقة جيدة قلما تصيبها في كتب اللغة، فقيدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 وأما قوله: (ثم ادعهن) فإن معناه ما ذكرت آنفًا عن مجاهد، أنه قال: هو امه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل:"تعالين بإذن الله". * * * فإن قال قائل: أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتًا، أم بعد ما أحيِين؟ فإن كان أمر أن يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرقات، إنما هو أمر تكوين = كقول الله للذين مسخهم قرَدة بعد ما كانوا إنسًا: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة: 65] = لا أمرَ عبادةٍ، فيكون محالا إلا بعد وجُود المأمور المتعبَّد. * * * القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (واعلم) يا إبراهيم، أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على الجبال، فجمعهن وردّ إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهنّ قبل تفريقكَهُنّ = (عزيز) ، في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة، الذين خالفوا أمرَه، وعصوا رُسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم = (حكيم) في أمره. * * * 6026 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق: (واعلم أن الله عزيز حكيم) ، قال: عزيز في بطشه، حكيم في أمره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 6027 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (واعلم أن الله عزيز) في نقمته = (حكيم) في أمره. * * * القول في تأويل قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} قال أبو جعفر: وهذه الآية مردودة إلى قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245] والآياتُ التي بعدها إلى قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) ، من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم، وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، مما قد ذكرناه قبل = (1) . اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك، احتجاجًا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة = وحضًّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 244] ، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم = وقطعًا منه ببعض عذرَ اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أطلع نبيَّه عليه من خفي أمورهم،   (1) سياق الجملة: "والآيات التي بعدها ... اعتراض من الله تعالى ... " مبتدأ وخبره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم، ليعلموا أن ما آتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق، = وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يُحلَّ بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على عروشها. ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن (الذي يقرض الله قرضًا حسنًا) وما عنده له من الثواب على قَرْضه، فقال: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم = (كمثل حبة) من حبات الحنطة أو الشعير، أو غير ذلك من نبات الأرض التي تُسَنْبل رَيْعَها سنبلة بذرها زارع (1) . ="فأنبتت"، يعني: فأخرجت = (سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة) ، يقول: فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. كما: - 6028 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) فهذا لمن أنفق في سبيل الله، فله أجره سبعمائة. (2) . 6029 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) ، قال: هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج.   (1) في المطبوعة: "تسنبل سنبلة بذرها زارع"، وضع"سنبلة" مكان"ريعها"، ظنها محرفة. وريع البذر: فضل ما يخرج من البزر على أصله. وهو من"الريع" بمعنى النماء والزيادة. والمعنى: تسنبل أضعافها زيادة وكثرة. (2) في المطبوعة: "فله سبع مائة" بحذف"أجره"، وفي المخطوطة: "فله سبعمائة" بياض بين الكلمتين، وأتممت العبارة من الدر المنثور 1: 336، وفيه: "فله أجره سبعمائة مرة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 6030 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) الآية، فكان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ورابط مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولم يلق وجهًا إلا بإذنه، (1) . كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله؟ (2) . قيل: إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك، (3) . وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إنْ جَعل الله ذلك فيها. ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة = فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة، مضافًا إليها،   (1) في المخطوطة: "لم يلف وجها"، والذي في المطبوعة لا بأس به، وإن كنت في شك منه. وفي الدر المنثور 1: 336"لم يذهب وجها". (2) في هامش المخطوطة تعليق على هذا السؤال، وهو أول تعليق أجده على هذه النسخة بخط غير حط كاتبها، وهو مغربي كما سيتبين مما كتب، وبعض الحروف متآكل عند طرف الهامش، فاجتهدت في قراءتها: "أقول: بل ذلك ثابت محقّق مشاهدٌ في البلاد، وأكثر منه. فإن سنبل تلك البلاد يكثر حبّه وفروعه إلى ما يقارب الفتر. ولقد عدت من فروع حبة واحدة ثلاثة وستين فرعًا، وشاهدت من ذلك مرارًا. فقد أراني بعض أصحابي جملة من ذلك ... ، كان أقل ما عددناه للحبة ثلاثة عشر سنبلة إلى ما يبلغ أو يزيد على ما ذكرت أولًا من العدد. كتبه محمد بن محمود الجزائري الحنفي" ثم انظر ما قاله القرطبي وغيره في سائر كتب التفسير. (3) في المخطوطة: "قيل قيل أن يكون ذلك موجود فهو ذاك"، وهو خطأ ولا شك، وما في المطبوعة جيد في السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 لأنه كان عنها. وقد تأوّل ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 6031 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) ، قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فهذا لمن أنفق في سبيل الله =: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) . * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (والله يضاعف لمن يشاء) . فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجرَ حسناته = بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله، دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله، فلا ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. (1) . * ذكر من قال ذلك: 6032 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله -يعني السبعمائة-   (1) كانت هذه الجملة كلها في المطبوعة: "والله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة". وقد غيروا ما كان في المخطوطة لأنه فاسد بلا شك وهذا نصه: "والله يضاعف لمن يشاء أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة". ولكنى استظهرت من سياق التفسير بعد، أن الصواب غير ما في المطبوعة، وأن في الكلام تصحيفًا وسقطًا، أتممته بما يوافق المعنى الذي قاله هؤلاء، كما يتبين من كلام أبي جعفر فيما بعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) ، يعني لغير المنفق في سبيله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده، فتركت ذكره. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله: (والله يضاعف لمن يشاء) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف، لمن يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف، إلى أنه عِدَة منه على [العمل في غير سبيله، أو] على غير النفقة في سبيل الله. (1) . * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (والله واسع) ، أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده = (2) . (عليم) من يستحق منهم الزيادة، كما: - 6033 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) قال: (واسع) أن يزيد من سعته = (عليم) ، عالم بمن يزيده. * * *   (1) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه سياق الكلام والتركيب. (2) انظر تفسير"واسع" و"عليم" فيما سلف 2: 537، وانظر فهارس اللغة أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 وقال آخرون: معنى ذلك: (والله واسع) ، لتلك الأضعاف = (عليم) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم، وغير ذلك من مؤنهم، (1) . ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم -بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما"الأذى" فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه. وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله، وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله، لأن النفقة التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. (2) . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "الذين يعينون المجاهدين" بالجمع/ وسياق الجمل بعده بالإفراد، وهو غير جائز. (2) في المطبوعة: "مما ابتغى به"، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 عليه -إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه. * * * وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 6034 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم) ، (1) . علم الله أن أناسًا يمنون بعطيَّتهم، فكره ذلك وقدَّم فيه فقال: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) . (2) . 6035 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال للآخرين = يعني: قال الله للآخرين، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم =: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى) ، قال: فشرَط عليهم. قال: والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج، الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) الآية = قال ابن زيد: وكان أبي يقول: إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل الله، (3) . فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك، فكفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيد: فنهى عن خير الإسلام. (4) . قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أسامة، تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا، فإنهم لا يخرجون إلا   (1) أتم الآية في المطبوعة، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "قول معروف ومعرفة"، وهو دال على كثرة سهو الناسخ في هذا الموضع من المخطوطة كما أسلفت مرارًا. (3) في المطبوعة: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى فقويت في سبيل الله" وهو غير مفهوم، وهو تصرف فيما كان في المخطوطة، ونصه: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى في سبيل الله". واستظهرت صواب قراءتها كما أثبته، وقد أشرت مرارًا لكثرة سهو الناسخ في هذا من كتابته. والذي أثبته أشبه بما دل عليه سائر قوله. (4) في المطبوعة: "فهو خير من السلام"، ولا معنى له وفي المخطوطة"فنهي خير من الإسلام" وهو أيضًا بلا معنى، وأظن الصواب ما أثبت. وذلك أن زيد بن أسلم قال: "فكف عنه سلامك" فنهاه عن أن يلقي عليه السلام. فعلق ابنه ابن زيد على قول أبيه أنه: "نهى عن خير الإسلام"، إشارة إلى ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" فالسلام خير الإسلام، وهو ما نهى عنه ابن زيد من أوذي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها. (1) . فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك، ولا في أسهمك، فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه! 6036 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى) قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. * * * وأما قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) ، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و"الهاء والميم" في"لهم" عائدة على"الذين". * * * ومعنى قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) ، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله، ثم لم يتبعوها منًّا ولا أذى. (2) . * * * وقوله: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، (3) . يقول: وهم = مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا = (لا خوف عليهم) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا، ولا في أهوال القيامة، وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله = (ولا هم يحزنون) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. (4) . * * *   (1) أخشى أن يكون الناسخ سها كما سها فيما سلف، وأن يكون صوابها"وفيها أسهم"، والذي هنا مقبول. (2) انظر معنى"أجر" فيما سلف 2: 148، 513. (3) انظر تفسير: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف 2: 148، 513. (4) عند هذا الموضع انتهى المجلد الرابع من مخطوطتنا، وفي آخره ما نصه: "آخر المجلد الرابع من كتاب البيان يتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم" وكان الفراغ منه في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا" ثم يبدأ الجزء الخامس، وفي طرته. " الجزء الخامس من جامع البيان في تأويل القرآن تأليف الشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري" ثم يلي ذلك نص وقف لله تعالى، استغنينا عن إثباته هنا. ثم يفتح الجزء: "بسم الله الرحمن الرحيم رب أعنْ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 القول في تأويل قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (قول معروف) ، قولٌ جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم (1) .. = (ومغفرة) ، يعني: وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته (2) . = (خير) عند الله = (من صدقة) يتصدقها عليه = (يتبعها أذى) ، يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها، كما: - 6037 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن   (1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371، 372 / ثم 4: 547، 548 / 5: 7، 44، 76، 93، 173. (2) انظر تفسير"المغفرة" 2: 109، 110، وفهارس اللغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 جويبر، عن الضحاك: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًّا وأذى. * * * وأما قوله: (غنيّ حليم) فإنه يعني:"والله غني" عما يتصدقون به = (حليم) ، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم، ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. (1) . وروي عن ابن عباس في ذلك، ما: - 6038 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (الغني) ، الذي كمل في غناه، و (الحليم) ، الذي قد كمل في حلمه. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (يا أيها الذين آمنوا) ، صدّقوا الله ورسوله = (لا تبطلوا صدقاتكم) ، يقول: لا تبطلوا أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله = (رئاء الناس) ، وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب، (2) . وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا   (1) انظر تفسير"حليم" فيما سلف 5: 117. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهو مريد به غير الله"، وهو سهو من الناسخ، والسياق يقتضي أن تقدم"غير"، وهو نص المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخيّ كريم، وهو رجل صالحٌ" فيحسنوا عليه به الثناء، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر. * * * وأما قوله: (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) ، فإن معناه: ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق، لأن المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله، مرادٌه به حمد الناس عليه. (1) . والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان (2) - إذا كان معلنًا كفرَه - لا لله. ومن كان كذلك، فغير كائن مرائيًا بأعماله. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 6039 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال أبو هانئ الخولاني، عن عمرو بن حريث، قال: إن الرجل يغزو، لا يسرق ولا يزني ولا يَغُلّ، لا يرجع بالكفاف! فقيل له: لم ذاك؟ قال: إن الرجل ليخرج، (3) . فإذا أصابه من   (1) في المطبوعة: "وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه"، وهو تصرف من الطابع، وفي المخطوطة: "وفي الباطن مربيه عامله مراد به حمد الناس عليه"، وهي غير مفهومة المعنى، وبين أنه قد سقط منها"سريرة" من قوله"مربية سريرة عامله"، وهو إشارة إلى ما مر في تفسيره قبل من قوله: "فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر". فاستظهرت أن الصواب زيادة"سريرة"، لتتفق مع معاني ما قال أبو جعفر رحمه الله. (2) أخال عليه الأمر يخيل: أشكل عليه واستبهم. وسياق الجملة بعد ذلك: "إنما هي للشيطان لا لله". (3) في المطبوعة: "قال: فإن الرجل"، وفي المخطوطة: "فإن إن الرجل" تصحيف والصواب ما أثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 بلاءِ الله الذي قد حكم عليه، سبَّ ولعَن إمامَه ولعَن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا عليه، وليس له = مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى. فقد ضرب الله مثلها في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صَدقاتكم بالمنّ والأذى) ، حتى ختم الآية. (1) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر = و"الهاء" في قوله: (فمثله) عائدة على"الذي" = (كمثل صفوان) ، و"الصفوان" واحدٌ وجمعٌ، فمن جعله جمعًا فالواحدة"صفوانة"، (2) . بمنزلة"تمرة وتمر" و"نخلة ونخل". ومن جعله واحدًا، جمعه"صِفْوان، وصُفِيّ، وصِفِيّ"، (3) . كما قال الشاعر: (4) . * مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ * (5)   (1) الأثر: 6039 -"أبو هانئ الخولاني": هو: حميد بن هانئ المصري من ثفات التابعين، روى عن عمرو بن حريث وغيره. وروى عنه الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم من أهل مصر مات سنة 142. و"عمرو بن حريث"، هو الذي يروي عنه أهل الشام، وهو غير"عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي الكوفي. وانظر ترجمته في التهذيب 8: 18. (2) في المطبوعة: "واحد وجمع، فمن جعله جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر ما سلف في تفسير"الصفا" 3: 224، 225، وقوله: جمعه صفوان" يعنى: بكسر الصاد وسكون الفاء، وهو قول الكسائي، وقد تعقبوه وخطئوه في شاذ مذهبه. انظر القرطبي 3: 313، وتفسير أبي حيان 2: 302، ومن أجل ذلك أسقطه أصحاب اللغة من كتبهم. (4) هو الأخيل الطائي. (5) سلف شرح هذا البيت وتخريجه 3: 224، وسقط ذكر هذا الموضع في التخريج السالف فأثبته هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 و"الصفوان" هو"الصفا"، وهي الحجارة الملس. * * * وقوله: (عليه تراب) ، يعني: على الصفوان ترابٌ = (فأصابه) يعني: أصاب الصفوان = (وابل) ، وهو المطر الشديد العظيم، كما قال أمرؤ القيس: سَاعَةً ثُمَّ انْتَحَاهَا وَابِلٌ ... سَاقِطُ الأكْنَافِ وَاهٍ مُنْهَمِرُ (1) يقال منه:"وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا"، وقد:"وُبلت الأرض فهي تُوبَل". * * * وقوله: (فتركه صلدًا) يقول: فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا. و"الصلد" من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره، وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس، (2) . كما قال رؤبة: لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ ... بَرَّاقَ أَصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَهِ (3)   (1) ديوانه: 90، وطبقات فحول الشعراء: 79، وغيرهما كثير. وهو من أبيات روائع، في صفة المطر والسيل أولها: دِيَمةٌ هَطْلاَءُ فِيهَا وَطَفٌ ... طَبَقَ الأَرْضِ تَحَرَّي، وَتَدِرّْ ثم قال بعد قليل: "ساعة" أي فعلت ذلك ساعة، "ثم انتحاها" أي قصدها، والضمير فيه إلى"الشجراء" في بيت سباق. و"ساقط الأكناف"، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا، كأن نواحيه تتهدم على الشجراء. "منهمر": متتابع متدفق. واقرأ تمام ذلك في شرح الطبقات. (2) هذا البيان عن معاني"صلد"، لا تصيبه في كثير من كتب اللغة. (3) ديوانه: 165 من قصيدة مضى الاستشهاد بأبيات منها في 1: 123، 309، 310 /2: 222، والضمير في"رأتني" إلى صحابته التي ذكرها في أول الشعر و"خلق": بال. و"المموه" يقال:: وجه مموه" أي مزين بماء الشباب، ترقرق شبابه وحسنه. وقوله"خلق المموه"، بحذف"الوجه" الموصوف بذلك. يقول: قد بلي شبابي وأخلق. "أصلاد الجبين"، يعني أن جبينه قد زال شعره، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء لا نبات عليها. و"الأجله". الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جبهته ومقدم جبينه، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه: * بَعْدَ غُدَانِيِّ الشَّبَابِ الأَبْلَهِ * فاستنكرته صاحبته، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان، وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها، وقد صار إلى المصير الذي وصف نفسه! ! . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي:"قِدْرٌ صَلود"،"وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا، ومنه قول تأبط شرًّا: وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رَعْدٍ وَقِرَّةٍ ... وَلا بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ أعْزَلِ (1) * * * ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ لأعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بمنزلة الصَّفوان الذي كان عليه تراب، (2) . فأصابه الوابلُ من المطر، فذهب بما عليه من التراب، فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء = يراهُم المسلمون في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله، اضمحلّ ذلك كله، لأنه لم يكن لله،   (1) اللسان (جلب) (عزل) ، وغيرهما. ولم أجد القصيدة، ولكني وجدت منها أبياتًا متفرقة ورواية اللسان والمطبوعة وغيرهما: وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رِيحٍ وَقِرَّةٍ ... وَلاَ بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ مَعْزِلِ ولكنه في المطبوعة واللسان أيضًا"جلب ليل"، والظاهر أن المطبوعة نقلت البيت من اللسان (جلب) دون إشارة إلى ما كان في المخطوطة، ولكنى أثبت رواية المخطوطة، فإنها لا تغير وهي سليمة المعاني. الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام) : هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل، ويقال أيضًا: هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه. ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول: والقرة (بكسر القاف) والقر (بضمها) : البرد الشديد، يقول: لست امرءًا خاليا من الخير، بل مطيفًا بالأذى، كهذا السحاب المخيل المتراكم، مخيف برعده، ويلذغ ببرده، ولا غيث معه. أما رواية اللسان وغيره، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد. وقوله: "أعزل" من"عزل الشيء يعزله" إذا نحاه جانبًا وأبعده، كما سموا الزمل المنقطع المنفرد المنعزل"أعزل"، فهو من صميم مادة اللغة، وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد. وهذا شاهده بلا شك. أما قوله في الرواية الأخرى"معزل" فهو بمعنى ذلك أيضًا: معتزل عن الخير، أو معزول عنه. وهو مصدر ميمي من ذلك، جاء صفة، كما قالوا: "رجل عدل"، وكما قالوا"فلان شاهد مقنع" أي رضا يقنع به، مصدر ميمي من"قنع"، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده واحفظه. (2) في المخطوطة: "عليه ثواب"، وهو تصحيف غث، ولكنه دليل على شدة إهمال الناسخ وعجلته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على الصفوان من التراب، فتركه أملسَ لا شيء عليه = فذلك قوله: (لا يقدرون) ، يعني به: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا، لأنهم لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم، ما أرادوه وطلبوه بها. * * * ثم أخبر تعالى ذكره أنه (لا يهدي القوم الكافرين) ، يقول: لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون (1) . فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفةُ أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر، عند الله. (2) . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 6040 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) فقرأ حتى بلغ: (على شيء مما كسبوا) ، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس   (1) في المخطوطة: "ولكنه تركهم"، والصواب ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "واليوم عند الله" سقط منه "الآخر"، وهو دليل على ما أسلفت من عجلته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 عليه شيء، أنقى ما كان عليه. (1) . 6041 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن) إلى قوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة، يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه. 6042 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى قوله: (على شيء مما كسبوا) أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، (2) . ذهب الرياءُ بنفقته، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًّا، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فقال للمؤمنين: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى) فتبطل كما بطلت صَدقة الرياء. 6043 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فضرب الله مثلهما جميعًا: (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى. 6044 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنى أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) ليس عليه شيء، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب. 6045 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:   (1) في المطبوعة: "أنقى ما كان"، حذف"عليه"، كأنه استنكرها، وهي معرقة في الصواب. أي: أنقى ما كان عليه من النقاء. (2) في المطبوعة: "فكذا هذا الذي ينفق"، لا أدرى لم غير ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 قال ابن جريج في قوله: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) قال: يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها. 6046 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) ، فقرأ: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) حتى بلغ: (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئًا؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا. وقرأ قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) ، وقرأ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ، فقرأ حتى بلغ: (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) . [البقرة: 270-272] . (1) . * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {صَفْوَانٍ} قد بينا معنى"الصفوان" بما فيه الكفاية، (2) . غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل. 6047 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (كمثل صفوان) كمثل الصفاة. 6048 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (كمثل صفوان) والصفوان: الصفا. 6049 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.   (1) ما في المخطوطة والمطبوعة: "وما أنفقتم من خير فلأنفسكم"، وهو خطأ ظاهر، والصواب أنه يعني آيات سورة البقرة التي بينتها كما أثبتها. (2) انظر ما سلف قريبًا ص: 523، 524 والمراجع في التعليق عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 6050 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما (صفوان) ، فهو الحجر الذي يسمى"الصَّفاة". 6051 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله. 6052 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (صفوان) يعني الحجر. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} قد مضى البيان عنه. (1) . وهذا ذكر من قال قولنا فيه: 6053 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما وابل: فمطر شديد. 6054 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (فأصابه وابل) والوابل: المطر الشديد. 6055 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله. 6056 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} * ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك: 6057 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) انظر ما سلف قريبا ص: 524. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 السدي: (فتركه صلدًا) يقول نقيًّا. 6058 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) قال: تركها نقية ليس عليها شيء. 6059- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: (فتركه صلدًا) قال: ليس عليه شيء. 6060 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا، أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (صلدًا) فتركه جردًا. 6061 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: خبرنا معمر، عن قتادة: (، فتركه صلدًا) ليس عليه شيء. 6062 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) ليس عليه شيء. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 القول في تأويل قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ومثل الذين ينفقون أموالهم) فيصَّدَّقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من طاعات الله، طلب مرضاته = (1) .   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "طلب مرضاته، وتثبيتًا يعنى بذلك وتثبيتًا من أنفسهم يعنى لهم وهو كلام مختل، والظاهر أن الناسخ لجلج في كتابته فأعاد وكرر، فحذفت"وتثبيتًا يعني بذلك" وأضفت"بذلك وتثبيتا" بعد"يعنى الثانية التي بقيت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 = (وتثبيتًا من أنفسهم) يعني بذلك: وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا، من قول القائل:"ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر" - إذ صححت عزمَه، وحققته، وقويت فيه رأيه -"أثبته تثبيتًا"، كما قال ابن رواحة: فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (1) * * * وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتَتْهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصححت عزمهم وآراءهم، (2) . يقينًا منها بذلك، (3) . وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: (وتثبيتًا) ، وتصديقًا = ومن قال منهم: ويقينًا = لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، (4) . إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله. * ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: 6063 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: تصديقًا ويقينًا.   (1) سيرة ابن هشام 4: 16، وابن سعد 3/ 2 /81، والمختلف والمؤتلف للآمدي: 126 والاستيعاب 1: 305، وطبقات فحول الشعراء: 188، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين. وروى الآمدي وابن هشام السطر الثاني"في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا". ولما سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا وقال: "وإياك فثبت الله". (2) في المخطوطة: "فيثبتهم في إنفاق أموالهم ... "، وهو سهو من الناسخ، أو خطأ في قراءة النسخة التي نقل عنها. وفي المطبوعة: "فثبتهم ... وصحح عزمهم"، فغير ما في المخطوطة، وجعل"صححت"، "صحح"، لم يفهم ما أراد الطبري. وانظر التعليق التالي. (3) في المطبوعة: "وأراهم"، ومثلها في المخطوطة، والصواب"وآراءهم" كما أثبتها. يعنى أن نفوسهم صححت عزمهم وآراءهم في إنفاق أموالهم. وهذا ما يدل عليه تفسير الطبري. لقولهم"ثبت فلانا في الأمر"، كما سلف منذ قليل. (4) "إياهم" مفعول المصدر"تثبيت"، أي أن أنفسهم ثبتتهم في الإنفاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 6064 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: (وتثبيتًا من أنفسهم) قال: وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة. 6065 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: يقينًا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين. 6066 - حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: يقينًا من عند أنفسهم. * * * وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم. * ذكر من قال ذلك: 6067 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. 6068 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. 6069 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها. 6070 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم -يعني زكاتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 6071 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن علي بن علي، قال: سمعت الحسن قرأ: (ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك. * * * قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأولوا قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، بمعنى:"وتثبُّتًا"، فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان:"وتثبتًا من أنفسهم"; لأن المصدر من الكلام إن كان على"تفعَّلت""التفعُّل"، (1) . فيقال:"تكرمت تكرمًا"، و"تكلمت تكلمًا"، وكما قال جل ثناؤه: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل: 47] ، من قول القائل:"تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا". فكذلك قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، لو كان من"تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها"، لكان الكلام:"وتثبُّتًا من أنفسهم"، لا"وتثبيتًا". ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره. * * * فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) [المزمل: 8] ، ولم يقل:"تبتُّلا". قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه:"تبتيلا" لظهور"وتبتَّل إليه"، فكان في ظهوره دلالةٌ على متروك من الكلام الذي منه   (1) في المطبوعة: "إن كان على تفعلت"، وأثبت ما في المخطوطة، وعبارة الطبري عربية محكمة، بمعنى: لأن المصدر من الكلام الذي كان ... ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 قيل:"تبتيلا". وذلك أن المتروك هو:"تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا". وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا: تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعز: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا) [نوح: 17] ، وقال: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) [آل عمران: 37] ، و"النبات": مصدر"نبت". وإنما جاز ذلك لمجيء"أنبت" قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل"نباتًا"، والمعنى:"والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتًا". وليس [في] قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه، (1) . ومعنى الكلام:"ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها"، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: (وتبتَّل إليه تبتيلا) ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها. * * * وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، احتسابًا من أنفسهم. * ذكر من قال ذلك: 6073 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: احتسابًا من أنفسهم. (2) . * * * قال أبو جعفر: وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى"التثبيت"، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى"الاحتساب"، إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به. * * *   (1) في المطبوعة: "وليس قوله ... كلامًا يجوز" بالنصب، وفي المخطوطة: "وليس قوله ... كلام يجوز" بالرفع، وظاهر أن الصواب ما أثبت من زيادة: "في"، بمعنى أنه ليس في الجملة فعل سابق يتوهم به أن المصدر معدول به عن بنائه. (2) سقط من الترقيم سهوا رقم: 6072. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فيتصدقون بها، ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله وتصديقًا من أنفسهم بوعده = (كمثل جنة) . * * * و"الجنة": البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن"الجنة" البستان، بما فيه الكفاية من إعادته. (1) . * * * = (برَبْوة) والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة: مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ (2)   (1) انظر ما سلف 1: 384. (2) ديوانه: 43، وسيأتي هو والأبيات التي تليه في التفسير 21: 19 (بولاق) ، من قصيدته البارعة المشهورة. يصف شذا صاحبته حين تقوم: إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً ... وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ ضاع المسك يضوع، وتضوع: تحرك وسطع رائحته. وأصورة جمع صوار: وهو وعاء المسك، أو القطعة منه. والورد: الأحمر، وهو أجود الزنبق. وشمل: شامل، عدل به من"فاعل" إلى"فعل". والحزن: موضع في أرضى بني أسد وبني يربوع، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض ممرعة، وهو مربع من أجل مرابع العرب. مسبل: مرسل ماء على الأرض. هطل: متفرق غزيز دائم= والكوكب: النور والزهر، يلمع كأنه كوكب. شرق: ريان، فهو أشد لبريقه وصفائه. مؤزر: قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس، تغطى الخضرة أعواده. ونبت عميم: ثم وطال والتف. واكتهل النور: بلغ منتهى نمائه، وذلك أحسن له. يقول: ما هذه الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف ... بأطيب من صاحبته إذا قامت في أول يومها، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم. والأصل جمع أصيل: وهو وقت العشي، حين تفتر الأبدان من طول تعب يومها، فيفسد رائحتها الجهد والعرق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 فوصفها بأنها من رياض الحزن، لأن الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها. * * * وفي"الربوة" لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القرأة، وهي"رُبوة" بضم الراء، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق. و"رَبوة" بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم. و"رِبوه" بكسر الراء، وبها قرأ -فيما ذكر- ابن عباس. * * * قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح"الراء"، وإما بضمها، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة. * * * وإنما سميت"الربوة" لأنها"ربت" فغلظت وعلت، من قول القائل:"ربا هذا الشيء يربو"، إذا انتفخ فعظُم. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 6074 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كمثل جنة بربوة) ، قال: الربوة المكان الظاهرُ المستوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 6075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض المستوية المرتفعة. 6076 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (كمثل جنة بربوة) يقولا بنشز من الأرض. 6077 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (كمثل جنة بربوة) والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، (1) والذي فيه الجِنان. 6078 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (بربوة) ، برابية من الأرض. 6079 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (كمثل جنة بربوة) ، والربوة النشز من الأرض. 6080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: (كمثل جنه بربوة) ، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار. * * * وكان آخرون يقولون: هي المستوية. * ذكر من قال ذلك: 6081 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: (كمثل جنه بربوة) ، قال: هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله: (أصابها وابل) فإنه يعني جل ثناؤه: أصاب   (1) في المخطوطة: "الذي تجري فيه الأنهار"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق ما في الدر المنثور 1: 339، ولأنه هو صواب المعنى، ولأنه سيأتي على الصواب بعد قليل في الأثر: 6080. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 الجنة التي بالربوة من الأرض، وابلٌ من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. (1) . * * * وقوله: (فآتت أكلها ضعفين) ، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر. * * * و"الأكل": هو الشيء المأكول، وهو مثل"الرُّعْب والهُزْء"، (2) . وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على"فُعْل". وأما"الأكل" بفتح"الألف" وتسكين"الكاف"، فهو فِعْل الآكل، يقال منه:"أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة"، كما قال الشاعر: (3) . وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ، وَلا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَام (4) ففتح"الألف"، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله:"ولا جَوْعة"، وإن ضُمت الألف من"الأكلة" كان معناه: الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة. * * *   (1) انظر تفسير"وابل" فيما سلف قريبا ص: 524. (2) في المطبوعة: "والهدء"، وأثبت ما في المخطوطة. ولم يشر الطبري إلى ضم الكاف في"الأكل" وهي قراءتنا في مصحفنا. (3) أبو مضرس النهدي. (4) حماسة الشجري: 24، من أبيات جياد، وقبله، بروايته، وهي التي أثبتها: وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى ... سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ ... رَفِيقِي عَلى نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان في المطبوعة: "وما أكلة أكلتها"، وفي المخطوطة: "وما أكله إن أكلتها"، وظاهر أن الناسخ أخطأ فوضع"أكلتها" مكان"نلتها"، وإن كلام الطبري في شرح البيت يوهم روايته: "وما أكلته أكلتها ... ". وقوله: "بغرام"، أي بعذاب شديد. والغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 وأما قوله: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ) فإن"الطل"، هو النَّدَى والليِّن من المطر، كما: - 6082 - حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: (فطل) ندى = عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس. 6083 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الطل"، فالندى. 6084 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ) ، أي طشٌ. 6085 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (فطلّ) قال: الطل: الرذاذ من المطر، يعني: الليّن منه. 6086 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فطل) أي طشٌ. * * * قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعَّفتُ ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا الوابل، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه، من غير مَنِّ ولا أذى، قلَّت نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته، كما تضعَّف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 6087 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل) ، يقول: كما أضعفتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 ثمرة تلك الجنة، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين. 6088 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) ، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خُلْف، كما ليس لخير هذه الجنة خُلْف على أيّ حال، إمَّا وابلٌ، وإمّا طلّ. 6089 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله. 6090 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله) . الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن. * * * فإن قال قائل: وكيف قيل: (فإن لم يصيبها وابل فطل) وهذا خبرٌ عن أمر قد مضى؟ قيل: يراد فيه"كان"، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يكن الوابلُ أصابها، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل:"حَبَست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته"، بمعنى:"إلا أكن" - لا بدَّ من إضمار"كان"، لأنه خبر. (1) . ومنه قول الشاعر: (2) . إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ... وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا (3) * * *   (1) هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 178. (2) زائدة بن صعصعة الفقعسي. (3) سلف تخريجه وبيانه في 2: 165، 353. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: (والله بما تعملون) أيها الناس، في نفقاتكم التي تنفقونها = (بصير) ، لا يخفي عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، فيُحصي عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه، أو يفرّطَ فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد. (1) . * * * القول في تأويل قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: (2) . (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صَفوان عليه تراب فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) = (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها   (1) في المطبوعة: "بخلقه". لم يحسن قراءة المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يعنى تعالى ذكره". لا أدرى لم غيره الطابع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 من كل الثمرات وأصَابه الكبر) ، الآية. (1) * * * ومعنى قوله: (أيود أحدكم) ، أيحب أحدكم، (2) . أن تكون له جنة - يعني بستانًا (3) . = (من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار) ، يعني: من تحت الجنة = (وله فيها من كل الثمرات) ، و"الهاء" في قوله: (له) عائدة على"أحد"، و"الهاء" و"الألف" في: (فيها) على الجنة، (وأصابه) ، يعني: وأصاب أحدكم = (الكبر وله ذريه ضعفاء) . * * * وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب = الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له = (4) . مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس -بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته = (5) . في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا (6) . من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمَدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله، بأن فيها من كل الثمرات. (7) . * * *   (1) يعنى أبو جعفر: أن هذه الآية، مردودة على الآية السابقة التي ساقها. (2) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470. (3) انظر تفسير"جنة" فيما سلف قريبا: 535 تعليق: 1، ومراجعه. (4) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعًا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ". (5) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ". (6) وضعت هذا الرقم علىهذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ". (7) في المطبوعة والمخطوطة: "بعمله" والصواب ما أثبت، وسياق الجملة: "كما وصف جل ثناؤه الجنة، ... بأن فيها من كل الثمرات". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 ثم قال جل ثناؤه: (وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء) ، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر = (وله ذرية ضعفاء) صغارٌ أطفال = (1) . (فأصابها) يعني: فأصاب الجنة - (إعصار فيه نار فاحترقت) ، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار، في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره، وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها. فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار. يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مُسْتَعْتَبَ له، (2) . ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها عنه. * * * وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: (فمثله كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) . * * * قال أبو جعفر: وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي.   (1) قد مضت"ذرية" فيما سلف 3: 19، 73، ولم يفسرها. وذلك من اختصاره لتفسيره كما بينا في مقدمة الجزء الأول، وكما جاء في ترجمته. (2) لا مستعتب: أي لا استقالة ولا استدراك ولا استرضاء لله تعالى: من قولهم: "استعتبت فلانًا" أي استقلت مما فعلت، وطلبت رضاه، ورجعت عن الإساءة إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 6091 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ولا ذرية ضعفاه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. (1) . فكذلك المنفق رياء. 6092 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، (له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نار فاحترقت) ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا، وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة. 6093 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 6094 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في نفسي منها شيئًا، قال: فتلفت إليه، فقال: تحوَّل ههنا، لم تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل   (1) في المخطوطة: "ريح فيها سمره" الهاء الأخيرة متصلة بالراء، ولم أجد لها وجها، والذي في المطبوعة، هو ما في الدر المنثور 1: 340، وفي سائر الآثار الأخرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 فقال: أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه. 6095 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"، قال: هذا مثل ضرب للإنسان: يعمل عملا صالحًا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمل عمل السوء. (1) . 6096 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فيم تَرَون أنزلت:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"؟ فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا:"نعلم" أو"لا نعلم". فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها= قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه. (2) .   (1) الأثر: 6095 -"محمد بن سليم المكي أبو عثمان". روي عن ابن أبي مليكة، قال الحافظ ابن حجر: "ولم أر له رواية عن غيره". روى عنه وكيع بن الجراح، وعبد الله بن داود الخريبي، وأبو عاصم النبيل. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أشار إليه في الفتح 8: 151 في كلامه عن الأثر: 6096. (2) الأثر: 6096 -رواه البخاري من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، وأشار الحافظ في الفتح 8: 151، إلى رواية الطبري له من طريق ابن المبارك، عن ابن جريج. وكان في المطبوعة: "رحل عنى" مهملة، والصواب ما أثبت من المراجع. وانظر التعليق التالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 6097 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير= قال: ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس= قالا جميعًا: إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه= إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. (1) . 6098 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها= ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد= قالا ضربت مثلا للأعمال = قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل، يبدأ فيعمل عملا صالحًا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس: الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت. يقول: هذا مثله، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ، فلا يجد له عندي شيئًا، (2) ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، (3) كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات= قال   (1) الأثر: 6097 -رواه الحاكم في المستدرك 2: 283، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 151 وهو مكرر الذي قبله. وسلقه الحاكم بلفظة وقال"وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. (2) في المطبوعة: "تلقاه"، وفي المخطوطة "للعال" مصحفة مضطربة الخط، وهذا صواب قراءتها. (3) في المخطوطة: "من كبره وصغره أن يعملوا جنته"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت = قال ابن جريج، وقال مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، (1) وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة. 6099 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار" الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة (2) " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"،: فهذا مثلٌ، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله، فإنه قال: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) [سورة العنكبوت: 43] ، هذا رجل كبرت سنه، ورَقَّ عظمه، وكثر عياله، (3) ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه؟ 6100 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ" إلى قوله:"فاحترقت" يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب="وله ذرية ضعفاء" لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول:"فاحترقت" فذهبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ   (1) في المطبوعة: "حين أحرقت جنته"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "سموم شديدة"، و"السموم" مذكر، ويؤنث، لمعنى الريح الحارة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "دق عظمه"، والصواب بالراء، وفي حديث عثمان: "كبرت سني، ورق عظمي"، وقولهم: "رق عظم فلان"، أي كبر وضعف. والرقق (بفتحتين) . ضعف العظام، قال الشاعر في ناقته: خَطَّارَةٌ بَعْدَ غِبّ الجَهْدِ نَاجِيةٌ ... لم تَلْقَ فِي عَظْمِهَا وَهْنًا وَلا رَقَقَا . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 ما كان إليه؟ 6101 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال: (1) "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل" إلى قوله:"فيها من كل الثمرات" يقول: صنعه في شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، (2) كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، (3) ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها مهانًا، من أجل أنه [فخر على صاحبه] ووثق بما عنده، (4) ولم يستيقن أنه ملاق ربه. (5) .   (1) في المخطوطة: "وقال قال أيوب: أيود أحدكم"، وقوله: "أيوب" لا معنى له هنا، ليس في هذا الإسناد من اسمه"أيوب"، ولو كان أيضًا، لكان سياقًا مضطربًا. وظاهر أن"أيوب" هي"أيود"، والناسخ في هذا الموضع قد اضطرب. كما سترى في التعليق التالي. وصحته ما جاء في الدر المنثور 1: 340، كما سترى بعد. (2) كان بين الكلمات في المخطوطة بياض هكذا: "ذرية ضعفاء عمره فجاءه إعصار فيه نار فاحترقت عنده قوة إن نسله خير يعودون الكافر يوم القيامة إذا رد إلى خير فيستعتب"، وهو مع البياض خلط من الكلام! وأثبت ما في المطبوعة، وهو نص الأثر كما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 340، ونسبه لابن جرير، وأبي حاتم. وابن كثير في التفسير 2: 38، 39. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "كما ليس له قوة"، والصواب من الدر المنثور، وابن كثير. (4) الذي بين القوسين هو ما ثبت في المطبوعة، أما المخطوطة فكانت: "من أكل أنه ووثق بما عنده" بياض. ولم أجد بقية الأثر في المراجع السالفة، فتركت ما استظهره طابع المطبوعة على حاله. ولو استظهرته لقلت: "من أجل أنه كفر بلقاء ربه"، والله أعلم. (5) الأثر: 6101 -في الدر المنثور 1: 340، وابن كثير 2: 38، 39، كما أسلفت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 6102 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أيود أحدكم أن تكون له جنة"، الآية، قال: [هذا مثل ضربه الله] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [له فيها من كل الثمرات] ، والرجل [قد كبر سنه وضعف] ، وله أولاد صغار [وابتلاهم الله] في جنتهم، (1) فبعث الله عليها إعصارًا فيه نار فاحترقت، (2) فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، (3) ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوجَ ما كان إليها. يقول: أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان إليه؟ فيقول: ابن آدم، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير، فأين ما قدمت لنفسك؟ 6103 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وقرأ قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى"، ثم ضرب ذلك مثلا فقال:"أيود أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب"، حتى بلغ"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت". قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا؟ كما يتجمَّل أحدكم إذ يخرُج من صدقته ونفقته، (4) حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت أنهارها وثمارها،   (1) الذي وضعته بين الأقواس، هو ما استظهر الطابع في المطبوعة فيما أرجح، وكان مكانه في المخطوطة بياض. (2) كان في المخطوطة: "فبعث الله عنها إعصار فيه نار"، وهو تحريف وخطأ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب. (3) في المخطوطة: "من الكفر". وهو خطأ بين. (4) في المطبوعة"فما يحمل"، وفي المخطوطة"كما يحمل"، ثم فيهما جميعًا: "أن يخرج"، وهو كلام لا مفهوم له. واستظهرت قراءاتها كذلك، لأن الذي يخرج نفقته رئاء الناس، إنما يتجمل بذلك عندهم. وهذا هو الصواب سياق الأثر. والمخطوطة كما تبين من التعليقات السالفة، فاسدة كل الفساد من اضطراب كتابة الناسخ، ومن عجلته، أو عجزه عن قراءة النسخة التي نقل عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها. 6104 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار"، رجل غرس بستانًا فيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرًا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا. * * * قال أبو جعفر: وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من تصدق عليه بصدقة، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل، نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقُها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا معها. (1) * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"وأصابه الكبر"، وهو فعل ماض، فعطف به على قوله:"أيود أحدكم"؟ قيل: إن ذلك كذلك، لأن قوله:"أيود"، يصح أن يوضع فيه"لو" مكان"أن" فلما صلحت ب"لو" و"أن" ومعناهما جميعًا الاستقبال، استجازت العرب أن   (1) انظر ما قاله القرطبي في تفسيره 3: 318، في رد اختيار ابن جرير في تفسيره. ومذهب ابن جرير أوثق وأضبط في البيان، وفي الاستدلال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 يردّوا"فعل" بتأويل"لو" على"يفعل" مع"أن" (1) فلذلك قال:"فأصابها"، وهو في مذهبه بمنزلة"لو"، إذْ ضارعت"أن" في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت"أن" بجواب"لو" و"لو" بجواب"أن"، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر؟ (2) . فإن قال: وكيف قيل ههنا:"وله ذرية ضعفاء"، وقال في [النساء:9] ، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا) ؟ قيل: لأن"فعيلا" يجمع على"فعلاء" و"فِعال"، فيقال:"رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف. * * * وأما"الإعصار"، فإنه الريح العاصف، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود، تجمع"أعاصير"، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري: أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (3) * * *   (1) أي: أن يردوا الفعل الماضي بتأويل"لو" على الفعل المضارع مع"أن". (2) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 175، وقد استوفى الباب هناك. وانظر ما سلف في جواب"لو" بالماضي من الفعل 2: 458 /3: 184، 185، والتعليق هناك. (3) تاريخ الطبري 6: 178، والأغاني 17: 178: وسيأتي في التفسير 15: 53 مصحفًا أيضًا: "من فسق العراق المبذر". والبيت في المطبوعة والمخطوطة هنا: "من سوء العراق المنذر"، وهو كلام بلا معنى، ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك، فأشهد الله كاد يقتلني من فرط الضحك! وهو من أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع بن زياد، حين هجاه، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف 4: 293 وتعليق: 2) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة، فطاف بأشرافها من قريش يسجير بهم، فما كان منهم إلا الوعد، ثم أتي المنذر بن الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره، ووشى الوشاة به إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر. وكان المنذر في مجلس عبيد الله، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر فقال: أيها الأمير، قد أجرته! فقال: يا منذر، واله يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره على! فأمر به فسقى دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء، فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد: يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَولِي ... راَسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى ثم هجا المنذر بن الجارود فقال: تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهمُ ... وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ المُشَقَّرِ أُناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا ... ولا يمنَعُ الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ وقوله: "من فسو العراق"، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم من أهل البحرين وما جاورها، كانوا يعيرون بالفسو، لأن بلادهم بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير. والمبذر: من التبذير، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه. وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع، فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود، ألذع ما تكون، مع روعة قوله: "أعاصير"!! قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن الجارود، فقال له: وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا ... كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ!! فبلغ منه ما بلغ!! ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 298، 299، والتعليق هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت". فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدةٌ. * ذكر من قال ذلك: 6105 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إعصار فيه نار"، ريح فيها سموم شديدةٌ. 6106 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في:"إعصارٌ فيه نار"، قال: السموم الحارة التي خلق منها الجانّ، التي تحرق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 6107 - حدثنا أحمد (1) قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت"، قال: هي السموم الحارة التي لا تبقى أحدًا. (2) . 6108 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت" التي تقتل. 6109 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار. 6110 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت"، هي ريح فيها سموم شديدٌ. 6111 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"إعصار فيه نار"، قال: سموم شديد. 6112 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"إعصار فيه نار"، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة. 6113 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه. 6114 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا حميد"، والصواب: "أحمد"، وهو: "أحمد بن إسحق الأهوازي"، كما سلف مئات من المرات في روايته عن أبي أحمد الزبيري، فاطلبه في الفهارس، وانظر الآتي رقم: 6109. (2) في المطبوعة حذف قوله: "لا تبقي أحدًا"، وعلق عليه بقوله: "في بعض النسخ زيادة: "التي لا تضر أحدًا"، وهي في المخطوطة كذلك، ولكن الناسخ أفسد الكلمة، وصوابها كما أثبت: "لا تبقى أحدًا". وسيأتي في حديث التميمي عن عباس، وهو الحديث التالي: "التي تقتل". فهذا هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 السدي:"إعصار فيه نار فاحترقت" أما الإعصار فالريح، وأما النار فالسموم. 6115 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إعصار فيه نار"، يقول: ريح فيها سموم شديد. * * * وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد. * ذكر من قال ذلك: 6116 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت"، فيها صِرٌّ وبرد. (1) 6117 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إعصار فيه نار فاحترقت"، يعني بالإعصار، ريح فيها بَرْدٌ. * * * القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 266} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: كما بيَّن لكم ربُّكم تبارك وتعالى أمَر النفقة في سبيله، وكيف وجْهُها، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها = كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرّفكم أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حُججها، إنعامًا منه بذلك عليكم ="لعلكم تتفكرون"، يقول: لتتفكروا بعقولكم، فتتدبّروا وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) الصر (بكسر الصاد) . البرد الذي يضرب النبات ويحرقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 * ذكر من قال ذلك: 6118 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: قال مجاهد:"لعلكم تتفكرون" قال: تطيعون. 6119 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون" يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه. * * * ويعني بقوله:"أنفقوا"، زكُّوا وتصدقوا، كما:- 6120 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم" يقول: تصدَّقوا. * * * القول في تأويل قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيّب ما كسبتم بتصرُّفكم= إما بتجارة، وإما بصناعة= من الذهب والفضة. ويعني ب"الطيبات"، الجياد، يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهبَ والفضة، الجيادَ منها دون الرديء، كما:- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 6121 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من التجارة. 6122 - حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. 6123 - حدثني حاتم بن بكر الضبّي، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن الحكم، عن جاهد، مثله. 6124 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة الحلال. 6125 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن معقل:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون. 6126 - حدثني عصام بن روّاد بن الجراح، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من الذهب والفضة. 6127 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة. 6128 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 6129 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم" يقول: من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 أطيب أموالكم وأنفَسِه. (1) . 6130 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من هذا الذهب والفضة. (2) . * * * القول في تأويل قوله جل وعز: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض. كما:- 6131 - حدثني عصام بن رواد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليا صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة. 6132 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: النخل. 6133 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: من ثمر النخل.   (1) الأثر: 6129 -في الدر المنثور 1: 346، وسيأتي الأثر بتمامه في رقم: 6152 وقوله: "من أطيب أموالكم وأنفسه"، وهو صحيح في العربية، يعود ضمير المفرد، على الجمع في"أفعل"، وقد مضى ما قلنا في ذلك التعليق على الأثر: 5968، وإن اختلفت العبارتان وافترقتا. وانظر همع الهوامع 1: 59. (2) في المطبوعة: حذف"هذا" لغير شيء!! . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 6134 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من التجارة="ومما أخرجنا لكم من الأرض"، من الثمار. 6135 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: هذا في التمر والحب. * * * القول في تأويل قوله جل وعز: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا، ولا تقصدوا. * * * وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولا تؤموا) من"أممت"، (1) وهذه من"يممت"، (2) والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ. * * * يقال:"تأممت فلانا"، و"تيممته"، و"أممته"، بمعنى: قصدته وتعمدته، كما قال ميمون بن قيس الأعشى: تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن (3) وكما:-   (1) في المطبوعة: "ولا تأمموا"، وكذلك في القرطبي، ولكن أبا حيان في تفسيره 1: 328 قد نص على أن الطبري حكى قراءة عبد الله: "ولا تأملوا" من"أمت"، فوافق ما في المخطوطة، فأثبتها كذلك، وهي الصواب إن شاء الله. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "تيممت"، وهو سقيم، والصواب ما أثبت. وأموا المكان ويموه، بمعنى واحد، وهي على البدل، أبدلت الهمزة ياء، ولذلك كانت في مادة (أمم) من دواوين اللغة، غير الجوهري. (3) ديوانه: 16، وسيأتي في التفسير 5: 69 (بولاق) . وهو من قصيدته التي أثنى فيها على قيس بن معد يكرب الكندي، وهي أول كلمة قالها له. وقد مضت منها أبيات في 1: 345، 346، /3: 191/5: 390 وامهمه: الفلاة المقفرة البعيدة، لا ماء بها ولا أنيس، والشزن والشزونة: الغلظ من الأرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 6136 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا. 6137 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تيمموا" لا تعمدوا. 6138 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، مثله. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه ب"الخبيث": الرديء، غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد. * * * وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنوا من حشف - (1) في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم- صدقة من تمره. * ذكر من قال ذلك: 6139 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من   (1) القنو: الكباسة، وهي العذق التام بشماريخه ورطبه، هو في التمر، بمنزله العنقود من العنب، وجمعه: أقناء. والحشف: هو من التمر ما لم ينو، فإذا يبس صلب وفسد، لا طعم له ولا لحاء ولا حلاوة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 الأرض" إلى قوله:"والله غني حميد"، قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز. فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون. (1) . 6140 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب بنحوه= إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم، فيدخل قنو الحشف= ويظن أنه جائز عنه= في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، القنو الذي قد حشف، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه. (2) . 6141 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب، قال: كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ   (1) الأثر: 6139 -الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، مضى في رقم 1625: 1883، وهو لين يتكلمون فيه. وأبوة: عمرو بن محمد، ثقة جائز الحديث. أخرجه الحاكم في المستدرك،: 2: 285 من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط بن نصر، وقال: "هذا حديث غريب صحيح على شرطه مسلم، ولم يخرجاه"، وافقه الذهبى. وذكره ابن كثير في تفسير 2: 40، 41 ونسبه للحاكم، وأنه قال: "صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه" فاختلف نص كلام الحاكم. وسيأتي تمامه برقم: 6159، 6167. قوله: "جذاذ النخل"بالذال هنا وفي المستدرك. وجذ النخل جذاذا، صرمه. والأشهر فيه بالدال المهملة: "جد النخل يجده جدادا"، صرمه وقطف ثمره. والحيطان جمع حائط: وهو بستان النخل يكون عليه حائط، فإذا لم يكن عليه حائط. فهو ضاحية. وقوله: "أقناء البسر" الأقناء جمع قنو، وقد سلف في التعليق الماضي. والبسر: التمر قبل أن يرطب، سمى كذلك لغضاضته، واحدته بسرة، ثم هو بعد البسر، رطب، ثم تمر. (2) الأثر: 6140 -هذا إسناد آخر للخبر السالف وسيأتي تمامه برقم: 6160 وحشف التمر: صار حشفا. وقد مضى تفسيره في التعليق ص: 559 رقم: 1. وقوله: "جائز عنه"، أي سائغ مجزي عنه من قولهم: "جاز جوازا"، وأجاز له الشيء وجوزه: إذا سوغ له ما صنعه وأمضاه. وهو تعبير نادر لم تقيده كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 تمرهم وأردإ طعامهم، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" الآية. (1) . 6142 - حدثني عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سألت عليا عن قول الله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: فقال علي: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه، (2) فيعزل الجيد ناحية. فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، فقال عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون". 6143 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أن ابن شهاب حدثه، قال: ثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة. (3) .   (1) الأثر: 6141 -رواه البيهقي في السنن 4: 136 من طريق أبي حذيفة، عن سفيان، عن السدي بغير هذا اللفظ، وأتم منه. (2) صرم النخل والشجر يصرمه صرما وصراما: قطع ثمرها واجتناها، مثل الجذاذ والجداد فيما سلف في التعليقات ص: 560. (3) الأثر: 6143 -عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أبو مالك المصري. روي عن الزهري، ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني، وروى عنه ابن عجلان، وهو من أقرانه، وموسى بن سلمة، وابن وهب، وغيرهم من المصريين. قال النسائي، "ليس به بأس"، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 148، مترجم في التهذيب. وهذا الأثر روته النسائي، عن يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن عبد الجليلي بن حميد، في السنن 5: 43، وآخره" ... أن تؤخذ الصدقة الرذالة". وروي من طرق أخرى في سنن أبي داود 2: 149 رقم: 1607، والحاكم في المستدرك 2: 284 من طريق سفيان ابن حسين عن الزهري، ومن طريق سليمان بن كثير عن الزهري وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن 4: 136، وانظر تفسير ابن كثير 2: 42، 43. الجعرور (بضم الجيم) . ضرب من التمر صغار لا خير فيه. واللون: نوع من النخل، قيل: هو الدقل، وقيل: النخل كله ما خلا البرني والعجوة، تسميه أهل المدينة"الألوان". وابن حبيق: رجل نسب إليه هذا النخل الرديء، فقيل: لون الحبيق. وتمره رديء أغبر صغير، مع طول فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 6144 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: كانوا يتصدقون - يعني من النخل- بحشفه وشراره، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه. 6145 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" إلى قوله:"واعلموا أن الله غني حميد"، ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدق به، ويخلط فيه من الحشف، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه. 6146 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به، (1) ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه. 6147 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله، فنزلت:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون". 6148 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: في الأقناء التي تعلق، (2) فرأى فيها حشفا، فقال:   (1) رذالة كل شيء: أردؤه حين ينتقى جيده، ويبقي رديئه. وهو من رذالة الناس ورذالهم. (بضم الراء فيها جميعا) . (2) قوله: "التي تعلق" مكانها بياض في المخطوطة. وقوله بعد: "فرأى فيها حشفا"، أي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 ما هذا؟ = قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ بئسما علق هذا!! فنزلت:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون". * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون، (1) . وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب. * ذكر من قال ذلك: 6149 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد - وسألته عن قول الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، - قال: الخبيث: الحرام، لا تتيممه تنفق منه، فإن الله عز وجل لا يقبله. * * * قال أبو جعفر: وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا [عنه] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، [لصحة إسناده] ، واتفاق أهل التأويل في ذلك= (2) دون الذي قاله ابن زيد. (3) . * * * القول في تأويل قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم، و"الهاء" في قوله:"بآخذيه" من ذكر الخبيث="إلا أن تغمضوا فيه"، يعني: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فيه تنفقون"، وهو خطأ بين. (2) الزيادة بين الأقواس لا بد منها حتى يستقيم الكلام. (عنه) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة. أما الزيادة الثانية، فمكانها بياض في المخطوطة، فأغفله الطابع وساق الكلام سياقا واحدا (3) في المخطوطة: "قاله ابن" وبعد ذلك بياض. والذي في المطبوعة هو الصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 يقال منه:"أغمض فلان لفلان عن بعض حقه، فهو يغمض، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم: لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ م رجال يرضون بالإغماض (1) * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم. * ذكر من قال ذلك: 6150 - حدثنا عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليا عنه فقال:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له. 6151 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. (2) .   (1) ديوانه: 86، من قصيدة مجد فيها قومه، وقبله:: إننا معشر شمائلنا الصبر، ... إذا الخوف مال بالأحفاض نصر للذليل في ندوة الحي، ... مرائيب للثأي المنهاض من يرم جمعهم يجدهم مر ... اجيح حماة للعزل الأحراض الأحفاض: الإبل الصغار الضعاف، ويعنى الضعاف من الناس، لا يصبرون في حرب. مرائيب: من الرأب، وهو الإصلاح، مصلحون. والثأى: الفساد. والمنهاض: الذي فسد بعد صلاح فلا يرجى إصلاح إلا بمشقة. مراجيح: حلماء لا يستخفهم شيء. والأحراض: الضعاف الذين لا يقاتلون. والإغماض: التغاضي والمساهلة. يقول نحن أهل بأس وسطوة، فما أصاب منا أحد فنجا من انتقامنا، ولسنا كأقوام يرضون بالضيم، فيتغاضون عن إدراك تأثرهم ممن نال منهم. (2) الأثر: 6151 -هو من تمام الأثر: 6141. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 6152 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه، فذلك قوله:"إلا أن تغمضوا فيه"، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟ (1) . وهو قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) . [سورة آل عمران: 92] . 6153 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل. 6154 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه. 6155 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول: لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره؟ 6156 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"   (1) في المطبوعة: "وأنفسها" وأثبت ما في المخطوطة. وهذا الأثر بنصه وتمامه في الدر المنثور 1: 346، وانظر التعليق على الأثر: 6129، وقوله: "وأنفسه" بضمير الإفراد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 إلى قوله:"إلا أن تغمضوا فيه" قال: كانوا -حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة- يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره، فكره الله ذلك وقال:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"، يقول:"لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه= فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم= فيأخذ شيئا، وهو مغمض عليه، أنقص من حقه. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله -بسعر الجيد، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه. * ذكر من قال ذلك: 6157 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن الحسن:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو وجدتموه في السوق يباع، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. 6158 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه. * * * وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم، إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون، على استحياء منكم ممن أهداه لكم. * ذكر من قال ذلك: 6159 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (1) .   (1) الأثر: 6159 -هو تمام الأثر السالف: 6139. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 6160 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء نحوه= إلا أنه قال: إلا على استحياء من صاحبه، وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (1) . * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم. * ذكر من قال ذلك: 6161 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل:"ولستم بآخذيه"، يقول: ولستم بآخذيه من حق هو لكم="إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: أغمض لك من حقي. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه. * ذكر من قال ذلك: 6162 - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" -قال: يقول: لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم = قال: وفي كلام العرب: أما والله لقد أخذه، ولقد أغمض على ما فيه" = وهو يعلم أنه حرام باطل. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم، وفرضها عليهم فيها، (2) . فصار ما فرض من ذلك في أموالهم، حقا لأهل سهمان الصدقة. ثم أمرهم تعالى ذكره أن   (1) الأثر: 6160 -هو تمام الأثر السالف: 6140. (2) "وفرضها عليهم" أي الزكاة. "فيها": في أموالهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 يخرجوا من الطيب- وهو الجيد من أموالهم- الطيب. (1) وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها. فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه، بإعطائه -بمقدار حقه منه- من غيره مما هو أردأ منه أو أخس. (2) فكذلك المزكي ماله، حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان= مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق، فصاروا فيه شركاء= (3) من الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم. فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، (4) ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم. فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة، فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال   (1) قوله: "الطيب" الثانية، مفعول"يخرجوا". (2) في المطبوعة"أو أحسن"، وهو فاسد كل الفساد. والصواب من المخطوطة. (3) سياق الجملة: أن يعطى أهل السهمان ... من الخبيث الرديء غيره. (4) في المطبوعة: "وتمنعونهم الواجب ... "، والذي في المخطوطة صواب، معطوف على: "ولا تيمموا الخبيث". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن= فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته، أو لعظم خطره= وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل= من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه. (1) . * * * وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم. * ذكر من قال ذلك: 6163 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: ذلك في الزكاة، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة. 6164 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن ذلك، فقال: إنما ذلك في الزكاة، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة. 6165 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه"، فقال عبيدة: إنما هذا في الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير من التمرة.   (1) سياق هذه الجملة: ربما كان أعم نفعا لكثرته ... وأحسن موقعا من المسكين ... من الجيد لقلته ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 6166 - حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من التمرة. * * * القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها، (1) وإنما أمركم بها، وفرضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، (2) . ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم. * * * ويعني بقوله:"حميد"، أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله. كما:- 6167 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قوله:"والله غني حميد" عن صدقاتكم. (3) . * * *   (1) انظر تفسير"غنى"فيما سلف من هذا الجزء 5: 521. (2) العائل: الفقير. عال الرجل يعيل علية: افتقر. (3) الأثر: 6167 -هو تمام الأثر السالف: 6139. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 القول في تأويل قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"الشيطان يعدكم"، أيها الناس- بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم (1) - أن تفتقروا="ويأمركم بالفحشاء"، يعني: ويأمركم بمعاصي الله عز وجل، وترك طاعته= (2) "والله يعدكم مغفرة منه" (3) يعني أن الله عز وجل يعدكم أيها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم، بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون="وفضلا" يعني: ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم. (4) . كما:- 6168 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اثنان من الله، واثنان من الشيطان:"الشيطان يعدكم الفقر"، يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه= ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه"، على هذه المعاصي="وفضلا" في الرزق. 6169 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا"، يقول: مغفرة لفحشائكم، وفضلا لفقركم. 6170 - حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب،   (1) قوله: "بالصدقة ... "، أي بسبب الصدقة، وهي جملة فاصلة، والسياق"يعدكم ... أن تفتقروا"، كما هو بين. (2) انظر ما سلف في تفسير"الفحشاء" 3: 302. (3) انظر تفسير"المغفرة"، فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 /ثم 5: 164. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 عن مرة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء". (1) 6171 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان، قال: حدثنا عمرو، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله، قال: إن للإنسان من الملك لمة، ومن الشيطان لمة. فاللمة من الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، واللمة من الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وتلا عبد الله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا"= قال عمرو: وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان. (2) . 6172 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص= أو عن مرة= قال: قال عبد الله: ألا إن للملك لمة وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وذلكم بأن الله يقول: (3) . "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم"، فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان. (4) .   (1) الحديث: 6170 -أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الكوفي الحافظ. سبق توثيقه: 20158. عطاء بن السائب: مضى في: 158، 4433 أنه تغير في آخر عمره، وأن من سمع منه قديما فحديثه صحيح. والظاهر من مجموع كلامهم أن اختلاطه كان حين قدم البصرة. قال أبو حاتم: "في حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة، لأنه قدم عليهم في آخر عمره". وعطاء كوفي، والراوي عنه هنا أبو الأحوص كوفي أيضًا. فالظاهر أنه سمع منه قبل الاختلاط. مرة: هو مرة الطيب، وهو ابن شراحيل الهمداني الكوفي. مضت ترجمته: 2521. عبد الله: هو ابن مسعود. والحديث رواه الترمذي 4: 77 -78، عن هناد -وهو ابن السري، شيخ الطبري هنا -بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث حسن غريب [وفي بعض نسخه: حسن صحيح غريب] . وهو حديث أبي الأحوص. لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص". وذكره ابن كثير 2: 44، من رواية ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة، عن هناد. ووقع في إسناده هناك تخليط من الناسخين. ثم أشار إلى بعض رواياته مرفوعا وموقوفا. وذكر ابن كثير أنه رواه أيضًا النسائي في كتاب التفسير من سننه، عن هناد بن السري. وأنه رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلي الموصلي، عن هناد. وكتاب التفسير في النسائي إنما هو في السنن الكبرى. وذكره السيوطي 1: 348، وزاد نسبته لابن المنذر، والبيهقي في الشعب. وسيأتي بنحوه، موقونا على ابن مسعود: 6171، 6172، 6174، 6176، من رواية عطاء، عن مرة، عن مسعود. ويأتي موقونا أيضًا: 6173، من رواية الزهري، عن عبيد الله، عن ابن مسعود. و: 6175، من رواية المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن ابن مسعود. وكأن الترمذي -وتبعه ابن كثير -يريدان الإشارة إلى تعليل هذا الإسناد المرفوع، برواية الحديث موقوفا. ولكن هذه علة غير قادحة بعد صحة الإسناد. فإن الرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة. وأيضًا: فإن هذا الحديث مما يعلم بالرأي، ولا يدخله القياس، فلا يعلم إلا بالوحي من المعصوم صلى الله عليه وسلم. فالروايات الموقوفة لفظا، هي مرفوعة حكما. (2) الحديث: 6171 -الحكم بن بشير بن سلمان: مضت ترجمته في: 1497. ووقع اسم جده في المطبوعة هنا"سليمان"، وهو خطأ. عمرو: هو ابن قيس الملائي. مضت ترجمته في: 886. والحديث في معنى ما قبله. وهو هنا موقوف لفظا، ولكنه مرفوع حكما، كما ذكرنا. ولكن قول عمرو بن قيس في آخره: "وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال ... " -يكون بلاغا منقطعا في هذا الإسناد، وأن كان صحيحا في ذاته بالأسانيد الأخر. (3) في المطبوعة: "وذلكم بأن الله ... " بزيادة واو، وأثبت ما في المخطوطة. (4) الحديث: 6172 -أبو الأحوص -شيخ عطاء بن السائب: هو عوف بن مالك ابن نضلة، وهو تابعي ثقة معروف، وثقه ابن معين وغيره. وتردد عطاء بن السائب في أنه عن"أبي الأحوص" هذا، أو عن"مرة الطيب" -لا يؤثر في صحة الحديث، فأنه انتقال من ثقة إلى ثقة. ولعله مما أخطأ فيه عطاء، لأن ابن علية بصري، فيكون ممن سمع منه بعد تغيره. وقد نص على ذلك الدار قطي، كما في ترجمة عطاء في التهذيب. ولكن ذكر ابن كثير 2: 44 أنه رواه"مسعر، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود. فجعله من قوله. فهذا يثبت حفظ رواية عطاء إياه عن أبي الأحوص أيضًا. لأن مسعر بن كدام كوفي قديم، من طبقة شعبة والثوري، فهو ممن سمع من عطاء قبل تغيره. ولم يشر ابن كثير إلى شيء من الروايات الموقوفة لهذا الحديث، إلا إلى رواية مسعر وحده. والروايات الموقوفة بين يديه في الطبري ستة كما ترى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 6173 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء"، قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله؛ ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ بالله. (1) . 6174 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاده بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. (2) فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه. ثم تلا هذه الآية:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم". (3) . 6175 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن فطر، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن عبد الله، بنحوه. (4) .   (1) الحديث: 6173 -وهذا إسناد صحيح آخر للحديث، من وجه آخر، يؤيد رواية عطاء بن السائب. وهو وإن كان موقوفا لفظا فهو مرفوع حكما، كما قلنا من قبل. (2) في المطبوعة: "إيعاد بالخير ... إيعاد بالشر" بغير إضافتها إلى الضمير. وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. وصواب أيضًا يقرآا جميعا"ايعادةٌ"، على معنى المرة من"الإيعاد". (3) الحديث: 6174 -وهذا إسناد صحيح. لأن حماد بن سلمة سمع من عطاء قبل تغيره، كما نص عليه يعقوب بن سفيان وابن الجارود، في نقل التهذيب عنهما 7: 207. (4) الحديث: 6175 -فطر -بكسر الفاء وسكون الطاء المهملة وآخره راء: هو ابن خليفة الكوفي، وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي: تابعي ثقة، مضى في: 128. عامر بن عبدة -بفتح العين المهملة والباء الموحدة -البجلي، أبو إياس الكوفي: تابعي ثقة، والكني للدولابي 1: 115، والمشتبه للذهبي، ص: 339. وهذا إسناد ثالث للحديث صحيح، من وجه آخر، يؤيد روايات عطاء عن مرة، وأبي الأحوص عن ابن مسعود، ورواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 6176 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن للشيطان لمة، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق وإيعاد بالشر، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه. ومن وجد الأخرى فليستعذ من الشيطان. ثم قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا". (1) . * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله واسع" الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه= (2) "عليم" بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم. * * *   (1) الحديث: 6176 -وهذا إسناد حسن، لأن سماع جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي -من عطاء كان بعد تغيره ولكنه يرتفع إلى درجة الصحة بالمتابعات السابقة الصحيحة. (2) انظر تفسير"واسع عليم"فيما سلف 2: 537 /ثم 5: 516. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 القول في تأويل قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا. * * * واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم،"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع، هي: القرآن والفقه به. * ذكر من قال ذلك: 6177 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) ، يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. 6178 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن. 6179 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، والحكمة: الفقه في القرآن. 6180 - حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، قال: الكتاب والفهم به. (1) . 6181 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء" الآية، قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه. 6182 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن. * * * وقال آخرون: معنى"الحكمة"، الإصابة في القول والفعل. * ذكر من قال ذلك: 6183 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا قال:"ومن يؤت الحكمة"، قال: الإصابة. 6184 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: يؤتي إصابته من يشاء. 6185 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: الكتاب، يؤتي إصابته من يشاء. * * *   (1) الأثر: 6180 -"محمد بن عبد الله الهلالي" هو: محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي، أبو مسعود البصري، روي عن جده عبيد بن عقيل، وعثمان بن عمر بن فارس، وعمرو ابن عاصم الكلابى وغيرهم، وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. قال النسائي: "لا بأس به". وقال مسلمة: "ثقة". "مسلم بن إبراهيم" الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري الحافظ. قال ابن معين: "ثقة مأمون". وكان يقول: "ما أتيت حلالا ولا حراما قط"، وقال أبو حاتم: "كان لا يحتاج إليه". وكان من المتقنين. مات سنة 222. "مهدي بن ميمون" الأزدي المعولي. كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 171. "شعيب بن الحبحاب" و"المعولي" بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو. وكان في المطبوعة: "والفهم فيه". وهي صواب في المعنى، جيد في العربية وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب جيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 وقال آخرون: هو العلم بالدين. * ذكر من قال ذلك: 6186 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"يؤتي الحكمة من يشاء" العقل في الدين، وقرأ:"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا". 6187 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل. 6188 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له. * * * وقال آخرون:"الحكمة" الفهم. * ذكر من قال ذلك: 6190 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. (1) . * * * وقال آخرون: هي الخشية. * ذكر من قال ذلك: 6191 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة" الآية، قال:"الحكمة" الخشية، لأن رأس كل شيء خشية الله. وقرأ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) . [سورة فاطر: 28] . * * *   (1) الأثر: 6190 -"أبو حمزة" هو أبو حمزة الأعور القصاب الكوفي، وهو صاحب إبراهيم النخعي. قال البخاري: "ليس بذاك". وقال: "ضعيف ذاهب الحديث". قال أبو موسى: "ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عن: سفيان، عن أبي حمزة، قط". وقال ابن عدي: "وأحاديثه خاصة عن إبراهيم، مما لا يتابع عليه". مترجم في التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 وقال آخرون: هي النبوة. * ذكر من قال ذلك: 6192 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة"، الآية، قال: الحكمة: هي النبوة. * * * وقد بينا فيما مضى معنى"الحكمة"- وأنها مأخوذة من"الحكم" وفصل القضاء، وأنها الإصابة - بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. (1) . * * * وإذا كان ذلك كذلك معناه، (2) كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما، (3) . وكانت النبوة من أقسامه. لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور،"والنبوة" بعض معاني"الحكمة". * * * فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا. * * *   (1) انظر تفسير"الحكمة"فيما سلف 3: 87، 88، 211 /ثم 5: 15، 16، 371. (2) في المطبوعة: "فإذا كان ذلك ... " بالفاء، ولا معنى لتغيير ما هو في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فهما خاشيا ... ". وفي المخطوطة: "ففهما"، والصواب قراءتها كما أثبت، بدليل معناه الذي أراده، من إدخال الأنبياء في معنى ذلك، وبدليل قوله بعد: "مفهمون ... ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 القول في تأويل قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (269) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات = التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به غيرهم= (1) فيها وفي غيرها من آي كتابه= (2) فيذكر وعده ووعيده فيها، فينزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به="إلا أولوا الألباب"، يعني: إلا أولوا العقول، الذين عقلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه. (3) . فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول. * * *   (1) في المطبوعة: "بما وعظ به غيرهم"، وهو غير مستقيم تمام الاستقامة في السياق. وفي المخطوطة: "بما وعظهم به غيرهم"، والصواب أن تزاد"الواو" قبل"غيرهم"، ليستقيم السياق. (2) سياق الجملة: "وما يتعظ بما وعظه به ربه في هذه الآيات ... فيذكر وعده ووعيده ... " وما بينهما فصل. (3) انظر تفسير"الألباب"فيما سلف 3: 383 / 4: 162. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 القول في تأويل قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأي نفقة أنفقتم- يعني أي صدقة تصدقتم- (1) أو أي نذر نذرتم= يعني"بالنذر"، ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله، وتقربا به إليه: من صدقة أو عمل خير="فإن الله يعلمه"،   (1) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف 5: 555. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 أي أن جميع ذلك بعلم الله، (1) لا يعزب عنه منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك. فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف، ومن كانت نفقته وصدقته رئاء الناس ونذوره للشيطان، جازاه بالذي أوعده، من العقاب وأليم العذاب، كالذي:- 6193 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه"، ويحصيه. 6194 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال:"وما للظالمين من أنصار"، يعني: وما لمن أنفق ماله رئاء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته="من أنصار"، وهم جمع"نصير"، كما"الأشراف" جمع"شريف". (2) ويعني بقوله:"من أنصار"، من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش، ولا بفدية. * * * وقد دللنا على أن"الظالم" هو الواضع للشيء في غير موضعه. (3) . * * * وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته، ظالما، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه، ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه. * * *   (1) في المخطوطة: "فإن الله يعلم"، والصواب هنا ما في المطبوعة. ثم في المطبوعة: "جميع ذلك بعلم الله"، وأثبت الصواب من المخطوطة. (2) انظر معنى"النصر" و"النصير" فيما سلف 2: 489، 564. (3) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524 /2: 369، 519/ 4: 584، وغيرها من المواضع، اطلبها في فهرس اللغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال:"فإن الله يعلمه"، ولم يقل:"يعلمهما"، وقد ذكر النذر والنفقة. قيل: إنما قال:"فإن الله يعلمه"، لأنه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحد الكناية. (1) . * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن تبدوا الصدقات"، إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه="فنعما هي"، يقول: فنعم الشيء هي="وإن تخفوها"، يقول: وإن تستروها فلم تعلنوها= (2) "وتؤتوها الفقراء"، يعني: وتعطوها الفقراء في السر= (3) "فهو خير لكم"، يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوع، كما:- 6195 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. 6196 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، قال: كل مقبول إذا كانت النية صادقة،   (1) الكناية، والمكني: هو الضمير، في اصطلاح الكوفيين والبغداديين وغيرهم. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن تعلنوها"، وهو فاسد السياق، والصواب ما أثبت، (3) انظر معنى"الإيتاء"، في مادة "أتى" من فهارس اللغة فيما سلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. 6197 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة: علانيتها أفضل من سرها، يقال بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. (1) . 6198 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، قال: يقول: هو سوى الزكاة. (2) . * * * وقال آخرون: إنما عنى الله عز وجل بقوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي"، إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع، فإخفاؤه أفضل من علانيته. * ذكر من قال ذلك: 6199 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية: (3) " إن تبدوا الصدقات فنعما هي"، في الصدقة على اليهود والنصارى. (4) .   (1) في المطبوعة: "في الأشياء كلها"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر 6198 -مضى رجال هذا الإسناد برقم: 5000، 5009، ويأتي برقم: 6200. (3) في المطبوعة: "هذه آية" وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. (4) الأثر: 6199 -"عبد الرحمن بن شريح بن عبد الله بن محمود بن المعافري"، أبو شريح الاسكندراني. قال أحمد: ثقة: توفي بالإسكندرية سنة 167، وكانت له عبادة وفضل. مترجم في التهذيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 6200 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر= قال عبد الله: أحب أن تعطى في العلانية= يعني الزكاة. * * * قال أبو جعفر: ولم يخصص الله من قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي" [شيئا دون شيء] ، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، (1) فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية، حكم سائر الفرائض غيرها. * * * القول في تأويل قوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك. فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: (وتكفر عنكم) بالتاء. ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم. * * * وقرأ آخرون: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) بالياء، بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم، على ما ذكر في الآية من سيئاتكم. * * *   (1) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة، فزدت ما بين القوسين لتستقيم العبارة بعض الاستقامة، ولا أشك أنه كان في الكلام سقط من ناسخ، فأتمته بأقل الألفاظ دلالة على المعنى. وقد مضى كثير من سهو الناسخ في القسم من التفسير، وسيأتي في هذا القسم من التفسير، وسيأتي بعد قليل دليل على ذلك في رقم: 6209. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة، (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم= بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته، بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك، فهو مجزوم على موضع"الفاء" في قوله:"فهو خير لكم". لأن"الفاء" هنالك حلت محل جواب الجزاء. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع" الفاء"، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع، وإنما الجزم تجويزه؟ (1) . قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير- أعني تكفير الله من سيئات المصدق= لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته. لأن ذلك إذا جزم، مؤذن بما قلنا لا محالة، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين، على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم، لأن ما بعد"الفاء" في جواب الجزاء استئناف، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه، في أنه غير داخل في الجزاء، ولذلك من العلة، اخترنا جزم"نكفر" عطفا به على موضع   (1) في المطبوعة: "تجويز" بغير إضافة، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 الفاء من قوله:"فهو خير لكم" وقراءته بالنون. (1) . * * * فإن قال قائل: وما وجه دخول"من" في قوله:"ونكفر عنكم من سيئاتكم" قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه. * * * وقال بعض نحويي البصرة: معنى"من" الإسقاط من هذا الموضع، (2) ويتأول معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم. * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله بما تعملون" في صدقاتكم، من إخفائها، وإعلان وإسرار بها وجهار، (3) وفي غير ذلك من أعمالكم="خبير" يعني بذلك ذو خبرة وعلم، (4) لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله، حتى يوفيهم ثواب جميعه، وجزاء قليله وكثيره. * * *   (1) هذا من دقيق نظر أبي جعفر في معاني التأويل، ووجوده اختيار القراءات. ولو قد وصلنا كتابه في القراءات، الذي ذكره في الجزء الأول: 148، وذكر فيه اختياره من القراءة، والعلل الموجبة صحة ما اختاره - لجاءنا كتاب لطيف المداخل والمخارج، فيما نستظهر. (2) "الإسقاط" يعنى به: الزيادة، والحذف، وهو الذي يسمى أيضًا"صلة"، كما مضى مرارا، واطلبه في فهرس المصطلحات. (3) في المطبوعة: "وإجهار"، والصواب من المخطوطة. (4) انظر تفسير"خبير"فيما سلف 1: 496 /ثم 5: 94. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 القول في تأويل قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة، كما:- 6201 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصدق على المشركين، فنزلت:"وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله"، فتصدق عليهم. 6202 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء". (1) . 6203 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل،   (1) الأثر: 6202 -"جعفر بن إياس"، هو ابن أبي وحشية اليشكري، أبو بشر الواسطي. ثقة، وهو من أثبت الناس في سعيد بن جبير. واختلف في سنة وفاته بين سنة 123 وسنة: 131. مترجم في التهذيب. وروي الأثر ابن كثير في تفسيره 2: 49 عن أبي عبد الرحمن النسائي بإسناده، وقال: وكذا رواه أبو حذيفة، وابن المبارك، وأبو أحمد الزبيري، وأبو داود الحضرمي، عن سفيان -وهو الثوري - به". ولم ينسبه لأبي جعفر، وهذا دليل على ما قدمته في تصدير الأجزاء السالفة أن ابن كثير وغيره، قد أقلوا النقل عن أبي جعفر بعد الجزء الأول من تفسيره. "رضخ له من ماله يرضخ رضخا، ورضخ له من ماله رضيخة": أعطاه عطية مقاربة، بين القليل والكثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين، حتى نزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء". 6204 - حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" فرخص لهم. 6205 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت:"ليس عليك هداهم ... " الآية. 6206 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله قالوا: أنتصدق على من ليس من أهل ديننا؟ فأنزل الله في ذلك القرآن:"ليس عليك هداهم". 6207 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء"، قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج، فلا يتصدق عليه، يقول: ليس من أهل ديني!! فأنزل الله عز وجل:"ليس عليك هداهم" الآية. 6208 - حدثني موسى، قال: (1) حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن   (1) الأثر: 6208 -في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد، قال حدثنا عمرو ... "، والصواب"موسى" وهو موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد" وهو إسناد دائر من أول التفسير. وسيأتي هذا الأثر نفسه، وتتمته برقم: 6211، وبإسناده على صوابه. وقد مضى بيان أخي السيد أحمد عن هذا الإسناد في الأثر رقم: 168. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين، وأما"النفقة" فبين أهلها. 6209 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يتصدقون [على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم. فنزلت: هذه الآية، مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام] . (1) . * * * .......................................................................... .......................................................................... * * * كما:- 6210 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"يوف إليكم وأنتم لا تظلمون"، قال: هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك. (2) . * * *   (1) الأثر: 6209 -كان الكلام مبتورا في الموضع من المخطوطة والمطبوعة، ولكن الناسخ ساقه سياقا واحدا هكذا: "كانوا يتصدقون، كما حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب ... " وقد أشرت في ص: 584، التعليق: وغيره من تعليقاتي السالفة، إلى ما وقع فيه الناسخ من الغفلة والسهو. وقد زدت ما بين القوسين مما رواه القرطبي في تفسيره 3: 337، قال روي سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية: "أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة. . . " إلى آخر ما نقلت. فرجحت أن هذا الأثر الساقط من هذا الموضع، فأثبته بنصه من القرطبي، ولكن بقى صدر الكلام الآتي مبتورا، فوضعت نقطا مكان هذا البتر. (2) الأثر: 6210 -ما قبل هذا الأثر بتر لا أستطيع أن أقدر مبلغه. وأخرج الأثر السيوطي في الدر المنثور 1: 357 -358. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 القول في تأويل قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) } قال أبو جعفر: أما قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. "واللام" التي في"الفقراء" مردودة على موضع"اللام" في"فلأنفسكم" كأنه قال:"وما تنفقوا من خير" - يعني به: وما تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. فلما اعترض في الكلام بقوله:"فلأنفسكم"، فأدخل"الفاء" التي هي جواب الجزاء فيه، تركت إعادتها في قوله:"للفقراء"، إذ كان الكلام مفهوما معناه، كما:- 6211 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما:"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين. وأما"النفقة" فبين أهلها، فقال:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله". (1) . * * * وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 6211- انظر الأثر السالف رقم: 6208 والتعليق عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 6212 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، مهاجري قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالصدقة عليهم. 6213 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، قال: هم فقراء المهاجرين بالمدينة. 6214 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدى:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: فقراء المهاجرين. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: الذين جَعلهم جهادُهم عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون تصرّفًا. (1) . * * * وقد دللنا فيما مضى قبلُ على أن معنى"الإحصار"، تصيير الرجل المحصَر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوَّه، وغير ذلك من علله، إلى حالة يحبس نفسَه فيها عن التصرُّف في أسبابه، بما فيه الكفاية فيما مضى قبل. (2) . * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، (3) . فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك:   (1) التصرف: الكسب. يقال "فلان يصرف لعياله، ويتصرف لهم، ويصطرف"، أي يكتسب لهم. وهو من الصرف والتصرف: وهو التقلب والحيلة. (2) انظر ما سلف 4: 21 -26. (3) في المخطوطة: "وقال: اختلف أهل التأويل ... ". وهما سواء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 6215 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو. 6216 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: كانت الأرض كلُّها كفرًا، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كُفر= وقيل: كانت الأرضُ كلها حربًا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله عز وجل:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، كانوا ههنا في سبيل الله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرُّف. * ذكر من قال ذلك: 6217 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، حصرهم المشركون في المدينة. * * * قال أبو جعفر: ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ، لكان الكلام: للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله، ولكنه"أحصِروا"، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبَسوا -وهم في سبيل الله- أنفسَهم، لا أنّ العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم. وإنما يقال لمن حبسه العدوّ:"حصره العدوّ"، وإذا كان الرّجل المحبَّس من خوف العدوّ، قيل:"أحصره خوفُ العدّو". (1) . * * *   (1) انظر تفضيل ذلك فيما سلف 4: 21 -26. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب، (1) فيستغنوا عن الصدقات، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم. كما:- 6218 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض" حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارةً. 6219 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، يعني التجارة. 6220 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل الله. * * * القول في تأويل قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك:"يحسبهم الجاهل" بأمرهم وحالهم="أغنياء" من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء. كما:- 6221 - حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) في المخطوطة: "المكاسر"، وهو دليل مبين عن غفلة الناسخ وعجلته، كما أسلفت مرارًا كثيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 قوله:"يحسبهم الجاهل أغنياء"، يقول: يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. (1) . * * * ويعني بقوله:"منَ التعفف"، من تَرْك مسألة الناس. * * * وهو"التفعُّل" من"العفة" عن الشيء، والعفة عن الشيء، تركه، كما قال رؤبة: * فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ* (2) يعني بَرئ وتجنَّبَ. * * * القول في تأويل قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"تعرفهم" يا محمد="بسيماهم"، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [سورة الفتح: 29] ، هذه لغة قريش. ومن العرب من يقول:"بسيمائهم" فيمدها. وأما ثقيف وبعض أسَدٍ، فإنهم يقولون:"بسيميائهم"; ومن ذلك قول الشاعر: (3) .   (1) الأثر: 6221 -كان الإسناد في المطبوعة والمخطوطة: "كما حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ... " أسقط الناسخ من الإسناد"حدثنا بشر قال"، كما زدته، وهو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم: 6206. (2) مضى تخريج هذا البيت وتفسيره في 5: 110، ولم يذكر هناك مجيء ذكره في هذا الموضع من التفسير، فقيده هناك. (3) هو ابن عنقاء الفزاري، وعنقاء أمه، وقد اختلف في اسمه، فقال القالي في أماليه 1: 237: "أسيد"، وقال الآمدي في المؤلف والمختلف: 159، وقال المرزباني في معجم الشعراء: "فيس بن بجرة" (بالجيم) ، أو"عبد قيس بن بجرة"، وفي النقائض: 106"عبد قيس ابن بحرة" بالحاء الساكنة وفتح الباء، وهكذا كان في أصل اللآليء شرح أماني القالي: 543، وغيره العلامة الراجكوتي"بجرة" بضم الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة في ترجمة"قيس بن بجرة" وفي هذه الترجمة أخطاء كثيرة. وذكر شيخنا سيد بن علي المرصفي في شرح الكامل 1: 108 أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو. وهذا كاف في تعيين الاختلاف. وابن عنقاء، عاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام كبيرًا، وأسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (1) * * *   (1) يأتي في التفسير 4: 55 /8: 141 (بولاق) والأغاني 17: 117، الكامل 1: 14، المؤلف والمختلف، ومعجم الشعراء: 159، 323، أمالى القالي 1: 237، الحماسة 4: 68، وسمط اللآليء: 543، وغيرها كثير. من أبيات جياد في قصة، ذكرها القالي في أماليه. وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولسانًا، فطال عمره، ونكبه دهره، فاختلت حاله، فمر عميلة بن كلدة الفزاري، وهو غلام جميل من سادات فزارة، فسلم عليه وقال: ياعم، ما أصارك إلى ما أدري؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصوني وجهى عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من حالك. فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله، فقالت: لقد غرك كلام جنح ليل!! فبات متململا بين اليأس والرجاء. فلما كان السحر، سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة ماله شطرين وساهمه عليه، فقال ابن عنقاء فيه يمجده: رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ... إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ... عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ... وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ... ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ... فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه ... تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ وهذا شعر حر، ينبع من نفس حرة. هذا وقد روي الطبري في 8: 141"رماه الله بالحسن إذ رمي". وقال أبو رياش فيما انتقده على أبي العباس المبرد: "لا يروي بيت ابن عنقاء: "رماه الله بالحسن ... " إلا أعمى البصيرة، لأن الحسن مولود، وإنما هو: رماه الله بالخير يافعًا". وقوله: "لا تشق على البصر"، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو غيرهما، بل تجلي بها العين، وتسر النفس وترتاح إليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 وقد اختلف أهل التأويل في"السيما" التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم، وأنهم يعرفون بها. (1) فقال بعضهم: هو التخشُّع والتواضع. ذكر من قال ذلك: 6222 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تعرفهم بسيماهم" قال: التخشُّع. 6223 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 6224 - حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، قال: كان مجاهد يقول: هو التخشُّع. * * * وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم. * ذكر من قال ذلك: 6225 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"تعرفهم بسيماهم"، بسيما الفقر عليهم. 6226 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"تعرفهم بسيماهم"، يقول: تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا: الجوعُ خفيّ. * ذكر من قال ذلك: 6227 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وصفت صفتهم"، وهو مخالف للسياق، والصواب ما أثبت، وصف الله صفتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 596 "تعرفهم بسيماهم" قال: السيما: رثاثة ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها [أن] تخفى على الناس. (1) . * * * قال أبو جعفر: وأول الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة. وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله (2) نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته. * * * القول في تأويل قوله: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} قال أبو جعفر: يقال:" قد ألحف السائل في مسألته"، إذا ألحّ="فهو يُلحف فيها إلحافًا". * * *   (1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لتستقيم العبارة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "كما وصفهم الله"، والسياق يقتضي ما أثبت. والمخطوطة التي نقلت عنها، فيما نظن، كل النسخ المخطوطة التي طبع عنها، مضطربة الخط، كما سلف الدليل على ذلك مرارًا، وفي هذا الموضع من كتابة الناسخ بخاصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف؟ قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف، (1) وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم، لم تكن صفتُهم التعفف، ولم يكن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم. وفي الخبر الذي:- 6228 - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقًا، فكان أوّل ما واجهني به:"من استعفّ أعفَّه الله، ومَن استغنى أغناهُ الله، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئًا نجده". قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فيُعِفَّني الله! فرجعت، فما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا فغرَّقَتنا، إلا من عَصَم الله. (2) . * * *   (1) في المطبوعة: "إلحافا وغير إلحاف"، بالواو، وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 181، وقد قال: "ومثله قولك في الكلام: قلما رأيت مثل هذا الرجل! ، ولعلك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه" وسيأتي بعد، في ص: 599، وفي اللسان (لحف) ، وذكر الآية: "أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف، كما قال امرؤ القيس [يصف طريقًا غير مسلوكة: عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ... [إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا] المعنى: "ليس به منار فيهتدى به". (2) الحديث: 6228 -إسناده صحيح. هلال بن حصن، أخو بني مرة بن عباد، من بني قيس بن ثعلبة: تابعى ثقة. ذكره ابن حبّان في الثقات، ص: 364، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2/ 204، وابن أبي حاتم 4 /2/ 73 -فلم يذكرا فيه جرحا. وهو مترجم في التعجيل، ص: 434. والحديث رواه أحمد في المسند: 14221، 14222 (ج 3 ص 44 حلبي) ، عن محمد بن جعفر وحجاج، ثم عن حسين بن محمد -ثلاثتهم عن شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد. فذكر نحوه بأطول منه. وهذا أيضًا إسناد صحيح. أبو حمزة: هو البصري"جار شعبة"، عرف بهذا. واسمه: عبد الرحمن بن عبد الله المازني"، ثقة، مترجم في التهذيب 6: 219. وقد ثبت في ترجمة"هلال بن حصن" -في الكبير، وابن أبي حاتم، والثقات، والتعجيل، أنه روى عنه أيضًا"أبو حمزة". وشك في صحة ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني مصحح التاريخ الكبير، واستظهر أن يكون صوابه "أبو جمرة"، يعنى نصر بن عمران الضبعي. ولكن يرفع هذا الشك أنه في المسند أيضًا "أبو حمزة". لاتفاقه مع ما ثبت في التراجم. " أعوز الرجل فهو معوز": ساءت حاله وحل عليه الفقر. "أعنق الرجل إلى الشيء يعنق": أسرع إليه إسراعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 (1) . =الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأنَّ من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. (2) . * * * فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله:"لا يسألون الناس إلحافا"، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير إلحاف (3) . قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف، وعرّف عبادَه أنهم ليسوا أهل مسألة بحالٍ بقوله:"يحسبهم الجاهلُ أغنياء من التعفف"، وأنهم إنما يُعرفون بالسيما- زاد عبادَه إبانة لأمرهم، وحُسنَ ثناءٍ عليهم، بنفي الشَّره والضراعة التي تكون في الملحِّين من السُّؤَّال، عنهم. (4) . وقد كان بعضُ القائلين يقول: (5) ذلك نظيرُ قول القائل:" قلَّما رأيتُ مثلَ   (1) سياق الكلام: "وفي الخبر ... الدلالة الواضحة ... " (2) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص598. (3) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص598. (4) "السؤال" جمع سائل، على زنة""جاهل وجهال". والسياق: "بنفي الشره ... عنهم". (5) في المطبوعة: و "قال: كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل" هو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "وقال كاد بعض القائلين يقول ... "وسائره كالذي كان في المطبوعة" وهو أشدّ اختلالا وفسادًا. وصواب العبارة ما استظهرته فأثبته. وهذا الذي حكاه أبو جعفر هو قول الفراء في معاني القرآن 1: 181، كما سلف في ص: 598 التعليق: 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 فلان"! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا نظيرًا. * * * وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 6229 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: لا يلحفون في المسألة. 6230 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: هو الذي يلح في المسألة. 6231 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء السائلَ الملحفَ= قال: وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الله عز وجل كره لكم ثلاثًا: قيلا وقالا (1) وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال. فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته، حتى يُلقى جيفةً على فراشه، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال [ينفقه] في شهوته ولذاته وملاعبه، (2) . وَيعدِ له عن حقّ الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم. .......................................................................... .......................................................................... (3) .   (1) في المطبوعة: "قيل وقال" وهو صواب، وهما فعلان من قولهم"قيل كذا" و"قال كذا"، وهو نهى عن القول بما لا يصح ولا يعلم. وأثبت ما في المخطوطة، وهما مصدران بمعنى الإشارة إلى هذين الفعلين الماضين، يجعلان حكاية متضمنة للضمير والإعراب، على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، فيدخل عليهما حرف التعريف لذلك فيقال: "القيل والقال". (2) في المخطوطة: "ذا مال في شهوته" وبين الكلامين بياض، أما في المطبوعة والدر المنثور 1: 363، فساقه سياقًا مطردًا: "ذا مال في شهوته"، ولكنه لا يستقم مع قوله بعد: "ويعدله عن حق الله"، فلذلك وضعت ما بين القوسين استظهارًا حتى يعتدل جانبا هذه العبارة. (3) هذه النقط دلالة على أنه قد سقط من الناسخ كلام لا ندري ما هو، ففي المخطوطة في إثر الأثر السالف 6231، الأثر الآتي: 6232 "حدثنا يعقوب بن إبراهيم. . . ". وقد تنبه طابع المطبوعة، فرأي أن الأثر الآتي، هو من تفسير الآية التي أثبتها وأثبتناها اتباعًا له، والذي لا شك فيه أنه قد سقط من الكلام في هذا الموضع تفسير بقية الآتية: "وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم" وشيء قبله، وشيء بعده، لم أستطع أن أجد ما يدلني عليه في كتاب آخر، ولكن سياق الأقوال التي ساقها الطبري دال على هذا الخرم. وهذا دليل آخر على شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) } [قال أبو جعفر] : .......................................................................... .......................................................................... * * * 6232 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر، عن أيمن بن نابل، قال: حدثني شيخ من غافق: أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطةً بين البرَاذين والهُجْن. فيقول: أهل هذه - يعني الخيل- من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزَنون. (1) . * * * وقال آخرون: عنى بذلك قومًا أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير. * ذكر من قال ذلك: 6233 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) الأثر: 6232 -"أيمن بن نابل الحبشي" أبو عمران المكي، نزيل عسقلان، مولي آل أبي بكر. روي عن قدامة بن عبد الله العامرى، وعن أبيه نابل، والقاسم بن محمد، وطاوس. وروى عنه موسى بن عقبة، وهو من أقرانه، ومعتمر بن سليمان، ووكيع وابن مهدي، وعبد الرزاق، وغيرهم. وهو ثقة، وكان لا يفصح، فيه لكنه. وعاش إلى خلافة المهدي. مترجم في التهذيب. والبراذين جمع برذون (بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال وسكون الواو) : وهو ما كان من الخيل من نتاج غير العراب، وهو دون الفرس وأضعف منه. والهجن جمع هجين: وهو من الخيل الذي ولدته برذونة من حصان غير عربي، وهي دون العرب أيضًا، ليس من عتاق الخيل، وكلاهما معيب عندهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 قوله:"الذين ينفقون أموالهم" إلى قوله:"ولا هم يحزنون"، هؤلاء أهلُ الجنة. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: المكثِرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون، قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله، إلا مَنْ؟ حتى خشوا أن تكون قد مَضَت فليس لها رَدّ، حتى قال:"إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه، وهكذا خلفه، وقليلٌ ما هُمْ [قال] : (1) هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى، في غير سَرَف ولا إملاق ولا تَبذير ولا فَساد. (2) . * * * وقد قيل إنّ هذه الآيات من قوله:"إن تُبدوا الصدقات فنعمَّا هي" إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، كان مما يُعملَ به قبل نزول ما في"سورة براءة" من تفصيل الزَّكوات، فلما نزلت"براءة"، قُصِروا عليها. * ذكر من قال ذلك: 6234 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي" إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، فكان هذا يُعمل به قبل أن تنزل"براءة"، فلما نزلت"براءة" بفرائض الصَّدقات وتفصيلها انتهت الصّدَقاتُ إليها. * * *   (1) ما بين القوسين، زيادة لا بد منها، فإن هذا الكلام الآتي ولا شك من كلام قتادة، وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 363 قال: "وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة. . . "، وساق هذا الشطر الآتي من هذا الأثر. وأما صدره، فهو خبر مرسل كسائر الأخبار السالفة. (2) قوله: "إملاق" هو من قولهم: "ملق الرجل ما معه ملقًا، وأملقه إملاقًا"، إذا أنفقه وأخرجه من يده ولم يحبسه وبذره تبذيرًا. والفقر تابع للإنفاق والتبذير، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبب، فقالوا: "أملق الرجل إملاقًا"، إذا افتقر فهو"مملق" أي فقير لا شيء معه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون. * * * و"الإرباء" الزيادة على الشيء، يقال منه:"أربْى فلان على فلان"، إذا زاد عليه،"يربي إرباءً"، والزيادة هي"الربا"،"وربا الشيء"، إذا زاد على ما كان عليه فعظم،"فهو يَرْبو رَبْوًا". وإنما قيل للرابية [رابية] ، (1) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم:"ربا يربو". ومن ذلك قيل:"فلان في رَباوَة قومه"، (2) يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل"الربا"، الإنافة والزيادة، ثم يقال:"أربى فلان" أي أناف [ماله، حين] صيَّره زائدًا. (3) وإنما قيل للمربي:"مُرْبٍ"، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) . [آل عمران: 131] . * * *   (1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. (2) في المطبوعة: "في ربا قومه" وفي المخطوطة: "في رباء قومه"، ولا أظنهما صوابًا، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس: "وفلان في رباوة قومه: في أشرافهم. وهو: في الروابي من قريش"، فأثبت ما في الأساس. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "أي أناف صيره زائدًا"، وهو كلام غير مستقيم ولا تام. والمخطوطة كما أسلفت مرارًا، قد عجل عليها ناسخها حتى أسقط منها كثيرًا كما رأيت آنفًا. فزدت ما بين القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر، حتى يستقيم الكلام على وجه يرتضى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: 6235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه. * - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 6237 - حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه. * * * قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا="لا يقومون" في الآخرة من قبورهم ="إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس"، يعني بذلك: يتخبَّله الشيطان في الدنيا، (1) وهو الذي يخنقه فيصرعه (2) ="من المس"، يعني: من الجنون. وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6238 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) تخبله: أفسد عقله وأعضاءه. (2) في المطبوعة: "وهو الذي يتخبطه فيصرعه"، وهو لا شيء، إنما استبهمت عليه حروف المخطوطة، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها، وهو لا يعد تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة: "+يحفه" غير منقوطة إلا نقطة على"الفاء"، وآثرت قراءتها"يخنقه"، لما سيأتي في الأثر رقم: 6242 عن ابن عباس: "يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق"، وما جاء في الأثر: 6247. وهذا هو الصواب إن شاء الله، لذلك، ولأن من صفة الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من يصيبه، أعاذنا الله وإياك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا. 6239 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6240 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: ذلك حين يُبعث من قبره. (1) 6241 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بم كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذْ سلاحك للحرب"، وقرأ:"لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: ذلك حين يبعث من قبره. 6242 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق. (2) 6243 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:   (1) الأثر: 6240-"ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري"، روى عن أبيه، وبكر ابن عبد الله المزني، والحسن البصري. وروى عنه القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ومسلم ابن إبراهيم، وحجاج بن منهال. قال النسائي: "ليس به بأس"، وقال في الضعفاء: "ليس بالقوي"، وقال أحمد وابن معين: "ثقة". وأبوه: "كلثوم بن جبر"، قال أحمد: "ثقة"، وقال النسائي: "ليس بالقوي". مات سنة: 130. (2) انظر ما سلف في ص: 8، تعليق: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 "الذين يأكلون الربا لا يقومون"، الآية، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان. 6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون. 6245 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: (لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . 6246 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ. 6247 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يعني: من الجنون. 6248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون (1) . * * *   (1) في المطبوعة: "إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة"، وهو كلام فاسد. وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب الناسخ على كلام كتبه، فدل على خلطه وسهوه. فحذفت من هذه الجملة"يوم القيامة" وجعلت"مع الناس"، "من الناس"، فصارت أقرب إلى المعنى والسياق، وكأنه الصواب إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"يتخبطه الشيطانُ من المسّ"، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه:"قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق"، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف: 201] ، ومنه قول الأعشى: وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى، وكأَنَّمَا ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ (1) * * * فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟ قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا   (1) ديوانه: 147، وروايته"من غب السرى"، ورواية اللسان (ألق) ، "ولق"، وهو من قصيدته البارعة في المحرق. ويصف ناقته فيقول قبل البيت، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة: وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍ ... إذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُ هِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى، وَبَيْنى وَبَيْنَها ... مَجُوفٌ عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُ وَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . "الخرق": المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح. "وناقة جسرة": طويلة شديدة جريئة على السير. و"خب": جرى. و"الآل": سراب أول النهار. "يترقرق": يذهب ويجيء. وقوله: "هي الصاحب الأدنى"، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه، وينصره في الملمات. و"المجوف": الضخم الجوف. و"العلافى": هو أعظم الرجال أخرة ووسطًا، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له"علاف". و"القطع": طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير. و"النمرق والنمرقة": وسادة تكون فوق الرحل، يفترشها الراكب، مؤخرها أعظم من مقدمها، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته. و"غب السرى": أي بعد سير الليل الطويل. و"الأولق": الجنون. ووصفها بالجنون عند ذلك، من نشاطها واجتماع قوتها، لم يضعفها طول السرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة البقرة: 278-279] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه، (1) كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: 6249- "لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به". (2) * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} قال أبو جعفر: يعني بـ"ذلك" جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون:"إنما البيع" الذي أحله الله لعباده ="مثلُ الرّبا". وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مالُ أحدهم   (1) ولكن أهل الفتنة في زماننا، يحاولون أن يهونوا على الناس أمر الربا، وقد عظمه الله وقبحه، وآذن العامل به بحرب من الله ورسوله، في الدنيا والآخرة، ومن أضل ممن يهون على الناس حرب ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين. فاللهم اهدنا ولا تفتنا كما فتنت رجالا قبلنا، وثبتنا على دينك الحق، وأعذنا من شر أنفسنا في هذه الأيام التي بقيت لنا، وهي الفانية وإن طالت، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا. قيل له: الناس كلهم؟! قال: من لم يأكله ناله من غباره". (سنن البيهقي 5: 275) ، فاللهم انفض عنا وعن قومنا غبار هذا العذاب الموبق. (2) الأثر: 6249- رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا، وقد استوفى تخريجه ابن كثير في تفسيره 1: 550-551 وساق طرقه مطولا. والسيوطي في الدر المنثور 1: 367، من حديث عبد الله بن مسعود ونسبه لأحمد، وأبي يعلى، وابن خزيمة، وابن حبان. وانظر سنن البيهقي 5: 275. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق:"زدني في الأجل وأزيدك في مالك". فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك:"هذا ربًا لا يحل". فإذا قيل لهما ذلك قالا"سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال"! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال:"وأحلّ الله البيع". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع (1) ="وحرّم الربا"، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، (2) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين = وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل = وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي. * * *   (1) انظر معنى: "البيع" فيما سلف 2: 342، 343. (2) في المطبوعة: "وليست الزيادتان"، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 ثم قال جل ثناؤه:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى"، يعني بـ"الموعظة": التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن، (1) وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك،"فانتهى" عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه (2) ="فله ما سلف"، يعني: ما أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك ="وأمرُه إلى الله"، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء خَذَله عن ذلك ="ومن عاد"، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله:"إنما البيع مثل الربا" ="فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون. (3) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6250 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله"، أما"الموعظة" فالقرآن، وأما"ما سلف"، فله ما أكل من الربا. * * *   (1) انظر تفسير: "موعظة" فيما سلف 2: 180، 181. (2) انظر تفسير: "انتهى" فيما سلف 3: 569. (3) انظر تفسير: "أصحاب النار" و"خالدون" فيما سلف 2: 286، 287/4: 316، 317/5: 429. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 القول في تأويل قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) } قال أبو جعفر: يعني عز وجل بقوله:"يمحق الله الربا"، ينقُصُ الله الرّبا فيذْهبه، كما:- 6251 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"يمحق الله الربا"، قال: يَنقص. * * * وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 6252- "الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ". (1) . * * * وأما قوله:"ويُرْبي الصّدَقات"، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له. (2) * * * وقد بينا معنى"الرّبا" قبلُ"والإرباء"، وما أصله، بما فيه الكفاية من إعادته. (3) * * *   (1) 6252- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 37 من طريق إسرائيل، عن الركين بن الربيع، عن أبيه الربيع بن عميلة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا إن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قل"، وكذلك ذكره ابن كثير من المسند من طريق شريك عن الركين بن الربيع، بلفظه. ثم ساق ما رواه ابن ماجه. غير أن ابن كثير (2: 61) نقل لفظ الطبري، وساق الخبر كنصه في الحديث، لا كما جاء في المطبوعة والمخطوطة. وانظر الدر المنثور 1: 365. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "يضاعف أجرها لربها"، كأنه يريد لصاحبها، وكأن صواب قراءتها ما أثبت، رب المعروف والصنيعة والنعمة وغيرها - يريها ربًا +ورببها (كلها بالتشديد) : نماها وزادها وأتمها، وجملة"يربها وينميها له" تفسير لقوله: "يضاعف أجرها". وانظر الأثر الآتي رقم: 6253. (3) انظر ما سلف قريبا ص: 7. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 فإن قال لنا قائل: وكيف إرباء الله الصدقات؟ قيل: إضعافه الأجرَ لربِّها، كما قال جل ثناؤه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [سورة البقرة: 261] ، وكما قال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [سورة البقرة: 245] ، وكما:- 6253 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) [سورة التوبة: 104] ، و"يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات". (1) .   (1) الحديث: 6253- عباد بن منصور الناجي البصري القاضي: ثقة، من تكلم فيه تكلم بغير حجة. وقد حققنا توثيقه في شرح المسند: 2131، 3316، وبينا خطأ من جرحه بغير حق. القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، التابعي الثقة الفقيه الإمام. والحديث سيأتي في تفسير سورة التوبة (ج 11 ص 15 بولاق) ، عن أبي كريب، بهذا الإسناد ولكن سقط منه هناك"حدثنا وكيع". وهو خطأ ظاهر. ورواه أحمد في المسند: 10090 (2: 371 حلبي) ، عن وكيع، وعن إسماعيل - وهو ابن علية - كلاهما عن عباد بن منصور. بهذا الإسناد. وساقه على لفظ وكيع، كرواية الطبري هنا. ولكن وقع في المسند خطأ غريب في تلاوة الآية الأولى، ففيه: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات". والآية المتلوة في الحديث هي التي في رواية الطبري هنا: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، وهي الآية: 104 من سورة التوبة. وأما الأخرى فالآية: 25 من سورة الشورى، وتلاوتها: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) وليست تكون موضع الاستشهاد في هذا الحديث. وهذا الخطأ قديم في نسخ المسند، من الناسخين القدماء، بدلالة أنه ثبت هذا الخطأ أيضًا في نقل الحافظ ابن كثير هذا الحديث عن المسند، في جامع المسانيد والسنن 7: 320 (مخطوط مصور) . بل ظهر لي بعد ذلك أن الخطأ أقدم من هذا. لعله من وكيع، أو من عباد بن منصور. لأن الترمذي روى الحديث 2: 23، عن أبي كريب -شيخ الطبري هنا - عن وكيع، به. وثبتت فيه تلاوة الآية على الخطأ، كرواية أحمد عن وكيع. ونقل شارحه المباركفوري عن الحافظ العراقي أنه قال: "في هذا تخليط من بعض الرواة. والصواب: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) - الآية. وقد رويناه في كتاب الزكاة ليوسف القاضي، على الصواب". بل إن الحافظ المنذري غفل عن هذا الخطأ أيضًا. فذكر الحديث في الترغيب والترهيب 2: 19، عن رواية الترمذي، وذكر الآية كرواية المسند والترمذي - مخالفة للتلاوة. فإذا كان ذلك كذلك، فأنا أرجح أن أبا جعفر الطبري رحمه الله سمعه من أبي كريب عن وكيع، كرواية الترمذي عن أبي كريب، وكرواية أحمد عن وكيع، فلم يستجز أن يذكر الآية على الخطأ في التلاوة، فذكرها على الصواب. وقد أصاب في ذلك وأجاد وأحسن. وقال الترمذي - بعد روايته: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو هذا". ورواية عائشة ستأتي: 6255. وذكره ابن كثير في التفسير 2: 62، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن عمرو بن عبد الله الأودي، عن وكيع، بهذا الإسناد، لكنه لم يذكر الآية الأولى التي وقع فيها الخطأ. وذكره السيوطي 1: 365، وزاد نسبته للشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن المنذر، والدارقطني في الصفات. ورواه أحمد أيضًا: 9234، عن خلف بن الوليد، عن المبارك، وهو ابن فضالة، عن عبد الواحد ابن صبرة، وعباد بن منصور، عن القاسم، عن أبي هريرة - فذكره بنحوه، مختصرًا، ولم يذكر فيه الآيتين. وأشار ابن كثير 2: 62، إلى رواية المسند هذه، ولكن وقع فيه تخليط من الناسخين. والحديث سيأتي نحو معناه، مطولا ومختصرًا، عن أبي هريرة: 6254، 6256، 6257. وعن عائشة: 6255. وسنشير إلى بقية تخريجه في آخرها: 6257. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 6254 - حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة = ولا أراه إلا قد رفعه = قال: إن الله عز وجل يقبَلُ الصدقة، ولا يقبلُ إلا الطيب." (1) .   (1) الحديث: 6254- سليمان بن عمر بن خالد الأقطع، القرشي العامري الرقي: ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/131، وذكر أن أباه كتب عنه. ولم يذكر فيه جرحًا. ابن المبارك: هو عبد الله. وسفيان: هو الثوري. والحديث مختصر ما قبله. والشك في رفعه - هنا - لا يضر، فقد صح الحديث مرفوعًا بالإسناد السابق والأسانيد الأخر. وسيأتي الحديث أيضًا، بهذا الإسناد (ج 11 ص 15 بولاق) ، ولم يذكر لفظه، بل ذكر أوله، ثم قال: "ثم ذكر نحوه". إحالة على الحديث السابق. فكأنه رواه هناك مطولا، ولكن دون ذكر سياقه كاملا. وأشار ابن كثير، في تفسير سورة التوبة 4: 235- إلى هذه الرواية والتي قبلها، جعلهما حديثًا واحدًا، عن الثوري ووكيع، عن عباد بن منصور، به. ولكنه لم يذكر تخريجه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 6255- حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي، قال: حدثنا ريحان بن سعيد، قال: حدثنا عباد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل أحُد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصدقات) . (1) .   (1) الحديث: 6255- محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم، المقدمي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/179، وابن أبي حاتم 4/1/21. ووقع في المطبوعة هنا غلط في اسم أبيه: "عمرو" بدل"عمر". وسيأتي بتخليط أشد في المطبوعة: 6809، هكذا: "محمد ابن عمرو وابن علي عن عطاء المقدمي"!! و"المقدمي": بتشديد الدال المهملة المفتوحة، نسبة إلى جده الأعلى"مقدم". ريحان بن سعيد الناجي البصري: من شيوخ أحمد وإسحاق. وقال يحيى بن معين: "ما أرى به بأسا". وتكلم فيه بعضهم، ولكن البخاري ترجمه في الكبير 2/1/301، فلم يذكر فيه جرحًا. وكان إمام مسجد عباد بن منصور، كما في الكبير، وابن أبي حاتم 1/2/517. وتكلم فيه ابن حبان والعجلي باستنكار بعض ما روى عن عباد. ولعله كان أعرف به إذ كان إمام مسجده. وأيا ما كان، فإنه لم ينفرد عن عباد بهذه الرواية، كما سيظهر من التخريج. فرواه أحمد في المسند 6: 251 (حلبي) ، عن عبد الصمد، عن حماد، عن ثابت، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد". وهذا إسناد صحيح. ولكن الحديث مختصر. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 5: 234-235 (من مخطوطة الإحسان) . من طريق عبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن القاسم. ورواه البزار مطولا، من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - ومن طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي هريرة، بنحو رواية الطبري هنا، إلا أنه لم يذكر الآية في آخره. نقله ابن كثير 2: 62-63. ولكن رواه الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة منقطعة، لأنه إنما يروى عن التابعين. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111 مختصرًا كرواية المسند، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح". ثم ذكره مطولا 3: 112، وقال: "رواه البزار، ورجاله ثقات". ولكنه ذكره من حديث عائشة وحدها. وذكر السيوطي 1: 365 لفظ الطبري هنا. ثم تساهل في نسبته، فنسبه للبزار، وابن جرير، وابن حبان، والطبراني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 6256 - حدثني محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه، ويأخذها بيمينه ويربِّيها كما يربِّي أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله = أو قال:"في كفِّ الله عز وجلّ = حتى تكون مثلَ أحُد، فتصدّقوا". (1) . 6257- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت   (1) الحديث: 6256-"محمد بن عبد الملك": الراجح عندي أنه"محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي"، فإنه يروي عن عبد الرزاق، وهو من طبقة شيوخ الطبري، وإن لم أجد نصا يدل على روايته عنه. ولكنه بغدادي مثله. فمن المحتمل جدا أن يروى عنه، بل هو هو الأغلب الأكثر في مثل هذه الحال. وهو ثقة، وثقه النسائي وغيره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/5. وتاريخ بغداد 2: 345-346. ومن شيوخ الطبري الذين روى عنهم في التاريخ: "محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب"، وهو ثقة أيضًا، ولكن لم يذكر عنه أنه روى عن عبد الرزاق، والغالب أن ينص على مثل هذا. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/5، وتاريخ بغداد 2: 344-345. وقد انفرد ابن كثير بشيء لا أدري ما هو؟ فحين ذكر هذا الحديث 2: 62، ذكر أنه"رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق"!! ولم أجد في الرواة من يسمى بهذا. فلا أدري أهو سهو منه، أم تخليط من الناسخين؟ والحديث رواه أحمد في المسند: 7622، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد. ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 44، عن محمد بن رافع، وعبد الرحمن ابن بشر بن الحكم - كلاهما عن عبد الرزاق، به. وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2: 19، أنه رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضًا. ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من الطبري - كما أشرنا، ثم قال: "وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق. وهذا طريق غريب صحيح الإسناد، ولكن لفظه عجيب. والمحفوظ ما تقدم"! يعني رواية عباد بن منصور. ولسنا نرى في هذا اللفظ عجبا، ولا في الإسناد غرابةّ! وهو صحيح على شرط الشيخين. ثم إن عبد الرزاق لم ينفرد به عن معمر، فقد تابعه عليه محمد بن ثور. فرواه الطبري - فيما سيأتي (ج 11 ص 15-16 بولاق) ، عن محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، به. نحوه. وهذا إسناد صحيح أيضًا. فإن محمد بن ثور الصنعاني العابد: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، بل فضله أبو زرعة على عبد الرزاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن محمد قال، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه، ولا يقبل منها إلا ما كان طيِّبًا، والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله، حتى يوافَي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد". (1) . * * *   (1) الحديث: 6257- وهذا إسناد فيه راو مبهم، هو الذي روى عنه يونس، ومن المحتمل جدا أن يكون هو أيوب. ولكن لا يزال الإسناد ضعيفا حتى نجد الدلالة على هذا المبهم. وأما الحديث في ذاته فصحيح بالأسانيد السابقة وغيرها. وأصل المعنى ثابت من حديث أبي هريرة، من أوجه كثيرة: فرواه البخاري 3: 220-223، و 13: 352 ومسلم، 1: 277-278، والترمذي 2: 22-23، والنسائي 1: 349، وابن ماجه: 1842، وابن حبان في صحيحه 5: 234-237 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد. ص: 41-44. ورواه أحمد في المسند -غير ما أشرنا إليه سابقا-: 8363 (2: 331 حلبي) ، 8948، 8949 (ص: 381-382) ، 9234 (ص404) ، 9413 (ص: 418) ، 9423 (ص: 419) ، 9561 (ص: 431) ، 10958 (ص: 538) ، 10992 (ص: 541) . ورواه البخاري في الكبير، بالإشارة الموجزة كعادته 2/1/476. وقد جاء في ألفاظ هذا الحديث: "في يد الله"، و"في كف الله"، و"كف الرحمن"، ونحو هذه الألفاظ. فقال الترمذي 2: 23-24. "وقال غير واحد من أهل العلم، في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، وتزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا - قال: قد ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن بها. ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا رُوي عن مالك ابن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، انهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوها بلا كيفَ. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه! وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه -: اليد، والسمع والبصر. فتأولت الجهمية هذه الآيات، وفَّسروها على غير ما فَّسر أهلُ العلمّ! وقالوا: إن الله لم يَخْلق آدم بيده! وقالوا: إنما معنى اليد القوة!! وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كَيدٍ، أو مِثْل يَدٍ، أو سمع كسَمْعٍ، أو مثلَ سمعٍ. فإذا قال سمع كسمعٍ أو مثل سمع- فهذا تشبيه. وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر. ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمعٍ - فهذا لا يكون تشبيهاً. وهو كما قال الله تبارك وتعال: (ليس كَمِثْلهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البَصير) ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 قال أبو جعفر: وأما قوله:"والله لا يحب كل كفار أثيم"، فإنه يعني به: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه، مقيم عليه، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه،"أثيم"، متماد في الإثم، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا = يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه ="وعملوا الصالحات" التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي نَدَبهم إليها ="وأقاموا الصلاة" المفروضة بحدودها، وأدّوها بسُنَنها ="وآتوا الزكاة" المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم ="لهم أجرهم"، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم ="عند ربهم" يوم حاجتهم إليه في معادهم = ولا خوف عليهم" يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 وتصديقهم بوعد الله ووعيده ="ولا هم يحزنون" على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"يا أيها الذين آمنوا"، صدّقوا بالله وبرسوله="اتقوا الله"، يقول: خافوا الله على أنفسكم، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه="وذروا"، يعني: ودعوا="ما بقي من الربا"، يقول: اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم، بأفعالكم. (1) . * * * قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم، وبقي بعضٌ، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية، (2) وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه. * ذكر من قال ذلك: 6258 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" إلى:"ولا تظلمون"، قال: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا   (1) قوله: "بأفعالكم" متعلق بقوله: "محققين. . . "، أي محققين ذلك بأفعالكم. (2) في المخطوطة: "عما كان قد اقتضوه. . . "، وهو فاسد، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو = (1) وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله"ذروا ما بقي" من فضل كان في الجاهلية ="من الربا". 6259 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كانت ثقيف قد صالحت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ، استعمل عتَّاب بن أسِيد على مكةَ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرْب من الله ورسوله"، إلى"ولا تظلمون". فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال:"إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب" = وقال ابن جريج، عن عكرمة، قوله:"اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا"، قال: كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، بنو عمرو بن عمير، فهم الذين كان لهم الرّبا على بني المغيرة، فأسلم عبد ياليل وحَبيب وربيعة وهلالٌ ومسعود. (2) 6260 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر،   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "سلفا في الربا إلى أناس. . . " بالفعل الماضي، والصواب ما أثبت من الدر المنثور 1: 366، والبغوي (بهامش ابن كثير) 2: 63. والسلف (بفتحتين) : القرض. والفعل: أسلف وسلف (بتشديد اللام) . (2) الأثر: 6259- انظر ما قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة"هلال الثقفي". وقال: "وفي ذكر مصالحة ثقيف قبل قوله: "فلما كان الفتح" نظر، ذكرت توجيهه في أسباب النزول". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 عن الضحاك في قوله:"اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فإن لم تفعلوا) فإن لم تذَروا ما بقي من الربا. * * * واختلف القرأة في قراءة قوله:"فأذنوا بحرب من الله ورسوله". فقرأته عامة قرأة أهل المدينة:"فَأْذَنُوْا" بقصر الألف من"فآذنوا"، وفتح ذالها، بمعنى: كونوا على علم وإذن. * * * وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين:"فَآذِنُوا" بمدّ الألف من قوله:"فأذنوا" وكسر ذالها، بمعنى: فآذنوا غيرَكم، أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"فأذَنوا" بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك. وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. (1) فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان، فإنما نُبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. (2) لأن الأمر إن كان إليه، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يَلزمهم حرْبُه، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها. وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6261 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا"، إلى قوله: (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينزعُ عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضَرب عنقه. 6262 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذ سلاحك للحرْب". (3) 6263- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. 6264 - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا. (4)   (1) في المطبوعة: "أذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يأذنوه". وهو خطأ في الرسم، وفساد في المعنى بهذا الرسم. وصواب رسمه في المخطوطة، وهو صواب المعنى. (2) في المخطوطة: "بالإنذار بها إن عزم على ذلك"، وهي صواب في المعنى، ولكن ما في المطبوعة عندي أرجح. (3) الأثر: 6262- انظر الأثر السالف رقم: 6241، والتعليق عليه. (4) البهرج: الشيء المباح. والمكان بهرج: غير حمى. وبهرج دمه: أهدره وأبطله. وفي الحديث: أنه بهرج دم ابن الحارث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 6265 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، مثله. 6266 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله"، أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل. (1) 6267 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله. * * * قال أبو جعفر: وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله: (فأذنوا بحرب من الله) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أُمْوَالِكُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"إن تبتم" فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل ="فلكم رؤوس أموالكم" من الديون التي لكم على الناس، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم، كما: 6268 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور الرجال، (2) جعل لهم   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أوعد لآكل الربا. . . " وهو لا شيء، والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "المال الذي لهم" بإسقاط الواو، وأثبت ما في المخطوطة وسيأتي على الصواب رقم: 6297. وفي المخطوطة"ظهور الرحال" بالحاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا. 6269 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: وضع الله الرّبا، وجعل لهم رءوس أموالهم. 6270 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، قال: ما كان لهم من دَين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادُوا عليه شيئًا. 6271- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" الذي أسلفتم، وسقط الربا. 6272 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح:"ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب". 6273- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:"إنّ كل ربا موضوع، وأول ربًا يوضع ربا العباس". (1) . * * *   (1) الأثران: 6272، 6273- حديث خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، رواه مسلم 8: 182، 183 في حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع. وسنن البيهقي 5: 274، 275. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 367، وقال"أخرج أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع. . . "، وانظر ابن كثير 2: 65. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) } قال أبو جعفر: يعني بقوله:"لا تَظلمون" بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم، دون أرباحها التي زدتموها ربًا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذُه، أو لم يكن لكم قبلُ="ولا تُظلمون"، يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل، يبخسُكم حقًّا لكم عليه فيمنعكموه، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول، وغيرُه من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6274 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون"، فتُربون،"ولا تظلمون" فتنقصون. 6275 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"، قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"وإن كان" ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوسَ أموالكم ="ذو عُسْرَة" يعني: معسرًا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء، فأنظروهم إلى ميسرتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 وقوله:"ذو عسرة"، مرفوع ب"كان"، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها، ولو وُجِّهت"كان" في هذا الموضع، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام، لكان وجهًا صحيحًا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام عند ذلك: وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنَظِرة إلى ميسرة. وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب: (وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ) ، بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة ="فنظرة إلى ميسرة". وذلك وإن كان في العربية جائزا فغيرُ جائز القراءة به عندنا، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين. (1) * * * وأما قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) ، فإنه يعني: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) [سورة البقرة: 196] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبلُ، فأغنى عن تكريره. (2) . * * * و"الميسرَة"، المفعلة من"اليُسر"، مثل"المرْحمة" و"والمشأمة". * * * ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم، (3) فيصيرَ من أهل اليُسر به. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 186. (2) انظر ما سلف 4: 34. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى يوسر بما ليس لكم"، واجتهد مصحح المطبوعة وقال: "لعل (ليس) زائدة من الناسخ". ولا أراه كذلك، بل قوله"بما ليس"، هي في الأصل الذي نقل عنه الناسخ"بالدين" مرتبطة الحروف، كما يكون كثيرا في المخطوطة القديمة، فلم يحسن الناسخ قراءتها، فقرأها"بما ليس"، وحذف"الذي"، لظنه أنها زائدة سهوا من الناسخ قبله، وتبين صحة ما أثبتناه، من كلام الطبري بعد في آخر تفسير الآية. ولو قرئت: "برأس ما لكم"، لكان صوابا في المعنى، كما يتبين من الآثار الآتية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 ذكر من قال ذلك: 6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: نزلت في الربا. 6278 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلا خاصَم رجلا إلى شُرَيح، قال: فقضى عليه وأمرَ بحبسه، قال: فقال رجل عند شريح: إنه مُعسرٌ، والله يقول في كتابه:"وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة"! قال: فقال شريح: إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [سورة النساء: 58] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه. 6279 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا. 6280 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبيّ أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول: أيْ فلان، إن كنت مُوسرًا فأدِّ، وإن كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة. (1) 6281- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: جاء رجل إلى شريح فكلَّمه فجعل يقول: إنه معسر، إنه مُعسر! ! قال: فظننت أنه يكلِّمه في محبوس، فقال شريح: إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار،   (1) الأثر: 6280 - كان في المطبوعة: "مغيرة، عن الحسن. . . "، وفي المخطوطة"مغيرة، عن الحسى" مشددة الياء بالقلم، والناسخ كثير السهو والغفلة والتصحيف كما أسلفنا. وإنما هو"الشعبي"، وهذا الإسناد إلى الشعبي قد مضى مئات من المرات، انظر مثلا: 4385. وكان في المطبوعة: "الربيع بن خيثم" وهو تصحيف والصواب ما أثبت، وقد مضت ترجمته في رقم: 1430. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 فأنزل الله عز وجل:"وإنْ كان ذُو عُسْرَة فَنظِرة إلى ميسرة" وقال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه، أدّوا الأمانات إلى أهلها. 6282- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة"، قال: فنظرة إلى ميسرة برأس ماله. 6283 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النَّظِرة في الأمانة، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها. (1) 6284 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كان ذو عسرة فنظرة" برأس المال ="إلى ميسرة"، يقول: إلى غنى. 6285- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، هذا في شأن الربا. 6286 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان قال (2) سمعت الضحاك في قوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ، هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمِروا أن يأخذوا رءوس أموالهم.   (1) في المخطوطة: "ولكن مؤدي الأمانة. . . "، وهو تصحيف من الناسخ. (2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، والصواب من المخطوطة، وقد مضى الكلام على هذا الإسناد فيما سلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 6287 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، يعني المطلوب. 6288 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله:"وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة"، قال: الموت. 6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي مثله. 6290- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: هذا في الربا. 6291- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال: إلى الموت، أو إلى فُرْقة. 6292- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا. 6293 - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: يؤخّره، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخَّره. 6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" قال: يؤخره ولا يزدْ عليه. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قِبَل رجل معسر حقٌّ (1) من أيّ وجهة كان ذلك الحق، من دين حلال أو ربا. ذكر من قال ذلك: 6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدّقوا خير لكم. قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحلّ لمسلم له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك كانت الدّيون على ذلك. 6296- حدثني علي بن حرب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" قال: نزلت في الدَّين. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه، أو لزمه   (1) في المخطوطة: "هذه الآية عام. . . " تصحيف من الناسخ وسهو. (2) الأثر: 6296-"علي بن حرب بن محمد بن علي الطائي". قال النسائي: "صالح"، وقال أبو حاتم: "صدوق" توفي سنة 265، مترجم في التهذيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 من قبل الإرباء - إليه، إن كان موسرا. (1) وإن كان معسرا، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه. غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر: في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه. = فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد. = ويكون في رقبته، (2) فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد. فقد تبين إذا، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل. (3) لأنه غير مانعه حقا، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه بالحبس. (4) * * *   (1) سياق العبارة"ويلزمه أداء رأس ماله. . . إليه. . . "، وما بينهما فصل. (2) في المطبوعة: "ويكون في رقبته"، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل" قدم"بحقه"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب جيد. (4) في المطبوعة: "فيعاقب بظلمه إياه. . . "، وفي المخطوطة"فيعاقب بطله إياه. . " وصواب قراءتها ما أثبت. مطله حقه يمطله مطلا، وماطله مطالا: سوفه ودافعه بالعدة والدين. هذا، وأبو جعفر رضي الله عنه، رجل قويم الحجة، أسد اللسان، سديد المنطق، عارف بالمعاني ومنازلها من الرأي، ومساقطها من الصواب. وهذه حجة بينة فاصلة من حججه التي أشرت إليها كثيرا في بعض تعليقي على هذا التفسير الجليل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) } قال أبو جعفر: يعني جل وعز بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، ="خير لكم" أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر ="إن كنتم تعلمون" موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك:"وأن تصدقوا" برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم ="خير لكم". ذكر من قال ذلك: 6297 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا ="وأن تصدقوا خير لكم"، يقول: أن تصدقوا بأصل المال، خير لكم. (1) 6298 - حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة:   (1) الأثر: 6297- سلف برقم: 6268. وانظر التعليق هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 "وأن تصدقوا"، أي برأس المال، فهو خير لكم. 6299 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: (وأن تصدقوا خير لكم) قال: من رؤوس أموالكم. 6300 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله. 6301- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: أن تصدقوا برؤوس أموالكم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: 6302 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير، فهو خير لكم، فتصدق به العباس. 6303 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك. 6304 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: (وأن تصدقوا خير لكم) ، يعني: على المعسر، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل. 6305 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم، عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة. (1) 6306 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم"، قال: من النظرة ="إن كنتم تعلمون". 6307- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: (فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) ، والنظرة واجبة، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، (2) والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه:"وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم" لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه. * * * قال أبو جعفر: وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا، هن آخر آيات نزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك: 6308 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، = عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا،   (1) النظارة (بكسر النون) : الإنظار وهو الإمهال. وهو مصدر لم أجده في كتب اللغة، ولكنه عريق في عربيته. كالنذارة، من الإنذار، وهو عزيز، ولكنه عربي البناء والقياس. (2) يقال: "اخترت فلانا على فلان" بمعنى: فضلت فلانا على فلان، ولذلك عدى بعلى. ومثله"خير فلانا على فلان"، أي فضله عليه. وقد جاء في الأثر: "خير بين دور الأنصار"، أي فضل بعضها على بعض. وقلما تجد هذا التعبير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة. (1) 6039- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم". (2)   (1) الحديث: 6308- سعيد: هو ابن أبي عروبة. والحديث رواه أحمد في المسند: 246، عن يحيى، وهو القطان. و: 350، عن ابن علية - كلاهما عن ابن أبي عروبة. بهذا الإسناد. ورواه ابن ماجه: 2276، من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة، به. وذكره ابن كثير 2: 58، عن الموضع الأول من المسند. وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 365، وزاد نسبته لابن الضريس، وابن المنذر. وأشار إليه في الإتقان 1: 33، موجزا، منسوبا لأحمد وابن ماجه فقط. وهذا الحديث - على جلالة رواته وثقتهم - ضعيف الإسناد، لانقطاعه. فإن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر، كما بينا في شرح المسند: 109، وانظر كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 26-27. (2) الحديث: 6309- داود: هو ابن أبي هند. عامر: هو الشعبي. وهذا الإسناد ضعيف أيضًا، فإن الشعبي لم يدرك عمر، كما قلنا فيما مضى: 1608، نقلا عن ابن كثير. وذكره الحافظ في الفتح 8: 153، منسوبا للطبري، وقال: "وهو منقطع، فإن الشعبي لم يدرك عمر". وذكر ابن كثير 2: 58، نحو معناه، قال: "رواه ابن ماجه وابن مردويه، من طريق هياج ابن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطبنا عمر. . . " إلخ. وهياج بن بسطام الهروي: اختلفوا فيه جدا، فضعفه أحمد، وابن معين، وابن أبي حاتم، وغيرهم. وقال المكي بن إبراهيم - شيخ البخاري: "ما علمنا الهياج إلا ثقة صادقا عالما". ووثقه محمد ابن يحيى الذهلي. وقد أنكروا عليه أحاديث، ثم ظهر أن الحمل فيها على ابنه خالد الذي رواها عنه. والراجح عندنا هذا، فإن البخاري ترجمه في الكبير 4/2/242، فلم يذكر فيه جرحا. وكأنه ذهب فيه إلى ما اختاره شيخاه: المكي بن إبراهيم، ومحمد بن يحيى الذهلي. وابن كثير لم يبين من رواه عن الهياج. ثم لم أعرف موضعه في ابن ماجه، وليس عندي كتاب ابن مردويه. ولكني وجدت له إسنادا إلى الهياج. فرواه الخطيب في ترجمته في تاريخ بغداد 14: 80-81، من طريق محمد بن بكار بن الريان، -وهو ثقة- عن الهياج، بهذا الإسناد. فعن هذا ظهر أن إسناده صحيح، والحمد لله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 6310 - حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) } قال أبو جعفر: وقيل: هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك: 6311 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد   (1) الحديث: 6310- أبو زيد عمر بن شبة - بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة - النميري النحوي: ثقة صاحب عربية وأدب. قال الخطيب: "كان ثقة عالما بالسير وأيام الناس". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/116، وتاريخ بغداد 11: 208-210. قبيصة: هو ابن عقبة. مضت ترجمته في: 489، 2792. وهذا الحديث من روايته عن سفيان الثوري. وقد بينا هناك أن روايته عنه صحيحة، خلافا لمن تكلم فيها. عاصم الأحول: هو عاصم بن سليمان. وقد مضى مرارا. ووقع في المطبوعة هنا"عاصم عن الأحول". وهو خطأ مطبعي. وثبت على الصواب في المخطوطة. وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح 8: 153 (فتح) ، عن قبيصة، بهذا الإسناد. ولكنه اقتصر على أوله، إلى قوله"آية الربا" لأن الباقي موقوف من كلام ابن عباس. وذكر السيوطي 1: 365 رواية البخاري، وزاد نسبتها لأبي عبيد، والبيهقي في الدلائل. وقال الحافظ في الفتح: "المراد بالآخرية في الربا: تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة. وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة، على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران، في أثناء قصة أحد: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) الآية". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله". (1) 6312 - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ... " الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت. 6313 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى   (1) الحديث: 6311 -أبو تميلة- بضم التاء المثناة: هو يحيى بن واضح. مضت ترجمته في: 392. الحسين بن واقد: مضت ترجمته في: 4810. ووقع هناك في طبعتنا هذه"الحسن". وهو خطأ مطبعي، مع أننا بيناه على الصواب في الترجمة، فيصحح ذلك. يزيد النحوي: هو يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي، مولى قريش. وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وابن معين، وغيرهما. قتله أبو مسلم سنة 131 لأمره إياه بالمعروف. والنحوي": نسبة إلى"بني نحو"، بطن من الأزد. وهذا إسناد صحيح. والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8: 153، ونسبه للطبري فقط. وذكره ابن كثير 2: 69، عن رواية النسائي، فهو يريد بها السنن الكبرى. وكذلك صنع السيوطي في الإتقان 1: 33. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 324، وقال: "رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما ثقات". وفي الدر المنثور 1: 369-370 زيادة نسبته لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وظاهر هذه الرواية عن ابن عباس، يعارض ظاهر الرواية السابقة عنه: 6310، أن آخر آية زلت هي آية الربا. فقال الحافظ في الفتح: "وطريق الجمع بين هذين القولين، [يريد الروايتين] : أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا، إذ هي معطوفة عليهن". ويشير إلى ذلك صنيع البخاري، بدقته وثقوب نظره، فإنه روى الحديث الماضي تحت عنوان: "باب (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) ". فجعل بهذه الإشارة الموضوع واحدا، والروايتين متحدتين غير متعارضتين. رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون". (1) 6314 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن السدي، قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله". 6315 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، (2) عن الضحاك، عن ابن عباس = وحجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس = آخر آية نزلت من القرآن:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" = قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، (3) ومات يوم الاثنين. 6316 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. (4) * * * قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس = يوما ترجعون   (1) الخبر: 6313- سهل بن عامر: مضت ترجمته في: 1971، وأنه ضعيف جدا. ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا"إسماعيل بن سهل بن عامر"! وهو تخليط من الناسخين، فلا يوجد راو بهذا الاسم. ثم هذا الإسناد نفسه هو الماضي: 1971. ومضى أيضًا رواية محمد بن عمارة، عن سهل، عن مالك بن مغول: 5431. (2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ومن كتب التراجم. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "وبدا يوم السبت"، وهو خطأ فاحش، وأشد منه فظاظة شرح من شرحه فقال: "يريد أنه احتجب عن الناس لمرضه، ثم خرج لهم يوم السبت"! وأولى بالمرء أن يدع ما لا يحسن! إنما هو قولهم: "بدئ الرجل" (بالبناء للمجهول) أي مرض. يقال: متى بدئ فلان؟ أي: متى مرض: وفي حديث عائشة: أنها قالت في اليوم الذي بدئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وا رأساه". وانظر لهذا الخبر ما خرجه السيوطي في الإتقان 1: 33، وابن كثير 2: 69، 70. (4) الحديث: 6316 - هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب، ولكنه حديث ضعيف لإرساله، إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به. والحديث نقله ابن كثير 2: 70-71، عن هذا الموضع بإسناده. وذكره السيوطي 1: 370"عن ابن جرير، بسند صحيح عن سعيد بن المسيب". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 فيه إلى الله" فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، (1) أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، (2) لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، (3) فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. (4) وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! (5) كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، (6) وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ. * * *   (1) في المطبوعة: "بفضيحات تفضحكم"، ولا أدري لم غير ما كان في المخطوطة!! (2) في المطبوعة: "مجازاة الأعمال"، ولا أدري لم حذف"الباء"!! (3) في المطبوعة: "لا يغادر. . . " بالياء، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت. (4) في المطبوعة: "فتوفى جزاءها"، وفي المخطوطة: "فتوفيت" غير منقوطة كلها، وصوت قراءتها ما أثبت (5) في المطبوعة: "كيف" بحذف الواو، والصواب ما في المخطوطة. (6) في المطبوعة: "فأخذ" بالفاء، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله:"إذا تداينتم"، يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به ="إلى أجل مسمى"، يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز [فيه] السلم مسمى أجل بيعه، يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه. (1) ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه. * * * وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة. ذكر الرواية عنه بذلك: 6317 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، قال ابن عباس في:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، قال: السلم في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز السلم شرى أجل بيعه"، وهي عبارة غير مفهومة قد أخل بها التصحيف والتحريف، وقد اجتهدت في تصحيحها على هذا الوجه حتى تستقيم بعض الاستقامة. والسلم (بفتحتين) : السلف. يقال: أسلم وسلم (بتشديد اللام) : إذا أسلف، وهو أن تعطى ذهبا وفضة في سلعة معلومة إلى أجل معلوم، فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة. وحده عند بعض الفقهاء: هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة، بعين حاضرة. أو ما في حكمها، إلى أجل معلوم". (2) الأثر: 6317- يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي الهشلي الخزاز، سمع سفيان، ومات سنة 201، وقد تكلموا فيه قال أبو داود: "بلغني عن أحمد أنه أحسن الثناء عليه" وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال العجلي"ثقة"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه لا يتابع عليه". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/296، وابن أبي حاتم 4/2/178. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 6318- حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا يحيى بن الصامت قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين"، قال: نزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (1) 6319- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، في السلم، في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2) 6320- حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن   (1) الحديث: 6318- يحيى بن الصامت: هكذا وقع في المخطوطة والمطبوعة، ولم نعرف من؟ ولعله محرف من شيء آخر؟ . والذي في هذه الطبقة، ونرجح أنه الراوي هنا: هو"يحيى بن أيوب المقابري أبو زكريا العابد. فهو الذي يروي عن عبد الله بن المبارك، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، كما في ترجمته في التهذيب 11: 188، ولكن فيه"محمد بن عبد العزيز بن المبارك المخرمي"، وهو خطأ في"عبد العزيز" بدل"عبد الله". ويحيى بن أيوب هذا: ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه. و"المقابري": نسبة إلى المقابر، لكثرة زيارته إياها، كما في اللباب 4: 167. وله ترجمة في ابن أبي حاتم 4/2/128، وتاريخ بغداد 14: 188-189. ومن المحتمل -وهو رجل عابد زاهد- أن يكون"الصامت" لقبا له، فيكون"يحيى الصامت". ولكن لم أجد نصا على ذلك، ولا ما يشير إليه. سفيان: هو الثوري. أبو حيان: هو التيمي، يحيى بن سعيد بن حيان. مضت ترجمته في: 5382. ابن أبي نجيح: هو عبد الله بن يسار الثقفي المكي. وكنية أبيه"أبو نجيح". وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة، فإنه يروى عن التابعين. وسيأتي الحديث صحيحا، بإسناد آخر صحيح: 6321. وسيأتي بين هذين بإسنادين ضعيفين. (2) الحديث: 6319- زيد بن أبي الزرقاء: مضت ترجمته في: 1384. ووقع في المطبوعة"يزيد" بدل"زيد". وهو خطأ فلا يوجد من يسمى بهذا في الرواة. ثم هذا الشيخ هو الذي روى عن سفيان الثوري، ويروي عنه علي بن سهل الرملي، كما مضى في ذاك الإسناد. والحديث ضعيف كالذي قبله. فالرجل المبهم الذي يروي عنه أبو حيان -هو ابن أبي نجيح. ولم يدرك ابن عباس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 أبي حيان التيمي، عن رجل، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، في السلف في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (1) 6321 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون، إلى أجل مسمى، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى" (2) * * *   (1) الحديث: 6320- محمد بن محبب بن إسحاق القرشي، أبو همام الدلال صاحب الرقيق: ثقة، وثقه أبو داود، وأبو حاتم، وغيرهما. وأخطأ المنذري في تهذيب السنن: 2537، إذ قال: "لا يحتج بحديثه". وإنما قلد ابن الجوزي حين ذكره في الضعفاء. وغلطه في ذلك الذهبي في الميزان. و"محبب": بباءين موحدتين، وزان"محمد". كذا ضبطه عبد الغني في المؤتلف، ص: 123، والذهبي في المشتبه، ص: 467، والحافظ في التهذيب والتقريب. ووهم ابن أبي حاتم، حين جعله"محبب"، في الجرح 4/1/96. "صاحب الرقيق": بالراء، كما في الكبير للبخاري 1/1/247، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم. ووقع في التهذيب والخلاصة: "الدقيق" بالدال. وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش الجرح: "والرقيق - بالراء: أشبه بقولهم الدلال"، وهو جيد. والحديث مكرر ما قبله، وهو ضعيف الإسناد كمثله. (2) الحديث: 6321- معاذ بن هشام الدستوائي: ثقة مأمون. أخرج له الستة. أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي: إمام ثقة حجة، وكان ممن سمى"أمير المؤمنين في الحديث" - سماه به أبو داود الطيالسي. وقال شعبة: "كان هشام أحفظ مني عن قتادة". أبو حسان - بالسين: هو أبو حسان الأعرج، مضت ترجمته في: 5422. ووقع في المخطوطة والمطبوعة"أبو حيان" -بالياء- وهو خطأ وتخليط، كما سيبين من التخريج. والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف 4: 252 (مخطوط مصور) ، عن معمر، عن قتادة، به. ورواه الشافعي في الأم 3: 80-81، عن سفيان - وهو ابن عيينة، "عن أيوب، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس"، به. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 286، من طريق إبراهيم بن بشار، عن سفيان، وهو ابن عيينة، به. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6: 18، من طريق سعيد بن عامر، عن شعبة، عن قتادة، به. وتسرع الحافظ الذهبي في مختصر المستدرك، فعقب عليه، كأنه يريد تضعيف إسناده! فقال: "إبراهيم ذو زوائد عن"ابن عيينة"!! وهي كلمة مرسلة دون تحقيق. فإبراهيم بن بشار الرمادي: مضت ترجمته وتوثيقه في: 892، ونزيد هنا: أنه كان مكثرا عن ابن عيينة مغربا. ولكن قال ابن حبان: "كان متقنا ضابطا، صحب ابن عيينة سنين كثيرة، وسمع أحاديثه مرارا". فمثل هذا لا يستبعد عليه أن يأتي عن شيخه بما لم يأت به غيره. هذه واحدة. وأخرى: أنه لم ينفرد به عن ابن عيينة - كما ترى. وكفى برواية الشافعي إياه عن ابن عيينة ثقة وحجة. ثم لم ينفرد به ابن عيينة عن أيوب عن قتادة. كما تبين مما ذكرنا من الأسانيد، ومن رواية الطبري هنا. فقد رواه هشام الدستوائي، ومعمر، وشعبة - ثلاثتهم عن قتادة، كما ترى. ولذلك ذكره ابن كثير 2: 71-72، قال: "وقال قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس. . . ". فلم يذكر من رواه عن قتادة، لثبوته عنه من غير وجه. وذكره السيوطي 1: 370، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والبخاري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه قوله:"بدين"، وقد دل بقوله:"إذا تداينتم"، عليه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال"بدين"؟ قيل: إن العرب لما كان مقولا عندها: "تداينا" بمعنى: تجازينا، وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله:"بدين"، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله:"تداينتم"، (1) حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة. * * * وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [سورة الحجر: 30\ سورة ص: 73] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "الذي قصد تعريفه من قوله تداينتم حكمه".، وهو غير مستقيم، وفي المخطوطة: "تعريفمن قوله تداينتم حكمه"، بين الكلام بياض، وبالهامش حرف (ط) إشارة إلى الخطأ، فآثرت أن أقيم الجملة بزيادة"سمع" حتى يستقيم الكلام بعض الاستقامة. وقوله"حكمه" مفعول للمصدر في قوله: "تعريف من سمع". ثم انظر الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: 85، فإنه نقل كلام الطبري مختصرا، آخره: "المعنى الذي قصد له". (2) لم أعرف قائله، ولكنه مشهور في كتب التفسير، انظر تفسير أبي حيان 1: 343، والقرطبي 3: 377. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 القول في تأويل قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فاكتبوه"، فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى، من بيع كان ذلك أو قرض. * * * واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب. فقال بعضهم: هو حق واجب وفرض لازم. ذكر من قال ذلك: 6322 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: من باع إلى أجل مسمى، أمر أن يكتب، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى. 6323 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: فمن ادان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد. 6324 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، فكان هذا واجبا. 6325 - وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = وزاد فيه، قال: ثم قامت الرخصة والسعة. (1) قال: (فَإِنْ أَمِنَ   (1) قوله: "ثم قامت الرخصة والسعة"، أي ثبتت واستقامت، وهو مجاز، مثله قولهم: "قام الماء" إذا ثبت متحيرا لا يجد منفذا، وإذا جمد أيضًا. "وقامت عينه": ثبتت لم تتحرك. و"قام عندهم الحق": أي ثبت ولم يبرح. كل ذلك مجاز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) . 6326 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي، كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه. (1) * * * وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) . ذكر من قال ذلك: 6327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد، لقوله:"فإن أمن بعضكم بعضا" = قال ابن عيينة، قال ابن شبرمة، عن الشعبي: إلى هذا انتهى. 6328 - حدثنا المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" حتى بلغ هذا المكان:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص من ذلك، (2) فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.   (1) الأثر: 6326-"أبو سلمان المرعشي" في المخطوطة"المدعس"، وفي ابن كثير 2: 72. وقد ذكر البخاري في الكنى: 37، "أبو سليمان، عن كعب قوله، روى عن قتادة". (2) في المطبوعة: "رخص في ذلك"، والذي في المخطوطة صواب، ولكنه سيأتي في المخطوطة كالمطبوعة هنا في رقم: 6334. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 6329 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبي، قال: إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب. 6330 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية:"فإن أمن بعضكم بعضا"، نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصة ورحمة من الله. 6331 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال غير عطاء: (1) نسخت الكتاب والشهادة:"فإن أمن بعضكم بعضا". 6332 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: فلولا هذا الحرف، (2) لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن. فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الأمانة. 6333 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي قال: سألت الحسن قلت: كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد؟ قال: ألم تر أن الله عز وجل يقول:"فليؤد الذي اؤتمن أمانته"؟ 6334- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا   (1) قوله: "قال غيرعطاء"، لم يمض لقول عطاء ذكر فيما سلف في قول من قال إن الاكتتاب حق واجب وفرض لازم. ولعله سقط أثر فيه التصريح بما قال عطاء، أو لعله اقتصر على ما قاله ابن جريج في الأثر رقم: 6323، كأنه من رواية ابن جريج عن عطاء. (2) قوله: "فلولا هذا الحرف"، يعني: فلولا هذا القول من الله تعالى. واستعمال"الحرف" بمعنى القول، لم أجده في كتاب من كتب اللغة، ولكنه مجاز حسن، كما سموا القصيدة"كلمة"، فجائز أن يقال للآية وللقول كله"حرف". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 داود، عن عامر في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، حتى بلغ هذا المكان:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه. 6335 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله:"فإن أمن بعضكم بعضا"، قال: إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة. 6336- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين، من الرجل الشيء، أحتم عليه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلى قوله: (1) "فإن أمن بعضكم بعضا"، قد نسخ ما كان قبله. 6337 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة، [عن أبيه] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى" إلى:"فإن أمن بعضكم بعضا" = (2) قال: هذه نسخت ما قبلها. (3) * * *   (1) في المخطوطة: "قال فقال إلى قوله. . " بياض بين الكلمتين، و"فقال"، مكان"فقرأ" والذي في المطبوعة أشبه بالصواب. (2) في المطبوعة: "قال فقرأ إلى: فإن أمن. . . " وفي المخطوطة تكرار بعد قوله: "إلى أجل مسمى" نصه: "قال فقرأ: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى. هذه نسخت ما قبلها" ولم يذكر"فإن أمن. . . " وهي الآية الناسخة. وأثبت الصواب من الناسخ والمنسوخ: 83، وروى الخبر، كما سيأتي. (3) الأثر: 6337 -"محمد بن مروان بن قدمة العقيلي" روى عنه البخاري في التعاليق، وأبو داود في المراسيل، وروى عنه مسدد ويحيى معين وغيرهم. قال أحمد: "رأيت محمد بن مروان العقيلي، وحدث بأحاديث وأنا شاهد، لم أكتبها، تركتها على عمد" - كأنه ضعفه. وقال ابن معين: "ليس به بأس"، وعن أبي داود: "صدوق". مترجم في التهذيب. و"عبد الملك بن أبي نضرة العبدي" روى عن أبيه. قال الحافظ في التهذيب: "ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. له عندهما حديث في آية الدين: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم. قلت: وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال الحاكم في المستدرك: من أعز البصريين حديثا". مترجم في التهذيب. وأبوه"أبو نضرة" هو: "المنذر بن مالك بن قطعة العبدي" روى عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر، وأبي سعيد، وابن عباس وغيرهم من الصحابة. قال أحمد: "ثقة". وقال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به". مترجم في التهذيب. هذا، وقد أسقطت المخطوطة والمطبوعة ما وضعناه بين القوسين [عن أبيه] ، وهو سهو من الناسخ، وقد جاء على الصواب في الناسخ والمنسوخ: 83 بهذا الإسناد نفسه، كما أشرت إليه في التعليق السالف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين ="كاتب بالعدل"، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، (1) ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه، كما: 6338 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل"، قال: اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا. * * * وأما قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، فإنه يعني: ولا يأبين كاتب استكتب ذلك، أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيرا من خلقه. * * * وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك،   (1) في المطبوعة: "لا يحيف ذا الحق"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وهي فيها برسم ما أثبت غير منقوط. حاف يحف حيفا: مال وجار، وهو فعل لازم غير متعد. أما"تحيفه ماله وحقه": تنقصه من حافاته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق. ذكر من قال ذلك: 6339 - حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولا يأب كاتب"، قال: واجب على الكاتب أن يكتب. 6340 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب"، أواجب أن لا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم= قال: ابن جريج، وقال مجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب. 6341- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، بمثله. 6342 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت، فلا تأب أن تكتب لهم. * * * ذكر من قال:"هي منسوخة". قد ذكرنا جماعة ممن قال:"كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها"، (1) وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني. 6343 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن   (1) انظر ما سلف من رقم: 6327-6337. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 جويبر، عن الضحاك:"ولا يأب كاتب"، قال: كانت عزيمة، فنسختها: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) . 6344 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر. عن أبيه، عن الربيع:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله" فكان هذا واجبا على الكتاب. * * * وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه. ذكر من قال ذلك: 6345 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه. (1) ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته". لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله:"فاكتبوه   (1) قوله: "حرجا"، أي آثما. وانظر ما سلف مرارا في التعليق على هذه الكلمة 2: 423/ ثم 4: 224 (تعليق: 1) / ثم 475 تعليق: 2/ ثم 566 تعليق: 3، ثم ص 567 وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه والله". وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. (1) فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء. ولو وجب أن يكون قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) ناسخا قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله" - لوجب أن يكون قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [سورة المائدة: 6] ناسخا الوضوء بالماء = في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر = الذي فرضه الله عز وجل بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [سورة المائدة: 6] وأن يكون قوله في كفارة الظهار: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) [سورة المجادلة: 4] ناسخا قوله: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) (2) [سورة المجادلة: 3] . * * * فيُسْأل القائل إنّ قول الله عز وجل:"فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته" ناسخٌ قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه": ما الفرقُ بَينه وبين قائلٍ في التيمم وما ذكرنا قوله = (3) فزعم أنّ كل ما أبيح في حال   (1) يعني ما سلف له بيانه في 3: 385، 563/ 4: 582، وما سيأتي في هذا الجزء: 118، تعليق: 1. (2) ساق رأي الطبري مختصرًا، أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 83، 84، والقرطبي في تفسيره 3: 403، 404. (3) في المطبوعة: "ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم ما ذكرنا قوله"، أدخل التعريف على"قائل"، وحذف الواو من"وما ذكرنا" فصار الكلام محفوفًا بالفساد والخلط من كل مكان، وتخلع السياق تخلعًا فظيعًا. وقول الطبري"وما ذكرنا" يعني ما ذكره في آية الظهار السالفة. ويعني بقوله: "وما ذكرنا قوله"، أي أنه منسوخ بتمام الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 الضرورة لعلة الضرورة، ناسخ حكمُه في حال الضرورة حكمَه في كل أحواله: نظيرَ قوله في أنّ الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخٌ بقوله:"وإن كنتم عَلى سَفر ولم تجدُوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضة فإن أمن بعضُكم بعضًا فليؤدّذ الذي اؤتمن أمانته) ؟ فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله:"فإن أمن بعضُكم بعضًا" كلام منقطع عن قوله:"وإن كنتم على سَفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة"، وقد انتهى الحكم في السفر إذا عُدم فيه الكاتب بقوله:"فرهان مقبوضة". وإنما عنى بقوله:"فإن أمن بعضكم بعضًا":"إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمى"، فأمن بعضكم بعضًا، فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته. قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس، وقد انقضى الحكم في الدّين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيلٌ بقوله:"ويُعلّمكم الله واللهُ بكل شيء عليم"؟ (1) * * * وأما الذين زعموا أن قوله:"فاكتبوا"، وقوله:"ولا يأب كاتب" على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه، ويُسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره. فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. * * * ذكر من قال:"العدل" في قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل": الحقّ.   (1) هذه حجة حبر رباني بصير بمعاني الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 ......................................................................... ......................................................................... ............................................................................ (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} (2) قال أبو جعفر: يعني بذلك:" فليكتب" الكاتب = وليملل الذي عليه الحق"، وهو الغريم المدينُ يقول: ليتولّ المدَين إملالَ كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب ="وليتق الله ربه" المملي الذي عليه الحقّ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئًا، أن ينقُصَه منه ظلمًا أو يذهب به منه تعدّيًا، فيؤخذ به حيث لا يقدرُ على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته، كما: 6346 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فليكتب وليملل الذي عليه الحق"، فكان هذا واجبًا -"وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا"، يقول: لا يظلم منه شيئًا. 6347 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يبخس منه شيئًا"، قال: لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى. * * *   (1) سقط من الناسخ في هذا المكان، ما رواه أبو جعفر من أقوال القائلين في معنى"العدل" بإسناده إليهم. ولا سبيل إلى إتمام ذلك حتى توجد نسخة من التفسير يقل سهو ناسخها وإغفاله. (2) في المطبوعة والمخطوطة: سقط من الناسخ"فليكتب" قبل"وليملل"، فأثبتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا"، فإن كان المدين الذي عليه المال"سفيهًا"، يعني: جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يُملَّه على الكاتب، كما:- 6348 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، أما السفيه: فالجاهل بالإملاء والأمور. * * * وقال آخرون: بل"السفيه" في هذا الموضع، الذي عناه الله: الطفلُ الصغير. ذكر من قال ذلك: 6349 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، أما السفيه، فهو الصغير. 6350 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا"، قال: هو الصبي الصغير، فليملل وليُّه بالعدل. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال:"السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه"، لما قد بينا قبل من أن معنى"السفه" في كلام العرب: الجهلُ. (1)   (1) انظر تفسير"السفه" فيما سلف 1: 293-295/ 3: 90، 129، 130. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 وقد يدخل في قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، كل جاهل بصواب ما يُملّ من خطئه، من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادًا بها: كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه: من بالغي الرجال الذين لا يُولىَّ عليهم = والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تدينتم بدَين إلى أجل مسمى"، والصبي ومن يُولّى عليه، لا يجوز مُداينته، وأنّ الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرَهم بإملال كتاب الدَّين مع السفيه، الضعيفَ ومن لا يستطيع إملاله، ففي فصْله جل ثناؤه الضعيفَ من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم: (1) ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميَّز بين صفاتهم، غير الصنفين الآخرين. (2) وإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أنّ الموصوف بالسفه منهم دون الضعف، هو ذو القوة على الإملال، غيرَ أنه وُضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه = وأن الموصوف بالضعف منهم، هو العاجز عن إملاله، وإن كان شديدًا رشيدًا، إما لعيّ لسانه أو خرس به = وأنّ الموصوف بأنه لا يستطيع أن يملّ، هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيملّ عليه، وإما لغيبته عن موضع الإملال، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب. فوضع الله جلّ وعز عنهم فرض إملال ذلك، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمرَ، عند سقوط فرض ذلك عليهم، وليَّ   (1) في المخطوطة: "فعن فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه، فالصفة ومن لا يستطيع إملاء الكتاب التي وصف الله بها كل واحد منهم. . . " وهو كلام مضطرب، وقد أصاب ناشر المطبوعة في تصحيحه. (2) في المخطوطة: ". . . الذين بين الله صفاتهم"، وهو تصحيح لما كان في المخطوطة وهو: "الذين سن منه صفاتهم" غير منقطة، ورجحت قراءتها كما أثبتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 الحق بإملاله فقال:"فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل"، يعني: وليُّ الحقّ. * * * ولا وجه لقول من زعم أن"السفيه" في هذا الموضع هو الصغير، وأن"الضعيفَ" هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال، يوجب أن يكون قوله:"أو لا يستطيعُ أن يملّ هو" هو، العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، لبطل معنى قوله:"فليملل وليه بالعدل"، (1) لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا، (2) ولا يجوز حُكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك، ما يقضي على فساد قول من زعم أن"السفيه" في هذا الموضع، هو الطفل الصغير، أو الكبير الأحمق. ذكر من قال ذلك: 6351 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل"، يقول: وليّ الحق. 6352 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل"، قال يقول: إن كان عجز عن ذلك، أملَّ صاحبُ الدَّين بالعدل. * * *   (1) في المطبوعة: "بطل"، وفي المخطوطة: "فبطل"، ورجحت قراءتها كما أثبتها. (2) في المخطوطة: "لا يولى عليه ماله"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 ذكر الرواية عمن قال:"عنى بالضعيف في هذا الموضع: الأحمق"، وبقوله:"فليملل وليه بالعدل"، ولي السفيه والضعيف. 6353 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو"، قال: أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل. 6354 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق. 6355 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أما الضعيفُ فالأحمق. 6356 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا" لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه. * * * وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك. * * * وأما قوله:"فليملل وليه بالعدل"، فإنه يعني: بالحق. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واستشهدوا على حقوقكم شاهدين. * * * يقال:"فلان" شَهيدي على هذا المال، وشاهدي عليه". (1) * * *   (1) انظر تفسير"شهيد" فيما سلف 1: 376، 377. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وأما قوله:"من رجالكم"، فإنه يعني من أحراركم المسلمين، دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار، كما:- 6357 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، قال: الأحرار. 6358- حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن سعيد، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مجاهد مثله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجلٌ وامرأتان على الشهادة. ورفع"الرجل والمرأتان"، بالرّد على"الكون". وإن شئتَ قلتَ: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يُشهدون عليه. وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فهو رجلٌ وامرأتان، (1) كان صوابًا. كل ذلك جائز. * * * ولو كان"فرجلا وامرأتين" نصبًا، كان جائزًا، على تأويل: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. (2) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فرجل وامرأتان"، والصواب ما أثبت، وهو الوجه الذي ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 184. (2) أكثر هذا نص معاني القرآن للفراء 1: 184. وفي المخطوطة والمطبوعة: "فرجل وامرأتان" نصبًا، والأجود ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 وقوله:"ممن ترضون من الشهداء"، يعني: من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم، كما:- 6359 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، يقول: في الدَّين ="فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان"، وذلك في الدين ="ممن تَرْضون من الشهداء"، يقول: عدولٌ. 6360 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، أمر الله عز وجل أن يُشهدوا ذَوَيْ عدل من رجالهم ="فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَون من الشهداء". * * * القول في تأويل قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) بفتح"الألف" من"أنْ"، ونصب"تَضلَّ"، و"تذكرَ"، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضَلّت. وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير. لأن"التذكير" عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان"تضلّ". لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا: إنما نصبنا"تذكّر"، لأن الجزاء لما تقدم اتصلَ بما قبله، (1) فصار جوابه   (1) في المخطوطة: "لما تقدم تضل بما قبله"، والصواب من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 مردودًا عليه، كما تقول في الكلام:"إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيُعطى"، بمعنى: إنه ليعجبني أن يُعطى السائل إن سأل - أو: إذا سأل. فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله:"أنْ يسأل" لما تقدم، اتصل بما قبله وهو قوله:"ليعجبني"، ففتح"أنْ" ونصب بها، (1) ثم أتبع ذلك قوله:"يعطى"، فنصبه بنصب قوله:"ليعجبني أن يسأل"، نسقًا عليه، وإن كان في معنى الجزاء. (2) * * * وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين"الذال" من (تُذْكِرَ) وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك. وكان بعضهم يوجّهه إلى أن معناه: فتصيِّر إحداهما الأخرى ذَكرًا باجتماعهما، بمعنى: أن شهادَتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادةُ الواحد من الذكور في الدَّين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غيرُ جائزة فيما جازَت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور، (3) فكأن كل واحدة منهما - في قول متأوِّلي ذلك بهذا المعنى - صيرَّت صاحبتها معها ذَكَرًا. وذهب إلى قول العرب:"لقد أذكرت بفلان أمُّه"، أي ولدته ذَكرًا،"فهي تُذْكِر به"،"وهي امرأةٌ مُذْكِرٌ"، إذا كانت تَلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينه أنه كان يقوله.   (1) في المطبوعة: "فتح أن ونصب بها"، وفي المخطوطة: "ففلح ونصب بها" تصحيف، وبإسقاط"أن". (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 184. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "منزلة شهادة واحد. . . " بإسقاط الباء، والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 6361 - حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس تأويل قوله:"فتذْكر إحداهما الأخرى" من الذِّكْر بعد النسيان، إنما هو من الذَّكَر، بمعنى: أنها إذا شهدت مع الأخرى صَارت شَهادتهما كشَهادة الذكر. * * * وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى"الذكر" بعد النسيان. (1) * * * وقرأ ذلك آخرون: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) "بكسر"إن" من قوله:"إن تضلَ" ورفع"تذكر" وتشديده، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها، ذكرتها الأخرى، (2) من تثبيت الذاكرة الناسيةَ وتذكيرها ذلك (3) = وانقطاع ذلك عما قبله. (4) ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضَلت ذكرتها الأخرى = على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها، من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. (5) وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذَها عنه. وإنما نصب الأعمش"تضل"، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء، وهو"إن". وتأويل الكلام على   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وقال آخرون منهم يوجهونه" ليس صوابًا، والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة"تذكرها الأخرى"، وفي المخطوطة"وذكرها الأخرى"، والسياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي بعد ما يدل على صواب ما رجحت. (3) في المخطوطة: "وتنكيرها ذلك"، تصحيف. (4) قوله: "وانقطاع ذلك عما قبله" معطوف على قوله آنفًا: "بمعنى ابتداء الخبر. . . ". (5) في المخطوطة: "من تنكير الأخرى منهما. . . "، تصحيف، كالسالف في التعليق رقم: 3. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 قراءته (1) "إن تَضْللْ"، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى، حركها إلى أخفّ الحركات، ورفع"تذكر" بالفاء، لأنه جواب الجزاء. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك، قراءةُ من قرأه بفتح"أن" من قوله:"أن تضلّ إحداهما"، وبتشديد الكاف من قوله:"فتذكِّر إحداهما الأخرى". ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان، كي إن ضلت إحداهما ذكَّرتها الأخرى. وأما نصب"فتذكر" فبالعطف على"تضل"، وفتحت"أن" بحلولها محل"كي" وهي في موضع جزاء، والجواب بعده، اكتفاءً بفتحها = أعني بفتح"أن" = من"كي"، ونسق الثاني - أعني:"فتذكر" - على"تضل"، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر، قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله - أي عن"كي". وإنما اخترنا ذلك في القراءة، لإجماع الحجة من قُدماء القرأة والمتأخرين على ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءَته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز تركُ قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بَينهم، إلى غيرها. وأما اختيارنا"فتذكر" بتشديد الكاف، فإنه بمعنى: ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى، وتعريفها بأنها [نسيت] ذلك، لتذكر. (2) فالتشديد به أولى من التخفيف. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "تأويل الكلام" بإسقاط الواو، والصواب، ما أثبت. (2) مطبوعة بولاق: "فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها بأنها ذلك لتذكر" وهو كلام بلا معنى. وفي مطبوعة أخرى قبله، مع"بإنهاء ذلك" مكان"بأنها ذلك" وهو أشد خلوًا من المعنى. وفي المخطوطة: "بمعنى يوره الذكر. . . بأنها ذلك"، غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت، مع زيادة"نسيت" التي وضعتها بين القوسين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه، فتأويلٌ خطأ لا معنى له، لوجوه شتى: أحدها: أنه خلافٌ لقول جميع أهل التأويل. والثاني: أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها، (1) إنما هو ذهابُها عنها ونسيانها إياها، (2) كضلال الرجل في دينه: إذا تحيَّر فيه فعدَل عن الحق (3) . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرًا معها، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها؟ ولَلضّالة منهما في شهادتها حينئذ، (4) لا شك أنها إلى التذكير أحوجُ منها إلى الإذكار، إلا إن أراد أنّ الذاكرة إذا ضَعُفت صاحبتُها عن ذكر شهادتها شحذَتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، (5) فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، (6) كما يقال للشيء القوي في عمله:"ذَكرٌ"، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه:"سيف ذكر"، و"رجل ذَكَر" يراد به: ماض في عمله، قويّ البطش، صحيحُ العزم. فإن كان ابن عيينة هذا أراد، فهو مذهبٌ من مذاهب تأويل ذلك؟   (1) في المطبوعة: "أنه معلوم بأن ضلال. . . " بزيادة الباء، وهو لا خير فيه، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "إنما هو خطؤها عنها بنسيانها"، والصواب من المخطوطة، غير أنها أسقطت الواو قبل"ونسيانها". (3) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف 1: 195 / ثم 2: 495، 496. (4) في المطبوعة: "فالضالة منهما"، وفي المخطوطة: "ولا الضالة منهما"، والصواب ما أثبت. (5) في المطبوعة: "ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره. . . "، وفي المخطوطة: "سحدتها" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. مجاز من قولهم: "شحذ السكين والسيف": حدده بالمسن ومنه: "شحذ الجوع معدته"، إذا أضرمها وقواها على الطعام وأحدها. ويقال: "اشحذ له غرب ذهنك"، و"هذا الكلام مشحذة للفهم". (6) في المخطوطة: "فقوته بالذكر"، وما في المطبوعة أجود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 إلا أنه إذا تُؤُوِّل ذلك كذلك، (1) صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه، وإن خالفت القراءةُ بذلك المعنى، القراءةَ التي اخترناها. (2) ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله:"فتذكر". (3) ولا نعلم أحدًا تأوّل ذلك كذلك، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قراءته - إذْ كان الأمر عامًّا على ما وصفنا - ما اخترنا. (4) * * * ذكر من تأول قوله:"أنْ تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى" نحو تأويلنا الذي قُلنا فيه: 6362 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى"، علم الله أن ستكونُ حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثِّقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربِّكم، وأدرَكُ لأموالكم. ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا، وإن كان فاجرًا فبالحرَي أن يؤدّي إذا علم أنّ عليه شهودًا. 6363 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"، يقول: أن تنسى إحداهما فتذكِّرها الأخرى. 6364 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،   (1) في المطبوعة: "إذا تأول ذلك. . . " وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "القراءة الذي اخترناها"، وهو سهو من الناسخ الكثير السهو!! (3) في المطبوعة: "بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته. . . " وهو كلام قد أريق معناه ضياعًا. وفي المخطوطة: "بأن +تعين القراءة حينئذ الصحيح بالذي اختار قراءته. . . "، وهو مصحف، وأرجح أن يكون صواب الجملة كما أثبتها، لأنها عندئذ مصيبة معنى ما أراد أبو جعفر. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "فالصواب في قوله. . . "، والصواب ما أثبت. وسياق الجملة: "فالصواب في قراءته. . . ما اخترنا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 عن السدي:"أن تضل إحداهما"، يقول: تنسى إحداهما الشهادة، فتذكّرها الأخرى. 6365 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"أن تضل إحداهما"، يقول: إنْ تنسَ إحدَاهما، كذتِّرْها الأخرى. 6366 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أن تضل إحداهما فتُذْكِرَ إحداهما الأخرى"، قال: كلاهما لغة، وهما سواء، ونحن نقرأ:"فتذكِّر". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الحال التي نَهى الله الشهداءَ عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية. فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق. ذكر من قال ذلك: 6367 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالى:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم، (1) فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأوّل هذه الآية:"ولا يأبَ الشّهداء إذا ما دُعوا" ليشهدوا لرجل على رجل. 6368 - حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الرجل يطوف في القوم   (1) الحواء (بكسر الحاء) : بيوت مجتمعة من الناس على ماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله عز وجل:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا". 6369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دُعيت إلى شهادة. * * * وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر، إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب. ذكر من قال ذلك: 6370 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال:"لا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - قال: إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - للشهادة على من أراد الدّاعي إشهادَه عليه، والقيامَ بما عنده من الشهادة - من الإجابة. ذكر من قال ذلك: 6371 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن الحسن:"ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا"، قال: قال الحسن: الإقامة والشهادة. (1) 6372 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر   (1) الأثر 6371-"أبو عامر" هو: "صالح بن رستم المزني"، روى عن عبد الله بن أبي مليكة، وأبي قلابة، وحميد بن هلال، والحسن البصري، وعكرمة وغيرهم. روى عنه ابنه عامر، وإسرائيل، وهشيم، ومعتمر، وأبو داود الطيالسي. قال ابن معين: "ضعيف". وقال أحمد: "صالح الحديث". وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: "شيخ، يكتب حديثه". وقال أبو داود: "ثقة". وسيأتي في الأسانيد رقم: 6383، 6384، 6387. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الحسن يقول: جَمَعتْ أمرين: لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيتَ إلى شهادة. 6373 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي. 6374 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لإقامتها، ولا يبدأ بها، إذا دعاه ليشهده، وإذا دعاه ليقيمها. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها. ذكر من قال ذلك: 6375 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد. 6376 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. 6377 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: إذا كانوا قد أشْهِدوا. 6378 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت عندك شهادة فدُعيت. 6379 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ليث، عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 مجاهد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دُعيت لتشهد، فإن شئتَ فاذْهب، وإن شئت فلا تذهب. 6380 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصّباح، عن عمران بن حُدَير، قال: قلت لأبي مجلز: ناس يدعونني لأشهد بينهم، وأنا أكره أن أشهد بينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدتَ فأجب إذا دُعيت. 6381 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: الشاهد بالخيار ما لم يَشْهد. 6382 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن عكرمة في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا". قال: لإقامة الشهادة. 6383 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي عامر، عن عطاء قال: في إقامة الشهادة. 6384 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو عامر المزني قال، سمعت عطاء يقول: ذلك في إقامة الشهادة = يعني قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا". (1) 6385 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال: أُدْعَى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال: فلا تجبْ إن شئت. (2) 6386 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم   (1) الأثران: 6383، 6384 - أبو"عامر" مضت ترجمته برقم: 6372. (2) الأثر: 6385 -"أبو حرة" البصري، هو: "واصل بن عبد الرحمن". روى عن عكرمة بن عبد الله المزني، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن واسع وغيرهم. روى عنه حماد بن سلمة، وهشيم، والقطان، وابن مهدي، ووكيع، وغيرهم. قال البخاري: "يتكلمون في روايته عن الحسن". قال عبد الله بن أحمد: سألت يحيى بن معين عن أبي حرة فقال: "صالح، وحديثه عن الحسن ضعيف، يقولون: لم يسمعها من الحسن". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: أبو مرة، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئتَ. 6387 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن عطاء قال: للإقامة. (1) 6388 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا. 6389 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هو الذي عنده الشهادة. 6390 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدّم فيشهد، إذا كان فارغًا. 6391 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضرّ إنسانًا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه؟ إذا دُعي أن يكتب وجبَ عليه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال: كذلك يجب على الكاتب أن يكتُب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء، الشهداء كثيرٌ. 6392 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد فلا يأب إذا دُعي أن يأتي يؤدي شهادةً ويُقيمها. 6393 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:   (1) الأثر: 6387-"أبو عامر"، انظر ما سلف رقم: 6372. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 "ولا يأب الشهداء"، قال: كان الحسن يتأوّلها: إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها. 6394 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهِد لرجل فشهد، والكاتبُ الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مَقطع الحق، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهِدوا عليه. (1) * * * وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل الرجلَ والمرأةَ بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق، ابتداءً، لا لإقامة الشهادة، (2) ولكنه أمر نَدْب لا فرْض. ذكر من قال ذلك: 6395 - حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد. (3) 6396 - حدثني أبو العالية قال، حدثنا أبو قتيبة، عن محمد بن ثابت العَصَريّ، عن عطاء، بمثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال:" [معنى]   (1) قوله: "مقطع الحق": هو موضع الفصل في الحكم بين الحق والباطل. من"القطع"، وهو الفصل بين الأجزاء. (2) في المطبوعة: "لا إقامة الشهادة"، وفي المخطوطة كتب"لا إقامة" ثم ضرب على الألف ووضع تحت الألف من"لا" همزة، وظاهر أن الذي أثبته هو الصواب. (3) الخبر: 6395- إسماعيل بن الهيثم، أبو العالية العبدي، شيخ الطبري: لم نجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع، إلا رواية الطبري هذا الخبر والذي بعده، وروايته عنه في التاريخ 1: 206 مرة واحدة، عن أبي قتيبة أيضًا. وأبو قتيبة: هو سلم بن قتيبة، مضت ترجمته في: 1924. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 ذلك: (1) ولا يأب الشهداء من الإجابة، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه، للذي هو له". وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عز وجل قال:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا"، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم"الشهداء". وغير جائز أن يلزمهم اسم"الشهداء" إلا وقد استُشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم"الشهداء". (2) فأما قبل أن يُستشهدوا على شيء، فغير جائز أن يقال لهم"شهداء". لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولمَّا يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له"شاهد"، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد. وإذْ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، (3) أو من قد قام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم = (4) كان معلومًا أن المعنيَّ بقوله:"ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دعوا"، من وصفنا صفته ممن قد استُرْعى شهادةً، أو شَهد، فدعى إلى القيام بها. لأن الذي لم يُستشْهد ولم يُسترْعَ شهادةً قبل الإشهاد، غيرُ مستحق اسم"شهيد" ولا"شاهد"، لما قد وصفنا قبل. =مع أن في دخول"الألف واللام" في"الشهداء"، دلالةً واضحةً على أن المسمَّى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة، أشخاصٌ معلومون قد عرفوا بالشهادة،   (1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها. (2) في المطبوعة: "على ما ألزمهم شهادتهم عليه"، وفي المخطوطة: "لزمهم شهادتهم"، والصواب في قراءة ذلك ما أثبت. (3) في المطبوعة: "وإن كان خطأ. . . " والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "شهادة لغيرهم"، والصواب ما في المطبوعة. (4) في المطبوعة: "من قد قام بشهادته"، وفي المخطوطة: "من قد قام شهادته"، وصواب القراءة ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهلَ الحقوق باستشهادهم بقوله:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضونَ من الشهداء". وإذْ كان ذلك كذلك، كانَ معلومًا أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استُشْهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمرًا لمن أعرَض من الناس فدُعي إلى الشهادة يشهد عليها، لقيل: (1) ولا يأبَ شاهد إذا ما دعى. غيرَ أنّ الأمر وإن كان كذلك، فإنّ الذي نقول به في الذي يُدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلحُ للشهادة، فإنّ الفرضَ عليه إجابةُ داعيه إليها، كما فَرضٌ على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرضٌ عليه أن يكتب، كما فرضٌ على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهلٌ بالإيمان وبفرائض الله، فسأله تعليمه وبيان ذلك له، أنْ يعلمه ويبيِّنه له. (2) ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداءً ليشهِد على ما أشْهِد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وإنَّ فرْضًا على الرجل إحياءُ ما قَدَر على إحيائه من حق أخيه المسلم. (3) * * * "والشهداء" جمع"شهيد". (4) * * *   (1) في المخطوطة: "إلى الشهادة فشهد"، والصواب ما في المطبوعة. (2) سياق هذه الجملة: كما فرض على من كان بموضع. . . أن يعلمه. . ". (3) في المطبوعة: "وقد فرضنا على الرجل. . . "، وهو خطأ فاسد، وتحريف لما في المخطوطة من الصواب المحض. (4) انظر ما سلف في بيان"الشهداء" 1/ 377/ ثم 3: 97، 145/ وما سلف قريبًا ص: 60. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا، أيها الذين تُداينون الناس إلى أجل، أن تكتبوا صغيرَ الحق، يعني: قليله، أو كبيره = يعني: أو كثيره = إلى أجله = إلى أجل الحق، فإنّ الكتاب أحصى للأجل والمال. 6397 - حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد:"ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله"، قال: هو الدّين. * * * ومعنى قوله:"ولا تسأموا": لا تملوا. يقال منه:"سئمتُ فأنا أسأم سَآمة وسَأمةً"، ومنه قول لبيد: وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هذَا النَّاسِ: كَيْفَ لَبيدُ؟ (1) ومنه قول زهير: سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحَيَاةِ، وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ عَامًا، لا أَبَالَكَ، يَسْأَمِ (2) يعني مللت. * * * وقال بعض نحويي البصريين: تأويل قوله:"إلى أجله"، إلى أجل الشاهد. ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه. (3) * * *   (1) ديوانه، القصيدة رقم: 7، يذكر فيها طول عمره، ومآثره في ماضيه. (2) ديوانه: 9. تكاليف الحياة: مشقاتها ومتاعبها. وهذا البيت هو مطلع أبياته الحكيمة التي ختم بها معلقته. (3) انظر ما قاله في"الأجل" فيما سلف قريبًا ص: 43. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلكم"، اكتتاب كتاب الدين إلى أجله. * * * ويعني بقوله:"أقسط"، أعدل عند الله. يقال منه:"أقسط الحاكم فهو يُقسط إقساطًا، وهو مُقسط"، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل:"قَسَط فهو يَقْسِط قُسوطًا". ومنه قول الله عز وجل: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [سورة الجن: 15] ، يعني الجائرون. * * * وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6398 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ذلكم أقسط عند الله"، يقول: أعدل عند الله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأصوب للشهادة. * * * وأصله من قول القائل:"أقمتُ من عَوَجه"، (1) إذا سويته فاستوى. * * * وإنما كان الكتاب أعدل عند الله، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه،   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أقمته من عوجه"، والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدَّين والمستدين على نفسه، فلا يَقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصلُ الحكم بينهم أبيَن لمن احتُكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به. واتباعُ أمر الله لا شَكّ أنه عند الله أقسطُ وأعدلُ من تركه والانحراف عنه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وأدنى"، وأقرب، من"الدنو"، وهو القرب. * * * ويعني بقوله:"أن لا ترتابوا"، أن لا تَشكوا في الشهادة، (1) كما:- 6399 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي"ذلك أدنى أن لا ترتابوا"، يقول: أن لا تشكوا في الشهادة. * * * وهو"تفتعل" من"الرِّيبة". (2) * * * ومعنى الكلام: ولا تملُّوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل، صغيرًا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرًا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله، وأصوبُ لشهادة شهودكم عليه، وأقربُ لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبًا. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "من أن لا تشكوا"، والصواب حذف"من"، أو جعلها"أي أن لا تشكوا". (2) في المخطوطة: "وهو تفعيل"، وهو خطأ محض وتحريف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا} قال أبو جعفر: ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم = ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مُبايعة بالنقود الحاضرة يدًا بيد، فرخَّص لهم في ترك اكتتاب الكُتب بذلك. لأن كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض = إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا = ما وجب له قِبَل مبايعيه قبْل المفارقة، (1) فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابًا بما وجب لهم قبلهم، وقد تقابضوا الواجبَ لهم عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نَسَاء="فليس عليكم جُناح أن لا تكتبوها"، يقول: فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرةَ. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6400 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، يقول: معكم بالبلد تَرَوْنها، فتأخذُ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها. * * *   (1) في المطبوعة: "إذا كان التواجب بينهم فيما يتابعونه بعد ما وجب له قبل مبايعيه. . " وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: "إذا كان التواجب بينهم فيما يتبايعون نقدًا ما وجب له قبل مبايعيه"، وقوله"++ ما وجب" غير منقوطة. فرأيت صواب قراءة"التواجب"، "الواجب" وصواب الأخرى"نقدا" فاستقام الكلام. وسياق العبارة: "لأن كل واحد منهم. . يقبض. . . ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة" وقوله: "إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا"، جملة فاصلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 6401 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك."ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله"، إلى قوله:"فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها"، قال: أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا، ورخصّ لهم أن لا يكتبوه. واختلفت القرَأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ) بالرفع. وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. (1) وذلك وإن كان جائزًا في العربية، إذ كانت العربُ تنصبُ النكرات والمنعوتات مع"كان"، وتضمر معها في"كان" مجهولا فتقول:"إن كان طعامًا طيبًا فأتنا به"، وترفعها فتقول:"إن كان طعامٌ طيبٌ فأتنا به"، فتتبع النكرةَ خبرَها بمثل إعرابها = فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستجيز القراءةَ بغيره، الرفعُ في"التجارة الحاضرة"، لإجماع القرأة على ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبًا عنهم، ولا يُعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبًا قولُ الشاعر: (2) أَعَيْنيَ هَلا تَبْكِيَانِ عِفَاقَا ... إذَا كانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وعِنَاقَا (3)   (1) في المطبوعة: "فقرأه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. (2) لم أعرف قائله، ولكن أخشى أن يكون هو متمم بن نويرة، كما سترى في التعليق التالي. (3) معاني القرآن للفراء 1: 186. أرجح أن"عفاقًا" هذا، هو"عفاق بن أبي مليل اليربوعي"، الذي قتل يوم العظالى (انظر هذا 1: 337، تعليق: 2) فرثاه متمم بن نويرة اليربوعي، ورثى أخاه بجيرًا، وقد سلف شعر متمم في رثائهما (1: 337) . ومن أجل ذلك قلت إن الشعر خليق أن يكون لمتمم. أما ما زعمه زاعمون من أنه في"عفاق" الذي أكلته باهلة. والذي يقول فيه القائل: إنَّ عِفَاقًا أَكلَتْهُ باَهِلَهْ ... تمشَّشُوا عِظَامَهُ وكاهِلَهْ فذاك"عفاق" آخر، هو"عفاق بن مرى بن سلمة بن قشير" (القاموس- التاج عفق) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 وقول الآخر: (1) وَلِلهِ قَومِي: أَيُّ قَوْمٍ لِحُرَّةٍ ... إذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا! ! (2) وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءَها. و"كان" من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما، تذكروا إتباع النكرة خبرَها، وإذا نصبوهما، تذكروا صحبة"كان" لمنصوب ومرفوع. (3) ووجدوا النكرة يتبعها خبرُها، وأضمروا في"كان" مجهولا لاحتمالها الضمير. * * * وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك:"إلا أن تَكون تجارةً حاضرةً"، إنما قرأه على معنى: إلا أن يكون تجارة حاضرة، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أنْ يقرأ"يكون" بالياء، وأغفل موضعَ صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العربَ إذا جعلوا مع"كان" نكرة مؤنثًا بنعتها أو خبرها، أنَّثوا"كان" مرة، وذكروها أخرى، فقالوا:"إن كانت جارية صغيرة فاشترُوها، وإن كان جاريةً صغيرةً فاشتروها"، تذكر"كان" - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رَفعت - أحيانًا، وتؤنث أحيانًا. * * *   (1) هو عمرو بن شأس، على الشك في ذلك كما سترى في التعليق التالي. (2) معاني القرآن للفراء 1: 186، سيبويه 1: 22، وصدره في سيبويه منسوبًا لعمرو بن شأس: "بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنا" وأنا أخشى أن يكون الشعر لغير عمرو بن شأس، ولكني لم أجده، وإن كنت أذكر أني قرأته في أبيات غير شعر عمرو. وقوله: "ذا كواكب"، أي شديد عصيب، قد ظهرت النجوم فيه نهارًا، كأنه أظلم فبدت كواكبه، لأن شمسه كسفت بارتفاع الغبار في الحرب، وإذا كسفت الشمس، ظهرت الكواكب. ويقال: "أمر أشنع وشنيع"، أي فظيع قبيح. وكان في المطبوعة: "بحرة"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء. يعني أن أمهم حرة، فولدتهم أحرارًا. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "منصوب ومرفوع" والصواب ما أثبت. وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 185-187. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله:"إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ" مرفوعة فيه"التجارة الحاضرة"، لأن"تكون"، بمعنى التمام، ولا حاجة بها إلى الخبر، بمعنى: إلا أن تُوجد أو تقعَ أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن لها لازمًا، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك، إذْ لم يكن يجدك لـ"كان" منصوبًا، (1) ووجد"التجارة الحاضرة" مرفوعة، وأغفل جَواز قوله:"تديرونها بينكم" أن يكون خبرًا لـ"كان"، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم. * * * والذي قال من حكينا قوله من البصريين غيرُ خطأ في العربية، غيرَ أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفي المعنى أصحّ: وهو أن يكون في قوله:"تديرونها بينكم" وجهان: أحدهما أنه في موضع نصب، على أنه حل محل خبر"كان"، و"التجارة الحاضرة" اسمها. والآخر: أنه في موضع رفع على إتباع"التجارة الحاضرة"، لأن خبرَ النكرة يتبعها. فيكون تأويله: إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ دائرةً بينكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسَائه، فإنّ إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدًا بيدٍ ونقدًا، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على مَنْ بعتموه شيئًا أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوفَ المضرّة على كل من الفريقين. أما على المشتري، فأنْ يجحد البائعُ   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا لم يكن يجد"، والسياق يقتضي: "إذ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 البيع، (1) وله بيِّنة على ملكه ما قد باع، ولا بيِّنة للمشتري منه على الشراء منه، فيكون القولُ حينئذ قولَ البائع مع يمينه ويُقضَى له به، فيذهب مالُ المشتري باطل وأما على البائع، فأنْ يجحد المشتري الشراءَ، وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قِبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلفُ على ذلك، فيبطل حقّ البائع قِبَلَ المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر. * * * ثم اختلفوا في معنى قوله:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، أهو أمرٌ من الله واجبٌ بالإشهاد عند المبايعة، أم هو ندب؟ فقال بعضهم:"هو نَدْبٌ، إن شاء أشهد، وإن شاء لم يُشهد". ذكر من قال ذلك: 6402 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن وشقيق، عن رجل، عن الشعبي في قوله:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله:"فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته"؟ 6403 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا الربيع ابن صبيح قال: قلت للحسن: أرأيتَ قول الله عز وجل:"وأشهدوا إذا تبايعتم"؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تُشهد عليه فلا بأس. 6404 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن صبيح قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، قول الله عز وجل:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة، (2) أترى   (1) في المطبوعة: ". . البائع المبيع. . "، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ينقد في شهرين". . .، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 بأسًا أن لا أشهد عليه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد فلا بأس. (1) 6405 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبي:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاؤوا أشهدوا، وإن شاؤوا لم يشهدوا. * * * وقال آخرون:"الإشهاد على ذلك واجب". ذكر من قال ذلك: 6406 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها"، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر اللهُ، ما كان يدًا بيد أن يُشهدوا عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا. 6407 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم، لما قد بيَّنا: من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ،   (1) الأثران: 6403، 6404 -"الربيع بن صبيح السعدي". روى عن الحسن، وحميد الطويل ومجاهد بن جبر، وغيرهم. وروى عنه الثوري، وابن المبارك، وابن مهدي، ووكيع وغيرهم. قال حرملة عن الشافعي: "كان الربيع بن صبيح غزاء - وإذا مدح الرجل بغير صناعته، فقد وهص، أي دق عنقه". وقال أحمد: "رجل صالح لا بأس به". وقال ابن معين وابن سعد والنسائي: "ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "كان من عباد أهل البصرة وزهادهم، وكان يشبه بيته بالليل ببيت النحل من كثرة التهجد، إلا أن الحديث لم يكن من صناعته، فكان يهم فيما يروى كثيرًا، حتى وقع في حديثه المناكير من حيث لا يشعر. لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 إلا ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد. (1) * * * وقد دللنا على وَهْيِ قول من قال: (2) ذلك منسوخ بقوله:"فليؤدِّ الذي اؤتمن أمانته"، فيما مضى فأغنى عن إعادته. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ذلك نهيٌ من الله الكاتبَ الكتابَ بين أهل الحقوق والشهيدَ أن يضارّ أهله، (4) فيكتب هذا ما لم يُملله المملي، ويَشهد هذا بما لم يستشهده المستشهِد. (5) ذكر من قال ذلك: 6408 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:""ولا يضارّ كاتب ولا شهيد"،"ولا يضار كاتب" فيكتب ما لم يملَّ عليه =،"ولا شهيد" فيشهد بما لم يُستشهد. 6409 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، قال: كان الحسن يقول:"لا يضارّ كاتب" فيزيد شيئًا أو يحرّف ="ولا شهيد"، قال: لا يكتم الشهادة، ولا يشهدْ إلا بحق.   (1) انظر ما سلف قريبًا ص: 53. (2) في المخطوطة: "على وهاء قول من قال"، وقد سلف ما قلته في قول الفقهاء"الوهاء" بمعنى"الوهى"، وهو الضعف الشديد في 4: 18 / ثم ص: 155 تعليق: 1/ ثم ص: 361، تعليق3، فراجعه. (3) انظر ما سلف قريبًا ص: 53-55. (4) في المطبوعة: "نهي من الله لكاتب الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله: "الكاتب الكتاب. . والشهيد" منصوب بالمصدر"نهى"، و"الكتاب" منصوب باسم الفاعل"الكاتب" (5) في المخطوطة والمطبوعة: "بما لم يستشهده الشهيد"، وهو محال وخطأ، وإنما"الشهيد الشاهد، وهو لا يعني إلا"المستشهد"، فكذلك أثبتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 6410 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: اتقى الله شاهدٌ في شهادته، لا ينقص منها حقًّا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يَدَعنَّ منه حقًّا ولا يزيدنَّ فيه باطلا. (1) 6411 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب ما لم يُملل ="ولا شهيد"، فيشهد بما لم يستشهد. 6411 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب ما لم يُملل ="ولا شهيد"، فيشهد بما لم يستشهد. 6412 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة نحوه. 6413- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب غير الذي أملي عليه. قال: والكتاب يومئذ قليلٌ، ولا يدرون أي شيء يُكتب، فيضار فيكتبَ غير الذي أملي عليه، فيبطل حقهم. قال: والشهيد: يضارّ فيحوِّل شهادته، فيبطل حقهم. * * * قال أبو جعفر: فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارِرْ كاتبٌ ولا شهيد، ثم أدغمت"الراء" في"الراء"، لأنهما من جنس، وحُرِّكت إلى الفتح وموضعها جزم، لأنّ الفتح أخفّ الحركات. (2) * * * وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك:،"ولا يضارّ كاتب ولا شهيد" بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.   (1) الأثر: 6410- في المطبوعة: "قال حدثنا يزيد بن قتادة"، وفي المخطوطة: "قال حدثنا يزيد، قال حدثنا يزيد، عن قتادة"، وهو إسناد دائر في الطبري كما أثبته، أقربه رقم: 6393، هذا وقد سلف هذا الأثر مختصرًا برقم: 6338. (2) انظر ما سلف 5: 46-53، وفي"تضار" وقراءاتها، وفي قوله: "لأن الفتح أخف الحركات" 5: 52، تعليق: 1، ثم هذا فيما سلف قريبا ص: 65 س: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 ذكر من قال ذلك: 6414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: أن يؤديا ما قِبَلهما. 6415 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء."ولا يضار كاتب ولا شهيد"؟ قال:"لا يضار"، أن يؤديا ما عندهما من العلم. (1) 6416 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"لا يضار" كاتب ولا شهيد"، قال: أن يدعوهما، فيقولان: إن لنا حاجة. (2) 6417 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قالا واجب على الكاتب أن يكتب ="ولا شهيد"، قالا إذا كان قد شهد، اقبلْهُ. (3) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولا يضارّ المستكتِب والمستشهِد الكاتبَ والشهيدَ". وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضَارَرْ، على وجه ما لم يسمّ فاعله. ذكر من قال ذلك: 6418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال، كان عمر يقرأ:"ولا يُضَارَرْ كاتبٌ ولا شهيد".   (1) في المطبوعة: "لا يضارا أن يؤديا" وهو خطأ، وفاسد المعنى، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فيقولا"، والصواب من المخطوطة. (3) قوله: "اقبله"، هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأنا في شك منها، وضبطتها على أقرب المعاني إلى الصواب، ولكني أخشى أن يكون في الكلمة تحريف لم أقف على وجهه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 6419 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك قال: كان ابن مسعود يقرأ: (ولا يُضَارَرْ) . 6420 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقرأ:"ولا يُضَارَرْ كاتب ولا شهيد"، وأنه كان يقول في تأويلها: ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبَه وشاهدَه إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شُغل أو حاجة، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته = وقال مجاهد: لا يقمْ عن شغله وحاجته، فيجدَ في نفسه أو يحرَج. 6421 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، والضِّرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنىّ: إنّ الله قد أمرك أن لا تأبَى إذا دعيت! فيضارُّه بذلك، وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم". 6422 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجةٌ ليس منها بدٌّ؛ فيقول: خلُّوا سبيله. 6423 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن عكرمة في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول: فلا يضاره. 6424 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: لا يأت الرجل فيقول: انطلق فاكتبْ لي، واشهد لي، فيقول: إن لي حاجة فالتمسْ غيري! فيقول: اتق الله، فإنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فهذه المضارّة، ويقول: دعه والتمس غيره، والشاهدُ بتلك المنزلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 6425 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: يدعو الرجل الكاتبَ أو الشهيدَ، فيقولُ الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فيقولُ الذي يدعوهما: إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل لا يضارّهما. 6426 - حدثت عن الحسن قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهدَ وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنّا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول: والله لقد أمركما أن تجيبا! (1) فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، = يعني: لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما. 6427 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له: اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته = (2) ولا شاهدًا من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته، وأنتَ تجد غيره. 6428 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: لما نزلت هذه الآية:"ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علَّمه الله"، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي! فيقول: إني مشغول = أو: لي حاجة، فانطلق إلى غيري! فيلزَمه ويقول: إنك   (1) في المطبوعة: "الله أمركما أن تجيبا"، والصواب من المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى يكتب له"، والسياق يقتضي"لك". وقوله بعد"ولا شاهدًا من شهودك. . . " معطوف على قوله قبل: "أن تعترض رجلا. . . ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 قد أمِرتَ أن تكتب لي! فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي فاشهد لي! فيقول: انطلق إلى غيري فإني مشغول = أو: لي حاجة! (1) فيلزمه ويقول: قد أمِرت أن تتبعني. فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، فأنزل الله عز وجل:"ولا يضار كاتب ولا شهيد". 6429 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إن لي حاجة فدعني! فيقول: اكتب لي ="ولا شهيد"، كذلك. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، بمعنى: ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ = (2) على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مُبتدئها إلى انقضائها على وجه:"افعلوا= أو: لا تفعلوا"، إنما هو خطابٌ لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتابُ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب، كقوله:"وليكتب بينكم كاتب"، وكقوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، وما أشبه ذلك. فالوجهُ = إذْ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله:"وإن تَفعلوا فإنه فُسوقٌ بكم" = [بأن يكون   (1) في المطبوعة: "ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي. فيقول: اذهب إلى غيري فإني مشغول" وكان في المخطوطة: "ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي إلى غيري فإني مشغول"، وهو فاسدًا، وآثرت تصحيحه على وجه غير الوجه الذي كان في المطبوعة، ليكون أوضح وأقرب إلى معنى الشهادة. (2) في المطبوعة: "أن يجيب" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 الأمر مردودًا على المستكتب والمستشهد] ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد. (1) ومع ذلك، فإنّ الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيَّين عن الضرار لقيل: (2) وإن يفعلا فإنه فسوقٌ بهما، لأنهما اثنان، وأنهما غير مخاطبين بقوله:"ولا يضارّ"، بل النهي بقوله:"ولا يضار"، نهيٌ للغائب غير المخاطب. فتوجيهُ الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان مُنعدِلا عنه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ، وما نُهيتم عنه من ذلك ="فإنه فسوق بكم"، يعني: إثم بكم ومعصيةٌ. (3) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا. ذكر من قال ذلك: 6430 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم"، يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فالواجب إذ كان المأمورون مخاطبين بقوله: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد"، وهو كلام مختل أشد الاختلال، وهو في المطبوعة أشد اختلالا إذ جعل"إذ كان المأمورون" -"إذ كان. . . "، وقد وضعت بين القوسين ما هو أشبه بسياق المعنى، وكأنه الصواب إن شاء الله. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "ومع ذلك إن الكاتب والشهيد" والصواب ما أثبت. (3) انظر تفسير"الفسوق" فيما سلف 1: 409، 410 / ثم 2: 118، 119، 399 / ثم 4: 135-140. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 6431 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، والفسوقُ المعصية. 6432 - حدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، الفسوق العصيان. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي، ويضارّ شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها ="فإنه فسوق بكم"، يعني: فإنه كذب. ذكر من قال ذلك: 6433 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم"، الفسوق الكذب. قال: هذا فسوق، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل كتابه فكذَب، وكذَب الشاهدُ فحوّل شهادته، فأخبرهم الله أنه كذبٌ. * * * قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى على أن المعنىّ بقوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، إنما معناه: لا يضارّهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية. (1) فقوله:"وإن تفعلوا" إنما هو إخبارُ من يضارّهما بحكمه فيهما، وأنّ من يضارّهما فقد عصَى ربه وأثم به، (2) وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.   (1) انظر ما سلف قريبًا في تفسير الآية. (2) قوله: ""أثم به". قد سلف في 4: 530 تعليق 3 ما نصه: "آثما بربه" غير منقوطة، كأنها"بربه" ولكني لم أجد في كتب اللغة"آثم بربه" وإن كنت أخشى أن يكون صوابًا له وجه لم أتحققه" وغيرتها هناك"أثم بريائه"، فقد جاء هذا النص هنا محققًا ما خشيت، فصح أن الصواب هناك"آثمًا بربه"، فقيده هناك، وفي كتب اللغة. ومعنى: "أثم بربه": أي: قدم الإثم إلى ربه بمعصيته، فالباء فيه للغاية، كما في قوله تعالى {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} وكما قال كثير: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي، لا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا، ولا مقلِيَّةً إن تَقَلَّتِ فهذه هي الحجة الناهضة في صواب التعبير الذي جاء في كلام الطبري، والحمد لله رب العالمين على حسن توفيقه إيانا إلى الصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واتقوا الله"، وخافوا الله، أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تُضِيعوه. ويعني بقوله:"ويُعلَّمكم الله"، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به="والله بكل شيء عليم"، يعني: [بكل شيء] من أعمالكم وغيرها، (1) يحصيها عليكم، ليجازيكم بها. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6434 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"ويعلمكم الله"، قال: هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به. * * *   (1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا (كَاتِبًا) ، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى،"فرهان مقبوضة". * * * وقرأ جماعةٌ من المتقدمين: (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) ، بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة. * * * والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار:"ولم تجدوا كاتبًا"، بمعنى: من يكتب، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين. * * * [قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه] : (1) وإن كنتم، أيها المتداينون، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك، ليكون ثقةً لكم بأموالكم. ذكر من قال ما قلنا في ذلك: 6435 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة"، فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا، فرخص له   (1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، حتى يستقيم الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 في الرهان المقبوضة، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن. 6436 - حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا"، يقول: كاتبًا يكتب لكم ="فرهان مقبوضة". 6437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه، وذلك في المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [كاتبًا] ، فرهان مقبوضة. (1) * * * ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها: 6438 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس:"فإن لم تجدوا كتابًا"، يعني بالكتاب، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم. 6439 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قرأ:"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال: ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا. 6440 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقرأها:"فإن لم تجدوا كتابًا"، ويقول: ربما وجد الكاتبُ ولم تُوجد الصحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول. 6441 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا"، يقول: مدادًا، - يقرأها كذلك - يقول: فإن لم تجدوا مدادًا، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة ="فرهن مقبوضة"، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر.   (1) الزيادة بين القوسين، أخشى أن تكون سقطت من الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 6442 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب قال: إن أبا العالية كان يقرؤها،"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال أبو العالية: تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة. * * * قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"فرهان مقبوضة". فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) ، بمعنى جماع"رَهْن" كما"الكباش" جماع"كبش"، و"البغال" جماع"بَغل"، و"النعال" جماع"نعل". * * * وقرأ ذلك جماعة آخرون: (فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ) على معنى جمع:"رِهان"،"ورُهن" جمع الجمع، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع"رَهْن":، مثل"سَقْف وسُقُف". * * * وقرأه آخرون: (فَرُهْنٌ) مخففة الهاء على معنى جماع"رَهْن"، كما تجمع"السَّقْف سُقْفًا". قالوا: ولا نعلم اسمًا على"فَعْل" يجمع على"فُعُل وفُعْل" إلا"الرُّهُنُ والرُّهْن". و"السُّقُف والسُّقْف". قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه:"فرهان مقبوضة". لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على"فَعْل"، كما يقال:"حَبْلٌ وحبال" و"كَعْب وكعاب"، ونحو ذلك من الأسماء. فأما جمع"الفَعْل" على"الفُعُل أو الفُعْل" فشاذّ قليل، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل:"سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف""وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب" من:"قلب النخل". (1) "وجَدٌّ وجُدٌّ"، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. (2) وأما ما جاء من جمع"فَعْل" على"فُعْل"   (1) هذا كله غريب لم يرد في كتب اللغة. (2) وهذا أيضًا غريب لم أجده في كتب اللغة، وإنما قالوا في جمعه"أجداد وأجد وجدود". وكان في المطبوعة"حد وحد" بالحاء، و"الخط"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 ف"ثَطٌّ، وثُطّ"، و"وَرْدٌ ووُرْد" و"خَوْدٌ وخُود". وإنما دعا الذي قرأ ذلك:"فرُهْنٌ مقبوضة" إلى قراءته فيما أظن كذلك، مع شذوذه في جمع"فَعْل"، أنه وجد"الرِّهان" مستعملة في رِهَان الخيل، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل، الذي هو بغير معنى"الرهان" الذي هو جمع"رَهْن"، ووجد"الرُّهُن" مقولا في جمع"رَهْن"، كما قال قَعْنَب: بَانَتْ سُعادُ وأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ الرُّهُنُ (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، ="فليتق الله"، المدينُ ="رَبّه"، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يَلُطّ دونه، (2) أو يحاول الذهاب به، فيتعرّض من عقوبة الله لما لا قبل له، (3) به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه، إليه. * * * وقد ذكرنا قول من قال:"هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي   (1) مختارات ابن الشجرى 1: 6، ولباب الآداب 402-404، اللسان (رهن) ، وروايته هناك"من قبلك"، وهي أجود فيما أرى. غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا: إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط، فعندئذ يملك المرتهن الرهن الذي عنده. كان هذا على رسم الجاهلية، فأبطله الإسلام. يقول: فارقتك بعد العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها، فذهبت بذلك كله، كما يذهب بالرهان من كانت تحت يده. (2) يقال: "لط الغريم بالحق دون الباطل": دافع ومنع الحق. و"لط حقه، ولط عليه" جحده ومنعه. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "ما لا قبل" بحذف اللام، وما أثبت هو أقرب إلى الجودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 في الآية قبلها: من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب". وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) وقد:- 6443 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، إنما يعني بذلك: في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا، فليسَ له أن يرتهن ولا يأمن بعضُهم بعضًا. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله الضحاك = من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر=، فكما قال، لما قد دللنا على صحّته فيما مضى قبل. وأما ما قاله= من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك، مثل الائتمان: في أنه ليس لربّ الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر= فإنه قولٌ لا معنى له، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:- 6444- أنه اشترى طعامًا نَسَاءً، ورهن به درعًا لهُ. (2) * * * فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بمالَهُ من حقّ، في السفر والحضر- لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا، لأنه لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ، غير أنهما إذا تبايعا برَهْن، فالواجب عليهما= إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد، أو كان البيع   (1) انظر ما سلف آنفًا: ص 53-55. (2) الأثر: 6444- ذكره الطبري بغير إسناد. وقد رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5: 100- 102) ومسلم في صحيحه 11: 39، 40 من طرق، عن عائشة أم المؤمنين. وسنن البيهقي 6: 36. يقال نسأت عنه دينه نساء: (بالمد وفتح النون) : أخرته. و"بعته بنسيئة"، أي: بأخرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 أو الدَّين إلى أجل مسمى (1) = أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) } قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال بإشهادهم، فقال لهم:"ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا" - ولا تكتموا، أيها الشهود، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذُ له بحقه. ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان، فقال:"ومن يَكتمها". يعني: ومن يكتم شهادته ="فإنه آثم قَلبه"، يقول: فاجرٌ قلبه، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله، (2) كما:- 6445 - حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه"، فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا. 6446 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي   (1) في المطبوعة: "وكان البيع. . . " وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 قوله:"ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، يقول: فاجر قلبه. 6447 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) (1) [سورة المائدة: 72] ، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول:"ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه". * * * وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول:"على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد، ويخبر بها حيثُ استُخبر". 6448 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل:"أخْبِر بها عند الأمير"، أخبره بها، لعله يراجع أو يَرْعَوي. * * * وأما قوله:"والله بما تعملون عليمٌ"، فإنه يعني:"بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها ="عليمٌ"، يحصيه عليكم، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "ومن يشرك بالله"، وليست هذه قراءتها، أخطأ الناسخ وسها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (1) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لله ما في السموات وما في الأرض"، لله ملك كل ما في السموات وما في الأرض من صغير وكبير، وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه. وإنما عنى بذلك جل ثناؤه كتمانَ الشهود الشهادةَ، يقول: لا تكتموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتمها يفجُرْ قلبه، ولن يخفى عليّ كتمانه ذلك، لأني بكل شيء عليم، وبيدي صَرْف كل شيء في السموات والأرض ومِلكه، أعلمُ خفيّ ذلك وَجليّه، (2) فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة = وعيدًا من الله بذلك مَنْ كتمها، وتخويفًا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرَائهم ممن انطوى كشحًا على معصية فأضمرها، أو أظهر مُوبقة فأبداها من نفسه - من المحاسبة عليها فقال:"وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، يقول: وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المالِ الجحودَ والإنكار، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم، وغير ذلك من سيئ أعمالكم ="يحاسبكم به الله"، يعني   (1) لم تثبت المخطوطة ولا المطبوعة قوله تعالى: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" في هذا الموضع ولا في غيره إلى القول في تفسير تمام الآية، وأثبتها في مكانها. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "أعلمه خفي. . "، والسياق يقتضي ما أثبت. وفي المخطوطة: "وجليله"، ولا بأس بها، ولكن ما في المطبوعة أمثل بالسياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 بذلك: يحتسب به عليكم من أعمالكم، (1) فمجازٍ من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله، (2) وغافرٌ لمن شاء منكم من المسيئين. (3) * * * ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله:"وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله". فقال بعضهم بما قلنا: من أنه عنى به الشهودَ في كتمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها. ذكر من قال ذلك: 6449 - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله"، يقول: يعني في الشهادة. (4) 6450 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: في الشهادة. 6451 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال: سئل داود عن قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فحدثنا عن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يحسب به عليه من أعماله" بالضمير المفرد، والسياق يقتضي الجمع كما أثبته. ويقال: "احتسب عليه بالمال"، أي: عددته عليه وحاسبته به. و"احتسب" من"الحساب" مثل"اعتد" من"العد". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "فيجازي من شاء. . " والسياق يقتضي ما أثبت. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "وغافر منكم لمن شاء. . . "، وهو تقديم من عجلة الناسخ، والصواب ما أثبت. (4) الأثر: 6449-"ابن فضيل"، هو محمد بن فضيل، وقد سلف مرارًا. وكان في المخطوطة والمطبوعة"أبو نفيل" وليس في الرواة من يقال له"أبو نفيل" يروي عن يزيد بن أبي زياد، والذي يروي عنه هو ابن فضيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 عكرمة قال: هي الشهادة إذا كتمتها. 6452 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو وأبي سعيد: أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية:"وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: في الشهادة. 6453 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن الشعبي في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: في الشهادة. 6454 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية،"وإنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها. 6455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن عكرمة في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، يعني: كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها. * * * وقال آخرون:"بل نزلت هذه الآية إعلامًا من الله تبارك وتعالى عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه". ثم اختلف متأوِّلو ذلك كذلك. فقال بعضهم:"ثم نسخ الله ذلك بقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة: 286] " ذكر من قال ذلك: 6456 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلتْ:"لله ما في السموات وما في الأرض وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، اشتد ذلك على القوم، فقالوا: يا رسول الله، إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا! هلكنا! فأنزل الله عز وجل: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) الآية إلى قوله: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ، قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال اللهُ: نعم = (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) إلى آخر الآية = قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم. (1) 6457 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان بن وكيع   (1) الحديث: 6456- إسحاق بن سليمان الرازي العبدي: ثقة ثبت في الحديث، متعبد كبير، من خيار المسلمين. أخرج له الجماعة. مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير: تكلم فيه الأئمة، فضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهم. وأثنى عليه الزهري. وقال أبو حاتم: "صدوق كثير الغلط، ليس بالقوي، ويروي عنه إسحاق بن سليمان"، ولكن ترجمه البخاري في الكبير 4/1/353، فلم يذكر فيه جرحًا. والظاهر أن من ضعفه فإنما ذهب إلى كثرة غلطه، كما فعل أبو حاتم. وأيًا ما كان، فهو لم ينفرد بهذا الحديث، كما سيأتي في التخريج. والحديث سيأتي بعضه: 6538، بهذا الإسناد. ورواه أحمد في المسند: 9333 (2: 412 حلبي) ، عن عفان، عن عبد الرحمن بن إبراهيم القاص المدني، عن العلاء بن عبد الرحمن، به، مطولا عما هنا. وعبد الرحمن بن إبراهيم - هذا - ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التعجيل، وابن أبي حاتم 2/2/211. ورواه مسلم -مطولا أيضًا- 11: 46-47، وابن حبان في صحيحه: 139 (1: 225-226- من مخطوطة الإحسان) - كلاهما من طريق يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن العلاء، به. ونقله ابن كثير 2: 79-80، عن رواية المسند. وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 154، من رواية مسلم. وذكره السيوطي 1: 374، وزاد نسبته لأبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. ولم ينسبه لصحيح ابن حبان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 قال: حدثنا أبي = قال، حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء"، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سمعنا وأطعنا وسلَّمنا. قال: فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله عز وجل: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) = قال أبو كريب: فقرأ: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) = قال فقال: قد فعلت = (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبِلْنَا) = قال: قد فعلت = (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) = قال: قال: قد فعلت = (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) = قال: قد فعلت. (1) 6458 - حدثني أبو الردّاد المصري عبد الله بن عبد السلام قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، عن حيوة بن شريح قال، سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول: قال ابن شهاب، حدثني سعيد ابن مرجانة قال: جئتُ عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاءُ ويعذب من يشاء". ثم قال ابن عمر: لئن آخذَنا بهذه الآية، لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سالت دُموعه. قال، ثم جئتُ عبدَ الله بن العباس فقلت: يا أبا عباس، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، ثم قال: لئن وَاخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتى سالت دموعه! فقال ابن عباس: يغفر الله لعبد الله بن عمر! لقد فَرِق أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فَرِق ابن عمر منها، فأنزل الله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، فنسخ الله الوَسوسة، وأثبت القول والفعلَ. (2) 6459- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة يحدث: أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية،"لله ما في السموات وما في الأرض وَإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سُمع نَشيجه، فقال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس   (1) الحديث: 6457- سفيان بن وكيع يرويه عن أبيه. وأبوه يرويه عن سفيان، وهو الثوري، ووقع في المطبوعة هنا حذف قوله"قال: حدثنا أبي". وهو خطأ. وسيأتي الإسناد على الصواب: 6537، حيث روى الطبري بعضه مختصرًا. بهذا الإسناد. آدم بن سليمان القرشي، مولى خالد بن بن خالد بن عقبة بن أبي معيط: ثقة، وهو والد يحيى بن آدم صاحب كتاب الخراج. والحديث رواه أحمد في المسند: 2070، عن وكيع، بهذا الإسناد. وكذلك رواه مسلم 1: 47، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه-: ثلاثتهم عن وكيع، به. وفي التهذيب، في ترجمة آدم بن سليمان، أن مسلمًا أخرج له هذا الحديث الواحد متابعة؛ وليس كذلك، بل هو أصل لا متابعة، إذ لم يروه مسلم من طريق غيره. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 286، من طريق ابن راهويه، عن وكيع. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 2: 81، عن رواية المسند. ثم أشار إلى رواية مسلم. وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 154، من رواية مسلم. وذكره السيوطي 1: 374، وزاد نسبته للترمذي، والنسائي، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات. وسيأتي بعض معناه: 6464، عن سعيد بن جبير، مرسلا غير متصل، فيستفاد وصله من هذه الرواية. (2) الحديث: 6458- أبو الرداد المصري، عبد الله بن عبد السلام - شيخ الطبري: ثقة ترجمة ابن أبي حاتم 2/2/107، وقال: "سمعنا منه بمصر، وهو صدوق". أبو زرعة وهب الله بن راشد: هذه أول مرة يثبت فيها اسمه في المطبوعة على الصواب، فقد مضى في: 2377، 2891، 5386- وكان فيها كلها محرفًا في المطبوعة. وترجمنا له في أولهن. سعيد ابن مرجانة: هو سعيد بن عبد الله، مولى قريش. ومرجانة - بفتح الميم وسكون الراء: أمه. قال الحافظ في التهذيب: "فعلى هذا فيكتب: ابن مرجانة - بالألف". وهو تابعي ثقة. ثبت سماعه من أبي هريرة، خلافًا لمن زعم غير ذلك، كما بينا في المسند: 7583. والحديث سيأتي عقبه: 6459، من وجه آخر عن ابن شهاب. ونذكر تخريجه هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 فذكرتُ لهُ ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد الله بن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن! لعمري لقد وَجَد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وَجد عبد الله بن عمر، فأنزل اللهُ بعدها (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) إلى آخر السورة. قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أنّ للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القوْل والفعل. (1) 6460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعتُ الزهري يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: قرأها ابن عمر فبكى وقال: إنا لمؤاخذون بما نحدِّث به أنفسنا! فبكى حتى سُمع نشيجه، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له، فقال: رَحم الله ابن عُمر! لقد وَجَد المسلمون نحوًا مما وَجدَ، حتى نزلت: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . (2) 6461 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، فبكى. فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك، فضحك ابن عباس فقال: يرحم الله ابن عمر!   (1) الحديث: 6459- هو الحديث السابق، نحوه. وقد ذكره ابن كثير 2: 81-82، عن هذا الموضع من الطبري. وذكره الحافظ في الفتح 8: 154، مختصرًا، عن هذا الموضع أيضًا. قال: "أخرج الطبري، بإسناد صحيح عن الزهري. . . "- إلخ. وذكره السيوطي 1: 374، ونسبه لعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه، وابن جرير، والطبراني، والبيهقي في الشعب. وانظر الأحاديث الآتية: 6460-6464. (2) الحديث: 6460- هذا حديث مرسل، لم يسمعه الزهري، من ابن عمر، ولا من ابن عباس. وهو مختصر من الحديثين قبله، ومن الحديث: 6462. فقد سمع الزهري القصة من سعيد ابن مرجانة، ومن سالم بن عبد الله بن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 أوَ ما يدري فيم أنزلت؟ إن هذه الآية حين أنزلت غَمَّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غمًّا شديدًا وقالوا: يا رسول الله، هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا:"سمعنا وأطعنا"، فنسختها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) إلى قوله: (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) فَتُجُوِّز لهم منْ حديث النفس، وأخِذوا بالأعمال. (1) 6462 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم: أن أباه قرأ:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فدمعت عينه، فبلغ صَنِيعه ابنَ عباس، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن! لقد صَنعَ كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلتْ، فنسختها الآية التي بعدها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) . (2)   (1) الحديث: 6461- جعفر بن سليمان: هو الضبعي، وقد مضى توثيقه في: 2905. حميد الأعرج: هو حميد بن قيس المكي، قارئ أهل مكة. مضى توثيقه في: 3352. والحديث رواه أحمد في المسند: 3071، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، به. فظهر من رواية الطبري هذه: أن عبد الرزاق سمعه من شيخين، من معمر، ومن جعفر بن سليمان - كلاهما حدثه به عن حميد الأعرج. وقد ذكره ابن كثير 2: 81، عن رواية أحمد في المسند، وكذلك ذكره الحافظ في الفتح 8: 154، عن رواية أحمد. وذكره السيوطي 1: 374، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن المنذر. وهو في معنى الأحاديث السابقة: 6458-6460. وقوله: "كنت عند ابن عمر فقال: (وإن تبدوا ما في أنفسكم) . . . " - هكذا في المخطوطة والمطبوعة. ولعل صوابه: "فقرأ"، بدل"فقال". وهو الثابت في رواية المسند ومن نقل عنه. وقوله في آخر الحديث: "فتجوز لهم من حديث النفس" - هكذا في المخطوطة والمطبوعة أيضًا. ولعل صوابه"عن حديث النفس"، كرواية المسند. (2) الحديث: 6462- سفيان بن حسين الواسطي: مضى الكلام في روايته عن الزهري، وأن فيها تخاليط، في 3471. ولكن يظهر لي الآن أن في هذا غلوًا من ابن حبان. فإن البخاري ترجم له في الكبير 2/2/90، وأشار إلى رواية عن الزهري، فلم يذكر فيها قدحًا، ثم إن الأئمة صححوا هذا الحديث من روايته عن الزهري، كما سيجيء. فالحديث رواه أبو جعفر بن النحاس في الناسخ والمنسوخ، ص: 86. والحاكم في المستدرك 2: 287 - كلاهما من طريق يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ثم قد ذكره ابن كثير 2: 82، عن هذا الموضع - بعد الروايات السابقة، ثم قال: "فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس". وقد رجحت توثيق سفيان بن حسين - وفي روايته عن الزهري - فيما كتبت تعليقًا على تهذيب السنن للمنذري، ج3 ص: 402، فأنسيته حين كتبت ما مضى في: 3471. والحديث ذكره أيضًا السيوطي 1: 374، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 6463 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: نسخت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" - (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) . (1) 6464 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية:"إن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قالوا: أنؤاخذ بما حدِّثنا به أنفسنا، ولم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ، قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الأمة خواتيم"سورة البقرة"، لم تُعطها الأمم قبلها. (2)   (1) الحديث: 6463- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. وهو يروي عن سفيان الثوري. ويروي عنه محمد بن بشار. وهذا الحديث مرسل، لأنه حكاية من سعيد بن جبير عن إخبار بنسخ الآية. وقد سبقت رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس: 6457، لعلها تشير إلى هذا المعنى. (2) الحديث: 6464- وهذا حديث مرسل أيضًا، من رواية سعيد بن جبير، ولكنه بعض معنى الحديث السابق: 6457، الذي رواه سعيد عن ابن عباس متصلا. وسيأتي بعضه: 6539، بهذا الإسناد، مع تحريف في اسم الراوي عن سفيان، كما سنذكر هناك، إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 6465 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل، عن عامر:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"، قال: فنسختها الآية بعدها، قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . 6466 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسختها الآية التي بعدها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) = وقوله:"وإن تُبدوا"، قال: يحاسب بما أبدَى من سرّ أو أخفى من سر، فنسختها التي بعدها. 6467- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيّار، عن الشعبي، قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء"، قال: فكان فيها شدّة، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، قال: فنسخت ما كان قبلها. 6468 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: ذكروا عند الشعبي:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" حتى بلغ (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، قال، فقال الشعبي: إلى هذا صار، رجَعتْ إلى آخر الآية. 6469 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال قال ابن مسعود: كانت المحاسبة قبل أن تنزل: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها. 6470- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 قال، سمعت الضحاك يذكر، عن ابن مسعود نحوه. 6471- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: نسخت"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" = (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . 6472 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب = وسفيان، عن جابر، عن مجاهد = وعن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قالوا: نسخت هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) ،"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، الآية. 6473 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أ، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر بمثله. 6474 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" إلى آخر الآية، قال: محتها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . (1) 6475 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه قال: نسخت هذه الآية = يعني قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) = الآية التي كانت قبلها:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله". 6476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسختها قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) . 6477 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" إلى آخر   (1) الأثر: 6474-"حماد" هو حماد بن سلمة، و"حميد" هو حميد الطويل. وكان في المطبوعة والمخطوطة"حماد بن حميد"، وليس في رواة الأثر من يعرف بهذا الاسم، وحجاج بن المنهال يروي عن حماد بن سلمة، وحماد يروي عن خاله حميد الطويل، وحميد الطويل يروي عن الحسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 الآية، اشتدّت على المسلمين، وشقَّتْ مشقةً شديدة، فقالوا: يا رسول الله، لو وَقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وَأخذنا الله به؟ قال:"فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل:"سمعنا وعصينا"! قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله! قال: فنزل القرآن يفرِّجها عنهم:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله" إلى قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، قال: فصيَّره إلى الأعمال، وترك ما يقع في القلوب. 6478 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا هشيم، عن سيارٍ عن أبي الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسخت هذه الآية التي بعدَها: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . 6479 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وإن تبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وَسْوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن عمل أحدُنا وإن لم يعملْ أخِذنا به؟ والله ما نملك الوَسوسة!! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدُ بقوله: (1) (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) الآية، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا. (2) * * * 6480 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .   (1) في المطبوعة: "التي بعدها بقوله"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "مما لم تطيقوا، الآية" أخر الناسخ"الآية"، فرددتها إلى مكانها قبل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 وقال آخرون = ممن قال معنى ذلك:"الإعلام من الله عز وجل عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه"= (1) "هذه الآية محكمة غيرُ منسوخة، والله عز وجل محاسبٌ خلقَه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادُوه، فيغفره للمؤمنين، ويؤاخذ به أهلَ الكفر والنفاق". ذكر من قال ذلك: 6481 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فإنها لم تنسخ، ولكن الله عز وجل إذا جَمع الخلائق يوم القيامة، يقول الله عز وجل:"إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي"، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدَّثوا به أنفسهم، وهو قوله:"يحاسبكم به الله"، يقول: يخبركم. وأما أهل الشك والرَّيْب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، (2) وهو قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة: 225] ، من الشكّ والنفاق. 6482 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فذلك سِرُّ عملكم وعلانيته، يحاسبكم به الله، فليس من عبد   (1) انظر ما سلف ص: 103 وما بعدها. (2) في المخطوطة والمطبوعة بعد قوله: "من التكذيب" ما نصه: "وهو قوله: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء". وهي زيادة بلا شك من الناسخ. فإلا تكن منه، فمكانها قبل ذلك بعد قوله"يحاسبكم به الله" وقبل قوله: "وأما أهل الشك والريب. . . "، ولكني آثرت إسقاطها، لأن السيوطي خرجه في الدر المنثور 1: 375 بغير ذكر هذه الزيادة في الموضعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 مؤمن يُسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به، فإن عمل به كُتبت له به عشرُ حسنات، وإن هو لم يُقدَر له أن يعمل به كتبت له به حسنة، من أجل أنه مؤمن، والله يَرْضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم. وإن كان سُوءًا حدَّث به نفسه، اطلع الله عليه وأخبره به يوم تُبلى السرائر، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوَز الله عنه، كما قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) [سورة الأحقاف: 16] . 6483 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ، الآية، قال: قال ابن عباس: إن الله يقول يوم القيامة:"إن كُتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظَهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليومَ، فأغفر لمن شئت وأعذّب من شئت". 6484 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا علي بن عاصم قال، أخبرنا بيان، عن بشر، عن قيس بن أبي حازم قال: إذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل يُسمع الخلائق:"إنما كان كُتّابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم، فإما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه، أنا اللهُ أعلم بذلك كله منكم، فأغفر لمن شئتُ، وأعذّب من شئت". 6485 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، كان ابن عباس يقول: إذا دعي الناس للحساب أخبرَهم الله بما كانوا يسرُّون في أنفسهم مما لم يعملوه فيقول:"إنه كان لا يعزُب عني شيء، وإني مخبركم بما كنتم تسرُّون من السُّوء، ولم تكن حفظتكم عليكم مطَّلعين عليه". فهذه المحاسبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 6486- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس نحوه. 6487 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: هي محكمة، لم ينسخها شيء يقول:"يحاسبكم به الله"، يقول: يعرّفه الله يوم القيامة:"إنك أخفيتَ في صدرك كذا وكذا"! لا يؤاخذه. 6488 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: هي محكمة لم تنسخ. 6489 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: من الشك واليقين. 6490 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، يقول: في الشك واليقين. (1) 6491 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * قال أبو جعفر: فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه على بن أبي طلحة: (2) وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم، فلم يطلع عليه أحد من خلقي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان، وأعذِّب أهلَ الشرك والنفاق في ديني. * * *   (1) في المطبوعة: "في اليقين والشك"، قدم وأخر، وأثبت ما في المخطوطة. (2) هو رقم: 6481. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه، (1) وعلى ما قاله الربيع بن أنس، (2) فإن تأويلها: إنْ تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه، يُعْلمكم به الله يوم القيامة، فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء. * * * وأما قول مجاهد، (3) فشبيهٌ معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة. * * * وقال آخرون = ممن قال:"هذه الآية محكمة، وهي غير منسوخة"، ووافقوا الذين قالوا:"معنى ذلك: أن الله عز وجل أعلم عبادَه ما هو فاعل بهم فيما أبدَوْا وأخفوا من أعمالهم" = معناها: إن الله محاسبٌ جميعَ خلقه بجميع ما أبدَوْا من سيئ أعمالهم، وجميع ما أسروه، وُمعاقبهم عليه. غيرَ أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزَنون عليها ويألمون منها. ذكر من قال ذلك: 6492 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، الآية، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلم يعملها، أرسل الله عليه من الهم والحزَن مثل الذي همّ به من السيئة فلم يعملها، فكانت كفّارته. 6493 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال،   (1) هي رقم: 6486. (2) هو رقم: 6487. (3) هو رقم: 6489 وما بعده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بمعصية، أو يحدّث بها نفسه، حاسبه الله بها في الدنيا، يخافُ ويحزن ويهتم. 6494 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو تميلة، عن عبيد، عن الضحاك قال: قالت عائشة في ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية، وحدّث نفسه به، حاسبه الله في الدنيا، يخاف ويحزَن ويشتدّ همّه، لا يناله من ذلك شيء، كما همّ بالسوء ولم يعمل منه شيئًا. 6495 - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أميّة أنها سألت عائشة عن هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [سورة النساء: 123] فقالت: ما سألني عنها أحد مذْ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عائشة، هذه متابعة الله العبدَ بما يصيبه من الحمَّى والنكبة والشَّوكة، حتى البضاعة يضعها في كمِّه فيفقدها، فيفزع لها فيجدُها في ضِبْنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرُج التبر الأحمر من الكير. (1) * * *   (1) الحديث: 6495 - علي بن زيد: هو ابن جدعان. أمية: هي بنت عبد الله، وهي تابعية لم ترو عن عائشة غير هذا الحديث. وعلي بن زيد، هو بن زوجها. وقد مضى البيان عن ترجمتها في: 4897. ووقع في المطبوعة هنا: "عن أمه". وهو خطأ. وقع مثل ذلك في بعض نسخ الترمذي. ولو صحت هذه النسخ لم يكن بذلك بأس، إذ لا يبعد أن يسميها ربيبها"أمه". والحديث رواه الطيالسي: 1584، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن"أمية بنت عبد الله". ورواه أحمد في المسند 6: 218 (حلبي) ، عن بهز، عن حماد - وهو ابن سلمة، وفيه: "عن أمية". ورواه الترمذي 4: 78-79، من طريق روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، به. وفيه: "عن أمية"، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من حديث حماد ابن سلمة". ورواه ابن أبي حاتم - فيما نقله عنه ابن كثير 2: 85- من طريق سليمان بن حرب، عن حماد ابن سلمة. وفيه"عن أبيه" بدل"عن أمية"؛ وهو تحريف مطبعي. وقال ابن كثير: "علي بن زيد بن جدعان: ضعيف يغرب في رواياته. وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه: أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه". أقول: وعلي بن زيد ليس بضعيف، كما قلنا في: 4897، وكما رجحنا في شرح المسند: 783. وذكره السيوطي 1: 375، وزاد نسبته لابن المنذر، والبيهقي في الشعب. قول"هذه متابعة الله العبد" - يعني ما يصيب الإنسان ما يؤلمه، يتابعه الله به ليكفر عنه من سيئاته. وهذا هو الثابت في الطبري والمسند. والذي في الطيالسي والترمذي والدر المنثور: "معاتبة الله" ومعناه قريب من هذا. وفي ابن كثير: "مبايعة". وهو تحريف. النكبة - بفتح النون: أن ينكبه الحجر إذا أصاب ظفره أو إصبعه. ومنه قيل لما يصيب الإنسان: نكبة. البضاعة: اليسير من المال تبعثه في التجارة، ثم سميت السلعة: بضاعة. الضبن - بكسر فسكون: ما بين الإبط والكشح. التبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ، فإذا صيغ فهو ذهب أو فضة. الكير- بكسر الكاف، كير الحداد: وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات، ينفخ النار حتى تتوهج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال:"إنها محكمة، وليست بمنسوخة". وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر، هو له ناف من كل وجوهه. (1) وليس في قوله جل وعز:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله:"أو تخفوه يحاسبكم به الله". لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً، ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه. وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون: (يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً   (1) في المطبوعة: "إلا ينفيه"، بالياء في أوله، وهو في المخطوطة غير منقوط. وفيهما معًا"بآخر له ناف"، والصواب زيادة"هو" كما أثبت. وبذلك يستقيم الكلام. وانظر ما قال في"النسخ" فيما سلف ص: 54، والتعليق: 1. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 إِلا أَحْصَاهَا) [سورة الكهف: 49] . فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجبِ إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين. لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر، باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) [سورة النساء: 31] . فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة، (1) بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها، كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي:- 6496 - حدثني به أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي، عن قتادة، عن صَفوان بن مُحْرز، عن ابن عمر، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه، فيقرِّره بسيئاته يقول: هل تعرف؟ فيقول: نعم! فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم! ثم يظهر له حسناته فيقول: (هَاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ) [سورة الحاقة: 19] أو كما قال = وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد. (2) 6497 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، وهشام = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا هشام = قالا جميعا في حديثهما عن   (1) في المطبوعة: "فدل أن محاسبة الله. . . "، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المطبوعة والمخطوطة بعد: "غير موجبة لهم منه عقوبة"، والسياق يقتضي: "غير موجب. . " كما أثبتها. (2) الحديث: 6496- صفوان بن محرز المازني: تابعي ثقة جليل، له فضل وورع. والحديث مختصر من الذي بعده. وسنذكر تخريجه فيه، إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 قتادة، عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول:"هل تعرف كذا"؟ فيقول:"رب اغفر" - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال:"فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم". قال: فيعطى صحيفة حسناته - أو: كتابه - بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الأشهاد: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) . (1) [سورة هود: 18] . * * *   (1) الحديث: 6497- سعيد: هو ابن أبي عروبة، الثقة المأمون الحافظ. وهشام: هو ابن أبي عبد الله الدستوائي. ووقع في المطبوعة: "حدثنا ابن أبي عدي، وسعيد، وهشام"، وهو تحريف. وصوابه: "عن سعيد"، لأن ابن أبي عدي - وهو محمد بن إبراهيم - إنما يروي عن ابن أبي عروبة وعن هشام الدستوائي. فهو ليس من طبقتهما. ثم هو لم يدرك أن يروي عن قتادة. وكذلك ابن بشار - وهو محمد بن بشار. شيخ الطبري - إنما يروي عن ابن أبي عدي وطبقته، لم يدرك أن يروي عن ابن أبي عروبة والدستوائي. وأيضًا، فإن قوله في الإسناد - بعد تحويله إلى ابن علية عن هشام-"قالا جميعا في حديثهما عن قتادة"، يرجع ضمير المثنى فيه إلى سعيد وهشام، دون ابن أبي عدي. إذ لو كان معهما لكان القول أن يقول: "قالوا جميعا". ثم قد ثبت أنه"عن سعيد" في نقل ابن كثير هذا الحديث عن هذا الموضع 2: 84، وإن وقع فيه خطأ مطبعي آخر، إذ فيه: "عن سعيد بن هشام" بدل"وهشام". وفيه بعد ابن علية"حدثنا ابن هشام" بزيادة"ابن" زيادة هي غلط غير مستساغ. ثم الحديث سيأتي في تفسر الطبري 12: 14 (بولاق) ، بهذا الإسناد، على الصواب. ولكنه جعله هناك إسنادين: فصل إسناد ابن علية عن إسناد ابن أبي عدي. والحديث رواه أحمد في المسند: 5436، عن بهز وعفان، كلاهما عن همام - وهو ابن يحيى- عن قتادة، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 5825، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة، به. ورواه البخاري 5: 70 (فتح) ، ومسلم 2: 329 - كلاهما من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، به. ورواه البخاري أيضًا 8: 266-267، من طريق سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، عن قتادة. ورواه أيضًا: 10: 406-407، و 13: 397-398، من طريق أبي عوانة، عن قتادة ورواه أبو جعفر بن النحاس، في كتاب الناسخ والمنسوخ، ص: 86-87، من طريق ابن علية، عن هشام. وقال: "وإسناده إسناد لا يدخل القلب منه لبس. وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة". وذكره ابن كثير 2: 84-85، كما قلنا من قبل، عن هذا الموضع من الطبري. وذكره أيضًا 4: 353، عن رواية المسند الأولى. وذكره السيوطي 3: 325. وزاد نسبته لابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات. ونسبه القسطلاني 4: 206، للنسائي في التفسير والرقائق، وابن ماجه في السنة. ووقع في المخطوطة - هنا -"وأما الكفار أو المنافقين"، وهو خطأ واضح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 = أن الله يفعل بعبده المؤمن: (1) من تعريفه إياه سيئات أعماله، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها. فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه، فيستره عليه. وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال:"فيغفر لمن يشاء". (2) * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن قوله:"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير؟ قيل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله. فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله:"ويعذب من يشاء"، إن كان لها ما كسبت وعليها   (1) سياق هذه الجملة من قبل الخبرين السالفين: "كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . أن الله يفعل بعبده المؤمن. . . "، فجملة"أن الله يفعل"، هي فاعل قوله: "بلغنا". (2) في المطبوعة: "يغفر لمن يشاء" بغير فاء، وأثبت نص الآية كما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 ما اكتسبت، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا -: من هم بذنب، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا؟ قيل له: إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله:"ويعذب من يشاء"، سعلى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله، والمرية في وحدانيته، أو في نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، أو في المعاد والبعث - من المنافقين، (1) على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد، ومن قال بمثل قولهما، إن تأويل قوله:"أو تخفوه يحاسبكم به الله"، على الشك واليقين. غير أنا نقول إن المتوعد بقوله:"ويعذب من يشاء"، هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله، (2) وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا = والموعود الغفران بقوله: (3) "فيغفر لمن يشاء" هو الذي إخفاء ما يخفيه، (4) الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداءً تحليلُه وإباحته، فحرمه على خلقه جل ثناؤه = (5) أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله، مما كان جائزا ابتداءً إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك   (1) سياق الجملة: "على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله. . من المنافقين"، وما بينهما صفات فاصلة. (2) قوله: "الشك والمرية. . . " خبر"كان". (3) قوله: "الموعود" منصوب معطوف على قوله"إن المتوعد. . . "، وقوله: "الغفران" منصوب باسم المفعول وهو"الموعود"، أي الذي وعد الغفران. (4) في المطبوعة: "هو الذي أخفى وما يخفيه الهمة بالتقدم. . . " وفي المخطوطة: "هو الذي إحفا وما يخفيه +الهمه" غير منقوطة بهذا الرسم: وصواب قراءة المخطوطة هو ما أثبت. (5) قوله: "أو على ترك. . . " معطوف على قوله آنفًا: "بالتقدم على بعض ما نهاه. . . " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: 6498 - "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه". (1) * * * فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده، ثم لا يعاقبهم عليه. فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله:"ويعذب من يشاء". * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا:"وإن تبدوا ما في أنفسكم"، أيها الناس، فتظهروه ="أو تخفوه"، فتنطوي عليه نفوسكم ="يحاسبكم به الله"، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله عز وجل = على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله عز وجل ونبوة أنبيائه، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه، وعلى غير ذلك من الأمور = قادر. * * *   (1) الأثر: 6498- لم يذكر الطبري إسناده، وأحاديث تجاوز الله عن حديث النفس في مسلم 2: 146- 152 بغير هذا اللفظ، ثم سائر كتب السنة. (2) في المخطوطة: "فيعرف مؤمنيكم. . . ويعذب منافقيكم" بالجمع، والذي في المطبوعة أصح وأجود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 القول في تأويل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: صدق الرسول = يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقر ="بما أنزل إليه"، يعني: بما أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد وعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها. * * * وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال: يحق له. 6499 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: ويحق له أن يؤمن. (1) * * * وقد قيل: إنها نزلت بعد قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"، لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلكم تقولون:"سمعنا وعصينا" كما قالت بنو إسرائيل! فقالوا:   (1) الأثر: 6499- أخرج الحاكم في المستدرك 2: 287 من طريق خلاد بن يحيى، عن أبي عقيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس قال: "لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأحق له أن يؤمن". ثم قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" واستدرك عليه الذهبي فقال: "منقطع". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 بل نقول:"سمعنا وأطعنا"! فأنزل الله لذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، يقول: وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل. (1) * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكتبه". فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق (وكتبه) على وجه جمع"الكتاب"، على معنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله. * * * وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (وكتابه) ، بمعنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك:"وكتابه"، ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر: 1-2] ، بمعنى جنس"الناس" وجنس"الكتاب"، كما يقال:"ما أكثر درهم فلان وديناره"، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. (2) وذلك، وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع. لأن الذي قبله جمع، والذي بعده كذلك - أعني بذلك:"وملائكته وكتبه ورسله" - فإلحاق"الكتب" في الجمع لفظا به، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده، وبمعناه. * * *   (1) انظر ما سلف رقم: 6477. (2) انظر ما سلف 4: 263. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 القول في تأويل قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} قال أبو جعفر: وأما قوله:"لا نفرق بين أحد من رسله"، فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ:"لا نفرق بين أحد من رسله" بالنون، متروك، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه. وذلك المتروك هو"يقولون". وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر"يقولون" لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) [سورة الرعد: 23-24] ، بمعنى: يقولون: سلام. * * * وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ب"الياء"، بمعنى: والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه، كما:- 6500 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"لا نفرق بين أحد من رسله"، كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به. * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 "لا نفرق بين أحد من رسله"، لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض، (1) الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط= (2) بمعنى ما وصفنا من: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله= (3) ولا يعترض بشاذ من القراءة، على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة. (4) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقال الكل من المؤمنين:"سمعنا" قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به، ونهيه عما نهانا عنه ="وأطعنا"، يعني: أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له = وقوله:"غفرانك ربنا"، يعني: وقالوا:"غفرانك ربنا"، بمعنى: اغفر لنا ربنا غفرانك، كما يقال:"سبحانك"، بمعنى: نسبحك سبحانك. * * * وقد بينا فيما مضى أن"الغفران" و"المغفرة"، الستر من الله على ذنوب من   (1) في المطبوعة: "التي قامت حجة. . . "، وفي المخطوطة: "التي قامت حجته"، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) في المطبوعة: "التشاغر" بغين معجمة، وهو خطأ غث. والصواب من المخطوطة. و"تشاعروا الأمر، أو على الأمر"، أي تعالموه بينهم. من قولهم: "شعر" أي"علم". وهي كلمة قلما تجدها في كتب اللغة، ولكنها دائرة في كتب الطبري ومن في طبقته من القدماء. وانظر الرسالة العثمانية للجاحظ: 3، وتعلق: 5، ثم ص: 263، وصواب شرحها ما قلت. وانظر ما سيأتي ص: 155، تعليق 1. (3) في المطبوعة: "يعني ما وصفنا"، والصواب من المخطوطة. (4) في المطبوعة: "نقلا ورواية"، وفي المخطوطة"نقلا وراثة"، وهي الصواب، وآثرت زيادة الواو قبلها، فإني أرجح أنها كانت كذلك. وقد أكثر الطبري استعمال"وراثة" و"موروثة" فيما سلف، من ذلك فيما مضى في 4: 33". . . بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة. . . " / ثم في 5: 238"لخلافها القراءة المستفيضة الموروثة. . . ". وانظر ما سيأتي ص: 155، تعليق: 1. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 غفر له، وصفحة له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة، وعفوه عن العقوبة - عليه. (1) * * * وأما قوله:"وإليك" المصير"، فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا: وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا. (2) * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله:"غفرانك"؟ قيل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر. وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر، وأدت عن معنى الأمر نصبتها، فيقولون: "شكرا لله يا فلان"، و"حمدا له"، بمعنى: اشكر الله واحمده."والصلاة، الصلاة". بمعنى: صلوا. ويقولون في الأسماء:"الله الله يا قوم"، ولو رفع بمعنى: هو الله، أو: هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر، كان جائزا، كما قال الشاعر: (3) إن قوما منهم عمير وأشبا ... هـ عمير ومنهم السفاح (4) لجديرون بالوفاء إذا قا ... ل أخو النجدة: السلاح السلاح! ! ولو كان قوله:"غفرانك ربنا" جاء رفعا في القراءة، لم يكن خطأ، بل كان صوابا على ما وصفنا. (5) * * * وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من   (1) انظر ما سلف 2: 109، 110. (2) انظر ما سلف في تفسير"المصير" 3: 56. (3) لم أعرف قائله. (4) معاني القرآن للفراء 1: 188، وشواهد العيني (بهامش الخزانة) 4: 306. ولم أستطع تعييني"عمير" و"السفاح"، فهما كثير. (5) أكثر هذا من معاني القرآن للفراء 1: 188. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 الله عليه وعلى أمته، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء، فسل ربك. 6501 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن حكيم بن جابر قال: لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، قال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه! فسأل:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر السورة. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها، (2) فلا يضيق عليها ولا يجهدها. * * *   (1) الحديث: 6501- بيان: هو ابن بشر الأحمسي، مضت ترجمته في: 259. "حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي": تابعي كبير ثقة، أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن أبيه، وعمر، وابن مسعود، وطلحة، وعبادة بن الصامت. وروى عنه إسماعيل ابن أبي خالد، و"بيان". ثقة. مات في آخر إمارة الحجاج. وقيل سنة 82، وقيل سنة 95. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/12. وصرح بأنه سمع عمر. فهذا الحديث مرسل. وذكره السيوطي 1: 376، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم. ونقله ابن كثير 2: 89، عن هذا الموضع من الطبري. ولكن وقع فيه تحريف في الإسناد، من ناسخ أو طابع - هكذا: "عن سنان، عن حكيم، عن جابر"؛ فصار الإسناد موهما أنه حديث متصل من رواية جابر بن عبد الله الصحابي. فيصحح من هذا الموضع. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيتعبدها إلا بما يسعها" وبين أن الناسخ عجل فزاد"إلا وسعها"، والسياق يقتضي تركها هنا، فتركتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 وقد بينا فيما مضى قبل أن"الوسع" اسم من قول القائل:"وسعني هذا الأمر"، مثل"الجهد" و"الوجد" من:"جهدني هذا الأمر" و"وجدت منه"، (1) كما:- 6502 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاومة، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج: 78] ، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة: 185] ، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2) [سورة التغابن: 16] . 6503 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان! (3) كيف نتوب من الوسوسة؟ كيف نمتنع منها؟ فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية،"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة. 6504 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، وسعها، طاقتها. وكان حديث النفس مما لم يطيقوا. (4) * * *   (1) انظر ما سلف 5: 45. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "اتقوا الله. . " وأثبت نص القراءة. (3) قوله: "هذا نتوب. . . "، تعبير فصيح يكون مع التعجب، وقد جاء في الشعر، ولكن سقط عني موضعه الآن فلم أجده. (4) في المطبوعة: "مما لا يطيقون"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 القول في تأويل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"لها" للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها. يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير ="وعليها"، يعني: وعلى كل نفس ="ما اكتسبت"، ما عملت من شر، (1) كما:- 6505 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت"، أي: من خير ="وعليها ما اكتسبت"، أي: من شر - أو قال: من سوء. 6506 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط. عن السدي."لها ما كسبت"، يقول: ما عملت من خير ="وعليها ما اكتسبت"، يقول: وعليها ما عملت من شر. 6507 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتاده، مثله. 6508 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس:"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، عمل اليد والرجل واللسان. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها. * * *   (1) انظر تفسير"الكسب" و"الاكتساب" فيما سلف 2: 273، 274 / ثم 3: 100، 101، 128، 129 / ثم 4: 449. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولونه في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا" شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله=،"أو أخطأنا" في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه، على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به وخطأ، كما:- 6509 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، إن نسينا شيئا مما افترضته علينا، أو أخطأنا، [فأصبنا] شيئا مما حرمته علينا. (1) 6510 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها. (2) 6511 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: فقل ذلك يا محمد. * * *   (1) الزيادة بين القوسين، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام. (2) الأثر: 6510 - أخرجه مسلم في صحيحه (2: 146، 147) من طرق، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة ولفظه: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وهل يحوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطأوا، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟ قيل: إن"النسيان" على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله. = فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو"النسيان" الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [سورة طه: 115] ، وهو"النسيان" الذي قال جل ثناؤه: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) [سورة الأعراف: 51] . فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا، كفرا بالله عز وجل. فإن ذلك إذا كان كفرا بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة، فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما. = وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه. * * * وكذلك "الخطأ" وجهان: = أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ. يقال منه:"خطئ فلان وأخطأ" فيما أتى من الفعل، و"أثم"، إذا أتى ما يأثم فيه وركبه، (1) ومنه قول الشاعر: (2) الناس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (3) يعني: أخطأوا الصواب = وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، (4) إلا ما كان من ذلك كفرا. = والآخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع = أو يؤخر   (1) في المطبوعة: "ما يتأثم فيه"، والصواب من المخطوطة. وانظر معنى"خطئ" فيما سلف 2: 110. (2) هو عبيد بن الأبرص الأسدي، وفي حماسة البحتري، 236"عبيد بن منصور الأسدي"، وكأنه تحريف. (3) ديوانه: 54، وحماسة البحتري 236 واللسان (أمر) ورواية ديوانه: والناس يلحون الأمير إذا غوى ... خطب الصواب. . . . . . . . أما رواية اللسان، فهي كما جاءت في الطبري. ولحاه يلحاه: لامه وقرعه. والأمير: صاحب الأمر فيهم، يأمرهم فيطيعونه. والمرشد (اسم مفعول بفتح الشين) : من هداه الله إلى الصواب. وهو شبيه بقول القطامي: والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى، ولأم المخطئ الهبل (4) استعمل أبو جعفر"الصفح" هنا بمعنى: الرد والصرف، ولو كان من قولهم"صفح عن ذنبه" لكان صواب العبارة"في صفحه عما كان منه من إثم". واستعمال أبي جعفر جيد صحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل. فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به. * * * وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم (1) وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية، لمن وفق لفهمه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال أبو جعفر: ويعني بذلك جل ثناؤه: قولوا:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا"، يعني ب"الإصر" العهد، كما قال جل ثناؤه: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) [سورة آل عمران: 81] . وإنما عنى بقوله:" وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه ="كما حملته على الذين من قبلنا"، يعني: على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها   (1) انظر أمالي الشريف المرتضى 2: 131، 132. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 أو أخطأوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه، مثل الذي أحل بمن قبلهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6512 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قي قوله:"لا تحمل علينا إصرا"، قال: لا تحمل علينا عهدا وميثاقا، كما حملته على الذين من قبلنا. يقول: كما غلظ على من قبلنا. 6513 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن قيس الحضرمي، عن مجاهد في قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا (1) 6514 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إصرا"، قال: عهدا. 6515 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"إصرا"، يقول: عهدا. 6516 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا"، والإصر: العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود. 6517 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا لا نطيقه ولا نستطيع   (1) الأثر: 6513-"موسى بن قيس الحضرمي" الفراء، الكوفي، لقبه: "عصفور الجنة". روى عن سلمة بن كهيل، ومحمد بن عجلان، ومسلم البطين وغيرهم. روى عنه وكيع، ويحيى بن آدم، وأبو نعيم، وغيرهم. قال أحمد: "لا أعلم إلا خيرا". وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". ووثقه ابن معين. وقال العقيلي: "كان من الغلاة في الرفض. . . يحدث بأحاديث مناكير - أو: بواطيل". مترجم في التهذيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 القيام به ="كما حملته على الذين من قبلنا"، اليهود والنصارى فلم يقوموا به، فأهلكتهم. 6518 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"إصرا"، قال: المواثيق. 6519 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"الإصر"، العهد. = (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) [سورة آل عمران 81] ، قال: عهدي. 6520 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) ، قال: عهدي. وقال آخرون:"معنى ذلك: ولا تحمل علينا ذنوبًا وإثمًا، كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم، فتمسخنا قردةً وخنازير كما مسختهم". ذكر من قال ذلك: 6521 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح في قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا تمسخنا قردة وخنازير. (1) 6522 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، لا تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبةً ولا كفارة. * * * وقال آخرون:"معنى"الإصر" بكسر الألف: الثِّقْل".   (1) الأثر: 6521-"سعيد بن عمرو السكوني"، سلفت ترجمته في رقم: 5563. أما"علي بن هارون" فلم أجده، وأظن صوابه"يزيد بن هارون"، و"بقية بن الوليد"، يروي عن"يزيد بن هارون" ومات قبله. وهم جميعًا مترجمون في التهذيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 ذكر من قال ذلك: 6523 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، يقول: التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب. 6524 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته - يعنى مالكًا - عن قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا"، قال: الإصر، الأمر الغليظ. * * * قال أبو جعفر: فأما"الأصر"، بفتح الألف: فهو ما عَطف الرجلَ على غيره من رَحم أو قرابة، يقال:"أصَرتني رَحم بيني وبين فلانٌ عليه"، بمعنى: عطفتني عليه."وما يأصِرُني عليه"، أي: ما يعطفني عليه."وبيني وبينه آصرةُ رَحم تأصرني عليه أصرًا"، يعني به: عاطفة رَحم تعطفني عليه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضًا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، لثِقَل حمله علينا. وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه. ذكر من قال ذلك: 6525 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، تشديدٌ يشدِّد به، كما شدّد على من كان قبلكم.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه"، وسياق شرحه يقتضي ما أثبتته كتب اللغة، وهو الذي أثبته هنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 6526 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق. 6527 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه. 6528 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، مَسخُ القردة والخنازير. 6529 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، عن سالم بن شابور في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: الغُلْمة. (1) 6530 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم. * * * قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن تأويل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، على نحو الذي قلنا في ذلك، لأنه عَقيب مسألة المؤمنين ربَّهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، وأن لا يحمل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم،   (1) الأثر: 6529-"سلام بن سالم الخزاعي"، سلفت ترجمته برقم: 252. وأما"أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي"، فهو"عمر بن سعيد بن سليمان، أبو حفص القرشي الدمشقي"، راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي، فكأنه نسب إليه. روى عن محمد بن شعيب ابن شابور. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد (11: 200) . و"محمد بن شعيب بن شابور" الدمشقي، أحد الكبار. روى عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وغيرهما. كان يسكن بيروت، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 200. والغلمة: غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسيرَ في الدين، أولى مما خالف ذلك المعنى. * * * القول في تأويل قوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} قال أبو جعفر: وفي هذا أيضًا، من قول الله عز وجل، خبرًا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك = (1) الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لأنهم عقبوا ذلك بقولهم:"واعف عنا"، مسألةً منهم ربَّهم أن يعفوَ لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه. وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6531 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واعف عنا"، قال: اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به. * * * وكذلك قوله:"واغفر لنا"، يعني: واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها. * * * وقد دللنا على معنى"المغفرة" فيما مضى قبل. (2) * * *   (1) سياق العبارة: "وفي هذا أيضًا. . . الدلالة الواضحة" خبر ومبتدأ. (2) انظر، ما سلف قريبًا: 127، 128 تعليق: 1، والمراجع هناك. وانظر فهارس اللغة (غفر) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 6532 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"واغفر لنا" إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه. * * * القول في تأويل قوله: {وَارْحَمْنَا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا، كما:- 6533 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله:"وارحمنا"، قال يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. (1) قال: ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك. * * * القول في تأويل قوله: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أنت مَوْلانا"، أنت وَليُّنا بنصرك، دون من عَاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت وليّ من أطاعك، وعدوّ من كفر بك فعصاك =،"فانصرنا"، لأنا حزْبك =   (1) في المطبوعة: "لا نترك"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، منصوبًا بقوله: "تنال" معطوفًا على قوله"العمل". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 "على القوم الكافرين"، الذين جحدوا وحدانيتك، وعبدوا الآلهة والأندادَ دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان. * * * و"المولى" في هذا الموضع"المفعَل"، من:"وَلى فلانٌ أمرَ فُلان، فهو يليه وَلاية، وهو وليُّه ومولاه". (1) وإنما صارت"الياء" من"ولى""ألفًا"، لانفتاح"اللام" قبلها، التي هي عينُ الاسم. * * * وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، استجاب الله له في ذلك كله. ذكر الأخبار التي جاءت بذلك: 6534 - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال، حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى قوله:"غُفرانك ربنا"، قال الله عز وجل:"قد غفرت لكم. فلما قرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا"، قال الله عز وجل: لا أحملكم. فلما قرأ:"واغفر لنا"، قال الله تبارك وتعالى: قد غفرت لكم. فلما قرأ:"وارحمنا"، قال الله عز وجل:"قد رحمتكم"، فلما قرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال الله عز وجل: قد نصرتُكم عليهم. (2)   (1) انظر تفسير"الولي"، و"المولى" فيما سلف 2: 489، 564 / ثم 5: 424. (2) الحديث: 6534- محمد بن خلف بن عمار العسقلاني، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وقد مضت رواية أخرى للطبري عنه في: 126. آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني، وهو ثقة مأمون. وكان مكينًا عند شعبة. وقد مضت ترجمته في: 187. ورقاء: هو ابن عمر اليشكري، أبو بشر. وهو كوفي ثقة، أثنى عليه شعبة جدًا. والراجح - عندي - أن ورقاء ممن سمع من عطاء قديمًا قبل تغيره، لأنه من القدماء من طبقة شعبة، ولأنه كوفي، وعطاء تغير في مقدمه البصرة آخر حياته. وهذا الحديث من هذا الوجه - من رواية عطاء بن سعيد بن المسيب - لم أجده في شيء من الدواوين، غير تفسير الطبري. فرواه هنا مرفوعًا، ثم سيرويه بنحوه: 6540 موقوفًا على ابن عباس. وذاك الموقوف في الحقيقة مرفوع حكمًا، لأنه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس. فهو مؤيد لصحة هذا المرفوع. ثم رفع الحديث في هذا الإسناد زيادة في ثقة، فهي مقبولة. بل إن هذا الإسناد أرجح صحة من ذاك. لأن ورقاء قديم، رجحنا أنه سمع من عطاء قبل تغيره. وأما ذاك الإسناد، فإنه من رواية محمد بن فضيل عن عطاء. وابن فضيل سمع من عطاء بأخرة، بعد تغيره. كما نص على ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه 3/ 334. ومعنى الحديث ثابت صحيح من وجه آخر، كما مضى في: 6457، من رواية آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهناك الإجابة بعد كل دعاء: "قد فعلت". وهنا الإجابة من لفظ الدعاء. والمعنى واحد. والظاهر أن متن الحديث هنا سقط منه شيء، سهوًا من الناسخين، عند قوله: "فلما قرأ: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ، قال الله عز وجل: لا أحملكم". وفي الرواية الآتية: "قال: لا أؤاخذكم"، ثم ذكر هناك ما بعدها من الدعاء: (ربنا ولا تحمل علينا إصرار كما حملته على الذين من قبلنا) -"قال: لا أحمل عليكم". وذاك هو السياق الصحيح الكامل، الذي يدل على نقص من هذا السياق هنا. واضطرب كاتب المخطوطة اضطرابًا أشد من هذا، لأنه كرر في متن الحديث: "فلما انتهى إلى قوله (غفرانك ربنا) ، قال الله عز وجل: قد غفرت لكم" - مرتين. ثم أسقط باقي الحديث فلم يذكره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 6535 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: أتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، قل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. وقال له جبريل: قل:"ربنا ولا تَحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. فقال: قل"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، فقالها، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: قد فعل. فقال: قل:"واعف عَنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقالها، فقال جبريل: قد فَعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 6536 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربَنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقال له جبريل: فعل ذلك يا محمد ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقال له جبريل في كل ذلك: فَعَل ذلك يا محمد. 6537 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن آدم بن سليمان، مولى خالد قال، سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل من ربه" إلى قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به"، قال: قد فعلت ="واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، قال: قد فعلت. (1) 6538 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أنزل الله عز وجل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم. (2) 6539 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن آدم بن   (1) الحديث: 6537 - هو مختصر من الحديث: 6457، بهذا الإسناد. وقد ثبت الإسناد هنا على الصواب، كما أشرنا هناك. (2) الحديث: 6538 - هو مختصر من الحديث: 6456، بهذا الإسناد. وقد أشرنا إليه هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 سليمان، عن سعيد بن جبير:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال ويقول: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال ويقول: قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم"سورة البقرة"، ولم تعطها الأمم قبلها. (1) 6540 - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" إلى قوله:"غفرانك ربنا"، قال: قد غفرت لكم ="لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" = إلى قوله:"لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: لا أؤاخذكم ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا أحمل عليكم = إلى قوله:"واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا"، إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرُتكم على القوم الكافرين. (2) * * *   (1) الحديث: 6539 - هو حديث مرسل. وهو بعض الحديث الماضي: 6464، بهذا الإسناد. ولكن ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة"أبو حميد"، بدل"أبو أحمد". وهو خطأ يقينًا، فإنه"أبو أحمد الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير"، كما بينا في: 6463. ووقع في المخطوطة هنا بياض بين قوله"أبو حميد"، وبين"سفيان". وآخر بين قوله"عن سعيد بن جبير"، وبين الآية. ولعل كاتبها شك في قوله"عن سفيان"، وظنه كالرواية الماضية"حدثنا سفيان"، فترك مكان"حدثنا" بياضا. ثم شك في ذكر الآية بعد اسم"سعيد بن جبير"، دون تمهيد لها بقوله"فنزلت هذه الآية"، كما في الرواية الماضية، فترك لذلك بياضًا. (2) الحديث: 6540- علي بن حرب بن محمد بن علي، أبو الحسن الطائي الموصلي: ثقة ثبت، وثقه الدارقطني وغيره. وكان عالمًا بأخبار العرب، أديبًا شاعرًا. روى عنه النسائي، وأبو حاتم، وابنه، وترجمه 3/1/183. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 11: 418-240. وهذا الحديث تكرار للحديث: 6534، بنحوه. وهذا موقوف لفظًا مرفوع معنى، وذاك مرفوع لفظًا ومعنى. وذاك أرجح إسنادًا وأصح، كما بينا هناك. وذكر ابن كثير 2: 89 قطعة منه، من رواية ابن أبي حاتم، عن علي بن حرب الموصلي، بهذا الإسناد. فلا ندري: أرواه ابن أبي حاتم هكذا مختصرًا، أم اختصره ابن كثير؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 = وروى عن الضحاك بن مزاحم أن إجابةَ الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة: 6541 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا": كان جبريل عليه السلام يقول له: سلها! (1) فسألها نبيّ الله رَبَّه جل ثناءه، فأعطاه إياها، (2) فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً. 6542 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أن مُعاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال: آمين. (3) * * * آخر تفسير سورة البقرة * * *   (1) في المخطوطة: ". . . أو أخطأنا كان جبريل صلى الله عليه فسألها نبي الله" وما بين الكلام بياض، وأئمته المطبوعة كما ترى. أما الدر المنثور 1: 378 فقال: "أخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال: كان 3 عليه الصلاة والسلام فسألها نبي الله ربه. . . " ورقم"3" دلالة على سقط في الكلام. فالظاهر أن السقط قديم في بعض النسخ، ولذلك ترك له السيوطي بياضًا في نسخته من الدر المنثور. (2) في المخطوطة: "فأعطاها إياها"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق لما في الدر المنثور. (3) الأثر: 6542- في تفسير ابن كثير 2: 91، والدر المنثور 1: 378 وفيهما تخريجه. وفي ختام الصورة من النسخة العتيقة ما نصه: "آخر تفسير سورة البقرة" "والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم" "يتلوه تفسير سورة آل عمران. الحمد لله رب العالمين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 تفسير سورة آل عمران الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّر أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد: (1) * * * القول في تأويل قوله: {الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن معنى قوله:"ألم" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) وكذلك البيان عن قوله:"الله". (3) * * * وأما معنى قوله:"لا اله إلا هو"، فإنه خبرٌ من الله جل وعز، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحُّده بالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأنّ كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه ومُلكه = (4) احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه =   (1) في المطبوعة: "أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر ما سلف 1: 205-224. (3) انظر ما سلف 1: 122-126. (4) سياق العبارة: "أخبر عباده أن الألوهية خاصة به ... احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 ومعرِّفًا مَنْ كان مِنْ خَلقه (1) يَوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتنزيله ذلك إليه، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه - (2) مقيمًا على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته (3) - (4) ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا وربًّا = (5) أنه مقيم على ضلالة، ومُنعدلٌ عن المحجة، (6) وراكبٌ غير السبيل المستقيمة، بصرفه العبادة إلى غيره، ولا أحدَ له الألوهية غيره. * * * قال أبو جعفر: وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به: من نفي"الألوهية" أن تكون لغيره، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله. فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها، (7) احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على   (1) قوله: "ومعرفًا"، في المطبوعة والمخطوطة"ومعرف"، والصواب نصبها، لأن سياق الجملة"أخبر عباده أن الألوهية خاصة به ... معرفًا من كان من خلقه ... "، أما الواو العاطفة في قوله: "ومعرفًا"، فليست تعطف"معرفًا" على"احتجاجًا" فهذا غير جائز، بل هي عاطفة على جملة"أخبر عباده ... "، كأنه قال"وأخبرهم ذلك معرفًا". (2) السياق"ومعرفًا من كان من خلقه ... مقيما على عبادة وثن. . .". (3) الإلاهة: عبادة إله، كما سلف في تفسيره 1: 124. (4) في المطبوعة: "ومتخذته دون مالكه ... "، وهو لا يستقيم، وقد أشكل عليه قوله قبل"التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته"، فظن هذا معطوفا عليه، وهو خطأ مفسد للسياق، بل هو معطوف على قوله: "مقيما على عبادة وثن". (5) سياق الجملة: "ومعرفًا من كان من خلقه ... مقيما على عبادة وثن ... أنه مقيم على ضلالة ... ". (6) في المطبوعة: "ومنعزل" وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهي فيها غير منقوطة، والدال شبيهة بالراء!! وانعدل عن الطريق: مال عنه وانحرف. يقال: عدل عن الشيء: حاد، وعدل عن الطريق: جار ومال واعوج سبيله. (7) في المطبوعة والمخطوطة: "نيفًا وثلاثين آية"، وهو خطأ صرف، فالتنزيل بين عدده، والأثر التالي فيه ذكر العدد صريحًا" ... إلى بضع وثمانين آية". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا قَبول الجزية منهم، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلى بلادهم. غير أن الأمر وإن كان كذلك، وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم. (1) * * * ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى:- 6543 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران: (2) ستون راكبًا، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول أمرُهم:"العاقب" أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمهُ"عبد المسيح" = و"السيد" ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم، واسمه"الأيهم" = (3) وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. (4) وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. (5)   (1) في المطبوعة: "لرسول الله ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك. (3) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك. (4) المدراس (بكسر الميم وسكون الدال) : هو البيت الذي يدرسون فيه كتبهم، ويعني بقوله: "صاحب مدراسهم"، عالمهم الذي درس الكتب، يفتيهم ويتكلم بالحجة في دينهم. (5) في المطبوعة: "في دينه"، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. وقد أسقط الطبري من روايته هنا عن ابن إسحاق، ما أثبته ابن هشام في السيرة 2: 222-223، كما سيأتي في التخريج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 قال ابن إسحاق قال، محمد بن جعفر بن الزبير: (1) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثيابُ الحِبَرَات جُبب وأرْدية، في [جمال رِجال] بَلْحارث بن كعب= (2) قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم! = وقد حانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوهم! فصلوا إلى المشرق. = قال: وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم:"العاقب"، وهو"عبد المسيح"، والسيد، وهو"الأيهم"، و"أبو حارثة بن علقمة" أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وُنبيه، وخويلد، وعمرو، (3) وخالد، وعبد الله. ويُحَنَّس: في ستين راكبًا. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم:"أبو حارثة بن علقمة"، و"العاقب"، عبد المسيح، و"الأيهم" السيد، وهم من النصرانية على دين الملك، (4) مع اختلاف من أمرهم. يقولون:"هو الله"، ويقولون:"هو ولد الله"، ويقولون:"هو ثالث ثلاثة"، وكذلك قول النصرانية. فهم يحتجون في قولهم:"هو الله"، بأنه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس. (5)   (1) في ابن هشام: "فلما قدموا ... ". (2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، من نص ابن هشام. والحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء) جمع حبرة (بكسر الحاء وفتح الباء) : وهو ضرب موشى من برود اليمن منمر، وهو من جياد الثياب. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وخويلد بن عمرو"، وهو خطأ، صوابه من ابن هشام. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو من النصرانية"، والصواب من ابن هشام. (5) في ابن هشام: "ولنجعله آية للناس"، كنص الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 ويحتجون في قولهم:"إنه ولد الله"، أنهم يقولون:"لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد، شيءٌ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله". (1) ويحتجون في قولهم:"إنه ثالث ثلاثة"، بقول الله عز وجل:"فعلنا، وأمَرنا، وخلقنا، وقضينا". فيقولون:"لو كان واحدًا ما قال: إلا"فعلت، وأمرتُ وقضيتُ، وخلقت"، ولكنه هو وعيسى ومريم". ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم. فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما! قالا قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا، وعبادتكما الصليبَ، وأكلكما الخنزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله، صدرَ"سورة آل عمران" إلى بضع وثمانين آية منها. فقال:"ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، (2) فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا، (3) وتوحيده إياها بالخلق والأمر، لا شريك له فيه = رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، (4) وجعلوا معه من الأنداد = واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم، ليعرّفهم بذلك ضلالتهم، فقال:"اللهُ لا إله إلا هو"، أي: ليس معه شريك في أمره. (5)   (1) في المطبوعة: "بشيء لم يصنعه ... "، وهو كلام فاسد، والصواب من المخطوطة. وفي ابن هشام: "وهذا لم يصنعه ... ". (2) في المطبوعة والمخطوطة لم يذكر"ألم"، وأثبتها من ابن هشام. (3) في المطبوعة: "بتبرئة نفسه"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي ابن هشام: "بتنزيه نفسه". (4) في المطبوعة والمخطوطة: "وردًا عليه" بواو العطف، وهو خطأ، والصواب من ابن هشام. (5) الأثر: 6543 - في ابن هشام: "ليس معه غيره شريك في أمره". والأثر رواه ابن هشام في سيرته مطولا، وسيأتي بعد تمامه في الآثار التالية. سيرة ابن هشام 2: 222-225. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 6544 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم"، قال: إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلأهُ ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟ قالوا: لا! قال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى! قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا! قال: فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى! (1) قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، (2) ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث؟ قالوا بلى! قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا، فأنزل الله عز وجل:"ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم" * * *   (1) في المخطوطة والدر المنثور 2: 3 ما نصه: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب"، إلا أن الدر المنثور قد أسقط"قال" من هذه العبارة. أما البغوي (هامش تفسير ابن كثير) 2: 93: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب". وتركت ما في المطبوعة على حاله مخافة أن يكون من نسخة أخرى، كان فيها هذا. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أن عيسى حملته امرأة ... " والصواب"أمه"، كما في الدر المنثور والبغوي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 القول في تأويل قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) } قال أبو جعفر: اختلفت القرَأةُ في ذلك. فقرأته قرأة الأمصار (الْحَيُّ الْقَيُّوم) . وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) . * * * وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ: (الْحَيُّ الْقَيِّمُ) . 6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي قال، حدثنا الأعمشُ، عن إبراهيم، عن أبي معمر قال، سمعت علقمة يقرأ:"الحيّ القيِّم". قلتُ: أنت سمعته؟ قال: لا أدري. 6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة مثله. * * * وقد روى عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما:- 6547 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا شيبان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة أنه قرأ:"الحيّ القيَّام". قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك، ما جاءت به قَرَأة المسلمين نقلا مستفيضًا، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ، وراثةً، (1) وما كان مثبتًا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ، "الحي القيُّومُ". * * *   (1) في المطبوعة: "تشاغر"، بالغين، وهو خطأ، وانظر ما سلف: 127 تعليق: 2. وانظر ما قلته عن قوله: "وراثة" فيما سبق ص: 127 تعليق: 3. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 القول في تأويل قوله: {الْحَيُّ} " اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"الحيّ ". (1) فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموتَ - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها. ذكر من قال ذلك: 6548 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"الحي"، الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نجران. (2) 6549 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحي"، قال: يقول: حي لا يموتُ. * * * وقال آخرون: معنى"الحي"، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية، ووصف به نفسه: أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً، ولا تزال كذلك. وقالوا، إنما وصف نفسه بالحياة، لأن له حياة = كما وصفها   (1) انظر تفسير: "الحي" فيما سلف 5: 386، 387. (2) الأثر: 6548- سيرة ابن هشام 2: 225، وهو من بقية الأثر السالف: 6543. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 بالعلم، لأن لها علمًا = وبالقدرة، لأن لها قدرةٌ. * * * قال أبو جعفر: ومعنى ذلك عندي: (1) أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة، والحي الذي لا يموت ولا يبيد، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا، ويبيد كلُّ من ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت = وأنّ الإله، هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو. * * * القول في تأويل قوله: {الْقَيُّومُ} قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك، والذي نختار منه، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك. * * * فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها، فمتقارب. ومعنى ذلك كله: القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل وزيادة ونقص، كما:- 6550 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:"الحي القيوم"، قال: القائم على كل شيء.   (1) انظر تفسير"الحي" فيما سلف 5: 386، 387. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 6551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6552 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه. * * * وقال آخرون:"معنى ذلك: القيام على مكانه". ووجَّهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها بذلك، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم. ذكر من قال ذلك: 6553 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"القيوم"، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجران في عيسى = عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء، في رزقه والدفع عنه، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته = من قول العرب:"فلان قائم بأمر هذه البلدة"، يعنى بذلك: المتولي تدبيرَ أمرها.   (1) الأثر: 6553- في المخطوطة والمطبوعة: "عمر بن إسحاق" وهو خطأ بين، وهذا إسناد أبي جعفر إلى"محمد بن إسحاق"، الذي يدور في تفسيره. وهذا الخبر تمام الخبرين السالفين: 6543، 6548، في سيرة ابن هشام 2: 225. وفي المطبوعة والمخطوطة خطأ آخر: "القيام على مكانه"، مكان"القائم على مكانه" والصواب من سيرة ابن هشام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 فـ"القيوم" = إذ كان ذلك معناه ="الفيعول" من قول القائل:"الله يقوم بأمر خلقه". وأصله"القيووم"، غير أن"الواو" الأولى من"القيووم" لما سبقتها"ياء" ساكنة وهي متحركة، قلبت"ياء"، فجعلت هي و"الياء" التي قبلها"ياء" مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ"الواو" المتحركة إذا تقدمتها"ياء" ساكنة. (1) * * * وأما"القيَّام"، فإن أصله"القيوام"، وهو"الفيعال" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة من"قيوام""ياء" ساكنة، فجعلتا جميعًا"ياء" مشدّدة. ولو أن"القيوم""فَعُّول"، كان"القوُّوم"، ولكنه"الفيعول". وكذلك"القيّام"، لو كان"الفعَّال"، لكان"القوَّام"، كما قيل:"الصوّام والقوّام"، وكما قال جل ثناؤه: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) [سورة المائدة: 8] ، ولكنه"الفيعال"، فقيل:"القيام". * * * وأما"القيِّم"، فهو"الفيعل" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة"ياء" ساكنة، فجعلتا"ياء" مشددة، كما قيل:"فلان سيدُ قومه" من"ساد يسود"، و"هذا طعام جيد" من"جاد يجود"، وما أشبه ذلك. * * * وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح، فكان"القيوم" و"القيّام" و"القيم" أبلغ في المدح من"القائم"، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته، إن شاء الله،"القيام"، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من"الياء""الواو"، فيقولون للرجل الصوّاغ:   (1) انظر ما سلف في تفسير"القيوم": 5: 388، 389، وهنا زيادة في"القيام" و"القيم" لم يذكرها هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 "الصيّاغ"، ويقولون للرجل الكثير الدّوران:"الدَّيار". (1) وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه: (لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [سورة نوح: 26] إنما هو"دوّار"،"فعَّالا" من"دار يَدُور"، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز، وأقِرّت كذلك في المصحف. * * * القول في تأويل قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: يا محمد، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء، هو الرّبّ الذي أنزل عليك الكتاب = يعني بـ"الكتاب"، القرآن ="بالحق" يعني: بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم ="مُصَدّقًا لما بين يديه"، يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. (2) لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6554 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 110. (2) في المخطوطة"ومخفو ما جاءت به رسل الله"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مصدقًا لما بين يديه". قال: لما قبله من كتاب أو رسول. 6555 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مصدقًا لما بين يديه"، لما قبله من كتاب أو رسول. 6556 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنى محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"نزل عليك الكتاب بالحق"، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه. (1) 6557 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: القرآن، ="مصدّقًا لما بين يديه" من الكتب التي قد خلت قبله. 6558 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وأنزل التوراة"، على موسى ="والإنجيل" على عيسى ="من قبل"، يقول: من قبل الكتاب الذي نزله عليك = ويعني بقوله:"هُدًى للناس"، بيانًا للناس من الله فيما اختلفوا فيه   (1) الأثر: 6556- هو بقية الآثار السالفة، التي آخرها آنفًا رقم: 6553. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 من توحيد الله وتصديق رسله، ونَعْتِيك يا محمد بأنك نبيّى ورسولى، (1) وفي غير ذلك من شرائع دين الله، كما:- 6559 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس"، هما كتابان أنزلهما الله، فيهما بيانٌ من الله، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به، وعمل بما فيه. 6560 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل التوراة والإنجيل"، التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبله. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره. * * * وقد بينا فيما مضى أنّ"الفرْقان"، إنما هو"الفعلان" من قولهم:"فرق الله   (1) في المطبوعة: "ومفيدًا يا محمد أنك نبيي رسولي"، وفي المخطوطة هكذا: "وحفيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي"، الحرف الأول حاء، والثاني"فاء" والثالث"ياء"، والرابع كالدال، إلا أنه بالكاف أشبه. وقد رجحت أن تكون الكلمة: "نعتيك"، لأن الله لما نعت محمدًا بأنه نبيه ورسوله، اختلف الناس في صفته هذه. وكذلك فعل هذا الوفد من نصارى نجران، كما هو واضح من حديثهم في سيرة ابن هشام. وقوله"ونعتيك" معطوف على قوله: "من توحيد الله، وتصديق رسوله"، أي ومن نعتيك. أما ما جاء في المطبوعة، فهو فاسد في السياق وفي المعنى جميعًا. (2) الأثر: 6560 - هو بقية الآثار السالفة، التي آخرها رقم: 6556، وفي المطبوعة"على من كان قبلهما"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 بين الحق والباطل"، فصل بينهما بنصره الحقَّ على الباطل، (1) إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالأيدِ والقوة. (2) * * * وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى = وبعضهم: إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع. ذكر من قال: معناه:"الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب": 6561 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل الفرقان"، أي: الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. (3) * * * ذكر من قال: معنى ذلك:"الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام": 6562 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل الفرقان"، هو القرآن، أنزله على محمد، وفرق به بين الحق والباطل، فأحلّ فيه حلاله وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضَه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته. 6563 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وأنزل الفرقان"، قال: الفرقان، القرآن، فرق بين الحق والباطل. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يفصل بينهما ... بالحق" مضارعًا، والصواب أن يكون ماضيًا كما أثبته. (2) انظر ما سلف 1: 98، 99 / ثم 3: 448. وفي المطبوعة"بالأيدي" بالياء في آخره، وهو خطأ. والأيد: الشدة والقوة. (3) الأثر: 6561 - هو بقية الآثار التي آخرها: 6560. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 قال أبو جعفر: والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع = وأن يكون معنى"الفرقان" في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى، وفي غير ذلك من أموره، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله:"نزل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه". ولا شك أن ذلك"الكتاب"، هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبدٌ له، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا، أو ادَّعوه لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة. * * * و"الذين كفروا"، هم الذين جحدوا آيات الله = و"آيات الله"، أعلامُ الله وأدلته وحججه. (1) * * *   (1) انظر فهارس اللغة فيما سلف"كفر" و"أبى". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 وهذا القول من الله عز وجل ينبئ عن معنى قوله: (1) "وأنزل الفرقان" أنه معنِيٌّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل. (2) لأنه عقب ذلك بقوله:"إن الذين كفروا بآيات الله"، يعني: إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقانَ الذي أنزله فرقًا بين المحق والمبطل ="لهم عذاب شديدٌ"، وعيدٌ من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبيلَ الهدى بعد قيام الحجة عليه = ثم أخبرهم أنه"عزيز" في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحدٌ = وأنه"ذو انتقام" ممنّ جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه، وبعد وضوحها له ومعرفته بها. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6564 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"، أي: إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. (3) 6565 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"، ......................................................................... ............................................................................ (4) * * *   (1) في المخطوطة: "يعني عن معنى قوله"، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أنه معنى به الفصل عن الذي هو حجة ... "، وقوله: "عن" زائدة بلا ريب في الكلام من عجلة الناسخ، فلذلك أسقطتها. والسياق بعد يدل على صواب ذلك. (3) الأثر: 6564- هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6561. (4) مكان هذه النقط ما سقط من تتمة الخبر رقم: 6565، والأخبار بعده، إن كانت بعده أخبار. وهكذا هو المطبوعة وسائر المخطوطات التي بين أيدينا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول: فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم، في مقالتهم التي يقولونها فيه؟ ! كما:- 6566 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء"، أي: قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غيرُ ذلك، غِرّةً بالله وكفرًا به. (1) * * * القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء (2) = وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في   (1) الأثر: 6566 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6564، من سيرة ابن إسحاق. (2) في المطبوعة: "ممن صوره" بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين، كما:- 6567 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: (1) قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل؟ (2) 6568 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء. * * * قال آخرون في ذلك ما:- 6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا، فإذا بلغ أن يُخلق، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضْغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟   (1) "أي" ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وأثبتها من سيرة ابن هشام، وقد مضى نهج ابن إسحاق على ذلك في الآثار السالفة. (2) الأثر: 6567 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6566 عن ابن إسحاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ، دُفن حيث أخذ ذلك التراب. (1) 6570 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ. * * * القول في تأويل قوله: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) } قال أبو جعفر: وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل، أو أن تَجوز الألوهة لغيره = وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا، أو أقرّ بربوبية غيره. (2) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته، وعيدًا منه لمن عبد غيره، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه، فقال:"هو العزيز" الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ، (3) وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. (4) ثم أعلمهم أنه"الحكيم"   (1) الأثر: 6569- قد مضى الكلام في هذا الإسناد في رقم: 168. وحديث خلق الآدمي في بطن أمه بغير هذا اللفظ، وبغير هذا الإسناد في مسلم 16: 189-195، وفي البخاري في كتاب"بدء الخلق" في باب ذكر الملائكة. وفي كتاب"الحيض" باب: مخلقة وغير مخلقة. (2) قوله: "ولجميع من ادعى ... " معطوف على قوله: "وتكذيب للذين قالوا..". (3) "وأل" (بفتح الواو وسكون الهمزة، على وزن سمع) : هو الموئل، وهو الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و"لجأ" (بفتح اللام والجيم) : هو الملجأ، وهو المعقل الذي يحتمى به. (4) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 في تدبيره وإعذاره إلى خلقه، ومتابعة حججه عليهم، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة، ويحيا من حيَّ عن بينة، (1) كما:- 6571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم قال - يعني الرب عز وجل -: إنزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، قال: العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، (2) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (3) 6572 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيمٌ في أمره. * * * القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك الكتاب = يعني ب"الكتاب"، القرآن. * * *   (1) انظر فهارس اللغة (حكم) فيما سلف. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "في نصرته" وهو خطأ في المعنى، فإن"النصرة"، اسم من"النصر" وهو لا مكان له هنا. وأما "الانتصار" فهو: الانتقام. وانتصر منه: انتقم. (3) في ابن هشام: "في حجته وعذره إلى عباده"، وهي أجود لمكان"إلى" من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا: بلغ الغاية في إرشاده حتى لم يبق موضع للاعتذار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمى القرآن"كتابًا" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وأما قوله:"منه آيات محكمات" فإنه يعني: من الكتاب آيات. يعني ب"الآيات" آيات القرآن. وأما"المحكمات"، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك. * * * ثم وصف جل ثناؤه: هؤلاء"الآيات المحكمات"، بأنهن:"هُنّ أمّ الكتاب" (2) . يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم. * * * وإنما سماهن"أمّ الكتاب"، لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامعَ معظم الشيء"أمًّا" له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر:"أمّهم"، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة:"أمها". وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3) * * * ووحَّد"أمّ الكتاب"، ولم يجمع فيقول: هن أمَّهات الكتاب، وقد قال:"هُنّ" = لأنه أراد جميع الآيات المحكمات"أم الكتاب"، لا أن كل آية منهن"أم الكتاب". ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن"أم الكتاب"،   (1) انظر ما سلف 1: 99 / ثم 3: 86 وفهارس اللغة. (2) في المخطوطة"بأنهن من الكتاب" وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة. (3) انظر ما سلف 1: 107، 108. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 لكان لا شك قد قيل:"هن أمهات الكتاب". ونظير قول الله عز وجل:"هن أمّ الكتاب" على التأويل الذي قلنا في توحيد"الأم" وهي خبر لـ"هُنّ"، قوله تعالى ذكره: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [سورة المؤمنون: 50] ولم يقل: آيتين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. (1) ولو كان مرادًا الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده، (2) بأنه جعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا، فكان في كل واحد منهما للناس آية. * * * وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل:"هن أم الكتاب"، ولم يَقل:"هن أمهات الكتاب" على وجه الحكاية، كما يقول الرجل:"ما لي أنصار"، فتقول:"أنا أنصارك" = أو:"ما لي نظير"، فتقول:"نحن نظيرك". (3) قال: وهو شبيهُ:"دَعنى من تَمرْتَان"، وأنشد لرجل من فقعس: (4) تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانِ حَلِّ ... تَعرُّض المُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي (5)   (1) في المطبوعة: "إذا كان المعنى وإحداثهما جعلنا فيه للخلق عبرة" وهو كلام بلا معنى، ولكن الناقل عن المخطوطة لم يحسن القراءة، فإن الألف الأخيرة في"واحدًا" نزلت في مستقر الفاء من"فيما" غير منقوطة، فظنها"وإحداثهما"، وبدل"جعلا" فصيرها"جعلنا"، وهذا من عجائب الخلط. (2) في المطبوعة: "ولو كان مراده الخبر ... " والصواب الجيد من المخطوطة. (3) ربما كان الصواب: "ما لي نصير"، فتقول: "نحن نصيرك"، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب لا شك فيه. (4) هو منظور بن مرثد بن فروة الفقعسي الأسدي. ويقال: "منظور بن فروة بن مرثد"، وهو نفسه"منظور بن حبة الفقعسي الأسدي"، و"حبة" أمه، ويعرف بها. (5) مجالس ثعلب: 602 (أبيات كثيرة من هذا الرجز) وشرح شواهد الشافية: 248 - 251، وسر صناعة الإعراب 1: 177- 179 / ثم 235، واللسان (طول) (قتل) ، وغيرها. ورواية البيت الأول في مجالس ثعلب"بمجاز حل"، والأخير"عن قتللى"، ولا شاهد في هذه الرواية. وقد ذكر في اللسان اختلاف روايته."والطول" (بكسر الطاء وفتح الواو واللام غير مشددة كما في الرجز) : هو الجبل الذي يطول للدابة فترعى فيه، وإنما شدد الراجز. لم تأل: لم تقصر. والضمير في هذا الشعر إلى صاحبته التي يقول فيها قبل هذه الأبيات: مَنْ لِيَ مِنْ هِجْرَانِ لَيْلَى? مَنْ لِي? ... وَالحَبْلِ مِنْ وِصَالِهَا المُنْحَلِّ? الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 "حَلِّ" أي: يحلّ به. (1) = على الحكاية، لأنه كان منصوبًا قبل ذلك، كما يقول:"نوديَ: الصلاةَ الصلاةَ"، يحكي قول القائل:"الصلاةَ الصلاةَ". وقال: قال بعضهم: إنما هي:"أنْ قتلا لي"، ولكنه جعله"عينًا"، (2) لأن"أن" في لغته تجعل موضعها"عن"، والنصبُ على الأمر، كأنك قلت:"ضربًا لزيد". * * * قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها، (3) لا شك أنهن حكايات حاكيهنّ، (4) بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن = وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله:"أمّ الكتاب"، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. (5) * * * وأما قوله:"وأخَرُ" فإنها جمع"أخْرَى". (6) * * *   (1) في المطبوعة: "كل أي يحكى به على الحكاية"، وهو كلام فاسد، ولكن العجب للذي أراد أن يصححه فقال: "لعل أصلها كما هو المفهوم من السياق: لم يقل، عن قتل، وأتى به على الحكاية"، أراد أن يصحح، فكرر الكلام، وهو أسخف ما يكون. بيد أن القارئ الذي نقل عن المخطوطة، لم يحسن قراءة نصها، فأفسدها إفسادًا، ولكنها بينة كما كتبتها من رسم المخطوطة. وقوله"بمكان حل" ضبط بالقلم في اللسان وفي مجالس ثعلب بتنوين"مكان" و"مجاز"، وكسر الحاء من"حل". ولا أظنه صوابًا، فلم أجدهم يقولون: "مكان حل" بكسر الحاء، وإنما هو بفتحها بالإضافة، لا بالنعت: ": حل بالمكان حلولا وحلا". أي: نزل به. وقوله: "على الحكاية" في سياق قوله: "وأنشد لرجل من فقعس ... ". (2) في المطبوعة: "جعله عن"، ولا خير في هذا التغيير، والذي في المخطوطة عين الصواب. (3) في المطبوعة: "استشهد بها"، والذي في المخطوطة صواب عريق في العربية. (4) في المطبوعة: "حكايات حالهن"، وهو كلام لا مفهوم له. وفي المخطوطة"حالسهن" ولم يضع شرطة الكاف، فلذلك اشتبهت على الناسخ. (5) في المخطوطة: "أخرج ذلك محلر الحكاية"، وكأن الصواب المحض ما في المطبوعة، وهذا تحريف من عجلة الناسخ، أراد أن يكتب"مخرج"، فزاد القلم لامًا، ثم راجع راء، ثم أسقط الجيم. (6) انظر ما سلف 3: 459. وفي المطبوعة: "جمع آخر"، وفي المخطوطة، بغير مدة على الألف، ورجحت أن تكون"أخرى"، لما مضى من قوله في ذلك ولما سيأتي بعد قليل، ولأنه القياس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف"أخَر". فقال بعضهم: لم يصرف"أخر" من أجل أنها نعتٌ، واحدتها"أخرى"، كما لم تصرف"جُمَع" و"كُتَع"، لأنهن نعوتٌ. * * * وقال آخرون: إنما لم تصرف"الأخر"، لزيادة الياء التي في واحدتها، وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا: وإنما ترك صرف"أخرى"، كما ترك صرف"حمراء" و"بيضاء"، في النكرة والمعرفة، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. (1) ثم افترق جمع"حمراء" و"أخرى"، فبنى جمع"أخرى" على واحدته فقيل:"فُعَلٌ" و"أخر"، (2) فترك صرفها كما ترك صرف"أخرى" = وبنى جمع"حمراء" و"بيضاء" على خلاف واحدته فصرف، فقيل:"حمر" و"بيض"، فلاختلاف حالتهما في الجمع، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة، اتفقت حالتاهما فيها. * * * وأما قوله:"متشابهات"، فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) [سورة البقرة: 25] ، يعني في المنظر، مختلفًا في المطعم (3) وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) [سورة البقرة: 70] ، يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه. (4) * * *   (1) تركت قوله: "بالواو" على حاله، فإني لم أستطع أن أرجح زيادتها، ولم أعرف ما أراد بها إلا أن يكون أراد بها ألف التأنيث المقصورة، كالتي في"حبلى". والأخرى ألف التأنيث الممدودة. (2) المرجح عندي أن قوله: "فعل" زيادة من الناسخ. (3) انظر ما سلف 1: 385-394. (4) انظر ما سلف 2: 209-211. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام = وآيات أخر، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة، مختلفات في المعاني. * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخَر متشابهات"، وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟ فقال بعضهم:"المحكمات" من آي القرآن، المعمول بهن، وهنّ الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ ="والمتشابهات" من آية، المتروك العملُ بهنّ، المنسوخاتُ. ذكر من قال ذلك: 6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"منه آيات محكمات"، قال: هي الثلاث الآيات من ههنا: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام: 151، 152] ، إلى ثلاث آيات، (1) والتي في"بني إسرائيل": (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء: 23 - 39] ، إلى آخر الآيات. (2)   (1) في المطبوعة: "التي هاهنا"، وهو خطأ، فإن الآيات كما ترى من سورة الأنعام وأثبت ما في الدر المنثور 2: 4. وانظر التخريج في آخر الأثر. (2) الأثر: 6573- هكذا إسناده في المخطوطة والمطبوعة، وأنا أخشى أن يكون سقط من إسناده"عن أبي إسحاق"، بعد"قال أخبرنا العوام". و"العوام" هو العوام بن حوشب، يروي أبي إسحاق السبيعي. أما قوله في الإسناد"عمن حدثه" فإن ذلك كذلك، لأن الذي روى عنه أبو إسحاق السبيعي، هو"عبد الله بن قيس"، مذكور بروايته هذا الأثر، وراويه عنه هو أبو إسحاق السبيعي، ولم يعرف من روى عنه غير أبي إسحاق. (تهذيب التهذيب 5: 365) . والأثر نفسه رواه الحاكم في المستدرك 2: 288 من طريق: "علي بن صالح بن حي، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس". ونصه: "آيات محكمات، هي التي في الأنعام: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم - إلى آخر الثلاث الآيات". وقال الحاكم: "صحيح"، ووافقه الذهبي. من أجل ذلك خشيت أن يكون سقط من إسناد الطبري"عن أبي إسحاق"، ولكني لم أثبته في نصه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 6574 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب"، المحكمات: ناسخه، وحلالُه، وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به = قال:"وأخر متشابهات"، والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به. 6575 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى"وأخر متشابهات"، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب: الناسخ الذي يُدان به ويعمل به. والمتشابهات، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ. 6576 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزلَ عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى قوله:"كل من عندنا ربنا"، أما"الآيات المحكمات": فهن الناسخات التي يعمَل بهن = وأما"المتشابهات" فهن المنسوخات. 6577 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، و"المحكمات": الناسخ الذي يعمل به، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه = وأما"المتشابهات": فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به. 6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"آيات محكمات"، قال: المحكم ما يعمل به. 6579 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 أبيه، عن الربيع:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات"، قال:"المحكمات"، الناسخ الذي يعمل به = و"المتشابهات": المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به. 6580 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخات ="وأخر متشابهات"، قال: ما نُسخ وتُرك يُتلى. 6581 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: المحكم، ما لم ينسخ = وما تشابه منه: ما نسخ. 6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخ ="وأخر متشابهات"، قال: المنسوخ. 6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يحدث قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منه آيات محكمات"، يعني الناسخ الذي يعمل به ="وأخر متشابهات"، يعنى المنسوح، يؤمن به ولا يعمل به. 6584- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"منه آيات محكمات"، قال: ما لم ينسخ ="وأخر متشابهات"، قال: ما قد نسخ. * * * وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله وحرامه ="والمتشابه" منها: ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه. ذكر من قال ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 6585 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"منه آيات محكمات"، ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو"متشابه"، يصدّق بعضُه بعضًا = وهو مثل قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ) [سورة البقرة: 26] ، ومثل قوله: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام: 125] ، ومثل قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [سورة محمد: 17] . 6586 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد ="والمتشابه" منها: ما احتمل من التأويل أوجهًا. ذكر من قال ذلك: 6587 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات"، فيهن حجة الربّ، وعصمةُ العباد، ودفع الخصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه = (1) "وأخَرُ متشابهات"، في الصدق، (2) لهن تصريف وتحريف وتأويل، (3) ابتلى الله فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. (4) * * *   (1) في نص ابن هشام: "ليس لهن تصريف ... عما وضعن". (2) في المطبوعة: "وأخر متشابهة"، والصواب من المخطوطة وابن هشام. وليس في نص ابن هشام: "في الصدق"، ولكنها ثابتة في المخطوطة. (3) ليس في نص رواية ابن هشام"وتحريف". (4) الأثر 6587- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها: 6571، من روايته عن ابن إسحاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 وقال آخرون: معنى"المحكم": ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقَصَص الأمم ورُسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصّله ببيان ذلك لمحمد وأمته ="والمتشابه"، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقَصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى. (1) ذكر من قال ذلك: 6588 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد وقرأ: (ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود: 1] ، قال: وذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها: (2) وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) [سورة هود: 49] ، ثم ذكر (وَإِلَى عَادٍ) ، فقرأ حتى بلغ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (3) ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك، تبيين"أحكمت آياته ثم فصلت" = (4) قال: والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة   (1) في المطبوعة: "فقصة اتفاق الألفاظ ... وقصة باختلاف الألفاظ ... " وهو فاسد، والصواب من المخطوطة. (2) يعني من"سورة هود"، وهذا التعداد الآتي على الترتيب في المصحف. (3) كأنه يعني أنه قرأ حتى بلغ هذه الآية من سورة هود: 89- ولكن هذه الآية في ذكر خبر شعيب عليه السلام، فلا أدري ما قوله بعد: "ثم مضى، ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا". وظني أن نص عبارته: "ثم مضى. ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا ... " بإسقاط"ثم" الثانية. وانظر التعليق التالي. (4) في المطبوعة والمخطوطة: وهذا يقين ذلك يقين أحكمت ... " وكأن الصواب ما أثبت. هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان، ولكني وجدت السيوطي في الدر المنثور 3: 320، في تفسير"سورة هود" قال: "أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد رضي الله عنه أنه قرأ: "ألر كتاب أحكمت آياته" قال: هي كلها مكية محكمة - يعني سورة هود -"ثم فصلت". قال: ثم ذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم، فحكم فيما بينه وبين من خالفه، وقرأ: "مثل الفريقين"، الآية كلها. ثم ذكر قوم نوح، ثم قوم هود، فكان هذا تفصيل ذلك، وكان أوله محكمًا. قال: وكان أبي رضي الله عنه يقول ذلك - يعني: زيد بن أسلم". فمن أجل ذلك، رجحت التصحيح السالف في التعليق الماضي، ورجحت أن تكون"يقين" في الموضعين: "تبيين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد. ومتشابه: (فَاسْلُكْ فِيهَا) (احْمِلْ فِيهَا) ، (اسْلُكْ يَدَكَ) (أدخل يدك) ، (حَيَّةً تَسْعَى) (ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) = (1) قال: ثم ذكر هودًا في عشر آيات منها، (2) وصالحًا في ثماني آيات منها، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطًا في ثماني آيات منها، وشعيبًا في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود، ثم قال: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) [سورة هود: 100] . وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا؟ * * * وقال آخرون: بل"المحكم" من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره = و"المتشابه": ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب"المتشابه"، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو"ألم" و"ألمص"، و"ألمر"، و"ألر"، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ   (1) من أول قوله: "قال: والمتشابه ... " معترض في سياق حديثه عن تفصيل القصص في"سورة هود" وتعداد آيات كل قصة. أما الآيات المذكورة هنا، فهذا بيان مواضعها على الترتيب: "سورة المؤمنون: 27" / "سورة هود: 40" / "سورة القصص: 32" / "سورة النمل: 12" / "سورة طه: 20" / "سورة الأعراف: 107" و"سورة الشعراء: 22. (2) "منها" يعني من"سورة هود"، وكذلك سائر ما بعده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 محمد وأمته، (1) فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله. * * * قال أبو جعفر: وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: (2) أن هذه الآية نزلت فيه، (3) وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (4) [سورة البقرة: 2] * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، (5) وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى= [وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة] (6) = وذلكَ   (1) في المطبوعة: "أجل أمته"، وهو تحريف من الطابع، وأثبت ما في المخطوطة: والأكل (بضم فسكون) : مدة العمر، وانظر التعليق ص: 196، تعليق: 1. (2) في المطبوعة: "بن رباب" وهو خطأ، والصواب ما أثبت و"رئاب" بكسر الراء. وانظر ما سلف 1: 216 وما سيأتي في التعليق: 4، وفيه المرجع. (3) قوله: "فيه"، أي: في هذا القول. لا في"جابر بن عبد الله". (4) انظر ما سلف 1: 245-224 في تفسير"ألم"، والأثر رقم: 246 والتعليق عليه. (5) في المطبوعة: "لخلقه"، وفي المخطوطة: "محلقه" غير منقوطة، والحرف الأول كأنه ميم مطموسة، وصواب قراءته ما أثبت. (6) هذه الجملة التي بين القوسين، هكذا جاءت في المطبوعة، ومثلها في المخطوطة وإن كان قوله "اصطرته" غير منقوطة هكذا. وهي عبارة غير واضحة المعنى، وأنا أخشى أن يكون الناسخ قد أغفل أسطرًا من هذا الموضع، فاختلط الكلام علينا وعليه! وإسقاط هذه الجملة من سياق الكلام لا يضر. ولكني تركتها على حالها، ووضعتها بين قوسين، وحصرتها بين الخطوط، ليعرف مكانها، ومكان السقط الذي رجحت أنه سهو من الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 كقول الله عز وجل: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [سورة الأنعام: 158] ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عبادَه أنها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طُلوع الشمس من مغربها. (1) فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك، هو العلم منهم بوقت نَفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام. (2) فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسَّرًا. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، (3) هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله:"ألم" و"ألمص" و"ألر" و"ألمر" ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله. فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان يُبينه = (4) أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في   (1) انظر تفصيل ذلك والعلة في تفسير الآية من تفسير الطبري 8: 71-77 (بولاق) . (2) في المطبوعة: "بعد بالسنين ... "، وفي المخطوطة: "بعد السنين ... "، وظاهر أن الناسخ أسقط الدال الثانية من"بعدد". (3) في المطبوعة: "لا حاجة لهم" باللام، وأثبت صوابها من المخطوطة. (4) في المطبوعة والمخطوطة"مبينة"، ولكن ميم المخطوطة كأنها ليست"ميما"، وصواب قراءة النص هو ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 معان كثيرة. فالدلالة على المعنى المراد منه، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بيَّنَّا. * * * القول في تأويل قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب} قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. (1) ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معنى قوله:"هن أم الكتاب"، هنّ اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام، نحو قولنا الذي قلنا فيه. (2) ذكر من قال ذلك: 6589- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية:"محكمات هنّ أم الكتاب". قال يحيى: هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين = وضرب لذلك مثلا فقال:"أمّ القرى" مكة،"وأم خراسان"، مَرْو،"وأمّ المسافرين"، الذي يجعلون إليه أمرَهم، ويُعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم. (3) 6590 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"هن أم الكتاب"، قال: هن جماع الكتاب. * * *   (1) انظر ما سلف قريبًا: 170. (2) في المطبوعة: "نحو قلنا" وهو سهو صوابه من المخطوطة. (3) الأثر: 6589-"عمران بن موسى الفزار"، و"عبد الوارث بن سعيد" مضت ترجمتهما برقم 2154. وانظر التعليق على الأثر رقم: 6591، التالي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 وقال آخرون: بل يعني بذلك: (1) فواتح السور التي منها يستخرج القرآن. ذكر من قال ذلك: 6591 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية:"منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال:"أم الكتاب" فواتح السور، منها يستخرج القرآن - (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، منها استخرجت"البقرة"، و (الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) منها استخرجت"آل عمران". (2) * * * القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه. * * * يقال منه:"زاغ فلان عن الحق، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة وزُيوغًا"، و"أزاغه الله" - إذا أماله -"فهو يُزيغه"، ومنه قوله جل ثناؤه: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لا تملها عن الحق = (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [سورة آل عمران: 8] . * * *   (1) في المطبوعة: "معنى بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 6591-"أبو فاختة" هو"سعيد بن علاقة الهاشمي"، مولى أم هانئ، ثقة مترجم في التهذيب. وانظر الأثر السالف رقم: 6589. فقد خرجهما السيوطي في الدر المنثور 2: 4، أثرًا واحدًا مختصرًا وقال: "عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: هن أم الكتاب، فقال أبو فاختة ... وقال يحيى بن يعمر ... " وساق ما في هذين الأثرين مختصرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:- ذكر من قال ذلك: 6592 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فأما الذين في قلوبهم زيغٌ"، أي: ميل عن الهدى. (1) 6593 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"في قلوبهم زيغ"، قال: شك. 6594 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6595 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، قال: من أهل الشك. 6596 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، أما الزيغ فالشك. 6597 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قال:"زيغ" شك = قال ابن جريج:"الذين في قلوبهم زيغ"، المنافقون. * * *   (1) الأثر: 6592- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6587، عن ابن إسحاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 القول في تأويل قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فيتبعون ما تشابه"، ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا = بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك = ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه، كما:- 6598 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فيتبعون ما تشابه منه"، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبِّسون، فلبَّس الله عليهم. 6599 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فيتبعون ما تشابه منه"، أي: ما تحرّف منه وتصرف، (1) ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً. (2) 6600 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"فيبعون ما تشابه منه"، قال: الباب الذي ضلُّوا منه وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله. * * * وقال آخرون في ذلك بما:   (1) في ابن هشام: "أي: ما تصرف منه"، وليس فيه"تحرف". (2) الأثر: 6599- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6592، بإسناده عن ابن إسحاق. ونص ما في سيرة ابن هشام 2: 226"لتكون لهم حجة، ولهم على ما قالوا شبهة". وتركت ما في التفسير هنا على حاله، لأن روايته عن ابن إسحاق، غير رواية ابن هشام". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 6601 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي في قوله:"فيتبعون ما تشابه منه"، يتبعون المنسوخَ والناسخَ فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجان هذه الآية، (1) فتركت الأولى وعُمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نُسخت؟ وما باله يعد العذابَ مَنْ عمل عملا يعذبه [في] النار، (2) وفي مكان آخر: مَنْ عمله فإنه لم يُوجب النار؟ * * * واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجُّوه بما حاجُّوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر. ذكر من قال ذلك: 6602 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة"، ثم   (1) في المطبوعة: "مجاز هذه الآية"، أما المخطوطة، فهي غير بينة، وآثرت قراءتها"مكان". (2) في المطبوعة: "يعد به النار" بالدال المهملة، ولا معنى له. وفي المخطوطة"عد به" غير منقوطة، وصواب قراءتها"يعذبه"، وما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 إن الله جل ثناؤه: أنزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [سورة آل عمران: 59] ، الآية. * * * وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حُييّ بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل أمته، (1) وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله:"ألم و"ألمص"، و"ألمر" و"ألر"، فقال الله جل ثناؤه فيهم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى والحق ="فيتبعون ما تَشابه منه" يعني: معاني هذه الحروف المقطّعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ="ابتغاءَ الفتنة". وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل، في أول السورة التي تذكر فيها"البقرة". (2) * * * وقال آخرون: بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله. ذكر من قال ذلك: 6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة"، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" قال: إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية، (3) فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر   (1) في المطبوعة: "أجله وأجل أمته"، وانظر تفسير"الأكل" فيما سلف ص: 180، تعليق: 1. (2) انظر الأثر السالف رقم: 246. (3) "الحرورية"، هم الخوارج، اجتمعوا بحروراء بظاهر الكوفة، فكان هناك أول اجتماعهم بها وتحكيمهم حين خالفوا عليًا، وأما "السبائية"، فهم منسوبون إلى ابن السوداء اليهودي"عبد الله بن سبأ" وهو الذي قال لعلي: "أنت أنت" يعني أن الأمام فيه الجزء الإلهي، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فنفاه علي إلى المدائن. هذا وقد كتبت في المخطوطة"السبائية"، وفي المطبوعة"السبئية"، وآثرت ما في المخطوطة لأنها هكذا هي في أكثر الكتب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرّضوان من المهاجرين والأنصار خبرٌ لمن استخبر، وعبرةٌ لمن استعبر، لمن كان يَعْقِل أو يُبصر. (1) إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثيرٌ بالمدينة والشأم والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إنْ خَرَج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ونعتِه الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتدّ والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرّق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. (2) فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا؟ يا سبحان الله؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلجه ونصره، (3) ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، كلما خَرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرَاق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم، (4) وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهرَاق الله دماءهم. ذاكم والله دينَ سَوْء فاجتنبوه. والله إنّ اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدْعة، (5) وإن الحرورية لبدعة، وإن السبائية لبدعة، ما نزل بهن كتابٌ ولا سنَّهنّ نبيّ. 6604 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"، طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان = وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه. 6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى قوله:"وما يذَّكر إلا أولوا الألباب"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذرُوهم. (6)   (1) يعني بذلك العبرة التي كانت في بدر، حين أشار على رسول الله أصحابه أن يدع منزله الأول الذي نزله، إلى المنزل الذي أشاروا به عليه - والعبرة التي كانت في الحديبية حين قال بعض أصحاب بيعة الرضوان ما قالوا في كراهة الصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش. وفي ذلك برهان على فساد مقالة الخوارج، ومقالة السبائية. (2) ألاص الأمر: أداره وحاوله. وألاص فلانًا على هذا الأمر: أداره على الشيء الذي يريده. (3) في المطبوعة: "أفلحه" بالحاء المهملة، وهو في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءته بالجيم. أفلج الله حجته: أظهرها، وجعل له الفلج، أي الفوز والغلبة. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "وإن كتموا ... "، والسياق يقتضي حذف الواو. (5) عنى باليهودية والنصرانية، ما ابتدعه اليهود والنصارى من القول في عزير، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مذاهبهم - ومن القول في المسيح، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مقالاتهم. (6) الحديث: 6605- هذا الحديث رواه الطبري هنا بأحد عشر إسنادًا، كلها من رواية ابن أبي مليكة، إلا واحدًا، وهو الحديث: 6611. واختلف الرواة عن ابن أبي مليكة، فبعضهم يرويه عنه عن عائشة مباشرة، وبعضهم يرويه عنه عن القاسم عن عائشة. وكل صحيح، كما سيأتي. وابن أبي مليكة: هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، القرشي المكي. وهو تابعي كبير ثقة، سمع عائشة وغيرها من الصحابة. ترجمه البخاري في الصغير، ص: 131، وابن سعد 5: 347-348، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 99-100، والمصعب في نسب قريش، ص: 293. فقال الترمذي: 4: 80، بعد أن روى الحديث بالوجهين، كما سيأتي-: "هكذا روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا فيه: عن القاسم بن محمد. وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم: عن القاسم بن محمد، في هذا الحديث. وابن أبي مليكة، هو"عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. وقد سمع من عائشة أيضًا". ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بذكر"القاسم" في الإسناد، كما زعم الترمذي. وسيجيء بيان ذلك، إن شاء الله. وقال الحافظ في الفتح 8: 157: "قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا، وكثيرًا ما يدخل بينها وبينه واسطة. وقد اختلف عليه في هذا الحديث..". والحديث - من هذا الوجه، من رواية ابن علية، عن أيوب -: رواه أحمد في المسند 6: 48 (حلبي) ، عن ابن علية، بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابن ماجه: 47، عن محمد بن خالد بن خداش - شيخ الطبري هنا - عن ابن علية، به. ومحمد بن خالد بن خداش، هذا: مترجم في التهذيب. وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب عن أبيه". ولم يترجمه ابن أبي حاتم، ولم يذكره الخطيب في تاريخ بغداد، مع أنه سكنها، كما في التهذيب. والحديث ذكره ابن كثير 2: 97، عن رواية المسند. ثم قال: "هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، من رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، ليس بينهما أحد". ثم أشار إلى رواية ابن ماجه، وإلى روايات أخر، تذكر فيما سيأتي. ولكن وقع في ابن كثير"يعقوب" بدل"أيوب"! وهو خطأ ناسخ أو طابع. وثبت في المسند على الصواب"أيوب". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 6606- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى"وما يذكر إلا أولوا الألباب"، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال: يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله، فاحذرهم = قال مطر، عن أيوب أنه قال: فلا تجالسوهم، فهم الذين عنىَ الله فاحذروهم. (1)   (1) الحديث: 6606- ابن عبد الأعلى: هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني. مضت ترجمته في: 1236. مطر: هو ابن طهمان - بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء - الوراق. وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. مات سنة 125. والحديث - من هذا الوجه - رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 75 بتحقيقنا، من طريق عاصم بن النضر الأحول، عن المعتمر بن سليمان، بهذا الإسناد. وقال ابن حبان عقب روايته: "سمع هذا الخبر أيوب عن مطر الوراق وابن أبي مليكة جميعًا". وهذا خطأ، فاتنا أن ننبه إليه هناك، إذ فهمناه على المعنى الصحيح، لم نتنبه إلى اللفظ! فابن حبان يريد أن يقول: "سمع هذا الخبر أيوب ومطر الوراق، جميعًا عن ابن أبي مليكة". فإما كان ما ثبت فيه سبق قلم من ابن حبان، وإما كان سهوًا من الناسخين. فما كان ابن حبان ليخفى عليه أن مطرًا الوراق لم يدرك عائشة، وهو قد ذكره في الثقات، ص: 344-345، وذكر أنه يروي عن أنس بن مالك، وأنه مات سنة 125، قيل: 129. ومع ذلك فلم يسلم له هذا، فقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 78، عن أبي زرعة، قال: "مطر لم يسمع من أنس شيئًا. وهو مرسل". ولكن يعكر على كلام ابن حبان- إذا قرئ على الوجه الصواب الذي ذكرنا-: أن رواية الطبري هنا صريحة في أن مطرًا سمعه من أيوب بالزيادة التي زادها في لفظ الحديث. ويكون المعتمر بن سليمان سمعه من أيوب مختصرًا، بلفظ"فاحذروهم"، وسمعه من مطر الوراق عن أيوب مطولا، باللفظ الآخر. وهذا هو الصواب إن شاء الله. ومطر وأيوب من طبقة واحدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 6607 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه. (1) 6608- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2) 6609 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب وأخر متشابهات" الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله، فلا تجالسوهم. (3)   (1) الحديث: 6607- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت ترجمته في: 2039. والحديث - من هذا الوجه-: رواه ابن ماجه: 47، عن أحمد بن ثابت الجحدري، ويحيى بن حكيم، كلاهما عن عبد الوهاب، به. وأشار إليه ابن كثير 2: 97، من رواية ابن ماجه. ثم قال: "ورواه محمد بن يحيى العبدي، في مسنده، عن عبد الوهاب الثقفي، به". (2) الحديث: 6608- هو الحديث السابق. وهو من رواية معمر عن أيوب. وأشار إليه ابن كثير 2: 97، قال: "وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب". ولم يذكر ابن كثير تخريجًا آخر لرواية معمر هذه. وتفسير عبد الرزاق، مخطوطة دار الكتب المصرية - فيه خرم من أواخر سورة البقرة، إلى أوائل سورة النساء. (3) الحديث: 6609- الحارث: هو ابن بنهان الجرمي البصري. وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 1 / 2 / 282: "منكر الحديث". وكذلك قال في الصغير، ص: 185. وفي التهذيب عن الترمذي في العلل الكبير، عن البخاري: "منكر الحديث، لا يبالي ما حدث. وضعفه جدًا". وروى ابن أبي حاتم 1 / 2 / 91-92، عن أحمد بن حنبل، قال: "رجل صالح، ولم يكن يعرف بالحديث، ولا يحفظه، منكر الحديث". وعلى الرغم من ضعف الحارث هذا، فإن أصل الحديث صحيح، بالأسانيد الأخر: السابقة واللاحقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 6610 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب"، ثم قرأ إلى آخر الآيات، فقال:"إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم. (1) 6611 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزع رسول الله   (1) الحديث: 6610- ابن وكيع: هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف، كما بينا في: 1692. أبو أسامة: هو حماد بن أسامة الكوفي الحافظ. مضت ترجمته: 2995. يزيد بن إبراهيم التستري البصري الحافظ: ثقة ثبت. وثقه أحمد، ووكيع، وأبو حاتم، وغيرهم. وجعله ابن معين أثبت من جرير بن حازم. وهذا الإسناد أحد الروايات في هذا الحديث، التي فيها زيادة"القاسم بن محمد"، بين ابن أبي مليكة وعائشة. وكل صحيح. فهو من المزيد في متصل الأسانيد: سمعه ابن أبي مليكة من عائشة، وسمعه من القاسم عن عائشة. فحدث به على الوجهين، تارة هكذا، وتارة هكذا. والحديث - من هذا الوجه-: رواه أبو داود الطيالسي: 1433، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد، نحوه، مختصرًا قليلا. ورواه البخاري 8: 157-159 (فتح) . ومسلم 2: 303-304. وأبو داود: 4598- ثلاثتهم عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد. ورواه الترمذي: 4: 80، عن عبد بن حميد، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم، به، نحوه. وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 72 بتحقيقنا، من طريق عبد الله - وهو ابن المبارك الإمام شيخ الإسلام - عن يزيد بن إبراهيم، به. ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بزيادة"القاسم" بين ابن أبي مليكة وعائشة، فسيأتي بإسناد آخر: 6615، بزيادة القاسم، وسيأتي أيضًا عقب هذا: 6611 من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 صلى الله عليه وسلم:"يتبعُون ما تَشابه منه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم. (1) 6612 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد، عن نافع بن عمر، عن [ابن أبي مليكة، حدثتني] عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموهم فاحذروهم، ثم نزع:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه"، ولا يعملون بمحكمه. (2)   (1) الحديث: 6611- علي بن سهل الرملي، شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 1384. الوليد بن مسلم الدمشقي، عالم الشام: مضت ترجمته في: 2184. عبد الرحمن: هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر. مضت ترجمته في: 2836. وهذا إسناد صحيح. وهو متابعة صحيحة قوية لرواية ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد. وقد نقله ابن كثير 2: 98. ثم قال: "ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به". وانظر الحديث الآتي: 6615. وقوله: "نزع رسول الله" - يقال: انتزع بالآية والشعر: تمثل. ويقال للرجل إذا استنبط معنى آية من كتب الله: "قد انتزع معنى جيدًا" و"نزعه"، أي استخرجه. ولعلها عنت بقولها"نزع" هنا -: استشهد، أو قرأ مستشهدًا. وانظر الحديث التالي لهذا. (2) الحديث: 6612- نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل، الجمحي القرشي المكي: ثقة، قال أحمد بن حنبل: "ثبت ثبت صحيح الحديث". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 86، وابن سعد 5: 363. ونسب قريش للمصعب: 400. وابن أبي حاتم 4 / 1 / 456، وتذكرة الحفاظ 1: 213. ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا: "نافع عن عمر"! بدل"نافع بن عمر". وهو خطأ. تصويبه عن الفتح 8: 157، حيث ذكر فيمن روى هذا الحديث"عن ابن أبي مليكة دون ذكر القاسم" -" .... ونافع بن عمر، وابن جريج، وغيرهما". وكذلك صححناه عن ابن كثير، كما سنذكر. ثم وقع في الأصلين خطأ آخر أشد من ذاك وأشنع! ففيهما: "عن نافع، عن عمر، عن عائشة"!! فحذف"ابن أبي مليكة" من الإسناد. ثم حذف تصريحه بالسماع من عائشة. فصححنا الإسناد، وأثبتنا ما سقط منه خطأ من الناسخين، وهو ما زدناه بعد كلمة"عن"، بين علامتي الزيادة: [ابن أبي مليكة، حدثتني] . وهذه الزيادة أخذناها من ابن كثير 2: 98، حيث قال: "ورواه ابن جرير، من حديث روح بن القاسم، ونافع بن عمر الجمحي، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. وقال نافع في روايته: عن ابن أبي مليكة، حدثتني عائشة. فذكره". فهذا هو الصواب، الذي أفادنا ما سقط هنا من الإسناد من الناسخين. والحمد لله. ثم إن الحديث سيأتي: 6614، من هذا الوجه، على الصواب، من رواية خالد بن نزار، عن نافع - وهو ابن عمر الجمحي-"عن ابن أبي مليكة، عن عائشة". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 6613- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرنا عمي قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم. (1) 6614- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية،"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، الآية،"يتبعها"، يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم، فهم الذين عنى الله. (2)   (1) الحديث: 6613- أحمد بن عبد الرحمن بن وهب: مضت ترجمته في: 2747. وعمه: هو عبد الله بن وهب. شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري: قال ابن المديني: "ثقة، كان يختلف إلى مصر في تجارة، وكتابه كتاب صحيح". وفي مصر سمع منه ابن وهب. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 234، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 359. و"الحبطي": بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. نسبة إلى"الحبطات". بطن من تميم. روح بن القاسم التميمي العنبري البصري: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال سفيان بن عيينة: "لم أر أحدًا طلب الحديث وهو مسن أحفظ من روح بن القاسم". وهذا الإسناد أشار إليه ابن كثير 2: 98، كما نقلنا كلامه عند الإسناد الذي قبله. (2) الحديث: 6614- خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي: ثقة. مترجم في التهذيب فقط. وشيخه نافع: هو ابن عمر الجمحي. وهذا الحديث تكرار للحديث: 6612، من رواية نافع الجمحي، ومؤيد لما ذكرنا أنه سقط من ذاك الإسناد. فهؤلاء: أيوب، ونافع بن عمر، وخالد بن نزار رووه عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - مباشرة، دون واسطة"القاسم" بينهما، بل صرح نافع بن عمر بسماع ابن أبي مليكة إياه من عائشة، كما مضى في: 6612. وتابعهم على ذلك أبو عامر الخزاز: فرواه الترمذي 4: 80، عن محمد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - دون ذكر القاسم. وأبو عامر الخزاز - بمعجمات - هو صالح بن رستم. مضت ترجمته: 5458. وهذه المتابعة ذكرها ابن كثير 2: 98، والحافظ في الفتح 8: 157. وإسنادها صحيح. ورواه أيضًا سعيد بن منصور، عن حماد بن يحيى، عن ابن أبي مليكة. عن عائشة، نقله ابن كثير 2: 98. وهو إسناد صحيح. وتابعهم أيضًا ابن جريج. ذكره الحافظ في الفتح 8: 157، ولكن لم يذكر من خرجه. ولم أجده في مصدر آخر مما بين يدي من المصادر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 6615- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى آخر الآية، قال: هم الذين سَمّاهم الله، فإذا أريتموهم فاحذروهم. (1) * * * قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية، أنها نزلت في الذين جادَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله، إمّا   (1) الحديث: 6615- وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه بزيادة"القاسم" بين ابن أبي مليكة وعائشة، كمثل رواية يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة، الماضية: 6610. وهو يرد ادعاء الترمذي أن يزيد بن إبراهيم انفرد بهذه الزيادة، كما ذكرنا في 6605. فقد تابعه على ذلك حماد بن سلمة، في هذا الإسناد. وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 1432، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. وقد جمع الروايتين: رواية يزيد ورواية حماد - أبو الوليد الطيالسي في روايته عنهما. فرواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة - معًا - عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. نقله ابن كثير 2: 98، عن ابن أبي حاتم، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 157. وقد مضت من قبل: 6611 رواية حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. فدل هذا وذاك على أن حماد بن سلمة رواه عن شيخين عن القاسم: رواه عن عبد الرحمن بن القاسم، وعن ابن أبي مليكة - كلاهما عن القاسم. وهناك متابعة أخرى عن القاسم، لا نعرف تفصيل إسنادها. إذ قال ابن كثير 2: 98"ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به". فلم يذكر ما هي، ولا ما إسنادها، ولم يشر إليها الحافظ في الفتح. ولحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 5، وزاد نسبته إلى البيهقي في الدلائل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 في أمر عيسى، وأما في مدة أكله وأكل أمته. (1) وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدّته ومدّة أُمّته، أشبُه، لأن قوله:"وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله"، دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن الآجال. (2) * * * القول في تأويل قوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (3) فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك. ذكر من قال ذلك: 6616 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ابتغاء الفتنة"، قال: إرادة الشرك. 6617- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ابتغاء الفتنة) يعني الشرك. * * *   (1) في المطبوعة: "إما مدة أجله وأجل أمته"، والتصحيح من المخطوطة، وقد سلف مثل ذلك التحريف في ص: 180، تعليق: 1، وص: 187، تعليق: 1 وفي الجزء الأول من التفسير ص: 217 تعليق: 4. والأكل" (بضم الألف وسكون الكاف) : الرزق، لأنه يؤكل. ومنه قيل لمدة العمر التي يعيشها المرء في الدنيا"أكل". يقال للميت: "انقطع أكله"، انقضت مدته، وفنى عمره. (2) في المطبوعة: " ... أنه لم يعن إلا ما كان خفيًا عن الآحاد"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "أنه يعره إلا ما كان عليه خفيًا عن الآحاد"، فرجحت أن صواب قراءتها كما أثبتها، "الآجال" جمع أجل، وهو الذي أرادوا معرفته من مدة هذه الأمة. والناسخ هنا كثير السهو والتحريف من عجلته. (3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 3: 508 / ثم 4: 163. وتفسير"الفتنة" فيما سلف، 2: 443، 444 / ثم 3: 565، 566، 570، 571 / ثم 4: 301. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 وقال آخرون: معنى ذلك: ابتغاءَ الشّبهات. ذكر من قال ذلك: 6618 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات، بها أهْلِكوا. 6619 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ابتغاء الفتنة"، الشبهات، قال: هلكوا به. 6620 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات. قال: والشبهات ما أهلكوا به. 6621 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ابتغاء الفتنة"، أي اللَّبْس. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه:"إرادةُ الشبهات واللبس". * * * فمعنى الكلام إذًا: فأما الذين في قلوبهم هيلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات (2) - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه. * * *   (1) الأثر: 6621 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم 6599، بإسناده عن ابن إسحاق. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "واحتمل صرفه في وجوه التأويلات"، وقد قطعت بأن ذلك خطأ من الناسخ، لأن الضمائر السابقة كلها جموع، والتي تليها كلها أفراد، وهو لا يستقيم. فرجحت أن الناسخ قرأ"صرف صرفه" (بغير ألف في: صارفه) كما كانت تكتب قديمًا، فظنها خطأ، فحذف الأولى"صرف" وأبقى الأخرى"صرفه"، فاضطربت الضمائر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 قال أبو جعفر: وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنىّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض مُتشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبًا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنًا من كان، وأيّ أصناف المبتدعة كان (1) من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سَبئيًا، (2) أو حروريًّا، أو قدريًّا، أو جهميًّا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم:"فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم"، وكما:- 6622 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس -وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن، (3) فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس:"وما يعلم تأويله إلا الله"، الآية. * * * قال أبو جعفر: وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله:"ابتغاء الفتنة"، لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبسَ على المسلمين، والاحتجاجَ به عليهم، ليصدّوهم   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "البدعة"، وصواب قراءتها إن شاء الله"المبتدعة"، كما يدل عليه السياق. (2) هكذا كتبت هنا"سبئيًا"، وقد أسلفنا أنها كتبت في المواضع الماضية"سبائيًا"، فتركت هذا الرسم كما هو، وهو صواب. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "وما يلقون عند الفرار"، وهو كلام لا معنى له، وإنما أراد أنه ذكر عند ابن عباس ما عليه الخوارج من الخشوع والعبادة والإخبات عند سماع القرآن، وذلك من أمر الخوارج مشهور، وهم الذين جاء في صفتهم: "تحقرون صلاتهم إلى صلاتكم" في الحديث المشهور. ولذلك قطعت بأن قراءة ما في المخطوطة هو ما أثبت. ويؤيد ذلك جواب ابن عباس: "يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه" متعجبًا من فعلهم في خشوعهم، وضلالهم في تأويلهم المبتدع الذي استحلوا به دماء المسلمين وأموالهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 عما هم عليه من الحق، فلا معنى لأن يقال:"فعلوا ذلك إرادةَ الشرك"، وهم قد كانوا مشركين. * * * القول في تأويل قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"التأويل"، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"وابتغاء تأويله". فقال بعضهم: معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل،"ألم"، و"ألمص"، و"ألر"، و"ألمر"، وما أشبه ذلك من الآجال. ذكر من قال ذلك: 6623 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس أما قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله"، يعني تأويله يوم القيامة ="إلا الله". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"عواقبُ القرآن". وقالوا:"إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك". ذكر من قال ذلك: 6624 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وابتغاء تأويله"، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 الله:"وما يعلم تأويله إلا الله"، وتأويله، عواقبه= متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ؟ * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن، يتأوّلونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ، وما ركبوه من الضلالة". ذكر من قال ذلك: 6625 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وابتغاء تأويله"، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم = (1) "خلقنا"، و"قضينا". * * * قال أبو جعفر: والقول الذي قاله ابن عباس: من أنّ:"ابتغاء التأويل" الذي طلبه القوم من المتشابه، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة = والذي ذكرنا عن السدي: من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه = (2) أولى بالصواب، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن معناه: أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك. وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم، بمتشابه آي القرآن - (3) أولى بتأويل قوله:"وابتغاء تأويله"،   (1) في المطبوعة: "في قوله"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام 2: 226. وقوله بعد ذلك: "خلقنا، وقضينا"، كلام منقطع، إشارة إلى ما مضى من صدر هذا الأثر الطويل المتتابع، الذي يرويه الطبري مفرقًا عن ابن إسحاق، وذلك مذكور في الأثر رقم: 6543 فيما سلف ص: 153 س: 3، 4. إذ قال: "ويحتجون في قولهم: "إنه ثالث ثلاثة، بقول الله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا. فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا: فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم". (2) "جاء" اسم فاعل من الفعل"جاء يجيء فهو جاء". وسياق الجملة: "والقول الذي قاله ابن عباس ... والذي ذكرنا عن السدي ... أولى بالصواب". (3) قوله: "بمتشابه آي القرآن ... " من صلة قولهم: "إن طلب القوم معرفة الوقت.." جار ومجرور، متعلق بقوله: "طلب". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 لما قد دللنا عليه قبلُ من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله. ولا شكّ أن معنى قوله:"قضينا""فعلنا"، قد علم تأويله كثيرٌ من جهلة أهل الشرك، فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقتَ قيام الساعة، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته، (1) وما هو كائن، إلا الله، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون:"آمنا به، كل من عند ربنا" - لا يعلمون ذلك، ولكن فَضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل"الراسخون" معطوف على اسم"الله"، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أمْ هم مستأنَفٌ ذكرهم، (2) بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟ فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما الراسخون في العلم، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأنّ جَميع ذلك من عند الله. ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "مدة أجل محمد ... "، والصواب ما في المخطوطة، وانظر التعليق السالف ص: 196 رقم: 1. (2) في المطبوعة: "أوهم مستأنف ... "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 6626 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قوله:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله. (1) 6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقول: (وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به) (2) 6628 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية،"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا". 6629 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الأسدي قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فيقول: إنكم تَصلون هذه الآية، وإنها مقطوعة:"وما يعلم تأويله إلا الله = والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.   (1) الأثر: 6626- انظر الأثر السالف رقم: 6614، والتعليق عليه. (2) في المطبوعة"يقول الراسخون" بحذف الواو. والصواب إثباتها، لأنه سيأتي في ص: 204 س: 13 أن ابن عباس هكذا كان يقرأها. وأنا أرجح أن الصواب كان في الأصل"كان ابن عباس يقرأ""وما يعلم تأويله.."، ولكن الناسخ مضى على عجلته، فكتب مكان"يقرأ""يقول"، ثم أسقط الواو من"ويقول الراسخون ... ". فلذلك أثبت الواو، وهي الصواب المحض إن شاء الله. ومن أجل ذلك زدت بين القوسين [في العلم] ، لأن هذه قراءة في الآية، لا تفسير من ابن عباس، ولم يرو إسقاط [في العلم] من قراءة أحد من القرأة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 6630 - حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول:"والراسخون في العلم"، انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا،"آمنا به كلٌّ من عند ربنا". 6631 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله:"وما يعلم تأويله إلا اللهّ"، قال: ثم ابتدأ فقال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، وليس يعلمون تأويله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون:"آمنا به كلّ من عند ربنا". ذكر من قال ذلك: 6632 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله. 6633 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به". 6634- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به". 6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله ويقولون:"آمنا به". 6636 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يعلم تأويله" الذي أراد، ما أراد، (1) "إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا"، فكيف يختلف، وهو قولٌ واحدٌ   (1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير 2: 100، أما سيرة ابن هشام 2، 226 ففيها"أي: الذي به أرادوا ما أرادوا" وكأن الصواب ما في التفسير، وقوله: "ما أراد" استفهام. أما قوله: "الذي أراد"، أي الذي أراده الله سبحانه. وما في سيرة ابن هشام صواب أيضًا، والضمير في"أرادوا" يعني به الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهذا ما أرادوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 من ربّ واحد؟ (1) ثم ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتَّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا، فنفذَت به الحجة، وظهر به العذر، وزاحَ به الباطل، (2) ودُمغ به الكفر. (3) * * * قال أبو جعفر: فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع"الراسخين في العلم" بالابتداء في قول البصريون، ويجعل خبره:"يقولون آمنا به". وأما في قول بعض الكوفيين، فبالعائد من ذكرهم في"يقولون". وفي قول بعضهم: بجملة الخبر عنهم، وهي:"يقولون". * * * ومن قال القول الثاني، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله، عطف بـ"الراسخين" على اسم"الله"، فرفعهم بالعطف عليه. * * * قال أبو جعفر: والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو:"يقولون"، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ: (وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. (4) وفي قراءة عبد الله: (إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) . * * * قال أبو جعفر: وأما معنى"التأويل" في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى:   (1) من أول قوله: "كل من عند ربنا" إلى قوله: "من رب واحد" زيادة من نص رواية ابن هشام في السيرة 2: 226، ولا شك أن الناسخ قد أسقطها من عجلته وسهوه. (2) زاح الشيء يزيح زيحًا وزيوحًا، وانزاح هو أيضًا (كلاهما لازم) : ذهب وتباعد وزال. (3) الأثر 6636- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6625 بإسناده عن ابن إسحاق، وهو في سيرة ابن هشام 2: 226. (4) انظر التعليق السالف على الأثر: 6627، ص: 202 س: 7، تعليق: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1) وأصلهُ من:"آل الشيء إلى كذا" - إذا صار إليه ورجع"يَؤُول أوْلا" و"أوَّلته أنا" صيرته إليه. وقد قيل إنّ قوله: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) [سورة النساء: 59 \ سورة الإسراء: 35] أي جزاءً. وذلك أن"الجزاء" هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه. ويعني بقوله:"تأوّلُ حُبها": تفسير حبها ومرجعه. (2) وإنما يريد بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصّغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحَب، فصار قديمًا، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا مثل أمه. (3)   (1) ديوانه: 88، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 86 الصاحبي: 164، اللسان (صحب) (ربع) (أول) (ولى) ، ثم ما سيأتي بعد قليل من ذكر رواية أخرى، لم أجدها في غيره بعد. أما الرواية الأخرى التي جاءت في اللسان (ربع) ، (ولى) فهي: عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَوًى أَجْنَبِيَّةً ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا الربعي: الذي ولد في أول النتاج. والسقاب جمع سقب (بفتح فسكون) : وولد الناقة ساعة تضعها يقال له"سليل" قبل أن يعرف أذكر هو أم أنثى، فإذا علم أنه ذكر فهو"سقب". وأصحب: ذل وانقاد وأطاع. وهذا البيت بهذه الرواية التي ذكرتها هنا، قد فسرها الأزهري وقال: "هكذا سمعت العرب تنشده. وفسروا"توالي ربعى السقاب" أنه من الموالاة: وهو تمييز شيء من شيء. يقال: "والينا الفصلان عن أمهاتها فتوالت"، أي فصلناها عنها عند تمام الحول، وتشتد عليها الموالاة، ويكثر حنينها في إثر أمهاتها، ويتخذ لها خندق تحبس فيه وتسرح الأمهات في وجه من مراتعها. فإذا تباعدت عن أولادها سرحت الأولاد في جهة غير جهة الأمهات، فترعى وحدها، فتستمر على ذلك وتصحب بعد أيام. أخبر الأعشى أن نوى صاحبته اشتدت عليه، فحن إليها حنين ربعى السقاب إذا وولى (فصل) عن أمه. وأخبر أن هذا الفصيل يستمر على الموالاة، وأنه يصحب إصحاب السقب. قال الأزهري: وإنما فسرت هذا البيت، لأن الرواة لما أشكل عليهم معناه، تخبطوا في استخراجه وخلطوا، ولم يعرفوا منه ما يعرفه من شاهد القوم في باديتهم". أما الرواية الأولى، فقد شرحها أبو جعفر فيما يلي، وأما روايته الثانية، وهي قوله: "توابع حبها"، فإني لم أدر ما معناها، وأخشى أن يكون صوابها: "نزائع حبها". والنزائع جمع نزيعة، يقال: ناقة نازع من نوق نوازع. وناقة نزيعة: وهي التي تحن إلى وطنها. نزع البعير إلى وطنه: حن واشتاق. (2) في المخطوطة: "وتفسير حبها ... " بزيادة الواو، وهو خطأ. وهذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 87، على خطأ فيه، إذ ظن الناشر أن قوله: "تفسيره"، بمعنى الشرح والبيان لهذه الكلمة فوضع بعد نقطتان هكذا: "تفسيره: ومرجعه" وعندئذ فلا معنى للواو في"ومرجعه"، والصواب ما أثبتناه. (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 وقد يُنشد هذا البيت: عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابعُ حُبِّهَا ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} قال أبو جعفر: يعني ب"الراسخين في العلم"، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس. * * * وأصل ذلك من:"رسوخ الشيء في الشيء"، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه:"رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا". (2) * * * وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:- 6637 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الراسخ في العلم؟ قال:"من بَرَّت يمينهُ، وصَدقَ لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه، فذلك الراسخُ في العلم. (3) * * *   (1) انظر ص 204، تعليق: 4 (2) قوله: "رسخًا"، هذا مصدر لم تذكره كتب اللغة. (3) الحديث: 6637- فياض بن محمد الرقى: ترجمه البخاري 4 / 1 / 135، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 87، فلم يذكرا فيه جرحًا. عبد الله بن يزيد بن آدم: ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 197، قال: "روى عن أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: كيف تبعث الأنبياء؟ روى عنه فياض بن محمد الرقى ... سألت أبي عنه؟ فقال: لا أعرفه. وهذا حديث باطل". وترجمه الذهبي في الميزان، والحافظ في اللسان. وذكرا عن أحمد، قال: "أحاديثه موضوعة". وليس في ترجمته كلمة طيبة عنه. وكفى أن يرميه أحمد بالوضع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 6638 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا فياض الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي = قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الراسخين في العلم فقال: من برَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم. (1) * * * وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم"الراسخين   (1) الحديث: 6638- هو الحديث الماضي بزيادة قليلة، وزيادة"أنس بن مالك". ولكن في هذا الإسناد"عبد الله بن يزيد الأودي". والراجح أن هذا خطأ من أحد الرواة، أو من الناسخين، وأن صوابه كالإسناد السابق"عبد الله بن يزيد بن آدم". وأما "عبد الله بن يزيد الأودي"، فهو غير هذا يقينًا. وقد مضى في: 5461. وترجمته عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 200: أنه"روى عن سالم بن عبد الله، عن حفصة، في الصلاة الوسطى، روى عنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشية". والمباينة بينهما في الطبقة واضحة. ثم الأودي ثقة، والراوي هنا كذاب. والحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن محمد بن عوف الحمصي، عن نعيم بن حماد، عن فياض الرقى"حدثنا عبد الله بن يزيد"، بهذا الإسناد. ولم يذكر أنه"الأودي". ووقع في ابن كثير"عبيد الله"، بدل"عبد الله"، وهو خطأ. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 324"عن عبد الله بن يزيد بن آدم، قال: حدثني أبو الدرداء، وأبو أمامة، وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك ... ". وقال: "رواه الطبراني، وعبد الله بن يزيد: ضعيف". فزاد في رواية الطبراني صحابيًا رابعًا، هو واثلة بن الأسقع. وذكره السيوطي 2: 7، عن هؤلاء الصحابة الأربعة، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني. وهو تساهل منه، فليس في رواية الطبري ولا ابن أبي حاتم"واثلة بن الأسقع"، بل هو في رواية الطبراني فقط. ثم ذكر السيوطي نحو معناه من رواية ابن عساكر: "من طريق عبد الله بن يزيد الأودي، سمعت أنس بن مالك يقول ... ". فهذا يرجح أن زيادة"الأودي" - خطأ من أحد الرواة، لا من الناسخين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 في العلم"، بقولهم:"آمنا به كل من عند ربنا". ذكر من قال ذلك: 6639 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به، (1) قال:"الراسخون" الذين يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا". 6640 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والراسخون في العلم"، هم المؤمنون، فإنهم يقولون:"آمنَّا به"، بناسخه ومنسوخه ="كلٌّ من عند ربنا". 6641 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قال، عبد الله بن سلام:"الراسخون في العلم) وعلمهم قولهم = قال ابن جريج:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، وهم الذين يقولون = (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) ويقولون: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الآية. * * * وأما تأويل قوله:"يقولون آمنا به"، فإنه يعني أنّ الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله، وقد:- 6642 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قال: المحكم والمتشابه. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "الراسخون في العلم ... "، بغير واو، وأثبت نص الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 القول في تأويل قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كل من عند ربنا"، كلّ المحكم من الكتاب والمتشابه منه ="من عند ربنا"، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما:- 6643 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"كل من عند ربنا"، قال: يعني مَا نُسخ منه وما لم يُنسخ. 6644 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، قالوا:"كلّ من عند ربنا"، آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه. 6645 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"كل من عند ربنا"، يقولون: المحكم والمتشابه من عند ربنا. 6646 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله. (1) 6647 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"والراسخون في العلم" يعملون به، يقولون: نعمل بالمحكم ونؤمن به، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا. * * *   (1) في المطبوعة: "يؤمن ... ويدين" جميعًا بالياء، والسياق يقتضي أن تكون بالنون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في حكم"كلّ" إذا أضمر فيها. فقال بعض نحويي البصريين: إنما جاز حذفُ المراد الذي كان معها الذي"الكل" إليه مضاف في هذا الموضع، (1) لأنها اسمٌ، كما قال: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) [سورة غافر: 48] ، بمعنى: إنا كلنا فيها. قال: ولا يكون"كل" مضمرًا فيها وهي صفة، لا يقال:"مررت بالقوم كل" وإنما يكون فيها مضمرٌ إذا جعلتها اسمًا. لو كان:"إنا كُلا فيها" على الصفة لم يجز، لأن الإضمار فيها ضعيفٌ لا يتمكن في كلّ مكان. * * * وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفةٌ أو اسم، سواءً. لأنه غير جائز أن يُحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال، ولا تكون كافية في أخرى. وقال: سبيل"الكل" و"البعض" في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال، صفةً كانت أو اسمًا. (2) * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى بالقياس، لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حالٍ لدلالتها عليها، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه. * * *   (1) في المطبوعة: "إذا جاز حذف المراد"، وعلق الطابعون السابقون أنها زائدة من قلم الناسخ!! وسبب ذلك سوء كتابة الناسخ، فلم يحسنوا قراءته. (2) انظر ما سلف عن"كل" 3: 195 / ثم 5: 509. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 القول في تأويل قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتّعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به، إلا أولو العقول والنهى، (1) وقد:- 6648 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يذكر إلا أولوا الألباب"، يقول: وما يذكر في مثل هذا = يعني: في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم، حتى يَتّسقا على معنى واحد ="إلا أولو الألباب". (2) * * * القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، يعني أنهم يقولون = رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله =: يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك ="لا تزغ قلوبنا"،   (1) انظر ما سلف في تفسير"يذكر" 5: 580 / 6: 5 = وفي تفسير"الألباب": 3: 68 / ثم 4: 162 / ثم 5: 80. (2) الأثر: 6648- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6636 بإسناده عن ابن إسحاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه ="وهب لنا" يا ربنا ="من لدنك رحمة"، يعني: من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه ="إنك أنتَ الوهاب"، يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك، كما:- 6649 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، أي: لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا (1) ="وهب لنا من لدنك رحمة". (2) * * * قال أبو جعفر: وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به = من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون = ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية: (3) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان الذين قالوا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا"، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم = بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم (4) = أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله: (وَمَا رَبُّكَ   (1) في المطبوعة: "بأجسادنا"، وهو لا معنى له، وهو تحريف للرواية عن ابن إسحاق. وصوابها من المخطوطة وابن هشام 2: 226. والأحداث جمع حدث: وهو الفعل. يسألون الله أن يثبت قلوبهم بالإيمان، وإن مالت أفعالهم إلى بعض المعصية. (2) الأثر: 6649- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6648. (3) القدرية: هم نفاة القدر والصفات، ويعني المعتزلة. (4) في المطبوعة: "مسألتهم" بحذف الباء، والصواب من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت: 46] . ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك، الدليلُ الواضح على أن عدلا من الله عز وجل: إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها، ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك، مع محله منه وكرامته عليه. 6650 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ:"ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا"، إلى آخر الآية. (1) 6651 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (2)   (1) الحديث: 6650- هذا إسناد صحيح. عبد الحميد بن بهرام: ثقة، مضت ترجمته في: 1605. وشهر بن حوشب: ثقة أيضًا، كما قلنا في: 1489. وهذا الحديث مختصر. وسيأتي مطولا في: 6652، ونخرجه هناك، إن شاء الله. ويأتي بأطول من هذا ومختصرًا عن ذاك، في: 6658. (2) الحديث: 6651 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه هنا من رواية شهر عن أسماء، وهي بنت يزيد بن السكن الأنصارية. والذي قبله من رواية شهر عن أم سلمة أم المؤمنين. ولم أجده من حديث أسماء إلا في هذه الرواية عند الطبري، وإلا رواية ذكرها ابن كثير، عن ابن مردويه. قال ابن كثير 2: 102 بعد ذكر رواية أم سلمة الماضية: "ورواه ابن مردويه، من طريق محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه ... " - فذكر نحو الرواية التالية لهذا الحديث. ثم قال ابن كثير: "وهكذا رواه ابن جرير، من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله". ثم قال: "ورواه أيضًا عن المثنى، عن الحجاج بن منهال، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله". ومن البين الواضح أن قوله في رواية ابن مردويه"عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن" - خطأ لا شك فيه. والظاهر أنه خطأ من الناسخين، في زيادة حرف"عن". وأن صوابه"عن أم سلمة أسماء ... ". و"أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية": صحابية معروفة، وهي بنت عم معاذ بن جبل، وكنيتها"أم سلمة". وشهر بن حوشب معروف بالرواية عنها، بل قال ابن السكن: "هو أروى الناس عنها". وكان من مواليها. ولم نسمع قط أن"أم سلمة أم المؤمين" روت عن أسماء هذه، ولا روت عن غيرها من الصحابة. وأما إشارة ابن كثير إلى روايتي الطبري من حديث"أسد بن موسى" و"الحجاج بن منهال" - عن عبد الحميد بن بهرام - وهما الروايتان الآتيتان: 6652، 6658 -: فهي مشكلة، إذ توهم أنها مثل رواية ابن مردويه: "عن أم سلمة أسماء بنت يزيد". ولعل ابن كثير ذهب إلى هذا، ظنًا منه أن هذه الروايات التي في الطبري: 6650، 6652، 6658، التي فيها"عن أم سلمة" مراد بها"أم سلمة أسماء بنت يزيد". فإن يكن هذا ظنه يكن أخطأ الظن. فإن"أم سلمة" في هذه الروايات الثلاث - هي أم المؤمنين يقينًا، كما سيأتي في تخريج الحديث التالي لهذا: 6652. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 6652 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدّث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت: قلتُ: يا رسول الله، وإن القلب ليقلَّب؟ قال: نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب. قالت: قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيظَ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن. (1)   (1) الحديث: 6652- هذه هي الرواية المطولة، التي أشرنا إليها في: 6650، وسيأتي مختصرًا قليلا: 6658، كما قلنا من قبل. والحديث رواه أحمد مختصرًا - في مسند أم سلمة أم المؤمنين - 6: 294 (حلبي) ، عن وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا مقلب القوب، ثبت قلبي على دينك". وهذا نحو الرواية الماضية: 6650، إلا أن أبا كريب زاد فيه قراءة الآية. ورواه أحمد أيضًا - في مسندها - 6: 301-302، عن هاشم -وهو ابن القاسم أبو النضر- عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد، نحوه. إلا أنه قال في آخره: "وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا". ثم رواه مختصرًا، بدون ذكر الآية، ولا قوله"فنسأل الله ربنا" -إلخ، 6: 315 (حلبي) ، عن معاذ بن معاذ، قال: "حدثنا أبو كعب صاحب الحرير، قال: حدثني شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟..". ثم قال عبد الله بن أحمد - عقبه -: سألت أبي عن أبي كعب؟ فقال: ثقة، واسمه عبد ربه بن عبيد". وكذلك رواه الترمذي 4: 266، عن أبي موسى الأنصاري، عن معاذ بن معاذ، به. وقال: "هذا حديث حسن". وأبو كعب صاحب الحرير، عبد ربه بن عبيد الأزدي الجرموزي: وثقه أيضًا يحيى بن سعيد، وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 41-42. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثلاث مرات، 6: 325، 7: 210، 10: 176، عن رواية المسند، وأشار إلى أن الترمذي روى بعضه، وأعله في موضعين بشهر بن حوشب، "وهو ضعيف وقد وثق". وقال في الأخير: "إسناده حسن". وذكره السيوطي 2: 8، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، دون فصل بين الروايات. ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 55، من رواية ابن وهب، عن إبراهيم بن نشيط الوعلاني، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، بنحوه. وهذا إسناده صحيح أيضًا. ورواه أبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: 316، من وجهين آخرين، عن أم سلمة. ووقع في المطبوعة: "ما خلق الله من بشر، من بني آدم"، بالتقديم والتأخير. وأثبتنا ما في المخطوطة، وهو الموافق لسائر الروايات التي فيها هذه الكلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 6653 - حدثني محمد بن منصور الطوسي قال، حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. فقال له بعض أهله: يُخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به؟! قال: إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى، يقول بهما هكذا = وحرّك أبو أحمد إصبعيه = قال أبو جعفر: وإن الطوسي وَسَق بين إصبعيه. (1)   (1) الحديث: 6653- محمد بن منصور بن داود، الطوسي العابد، شيخ الطبري: ثقة، أثنى عليه أحمد، ووثقه النسائي وغيره. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 288-289، من طريق الأعمش، بهذا الإسناد. وصححه على شرط مسلم. ولكن أول إسناده، من الحاكم إلى الأعمش - غير مذكور، لأن في أصول المستدرك خرمًا في هذا الموضع. وأثبت مكانه من تلخيص الذهبي. وذكره السيوطي 2: 9: وزاد نسبته للطبراني في السنة. وأشار إليه الترمذي 3: 199، كما سنذكر في الحديث بعده. وقوله: "يقول بهما" هو الصواب الثابت في المخطوطة. وفي المطبوعة"يقول به". قوله: "وسق بين إصبعيه"، وسق الشيء: جمعه. يريد: ضم إصبعيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 6654 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلنا: يا رسول الله، قد آمنا بك، وصدّقنا بما جئت به، فيُخاف علينا؟! قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها تبارك وتعالى. (1)   (1) الحديث: 6654- رواه أحمد في المسند: 12133، (ج 3 ص: 112 حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد. ثم رواه: 13731 (ج 3 ص: 257 حلبي) ، عن عفان، عن عبد الواحد، عن سليمان بن مهران - وهو الأعمش- به. ورواه الترمذي 3: 199، عن هناد، عن أبي معاوية، به. ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح وهكذا روى غير واحد عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس. وروى بعضهم عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي سفيان عن أنس-أصح". يريد الترمذي تعليل الحديث الذي قبل هذا. وهي علة غير قائمة. وأبو سفيان طلحة بن نافع: تابعي ثقة، سمع من جابر ومن أنس، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وكثيرًا ما يسمع التابعي الحديث الواحد من صحابيين. ورواه الحاكم 1: 526، مختصرًا، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، وصححه هو والذهبي. ورواه ابن ماجه - مطولا - من وجه آخر، فرواه: 3834، من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. وقال البوصيري في زوائده: "مدار الحديث على يزيد الرقاشي، وهو ضعيف". وقد وهم الحافظ الدمياطي - كما ترى- في زعمه أي مداره على يزيد الرقاشي؛ وها هو ذا من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، كمثل رواية الرقاشي. فلم ينفرد به. وقد جمع البخاري الوجهين في الأدب المفرد، ص: 100. فرواه مختصرًا، من طريق أبي الأحوص: "عن الأعمش، عن أبي سفيان ويزيد، عن أنس". وذكره السيوطي 2: 8، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 6655 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا بشر بن بكر = وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا أيوب بن بشر = جميعًا، عن ابن جابر قال: سمعت بُسْر بن عبيد الله قال، سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت النوَّاس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن: إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قُلوبنا على دينك - والميزان بيَد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفضُ آخرين إلى يوم القيامة. (1)   (1) الحديث: 6655- بشر بن بكر التنيسي: ثقة مأمون. روى عنه الشافعي، والحميدي، وغيرهما. وأخرج له البخاري. أيوب بن بشر: لم أجد راويًا بهذا الاسم، ولا ما يقاربه في الرسم، إلا رواة باسم"أيوب بن بشير" ليسوا من هذه الطبقة، ولا يكونون في هذا الإسناد. ومن الرواة عن ابن جابر: "أيوب بن سويد الرملي". ومن القريب جدًا أن يروي عنه بلديه"علي بن سهل الرملي". ولكن تصحيف"سويد" إلى"بشر" صعب. ابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، الأزدي الشامي الداراني. وهو ثقة، أخرج له الجماعة. وقال ابن المديني: "يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشأم بعد الصحابة". بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي: تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. وقال أبو مسهر: "هو أحفظ أصحاب أبي إدريس" يعني الخولاني. و"بسر": بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة. وأبوه"عبيد الله": بالتصغير. ووقع في المطبوعة هنا"بشر". وهو تصحيف. وكذلك وقع في بعض مراجع الحديث التي سنذكر، ووقع في بعضها اسم أبيه"عبد الله". وهو خطأ أيضًا. فيصحح هذا وذاك حيث وقع. أبو إدريس الخولاني: عائذ الله بن عبد الله. مضت ترجمته في: 4840. النواس: بفتح النون وتشديد الواو، وهو صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: 17707 (ج 4 ص: 182 حلبي) ، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، بهذا الإسناد. ورواه ابن ماجه: 199، من طريق صدقة بن خالد، عن ابن جابر، به. وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح". ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 54، وأبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: 317-318، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جابر. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 289، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: 248- عن الحاكم، من طريق محمد بن شعيب بن شابور، عن ابن جابر. وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين. وهذا الموضع في المستدرك، مخروم في أصله المطبوع عنه، فأثبته الناشر عن مختصر الذهبي. ولكن يستفاد إسناد هذا الطريق من رواية البيهقي عن الحاكم. ورواه الحاكم أيضًا 4: 321، عن أبي العباس الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم - شيخ الطبري في الإسناد الأول هنا، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا 1: 525. عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن بشر بن بكر، عن ابن جابر، به. وقال الحاكم في الموضعين: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"! ومن عجب أن يوافقه الذهبي على تصحيحه على شرط الشيخين من رواية ابن شابور. وابن شابور، وإن كان ثقة، فإنه لم يخرج له شيء في الصحيحين؛ ثم يوافقه على تصحيحه على شرط مسلم من رواية بشر بن بكر. وبشر بن بكر خرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم شيئًا!! والحديث ذكره السيوطي 2: 9، وزاد نسبته للنسائي. فهو يريد السنن الكبرى، لأنه لم يروه في السنن الصغرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 6656 - حدثني عمر بن عبد الملك الطائي قال، حدثنا محمد بن عبيدة قال، حدثنا الجرّاح بن مليح البهراني، عن الزبيدي، عن جويبر، عن سمرة بن فاتك الأسْدي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الموازين بيد الله، يرفع أقوامًا ويضع أقوامًا، وقلبُ ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه. (1)   (1) الحديث: 6656- عمر بن عبد الملك بن حكيم الطائي الحمصي - شيخ الطبري: لم أجد له إلا ترجمة موجزة في التهذيب، فيها: "روى عنه النسائي وقال: صالح". محمد بن عبيدة: لا أدري من هو؟ ولا وجدت له ترجمة، إلا أن التهذيب ذكره شيخًا لعمر بن عبد الملك الطائي، وذكره باسم: "محمد بن عبيدة، المددي، اليماني". ولم أجد معنى لنسبة"المددي" هذه، بدالين. ومن المحتمل أن تكون محرفة عن"المدري" بالراء، نسبة إلى"مدر" بفتح الميم والدال وآخرها راء، وهي قرية باليمن، على عشرين ميلا من صنعاء، كما في معجم البلدان 7: 416. الجراح بن مليح البهراني - بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء - الحمصي: ثقة، وهو مشهور في أهل الشام. وهو غير"الجراح بن مليح بن عدي" والد"وكيع بن الجراح". الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، أبو الهذيل الحمصي، قاضيها. وهو ثقة ثبت، قال ابن سعد 7 / 2 / 169: "كان أعلم أهل الشأم بالفتوى والحديث". وكان الأوزاعي"يفضل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزهري". جويبر: هكذا وقع في الطبري. والراجح الظاهر أنه تحريف من الناسخين، ولا شأن لجويبر - وهو ابن سعيد الأزدي - في هذا الحديث. وجويبر: ضعيف جدًا، كما بينا في: 284. وإنما الحديث معروف عن"جبير بن نفير"، كما سيأتي. سمرة بن فاتك الأسدي: هكذا ثبت في الطبري"سمرة" بالميم، فتكون مضمومة مع فتح السين المهملة. وهو قول في اسمه. والصحيح الراجح أن اسمه"سبرة"، بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة. وهناك صحابي آخر، اسمه: "سمرة بن فاتك الأسدي". غير هذا. وكذلك فرق البخاري بينهما في التاريخ الكبير: 2 / 2 / 188، في"سبرة" و: 178 في"سمرة". وذكر هذا الحديث في"سبرة" وكذلك فرق بينهما ابن أبي حاتم 1 / 2 / 295، "سبرة" و: 155، "سمرة". وقد قيل أيضًا في الصحابي الآخر، الذي اسمه"سمرة" -"سبرة". وهو اضطراب من الرواة أو تصحيف. والراجح الذي صححه الحافظ في الإصابة 3: 63-64، 131-132: أنهما اثنان، كما قلنا، وأن راوي هذا الحديث هو"سبرة". ولم أستجز تغيير ما في نص الطبري إلى الصحيح الراجح: "سبرة" - لوجود القول الآخر. فلعله وقع له في روايته هكذا. و"سبرة": بسكون الباء الموحدة، كما قلنا. ووقع في ضبطه في ترجمته في الإصابة خطأ شديد، إذ قال الحافظ: "بفتح أوله وكسر ثانيه"؛ ولم يقل أحد ذلك في ضبط اسم"سبرة" مطلقًا، بل هو نفسه ضبط اسم"سبرة"، في غير هذه الترجمة"بسكون الموحدة". وضبط اسم هذا الصحابي بالسكون أيضًا، في المشتبه للذهبي، ص: 255. ولم يذكر اسم آخر بهذا الرسم بكسر الموحدة. وكذلك صنع الحافظ في تبصير المنتبه. فما وقع في الإصابة إنما هو سهو منه - رحمه الله - وسبق قلم. و"الأسدي" - في هذه الترجمة: "بفتح الهمزة وسكون السين". وهو: الأزدي. هكذا يقال بالسين والزاي. صرح بذلك أبو القاسم في طبقات حمص". قاله الحافظ في الإصابة. وهذا الحديث رواه البخاري في الكبير، في ترجمة"سبرة بن فاتك". قال: "حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عمن حدثه، عن جبير بن نفير، عن سبرة بن فاتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الموازين بيد الله، يرفع قومًا ويضع قومًا، وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل، فإذا شاء أقامه، وإذا شاء أزاغه". فهكذا ثبت براو مبهم بين الزبيدي وجبير بن نفير- عنه البخاري. وقال الحافظ في الإصابة: "وقد وقع لي في غرائب شعبة، لابن مندة، من طريق جبير بن نفير. عن سبرة بن فاتك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويضع آخرين - الحديث. وأخرجه من طريق أخرى، فقال: سمرة". فلم نعرف رواية ابن مندة: أفيها الرجل المبهم عن جبير بن نفير، أم عرف باسمه فيها؟ وأنا أظن أن لو كان فيها اسمه مبهمًا لبين الحافظ ذلك. ومن المحتمل أن يكون هذا المبهم - هو"عبد الرحمن بن جبير بن نفير" فإنه يروي عن أبيه، ويروي عنه الزبيدي. ومما يرجح -عندي- أن هذا المبهم مذكور باسمه في بعض الروايات: أن الهيثمي ذكر هذا الحديث في مجمع الزوائد 7: 211"عن سمرة بن فاتك الأسدي"، ثم قال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وذكره السيوطي 2: 8، ونسبه للبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطبراني. ولم يزد. في المطبوعة: "إن شاء ... وإن شاء". وأثبت ما في المخطوطة. وهو الموافق لرواية الكبير للبخاري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 6657- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 حيوة بن شريح قال، أخبرني أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحد، يصرّف كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ مصرِّف القلوب صرِّف قُلوبَنا إلى طاعتك. (1) 6658 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلوب لتقلَّب؟ قال: نعم، ما من خلق الله من بني آدم بشرٌ إلا إنّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله، إن شاءَ أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنه هو الوهاب. (2) * * *   (1) الحديث: 6657 - أبو هانئ الخولاني- بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو: هو حميد بن هانئ المصري. وهو ثقة معروف. أبو عبد الرحمن الحبلي - بضم الحاء المهملة والباء الموحدة: هو عبد الله بن يزيد المعافري- بفتح الميم والعين المهملة - المصري. وهو تابعي ثقة. وهو أحد العشرة من التابعين الذين ابتعثهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. انظر كتاب رياض النفوس لأبي بكر المالكي، ج 1 ص: 64-65، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب، ص: 21. والحديث رواه أحمد في المسند: 6569، عن أبي عبد الرحمن، وهو المقرئ، عن حيوة بن شريح، بهذا الإسناد. ورواه مسلم 2: 301، عن زهير بن حرب وابن نمير - كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرئ. ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، ص: 316، بإسنادين، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: 248 - كلاهما من طريق المقرئ. وذكره السيوطي 2: 9، وزاد نسبته للنسائي. (2) الحديث: 6658- هو مختصر من الحديث: 6652. وقد وفينا تخريجه، وأشرنا إلى هذا هناك. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "من بني آدم بشر". ولعل الأجود أن يكون"من بشر"، كالروايات الأخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه أنهم يقولون أيضًا = مع قولهم: آمنا بما تشابه من آي كتاب ربّنا، كلّ المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا =: يا ربنا،"إنك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد". وهذا من الكلام الذي استُغنى بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا، فإنك لا تخلف وَعْدك: أنّ من آمن بك، واتَّبع رَسُولك، وعمل بالذي أمرتَه به في كتابك، أنك غافره يومئذ. وإنما هذا من القوم مسألة ربَّهم أن يثبِّتهم على ما هم عليه من حُسن بَصيرتهم، (1) بالإيمان بالله ورسوله، وما جاءهم به من تنزيله، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم، وجبتْ لهم الجنة، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يُدخله الجنة. فالآية، وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر، فإن تأويلَها من القوم: مسألةٌ ودعاءٌ ورغبة إلى ربهم. * * * وأما معنى قوله:"ليوم لا ريب فيه"، فإنه: لا شك فيه. وقد بينا ذلك بالأدلة على صحته فيما مضى قبل. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "من حسن نصرتهم"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة: "نصرتهم". غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. (2) انظر ما سلف 1: 228، 378 / ثم 6: 78. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 ومعنى قوله:"ليوم"، في يوم. وذلك يومٌ يجمع الله فيه خلقَه لفصل القضاء بينهم في موقف العَرضْ والحساب. * * * "والميعاد""المفعال"، من"الوعد". * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم، الذين في قلوبهم زَيغٌ فهم يتَّبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ="لنْ تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني بذلك أنّ أموالهم وأولادهم لن تُنجيهم من عقوبة الله إن أحلَّها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبيُّنهم، (1) واتباعهم المتشابه طلبَ اللبس - فتدفعها عنهم، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئًا، وهم في الآخرة ="وقودُ النار"، يعني بذلك: حَطبُها. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "بعد تثبيتهم"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة "تثبيتهم" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. (2) انظر تفسير"الوقود" فيما سلف 1: 380. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا عند حلول عقوبتنا بهم، كسُنَّة آل فرعون وعادتهم = (1) ="والذين من قبلهم" من الأمم الذين كذبوا بآياتنا، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا حين جاءهم بأسنا، (2) كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربَّهم من قبل آل فرعون: من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كدأب آل فرعون". فقال بعضهم: معناه: كسُنَّتهم. ذكر من قال ذلك: 6659 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كدأب آل فرعون"، يقول: كسنتهم. * * * وقال بعضهم: معناه: كعملهم. ذكر من قال ذلك: 6660 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان =   (1) في المخطوطة: "ودعاتهم" غير منقوطة، والصواب ما في المطبوعة، وإنما هو سبق قلم من الناسخ، وهذا اللفظ هو نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 87. (2) في المطبوعة: "فلن تغني عنهم ... "، وهو مخالف للسياق. وفي المخطوطة: "فلن تغن عنهم ... " وهو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان = جميعًا، عن جويبر، عن الضحاك:"كدأب آل فرعون"، قال: كعمل آل فرعون. 6661 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كعمل آل فرعون. 6662 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعلهم، كتكذيبهم حين كذّبوا الرسل = وقرأ قول الله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) [سورة غافر: 31] ، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله. قال: الدأبُ العمل. 6663 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعل آل فرعون، كشأن آل فرعون. 6664 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كصنع آل فرعون. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون. ذكر من قال ذلك: 6665 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم"، ذكر الذين كفروا وأفعالَ تكذيبهم، كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب. * * * قال أبو جعفر: وأصل"الدأب" من:"دأبت في الأمر دأْبًا"، إذا أدمنت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 العمل والتعب فيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلى: الشأن، والأمر، والعادة، كما قال امرؤ القيس بن حجر: وَإنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَة ... فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ (1) كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِث قَبْلَهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ يعني بقوله:"كدأبك"، كشأنك وأمرك وفعلك. يقال منه:"هذا دَأبي ودأبك أبدًا". يعني به. فعلي وفعلك، وأمري وأمرك، وشأني وشأنك، يقال منه:"دَأبْتُ دُؤُوبًا ودأْبًا". وحكى عن العرب سماعًا:"دأبْتُ دأَبًا"، مثقله محركة الهمزة، كما قيل:"هذا شعَرٌ، ونَهَر"، (2) فتحرك ثانيه لأنه حرفٌ من الحروف الستة، (3) فألحق"الدأب" إذ كان ثانية من الحروف الستة، كما قال الشاعر: (4) لَهُ نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْبَ رِيحُهَا ... وَإنْ وُضِعَتْ بَيْنَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ (5) * * * وأما قوله:"واللهُ شديدُ العقاب"، فإنه يعنى به: والله شديد عقابه لمن كفر به وكذّب رسله بعد قيام الحجة عليه. * * *   (1) ديوانه: 125 من معلقته المشهورة، ثم يأتي في التفسير 12: 136 (بولاق) البيت الثاني. وهو شعر مشهور خبره، فاطلبه في موضعه. (2) في المطبوعة: "بهر" بالباء، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بالنون. (3) "الحروف الستة"، يعني حروف الحلق. (4) هو كثير عزة. (5) ديوانه 2: 112، الحيوان 1: 266، والبيان 3: 109، 112 واللسان (نعل) . ورواية اللسان"وسط المجالس"، أما رواية الديوان فبخلاف هذا ولا شاهد فيها، كما سترى. والشعر مما قاله كثير حين بلغه وفاة عبد العزيز بن مروان بمصر، فرثاه، فكان مما قال فيه: يَؤُوبُ أُولُو الحَاجَاتِ مِنْهُ إذَا بَدَا ... إلَى طَيِّبِ الأَثْوَابِ غَيْرِ مُؤَمَّتِ كَأَنَّ اُبْنَ لَيْلَى حِينَ يَبْدُو فَتَنْجَلِي ... سُجُوفُ الخِبَاءِ عَنْ مَهِيبٍ مُشَمَّتِ مُقَارِبُ خَطْوٍ لا يُغَيِّر نَعْلَهُ ... رَهِيفَ الشِّرَاكِ، سَهْلَةَ المُتَسَمَّتِ إِذَا طُرِحتْ لَمْ تَطَّبِ الكَلْبَ رِيحُهَا ... وَإِنْ وُضِعتْ في مَجْلِس القَوْم شُمَّتِ يقول: لا يلبس من النعال إلا المدبوغ الجلد، فذهبت رائحة الجلد منها، لأن النعل إذا كانت من جلد غير مدبوغ، وظفر بها كلب أقبل عليها بريحها فأكلها. يصفه بأنه من أهل النعمة واليسار والترف. ثم زادها صفة أخرى بأن جعلها قد كسبت من طيب رائحته طيبًا، حتى لو وضعت في مجلس قوم، تلفتوا يتشممون شذاها من طيبها. وقوله: "يطبى" من: "اطباه" أي: دعاه إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 القول في تأويل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في ذلك. فقرأه بعضهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) بالتاء، على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) . قالوا: ففي ذلك دليل على أن قوله:"ستغلبون"، كذلك، خطابٌ لهم. وذلك هو قراءة عامة قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية: أنّ الموعودين بأن يُغلبوا، هم الذين أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم = أن يقرَأه بالياء والتاء. لأن الخطابَ بالوحي حين نزل، لغيرهم. فيكون نظير قول القائل في الكلام:"قلت للقوم: إنكم مغلوبون"، و"قلت لهم: إنهم مغلوبون". وقد ذكر أن في قراءة عبد الله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَكُمْ) [سورة الأنفال: 38] ، وهي في قراءتنا: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) . * * * وقرأت ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) ، على معنى: قل لليهود: سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم. ومن قرأ ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 كذلك على هذا التأويل، لم يجز في قراءته غير الياء. (1) * * * قال أبو جعفر: والذي نختار من القراءة في ذلك، قراءةُ من قرأه بالتاء، بمعنى: قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إليك ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله:"ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد". وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك، على قراءته بالياء، لدلالة قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) ، على أنهم بقوله:"ستغلبون"، مخاطبون خطابهم بقوله:"قد كان لكم"، فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب، أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب. = وأخرى أنّ:- 6666 - أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدْر فقدم المدينة، جمع يهودَ في سوق بني قَينُقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا! فقالوا: يا محمد، لا تغرّنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، (2) إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا!! (3) فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:"قلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد" إلى قوله:"لأولي الأبصار".   (1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 191-192. (2) في سيرة ابن هشام: "لا يغرنك من نفسك". والأغمار جمع غمر (بضم فسكون) : وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور، ولم تحنكه التجارب. (3) في ابن هشام: "لم تلق مثلنا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 6667 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمر بن قتادة، قال: لما أصاب الله قريشًا يوم بدر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة = ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن يونس. (1) 6668 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قَينُقاع، ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النِّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مُرْسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم! فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنا كقومك! (2) لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبتَ فيهم فرصة! إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس. (3) 6669 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم:"قُلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرونَ إلى جهنم وبئس المهاد" إلى"لأولي الأبصار". (4) 6670 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"، قال فِنْحاص اليهودي في يوم بدر: لا يغرَّنَّ محمدًا أنْ غلب قريشًا وقتلهم! إنّ قريشًا لا تُحسنُ القتال! فنزلت هذه الآية:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد". * * *   (1) الأثر: 6666، 6667- في سيرة ابن هشام 2: 201. (2) في ابن هشام: "أنا قومك" بحذف الكاف، وهي جيدة جدًا، ولكن ما في التفسير موافق لما في التاريخ. (3) الأثر: 6668- سيرة ابن هشام 3: 50 / تاريخ الطبري 2: 297. (4) الأثر: 6669 - سيرة ابن هشام 3: 51. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبار تنبئ عن أن المخاطبين بقوله:"ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"، هم اليهود المقولُ لهم:"قد كان لكم آية في فئتين"، الآية - وتدل على أن قراءَة ذلك بالتاء، أولى من قراءته بالياء. * * * ومعنى قوله:"وتحشرون"، وتجمعون، فتجلبون إلى جهنم. (1) * * * وأما قوله:"وبئس المهاد"، وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها. (2) وكان مجاهد يقول كالذي:- 6671 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وبئس المهاد"، قال: بئسما مَهدُوا لأنفسهم. 6672 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * القول في تأويل قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قُلْ، يا محمد، للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهرانَيْ بلدك:"قد كان لكم آية"، يعني: علامةٌ ودلالةٌ على صدق ما أقول: إنكم ستغلبون، وعبرة، (3) كما:- 6673 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:   (1) لم يفسر أبو جعفر"تحشرون" فيما سلف 4: 228، وذلك دليل على ما روى من اختصاره هذا التفسير اختصارًا. (2) انظر ما سلف 4: 246. (3) انظر تفسير"الآية" في (أيى) من فهارس اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 "قد كان لكم آية"، عبرةٌ وتفكر. 6674 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله = إلا أنه قال: ومُتَفَكَّر. * * * ="في فئتين"، يعني: في فرقتين وحزبين = و"الفئة" الجماعة من الناس. (1) ="التقتا" للحرب، وإحدى الفئتين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش. ="فئة تُقاتل في سبيل الله"، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، (2) وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ="وأخرى كافرة"، وهم مشركو قريش، كما:- 6675 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ="وأخرى كافرة"، فئة قريش الكفار. (3) 6676 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله. (4) 6677 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن   (1) انظر ما سلف في تفسير"فئة" 5: 352، 353. (2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 2: 497 / ثم 3: 563، 583 / ثم 4: 318 / ثم 5: 280. (3) الأثران: 6675، 6676 - سيرة ابن هشام 3: 51 باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه. (4) الأثران: 6675، 6676 - سيرة ابن هشام 3: 51 باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 جريج، عن عكرمة:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ="وأخرى كافرة"، قريش يوم بدر. 6678 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين"، قال: في محمد وأصحابه، ومشركي قريش يوم بدر. 6679 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، قال: ذلك يوم بدر، التقى المسلمون والكفار. * * * قال أبو جعفر: ورفعت:"فئةٌ تقاتل في سبيل الله"، وقد قيل قبل ذلك:"في فئتين"، بمعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله - على الابتداء، كما قال الشاعر: (1) فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ ... وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ (2)   (1) هو كثير عزة. (2) ديوانه 1: 46، ومعاني القرآن للفراء 1: 192، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87، وسيبويه 1: 215، والخزانة 2: 376 وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 30: 58 (بولاق) ، وهو من قصيدته التائية المشهورة، وهذا البيت معطوف على أمنية تمناها في الأبيات السالفة: فَلَيْتَ قَلُوصِي عِنْدَ عَزَّةَ قُيّدَ تْبِحَبْلٍ ... ضَعيفٍ غُرَّ مِنْهَا فَضَلَّتِ وغُودِرَ فِي الحَيِّ المُقِيمِينَ رَحْلُهَا ... وكَانَ لَهَا باغٍ سِوَايَ فَبَلَّتِ وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قال الأعلم: "تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها، وتضل ناقته فلا يرحل عنها". وقال آخرون: "تمنى أن تضيع قلوصه فيبقى في حي عزة، فيكون ببقائه في حي عزة كذي رجل صحيحة، ويكون من عدمه لقلوصه كذي رجل عليلة". وقال ابن سيدهْ: "لما خانته عزة العهد فزلت عن عهده، وثبت هو على عهدها، صار كذي رجلين: رجل صحيحة: هو ثباته على عهدها، وأخرى مريضة: وهو زللها عن عهده". وقال آخرون: "معنى البيت: أنه بين خوف ورجاء، وقرب وثناء"، ولي في معنى الأبيات رأي ليس هذا موضع بيانه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 وكما قال ابن مفرِّغ: (1) فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحَةٌ ... وَرِجْلٌ بِهَا رَيْبٌ مِنَ الحَدَثَانِ (2) فَأَمَّا الَّتِي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ، ... وَأَمَّا الّتِي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمَانِ وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه، إذا كان مع المكرر خبر: تردُّه على إعراب الأوّل مرة، وتستأنفه ثانيةً بالرفع، وتنصبه في التامِّ من الفعل والناقص، وقد جُرّ ذلك كله، فخفض على الردّ على أوّل الكلام، كأنه يعني إذا خفض ذلك: فكنت كذلك رجلين: كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك الخفض في قوله:"فئة"، جائز على الردّ على قوله:"في فئتين التقتا"، في فئة تقاتل في سبيل الله. وهذا وإن كان جائزًا في العربية، فلا أستجيز القراءة به، لإجماع الحجة من القرَأة على خلافه. ولو كان قوله:"فئة"، جاء نصبًا، كان جائزًا أيضًا على قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا"، مُختلفتين. (3) * * *   (1) لم أعرف نسبة هذا الشعر إلى ابن مفرغ، وهو بلا شك للنجاشي الحارثي، من قصيدته في معاوية وعلي، وأكثرها في الوحشيات لأبي تمام، ووقعة صفين: 601-605. (2) الوحشيات رقم: 183، وحماسة ابن الشجري: 33، وخزانة الأدب 2: 378، وأزد شنوءة، وأزد عمان، كانا من القبائل التي قاتلت يوم صفين، وكانت أزد شنودة مع أهل الشام، وأزد عمان في أهل العراق. ورواية الشعر: "وكنتم كذي رجلين ... "، والخطاب لبني تميم وغطفان في قوله قبل ذلك: أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... تَمِيمًا، وَهذَا الحَيَّ مِنْ غَطَفَان بيد أن رواية البيت: فأمَّا التي شَلَّتْ فَأَزدُ شَنُوءةٍ ... وأَمَّا التي صَحَّتْ فَأَزدُ عُمَانِ لأن النجاشي كان مع علي، وكانت أزد عمان معه. أما أزدشنوءة فكانت مع معاوية. (3) انظر أكثر هذا وأبسط منه في معاني القرآن للفراء 1: 192-194، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87، 88. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 القول في تأويل قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك. فقرأته قرأة أهل المدينة: (تَرَوْنَهُمْ) بالتاء، بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آيةٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرةٌ، ترونَ المشركين مِثْلي المسلمين رأىَ العين. يريد بذلك عِظَتهم، يقول: إن لكم عبرةً، أيها اليهود، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم، بهؤلاء مع كثرة عددهم. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله، الجماعةَ الكافرةَ مثلي المسلمين في القدْر. فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم، يا معشر اليهود، عبرةٌ ومتفكرٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم. * * * فإن قال قائل: وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء؟ وأيّ الفئتين رأت صاحبتها مثليها؟ الفئة المسلمةُ هي التي رأت المشركة مثليها، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟ قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: الفئةُ التي رأت الأخرى مثلى أنفسها، الفئةُ المسلمة رأت عدَد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة، قلَّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، (1) ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عَدَد أنفسها.   (1) قوله: "قللها الله عز وجل في أعينها"، وذلك أن المشركين كانوا أكثر منهم أمثالا، فأراهم الله عددهم مثليهم وحسب. وسيأتي بيان ذلك بعد قليل. وانظر التعليق التالي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 ذكر من قال ذلك: 6681 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، قال: هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يُضْعِفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا، وذلك قول الله عز وجل: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: 44] * * * فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم، يا معشر اليهود، آيةٌ في فئتين التقتا: إحداهما مسلمة والأخرى كافرة، كثيرٌ عدد الكافرة، قليلٌ عدد المسلمة، ترى الفئة القليلُ عددُها، الكثيرَ عددُها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد، (1) فهم يرونهم مثليهم. فيكون أحدُ المثلين عند ذلك، العددُ الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم، والمثل الآخر الضّعف الزائد على عددهم. فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قلَّلهم في أعينهم. والمعنى الآخر منه: التقليل الثاني، على ما قاله ابن مسعود: وهو أنْ أراهم عددَ المشركين مثل عددهم، لا يزيدون عليهم. فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا) . * * * وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إن الذين رأوا المشركين مثليْ أنفسهم، هم   (1) في المطبوعة: ". . . أمثالا لها أنها تكثرها. . ."، والصواب من المخطوطة، وكأن الطابع خفي عليه معنى الحصر في هذا الكلام، فغيره. وانظر التعليق السالف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 المسلمون. غير أن المسلمين رَأوهم على ما كانوا به من عددهم لم يقلَّلوا في أعينهم، ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل لليهود: قد كان لكم فيهم عبرةٌ، يخوّفهم بذلك أنْ يحل بهم منهم مثل الذي أحَلَّ بأهل بدر على أيديهم. ذكر من قال ذلك: 6682 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة"، أنزلت في التخفيف يوم بدر، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمئة وثلاثة عشر رجلا (1) وكان المشركون مثليهم، فأنزل الله عز وحل:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، وكان المشركون ستةً وعشرين وستمئة، فأيد الله المؤمنين. فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين. * * * قال أبو جعفر: وهذه الرواية خلافُ ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر. وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين. فقال بعضهم: كان عددهم ألفًا = وقال بعضهم: ما بين التسعمئة إلى الألف. ذكر من قال:"كان عددهم ألفًا". 6683 - حدثني هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشيّ فانفلت، وأما مولى   (1) في المطبوعة: "كأن المؤمنين كانوا ... "، وهو فاسد جدًا، لم يحسن الناشر أن يقرأ المخطوطة، فقرأها على وجه لا يصح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير شديدٌ بأسُهم! فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، (1) حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كم القوم؟ فقال: هم والله كثير شديدٌ بأسهم! فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبره كم هم، فأبى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله:"كم يَنحرون من الجزُر؟ قال: عشرة كل يوم. (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ألفٌ. (3) 6684 - حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم بدر، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا. (4) * * * ذكر من قال:"كان عددهم ما بين التسعمئة إلى الألف": 6685 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبرَ له عليه، (5) فأصابوا راويةً من قريش: (6) فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "إذا قال ذلك صدقوه"، وهو خطأ بين، والصواب من تاريخ الطبري، وسيأتي مرجعه في آخر الأثر. (2) في التاريخ: "عشرًا" وهي الأجود. والجزر جمع جزور: وهي الناقة المجزورة أو البعير المجزور، فهو يقع على الذكر والأنثى. (3) الأثر: 6683- تاريخ الطبري 2: 269. (4) الأثر: 6684-"أبو سعيد بن يوشع البغدادي"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب، وانظر رقم: 6690 أيضًا. (5) في المخطوطة: "يلتمسون له عليه" بينهما بياض، وأتمتها المطبوعة، كنص ابن هشام. (6) الرواية: هي المزادة فيها الماء، ثم سمي البعير الذي يستسقى عليه الماء"راوية"، وسمي الرجل المستسقى أيضًا"راوية". وجاء في روايته هنا بالإفراد"راوية"، وهي بمعنى الجمع، أي الذين يستقون للقوم، أو الإبل التي يستقى عليها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم؟ قالا كثير! قال: ما عدّتهم؟ قالا لا ندري! قال: كم يَنحرون كل يوم؟ قالا يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا. قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ما بين التسعمئة إلى الألف. (1) 6686 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، ذلكم يوم بدر، ألفٌ المشركون أو قاربوا، (2) وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. 6687 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة" إلى قوله:"رأي العين"، قال: يُضْعفون عليهم، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، يوم بدر. 6688 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين"، قال: كان ذلك يوم بدر، وكان المشركون تسعمئة وخمسين، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وثلاثة عشر. 6689 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر، والمشركون ما بين التسعمئة إلى الألف. * * *   (1) الأثر: 6685- هو مختصر ما في سيرة ابن هشام 2: 268، 269، وتاريخ الطبري 2: 275. (2) في المخطوطة: "أللف"، وعلى اللام الأولى شدة، وأظنه كان أراد أن يكتب: "لألف". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 قال أبو جعفر: فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القولَ الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر. فإذْ كان ما قاله من حكينا قوله - ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة -[صحيحًا] ، (1) فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود، أولى بتأويل الآية. * * * وقال آخرون: كان عددُ المشركين زائدًا على التسعمئة، فرأى المسلمون عدَدَهم على غير ما كانوا به من العدد. وقالوا: أرى اللهُ المسلمين عددَ المشركين قليلا آية للمسلمين. قالوا: وإنما عنى الله عز وجل بقوله:"يرونهم مثليهم"، المخاطبين بقوله:"قد كان لكم آية في فئتين". قالوا: وهم اليهود، غيرَ أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب، لأنه أمرٌ من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبرَ عنهم على وجه الخبر مرّة أخرى، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (2) [سورة يونس: 22] وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قيل:"يرونهم مثليهم رأي العين"، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين؟ قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد:"أحتاج إلى مثله"، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، (3) ثم يقول:"أحتاج إلى مثليه"، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله، وإلى مثلَيْ ذلك المثل. (4) وكما يقول الرجل:"معي ألفٌ وأحتاج   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة فالتأويل الأول ... "، وهي عبارة غير مستقيمة، وسهو من الناسخ كثير، فرجحت أن صوابها: "حكينا قوله" في الموضع الأول، وزيادة"صحيحًا" في آخر الجملة كما وضعتها بين القوسين. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 195. (3) في المطبوعة: "أنا محتاج إليه وإلى مثله"، وهو إفساد. والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء 1: 194. (4) عبارة الفراء أوضح وهي: "فأنت إلى ثلاثة محتاج". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 إلى مثليه". فهو محتاج إلى ثلاثة. (1) فلما نوى أن يكون"الألف" داخلا في معنى"المثل" صار"المثل" اثنين، والاثنان ثلاثة. (2) قال: ومثله في الكلام: (3) "أراكم مثلكم"، كأنه قال: أراكم ضعفكم = (4) "وأراكم مثليكم". يعني: أراكم ضعفيكم. قالوا: فهدا على معنى ثلاثة أمثالهم. (5) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنّ الله أرى الفئةَ الكافرةَ عددَ الفئة المسلمة مثلَيْ عددهم. وهذا أيضًا خلاف ما دلّ عليه ظاهر التنزيل. لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: 44] ، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى. * * * قال أبو جعفر: وقرأ آخرون ذلك: (تُرَوْنَهُمْ) بضم التاء، بمعنى: يريكموهم الله مثليهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات بالصواب، قراءةُ من قرأ:"يرونهم" بالياء، بمعنى: وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم - يعني: مثلي عدد   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو محتاج"، والسياق يقتضي الفاء، كما في معاني القرآن للفراء: "فهو يحتاج ... ". (2) في المطبوعة: "صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة"، وهو تصحيف، وفي المخطوطة: "اسرب" غير واضحة بل مضطربة، والصواب من معاني القرآن للفراء. (3) قوله: "قال" يعني الفراء، فالذي مضى والذي يأتي نص كلامه أو شبيه بنص كلامه أحيانًا، وقلما يصرح أبو جعفر باسم الفراء، كما رأيت في جميع المواضع التي أشرنا إليها مرارًا، أنه نقل عنه نص كلامه. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "كما يقال إن لكم ضعفكم"، وهو كلام بلا معنى، واستظهرت صوابه من نص الفراء في معاني القرآن وهو: "ومثله في الكلام أن تقول: أراكم مثلكم - كأنك قلت: أراكم ضعفكم". (5) أكثر هذا بنصه من معاني القرآن للفراء 1: 194. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 المسلمين، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال، فكان حَزْرهم إياهم كذلك، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول، فحزروهم مثل عدد المسلمين، (1) ثم تقليلا ثالثًا، فحزروهم أقل من عدد المسلمين، كما:- 6690 - حدثني أبو سعيد البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تَرَاهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا. * * * وقد روى عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت:"ترونهم"، لكانت"مثليكم". 6691 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بذلك. (2) * * * قال أبو جعفر: ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود، ما أبان عن اختلاف حَزْر المسلمين يومئذ عددَ المشركين في الأوقات المختلفة، فأخبر الله عز وجل - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهودَ، على   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "مثلى عدد المسلمين" هنا أيضًا، وهو خطأ ظاهر، والسياق الماضي والآتي يدل على خلافه، وهو كما أثبت. (2) الأثر: 6691-"عبد الرحمن بن أبي حماد" لم أعرف من هو على التحقيق. وقد مر"عبد الرحمن بن أبي حماد الكوفي القارئ" في رقم: 3109، 4077، ولكن لم يرو عنه"المثنى" إلا بالواسطة، وإسناده: "حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي حماد"، ولا أظنه هو هو. وقد جاء في تاريخ الطبري 1: 171: "حدثني المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ... "، فأكبر الظن أنهما رجلان. أما "ابن المبارك" فهو"عبد الله المبارك" فيما رجحت، وقد كان في المطبوعة"عن ابن المعرك"، ولم أجد من يسمى بهذا الاسم، وفي المخطوطة: "عن ابن المسرل" كأنها ميم وسين ثم راء ثم كاف أو لام. فلعلها كانت مكتوبة في الأصل"ابن المبرك" بغير ألف بين الباء والراء، فقرأها الناسخ هكذا. والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 ما كان به عندهم، (1) مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين = (2) إعلامًا منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، وليحذروا منه أن يُحلّ بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين، مثلَ الذي أحلّ بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدر. (3) * * * وأما قوله:"رأي العين"، فإنه مصدر:"رَأيتهُ" يقال:"رأيته رأيًا ورُؤْية"، و"رأيت في المنام رؤيَا حسنةٌ"، غير مُجْراة. يقال:"هو مني رَأيَ العين، ورِئاءَ العين"، (4) بالنصب والرفع، يراد: حيث يقع عليه بصري، وهو من"الرأي" مثله. و"القوم رئاءٌ"، (5) إذا جلسوا حيث يرى بعضُهم بعضًا. * * * فمعنى ذلك: يرونهم - حيث تلحقهم أبصارُهم وتراهم عيونُهم - مثليْهم. * * *   (1) هكذا جاءت في المطبوعة، وهي جملة لا تكاد تستقيم، وقوله: "اليهود" مفعول به لقوله: "فأخبر الله عز وجل ... ". وقوله: "على ما كان به عندهم"، مما لم أعرف له وجهًا أرضاه. أما المخطوطة فهكذا نصها: "فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عرم المسلمين اليهود على ما كان به عندهم"، وهو كلام مضطرب أخشى أن يكون قد سقط منه شيء. (2) سياق الكلام على ما ترى: "فأخبر الله عز وجل ... اليهود ... إعلامًا منه لهم". (3) في المخطوطة والمطبوعة: "ببدرهم"، وهو كلام ليس بعربي، فآثرت حذف الضمير، وجعلتها"ببدر"، إلا أن يكون في الكلام تحريف لم أتبينه. هذا والناسخ كما ترى، في كثير من هذه الصفحات قد عجل فزاد وحرف ونقص. غفر الله له. (4) في المطبوعة: "ورأي العين"، وفي المخطوطة"ورآا العين"، وصواب قراءتها ما أثبت وإنما حمل الناشر الأول أن يقرأها كذلك، أنه لم يجد نصها في كتب اللغة، ولكن قوله بعد: "وهو من الرأى مثله"، إنما يعني به هذه الكلمة، ثم ما سيأتي في الجملة التالية: "والقوم رثاء"، مما استدل به على ذلك أيضًا. ولكن الناشر الأول، لم يحسن قراءة المخطوطة فتصرف فيه، وأعانه ذلك على التصرف في رسم الذي قبله، كما سنرى في التعليق التالي. وانظر أيضًا مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 88. (5) في المطبوعة: "والقوم راأوا"، ولا أدري كيف أراد أن يقرأها الناشر الأول، وماذا ظنها!! والصواب ما أثبت، ورسمه في المخطوطة"والقوم رآء" وتحت الراء كسرة، وصواب قراءتها ما أثبت، وانظر التعليق السالف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (13) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "والله يؤيد"، يقوّي ="بنصره من يشاء". * * * = من قول القائل:"قد أيَّدت فلانًا بكذا"، إذا قوّيته وأعنته،"فأنا أؤيّده تأييدًا". و"فَعَلت" منه:"إدته فأنا أئيده أيدًا"، (2) ومنه قول الله عز وجل: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ) [سورة ص: 17] ، يعني: ذا القوة. (3) * * * قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قد كان لكم = (4) يا معشر اليهود، في فئتين التقتا، إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم، فأيدنا المسلمة وهم قليلٌ عددهم، على الكافرة وهم كثير عدَدُهم حتى ظفروا بهم = (5) معتبر ومتفكر، والله يقوّى بنصره من يشاء. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، ولكن السياق كما ترى يقتضي ما أثبت. (2) لم تذكر كتب اللغة هذا الفعل الثلاثي متعديًا، بل قالوا: "آد يئيد أيدًا، إذا اشتد وقوى"؛ فهذه زيادة لم أجدها في غير هذا التفسير الجليل. (3) انظر تفسير"الأيد" و"أيد" فيما سلف 2: 319، 320 / ثم 5: 379. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 وقال جل ثناؤه"إنّ في ذلك"، يعني: إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم: من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها ="لعبرة"، يعني: لمتفكرًا ومتَّعظًا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق، كما:- 6692 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار"، يقول: لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر، أيَّدهم الله ونصرهم على عدوّهم. 6693 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * القول في تأويل قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: زُيِّن للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها، على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه. * * * وكان الحسن يقول: منْ زَيْنِها، ما أحدٌ أشدّ لها ذمًّا من خالقها. (1) 6694 - حدثني بذلك أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث عنه.   (1) في القرطبي 4: 28: "من زينها؟ " استفهام"زينها" فعل. ولم أجد خبر الحسن، ولكني أذكر كأني قرأته قديمًا، وهو يسخر من أمر الدنيا، ويقول: من حسنها، أن الذي يذمها ويقبحها هو الذي خلقها! و"الزين" خلاف الشين، مصدر"زان الشيء يزينه زينًا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 6695 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال، قال عمر: لما نزل:"زُيِّن للناس حب الشهوات"، قلت: الآن يا رَبِّ حين زيَّنتها لنا! فنزلت: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) [سورة آل عمران: 15] ، الآية. * * * وأما"القناطير" فإنها جمع"القنطار". واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار. فقال بعضهم: هو ألف ومئتا أوقية. ذكر من قال ذلك: 6696 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ بن جبل قال: القنطار: ألف ومئتا أوقية. 6697 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ مثله. 6698 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا - يعني حفص بن ميسرة - عن أبي مروان، عن أبي طيبة، عن ابن عمر قال: القنطار ألف ومئتا أوقية. 6699 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم بن مالك المزني قال، أخبرني العلاء بن المسيب، عن عاصم بن أبي النجود قال: القنطار ألف ومئتا أوقية. 6700 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله. (1)   (1) الأثر: 6700- ذكره ابن كثير في تفسيره 2: 109، 110، وأشار إلى رواية أحمد: "حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار اثنا عشر ألف أوقيه، كل أوقية خير مما بين السماء والأرض" وذكر رواية ابن ماجه ووكيع، وصحح أن هذا الأثر موقوف، كما رواه ابن جرير ووكيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 6701 - حدثني زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبى ميمونة، عن زِرّ بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار ألف أوقية ومئتا أوقية. (1) * * * وقال آخرون: القنطار ألف دينار ومئتا دينار. ذكر من قال ذلك: 6702 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القنطارُ ألف ومئتا دينار.   (1) الأثر: 6701-"زكريا بن يحيى الضرير" هو: "زكريا بن يحيى بن أيوب، أبو علي الضرير المدائني"، حدث عن زياد البكائي، وشبابة بن سوار، وسليمان بن سفيان الجهني، روى عنه محمد بن علي المعروف بمعدان، ومحمد بن غالب التمتام، ويحيى بن صاعد، والقاضي المحاملي. مترجم في تاريخ بغداد 8: 457. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "زكريا بن يحيى الصديق"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير 2: 110. و"شبابة" هو"شبابة بن سوار الفزاري". قال أحمد: "تركته لم أكتب عنه للإرجاء، كان داعية". وقال زكريا الساجي: "صدوق، يدعو إلى الإرجاء. كان أحمد يحمل عليه". وقد وثقه ابن معين وابن سعد على إرجائه. مترجم في التهذيب، و"مخلد بن عبد الواحد" أبو الهذيل البصري روى عن علي ابن زيد بن جدعان، وروى عنه شبابة. قال ابن حبان: "منكر الحديث جدًا". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث. مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 348. و"علي بن زيد بن جدعان" مضى برقم: 40. و"عطاء بن أبي ميمونة" روى عن أنس وعمران وجابر بن سمرة، وغيرهم. وثقه أبو زرعة والنسائي. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه وكان قدريًا"، وقال ابن عدي: "في أحاديثه بعض ما ينكر عليه". وقد روى ابن كثير هذا الأثر في تفسيره 2: 110 وقال: "وهذا حديث منكر أيضًا". والأقرب أن يكون موقوفًا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة" - يعني كالأثر السالف الموقوف على أبي هريرة، وما قبله عن معاذ بن جبل وابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 6703 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: القنطار: ألف ومئتا دينار. 6704 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: القنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال. 6705 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"القناطير المقنطرة"، يعني: المالَ الكثير من الذهب والفضة، والقنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال. * * * وقال آخرون: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. ذكر من قال ذلك: 6706 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. 6707 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: القنطار ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم. (1) 6708 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفا. 6709 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا عوف، عن الحسن: القنطار اثنا عشر ألفا.   (1) الورق (بفتح الواو وكسر الراء) : الفضة، أو الدراهم من الفضة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 6710 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا .................... قال أخبرنا عوف، عن الحسن: اثنا عشر ألفا. (1) 6711 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن بمثله. 6712 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن قال: القنطار ألفُ دينار، ديةُ أحدكم. * * * وقال آخرون: هو ثمانون ألفًا من الدراهم، أو مئة رطل من الذهب. ذكر من قال ذلك: 6713 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا. 6714 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا. 6715 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كنا نُحدَّث أن القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألفًا من الوَرِق. 6716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق. 6717 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: القنطار مئة رطل. 6718 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) الأثر: 6710- هذا إسناد ناقص بلا ريب، وقد وضعت مكان الخرم هذه النقط، وسبب ذلك أن الناسخ انتهى في آخر الصفحة بقوله: "حدثنا ابن بشار قال، حدثنا" وانتقل إلى الصفحة التالية فبدأها: "قال أخبرنا عوف" فهو سهو منه. وإسناد"محمد بن بشار" إلى"عوف عن الحسن"، مختلف، منه الأسناد رقم: 2570 مثلا: "حدثنا محمد بن بشار، قال حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الحسن"، وغيره مما لم أستطع أن أتتبعه الآن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 السدي: القنطار يكون مئة رطل، وهو ثمانية آلاف مثقال. * * * وقال آخرون: القنطار سبعون ألفًا. ذكر من قال ذلك: 6719 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القناطير المقنطرة"، قال: القنطار: سبعون ألف دينار. 6720- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6721 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عمر بن حوشب قال، سمعت عطاء الخراساني قال: سئل ابن عمر عن القنطار فقال: سبعون ألفًا. (1) * * * وقال أخرون: هي مِلء مَسْك ثور ذهبًا. (2) ذكر من قال ذلك: 6722 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد الجرَيْري، عن أبي نضرة قال: ملءُ مَسك ثور ذهبًا. 6723 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث، عن أبي نضرة: ملء مَسك ثور ذهبًا. * * *   (1) الأثر: 6721-"عمر بن حوشب الصنعاني"، روى إسماعيل بن أمية. وروى عنه عبد الرزاق ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن القطان: "لا يعرف حاله"، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3 / 1 / 105. (2) المسك (بفتح الميم وسكون السين) : هو مسلاخ الجلد الذي يكون فيه الثور وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 وقال آخرون: هو المال الكثير. ذكر من قال ذلك: 6724 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"القناطير المقنطرة"، المال الكثير، بعضُه على بَعض. * * * وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب: (1) أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول:"هو قَدْرُ وزنٍ". (2) قال أبو جعفر: وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لأن ذلك لو كان محدودًا قدرُه عندها، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كلّ هذا الاختلاف. * * * قال أبو جعفر: فالصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير، كما قال الربيع بن أنس، ولا يحدُّ قدرُ وزنه بحدٍّ على تَعسُّف. (3) وقد قيل ما قيل مما روينا. * * * وأما"المقنطرة"، فهي المضعَّفة، وكأن"القناطير" ثلاثة، و"المقنطرة" تسعة. (4) وهو كما قال الربيع بن أنس: المال الكثيرُ بعضه على بعض، كما:- 6725 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة:"القناطير المقنطرة من الذهب والفضة"، والمقنطرة المال الكثيرُ بعضه على بعض.   (1) يعني أبا عبيدة معمر بن المثنى، كما أشار إليه بذلك مرارًا سلفت، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 88. (2) نص أبي عبيدة"هو قدر وزن، لا يحدونه"، بإضافة"قدر" إلى"وزن"، وهو كذلك في المخطوطة، ولكن المطبوعة زادت واوًا فجعلته"قدر ووزن". (3) في المطبوعة: "على تعنف"، وفي المخطوطة: "على تعنف" غير منقوطة، وأظن صواب قراءتها ما أثبت. (4) هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 195 بتصرف، ونصه"والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، كذلك سمعت". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 6726 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"القناطير المقنطرة"، يعني المال الكثير من الذهب والفضة. * * * وقال آخرون: معنى"المقنطرة": المضروبة دراهم أو دنانير. ذكر من قال ذلك: 6727 - حدثنا موسى قالى، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"المقنطرة"، فيقول: المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم. * * * وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"وآتيتم إحداهن قنطارًا" - خبرٌ لو صحّ سندُه، لم نعدُه إلى غيره. وذلك ما:- 6728 - حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن أبي سلمة قال، حدثنا زهير بن محمد قال، حدثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) [سورة النساء: 20] ، قال: ألفا مئين يعني = ألفين. (1) * * *   (1) الحديث: 6728- ابن عبد الرحمن البرقي: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة، ولم أعرف من هو. ونقل ابن كثير 2: 110 هذا الحديث من تفسير ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي، أنبأنا عمرو بن أبي سلمة ... ". فلم أجد أيضًا"أحمد بن عبد الرحمن الرقي" - ولم يترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. ويبعد جدًا أن لا يترجم لشيخه. ولكن من شيوخ الطبري: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي الحافظ. روى عنه في: 22 باسم"ابن البرقي". وفي: 160، باسم"أحمد بن عبد الرحيم البرقي". نسب إلى جده. وفي: 5444، باسم"ابن البرقي". وهو في الرواية الأخيرة يروى عن عمرو بن أبي سلمة، كمثل الرواية التي هنا. فمن المحتمل أن يكون هو الذي هنا، وأن تكون كتابة"ابن عبد الرحمن" بدلا من"ابن عبد الرحيم" خطأ من الناسخين. ولكن يعكر عليه اتفاق"بن عبد الرحمن" في رواية ابن أبي حاتم وما ثبت هنا. فإنه يبعد جدًا اتفاق الناسخين على خطأ واحد معين، في كتابين مختلفين، لمؤلفين، ليس أحدهما ناقلا عن الآخر. فلعل"أحمد بن عبد الرحمن الرقي" أو "البرقي" - شيخ آخر روى عنه الطبري وابن أبي حاتم لم تقع إلينا ترجمته. عمرو بن أبي سلمة: مضت ترجمته في: 5444. زهير بن محمد التميمي الخراساني المروزي: ثقة، وثقه أحمد وغيره. أبان بن أبي عياش، واسم أبي عياش"فيروز": تابعي روى عن أنس، ولكنه ضعيف. قال أحمد: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ليس حديثه بشيء". وقال أبو حاتم: "متروك الحديث، وكان رجلا صالحًا، ولكن بلى بسوء الحفظ". وقال البخاري: "كان شعبة سيئ الرأي فيه". ولكن ضعف أبان لا يؤثر في صحة هذا الحديث، لأن زهير بن محمد سمعه منه، وسمعه أيضًا من"حميد الطويل"، وحميد: ثقة، كما مضت ترجمته في: 3877. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 178، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "حدثنا حميد الطويل، ورجل آخر، عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: (والقناطير المقنطرة) ؟ قال: القنطار ألفا أوقية". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ووقع في مختصر الذهبي المطبوع مع المستدرك"ألف أوقية" بالإفراد، وهو خطأ مطبعي، وثبت على الصواب في مخطوطة المختصر التي عندي، موافقًا لما في أصل المستدرك. ونقله ابن كثير 2: 110 - كما قلنا من قبل - عن رواية ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عبد الرحمن الرقي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "أنبأنا حميد الطويل، ورجل آخر قد سماه، يعني يزيد الرقاشي، عن أنس". وفيه: "يعني ألف دينار". فالرجل الآخر المبهم في رواية الحاكم، يحتمل أن يكون أبان بن أبي عياش، كما في رواية الطبري هذه، ويحتمل أن يكون يزيد الرقاشي، كما في رواية ابن أبي حاتم، ويزيد بن أبان الرقاشي: ضعيف أيضًا، كما مضى في شرح: 6654. وقد ذكر السيوطي رواية الحاكم، في هذا الموضع من تفسير آية آل عمران 2: 10 وذكر رواية الطبري التي هنا، في موضعها من تفسير الآية: 20 من سورة النساء، الدر المنثور 2: 133. ولفظ الحديث هنا اضطربت فيه النسخ، ففي المطبوعة: "ألفا مئين، يعني ألفين" وذكر مصححها بالهامش أن هذا في بعض النسخ، وأن في بعضها: "ألفًا ومئين". ورواية السيوطي - نقلا عن الطبري: "ألفا ومئتين، يعني ألفين". والراجح عندي أن هذا كله تحريف، وأن الصحيح اللفظ الذي في رواية الحاكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 القول في تأويل قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"المسوَّمة". فقال بعضهم: هى الراعية. ذكر من قال ذلك: 6729 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 أبي ثابت، عن سعيد بن جبير:"الخيل المسوّمة"، قال: الراعية، التي ترعى. 6730 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، مثله. 6731 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير مثله. 6732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: هي الراعية، يعني: السائمة. 6733 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة القناد قال، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية. 6734 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والخيل المسومة". قال: الراعية. 6735 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،:"والخيل المسومة" المسرَّحة في الرّعي. 6736 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"والخيل المسوّمة، قال: الخيل الراعية. 6737 - حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: أنه كان يقول: الخيل الراعية. * * * وقال آخرون:"المسوّمة": الحسان. ذكر من قال ذلك: 6738 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب قال: قال مجاهد:"المسوّمة"، المطهَّمة. 6739 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد في قوله:"والخيل المسومة"، قال: المطهَّمة الحسان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 6740- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"والخيل المسوّمة"، قال: المطهمة حسْنًا. 6741- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6742- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد: المطهمة. 6743 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سألت عكرمة عن"الخيل المسوّمة"، قال: تَسويمها، حُسنها. (1) 6744 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سمعت عكرمة يقول:"الخيل المسوّمة"، قال: تسويمها: الحُسن. (2) 6745 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الخيل المسوّمة والأنعام"، الرائعة. * * * وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غيرُ موسى، قال: الراعية. * * * وقال آخرون:"الخيل المسوّمة"، المعلَمة.   (1) الأثر: 6743-"أبو عبد الرحمن المقرئ" هو: "عبد الله بن يزيد العدوي مولى آل عمر" مترجم في التهذيب. و"بشير بن أبي عمرو الخولاني" مصري، روى عن عكرمة والوليد بن قيس التجيبي، روى عنه سعيد بن أبي أيوب والليث وابن لهيعة. ثقة مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 377. وفي المطبوعة والمخطوطة: "بشر بن أبي عمرو الخولاني" وهو خطأ. (2) الأثر: 6744- في المخطوطة والمطبوعة: "بشر بن أبي عمرو الخولاني" وهو خطأ. انظر التعليق السالف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 ذكر من قال ذلك: 6746 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والخيل المسوّمة"، يعني: المعلَمة. 6747 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والخيل المسوّمة"، وسيماها، شِيَتُها. (1) 6748 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والخيل المسوّمة"، قال: شِيَة الخيل في وُجوهها. * * * وقال غيرهم:"المسوّمة"، المعدّة للجهاد. ذكر من قال ذلك: 6749 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"والخيل المسومة"، قال: المعدّة للجهاد. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"والخيل المسوّمة"، المعلَمة بالشِّيات، الحسان، الرائعة حسنًا من رآها. لأن"التسويم" في كلام العرب: هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشِياتها وهيئاتها، وهي"المطهَّمة"، أيضًا. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل: بِضُمْرٍ كَالقِدَاحِ مُسوَّماتٍ ... عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ (2)   (1) "الشية": كل ما خالف اللون من جميع جسد الفرس أو غيره، وجمعها"شيات"، وأصلها من"الوشي". وشي الثوب وشيًا وشية: حسنه ونمنمه ونقشه. (2) ديوانه: 86، من قصيدته حين قتلت بنو عبس نضلة الأسدي، وقتلت بنو أسد منهم رجلين، فأراد عيينة بن حصن عون بني عبس، وأن يخرج بني أسد من حلف بني ذبيان، فقال: إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي ثم أثنى عليهم، وذكر أيامهم، فمما ذكر: وَقَدْ زَحَفُوا لِغَسَّانٍ بزَحْفٍ ... رَحِيبِ السَّرْبِ أَرْعَنَ مُرْجَحِنِّ بِكُلِّ مُحَرَّبٍ كاللَّيْثِ يَسْمُو ... عَلَى أوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ وضُمْرٍ كَالقِدَاحِ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بسمر"، وليس من صفة الجياد أن يقال"سمر"، بل السمر الرماح، أما الضمر (بضم فسكون) فجمع ضامر، وقياس جمعه ضوامر، إلا أن (فاعل) الصفة منه ما يجمع على (فعل) بضم الفاء والعين، مثل"بازل وبزل، وشارف وشرف"، شبهوه بفعول لمناسبته له في عدد الحروف. ثم يخفف (فعل) عند بني تميم فتسكن عينه. والقداح جمع قدح (بكسر فسكون) : وهو السهم إذا قوم وأنى له أن يراش. تشبه به الخيل الضوامر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 يعني ب"المسوّمات"، المعلمات، وقول لبيد: وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُمْ ... زُجَلا يُلُوحُ خِلالَهَا التَّسْوِيمُ (1) فمعنى تأويل من تأول ذلك:"المطهمةَ، والمعلمة، والرائعة"، واحدٌ. * * * وأما قول من تأوّله بمعنى: الراعية، فإنه ذهب إلى قول القائل:"أسمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة"، إذا رعيتها الكلأ والعشب، كما قال الله   (1) ديوان قصيدة: 16، البيت: 41، والبيت من أبيات في القصيدة يذكر فيها عزه وعز قومه، أولها: إنِّي امْرُءٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِى، وقد جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ جَهَدُوا العَدَاوةَ كُلَّها، فأَصَدَّها ... عِّني مَنَاكِبُ عِزُّها مَعْلُومُ مِنْها: حُوَيٌّ، والذُّهابُ، وقَبْلَهُ ... يَوْمٌ بِبُرْقَةِ رَحْرَحَانَ كَرِيمُ وغَدَاةَ قَاعِ القُرْنتين. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . و"حوى"، و"الذهاب" و"برقة رحرحان" و"قاع القرنتين" كلها مواضع كانت لقومه فيها وقائع، ظفروا فيها. وقوله: "أتينهم" الضمير للخيل عليها أصحابها. والضمير الآخر لأعدائه. والزجل جمع زجلة (بضم فسكون) : الجماعة من الناس والخيل. ورواية ديوانه: "رهوًا"، أي متتابعة. وخلالها: وسطها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 عز وجل: (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [سورة النحل: 10] ، بمعنى: ترعَوْن، ومنه قول الأخطل: مِثْلَ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كآخَرَ مِثْلِهِ، ... أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الأجْمَالِ! (1) يعني بذلك: راعية الأجمال. فإذا أريد أنّ الماشية هي التي رعت، قيل:"سامت الماشية تسوم سومًا"، ولذلك قيل:"إبل سائمة"، بمعنى: راعية، غير أنه غير مستفيض في كلامهم:"سوَّمتُ الماشيةَ"، بمعنى أرعيتها، وإنما يقال إذا أريد ذلك:"أسمتها". * * *   (1) ديوانه: 159، والأغاني 8: 319، وطبقات فحول الشعراء: 418، وسيأتي في التفسير 14: 60 (بولاق) ، وهو من قصيدته التي رفع فيها ذكر عكرمة بن ربعي الفياض، كاتب بشر بن مروان. وذلك أن الأخطل أتى حوشب بن رويم الشيباني فقال: إني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي! فنهره. فأتى شداد بن البزيعة، (هو شداد بن المنذر الذهلي، أخو الحضين بن المنذر صاحب راية علي يوم صفين) ، فسأله، فاعتذر إليه شداد. فأتى عكرمة الفياض فأخبره بما قال له الرجلان، فقال: أما إني لا أنهرك ولا أعتذر إليك، ولكني أعطيك إحداهما عينًا، والأخرى عرضًا. فأشاد به الأخطل وهجا الرجلين فقال: وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَى رَبِيعَةَ كلَّها ... وكَفَيْتَ كُلَّ مُواِكلٍ خَذّالِ كَزْمِ اليَدَيْنِ عَنِ العَطِيَّةِ مُمْسِكٍ ... لَيْسَتْ تَبِضُّ صَفَاتُهُ ببِلالِ كابنِ البَزِيَعةِ، أو كآخَرَ مِثْلِه، ... أَوْلَى لك ابْنَ مُسِيَمةِ الأَجْمَالِ! إِنَّ اللَّئِيمَ إذَا سَأَلْتَ بَهَرْتَهُ ... وترَى الكَرِيمَ يَرَاحُ كالمُخْتَالِ وفي المخطوطة: "أولى ابن مسيمة ... "، خطأ."وابن البزيعة"، هو"ابن بزعة" في رواية الطبري هنا. والبزيعة (على وزن كريمة) أم شداد بن المنذر. وقد ضبطتها في طبقات فحول الشعراء بالتصغير، اتباعًا لما في تاريخ الطبري مضبوطًا بالقلم. ولكني هنا أستدرك هذا، وأرجح أني كما ضبطته هنا: "البزيعة": الجارية الظريفة المليحة الذكية القلب. وقد ذكر شداد بن بزيعة عند زياد بن أبي سفيان في الشهود وهو (زياد بن سمية، وابن أبيه) فلما قيل: "ابن بزيعة" قال: ما لهذا أب ينسب إليه؟ ألقوا هذا من الشهود". فقيل له: إنه أخو حضين بن المنذر! قال: فانسبوه إلى أبيه. فبلغ ذلك شدادًا فقال: ويل علي ابن الزانية! أو ليست أمه أعرف منه بأبيه؟ والله ما ينسب إلا إلى أمه سمية!! (تاريخ الطبري 6: 151) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 فإذْ كان ذلك كذلك، فتوجيه تأويل"المسوّمة" إلى أنها"المعلمة" بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها، أصحّ. * * * وأما الذي قاله ابن زيد: من أنها المعدّة في سبيل الله، فتأويل من معنى"المسوّمة"، بمعزِلٍ. * * * القول في تأويل قوله: {وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ} قال أبو جعفر: فـ" الأنعام" جمع"نَعَم"، وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه: من الضّأن والمعِز والبقر والإبل. (1) * * * وأما"الحرث"، فهو الزّرع. (2) * * * وتأويل الكلام: زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء، ومن البنين، ومن كذا، ومن كذا، ومن الأنعام والحرث. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جَل ثناؤه:"ذلك"، جميعَ ما ذُكر في هذه الآية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة   (1) في سورة الأنعام: 142-144. (2) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف 4: 240-243، 397. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 والأنعام والحرث. فكنى بقوله:"ذلك" عن جميعهن. وهذا يدل على أن"ذلك" يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني، ويكنى به عن جميع ذلك. * * * وأما قوله:"متاع الحياة الدنيا"، فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يَستمتع به في الدنيا أهلها أحياءً، فيتبلَّغون به فيها، ويجعلونه وُصْلة في معايشهم، وسببًا لقضاء شهواتهم، التي زُيِّن لهم حبها في عاجل دنياهم، (1) دون أن تكون عدّة لمعادهم، وقُرْبة لهم إلى ربهم، إلا ما أسلِك في سبيله، وأنفق منه فيما أمَر به. (2) * * * وأما قوله:"والله عنده حسن المآب"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وعند الله حُسن المآب = يعني: حسن المرْجع، كما:- 6750 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي:"والله عنده حسن المآب"، يقول: حسن المنقلب، وهي الجنة. * * * = وهو مصدر على مثال"مَفْعَل" من قول القائل:"آب الرجل إلينا"، إذا رجع،"فهو يؤوب إيابًا وأوبة وأيبةً وَمآبًا"، (3) غير أن موضع الفاء منها مهموز، والعين مبدلة من"الواو" إلى"الألف" بحركتها إلى الفتح. فلما كان حظها الحركة إلى الفتح، (4) وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت"ألفا"، كما قيل:"قال" فصارت عين الفعل"ألفًا"، لأن حظها الفتح."والمآب" مثل"المقال" و"المعاد" و"المجال"، (5)   (1) في المخطوطة: "زين لهم حملها ... "، وهو من أوهام صاحبنا الناسخ. (2) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / ثم 3: 55 / ثم 5: 260. (3) "أيبة" بفتح الهمزة وكسرها وسكون الياء، وهي على المعاقبة من الواو. (4) في المخطوطة: "قلنا كان حظها ... " وهي من لطائف صاحبنا غفر الله له. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "المحال" بالحاء، والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 كل ذلك"مفعَل" منقولة حركة عينه إلى فائه، فمصيَّرةٌ واوه أو ياؤه"ألفًا" لفتحة ما قبلها. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"والله عنده حسن المآب"، وقد علمتَ ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب؟ قيل: إن ذلك معنىّ به خاصٌ من الناس، ومعنى ذلك: (1) والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم. وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها. * * * فإن قال: وما"حسن المآب"؟ قيل: هو ما وصفه به جل ثناؤه، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مُخلَّدًا فيها، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: قل، يا محمد، للناس الذين زُيِّن لهم حب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكر ربنا جل ثناؤه:"أؤنبئكم"، أأخبركم وأعلمكم (2) ="بخير من ذلكم"، يعني: بخير وأفضل لكم ="من   (1) في المخطوطة كتب"وبين" والواو متصلة بما بعدها، حتى ما تكاد تقرأ، والذي في المطبوعة لا بأس به في قراءة هذه الكلمة. (2) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف 1: 488، 489. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 ذلكم"، يعني: مما زُيِّن لكم في الدنيا حبُّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا. * * * ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام. فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله:"من ذلكم"، ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم، فقيل:"للذين اتقوا عند ربهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها"، فلذلك رفع"الجنات". * * * ومن قال هذا القول لم يجز في قوله:"جنات تجري من تحتها الأنهار" إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدأ غيرُ مردود على قوله:"بخير"، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرًا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى"الخير" الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: للناس: أؤنبئكم به؟ "والجنات" على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله:"للذين اتقوا عند ربهم". * * * وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله:"للذين" من صلة"الإنباء"، جاز في"الجنات" الخفض والرفع: الخفضُ على الرد على"الخير"، والرفع على أن يكون قوله:"للذين اتقوا" خبرَ مبتدأ، على ما قد بيَّناه قبلُ. * * * وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله:"عند ربهم"، ثم ابتدأ:"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار". وقالوا: تأويل الكلام:"قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم"، ثم كأنه قيل:"ماذا لهم". أو:"ما ذاك"؟ (1) فقال: هو"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار"، الآية. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة بعد هذا، وقيل قوله: "فقال: هو جنات ... " ما نصه: "أو على أنه يقال: ماذا لهم؟ أو ما ذاك؟ " ومن البين أن هذا تكرار لا معنى له، وأنه من سهو الناسخ الكثير السهو. فمن أجل ذلك طرحته من المتن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من جعل الاستفهام متناهيًا عند قوله:"بخير من ذلكم"، والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله:"للذين اتقوا عند ربهم جنات"، فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر، وهو إبانة عن معنى"الخير" الذي قال: أؤنبئكم به؟ (1) فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وأما قوله:"خالدين فيها"، فمنصوب على القطع (2) * * * ومعنى قوله:"للذين اتقوا"، للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (3) ="عند ربهم"، يعني بذلك: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم. * * * "والجنات"، البساتين، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى = وأنّ قوله:"تجري من تحتها الأنهار"، يعني به: من تحت الأشجار، وأن"الخلود" فيها دوام البقاء فيها، وأن"الأزواج المطهرة"، هن نساء الجنة اللواتي طُهِّرن من كل   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أنبئكم به"، والصواب ما أثبت، وانظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 195-198. (2) عند هذا انتهى آخر جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه: وأما قوله: {خالدين فيها} فمنصوب على القطع. وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وعلى آله الطاهرين وسَلّم كثيرًا" ويتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم". "القطع"، يعني: الحال، كما بينت في 2: 392، والمراجع هناك، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. ثم انظر ما سيأتي: ص 270، تعليق: 3. (3) انظر تفسير"اتقى" في فهارس اللغة مادة"وقى". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 أذًى يكون بنساء أهل الدنيا، من الحيض والمنىّ والبوْل والنفاس وما أشبه ذَلك من الأذى = بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وقوله:"ورِضْوَانٌ من الله"، يعني: ورضى الله، وهو مصدر من قول القائل:"رَضي الله عن فلان فهو يَرْضى عنه رضًى" منقوص"ورِضْوانًا ورُضْوانًا ومَرْضاةً". فأما"الرُّضوان" بضم الراء، فهو لغة قيس، وبه كان عاصم يقرأ. * * * قال أبو جعفر: وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير = رضْوانَه، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة، كما:- 6751 - حدثنا ابن بشار قال، حدثني أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهلُ الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: أعطيكم أفضلَ من هذا! فيقولون: أيْ ربنا، أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني. (2) * * * وقوله:"والله بصير بالعباد"، يعني بذلك: واللهُ ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه، (3) فيطيعه، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعدّه للذين اتقوه على حُبّ ما زُيِّنَ له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدّد منها تعالى   (1) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف 1: 384 / ثم 5: 535، 542 = وتفسير"الخلود" فيما سلف 1: 397، 398 / 2: 286 / 4: 317 / 5: 429 = وتفسير"الأزواج المطهرة" فيما سلف 1: 395-397. (2) الأثر: 6751- هذا خبر غير مرفوع، ولكن شاهده من المرفوع ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك! قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدًا". وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى حديث جابر في الفتح 11: 364، وقال: عند البزار وصححه ابن حبان". ولم أجد لفظه. (3) انظر تفسير"بصير" فيما سلف 2: 140، 376، 506 / ثم 5: 76، 167. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 ذكره = وبالذي لا يتقيه فيخافه، ولكنه يعصيه ويطيع الشيطان ويؤثر ما زيِّن له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال، على ما عنده من النعيم المقيم = عالمٌ تعالى ذكره بكلّ فريق منهم، حتى يجازي كلَّهم عند معادهم إليه جزاءَهم، المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) } قال أبو جعفر: ومعنى ذلك. قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا، [الذين] يقولون:"ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار". * * * وقد يحتمل"الذين يقولون"، وجهين من الإعراب: الخفض على الردّ على"الذين" الأولى، والرفع على الابتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها"الذين" الأولى، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) [سورة التوبة: 111] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) [سورة التوبة: 112] . ولو كان جاء ذلك مخفوضًا كان جائزًا. (1) * * * ومعنى قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا": الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك ="فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها ="وقنا عذاب النار"،   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 198. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار. وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه. * * * وأصل قوله:"قنا" من قول القائل:"وقى الله فلانًا كذا"، يراد: دفع عنه،"فهو يقيه". فإذا سأل بذلك سائلٌ قال:"قِنِى كذا". (1) * * * القول في تأويل قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"الصابرين"، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس. ويعني بـ"الصادقين"، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه. ويعني بـ"القانتين"، المطيعين له. * * * وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * وقد كان قتادة يقول في ذلك بما:- 6752 - حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) انظر تفسير"قنا" و"وقى" فيما سلف 4: 206. (2) انظر تفسير"الصابرين" فيما سلف 2: 11 / ثم 3: 214، 349 = وتفسير"الصادقين" فيما سلف 3: 356 = وتفسير"القانتين" فيما سلف 2: 538، 539 / ثم 5: 228-237. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 قوله:"الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين"،"الصادقين": قوم صدَقت أفواههم واستقامت قُلوبهم وألسنتهم، وصَدقوا في السرّ والعلانية ="والصابرين"، قوم صبروا على طاعة الله، وصَبروا عن محارمه ="والقانتون"، هم المطيعون لله. * * * وأما"المنفقون"، فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها. (1) * * * وأما"الصابرين" و"الصادقين"، وسائر هذه الحروف، فمخفوض ردًا على قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا"، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله:"الذين يقولون" خفض، ردًّا على قوله:"للذين اتقوا عند ربهم". (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ (17) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم. فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار. ذكر من قال ذلك: 6753 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، هم أهل الصلاة. 6754 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: يصلون بالأسحار. * * *   (1) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف: 5: 555، 580. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 199. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 وقال آخرون: هم المستغفرون. ذكر من قال ذلك: 6755 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود. (1) 6756 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: حدثني سليمان بن موسى قال، حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح. 6757 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة. 6758 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار. * * * وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.   (1) الأثر: 6755-"حريث بن أبي مطر عمرو الفزاري، أبو عمر الحناط" روى عن الشعبي والحكم بن عتيبة، وروى عنه شريك، وابن نمير، ووكيع، قال ابن معين: "لا شيء"، وقال أبو حاتم"ضعيف الحديث". وقال البخاري: "فيه نظر، ليس بالقوي عندهم". وعلق له البخاري في الأضاحي، مترجم في التهذيب. وأما "إبراهيم بن حاطب" فلم أجد له ولا لأبيه"حاطب" ترجمة، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو سقط، وأن يكون"حاطب" هذا، هو"حاطب بن أبي بلتعة" صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأثر بنصه هذا في تفسير ابن كثير 2: 113، ولم يقل فيه شيئًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 ذكر من قال ذلك: 6759 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال، (1) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال، قلت لزيد بن أسلم: مَنْ"المستغفرين بالأسحار"، قال: هم الذين يشهدون الصّبح. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله:"والمستغفرين بالأسحار"، قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها. * * * ="بالأسحار" وهى جمع"سَحَر". * * * وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء. * * * القول في تأويل قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم. =فـ"الملائكة" معطوف بهم على اسم"الله"، و"أنه" مفتوحة بـ"شهد". * * * قال أبو جعفر: وكان بعض البصريين يتأول قوله:"شهد الله"، قضى الله، ويرفع"الملائكة"، بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم. (2) * * *   (1) أخوه هو: "عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي القعنبي"، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. (2) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 89، ولم يسمه الطبري، بل قال"بعض البصريين". وانظر رد الطبري قوله في ص: 272. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من"أنه"، على ما ذكرت من إعمال"شهد" في"أنه" الأولى، وكسر الألف من"إن" الثانية وابتدائها. (1) سوى أنّ بعض المتأخرين من أهل العربية، (2) كان يقرأ ذلك جميعًا بفتح ألفيهما، بمعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأنّ الدين عند الله الإسلام - فعطف بـ"أن الدين" على"أنه" الأولى، ثم حذف"واو" العطف، وهى مرادة في الكلام. واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) الآية. ثم قال:"أنّ الدين"، بكسر"إنّ" الأولى، وفتح"أنّ" الثانية بإعمال"شهد" فيها، وجعل"أن" الأولى اعتراضًا في الكلام غير عامل فيها"شَهد" = وأن ابن مسعود قرأ:"شهد الله أنه لا إله إلا هو" بفتح"أن" وكسر"إنّ" من:"إنّ الدّين عند الله الإسلام" = على معنى إعمال"الشهادة" في"أن" الأولى، و"أن" الثانية مبتدأة. فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح، جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. (3) فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت، جميعَ قرأة أهل الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخرين، بدعوى تأويلٍ على ابن عباس وابن مسعود، زعم أنهما قالاه وقرآ به. وغيرُ معلوم ما ادّعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة. وكفى شاهدًا على خطأ قراءته، خروجها من قراءة أهل الإسلام. * * * قال أبو جعفر: فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتحُ الألف من"أنه" الأولى، وكسر الألف من"إنّ" الثانية، أعني من قوله:   (1) يعني، في قوله في صدر الآية التالية: "إن الدين عند الله الإسلام". (2) هو الكسائي، انظر معاني القرآن للفراء 1: 200 وتفسير القرطبي 4: 42، 43. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 199-200. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 "إنّ الدين عند الله الإسلام"، ابتداءً. * * * وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدالّ على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية، في فتح"أنّ" من قوله:"أنّ الدين"، وهو ما:- 6760 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" إلى"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، (1) قال: الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس: أنّ الدين عند الله الإسلام. * * * فهذا التأويل يدل على أن"الشهادة" إنما هي عاملة في"أنّ" الثانية التي في قوله:"أن الدين عند الله الإسلام". فعلى هذا التأويل جائز في"أن" الأولى وجهان من التأويل: (2) = أحدهما: أن تكون الأولى منصوبةً على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد = فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم ="والشهادة" عاملة في"أن" الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدّين عند الله الإسلام، لإنه واحدٌ، ثم تقدم"لأنه واحد"، فتفتحها على ذلك التأويل. = والوجه الثاني: أن تكون"إنّ" الأولى مكسورة بمعنى الابتداء، لأنها معترضٌ بها،"والشهادة" واقعة على"أنّ" الثانية: فيكون معنى الكلام: شهد   (1) في المطبوعة: "فإن الله يشهد"، وفي المخطوطة: فأن الله يشهد"، وكأن صواب قراءتها ما أثبت. (2) في المطبوعة: "في أن في الأولى وجهان"، أما المخطوطة فقد وضع فوق"أن""في" صغيرة. كأنه أراد: "جائز في الأولى"، بحذف"أن"، لأنه لم يضع علامة تدل على الزيادة. فلذلك أسقطتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 الله = فإنه لا إله إلا هو - والملائكة، أنّ الدين عند الله الإسلام، كقول القائل:"أشهد - فإني محقٌ - أنك مما تعاب به برئ"، فـ"إن" الأولى مكسورة، لأنها معترضة،"والشهادة" واقعة على"أنّ" الثانية. (1) * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"قائمًا بالقسط"، فإنه بمعنى: أنه الذي يلي العدل بين خلقه. * * * "والقسط"، هو العدل، من قولهم:"هو مقسط" و"قد أقسط"، إذا عَدَل. (2) * * * ونصب"قائمًا" على القطع. (3) * * * وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من"هو" التي في"لا إله إلا هو". * * * وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حالٌ من اسم"الله" الذي مع قوله:"شهد الله"، فكان معناه: شهد الله القائمُ بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك: (وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ) ، ثم حذفت"الألف واللام" من"القائم"، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة، فنصب. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي، قولُ من جعله قَطعًا، (4)   (1) انظر بيان ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء 1: 200. (2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ص: 77. (3) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: 261. تعليق: 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1: 200 إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية. (4) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: 261. تعليق: 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1: 200 إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 على أنه من نعت الله جل ثناؤه، لأن"الملائكة وأولي العلم"، معطوفون عليه. فكذلك الصحيح أن يكون قوله:"قائمًا" حالا منه. * * * وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، فإنه نفى أن يكون شيء يستحقّ العُبودَة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. (1) * * * ويعني ب"العزيز"، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه (2) ="الحكيم" في تدبيره، فلا يدخله خَلل. (3) * * * قال أبو جعفر: وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نَفْيَ ما أضافت النصارَى الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوّة، وما نسب إليه سائرُ أهل الشرك من أنّ له شريكًا، واتخاذهم دونه أربابًا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالقُ كلّ ما سواه، وأنه ربّ كلِّ ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربًّا دونه، وأنّ ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهلُ العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه، تعظيمًا لنفسه، وتنزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها، كما سنّ لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدِّبًا خلقه بذلك.   (1) قوله: "العبودة" هو مصدر من"عبد" على وزن"شرف" يقال: "هو عبد بين العبودة والعبودية والعبدية" وقد استعملها الطبري بهذا المعنى فيما سلف 3: 347، وانظر التعليق هناك. وهو بمعنى الخضوع والتذلل، فكأنه استعمله هنا أيضًا بذلك المعنى، كأنه قال: فإنه نفي أن يكون شيء يستحق الخضوع له والتذلل، غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. وقد صرح ابن القطاع في كتاب الأفعال 2: 337 أن مصدر"عبد الله يعبده": "عبادة وعبودة وعبودية"، أي: خدم، وذل أشد الذل. (2) انظر تفسير"العزيز" فيما سلف 3: 88 / ثم هذا ص: 168، 169 وفهارس اللغة (عزز) . (3) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف 3: 88، وفهارس اللغة (حكم) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 والمرادُ من الكلام، الخبرُ عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدّسوه: (1) من ملائكته وعلماء عباده. فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظِّمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدُها الكثير منهم - وأهلَ العلم منهم، (2) منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى، وقولَ من اتخذ ربًّا غيره من سائر الخلق، (3) فقال: شهدت الملائكة وأولُو العلم أنه لا إله إلا هو، وأن كل من اتخذ ربًّا دون الله فهو كاذبٌ = احتجاجًا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجُّوه من وفد نجران في عيسى. * * * واعترض بذكر الله وصفته، على ما بيَّنتُ، (4) كما قال جل ثناؤه: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [سورة الأنفال: 41] ، افتتاحًا باسمه الكلام، (5) فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادةَ بما وصفناه: من نَفْي الألوهة عن غيره، وتكذيب أهل الشرك به. * * * فأما ما قال الذي وصفنا قوله: من أنه عنى بقوله:"شهد"، قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم، لأن"الشهادة"، معنًى،"والقضاء" غيرها. (6) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقدموه" كأنه أراد معنى: "البدء بذكره تعالى"، ولو كان كذلك لكان أجود أن يقول: "فقدموا ذكره"، ولكنى أستظهر من سياق كلامه معنى التنزيه، فلذلك رأيت أنها تصحيف قوله: "فقدسوه". (2) سياق الكلام: فأعلمهم أن ملائكته. . . وأهل العلم منهم، منكرون. . .". (3) قوله: "وقول من اتخذ ربًا غيره. . ." بنصب"وقول" عطفًا على قولهم"ما هم عليه مقيمون"، وهو مفعول به لقوله: "منكرون". (4) في المطبوعة: "على ما نبينه"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءتها. (5) معنى ذلك: أن ذكر"الله" في آية الأنفال هذه، إنما هي افتتاح كلام، قال أبو جعفر في تفسيرها (10: 3 بولاق) : "قال بعضهم: قوله: "فأن الله خمسه" مفتاح كلام، ولله الدنيا والآخرة وما فيهما. وإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه". وهذا القول هو الذي رجحه الطبري في تفسير الآية هناك. (6) هذا رد على مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن، كما سلف في ص: 267 تعليق: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك. 6761 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم"، بخلاف ما قالوا - يعني: بخلاف ما قال وفدُ نجران من النصارى ="قائمًا بالقسط"، أي بالعدل. (1) 6762 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بالقسط"، بالعدل. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} قال أبو جعفر: ومعنى"الدين"، في هذا الموضع: الطاعة والذّلة، من قول الشاعر: (2) وَيَوْمُ الحَزْنِ إِذْ حُشِدَتْ مَعَدٌّ ... وَكَانَ النَّاسُ، إِلا نَحْنُ دِينَا (3)   (1) الأثر: 6761- هو ما رواه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق 2: 227، وهو من بقية الآثار التي آخرها فيما سلف رقم: 6649. (2) لم أعرف قائله بعد. (3) سيأتي في التفسير 26: 115 (بولاق) ومعه بيت سنذكره. والشطر الثاني من البيت الأول في اللسان (دين) ، وفي غيره من كتب اللغة. وأنا في شك من صحة هذا البيت، ولم أعرف"يوم الحزن"، ما أراد به. وأظن"حشدت"، "حشرت" من"الحشر"، والبيت الذي يليه: عَصَيْنَا عَزْمَةَ الجَبَّارِ، حتَّى ... صَبَحْنَا الجُرْفَ ألفًا مُعْلِمِينَا هكذا صححته هنا من معاني القرآن للفراء، تفسير سورة (ق) مخطوطة، وهو في المطبوعة من التفسير (26: 115) "صحبنا الخوف أكفًا" وهو كلام لا معنى له. وقد قال الطبري بعد هذا البيت هناك"ويروى: الحوف. وقال: أراد بالجبار: المنذر، لولايته" وصوابه"الجرف" فإذا كان ذلك كذلك، فأكبر ظني أنه كما أثبته"الجرف" (بضم الجيم وسكون الراء) : وهو موضع بالحيرة كانت به منازل المنذر. وفي الطبري هناك"صحبنا" وهو خطأ. و"صبحنا"، من قولهم: "صبح القوم شرًا" أي جاءهم به، و"صبحتهم الخيل"، جاءتهم صبحًا. و"ألفًا" يعني: ألف فرس عليها فرسانها. و"المعلم": الفارس يجعل لنفسه علامة الشجعان، أو جعل على فرسه علامة، فهو فرس معلم. يريد: غزونا معقل المنذر الجبار ومنازله، وصبحناه فدمرنا عليه منازله. وفي الطبري"حرمة الجبار"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء، كما أسلفت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي: كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا (1) يعني: تُذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس: هُوَ دَانَ الرِّبَابَ إذْ كَرِهُوا الدِّ ... ينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (2) يعني بقوله:"دان" ذلل = وبقوله:"كرهوا الدين"، الطاعة. * * * وكذلك"الإسلام"، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه:"أسلم" بمعنى: دخل في السلم، كما يقال:"أقحط القوم"، إذا دخلوا في القحط،   (1) ديوانه: 15، من أبيات جياد وصف فيها صاحبته"أميمة"، وسماها"جنوب" في البيت الذي رواه الطبري، وسماها"نوار"، ويروى: "ظلوم"، فكان مما قال: رَمَتِ المَقَاتِلَ مِنْ فُؤَادِكَ، بَعْدَ ما ... كانَتْ جَنُوبُ تَدِينُكَ الأدْيانَا ""أي": تفعل بك الأفاعيل. ويقال: تستعبدك، أو: أنها كانت تعذبك. أو تدينك: تجزيك". وَأَرَى الغَوَانِي إنّمَا هِيَ جِنَّةٌ ... شَبَهُ الرِّيَاحِ تَلَوَّنُ الأَلْوَانَا فَإذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنّ، فَلاَ تُجِبْ ... فَهُنَاكَ لاَ يَجِدُ الصَّفَاءُ مَكَانَا نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنّ حَقَارَةً ... وعَلَى ذَوَاتِ شَبَابِهِنّ هَوَانَا وَإذَا وَعَدْنَ، فَهُنَّ أكثَرُ واعِدٍ ... خُلْفًا، وَأمْلَحُ حانِثٍ أيْمَانَا وَإذَا رَأَيْنَ مِنَ الشّبَابِ لدُونَةً، ... فَعَسَتْ حِبَالُكَ أَنْ تَكونَ مِتَانَا! وهذا شعر بارع مقدم. (2) مضى بيان هذا البيت فيما سلف 3: 571. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 "وأربعوا"، إذا دخلوا في الربيع = فكذلك"أسلموا"، إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. (1) * * * فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله:"إنّ الدّين عند الله الإسلام": إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة. (2) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6763 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الدين عندَ الله الإسلام"، والإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، (3) وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به. 6764 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثنا أبو العالية في قوله:"إن الدين عند الله الإسلام"، قال:"الإسلام"، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له،   (1) انظر تفسير"الإسلام" و"السلم" فيما سلف 2: 510، 511 / ثم 3: 73، 74، 92، 94، 110 / ثم 4: 251-255. (2) في المطبوعة: "في العبودية والألوهية"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد مضى استعماله العبودة فيما سلف ص: 271، تعليق: 1. و"الألوهة، والإلاهة، والألوهية": العبادة، وانظر ما سلف 1: 124 وما قبلها. (3) قوله: "بما جاء به"، الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، ولا تتم شهادة إلا به، بأبي هو وأمي. وهكذا ذكره السيوطي بنصه في الدر المنثور 2: 12، ونسبه إلى عبد بن حميد أيضًا بهذا اللفظ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 وإقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزكاة، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ. 6765 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أَسْلَمْنَا) [سورة الحجرات: 14] ، قال: دخلنا في السِّلم، وتركنا الحرب. (1) 6766 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الدين عند الله الإسلام"، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ، والتصديق للرسل. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو"الكتاب" الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتّتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضًا؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض ="إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم"، يعني: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. (3) فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله، على علم منهم بخطأ   (1) الأثر: 6765- سيأتي في تفسير"سورة الحجرات" (26- 90 بولاق) ، بغير هذا اللفظ مطولا: "وأسلمنا: استسلمنا، دخلنا في السلم، وتركنا المحاربة والقتال". وإسناده هو هو. (2) الأثر: 6766 - رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وأسقط"من" من قوله: "من التوحيد". وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6761. (3) انظر تفسير"البغي" فيما سلف 2: 342 / ثم تفسير مثل هذه الآية فيما سلف 4: 281، 282. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلافَ الذي هم عليه، تعدِّيًا من بعضهم على بعض، وطلبَ الرياسات والملك والسلطان، كما:- 6767 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، قال: قال أبو العالية، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم ="بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس. 6768 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية:"إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا، (1) بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه، ولكنا أتِينا من قبلها. 6769 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، (2) واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى   (1) في المطبوعة: "ما كان علينا من يكون بعد أن يأخذ فينا ... " حذف"علينا" الثانية فاختلط الكلام اختلاطًا، والصواب من المخطوطة. ومعناه: ما كان يضيرنا أن يكون علينا واليًا كائنًا من كان، بعد أن يقيم فينا كتاب الله وسنة رسوله؟ (2) هكذا جاء نص هذه العبارة في المخطوطة أيضًا، وفي الدر المنثور 2: 13، كأنه قال: استودع كل حبر جزءًا منه. وهي عبارة فيها ما فيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 أهَرقوا بينهم الدماء، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم، بغيًا بينهم على الدنيا، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله:"إن الدّين عند الله الإسلام" إلى قوله:"والله بصير بالعباد". * * * فقولُ الربيع بن أنس هَذا، (1) يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب"، اليهودُ من بني إسرائيل، دون النَّصارى منهم، وغيرهم. (2) * * * وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل. ذكر من قال ذلك: 6770 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم"، الذي جاءك، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك ="بغيًا بينهم"، يعني بذلك النصارى. (3) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول الربيع بن أنس هذا يدل ... "، وهو فاسد جدًا. فإن هذا قول الطبري وتعليقه على خبر الربيع. والصواب ما أثبت، كما هو ظاهر. (2) قوله: "دون النصارى منهم" معناه: دون النصارى من الذين أوتوا العلم. أما قوله: "وغيرهم"، أي: ودون غير النصارى من الذين أوتوا العلم، إشارة إلى ما جاء في خبر ابن عمر السالف رقم 6768. وكان في المطبوعة: "دون النصارى منهم ومن غيرهم"، وهي جملة لا يستقيم معناها، فحذفت"من" لذلك. (3) الأثر: 6770- رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6766، وقوله: "يعني بذلك النصارى"، ليس في ابن هشام، وكأنه من تفسير الطبري للخبر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه"سريع الحساب"، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في معنى"سريع الحساب"، كان مجاهد يقول: 6771 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب"، قال: إحصاؤه عليهم. 6772 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب"، إحصاؤه. * * *   (1) انظر معنى"الكفر" و"الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) ، و (أبى) . وتفسير"سريع الحساب" فيما سلف 4: 207، وأيضًا: 274، 275 / ثم: هذا: 101، 102. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، (1) فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول:"أسلمت وجهي لله"، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. (2) * * * وأما قوله:"ومن اتبعني"، فإنه يعني: وأسلم من اتبعني أيضًا وجهه لله معي. و"من" معطوف بها على"التاء" في"أسلمت"، كما:- 6773 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فإن حاجُّوك" أي: بما يأتونك به من الباطل، من قولهم:"خَلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا"، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق ="فقل أسلمت وَجهي لله ومن اتبعني". (3) * * *   (1) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 201 / ثم 5: 429، 430. (2) انظر تفسير"أسلم وجهه" فيما سلف 2: 510-512، وتفسير"الإسلام" في مراجعه التي ذكرتها آنفًا ص: 275 تعليق: 1. (3) الأثر: 6773 - رواه ابن هشام في سيرته 2: 227، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6770. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 القول في تأويل قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وقل"، يا محمد، = للذين أوتوا الكتاب" من اليهود والنصارى ="والأميين" الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ="أأسلمتم"، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، (1) وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه ="فإن أسلموا"، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له ="فقد اهتدوا"، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. (2) * * * فإن قال قائل: وكيف قيل:"فإن أسلموا فقد اهتدوا" عقيب الاستفهام؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل:"هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك"؟ قيل: ذلك جائز، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جل ثناؤه: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [سورة المائدة: 91] ، يعني: انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) [سورة المائدة: 112] ، وإنما هو مسألة، كما يقول الرجل:"هل أنت   (1) "الأشراك" جمع"شريك"، كما يقال: يتيم وأيتام وشريف وأشراف. وقياسه شركاء، مثل شرفاء. (2) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف في فهارس اللغة. وتفسير"الأميين" فيما سلف: 257-259، والأثر رقم: 5827، وفي كلام الطبري نفسه 5: 441، تعليق: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 كافٌّ عنا"؟ بمعنى: اكفف عنا، وكما يقول الرجل للرجل:"أينَ، أين"؟ بمعنى: أقم فلا تبرح، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا) [سورة الصف: 10، 11] ، ففسرها بالأمر، (1) وهي في قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله:"هل أدلكم"، وفي قراءة عبد الله على قوله:"آمنوا"، على الأمر، لأنه هو التفسير. (2) * * * وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل: 6774 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، الذين لا كتاب لهم ="أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا" الآية. (3) 6775 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، قال: الأميون الذين لا يكتبون. * * *   (1) في معاني القرآن للفراء 1: 202"ففسر (هل أدلكم) بالأمر"، وما هاهنا شبيه بالصواب أيضًا. هذا، وقراءتنا في مصحفنا"تؤمنون بالله" مكان"آمنوا" في قراءة عبد الله. (2) هذا نص ما في معاني القرآن للفراء 1: 202. (3) الأثر: 6774- ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6773. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن تولوا"، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، (1) فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي ="والله بصيرٌ بالعباد"، (2) يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلامَ. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (3) "إن الذين يكفرون بآيات الله"، أي: يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها، من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، كما:- 6776 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعًا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا،   (1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162-164، 298، 299 / ثم 3: 115، 131 / ثم 4: 237. (2) انظر تفسير"بصير بالعباد" فيما سلف آنفًا: 262. والمراجع في التعليق: 3. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناءه" والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 من اليهود والنصارى فقال:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حقّ" إلى قوله:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء". (1) * * * وأما قوله:"ويقتلون النبيين بغير حقّ"، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى، وما أشبههما من أنبياء الله. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) ، بمعنى القتل. * * * وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة: (وَيُقَاتِلُونَ) ، بمعنى القتال، تأوّلا منه قراءةَ عبد الله بن مسعود، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله: (وَقَاتَلُوا) ، فقرأ الذي وصفنا أمرَه من القراءة بذلك التأويل: (وَيُقَاتِلُونَ) . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه:"ويقتلون"، لإجماع الحجة من القرأة عليه به، (3) مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله.   (1) الأثر: 6776- ابن هشام 2: 227 من بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6774. (2) انظر تفسير"يقتلون النبيين بغير الحق" فيما سلف 2: 140-142. (3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وهي عبارة لا أرتضيها، وأظن صوابها"لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به". وانظر معاني القرآن للفراء 1: 202 في بيان قراءة الكسائي هذه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 ذكر من قال ذلك: 6777 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكِّرون [قومهم]- ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون، (1) فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم، فيذكِّرون قومهم فيقتلون، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس. 6778 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكِّرونهم، فيقتلونهم. 6779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب، كان الوحي يأتي إليهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون على ذلك، (2) فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس. 6780 - حدثني أبو عبيد الرصّابي محمد بن حفص قال، حدثنا ابن حِمْير قال، حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله، أىّ الناس أشدّ عذابًا يوم القيامة؟   (1) هكذا نص الطبري، ونقله كذلك في الدر المنثور 2: 13 وزدت منه ما بين القوسين. ومعنى عبارته أن الوحي كان يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل، كما هو بين في الروايات الأخرى، التي رواها البغوي في تفسيره (هامش ابن كثير) 2: 117، 118، والقرطبي 4: 46. (2) قوله: "كان ناس من بني إسرائيل. . . كان الوحي يأتي إليهم" بحذف خبر"كان" الأولى، عبارة فصيحة محكمة في العربية، قد نبهت إلى مثلها مرارًا فيما سلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 قال:"رجل قتل نبيًّا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس" (1) إلى أن انتهى إلى"وما لهم من ناصرين"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعًا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله عز وجل. (2) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: إنّ الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين يَنهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة، والدر المنثور 2: 13"الذين يقتلون النبيين"، وفي غيرها"ويقتلون" وأثبت ما جاء في رواية ابن أبي حاتم، فيما أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 118، وهو نص التلاوة. (2) الأثر: 6780-"أبو عبيد الوصابي: محمد بن حفص الحمصي" مضت ترجمته برقم: 129 (وانظر ما سيأتي رقم: 7009) ، وكان هناك في الإسناد"حدثني أبو عبيد الوصابي، قال حدثنا محمد بن حفص" فرجح أخي السيد أحمد أن يكون خطأ، وقد أصاب، وكان الأجود حذف"قال حدثنا" من ذلك الإسناد. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر" والصواب من تفسير ابن كثير 2: 118."وابن حمير" هو: "محمد بن حمير بن أنيس القضاعي"، روى عن إبراهيم عن أبي عبلة، ومحمد بن زياد الألهاني، ومعاوية بن سلام وغيرهم. سئل عنه أحمد فقال: "ما علمت إلا خيرًا"، وقال ابن معين: "ثقة" وقال ابن أبي حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به". وكان في المطبوعة: "ابن حميد" بالدال، وهو خطأ، صوابه من ابن كثير، والبغوي بهامشه: 2: 118. وهو مترجم في التهذيب. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وذكر أبا عبيد الوصابي هذا فقال: "أدركته وقصدت السماع منه، فقال لي بعض أهل حمص: ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير، فتركته". أما "أبو الحسن مولى بني أسد"، فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان 6: 364 قال؛: "أبو الحسن الأسدي" حدثنا عنه أبو كريب. مجهول، انتهى. ولم ينفرد عنه أبو كريب، بل روى عنه محمد بن حمير. وقال في روايته"مولى بني أسد، عن مكحول"، أخرج حديثه الطبري وابن أبي حاتم، وذكره أبو حاتم فيمن لا يعرف اسمه". هذا وقد خرجه البغوي من طريق محمد بن عمرو بن حنان الكلبي، عن محمد بن حمير" (بهامش تفسير ابن كثير 2: 118) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 القول في تأويل قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فبشِّرهم بعذاب أليم"، فأخبرهم يا محمد وأعلمهم: أنّ لهم عند الله عذابًا مؤلمًا لهم، وهو الموجع. (1) * * * وأما قوله:"أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"، فإنه يعني بقوله:"أولئك"، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أنّ الذين ذكرناهم، هم ="الذين حبطت أعمالهم"، يعني: بطلت أعمالهم (2) ="في الدنيا والآخرة". فأما في الدنيا، (3) فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها، لأنها كانت كفرًا بالله، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم. * * * وأما قوله:"وما لهم من ناصرين"، فإنه يعني: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذُهم منه. (4) * * *   (1) انظر معنى"بشر" فيما سلف 1: 383 / 2: 393 / 3: 221 = ثم تفسير: "أليم" فيما سلف 1: 283 / 2: 140، 377، 469، 540 / 3: 330. (2) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فأما قوله: في الدنيا ... "، وحذفت قوله، لأني أرجح أنها سبق قلم من الناسخ، لأن سياق كلامه وسياق قوله بعد: "وأما في الآخرة" يقتضي حذفها. (4) انظر معنى"نصر" فيما سلف 2: 35، 36، 489، 564 / ثم 5: 581. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد (1) ="إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، يقول: الذين أعطوا حظًّا من الكتاب ="يدْعون إلى كتاب الله". (2) * * * واختلف أهل التأويل في"الكتاب" الذي عنى الله بقوله:"يدعون إلى كتاب الله". فقال بعضهم: هو التوراة، دعاهم إلى الرضى بما فيها، إذ كانت الفِرَق المنتحِلةُ الكتبَ تقرُّ بها وبما فيها: أنها كانت أحكامَ الله قبل أن ينسخ منها ما نُسخ. ذكر من قال ذلك: 6781 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، (3) والحارث   (1) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف 3: 160 / ثم 5: 429، 430. (2) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف 4: 206. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "نعيم بن عمرو" وكذلك جاء في تفسير القرطبي 4: 50، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 119، ولكن الذي جاء في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته 2: 201، "نعمان بن عمرو"، وكذلك جاء ذكره قبل ذلك في أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيرة ابن هشام 2: 161، وكذلك جاء أيضًا فيما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 14، ونسبه إلى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والاختلاف في أسماء يهود كثير مشكل!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 ابن زيد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال:"على ملة إبراهيم ودينه. فقالا فإنّ إبراهيم كان يهوديًّا! فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمُّوا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم! فأبيا عليه، (1) فأنزل الله عز وجل:"ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يُدْعونَ إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يَتولى فريق منهم وهم معرضون" إلى قوله:"ما كانوا يفترون". 6782 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت المدراس = فذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمَّا إلى التوراة (2) = وقال أيضًا: فأنزل الله فيهما:"ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" = وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب. (3) * * * وقال بعضهم: بل ذلك كتابُ الله الذي أنزله على محمد، وإنما دُعِيت طائفةٌ منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ، فأبتْ. ذكر من قال ذلك: 6783 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم   (1) في المطبوعة: "فأبوا عليه"، وهو تصرف من سوء رأي الناشر الأول، والصواب من المخطوطة، وسائر المراجع المذكورة في التعليق على الأثر التالي. (2) "فهلما"، يعني بالتثنية، وأما الرواية السالفة"فهلموا" جميعًا. وجاء في مطبوعة سيرة ابن هشام 2: 201"فهلم" مفردة، وهو خطأ، فإن النسخة الأوروبية من سيرة ابن هشام، التي نشرت عنها طبعة الحلبي هذه، نصها"فهلما". فوافقت رواية الطبري. فهذا تحريف آخر من الطابعين!! وانظر إلى دقة أبي جعفر الطبري في إثبات الاختلاف اليسير في الرواية، وإلى استخفاف الناشرين من أهل دهرنا في إهمال ما هو مكتوب مرقوم بين أيديهم وتحت أبصارهم!! (3) الأثران: 6781، 6782 - سيرة ابن هشام 2: 201، وتفسير القرطبي 4: 50، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 119، والدر المنثور 2: 14. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، أولئك أعداء الله اليهود، دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وإلى نبيه ليحكم بينهم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم تولوا عنه وهم معرضون. 6784 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، الآية قال: هم اليهود، دُعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون! 6785 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم"، قال: كان أهل الكتاب يُدْعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون، وفي الحدود. (1) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، فيتولون عن ذلك. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود = الذين كانوا بين ظَهراني مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، ممن قد أوتي علمًا بالتوراة = أنهم دُعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا   (1) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة" ... بالحق يكون وفي الحدود"، وفي الدر المنثور 2: 14"بالحق وفي الحدود" بإسقاط"يكون"، وكلتاهما لا أراها تستقيم، وأنا أرجح أن صواب السياق يقتضي أن تكون: "بالحق يكون في الحدود" بحذف الواو. فقد جاء في رواية ابن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن الآية نزلت في أمر اليهودي واليهودية من أهل خيبر، فزنيا، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فرفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم برجمهما، فقالت الأحبار: ليس عليهما الرجم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيني وبينكما التوراة. فلما جاءوا بالتوراة، وانتهوا إلى آية الرجم، وضع ابن صوريا يده عليها وقرأ ما بعدها. والخبر مشهور. ثم إن كلام الطبري بعد مرجح لما قلت: وذلك قوله بعد: "ويجوز أن يكون ذلك كان في حد". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 تنازعوا فيه، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه، كان أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وأمرَ نبوته = ويجوز أن يكون ذلك كان أمرَ إبراهيم خليل الرّحمن ودينه = ويجوز أن يكون ذلك ما دُعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به = ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ. فَإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة، فأبى الإجابة فيه وكتمه بعضهم. ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ، (1) فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه، (2) هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم، وتكذيبهم بما في كتابهم، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به. * * * ومعنى قوله:"ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، (3) ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضًا عنه منصرفًا، وهو بحقيقته وحجته عالم. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان ممن أبى"، وهو كلام بلا معنى. وفي المخطوطة: "على أن ذلك كان من أبى"، وهو مثله، والصواب ما أثبت. والمعنى: ولا دلالة في الآية على تعيين أحد هذه الأسباب، وأيها هو الذي كان. وهذا تعبير قد سلف مرارًا في كلام الطبري، انظر 1: 520"ولو كان في العلم بأي ذلك من أي رضًا، لم يخل عباده من نصب دلالة عليها ... " و 2: 517"إذ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي ... " و 3: 64"ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي". (2) في المطبوعة: "الذي دعوا إليه جملته"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: "الذي دعوا إلى حمله" غير منقوطة، والصواب ما أثبت، لأن الآية دالة عليه، وذلك قوله تعالى: "يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم" ولأن السياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي، بعد، س: 13 ما يدل على صواب ذلك أيضًا. (3) انظر معنى"التولي" فيما سلف ص: 144 تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر معنى"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 وإنما قلنا إن ذلك"الكتاب" هو التوراة، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون، أبلغَ، وللعذر أقطعَ. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) } يعني جل ثناؤه بقوله:"بأنهم قالوا"، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق: من أجل قولهم: (1) "لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات" = وهي أربعون يومًا، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل (2) = ثم يخرجنا منها ربنا، اغترارًا منهم ="بما كانوا يفترون"، يعني: بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم. (3) فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده. * * *   (1) قوله: "من أجل قولهم" تفسير لمعنى الباء في قوله: "ذلك بأنهم قالوا"، وانظر تفسير ذلك وبيانه فيما سلف 2: 139 في تفسير قوله تعالى: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله". (2) انظر تفسير قولهم: "لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة" فيما سلف 2: 274-278. (3) التحلة (بفتح التاء وكسر الحاء، وتشديد اللام المفتوحة) : هو ما تكفر به يمينك. ويقال: "لم يفعل هذا الأمر إلا تحلة القسم": أي لم يفعله إلا بمقدار ما يحلل به قسمه ويخرج منه، غير مبالغ في ذلك الفعل. والمعنى: أن النار لا تمسهم إلا مسة يسيرة مثل تحلة قسم الحالف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6786 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا = قال الله عز وجل:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، أي قالوا:"نحنُ أبناء الله وأحباؤه". 6787 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، الآية، قال: قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يومًا، قال: يعني اليهود = قال: وقال قتادة مثله = وقال: هي الأيام التي نَصَبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل:"وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، حين قالوا:"نحن أبناد الله وأحباؤه". 6788 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج، قال مجاهد قوله:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، قال: غرّهم قولهم:"لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات". * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فكيف إذا جمعناهم"، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله، واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد، وتهديدٌ غليظٌ. وإنما يعني بقوله:"فكيف إذا جمعناهم" الآية: فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه، غير مظلوم فيه، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل، يُجزَي المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا. (1) * * * فإن قال قائل: وكيف قيل:"فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه"، ولم يقل: في يوم لا رَيب فيه؟ قيل: لمخالفة معنى"اللام" في هذا الموضع معنى "في". وذلك أنه لو كان مكان"اللام""في"، لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب؟ وليس ذلك المعنى في دخول"اللام"، ولكن معناه مع"اللام": فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب؟ فمع"اللام" في"ليوم لا ريب فيه" نيَّة فِعْل، وخبرٌ مطلوب قد   (1) انظر ألفاظ هذه الآية مفسرة فيما سلف، واطلبها في فهارس اللغة من الأجزاء الماضية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 ترك ذكره، أجزأت دلالةُ دخول"اللام" في"اليوم" عليه، منه. (1) وليس ذلك مع"في"، فلذلك اختيرت"اللام" فأدخلت في"اليوم"، دون"في". (2) * * * وأما تأويل قوله:"لا ريب فيه"، فإنه: لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (3) * * * وعنى بقوله:"ووُفِّيت"، ووَفَّى الله ="كلُّ نفس ما كسبت"، يعني: ما عملت من خير وشر (4) ="وهم لا يظلمون"، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه. * * * القول في تأويل قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ} قال أبو جعفر: أما تأويل:"قل اللهم"، فإنه: قل يا محمد: يا اللهُ. * * * واختلف أهل العربية في نصب"ميم""اللهم"، وهو منادًى، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ = وفي دخول"الميم" فيه، وهو في الأصل"الله" بغير"ميم".   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "قد ترك ذكره أخيرًا بدلالة دخول اللام في اليوم عليه منه"، وهو كلام خلو من المعنى، والظاهر أن الناسخ رأى تاء"أجزأت" متصلة بدال"دلالة"، فجعلها، "بدلالة" وجعل"أجزأ""أخيرًا" فذهب الكلام هدرًا ولغوًا. وسياق العبارة كما أثبتناها: "أجزأت منه دلالة دخول اللام في اليوم" فأخر"منه" على عادته في تأخير مثل ذلك في كل كلامه. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 202، 203، وعبارته هناك."تقول في الكلام: جمعوا ليوم الخميس، وكأن اللام لفعل مضمر في"الخميس"، كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس = لم تضمر فعلا. وقوله: جمعناهم ليوم لا ريب فيه = أي للحساب والجزاء". (3) انظر ما سلف 1: 228، 378 / ثم 6: 221. (4) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 2: 273، 274 / 3: 101، 128 / 4: 449 / 6: 131. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 فقال بعضهم: إنما زيدت فيه"الميمان"، لأنه لا ينادى بـ"يا" كما ينادى الأسماء التي لا"ألف" فيها ولا"لام". وذلك أن الأسماء التي لا"ألف" ولا"لام" فيها تنادى بـ"يا" كقول القائل:"يا زيد، ويا عمرو". قال: فجعلت"الميم" فيه خلفًا من"يا"، كما قالوا:"فم، وابنم، وهم، وزُرْقُم، (1) وُسْتهُم"، (2) وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف، ثم يبدل مكانه"ميم". قال: فكذلك حذفت من"اللهم""يا" التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا، وجعلت"الميم" خلفًا منها في آخر الاسم. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة"ودم، وهم"، والأولى"ودم" خطأ لا شك فيه، وسيأتي صوابه بعد أسطر، حين عاد فذكر الثلاثة جميعًا: "فم، وابنم، وهم"، على تصرف المطبوعة هناك في نص المخطوطة، ليوافق الذي كتبه هنا. أما قوله: "وهم"، فلم أعرف لها وجهًا أرتضيه، وهذه الكلمة جاءت في كلام الفراء في معاني القرآن 1: 203، وستأتي أيضًا كذلك بعد أسطر. وقد راجعتها في نسختي مخطوطة معاني القرآن، فإذا هي كذلك"وهم"، وعلى الميم شبيه بالشدة في النسختين المخطوطتين، وأغفلت ذلك المطبوعة. وقد وقف ناشر معاني القرآن عليها، فعلقوا بما نصه: (كأنه يريد"هم" الضمير، وأصلها"هوم"، إذ هي جمع"هو"، فحذفت الواو وزيدت ميم الجمع، وإن كان هذا الرأي يعزي إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية في مبحث الضمائر) ، وعلق بعض طابعي تفسير الطبري بما يأتي: (قوله: "ودم" كذا في النسخ، والكلمتان دم، وهم، لعلهما محرفتان عن: ابنم، ودلهم، أو دلقم، من الكلمات التي زيدت في آخرها الميم، وذكرها السيوطي في المزهر 2: 135) . والذي قاله ناشرو معاني القرآن، لا يقوم، لأن الميم في هم، وإن كانت زائدة من وجه، إلا أنها أتى بها لمعنى هو غير ما جاءت به الزيادة في"فم" و"ابنم"، ولعلة اختلف عليها النحويون اختلافًا كثيرًا. وأما ما قاله ناشر الطبري من أنها محرفة عن"دلهم أو دلقم"، فليس بشيء، لأن مطبوعات الطبري ومخطوطاته قد اتفقت عليه، وعجيب أن يتفق تصحيفها، وتصحيف نسختين من معاني القرآن، الذي ينقل الطبري نص كلامه. وبعد هذا كله أجدني عاجزًا كل العجز عن معرفة أصل هذه الكلمة، وعن وجه يرتضى في تصحيفها أو تحريفها أو قراءتها، وقد استقصيت أمرها ما استطعت، ولكني لم أنل إلا النصب في البحث، فعسى أن أجد عند غيري من علمها ما حرمني الله علمه، وفوق كل ذي علم عليم. (2) "زرقم، وستهم" (كلتاهما بضم الأول وسكون الثاني وضم الثالث) : رجل زرقم وامرأة زرقم، أزرق شديد الزرق. فلما طرحت الألف من أوله، زيدت الميم في آخره. وكذلك"رجل ستهم وامرأة ستهم": أسته، وهو العظيم الاست، الكبير العجز، فعل به ما فعل بصاحبه. وقال الراجز في امرأة: لَيْسَتْ بِكَحْلاَءَ وَلَكِنْ زُرْقُمُ ... وَلا بِرَسْحَاءَ وَلَكِنْ سُتْهُمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 وأنكر ذلك من قولهم آخرون، وقالوا: قد سمعنا العرب تنادي:"اللهم" بـ"يا" كما تناديه ولا"ميم"، فيه. قالوا: فلو كان الذي قال هذا القولَ مصيبًا في دعواه، لم تدخل العربُ"يا"، وقد جاءوا بالخلف منها. (1) وأنشدوا في ذلك سماعًا من العرب: وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... صَلَّيْتِ أَوْ كَبَّرتِ يَا أَللَّهُمَا ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا (2) ويُرْوَى:"سبَّحت أو كبَّرت". قالوا: ولم نر العرب زَادت مثل هذه"الميم" إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل:"الفم، وابنم، وهم"، (3) قالوا: ونحن نرى أنها كلمة ضُمّ إليها"أمَّ"، بمعنى:"يا ألله أمَّنا بخير"، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا: فالضمة التي في"الهاء" من همزة"أم"، لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا: ونرى أن قول العرب:"هلم إلينا"، مثلها. إنما كان"هلم"،"هل" ضم إليها"أمّ"، فتركت على نصبها. قالوا: من العرب من يقول إذا طرح"الميم":"يا اللهُ اغفر لي" و"يا أللهُ اغفر لي"، بهمز"الألف" من"الله" مرة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها على أصلها، لأنها"ألف ولام"، مثل"الألف واللام" اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف،   (1) في المطبوعة: "لم تدخله العرب يا"، وفي المخطوطة: "لم تدخله العرسه يا"، وهذا من عجلة الناسخ، فرددتها جميعًا إلى أصلهما. (2) لم يعرف قائله، والأبيات في معاني القرآن للفراء 1: 203، والجمل للزجاجي: 177 والإنصاف: 151، والخزانة 1: 359، واللسان (أله) وغيرها من كتب العربية والنحو، ومختلف من روايته، وجاءوا به شاهدًا على زيادة"ما" بعد"ياللهم" فروايته عند بعضهم"يا اللهم ما"، وبعد الأبيات زيادة زادها الكوفيون: مِنْ حَيْثُمَا وَكَيْفَمَا وَأَيْنَمَا ... فإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نَعْدَمَا (3) في المطبوعة: "مثل فم ودم وهم"، وأثبت نص المخطوطة، وهو موافق لنص الفراء في معاني القرآن 1: 203، وهو نص كلامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 إذ كانت لا تسقط منه، وأنشدوا في همز الألف منها: مُبَارَكٌ هُوَّ وَمَنْ سَمَّاهُ ... عَلَى اسْمِكَ اللُّهُمَّ يَا أَللهُ (1) قالوا: وقد كثرت"اللهم" في الكلام، حتى خففت ميمها في بعض اللغات، وأنشدوا: (2) كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبى رِيَاٍح ... يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الكُبَار (3) والرواة تنشد ذلك: يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ   (1) لم يعرف قائله، والبيتان في معاني القرآن 1: 203؛ والإنصاف: 150، واللسان (أله) . (2) هو الأعشى. (3) ديوانه: 193، ومعاني القرآن 1: 203، والخزانة 1: 345، واللسان (أله) ، وغيرها. من قصيدة يعاتب بها بني جحدر، وكانت بينه وبينهم نائرة، ذكرها في قصائد من شعره. وقبل البيت وهو أول القصيدة: أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا ... أَوْدَى بِها اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ بَادُوا، فلمَّا أنْ تآدَوْا ... قَفَّى عَلَى إِثْرِهِمْ قُدَارُ كَحَلْفةٍ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أودى بها: أهلكها وذهب بها. وقوله: "فلما أن تآدوا" من قولهم: "تآدى القوم تآديًا وتعادوا تعاديًا": تتابعوا موتًا. وأصله من آدى الرجل: إذا كان شاك السلاح قد لبس أداة الحرب، يعني أخذوا أسلحتهم فتقاتلوا حتى تفانوا. ومن شرح البيت"تآدوا" بمعنى تعاونوا وكثروا، فقد أخطأ، وذهب مذهبًا باطلا. يقول: لما هلكت إرم ودعاد، أتت على آثارهم ثمود، و"قدار" هو عاقر الناقة من ثمود فسموا القبيلة باسمه، إذ كان سببًا في هلاكهم إذ دمدم عليهم ربهم فسواها. وأبو رياح (بياء تحتية) رجل من بني ضبيعة، كان قتل رجلا من بني سعد بن ثعلبة جارًا لهم، فسألوه أن يحلف، أو يعطي الدية؛ فحلف لهم، ثم قتل بعد حلفته. فضربته العرب مثلا لما لا يغني من الحلف. وفي المطبوعة"رباح" بالباء الموحدة، وهو خطأ، وهذا البيت الأخير، جاء في هذا الموضع من الشعر في ديوانه، ولكن الأرجح ما رواه أبو عبيدة في قول الأعشى لبني جحدر: أَقْسَمتُمُ لا نُعْطِيَّنكُمْ ... إِلاّ عِرَارًا، فَذَا عِرَارُ والعرار: القتال. يقول: أقسمتم أن لا تعطونا إلا بعد قتال، فهذا هو القتال، قضى عليكم كما قضيت على أبي رياح حلفته الكاذبة إذ سمعها ربه الأكبر. والكبار (بضم الكاف) صيغة المبالغة من"كبير". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 وقد أنشده بعضهم: (1) يَسْمَعُهَا اللهُ واللهُ كُبَارُ (2) * * * القول في تأويل قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا مالك الملك، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره، كما:- 6789 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"قل اللهم مالك الملك"، أي رَبَّ العباد الملكَ، لا يقضى فيهم غيرك. (3) * * * وأما قوله:"تؤتي الملك ممن تشاء"، فإنه يعني: تُعطى الملك من تَشاء، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء. وقوله:"وتنزع الملك من تشاء"، يعني: وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، (4)   (1) قال الفراء: "وأنشدني الكسائي". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يسمعها الله والكبار"، وهو خطأ من الناسخ، والصواب ما في معاني القرآن للفراء 1: 203، والذي مضى جميعه هو من نص كلامه مع قليل من التصرف. وكذلك رواها شارح ديوانه، وكذلك سائر الكتب. وروى أبو عبيدة: "يسمعها الواحد الكبار". (3) الأثر: 6789- سيرة ابن هشام 2: 227، ونصه: "أي رب العباد، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره"، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6776. (4) سقط من المطبوعة: "يعني: وتنزع الملك ممن تشاء"، فأثبتها من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 فترك ذكر"أن تنزعه منه"، اكتفاءً بدلالة قوله:"وتنزع الملك ممن تشاء"، عليه، كما يقال:"خذ ما شئتَ = وكنْ فيما شئت"، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فيما شئت أن تكون فيه؛ وكما قال جل ثناؤه: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار: 8] يعني: في أيّ صورة شاءَ أن يركبك فيها ركبك. (1) * * * وقيل: إنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته. (2) ذكر من قال ذلك: 6790 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وذكر لنا: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته، فأنزل الله عز وجل:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء" إلى"إنك على كل شيء قدير". 6791 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: ذُكر لنا والله أعلم: أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله. * * * وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى"الملك" في هذا الموضع: النبوة. ذكر الرواية عنه بذلك: 6792 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"، قال: النبوّة.   (1) ما سلف مختصر ما في معاني القرآن للفراء 1: 204-205، وقد وفاه حقه. (2) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148، 149 / 2: 488 / 5: 312، 315، 371. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 6793- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * القول في تأويل قوله: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وتعز من تشاء"، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له ="وتذلّ من تشاء" بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه ="بيدك الخير"، أي: كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا، كما:- 6794 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"تؤتي الملك من تشاء"، الآية، أي: إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك (1) ="إنك على كل شيء قدير"، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك. (2) * * *   (1) نص روايته ابن هشام: "أي: لا إله غيرك". (2) الأثر: 6794- سيرة ابن هشام 2: 227 وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6789. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 القول في تأويل قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"تولج" تُدْخل، يقال منه:"قد ولَج فلان منزله"، إذا دخله،"فهو يَلِجه وَلْجًا ووُلوجًا ولِجَةً" (1) - و"أولجته أنا"، إذا أدخلته. * * * ويعني بقوله:"تولج الليل في النهار" تدخل ما نقصتَ من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا ="وتولج النهارَ في الليل"، وتدخل ما نقصتَ من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار، كما:- 6795 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهار في الليل"، حتى يكون الليل خمسَ عشرةَ ساعة، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمسَ عشرة ساعة، والليل تسع ساعات. 6796 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار. (2) 6797 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في   (1) قوله: "ولجا" مصدر لم تذكره كتب اللغة. وقوله"لجة" بوزن"عدة وزنة". (2) الأثر: 6798-"حفص بن عمر العدني"، مترجم في الكبير 1 / 2 / 362، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 182. وقد مضى هذا الإسناد برقم: 533، 1406، وسيأتي أيضًا برقم: 6814، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "حفص عن عمر"، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 الليل" قال: ما ينقص من أحدهما في الآخر، يعتقبان = أو: يتعاقبان، شك أبو عاصم = ذلك من الساعات. (1) 6798 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، ما ينقص من أحدهما في الآخر، يتعاقبان ذلك من الساعات. 6799 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل. 6800 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: هو نقصان أحدهما في الآخر. 6801 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: يأخذ الليل من النهار، ويأخذ النهار من الليل. يقول: نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل. 6802 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، (2) سمعت الضحاك يقول في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، يعني أنه يأخذ أحدُهما من الآخر، فيكون الليل أحيانًا أطول من النهار، والنهار أحيانًا أطول من الليل.   (1) في المطبوعة: "ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر، متعاقبان ... " بزيادة"يدخل" وليست في المخطوطة، وانظر الأثر التالي. وقوله"يعتقبان" في المخطوطة: "معتقبان" غير منقوطة، وهو تحريف، والذي في المطبوعة تصرف لا معنى له. (2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في التفسير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 6803 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: هذا طويل وهذا قصير، أخذ من هذا فأولجه في هذا، حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيَّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ". ذكر من قال ذلك: 6804 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: هي النطفة تخرج من الرّجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة. 6805 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: الناس الأحياء من النُّطف والنُّطف ميتة، ويخرجها من الناس الأحياء، والأنعام. 6806 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 6807 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، فذكر نحوه. 6808 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، فالنطفة ميتة تكون، تخرج من إنسان حيّ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة. 6809 - حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال، حدثنا أشعث السجستاني قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله."تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة. (1) 6810 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ. 6811 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ" الآية، قال: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميِّتةً من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنَّبْت كذلك = قال ابن جريج: وسمعت يزيد بن عويمر يخبر، عن سعيد بن جبير قال: إخراجه النطفة من الإنسان، وإخراجه الإنسان من النطفة. (2)   (1) الأثر: 6809 -"محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي"، ثقة. روى عن أشعث بن عبد الله السجستاني، وروى عنه الأربعة، والطبري وغيرهم، مترجم في التهذيب. وقد مضى في رقم: 6255. وكان في المطبوعة: "حدثني محمد بن عمرو، وابن علي، عن عطاء المقدمي"، وفي المخطوطة: "محمد بن عمرو بن علي، عن عطاء المقدمي"، وكلاهما خطأ، والصواب ما أثبت. (2) الأثر: 6811-"يزيد بن عويمر"، لم أجد في الرواة من يسمى بذلك، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف لم أهتد إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 6812 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: النطفة ميتة، فتخرج منها أحياء ="وتخرج الميت من الحيّ"، تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء، والحبّ ميتٌ تخرج منه حيًّا ="وتُخرج الميت من الحيّ"، تخرج من هذا الحيّ حبًّا ميتًا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"أنه يخرج النخلة من النواة، والنواةَ من النخلة، والسنبل من الحب، والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض". ذكر من قال ذلك. 6813 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبد الله، عن عكرمة قوله:"تخرج الحي من الميت"، قال: هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة، ثم يخرج منها الحيّ. 6814 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله."تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة. * * * وقال آخرون:"معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافرَ من المؤمن". ذكر من قال ذلك: 6815 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، يعني المؤمن من الكافر والكافرَ من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميّتُ الفؤاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 6816 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن في قوله:"تُخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. (1) 6819 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الحسن قرأ:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن. (2) 6820 - حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، أو عن ابن مسعود = وأكبر ظني أنه عن سلمان = قال: إن الله عزّ وجل خمّر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال: أربعين يومًا - ثم قال بيده فيه، (3) فخرج كل طيِّب في يمينه، وخرج كل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، ثم خلق منها آدم، (4) فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرجُ الميت من الحي، يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. (5)   (1) سقط من الترقيم 6817، 6818. (2) الأثر: 6819-"سعيد بن عمرو"، لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون سقط من إسناده شيء، وأن صوابه"عبد الوارث بن سعيد، عن ... ". وعبد الوارث مترجم فيما سلف رقم: 2154. (3) في المخطوطة: "ثم قال بعده فيه"، خطأ؛ وقوله: "قال بيده"، أي حرك يده. (4) في المخطوطة-: "ثم خلط بينهما وقال. . . فمن ثم يخرج"، وبين الكلام بياض، وأتمته المطبوعة من الدر المنثور. (5) الأثر: 6820-"بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي" من شيوخ أحمد وإسحاق. قال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة". مترجم في التهذيب. و"سليمان التيمي"، هو: "سليمان بن طرخان التيمي"، روى عن أنس بن مالك وطاوس، ثقة. مترجم في التهذيب."وأبو عثمان" هو"أبو عثمان الصنعاني: شراحيل بن مرثد"، روى عن سلمان وأبي الدرداء ومعاوية وأبي هريرة وكعب الأحبار. قال ابن حبان في الثقات: "صاحب الفتوح، يروي المراسيل" وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 15، ونسبه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وأبو الشيخ في العظمة، (أخرج مثله، ونسبه لابن مردويه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 6821 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النَّعْمة، (1) فقال: من هذه؟ قالت إحدى خالاتك! قال: إن خَالاتي بهذه البلدة لغرائب! (2) وأيّ خالاتي هذه؟ قالت: خالدة ابنة الأسود ابن عبد يغوث. (3) قال: سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت! وكانت امرأة صالحةً، وكان أبوها كافرًا. (4) 6822 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنًا، وأن المؤمن يلد كافرًا؟ فقال: هو كذلك. (5) * * *   (1) قوله: "حسنة النعمة"، في المطبوعة: "النغمة" بالغين المعجمة، وهو خطأ، والنعمة (بفتح النون وسكون: العين) المسرة والفرح والترفه، وكأنه يعني ما يبين عليها من أثر الترف والنعمة. بيد أن الذي رواه ابن سعد، وما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة: "حسنة الهيئة". (2) في المطبوعة: "بهذه البلد"، وتاء"البلدة" في المخطوطة شبكت في دالها، واختلطت بها لام"لغرائب"، والذي أثبته هو نص ما في الإصابة، وفي ابن سعد"بهذه الأرض". (3) في المطبوعة والمخطوطة: "خلدة ابنة الأسود"، وأخشى أن يكون أصلها"خالدة" كما في سائر الكتب، ورسمت بحذف الألف كما كانوا يكتبون قديمًا. وهي خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم"آمنة بنت وهب بن عبد مناف"، فهو أخت يغوث بن وهب. أما الأسود بن يغوث، فهو أحد المستهزئين حنى جبريل ظهره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله: "خالي! خالي! "، فقال جبريل: "دعه عنك! "، فمات الأسود. (4) الأثر: 6821- رواه ابن سعد في الطبقات 8: 181، وذكر طرقه الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"خالدة بنت الأسود". (5) الأثر: 6822-"محمد بن سنان الفزاز" سلفت ترجمته برقم: 1999، 2056، و"أبو بكر الحنفي"، هو"عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله بن شريك البصري"، روى عنه أحمد وإسحاق وابن المديني ومحمد بن بشار، ثقة. مترجم في التهذيب."وعباد بن منصور الناجي"، روى عن عكرمة، وعطاء والحسن، والقاسم بن محمد وغيرهم. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر رقم: 6827 فيما يلي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب، تأويلُ من قال:"يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياءَ من النُّطف الميتة = وذلك إخراجُ الحيّ من الميت = ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء = وذلك إخراج الميت من الحيّ". وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت. فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًا وبهائمَ وأنعامًا أحياءً. وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زَايله منه ميت. وذلك هو نظير قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة البقرة: 28] . * * * وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن = فإن ذلك، وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهرَ في استعمال الناس في الكلام. وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة منهم: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بالتشديد، وتثقيل"الياء" من"الميت"، بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد ماتَ، ومما لم يمت. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 وقرأت جماعة أخرى منهم: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بتخفيف"الياء" من"الميْت"، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات، دون الشيء الذي لم يمت، ويُخرج الشيء الميت، دون الشيء الذي لم يمت، من الشيء الحي. * * * وذلك أن"الميِّت" مثقل"الياء" عند العرب: ما لم يَمتْ وسيموت، وما قد مات. وأما"الميْت" مخففًا، فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعتَ قالوا:"إنك مائتٌ غدًا، وإنهم مائتون". وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسمُ منه. يقال:"هو الجائد بنفسه = والطائبة نفسه بذلك"، وإذا أريد معنى الاسم قيل:"هو الجوادُ بنفسه = والطيِّبة نفسه". (1) * * * قال أبو جعفر: فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب، قراءةُ من شدّد"الياء" من"الميِّت". لأن الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجلَ فصارت ميِّتة، وسيخرجه منها بعد أن تُفارقه وهي في صلب الرجل ="ويخرج الميِّت من الحيّ" النطفةَ التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميِّتًا، وهي قبل خروجها منه حيَّة. فالتشديد أبلغ في المدح وأكملُ في الثناء. * * *   (1) انظر ما سلف في"الميت" 3: 318، 319، وهذا البيان عن معناه هنا، أجود مما تجده في كتب اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 القول في تأويل قوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يُعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه، (1) بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخولَ انتقاص في خزائنه، ولا الفناءَ على ما بيده، (2) كما:- 6823 - حدثني المثتي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وترزق من تشاء بغير حساب"، قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقُص ما عنده تبارك وتعالى. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: اللهمّ يا مالك الملك تُؤتي الملك من تَشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إله وربٌّ وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكًا معك، (3) أو أنه لك ولدٌ = وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء، تُولج الليل في النهار وتُولج النهارَ في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميِّت حيًّا ومن حي ميِّتًا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحدٌ سواك، ولا يستطيعه غيرك، كما:- 6824 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهارَ في الليل وتخرجُ الحيّ من الميِّت وتخرج الميِّت من الحيّ"، أي: بتلك القدرة = يعني: بالقدرة التي تؤتي   (1) انظر معنى"الرزق" فيما سلف 4: 274 / 5: 43، 44. (2) انظر تفسير"بغير حساب" فيما سلف 4: 274، 275. (3) في المطبوعة: "واتخذوه" والصواب من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 الملك بها من تشاء وتنزعهُ ممن تشاء ="وترزُق من تشاء بغير حساب"، لا يقدر على ذلك غيرُك، ولا يصنعه إلا أنت. أي: فإن كنتُ سلَّطتُ عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله =: من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب، لتجعله آية للناس، (1) وتصديقًا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه - فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليكُ الملوك، (2) وأمرُ النبوّة ووضعها حيث شئت، (3) وإيلاجُ الليل في النهار والنهار في الليل، وإخراجُ الحيّ من الميت والميت من الحيّ، ورزقُ من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب. فكلّ ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم تكن لهم في ذلك عبرةٌ وبينة: أنْ لو كان إلهًا، (4) لكان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرُب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد! ! (5) * * *   (1) نص ابن هشام: "لأجعله آية للناس". (2) في المطبوعة: "كتمليك الملوك"، والصواب من المخطوطة وابن هشام. (3) في ابن هشام: "بأمر النبوة". (4) في المطبوعة: "فلم يكن"، وأثبت ما في ابن هشام وفي مطبوعة الحلبي من السيرة"أفلم تكن" من إحدى نسخه، وهي جيدة. وفي مطبوعة الطبري: "إذ لو كان إلهًا ... "، والصواب من المخطوطة وابن هشام. (5) الأثر: 6824- سيرة ابن هشام 2: 227، 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6794. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 القول في تأويل قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} قال أبو جعفر: وهذا نهيٌ من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر"يتخذِ"، لأنه في موضع جزمٌ بالنهي، ولكنه كسر"الذال" منه، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة. (1) * * * ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، (2) وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك ="فليس من الله في شيء"، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ="إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل، كما:- 6825 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفارُ عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللُّطف، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاةً".   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 205. (2) انظر تفسير"الولي" و"الأولياء" فيما سلف 2: 489، 564 / ثم: 5: 424 / 6: 141، 142 = والقول في"من دون" فيما سلف 2: 489. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 6826 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الحجاجُ بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد، قد بَطَنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زَنْبَر، (1) وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة، لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم! فأبى أولئك النفر إلا مُباطنتهم ولزومهم، فأنزل الله عز وجل:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى قوله:"والله على كل شيء قدير". (2) 6827 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، يقول: لا يتخذ المؤمن كافرًا وليًّا من دون المؤمنين. (3) 6828 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، أما"أولياء" فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه = إلا أن يتقي تقاةً، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءةَ من المؤمنين. 6829 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان،   (1) في المطبوعة: "بن زبير"، وصححته من سيرة ابن هشام، ومن ترجمته في الإصابة. وتسميته"رفاعة بن عبد المنذر"، ولكن هكذا جاء هنا، وكذلك في تفسير البغوي، وأظنه خطأ، فلم يذكروا ذلك في ترجمته. (2) الأثر: 6826- لم أجده في سيرة ابن هشام التي بين أيدينا من سيرة ابن إسحاق. وقوله: "بطنوا بنفر من الأنصار"، يقال: "بطن فلان بفلان يبطن بطونًا وبطانة" إذا كان خاصًا به، ذا علم بداخلة أمره، مؤانسًا له، مطلعًا على سره، ومنه المباطنة. (3) الأثر: 6827- انظر التعليق عل الأثر السالف رقم: 6822. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عباس:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبُه مطمئن بالإيمان. 6830 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحلّ ماله. 6831 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة. (1) 6832 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6833 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: قال أبو العالية: التقيَّة باللسان وليس بالعمل. 6834 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عُبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: التقيةُ باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقيَّة باللسان. 6835 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة   (1) خالق الناس يخالقهم مخالقة: عاشرهم على أخلاقهم، مثل"تخلق"، أي: تصنع وتجمل وتحسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان. * * * وقال آخرون: معنى:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة. ذكر من قال ذلك: 6836 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله:"إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، (1) الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين. 6837 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء"، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه، وقوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك. 6838 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة= فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على   (1) في المطبوعة في هذا الموضع"تقاة"، وهي في المخطوطة: "تقية" بتشديد الياء بالقلم، وكذلك أثبتها، وهي إحدى القراءتين كما سيذكر الطبري بعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 معنى الكلام. والتأويلُ في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمَل فيهم. * * * وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة" فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) ، على تقدير"فُعَلة" مثل:"تُخَمة، وتؤَدَة وتُكأة"، من"اتقيت". * * * وقرأ ذلك آخرون: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً) ، على مثال"فعيلة". * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءةُ عندنا، قراءةُ من قرأها:"إلا أن تتقوا منهم تُقاة"، لثبوت حجة ذلك بأنه القراءةُ الصحيحة، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب = (1) يعنى بذلك: متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به، يقول: فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب. * * *   (1) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ="إن تخفوا ما في صدوركم" من موالاة الكفار فتُسِرُّوه، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه ="يعلمه الله"، فلا يخفى عليه. يقول: فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا، وبالسيئة مثلها، كما:- 6839 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا، فقال:"إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه". * * * وأما قوله:"ويعلم ما في السموات وما في الأرض"، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا. * * * وأما قوله:"والله على كل شيء قدير"، فإنه يعني: والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذَّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 القول في تأويل قوله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا،"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا" = يعني غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم. * * * وكان قتادة يقول في معنى قوله:"محضرًا"، (1) ما:- 6840 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا"، يقول: موفَّرًا. * * * قال أبو جعفر: وقد زعم [بعض] أهل العربية أنّ معنى ذلك: (2) واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع:"واتقوا يوم كذا، وحين كذا". * * * وأما"ما" التي مع"عملت"، فبمعنى"الذي"، ولا يجوز أن تكون جزاءً، لوقوع"تجد" عليه. (3) وأما قوله:"وما عملت من سوء"، فإنه معطوف على قوله:"ما" الأولى، و"عملت" صلةٌ بمعنى الرّفع، لمَّا قيل:"تود". (4)   (1) هذا المعنى قلما تصيبه في كتب اللغة، فأثبته فيها. (2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق. (3) الوقوع: التعدي، وقد سلف شرح ذلك فاطلبه في فهرس المصطلحات. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "كما قيل تود"، والصواب ما أثبت. وقد استظهرت قراءتها من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 206، ونص كلامه: "وقوله وما عملت من سوء - فإنك ترده أيضًا على (ما) ، فتجعل (عملت) صلة لها في مذهب رفع لقوله (تود لو أن بينها) "، ويعني بذلك أن جملة"تود" مفعول ثان لقوله: "تجد"، كما كان"محضرًا" مفعولا ثانيًا. وسيأتي ذلك بعد قليل في تفسيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 فتأويل الكلام: يوم تَجد كل نفس الذي عملت من خير محضرًا، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا * * * "والأمد" الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح: كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الـ ... عُمْرِ، ومُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهْ (1) يعني: غاية أجله. وقد:- 6841 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، مكانًا بعيدًا. 6842 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أمدًا بعيدًا"، قال: أجلا. 6843 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا   (1) ديوانه: 112، وهذه رواية الطبري، وكان يروي ديوان الطرماح، وقرأه بالمسجد الجامع بمصر، وأملاه على الناس، وشرح غريبة. ولا أدري أأخطأ أم عنده رواية أخرى غير التي وصلتنا، فالشعر في ديوانه كما يلي: بعد أن ذكر دار صاحبته، وما بقي بها من النؤى والرماد: تَرَكَ الدَّهْرُ أهلَهُ شُعَبًا ... فَاسْتمَرَّتْ مِنْ دُونِهِمْ عُقَدُهْ وَكذَاكَ الزَّمَانُ يَطْرُدُ بالنَّاسِ ... إلى اليَوْمِ، يَوْمُهُ وغَدُهْ لاَ يُلِيثَانِ بِاخْتِلاَفِهِمَا المَرْءَ، ... وَإنْ طَالَ فِيهِمَا أَمَدُهْ كُلُّ حَيٍّ مُستَكْمِلٌ عِدَّةَ العُمْرِ، ... وَمُودٍ إذَا انْقَضَى عَدَدُهْ وقوله: "شعبًا"، أي متفرقون، واستمرت: اشتدت وأحكمت عقدة حبال الدهر، فلم يعد له أمل في اجتماع أحبابه بعد الفراق. وقوله: "لا يليثان"، من ألاثه يليثه: أخره، وهو من"اللوث"، وهو البطء والتأخير. يقول: إن اختلاف الأيام من يوم وغد، لا يؤخران أجل المرء وإن طال عمره، حتى يفنياه ويذهبا به. وقوله: "مود" أي: هالك، إذا انقضى عدد أيامه وأكله في هذه الحياة الدنيا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، قال: يسر أحدَهم أن لا يلقى عمله ذاكَ أبدًا يكونُ ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئةً يستلذّها. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: (2) تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه، كما:- 6844- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن في قوله:"ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد"، قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "خطيئته" وفي المخطوطة: "حطيته" هكذا نقطت، ورأيت الصواب أن أقرأها كما أثبتها. (2) في المطبوعة: "ومن رأفته بهم"، وفي المخطوطة: "وأرض رأفته بهم"، وصواب قراءتها ما أثبت. (3) الأثر: 6844-"والحسن"، هو الحسن البصري بلا ريب، فقد نسب هذا الأثر إليه ابن كثير في تفسيره 2: 125، والسوطي في الدر المنثور 2: 17، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عمرو بن الحسن"، فظهر أنه خطأ لا شك فيه. أما "عمرو"، فلم أستطع أن أقطع من يكون، فمن روى عن الحسن، ممن اسمه"عمرو" كثير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه. فقال بعضهم: أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا نحب ربنا"، فأمر الله جل وعز نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:"إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك. ذكر من قال ذلك: 6845 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن بكر بن الأسود قال، سمعت الحسن يقول: قال قومٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا نحبّ ربنا! فأنزل الله عز وجل:"قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه، وعذاب من خالفه. 6846- حدثني المثنى قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أبي عبيدة قال: سمعت الحسن يقول: قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا لنحب ربنا! فأنزل الله جل وعز بذلك قرآنًا:"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علمًا لحبه، وعذاب من خالفه. (1)   (1) الأثران: 6845، 6846، سيذكر الطبري ضعفهما عنده بعد قليل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 6847 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، يقولون: إنا نحب ربّنا! فأمرهم الله أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعل اتباع محمد علمًا لحبه. 6848- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن كنتم تحبون الله" الآية، قال: إن أقوامًا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل، فقال:"إن كنتم تحبون الله" الآية، كان اتباعُ محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولهم. (1) * * * وقال آخرون: بل هذا أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تَقولونه في عيسى من عظيم القول، إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 6849 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل إن كنتم تحبون الله"، أي: إن كان هذا من قولكم - يعني: في عيسى - (2) حبًّا لله وتعظيمًا له =،"فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، أي: ما مضى من كفركم ="والله غفور رحيم". (3) * * *   (1) في المخطوطة: "تصديق لقولهم"، والصواب ما في المطبوعة. (2) ما بين الخطين زيادة تفسير من أبي جعفر. وفي سيرة ابن هشام: "إن كان هذا من قولكم حقًا، حبًا لله ... " بزيادة"حقًا"، وأخشى أن يكون ناسخ الطبري قد أسقطها. (3) الأثر: 6849- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6824. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله."إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" جوابًا لقولهم، على ما قاله الحسن. وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدَ نَجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه. (1) فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها، خبرٌ عنهم، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها. * * * قال أبو جعفر: فإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فتأويلُ الآية: قل، يا محمد، للوفد من نصارى نجران: إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله، (2) وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون، حبًّا منكم ربَّكم = فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين، باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه، فإنه = إن اتبعتموني وصدّقتموني على   (1) في المطبوعة: "نظير أخبارنا"، وفي المخطوطة: "نظير احسار بالله" غير منقوطة. وظاهر أن المطبوعة حذفت ما كان رسمه"لله"، وظاهر أن قراءتنا لنصها هو الصواب إن شاء الله. (2) في المطبوعة: "إن كنتم تزعمون ... " بحذف"كما"، فأثبتها من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 ما أتيتكم به من عند الله = يغفرُ لكم ذنوبكم، فيصفح لكم عن العقوبة عليها، ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين، رحيمٌ بهم وبغيرهم من خلقه. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدًا، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي، ابتعثتُه بالحق، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، (1) وأنهم منهم، (2) بجحودهم نبوّتك، وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه، بعد علمهم بصحة أمرك، وحقيقة نبوتك، كما:- 6850 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل أطيعوا الله والرسول"، فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم="فإن تولوا" على كفرهم ="فإن الله لا يحبّ الكافرين". (3) * * *   (1) في المطبوعة: "من كفر بجحد ما عرف ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) قوله: "وأنهم منهم"، معطوف على قوله: "فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر ... "، "وأنهم منهم"، أي من هؤلاء الذين لا يحبهم الله، بجحودهم نبوتك. (3) الأثر: 6850- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6849. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما = وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته. (1) وإنما عنى ب"آل إبراهيم وآل عمران"، المؤمنين. * * * وقد دللنا على أن"آل الرجل"، أتباعه وقومه، ومن هو على دينه. (2) * * * وبالذي قلنا في ذلك روى القول عن ابن عباس أنه كان يقوله. 6851 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين"، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [سورة آل عمران: 68] ، وهم المؤمنون. 6852 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين. 6853 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم   (1) انظر تفسير"اصطفى" فيما سلف 3: 91، 69 / ثم 5: 312، 313. (2) انظر ما سلف 2: 37 / 3: 222، تعليق: 1. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 على العالمين، فكان محمدٌ من آل إبراهيم. 6854 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم" إلى قوله:"والله سميع عليم"، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوّة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران"ذريةً بعضها من بعض". * * * ف"الذرية" منصوبة على القطع من"آل إبراهيم وآل عمران"، لأن"الذرية"، نكرة،"وآل عمران" معرفة. (2) ولو قيل نصبت على تكرير"الاصطفاء"، لكان صوابًا. لأن المعنى: اصطفى ذريةً بعضُها من بعض. (3) * * * وإنما جعل"بعضهم من بعض" في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 71] ، وقال في موضع آخر: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 67] ، يعني: أنّ دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله:   (1) في المطبوعة: "المطيعين لربهم"، كما في الدر المنثور 2: 17، 18، ولكن المخطوطة واضحة جدًا، ومطابقة لقوله تعالى: "إن الله اصطفى آدم ... ". (2) انظر ما سلف في معنى"القطع"، وهو الحال، قريبًا ص: 270، تعليق: 3. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 207. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 "ذرية بعضها من بعض"، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، كما:- 6855 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذرية بعضها من بعض"، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له. * * * وقوله:"والله سميعٌ عليمٌ"، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا. * * * القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) } يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني"، فـ"إذْ" من صلة"سميع". (1) * * * وأمّا"امرأة عمران"، فهي أم مريم ابنة عمران، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل، (2) كذلك:- 6856 - حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه = وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل. (3) * * * فأما زوجها"عمران"، فإنه: عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن   (1) يعني أن الظرف"إذ" متعلق بقوله: "سميع" في الآية السابقة. وقد ظن الناشر الأول للتفسير، أن في الكلام سقطًا، وليس كذلك، والكلام تام لا خرم فيه. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 أحزيق (1) بن يوثم (2) بن عزاريا (3) بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو (4) بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر (5) بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا، كذلك:- 6857 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه. * * * وأما قوله:"رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا"، فإنّ معناه: إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة. * * * ونصب"محرّرًا" على الحال مما في الصفة من ذكر"الذي". (6) * * * "فتقبل مني"، أي: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ ="إنك أنت السميع   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريق" وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13. (2) في المطبوعة: "يويم"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وفي تاريخ الطبري: "يوثام" فجعلتها"ثاء" بغير ألف، مطابقة للرسم. (3) في تاريخ الطبري"عزريا" بغير ألف. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريهو" بالراء. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "يازم" بالزاي، وفي تاريخ الطبري: "يهشافاظ"، وكأنه الصواب. وفي المطبوعة: "أشا" بالشين المعجمة، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، بيد أن في المخطوطة والمطبوعة، قد جعل هذا والذي بعده اسمًا واحدًا كتب هكذا: "أسابرابان" والصواب ما أثبت من تاريخ الطبري. (6) في المطبوعة: "ونصب محررًا على الحال من (ما) التي بمعنى (الذي) ". فغيروا ما في المخطوطة، وأساءوا أشد الإساءة، ونسبوا إلى أبي جعفر إعرابًا لم يقل به، ومذهبًا لم يذهب إليه. فإن تصحيح المصحح جعل"محررًا" حالا من"ما"، والذي ذهب إليه الطبري أن"محررًا" حال من الضمير الذي في الجار والمجرور"في بطني"، والعامل في الجار والمجرور هو"استقر". وبين الإعرابين فرق بين. انظر تفسير أبي حيان 1: 437، وتفسير الألوسي 3: 118 وغيرهما. والذي أفضى به إلى هذا التبديل أنه استبهم عليه معنى"الصفة"، وهو: حرف الجر، وحروف الصفات هي حروف الجر، كما مضى 1: 299 تعليق: 1 / 3: 475 تعليق: 1 / 4: 227 تعليق: 1 / ثم: 247 تعليق: 3. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 العليم"، يعني: إنك أنتَ يا رب"السميع" لما أقول وأدعو ="العليمُ" لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته. (1) * * * وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ، امرأة عمران = الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما:- 6858 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أمّ يحيى عند زكريا، وكانت أم مَريم عند عمرانَ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم، فهي جنينٌ في بطنها. قال: وكانت، فيما يزعمون، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له، فتحرّكت نفسُها للولد، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا، جعلته لله نَذيرةً = و"النذيرة"، أن تعبِّده لله، فتجعله حبيسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا. 6859 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال = ثم ذكر امرأة عمران وقولها:"ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = أي نذرته، تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا = (2) "فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم". (3) 6860- حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة   (1) انظر معنى"النذر" فيما سلف 5: 580. (2) نص ابن هشام: "أي: نذرته فجعلته عتيقًا، تعبده لله، لا ينتفع به لشيء من الدنيا"، فتركت رواية الطبري على حالها. (3) الأثر: 6859- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6850. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"محررًا"، قال: خادمًا للبِيعة. (1) 6861 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد قال: خادمًا للكنيسة. 6862 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا"، قال: فرّغته للعبادة. 6863 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلته في الكنيسة، وفرّغته للعبادة. 6864 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي نحوه. 6865 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للكنيسة يخدُمها. 6866 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6867 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا. 6868 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء،   (1) الأثر: 6860-"عبد الرحمن بن الأسود بن المأمون، مولى بني هاشم" بغدادي، روى عن محمد بن ربيعة، وروى عنه الترمذي والنسائي، وابن جرير. مترجم في التهذيب. و"محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي" ابن عم وكيع. وهو ثقة. مترجم في التهذيب. والبيعة (بكسر الباء) : كنيسة النصارى، أو كنيسة اليهود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 عن سعيد بن جبير:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للبيعة والكنيسة. 6869 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانيّ قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: محرّرًا للعبادة. 6870 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، الآية، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها. 6871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: نذرت ولدها للكنيسة. 6872 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم"، قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا. 6873 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها. 6874 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه. 6875 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه. قال: وقوله:"نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = إنها للحرّة ابنة الحرائر ="محررًا" للكنيسة يخدمها. 6876 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إذ قالت امرأة عمران" الآية كلها قال: نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها. (1) * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلما وضعتها"، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت"الهاء" عائدة على"ما" التي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، لكان الكلام:"فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى". * * * ومعنى قوله: (وضعتها) "، ولدتها. يقال منه:"وضعت المرأة تَضَع وضْعًا". * * *   (1) سيب الشيء: تركه. وسيب الناقة أو الدابة: تركها تسيب حيث شاءت، والدابة سائبة، فإذا كانت نذرًا، كان لا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وهي التي قال الله فيها"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة". ثم قيل منه للعبد إذا أعتقه مولاه، وأراد أن لا يجعل ولاءه إليه، فهو لا يرثه، وللمعتق أن يضع نفسه وماله حيث شاء"سائبة". انظر ما سلف 3: 386 في خبر أبي العالية. أما قوله: "سيبتها" هنا، فإنه أراد أنها جعلتها سائبة لله، ليس لأحد عليها سبيل، وهو قريب من معنى"التحرير". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 ="قالت ربّ إني وضعتها أنثى"، أي: ولدت النذيرة أنثى ="والله أعلم بما وضعت". * * * واختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة القرأة: (وَضَعَتْ) ، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه: أنه العالم بما وضعت، من غير قيلها:"ربّ إني وضعتها أنثى". * * * وقرأ ذلك بعض المتقدّمين: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة:"والله أعلم بما ولدتُ مني". * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ"والله أعلم بما وضعتْ"، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها. * * * فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت = ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها -:"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس ="وإني سميتها مريم"، كما:- 6877 - حدثني ابن حميد قال، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى"، أي: لما جعلتها محرّرًا له نذيرة. (1) 6878 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:   (1) الأثر: 6877- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6859. ونص ابن هشام في المطبوعة الأوربية: "لما جعلتها محررًا له نذيرة" كنص الطبري هنا، وفي مطبوعة الحلبي: "محررًا لك"، وفي إحدى نسخ سيرة ابن هشام"محررة"، وهي صواب جيد، ولكن مطبوعة الطبري غيرت نص المخطوطة الذي أثبته، فجعلتها: "لما جعلتها له محررة نذيرة"، ولست أدري لم فعل ذلك!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 "وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى. 6879 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليس الذكر كالأنثى"، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك = (1) يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها = مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت: (2) "ليس الذكر كالأنثى". 6880 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قالت رب إني وضعتها أنثى"، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال:"وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم". 6881 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك = يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها، وتكنُسها = لما يصيبها من الأذى. 6882 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله:"رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى"، تقول: إنما يحرّر الغلمان. يقول الله:"والله أعلم بما وضعت"، فقالت:"إني سَمّيتها مريم".   (1) في المطبوعة: "لا تستطيع"، وفي المخطوطة: "لا تستطاع"، وهو الصواب، إلا أن الناسخ أخطأ فجعلها بالتاء الفوقية. (2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وأنا أرجح أن الصواب: "فعن ذلك قالت"، أي من أجل ذلك قالت. و"عن" هنا بمعنى التعليل، كما في قوله تعالى: "وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك". وهي عبارة مشهورة من نهج عبارات القدماء، وهي أجود من نص المخطوطة والمطبوعة وأشبه بالعربية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 6883 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة:"فلما وضعتها قالت رَبّ إني وضعتها أنثى" ="وليس الذكر كالأنثى"، يعني: في المحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال = أمها تقول ذلك. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) } قال أبو جعفر: تعني بقولها:"وإني أعيذُها بك وذُريتها"، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم، بك. * * * وأصل"المعاذ"، الموئل والملجأ والمعقل. (1) * * * = فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا. * * * 6884 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يَستهلّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران، فإنها لما وضعتها قالت:"رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، فضُرب دُونها حجاب، فطعَن فيه. (2)   (1) انظر ما سلف في تفسير"عاذ يعوذ" 1: 111، قال: "الاستعاذة: الاستجارة". (2) الحديث: 6884 - يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي المدني: تابعي فقيه ثقة من الثقات، من شيوخ مالك، احتج به في مواضع من الموطأ. وأخرج له الجماعة. والحديث سيأتي، عقب هذا، بإسنادين آخرين إلى ابن إسحاق، بهذا الإسناد، نحوه. وأشار إليه ابن كثير في التاريخ 2: 57، من رواية ابن إسحاق، دون تعيين في تخريجه. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 594، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هرير. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وإسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، قارئ أهل المدينة: ثقة مأمون، شارك مالكًا في أكثر شيوخه. ووقع في المستدرك ومختصر الذهبي: "يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن أبي هريرة". وزيادة"عن أبيه" في الإسناد - خطأ صرف، لا معنى لها. وأرجح أنه خطأ من ناسخي المستدرك. فإن والد يزيد هذا - غير معروف بالرواية، ولم يذكره أحد في رواة الحديث. ثم رواه ابن جرير بنحوه، بأسانيد متعددة، إلى رقم: 6899. وكلها عن أبي هريرة، إلا: 6893، فإنه عن ابن عباس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 6885 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود من ولد آدم له طَعنةٌ من الشيطان، وبها يستهلُّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإنّ أمها قالت حين وضعتها:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، فضرب دونهما حجاب، فطَعَن في الحجاب. 6886 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. 6887 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (1)   (1) الحديث: 6887 -عمرو- شيخ هارون: هو عمرو بن أبي قيس الرازي الأزرق، وهو ثقة، أثنى عليه الثوري. شعيب بن خالد البجلي، قاصي الري: ثقة، أثنى عليه الثوري أيضًا. وقال ابن عيينة: "حفظ من الزهري ومالك شابًا". وهو هنا يروي عن"الزهري". ووقع في المطبوعة"الزبير" بدل"الزهري". وهو خطأ. صوابه من المخطوطة. والحديث رواه البخاري 6: 338 - 339، من طريق شعيب، عن الزهري، بهذا، بنحوه. و"شعيب" - في إسناد البخاري-: هو"شعيب بن أبي حمزة الحمصي". وأما "شعيب بن خالد" فلم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير أبي داود. وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق شعيب بن أبي حمزة. وانظر: 6891. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 6888 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعِلّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد من بني آدم يمسُّه الشيطان بإصبعه، إلا مريم وابنها. (1) 6889 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها. (2) 6890 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمران، أن   (1) الحديث: 6888- عجلان مولى المشمعل: تابعي ثقة. والحديث: رواه أحمد في المسند: 7866، عن إسماعيل بن عمر: و: 7902، عن يزيد بن هارون، و: 7902، عن هاشم بن القاسم (2: 288، 292، 319 حلبي) - ثلاثتهم عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الرواية الأولى من روايات المسند. وذكره في التفسير 2: 130، من رواية ابن وهب - إشارة إلى رواية الطبري هذه. (2) الحديث: 6889 - عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري: مضت ترجمته في: 1387. سليم - بضم السين - بن جبير، أبو يونس مولى أبي هريرة: تابعي مصري ثقة. وقع في المطبوعة: "أن أبا يونس سليمان"، بزيادة النون في آخر الاسم. وصوابه من المخطوطة"سليما"، بالتنوين. بل في رواية مسلم طبعة بولاق: "أن أبا يونس سليم مولى أبي هريرة"، فرسم بالتنوين دون ألف، على لغة ربيعة، في الوقوف على المنصوب بالسكون. والحديث رواه مسلم 2: 224، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، بهذا الإسناد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (1) 6891 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (2) 6892 - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". (3)   (1) الحديث 6890 -"عمران" - في الإسناد: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة. ولا ندري من هو؟ والظاهر أنه خطأ من الناسخين، فرجح أن صوابه"ابن عمران". فإن يكنه يكن"حرملة بن عمران التجيبي المصري". وهو ثقة، يروي عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة، راوي هذا الحديث. ويروي عنه ابن وهب. وهو الصواب إن شاء الله. (2) الحديث: 6891- مضى بنحوه: 6887، من رواية شعيب بن خالد عن الزهري. وأشرنا هناك إلى رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري. وهذه رواية معمر عن الزهري. وقد رواه أحمد في المسند: 7694، عن عبد الرزاق، عن معمر، به. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند. وكذلك رواه البخاري 8: 159، ومسلم 2: 224 كلاهما من طريق عبد الرزاق. ورواه أحمد أيضًا: 7182، عن عبد الأعلى، عن معمر، به. وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق عبد الأعلى. (3) الحديث: 6892 - الحماني، بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم: هو يحيى بن عبد الحميد ابن عبد الرحمن، أبو زكريا الحافظ. وقد اختلف فيه كثيرًا، والراجح عندي أنه ثقة. وقد وثقه ابن معين. وقال فيه غيره كلامًا شديدًا. ولكن المنصف إذا تتبع ترجمته مع إنصاف اقتنع بتوثيقه. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 291، والصغير: 229، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 168-170، وتاريخ بغداد 14: 167- 177، وتذكره الحفاظ 2: 10-11. قيس: هو ابن الربيع الأسدي، وهو ثقة، كما رجحنا في: 4842. والحديث - من هذا الوجه - ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، والتاريخ 2: 57 - تعليقًا عن قيس، دون أن يبين مخرجه. ولكن سياق كلامه في التفسير يدل على أنه يشير إلى روايته عند الطبري، يعني هذا الإسناد. فإنه ذكر في التفسير رواية الطبري الآتية: 6899، ثم قال: "وروي من حديث قيس، عن الأعمش. . ." - إلخ. فهذا الفعل"روى"، ينبغي أن يقرأ مبنيًا للفاعل، فيكون معناه أن ابن جرير"روى من حديث قيس". ولا نرى أن يقرأ بالبناء لما لم يسم فاعله. لأن علماء الحديث وأئمته، أمثال ابن كثير - لا يستعملون صيغة التمريض هذه، بالبناء للمجهول، إلا في الأحاديث الواهية الإسناد. ولا يذكر الأحاديث الجياد بصيغة التمريض إلا جاهل أو غافل. ثم ذكر ابن كثير - بعد حديث قيس هذا، عطفًا عليه - ما نصه: "ومن حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة". فهذه إشارة منه إلى إسناد آخر. أرجح أنه رواه أيضًا الطبري، بعد حديث قيس. ولعله سقط سهوًا من الناسخين. فرأيت - تمامًا للسياق- أن أذكره هنا من رواية أحمد، واحتياطًا أيضًا: فقال الإمام أحمد في المسند: 8801 (ج 2 ص 368 حلبي) : "حدثنا هُشيم، قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل إنسانٍ تَلِدُه أُمُّه يَلْكُزُه الشَّيطانُ بِحِضْنَيْه، إِلاّ ما كان مِن مريمَ وابنها، أَلَمْ تَرَوْا إِلى الصَّبِيّ حين يَسْقُطُ، كيفَ يَصْرُخُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فَذَاكَ حين يَلْكُزُه الشيطان بِحِضْنَيْه". وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم. ورواية قيس بن الربيع ذكرها السيوطي 2: 19، ولم ينسبها لغير الطبري. وقوله: "عصره الشيطان. . ." - عصر العنب وغيره عصرًا: ضغطه ليستخرج ما فيه. وهو هنا مجاز، أي: شديده عليه وضغطه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 6893 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ، غير المسيح ابن مريم، لم يسلَّط عليه الشيطان ولم يَنْهَزْه. (1)   (1) الحديث: 6893- هذا إسناد صحيح. ولم أجد هذا الحديث من غير رواية الطبري، وكذلك ذكره السيوطي 2: 19، ولم ينسبه لغيره. وقوله"ولم ينهزه" - من"التهز"، وهو الدفع."تهزه ينهزه نهزًا": دفعه، مثل"نكزه"، و"وكزه". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 6894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما وُلد عيسى أتت الشياطينُ إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها! فقال: هذا في حادث حدث! وقال: مكانَكم! (1) فطارَ حتى جاء خَافقي الأرض، فلم يجد شيئًا، (2) ثم جاء البحار فلم يجد شيئًا، ثم طار أيضًا فوجد عيسى قد ولد عند مِذْوَد حمار، (3) وإذا الملائكة قد حفَّت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها، إلا هذه! فَأيِسوا أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة، (4) ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفَّة والعجَلة. (5) 6895 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء = وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. = وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.   (1) في المطبوعة: "فقال"، والصواب من المخطوطة. (2) الخافقان: أفق المشرق وأفق المغرب، محيطان بجانبي الأرض. (3) المذود (بكسر الميم وسكون الذال) : معلف الدابة. (4) أيس الرجل يأيس يأسًا، لغة في يئس. والأمر منه هنا على هذه اللغة. (5) الأثر: 6894 - في المخطوطة"أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر المنذر بن النعمان"، أو كأنها تقرأ"معتمر" ثم ضرب على"معمر". والمنذر بن النعمان الأفطس اليماني، روى عن وهب بن منبه. ثقة. روى عنه عبد الرزاق، وروى عنه معتمر بن سليمان، فأخشى أن يكون كان أصل الطبري"حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق ومعتمر قال: أخبر المنذر بن النعمان الأفطس". والمنذر مترجم في الكبير 4 / 1 / 359، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 242، وتعجيل المنفعة: 410. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 6896 - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم. قال: وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فيما يثني على ربَه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيلٌ. (1) 6897 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب. (2) 6898 - حدثنا الربيع قال، حدثنا شعيب قال، أخبرنا الليث، عن   (1) الأثران: 6895، 6896 - هذان خبران مرسلان كما هو ظاهر. (2) الحديث: 6897- جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري: ثقة من شيوخ الليث بن سعد. أخرج له الجماعة. عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني: تابعي ثقة مشهور، من شيوخ الزهري وأبي الزناد. كان الناس يقرأون عليه حديثه عن أبي هريرة. انظر المسند: 7276، وابن سعد 5: 209، وهذا يرد على من يزعم أن الأحاديث لم تكتب إلا في عصر مالك. وهذا عبد الرحمن شيخ شيوخ مالك، ومات سنة 117. والحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، من رواية الليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر من خرجه، فهو إشارة منه إلى رواية الطبري هذه. وقد رواه أحمد في المسند: 10783 (ج 2 ص 523 حلبي) ، عن عبد الملك بن عمرو، عن المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحوه. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند. وقال: "وهذا على شرط الصحيحين. ولم يخرجوه من هذا الوجه". ووقع في ابن كثير"المغيرة، وهو ابن عبد الله الحزامي"، وهو خطأ مطبعي. ولسنا نوافق ابن كثير على دعواه أنهم"لم يخرجوه من هذا الوجه" - فإن البخاري رواه 6: 242، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحو روايتي المسند والطبري. فهذا من هذا الوجه: يجتمع مع إسناد المسند في"أبي الزناد"، ومع إسناد الطبري في"الأعرج". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيتَ هذه الصرخة التي يَصرُخها الصبيُّ حين تلده أمه؟ فإنها منها. (1) 6899 - حدثني أحمد بن الفرج قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا الزُّبيديّ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا. (2) * * *   (1) الحديث: 6898- وهذا حديث صحيح، بالإسناد السابق نفسه. وظاهره أنه موقوف، من كلام أبي هريرة. وعن ذلك - فيما أرى - فصله الطبري عن المرفوع الذي قبله. ومعناه ثابت صحيح، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: فرواه مسلم 2: 224، من رواية سهيل - وهو ابن أبي صالح - عن أبيه، عن أبي هرير، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صياح المولود حين يقع، نزغة من الشيطان". ثم معناه ثابت مرفوعًا، ضمن بعض الأحاديث الصحاح السابقة. (2) الحديث: 6899 - بقية بن الوليد الحمصي: ثقة. تكلموا فيه من أجل تدليسه، فإذا صرح بالسماع - كما هنا - كانت روايته صحيحة. الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الحمصي. وهو ثقة، روى له الشيخان. والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الموضع، دون أن يسوق لفظه. ووقع فيه تسمية الزبيدي"عبد الله بن الزبيدي"! وهو تحريف من ناسخ أو طابع. ولا يوجد راو بهذا الاسم. وهذه الرواية، هي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد مضى الحديث بنحوه: 6887، 6891، من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ولا تعل إحدى الروايتين بالأخرى. فالزهري له إذن في هذا الحديث شيخان. وقد أشار الحافظ في الفتح 6: 338 إلى هذه الرواية، عند رواية الزهري عن ابن المسيب، فقال: "كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال الزبيدي: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري". ووقع في الفتح"السدي" بدل"الزبيدي". وهو تحريف من الناسخين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 القول في تأويل قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها = (1) "بقبول حَسن". * * * "والقبول" مصدر من:"قبِلها ربُّها"، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان:"فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا". وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم:"تكلم فلان كلامًا"، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل:"تكلم فلان تكلمًا". ومنه قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، ولم يقل: إنباتًا حسنًا. (2) وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في"قبول"، وكان القياس الضمّ، لأنه مصدر مثل:"الدُّخول، والخروج". قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه. 6900 - حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو. * * * وأما قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة، كما:-   (1) في المطبوعة: "بتحريرها"، وفي المخطوطة"تحريرها" بغير باء قبلها، وكأن الصواب"وتحريرها" كما أثبت، معطوفًا على"تقبل مريم". (2) انظر بيان ذلك فيما سلف 1: 116، وقد عدد هناك شواهده / ثم 5: 533، 534. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 6901 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربها بقبول حسن"، قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وأجرَها فيها ="وأنبتها"، قال: نبتت في غذاء الله. * * * القول في تأويل قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكفلها" فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: (وَكَفَلَهَا) مخففة"الفاء". بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارًا بقول الله عز وجل: (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [سورة آل عمران: 44] . * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) ، بمعنى: وكفَّلها اللهُ زكريا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (وَكَفَّلَهَا) مشددة"الفاء"، بمعنى: وكفَّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. (1)   (1) قرع (بفتح القاف والراء) : أصابته القرعة دونهم. يقال: قارعني فلان فقرعته: خرجت لي القرعة دونه. وشاحه في الأمر وعليه، وتشاحا عليه وفيه (بتشديد الحاء) : إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته، كأن بعضهم يشح على بعض فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومَه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكونُ عنده، تساهموا بقِدَاحهم، فرموا بها في نهر الأردنّ. (1) فقال بعض أهل العلم: ارْتزّ قدح زكريا، (2) فقام ولم يجر به الماء، وجرى بقدَاح الآخرين الماء. فجعل الله ذلك لزكريا علَمًا أنه أحق المتنازعين فيها بها. (3) * * * وقال آخرون: بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر، (4) وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها. * * * قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان من ذلك، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها.   (1) في المطبوعة: "رموا بها"، والصواب بالفاء، من المخطوطة. (2) في المطبوعة: " رتب قدح زكريا"، ورتب الشيء: ثبت، فهو قريب المعنى. بيد أن المخطوطة جاء فيها"ارتز"، والراء مشبوكة بأسفل التاء، فلذلك لم يستطع الناشر الأول أن يحسن قراءتها. و"رز الشيء في الحائط أو في الأرض يرزه رزًا، فارتز فيه": أثبته فثبت، مثل رز السكين في الحائط، فهو يرتز فيه. (3) في المطبوعة: "فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها" لم يحسن قراءة المخطوطة فحذف ما أثبت. في المخطوطة"فجعل الله ذلك لزكريا علمًا أنه ... "، وكان النساخ قد كتب"آية"، ثم أعاد على اللفظة نفسها بالقلم، ليجعل"آية""وعلمًا"، فاضطرب الخط، فلم يحسن الناشر قراءتها، فأسقطها، فاختل جانب الكلام. وكان في المخطوطة"المتنازعين فيها ها" فلم يحسن قراءة"ها" الأخيرة، لأن نبرة الباء قد أكلها الناسخ فظلمها ظلمًا شديدًا، فظن الناشر أنها حرف لا معنى له، فقذف به. فاختل جانب آخر من الكلام، فصارت الجملة عرجاء تزك زكا. (4) في المطبوعة: "بل صعد قدح زكريا"، وفي المخطوطة"صاعد"، أسقط الناسخ الألف قبل الصاد، فأسقط الناشر الألف بعد الصاد!! يقال: "صعد"، و"اصعد" (بتشديد الصاد والعين مفتوحتين) و"اصاعد" (بتشديد الصاد المفتوحة) : ارتفع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 وإذْ كان ذلك كذلك؛ كان بيِّنًا أنّ أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد"كفَّلها". * * * وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف"الفاء"، من قول الله: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله:"وكفلها" = فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها. (1) ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل:"كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان". فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم: أيهم يكفُل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام. * * * قال أبو جعفر: وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"زكريا". فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ. وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر. وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب. * * * غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ"زكريا" أن يُنصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى، (2) ولأن قراءتنا في"كفَّلها" بالتشديد، وتثقيل"الفاء". فـ"زكرياء" منصوب بالفعل الواقع عليه. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "على ضعف اختيار المحتج بها"، وهي فاسدة ضعيفة المعنى، والصواب من المخطوطة. والاحتيال: طلب الحيلة والمخرج. (2) الإجراء: الصرف. يعني: لا يصرف، لأنه ممنوع من الصرف، كما يقول النحاة. (3) الواقع عليه: المتعدي إليه. وقد سلف أن"الوقوع" هو"التعدي"، فاطلبه في فهرس المصطلحات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 وفي"زكريا" لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها، لخلافها مصاحفَ المسلمين، وهو"زكريّ" بحذف المدة و"الياء" الساكنة، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء، فتنوّنه وتُجْريه في أنواع الإعراب مجاريَ"ياء" النسبة. (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وضمها اللهُ إلى زكريا، من قول الشاعر: (2) فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل (3) يراد به: (4) لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي: فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ (5) بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم:"هفا الظَّليم"، إذا أسرَع الطيران. يقال منه للرجل:"ما لك تكفُل كلَّ ضالة"؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذُها. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6902 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرمة في قوله: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ   (1) انظر مقالة الفراء في"زكريا" في معاني القرآن 1: 208. (2) غاب عني قائله، وإن كنت أذكر الشعر. (3) "الهوام"، هي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: 490. (4) في المطبوعة: "يراد أنه"، والصواب من المخطوطة. (5) "الهوام"، وهي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: 490. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 مَرْيَمَ) ، قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، (1) فكفلها زكريا. 6903 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وكفلها زكريا"، قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، (2) فَقرَعهم. 6904 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربُّها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب = وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب = وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، (3) اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. (4) فلما أتوا بها اقترعوا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا قلم زكريا صاعدًا"، وهو لا معنى له، وانظر ما سلف ص 346 تعليق: 4. وقوله: "الجرية" (بكسر الجيم وسكون الراء) ، وهي حالة الجريان، والذي يسميه كتابنا اليوم: "التيار". (2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "فاستقبلت"، ولست أرتضيها، وكأنها"واستعلت"، من قولهم: "علاه وتعلاه واستعلاه"، إذا قهره وغلبه. وفي اللسان مادة (جرى) ما نصه: "ومنه: وعال قلم زكريا الجرية، وجرت الأقلام مع جرية الماء"، وكأن هذا اللفظ"وعالى"، وكلتاهما صواب بمعنى: قهر وغلب، وأعجز الماء أن يحمله. وأما قوله: "فقرعهم"، فقد سلف تفسيرها ص: 345، تعليق: 1. (3) في المطبوعة، وسنن البيهقي 10: 286 هكذا"يجربونه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وأخشى أن يكون هذا خطأ، فإني رأيت السيوطي في الدر المنثور 2: 20، خرج هذا الأثر، ونسبه للبيهقي في السنن، وفيه: "إذا جاءوا إليهم بإنسان محرر، اقترعوا عليه ... "، فكأن صواب هذا الحرف"يحررونه" اتصلت الراء بالواو فقرأوها"يجربونه". وهذا الأثر الذي رواه السدي، هو في سنن البيهقي، بإسناد السدي في التفسير، الذي مضى الكلام فيه في رقم: 168، وهو الإسناد الدائر في التفسير. ثم حذف الطبري ما بعد السدي، لما طال الكتاب. (4) في سنن البيهقي، والدر المنثور: "وكانت أخت مريم تحته"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن المقطوع به في التاريخ أن زكريا وعمران أبا مريم، كانا متزوجين بأختين، إحداهما عند زكريا، وهي أم يحيى. والأخرى عند عمران، وهي أم مريم، فمات عمران وأم مريم حامل بمريم. انظر تاريخ الطبري 2: 13. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي أختها! (1) فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها: أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين، (2) فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل:"وكفلها زكريا"، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب. (3) 6905 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكفلها زكريا"، يقول: ضمها إليه. 6906 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وكفلها زكريا"، قال: سَهمهم بقلمه. (4) 6907 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 6908 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحَّ عليها أحبارُهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوجَ أختها، (5) فكفلها، وكانت عنده وَحضَنَها.   (1) في المطبوعة: "تحتي خالتها"، والصواب ما في الطبري والدر المنثور وسنن البيهقي، وكأن الناشر ظن أنه أراد"أخت مريم"، فغيرها، وإنما أراد زكريا بمقالته، أخت أم مريم، التي جاءت تحملها. (2) القرنة (بضم فسكون) : الطرف الشاخص من كل شيء. يقال: لحد السيف والسنان والسهم وغيرها"قرنة"، وهو طرفه وذبابه. (3) الأثر: 6904- سنن البيهقي 10: 286، والدر المنثور 2: 20. (4) ساهم القوم فسهمهم، وقارعهم فقرعهم: فاز سهمه، وكانت له القرعة أو السهم دون أصحابه. (5) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "زوج أختها"، وظاهر أن كلام قتادة مختصر، كان في ذكر"أم مريم"، وأن قوله: " زوج أختها"، أي زوج أخت مريم، وقد أسلفت صحة ذلك وبيانه في ص 350 تعليق: 1. وانظر سائر الآثار التي ستأتي بعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 6909 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره، عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة قال: ثم خرجت بها = يعني: أمّ مريم = بمريم في خِرَقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون، أخي موسى بن عمران. قال: وهم يومئذ يَلون من بيت المقدس ما يلي الحجبةُ من الكعبة، فقالت لهم: دُونكم هذه النذيرة، فإنّي حرّرتها، وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردُّها إلى بيتي! فقالوا: هذه ابنة إمامنا = وكان عمران يؤُمهم في الصلاة = وصاحب قُرْباننا! (1) فقال زكريا: ادفعوها إلىّ، فإن خالتها عندي. قالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا! فذلك حين اقترعوا، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا، فكفلها. 6910 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل:"وكفلها زكريا" = قال حجاج قال، ابن جريج:"الكاهنُ" في كلامهم: العالمُ. 6911 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وكفلها زكريا"، بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا. (2) 6912 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن   (1) في المطبوعة: "وصاحب قربانهم"، وفي المخطوطة"وصاحب" وما بعدها بياض، واستظهر الناشر زيادتها هكذا، وأستظهر أن زيادتها كذلك، على أنها من تمام قولهم: "هذه ابنة إمامنا معطوفًا عليه، وما بينهما جملة معترضة للبيان من راوي الخبر. (2) الأثر: 6910- سيرة ابن هشام 2: 229، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم 6877. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 عطاء، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: كانت عنده. 6913 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: جعلها زكريا معه في مِحْرابه. 6914 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"فتقبَّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، وتقارعها القومُ، فقرَع زكريا، فكفلها زكريا. * * * وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ (1) = وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى: إشبع=. (2) 6915 - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبأيّ: أن اسم أم يحيى أشبع. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "إيشاع"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري 2: 13، وهو في كتاب القوم"أليصابات"، ومعناها كما في قاموسهم كتابهم"الله حلفها، أي عائدة الله"، وكأنه هو الاسم العبري القديم"أليشابع"، ومعناه أيضًا"الله حلفها"، وهو اسم امرأة هارون. (2) في المطبوعة: "أشيع" بالياء، والصواب بالباء. وهي في المخطوطة غير منقوطة. (3) الأثر: 6915-"وهب بن سليمان الجندي اليماني"، روى عن شعيب الجبأي، روى عنه ابن جريج. مترجم في الكبير 4 / 2 / 169، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 27. و"شعيب الجبأي، الجندي البجلي"، منسوب إلى"جبأ" وهو جبل. قال ابن أبي حاتم هو: "شعيب بن الأسود". قال: يروى عن الكتب. روى عنه سلمة بن وهرام، ووهب بن سليمان. مترجم في الكبير 2 / 2 / 219، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 353. وكان في المطبوعة: "شعيب الحياني" خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 = فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذْر أمها التي نذرت فيها. قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم، ضَعُفَ زكريا عن حمل مؤونتها، فتدافعوا حملَ مؤونتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى. 6916 - حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق. = فعلى هذا التأويل، تصح قراءة من قرأ:"وكفَلها زكريا" بتخفيف"الفاء"، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل: أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. (1) فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف. * * * القول في تأويل قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها. فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.   (1) السهم الفالج: الفاتر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 ذكر من قال ذلك: 6917 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه. (1) 6918 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا"، قال: العنب في غير حينه. 6919 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهة في غير حينها. 6920 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن الضحاك: أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف = يعني في قوله:"وجد عندها رزقًا". (2) 6921 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك مثله. 6922- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك مثله. 6923 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله. 6924 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث، عن مجاهد قال: كان يجدُ عندها العنب في غير حينه. 6925 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) المكتل والمكتلة (بكسر الميم) : الزبيل الكبير يحمل فيه التمر أو العنب، كأن فيه كتلا منه، أي قطعًا مجتمعة. (2) الأثر: 6920-"أبو إسحاق الكوفي"، هو: عبد الله بن ميسرة، روى عن الشعبي وأبي حريز وجماعة، روى عنه هشيم، وكناه أبا إسحاق، وأبا عبد الجليل. وهو ضعيف الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: عنبًا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه. 6926 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 6927 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. 6928 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا"، قال: كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. 6929 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمرةً في غير زمانها. 6930 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء. 6931 - حدثني موسى [بن عبد الرحمن] (1) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء. (2)   (1) الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني"، وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم: 168. (2) الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني" وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم: 168. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 6932 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وجدَ عندها رزقًا"، قال: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء. 6933 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس"كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمارَ الجنة، فاكهةَ الصّيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف. 6934 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم: أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرةَ الصيف في الشتاء. 6935 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن قال: كان زكريا إذا دخل عليها = يعني على مريم = المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء، من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده، لم يسألها عنه. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام. ذكر من قال ذلك: 6936 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد. قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها، حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، أتعلمون؟ والله لقد ضعفتُ عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 حَمل ابنة عمران! فقالوا: ونحن لقد جُهِدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم! (1) فتدافعوها بينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بُدًا، حتى تقارعوا بالأقلام، فخرج السّهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال لهُ جريج، قال: فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه، فكانت تقول له: يا جريج، أحسن بالله الظن! فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بمكانها، فيأتيها كلّ يوم من كسبه بما يُصلحها، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة، أنماه الله وكثَّره، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، وليس بقدر ما يأتيها به جُريج، فيقول:"يا مريم، أنَّى لك هذا"؟ فتقول:"هو من عند الله إنّ الله يرْزُق من يشاء بغير حساب". * * * قال أبو جعفر: وأما"المحراب"، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عديّ بن زيد: كَدُمَى العَاجِ فِي المَحَارِيبِ أَوْ ... كالبَيْضِ فِي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ (2)   (1) في المخطوطة: "لقد جهدنامن هذه السنة ما أصابكم" وبينهما بياض، والذي في المطبوعة صواب جيد. (2) ديوانه في شعراء الجاهلية: 455، وسيأتي في التفسير 22: 48 (بولاق) ، يصف نساء، يقول: هن كتماثيل العاج في محاريب المعابد. والبيض: يعني بيض النعام. والروض جمع روضة: وهي البستان الحسن، في أرض سهلة ذات رواب يستنقع فيها الماء. وأصغر الرياض مئة ذراع. وقد استعمل عدي"الروض" على الإفراد فقال: "زهره مستنير"، كأنه عده مفردًا مذكرًا، كأنه حمله على وزن مثله من المفرد، مثل ثور ونور، وأشباهها فذكره للفظه، وإن كنت أستجيز أن يكون"الروض" مفردًا غير جمع، ولم أجد ذلك في كتب اللغة، ولكن البيت شاهد عليه، وإن كانوا يستركون عدي بن زيد. وقوله: "مستنير" من"النور"، وهو زهر الشجر والنبات. يقال: "نورت الشجرة وأنارت"، إذا أطلعت زهرها وحسن منظرها. ولم يذكر أهل اللغة"استنارت الشجرة"، ولكن بيت عدي شاهد جيد، وهو من عتيق العربية. يصف عديًا عذارى مشرقات في ثياب الوشى، فشبههن ببيض النعام في أرض قد أصابها الغيث فاستنارت أزهارها من كل لون، فزادها بهاء، وزادته حسنًا. وهذا البيت في المخطوطة: "وهو مشتق / مستنير" و"مستنير" مكتوبة في هامش الصفحة، ولم أدر كيف كان، والذي في المطبوعة هي الرواية المعروفة، وأخشى أن يكون الناسخ كتب: "وهو مشتق" ثم عاد فقرأ"مشتق""مستنير" فكتبها في الهامش، فيكون الخطأ في كتابته"وهو"، التي هي: "زهره". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 و"المحاريب" جمع"محراب"، وقد يجمع على"محارب". (1) * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قال" زكريا:"يا مريم: أنَّى لك هذا"؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟ (2) قالت مريم مجيبة له:"هو من عند الله"، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها. * * * وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى:"أنَّى لك هذا"؟ فتقول: من عند الله. 6937 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. 6938 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه. 6939 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله"، قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة   (1) لم ينص على ذلك أصحاب اللغة، ولكنه قياس يرتضى. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 91. (2) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398-416 / ثم 5: 312، 447. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 عند أحد، فكان زكريا يقول:"يا مريم أنَّى لك هذا"؟ * * * وأما قوله:"إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب"، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف، (1) ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "من يخشى النقصان من ملكه بخروج ما خرج من عنده. . ."، وفي المخطوطة: "من يخشى النقصان من ملكه، ودخول بخروج ما خرج من عنده ... "، وبين الكلامين بياض، فلما لم يجد الناشر ما يكتبه مكانها، حذف"ودخول" ووصل الكلامين. وزدت أنا"النفاد عليه" مكان البياض استظهارًا من سياق الكلام، ومن تفسير هذه الجملة في مواضع أخرى سأذكرها فيما يلي. (2) انظر تفسير: "يرزق من يشاء بغير حساب" فيما سلف 4: 274 / ثم 6: 311. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 القول في تأويل قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) } قال أبو جعفر: وأما قوله:"هنالك دعا زكريا ربه"، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها = (1) ومعاينته عندَها الثمرة   (1) قوله: "ومعاينته عندها ... " معطوف على قوله آنفًا: "عند رؤية زكريا. . .". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 الرّطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندَها في الأرض = (1) طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخلِّيها من الناس ما رَزَقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العاداتُ في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غيرُ الأمر الجاريةُ به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرّيةً طيبة. وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:- 6940 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك = يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف = قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [سورة مريم: 4-6] ، = وقوله: (2) (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) = وقال: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [سورة الأنبياء: 89] . 6941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،   (1) سياق الجملة: أي عند رؤية زكريا ما رأى. . . وعند معاينته عندها الثمرة ... طمع بالولد ... " وفي المطبوعة: "طمع في الولد.."، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت، وذاك من عجلة الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل:"هنالك دعا زكريا ربه"، قال: فذلك حين دعا. 6942 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فدخل المحرابَ وغلَّق الأبوابَ، وناجى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى قوله: (رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) الآية. 6943 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبه إنك سميع الدعاء"، ثم شكا إلى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) الآية. * * * وأما قوله:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، فإنه يعني بـ"الذرية" النسل، وبـ"الطيبة" المباركة، (1) كما:- 6944 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رَبّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، يقول: مباركة. * * *   (1) انظر قوله"ذرية" فيما سلف 3: 19، 79 / ثم 5: 543 / 6: 327 ولم يفسرها في هذه المواضع، ثم فسرها هنا، وهو من اختصار هذا الكتاب الجليل، كما قيل في ترجمته. ثم انظر تفسير"الطيب" فيما سلف 3: 301 / ثم 5: 555. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 وأما قوله:"من لدنك"، فإنه يعني: من عندك. * * * وأما"الذرية"، فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع الواحد. وذلك أنّ الله عز وجل قال في موضع آخر، مخبرًا عن دعاء زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [سورة مريم: 5] ، ولم يقل: أولياء - فدلّ على أنه سأل واحدًا. وإنما أنث"طيبة"، لتأنيث الذرّية، كما قال الشاعر: (1) أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ، ذَاكَ الكَمَالُ (2) فقال:"ولدته أخرى"، فأنَّث، وهو ذَكر، لتأنيث لفظ"الخليفة"، كما قال الآخر: (3) فَمَا تَْزدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ ... سُكَاتٍ، إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأَدْرَدَا (4) فأنث"الجبلية" لتأنيث لفظ"الحية"، ثم رجع إلى المعنى فقال:"إذا مَا عَضّ"، لأنه كان أراد حَية ذكرًا، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه"فلانٌ" من الأسماء، كـ"الدابة، والذرية، والخليفة". فأما إذا سُمّي رجل بشيء من ذلك،   (1) لم أعرف قائله. (2) معاني القرآن للفراء 1: 208 سيأتي في التفسير 4: 150 (بولاق) . (3) لم أعرف قائله. (4) معاني القرآن للفراء 1: 208، واللسان (سكت) وكان في المطبوعة: "كما تزدري ... سكاب ... ليس بأزدرا"، وهو خطأ. والحية إذا كانت جبلية، فذاك أشد لها ولسمها، يقول عنترة: أَصَمَّ جبَالِيٍّ، إِذا عَضَّ عَضَّةً ... تَزَايَلَ عَنْهُ جِلْدُه فتبدّدَا وحية سكوت وسكات (بضم السين) : إذا لم يشعر الملسوع به حتى يلسعه، والأدرد: الذي سقطت أسنانه، فلم يبق في فمه سن. يصف رجلا داهية. يقول: كيف تستخف به، وهو حية فاتكة، لا يشعر الملسوع بعضها حتى تعضه بناب لم يسقط ولم يذهب سمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 فكان في معنى"فلان"، لم يجز تأنيثُ فعله ولا نعته. (1) * * * وأما قوله:"إنك سميع الدعاء"، فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أنّ"سميع"، أمدَحُ، وهو بمعنى: ذو سمع له. (2) * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تَسمعَ ما تُدْعى به. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك. * * * القول في تأويل قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعضُ أهل الكوفة والبصرة:"فنادته الملائكة" على التأنيث بالتاء، يراد بها: جمع"الملائكة". وكذلك تفعل العرب في جماعة الذّكور إذا تقدّمت أفعالها، أنَّثت أفعالها، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث، كقولهم: جاءَت الطَّلحات". * * * وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء، (3) بمعنى فناداه جبريل، فذكروه للتأويل، كما قد ذكرنا آنفًا أنهم يُؤنثون فعل الذّكر للفظ، (4) فكذلك يذكِّرون   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 208، 209. (2) انظر تفسير"سميع" فيما سلف 2: 140، 377، 540 / 3: 399 / 4: 488. (3) يعني قراءة من قرأ"فناداه" ممالة، ورسمها في المصحف عندئذ"فناديه" بالياء، وهي قراء حمزة والكسائي. (4) انظر ص: 362. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 فعلَ المؤنث أيضًا للفظ. واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءةٍ يذكر أنها قراءَةُ عبد الله بن مسعود، وهو ما:- 6945 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، أنّ قراءة ابن مسعود: (فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) . * * * وكذلك تأوّل قوله:"فنادته الملائكة" جماعةٌ من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6946 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فنادته الملائكة"، (1) وهو جبريل = أو: قالت الملائكة، وهو جبريل ="أنّ الله يُبشرك بيَحيى". * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل:"فنادته الملائكة"، و"الملائكة" جمع لا واحد؟ قيل: ذلك جائز في كلام العرب، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع، كما يقال في الكلام:"خرج فلان على بغال البُرُد"، وإنما ركب بغلا واحدًا ="وركب السفن"، وإنما ركب سفينةً واحدة. وكما يقال:"ممن سمعتَ هذا الخبر"؟ فيقال:"من الناس"، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إنّ منه قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران: 173] ، والقائلُ كانَ = فيما كان ذُكر - واحدًا = (2) وقوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ)   (1) في المخطوطة: "فناداه الملائكة". (2) انظر ما سلف 1: 292، 293 / 4: 191. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 [سورة الروم: 33] ، والناس بمعنى واحد. وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد. (1) * * * قال أبو جعفر: وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك، أنهما قراءتان معروفتان = أعني"التاء" و"الياء" = فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أنه لا اختلافَ في معنى ذلك باختلاف القراءتين، وهما جميعًا فصيحتان عند العرب، وذلك أنّ"الملائكة" إن كان مرادًا بها جبريل، كما روى عن عبد الله، فإن التأنيث في فعلها فصيحٌ في كلام العرب للفظها، إن تقدمها الفعل. وجائز فيه التذكير لمعناها. وإن كان مرادًا بها جمع"الملائكة"، فجائز في فعلها التأنيث، وهو من قَبلها، للفظها. (2) وذلك أن العرب إذا قدّمت على الكثير من الجماعة فعلها، أنثته، فقالت:"قالت النساء". وجائز التذكير في فعلها، بناءً على الواحد، إذا تقدم فعله، فيقال:"قال الرجال". * * * وأما الصّواب من القول في تأويله، فأنْ يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنّ الملائكة نادته. والظاهرُ من ذلك، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، وجبريلُ واحد. ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن (3) إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقل = ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم تَضطَّرنا حاجةٌ إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني. وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم، منهم: قتادة، والربيع   (1) انظر معان القرآن للفراء 1: 210 (2) في المطبوعة: "وهو من قبلها" والصواب من المخطوطة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن يجوز ... "، والأشبه بالصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 بن أنس، وعكرمة، ومجاهد، وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مَضَى. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"وهو قائم:" فنادته الملائكة في حال قيامه مصلِّيًا. فقوله:"وهو قائم"، خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا. وقوله:"يُصَلي" في موضع نصب على الحال من"القيام"، وهو رفع بالياء. * * * وأما"المحراب"، فقد بينا معناه، وأنه مقدّم المسجد. (2) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أنّ اللهَ يبشرك". فقرأته عامة القرأة: (أَنَّ اللَّهَ) بفتح"الألف" من"أن"، بوقوع"النداء" عليها، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك. * * * وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بكسر"الألف"، بمعنى: قالت الملائكة: إنّ الله يبشرك، لأن النداء قولٌ. وذكروا أنها في قراءة عبد الله: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ يَا زَكَرِيَّا إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) قالوا: وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله:"يا زكريا"، فباطلً أيضًا   (1) لم يمض من ذلك شيء في خبر زكريا ومريم، وأنا أخشى أن يكون في النسخ المخطوطة التي بأيدينا اختصار في هذا الموضع. (2) انظر ما سلف قريبًا ص: 357، 358. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 أن يكون عاملا في"إن". * * * والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"أنّ الله يبشرك" بفتح"أن" بوقوع النداء عليه، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك. وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر"إن" = منْ أنّ عبد الله كان يقرؤها كذلك، فقرأوها كذلك = [لهم بعلة] (1) وذلك أن عبد الله إنْ كان قرأ ذلك كذلك، فإنما قرأها بزعمهم، وقد اعترض بنداء زكريا بين"إن" وبين قوله:"فنادته"، (2) وإذا اعترض به بينهما، فإن العرَب تعمل حينئذ النداء في"أنّ"، وتبطله عنها. أما الإبطال، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله، (3) فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الإعمال، فلأن النداء فعل واقعٌ. كسائر الأفعال. (4) وأما قراءتنا، (5) فليس نداء زكريا ب"يا زكريا" معترضًا به بين"أن" وبين قوله:"فنادته". وإذا لم يكن ذلك بينهما، فالكلامُ الفصيح من كلام العرب إذا نصبتْ بقوْلِ:"ناديت" اسمَ المنادِى وأوقعوه عليه، أن يوقعوه كذلك على"أنّ" بعده. وإن كان جائزًا إبطالُ عمله، فقوله:"نادته"، قد وَقع على مكنيّ"زكريا"، (6) فكذلك الصواب أن يكون واقعًا على"أن" وعاملا فيها. (7)   (1) في المطبوعة: "من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك، وذلك أن عبد الله ... "، حذف من نص المخطوطة ما أثبته"فقرأوها كذلك"، وبقيت الجملة بعد ذلك مختلة، قد سقط منها خبر"وليست العلة ... "، فاستظهرت من سياق كلامه أنه قد سقط من الناسخ قوله: "لهم بعلة" فزدتها بين قوسين، والسياق"وليست العلة ... لهم بعلة". (2) في المطبوعة: "وقد اعترض بيا زكريا" وفي المخطوطة: "بهذا زكريا"، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المخطوطة أيضًا"فناداه"، مكان"فنادته". (3) في المطبوعة: "فإنه بطل عن العمل"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. (4) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي. (5) في المخطوطة: "وأما قراءتها"، والصواب ما في المطبوعة. (6) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي. (7) انظر تفصيل ما أجمله الطبري في معاني القرآن للفراء 1: 210، 211. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 مع أنّ ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام. ولا يُعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيءَ الحجة. * * * وأما قوله:"يبشرك"، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بتشديد"الشين" وضم"الياء"، على وجه تبشير الله زكريا بالولد، من قول الناس:"بشَّرتْ فلانًا البُشَراء بكذا وكذا"، أي: أتته بشارات البُشراء بذلك. (1) * * * وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) ، بفتح"الياء" وضم"الشين" وتخفيفها، بمعنى: أن الله يَسرّك بولد يَهَبُه لك، من قول الشاعر: (2) بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجُ يُتْلَى كِتَابُهَا (3) وقد قيل: إن"بشَرت" لغة أهلِ تهامة من كنانة وغيرهم من قريش، وأنهم يقولون:"بشَرتُ فلانًا بكذا، فأنا أبشُرُه بَشْرًا"، و"هل أنتَ باشرٌ بكذا"؟ وينشد لهم البيت في ذلك: (4) وَإذَا رَأَيْتَ البَاهِشِينَ إلَى العُلَى ... غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ (5)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "البشرى" مكان"البشراء" في الموضعين، والصواب ما أثبت، وظاهر أن الناسخ رآها"البشرا"، بغير همزة كالكتابة القديمة، فظنها"البشرى" فكتبها كذلك. (2) لم أعرف قائله. (3) معاني القرآن للفراء، وقال: "أنشدني بعض العرب". (4) هو عبد قيس بن خفاف البرجمي. (5) الأصمعيات رقم: 87، والمفضليات رقم: 116، ولسان العرب (كرب) (بشر) (يسر) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 212، وغيرها من المراجع. وهي نصيحته إلى ولده جبيل، وهي من حكيم الشعر. بهش إلى الشيء: فرح به فأسرع إليه، وروايتهم"إلى الندى"، وهو الكرم. والقاع: أرض سهلة مستوية تنفرج عنها الجبال والآكام، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر. والممحل: المجدب. يقول: إذا رأيت الكرام الأسخياء، قد أجهدتهم السنة والقحط والجدب حتى اغبرت أيديهم من قلة ما يجدون، وكثرة ما بذلوا في معونة الناس.. فأعنهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 فَأَعِنْهُمُ، وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ، ... وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ (1) فإذا صاروا إلى الأمر، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف فيقال:"ابشَرْ فلانًا بكذا"، ولا يكادون يقولون:"بشِّره بكذا، ولا أبشِره". (2) * * * وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ: (يبشرك) ، بضم"الياء" وكسر"الشين" وتخفيفها. وقد:- 6947 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ الكوفيّ قال: من قرأ: (يُبَشِّرُهُمْ) مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ: (يَبْشُرُهُمْ) ، مخففة، بنصب"الياء"، فإنه من السرور، يسرُّهم. * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك، ضم"الياء" وتشديد"الشين"، بمعنى التبشير. لأن ذلك هي اللغة السائرةُ والكلامُ المستفيض المعروف في الناس، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة: (فَبِمَ تُبِشِّرُون) [سورة الحجر: 54] ، على التشديد. والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره، أنْ يكون مثله في التشديد وضم"الياء". * * *   (1) "وابشر" هي من"بشر" على وزن (فرح) "يبشر" (بفتح الشين) يقال: "أتاني أمر بشرت به" أي سررت به. يقول: شاركهم في ارتياحهم وفرحهم بالسخاء مع ما يلقون من جهد السنة. والضنك: الضيق. يقول: كن مع الكرام حيث كانوا، وانزل معهم كل منزل أنزلهموه كرمهم، من ضنك وحاجة. (2) انظر تفسير: "بشرى" و"بشر" فيما سلف 1: 383 / 2: 393، / 3: 221 / 6: 287. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك، فلم نجدْ أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح، فلا معنى لما حُكي من ذلك عنه، وقد قال جرير بن عطية: يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلا غَضِبْتَ لَنَا? وَأَنْتَ أَمِيرُ! (1) فقد علم أنه أراد بقوله"التبشير"، الجمال والنضارة والسرور، فقال"التبشير" ولم يقل"البشر"، فقد بيَّن ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحدٌ. * * * 6948 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله يبشرك بيحيى"، قال: بشرته الملائكة بذلك. * * * وأما قوله:"بيحيى"، فإنه اسم، أصله"يفعل"، من قول القائل:"حيي فلانٌ فهو يحيَى"، وذلك إذا عاش."فيحيى""يفعل" من قولهم"حيي". وقيل: إن الله جل ثناؤه سماه بذلك، لأنه يتأوّل اسمه: أحياه بالإيمان. ذكر من قال ذلك: 6949 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"أنّ الله يبشرُك بيحيى"، يقول: عبدٌ أحياه الله بالإيمان. 6950- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي   (1) ديوانه: 301، وطبقات فحول الشعراء: 378، وغيرها. من قصيدته التي قالها لبشر بن مروان، وكان قدم معه العراق، سراقة البارقي، وكان بشر يغري بين الشعراء، فحمل سراقة على جرير حتى هجاه. فترك جرير بشرًا، بل مدحه، وأخذ بمجامع سراقة يخنقه حتى فضحه. وعاتب بشرًا عتاب من يظهر الجهل بأمر بشر، وهو يعلمه. وهذا البيت دال على ذلك. كان في المطبوعة: "حق لبشرك التبشير"، وهو من سهو الناشر، كما سلف من سهوه، والصواب في المخطوطة وسائر المراجع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله:"إنّ الله يبشرك بيحيى"، قال: إنما سمي يحيى، لأن الله أحياه بالإيمان. * * * القول في تأويل قوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (1) أن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنًا لك، ="مصدّقًا بكلمة من الله"، يعني: بعيسى ابن مريم. * * * ونصب قوله:"مصدقًا" على القطع من"يحيى"، (2) لأنّ"مصدقًا" نعتٌ له، وهو نكرة، و"يحيى" غير نكرة. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6951 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربيّ، عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك! قال: فوضعت امرأةُ زكريا يحيى، ومريمُ عيسى، ولذا قال:"مصدِّقًا بكلمة من الله"، قال: يحيى مصدّق بعيسى. 6952 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الرقاشي في قول الله:"يبشرك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.   (1) في المطبوعة: "يعني بقوله جل ثناؤه"، والصواب من المخطوطة. (2) القطع: الحال، كما سلف مرارًا، آخرها ص: 327 تعليق 2، والمراجع هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 6953 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 6954 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدقًا بعيسى. 6955 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدّقًا بعيسى ابن مريم، وعلى سُنَّته ومنهاجه. (1) 6956 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، يعني: عيسى ابن مريم. 6957 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدقًا بعيسى ابن مريم، يقول على سننه ومنهاجه. 6958 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان أوّلَ رجل صدَّق عيسى، وهو كلمة من الله ورُوحٌ. 6959 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مصدقًا بكلمة من الله"، يصدق بعيسى. 6960 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهدَ أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.   (1) في المطبوعة: "مصدق ... وعلى سننه"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 6961 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: عيسى ابن مريم، هو الكلمة من الله، اسمه المسيح. 6962- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان عيسى ويحيى ابنَيْ خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجدُ للذي في بطنك! فذلك تصديقه بعيسى: سُجوده في بطن أمه. وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى، ويحيى أكبر من عيسى. (1) 6963 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: الكلمة التي صدق بها: عيسى. 6964 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لقيت أمّ يحيى أمّ عيسى، وهذه حامل بيحيى، وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، استشعرتُ أنِّي حبلى! قالت مريم: استشعرت أني أيضًا حبلى! قالت امرأة زكريا: فإني وجدتُ ما في بطني يسجُد لما في بطنك! فذلك قوله:"مصدّقًا بكلمة من الله". 6965- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله:"أنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم. * * * قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة، (2)   (1) السجود هنا: الخضوع والتطامن والخشوع، لا سجود الصلاة والعبادة. وإنما سجود الصلاة مجاز من هذا الأصل، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2: 104، 105. (2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن 1: 91. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 أنّ معنى قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، بكتاب من الله، من قول العرب:"أنشدني فلانٌ كلمة كذا"، يراد به: قصيدة كذا = جهلا منه بتأويل"الكلمة"، واجتراءً على تَرجمة القرآن برأيه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَسَيِّدًا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وسيدًا"، وشريفًا في العلم والعبادة. * * * ونصب"السيد" عطفًا على قوله:"مصدقًا". * * * وتأويل الكلام: أن الله يبشرك بيحيى مصدّقًا بهذا، وسيدًا. * * * "والسيد""الفيعل" من قول القائل:"سادَ يسود"، (2) كما:- 6966 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وسيدًا" إي والله، لسيدٌ في العبادة والحلم والعلِم والوَرَع. 6967 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا"، قال: السيدُ، لا أعلمه إلا قال: في العلم والعبادة.   (1) ترجمة القرآن تفسيره وبيانه، وانظر ما سلف 1: 70، تعليق: 1، وانظر فهرس المصطلحات. وإذا كان أبو جعفر يعد هذا اجتراء على تفسير كتاب الله، فليت شعري ماذا يقول في الذين نصبوا أنفسهم، من أهل زماننا، للتهجم على كتاب الله، بما لا تعد فيه مقالة أبي عبيدة، إلا تسبيحًا واستغفارًا واجتهادًا في العبادة!! (2) انظر ما سلف 3: 319. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 6968 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: السيد الحليم. 6969 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير،"وسيدًا"، قال: الحليم. 6970 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"وسيدًا"، قال: السيد التقىّ. 6971 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وسيدا"، قال: السيد الكريم على الله. 6972 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرّقاشي أنّ السيد، الكريم على الله. 6973 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله عز وجل:"وسيدًا"، قال: السيد الحليم التقي. 6974 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وسيدًا"، قال: يقول: تقيًّا حليما. 6975 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان في قوله:"وسيدًا"، قال: حليما تقيًّا. 6976 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:"وسيدًا"، قال: السيد: الشريف. 6977 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية بن الوليد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل:"وسيدًا"، قال: السيد الفقيه العالم. 6978 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وسيدًا"، قال، يقول: حليما تقيًّا. 6979 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة:"وسيدًا"، قال: السيد الذي لا يغلبُه الغضب. * * * القول في تأويل قوله: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: ممتنعًا من جماع النساء، من قول القائل:"حَصِرْتُ من كذا أحْصَر"، إذا امتنع منه. ومنه قولهم:"حَصِرَ فلان في قراءته"، إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها. وكذلك"حَصْرُ العدوّ"، حَبْسهم الناسَ ومنعهم إياهم التصرف، ولذلك قيل للذي لا يُخرج مع ندمائه شيئًا،"حَصُور"، كما قال الأخطل: وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكَأْسِ نَادَمَنِي ... لا بِالَحصُورِ وَلا فِيهَا بِسَوَّارِ (1) ويروى:"بسآر". ويقال أيضًا للذي لا يخرج سره ويكتمه"حصور"،   (1) ديوانه: 116، ومجاز القرآن 1: 92، وطبقات فحول الشعراء: 432، واللسان (حصر) (سأر) (سور) ، من قصيدته التي قالها ليزيد بن معاوية، لما منعه حين هجا الأنصار في قصة مشهورة. وفي المخطوطة"مرجح بالكأس"، وهو خطأ. والمربح: المعطي الربح للتاجر، يريد أنه يغالي بثمن الخمر لا يبالي بما يبذل فيها. والسوار: الذي تسور الخمر في دماغه، فيعربد على إخوانه وندمائه عربدة رديئة، والخمر عندهم تشف عن غرائز شاربيها. وأما رواية"سآر" التي سيذكرها، فهي من السؤر: وهو بقية الخمر في القدح. يريد أنه عرضة شراب، لا يكف عن الخمر، ولا يدع في كأسه سؤرًا من قلة صبره، أو سوء احتماله لشدتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 لأنه يمنع سره أن يظهر، كما قال جرير: وَلَقَدْ تَسَاقَطَنِي الوُشَاةُ، فَصَادَفُوا ... حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ ضَنِينَا (1) وأصل جميع ذلك واحد، وهو المنع والحبس. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 6980 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن خلف قال، حدثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء. 6981 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: حدثني ابن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. قال: ثم دلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه إلى الأرض، فأخذ عُوَيْدًا صغيرًا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، وبذلك سماه الله"سيدًا وحصُورًا". (2)   (1) ديوانه: 578، ومجاز القرآن 1: 92 واللسان (حصر) (سقط) ، ورواية هذه الكتب وفي المطبوعة: "تَسَقَّطَنِي" غيروا ما في المخطوطة، كما أثبته. وتسقطه واستسقطه: تتبع عثرته وسقطته أن يفرط منه ما يؤخذ عليه. من السقط (بفتحتين) وهو الخطأ في القول، أو من السقطة (بفتح فسكون) وهي العثرة والزلة. وأما ما جاء في المخطوطة: "تساقطني"، فإني أستجيدها. جيد أن يقال"ساقطه" بمعنى"تسقطه واستسقطه"، وكأن"السقاط" بمعنى العثرة والزلة، مصدر"ساقطه"، وقد قال سويد بن أبي كاهل: كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي، بَعْدَ مَا ... جَلَّلَ الرأسَ مشيبٌ وصَلَعْ كأنه يجاذبه القول، حتى يسقط ويزل، وهو نفس المعنى في"تسقطه واستسقطه"، وإذا جاز في صريح العربية، فلا معنى لاطراحه. وفي المخطوطة، أسقط الناسخ"أميم" من البيت وترك مكانها بياضًا، وضع فيه نقطة حمراء. (2) الأثر: 6981- انظر التعليق على الأثر: 6983. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 6982 - حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد قال، سمعت سعيد بن المسيب يقول: ليس أحدٌ إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذَنْبٌ إلا يحيى بن زكريا، كان حصورًا، معه مثل الهُدْبة. 6983 - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا عمر بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن العاص - إما عبد الله، وإما أبوه -: ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيى بن زكريا. قال وقال سعيد بن المسيب:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يغشى النساء، ولم يكن ما معه إلا مثل هُدْبة الثوب. (1) 6984 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله:"وحصورًا" قال: الحصور الذي لا يشتهي النساء. ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه. 6985 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء. 6986 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد مثله. 6987 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد مثله. 6988 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال،   (1) الحديث: 6983- رواه الطبري قبل ذلك: 6981، عن سعيد بن المسيب: "حدثني ابن العاص ... " - فذكره مطولا مرفوعًا. ثم رواه هنا عن ابن المسيب، عن ابن العاص- مع الشك في أنه"عبد الله بن عمرو" أو "أبوه"- موقوفًا. وقد ذكره ابن كثير 2: 135، من رواية ابن أبي حاتم - بهذا الشك - ولكنه مرفوع. ثم ذكره ص 135-136، من رواية ابن أبي حاتم أيضًا"عن عبد الله بن عمرو بن العاص" - موقوفًا. ووصف المرفوع بأنه"غريب جدًا". ثم قال بعد الموقوف: "فهذا موقوف أصح إسنادًا من المرفوع". وكذلك ذكر السيوطي 2: 22 المرفوع والموقوف، وقال: "وهو أقوى إسنادًا من المرفوع". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد:"وحصورًا"، قال: الذي لا يأتي النساء. 6989 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الحصور: لا يقرَبُ النساء. 6990 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرقاشي:"الحصور" الذي لا يقرب النساء. 6991 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"الحصور"، الذي لا يولد له، وليس له ماء. 6992 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وحصورًا"، قال: هو الذي لا ماء له. 6993 - حدثنا بشر قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وحصورًا"، كنا نُحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء. 6994 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء. 6995 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة مثله. 6996 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. 6997 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحصور الذي لا ينزل الماء. 6998 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد:"وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 6999 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يريد النساء. 7000 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وحصورًا"، قال: لا يقرب النساء. * * * وأمّا قوله:"ونبيًّا من الصالحين" فإنه يعني: رسولا لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلِّغهم عنه ما أرسله به إليهم. * * * ويعني بقوله:"من الصّالحين"، من أنبيائه الصالحين. (1) * * * وقد دللنا فيما مضى على معنى"النبوّة" وما أصلها، بشواهد ذلك والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه، بما أغنى عن إعادته. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91. (2) انظر تفسير"النبي" فيما سلف 2: 140-142. هذا، وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وكتب هنا ما نصه: "يتلُوُه، إن شاء الله، القولُ في تأويل قوله: {قال ربّ أنّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكِبَر وامرأتي عاقر} . والحمد لله وحده على إحسانه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم". ثم يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 القول في تأويل قوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} قال أبو جعفر: يعني أنّ زكريا قال = إذ نادته الملائكة:"أنّ الله يُبشرّك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين" ="أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر"؟ يعني: مَنْ بلغ من السن ما بلغتُ لم يولد لهُ ="وامرأتي عاقر". * * * "والعاقر" من النساء التي لا تلد. يقال منه:"امرأة عاقر، ورجلٌ عاقرٌ"، كما قال عامر بن الطفيل: لَبِئْسَ الفَتَى! إنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا ... جَبَانًا، فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ!! (1) * * * وأما"الكبر" فمصدر:"كبِرَ فهو يَكبَرُ كِبَرا". وقيل:"بلغني الكبر"، وقد قال في موضع آخر: (قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ)   (1) ديوانه 119، ومجاز القرآن 1: 92، وحماسة الشجري: 7 وغيرها، وسيأتي في التفسير 16: 37 (بولاق) وعامر بن الطفيل، أحد العوران الأشراف (المحبر: 303) ، وقد ذهبت عينه يوم فيف الريح. وأما خبر عقمه، فإنه صدق قول علقمة بن علاثة فيه، فقال: "فقد والله صدق: ما لي ولد، وإني لعاهر الذكر، وإني لأعور البصر" (ديوانه 91، 92) ، وهذا البيت من أبيات قالها في يوم فيف الريح، يذكر صبره في قتالهم، وقد ذهبت عينه حين طعنه مسهر بن يزيد الحارثي بالرمح، ففلق وجنته، وانشقت عين عامر ففقأها. وذكروا أن عامرًا طعن يومئذ بين ثغرة نحره إلى سرته عشرين طعنة، فقال عامر: لَعَمْري، ومَا عَمْري عَلَيَّ بِهَيَّنٍ ... لقَدْ شَانَ حُرَّ الوَجْهِ طَعْنَةُ مُسْهِرِ فَبِئْسَ الفَتَى. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يقول: من يعذرني إذا هبت عدوى وأحجمت عن حر الطعان؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 [سورة مريم: 8] ، لأن ما بلغك فقد بلغته. وإنما معناه: قد كبرت، وهو كقول القائل:"قد بلغني الجهد" (1) بمعنى: أني في جهد. * * * فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله:"ربّ أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر"، وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به؟ أشكّ في صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصفَ به أهل الإيمان بالله! فكيف الأنبياء والمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارًا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم في البلية! قيل: كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير ما ظننتَ، بل كان قِيله ما قال من ذلك، كما:- 7001 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما سمع النداء - يعني زكريا، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان يسخرُ بك! ولو كان من الله أوحاه إليك كما يُوحى إليك في غيره من الأمر! فشكّ مَكانه، (2) وقال:"أنَّي يكون لي غلام"، ذكرٌ؟ = يقول: من أين؟ = (3) "وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر". 7002 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فأتاه الشيطان فأراد أن يكدّر عليه نعمةَ ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم! نادتني ملائكتهُ ربي! (4) قال: بل ذلك الشيطان!   (1) في المطبوعة: "وقد بلغني الجهد" زاد واوًا لا خير فيها، والصواب من المخطوطة. (2) قوله: "فشك مكانه"، أي من ساعته، من فوره. ويقال: "فعل ذلك على المكان"، أي من ساعته غير متلبث ولا متصرف، قبل أن يفارق مكانه. (3) في المطبوعة: "ومن أين" بالواو، وفي المخطوطة واو أيضًا، لكنه ضرب عليها. (4) في المطبوعة: "ناداني"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك! فقال:"رب اجعل لي آية". * * * = فكان قولهُ ما قال من ذلك، ومراجعته ربَّه فيما راجع فيه بقوله:"أنى يكون لي غلام"، للوسوسة التي خالطتْ قلبه من الشيطان حتى خيَّلت إليه أنّ النداء الذي سمعه كان نداءً من غير الملائكة، فقال:"رب أنَّي يكون لي غلام"، مستثبتًا في أمره، ليتقرّر عنده بآية يريها الله في ذلك - (1) أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته، ولذلك قال:"رب اجعل لي آية". * * * وقد يجوز أن يكون قيله ذلك، مسألةً منه ربَّه: من أيّ وجه يكون الولدُ الذي بُشر به؟ أمن زوجته؟ فهي عاقر - أم من غيرها من النساء؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي ومن قال مثلَ قولهما. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"كذلك الله"، أي هو ما وصفَ به نفسه أنه هيِّنٌ عليه أن يخلق ولدًا من الكبير الذي قد يَئس من الولد، ومن العاقر التي لا يُرْجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا من قبل خلْق الولدِ منك ولم تك شيئًا، لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءَه، لأن قدرَته القدرةُ التي لا تُشبهها قدرة، كما:- 7003 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن   (1) في المطبوعة: "يريه الله في ذلك"، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 السدي قال:"كذلك الله يفعل ما يشاء"، وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئًا. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، خبرًا عن زكريا، قال زكريا: ربّ إن كان هذا النداء الذي نُوديتُه، والصوتُ الذي سمعته، صوتَ ملائكتك وبشارةً منك لي، فاجعل لي آية = يقول: علامةً = أن ذلك كذلك، ليزول عنِّي ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي، من أنّ ذلك صوتُ غير الملائكة، وبشارةٌ من عند غيرك، كما:- 7004 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"رب اجعل لي آية"، قال: قال - يعني زكريا -: يا ربّ، فإن كان هذا الصوت منكَ، فاجعل لي آيةً. * * * وقد دللنا فيما مضى على معنى"الآية"، وأنها العلامة، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همْزها، ومن شأنها همزُ كل"ياء" جاءت بعد"ألف" ساكنة. فقال بعضهم: ترك همزها، لأنها كانت"أيَّة"، فثقُل عليهم التشديد، فأبدلوه"ألفًا" لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا:"أيْما فلانٌ فأخزاه الله". (2) * * * وقال آخرون منهم: بل هي"فاعلة" منقوصة.   (1) انظر ما سلف 1: 106، ثم انظر فهرس اللغة مادة (أيى) في الأجزاء السالفة. (2) "أيما"، بمعنى "أما" مشددة الميم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 فسئلوا فقيل لهم: فما بال العرب تصغرها"أيَيَّة"، ولم يقولوا"أوَيَّة". (1) فقالوا: قيل ذلك، كما قيل في"فاطمة"،"هذه فُطيمة". فقيل لهم: فإنهم إنما يصغرون"فاعلة"، على"فعيلة"، إذا كان اسمًا في معنى فلان وفلانة، فأما في غير ذلك فليس من تصغيرهم"فاعلة" على"فعيلة". (2) * * * وقال آخرون: إنه"فَعْلة" صيرت ياؤها الأولى"ألفا"، كما فعل بـ"حاجة، وقامة". فقيل لهم: إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة. (3) وقال من أنكر ذلك من قِيلهم: لو كان كما قالوا: لقيل في"نواة" ناية، وفي"حَياة" حَاية. (4) * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} قال أبو جعفر: فعاقبه الله - فيما ذكر لنا - بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته = على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أويية"، والصواب ما أثبت بتشديد الياء. (2) قائل ذلك، هو الكسائي وأصحابه. وسائلوه: هم الفراء وأصحابه. انظر لسان العرب مادة (أيا) . (3) أولاد الثلاثة: يعني الاسم الثلاثي. (4) انظر تفصيل ما سلف، وبعضه بنصه في لسان العرب 18: 66، وهذه الردود كلها للفراء، كما يظهر من نص اللسان، وكأن في نص الطبري بعض الاضطراب، فإن قوله: "فقيل لهم: إنما يفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة"، إنما هو رد على قول من زعم إنها"فاعلة" منقوصة، مثل حاجة وقامة، وأن أصلها حائجة وقائمة. وأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط، أو قدم شيئًا، فاضطرب الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 بيحيى أنه من عند الله = (1) آية من نفسه، جمعَ تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربَّه على ما يبيِّن له حقيقة البشارة أنها من عند الله، وتمحيصًا له من هفوته، وخطإ قِيله ومسألته. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7005 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزًا"، إنما عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشَّرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه. فأخِذَ عليه بلسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار، فقال الله تعالى ذكره، كما تسمعون:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثةَ أيام إلا رمزًا". 7006 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أن الله يبشرك بيحيى مصدِّقًا"، قال: شافهته الملائكة، فقال:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، يقول: إلا إيماءً، وكانت عقوبةً عُوقب بها، إذ سأل الآيةَ مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به. 7007 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع في قوله:"رب اجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة   (1) في المطبوعة: "على تخصيص ما سمع ... "، وهو فاسد لا معنى له، وأوقعه في ذلك أن كاتب المخطوطة كتب أولا تخصيص" ثم عاد فطمس الصاد الأولى، ووضع عليها نقطتي القاف، ثم ركب على حوض الصاد (ص) دائرة القاف، فلم يستطع الناشر الأول أن يقرأ ذلك إلا على الوجه الذي هرب منه الناسخ!! وسياق هذه العبارة"فجعل آيته. . . آية من نفسه" وتلك الآية: أنه حبس لسانه فلم يكلم الناس إلا كما أمر، رمزًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 أيام إلا رمزًا"، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعدُ، فأخِذَ بلسانه. 7008 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى، قالت:"أنّ الله يبشرك بيحيى"، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخِذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزًا - يقول: يومئ إيماءً. 7009 - حدثني أبو عبيد الوَصّابي قال، حدثنا محمد بن حمير قال، حدثنا صفوان بن عمرو، عن جُبير بن نُفير في قوله:"قال رب اجعل لي آيةً قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: ربَا لسانه في فيه حتى ملأه، ثم أطلقه الله بعد ثلاثٍ. (1) * * * قال أبو جعفر: وإنما اختارت القرأةُ النصبَ في قوله:"ألا تكلم الناس"، لأن معنى الكلام: قال آيتك أن لا تكلمَ الناسَ فيما يستقبلُ ثَلاثة أيام = فكانت"أن" هي التي تصحب الاستقبال، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها. ولو كان المعنى فيه: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام = أي: أنك على هذه الحال ثلاثة أيام = كان وجه الكلام الرفع. لأن"أن" كانت تكون حينئذ بمعنى   (1) الأثر: 7009-"أبو عبيد الوصابي" هو: "محمد بن حفص"، مضى في التعليق على رقم: 129، 6780، وكان في المطبوعة: "الرصافي"، وفي المخطوطة"الوصافي"، وكلاهما خطأ. و"محمد بن حمير" مضى أيضًا في: 129: 6870. و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي الحمصي" روى عن عبد الله بن بسر المازني الصحابي وجبير بن نفير، وجماعة. كان ثقة مأمونًا، مترجم في التهذيب. و"جبير بن نفير"، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وكان جاهليًا، أسلم زمن أبي بكر وروى عن رسول الله وعن أبي بكر مرسلا، وروى عن أبي ذر وأبي الدرداء وغيرهما من الصحابة. قال أبو حاتم: "ثقة من كبار تابعي أهل الشام". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "جويبر بن نصير"!! وهو خطأ لا شك فيه، والصواب في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 الثقيلة خففت. ولكن لم يكن ذلك جائزًا، لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر. * * * وأما"الرّمز"، فإنّ الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماءُ بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وذلك غير كثير فيهم. وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثلُ الهمس بخفض الصّوت:"الرمز"، ومنه قول جُؤيّة بن عائذ: (1) وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزًا ... وَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ (2) يقال منه:"رَمز فلان فهو يَرْمِزُ ويرمُز رَمزًا = ويترمَّزُ ترمُّزًا"، ويقال:"ضربه ضربةً فارتمز منها"، أي اضطرب للموت، قال الشاعر: (3) خَرَرْتُ مِنْهَا لِقِفَايَ أَرْتَمِزْ (4) * * * وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، وأيّ معاني"الرمز" عني بذلك؟ فقال بعضهم: عني بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكًا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام. ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "حوبة بن عابد"، وهو لا معنى له في الصواب ولا في الخطأ. وهو في المخطوطة بهذا الرسم غير منقوط. والصواب ما أثبت. وهو جؤبة بن عائذ النصري، فيما روى ابن السكيت في تهذيب الألفاظ: 125. أما الآمدي في المؤتلف والمختلف: 83، فقد سماه: "عائذ بن جؤية بن أسيد بن جرار بن عبد بن عاثرة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذكره أيضًا البغدادي في الخزانة 1: 476. والعجب لبعض من يعلق على تفسير الطبري أن يزعم كالقاطع الجازم أنه"جؤية بن عائذ الكوفي النحوي"!! (2) لم أجد البيت فيما بين يدي من الكتب، ولكني أذكره. وكان في المطبوعة: "وكان يكلم" والصواب ما أثبت. (3) لم أعرف هذا الراجز. (4) اللسان (رمز) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 7010 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"إلا رمزًا"، قال: تحريك الشفتين. 7011 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: إيماؤه بشفتيه. 7012 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: الإيماء والإشارة. ذكر من قال ذلك: 7013 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"إلا رمزًا"، قال: الإشارة. 7014 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا رمزًا"، قال: الرمز أن يشير بيده أو رأسه، ولا يتكلم. 7015 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إلا رمزًا"، قال: الرمزُ: أنْ أخِذ بلسانه، فجعل يكلم الناس بيده. 7016 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إلا رمزًا"، قال: والرمز الإشارة. 7017- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، الآية، قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا، إلا أنه يذكر الله. والرّمز: الإشارة، يشير إليهم. 7018 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا رمزًا"، إلا إيماءً. 7019 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 7020 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا رمزًا"، يقول: إشارة. 7021 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"إلا رمزًا"، إلا إشارة. 7022 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: أمسكَ بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أنْ سبِّحوا بُكرة وعشيًّا. * * * القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (41) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: قال الله جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا،"آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، بغير خرس ولا عاهة ولا مرض، ="واذكر ربك كثيرًا"، فإنك لا تمنع ذكرَه، ولا يحالُ بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره، (1) وقد:-   (1) انظر تفسير"سبح" فيما سلف 1: 472-474، وفهارس اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 7023 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر، لرخَّص لزكريا حيث قال:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا واذكر ربك كثيرًا"، أيضًا. * * * وأما قوله:"وسبح بالعشي"، فإنه يعني: عَظِّم ربك بعبادته بالعشي. * * * و"العَشيّ" من حين تزُول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر: (1) فَلا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعَهُ، ... وَلا الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ (2) فالفيء، إنما تبتدئ أوْبته عند زوال الشمس، وَيتناهى بمغيبها. * * *   (1) هو حميد بن ثور الهلالي. (2) ديوانه: 40، وهو من قصيدته الجيدة التي قالها، لما تقدم عمر بن الخطاب إلى الشعراء، أن لا يشبب أحد بامرأة إلا جلده، فخرج من عقوبة عمر بأن ذكر"سرحة" وسماها"سرحة مالك" فشكا أهلها إلى عمر، فقال لهم: تجرَّمَ أهْلُوهَا، لأَنْ كُنْتُ مُشْعَرًا ... جُنُونًا بها!! يا طُولَ هذَا التَجَرُّمِ! وَمَا لِيَ من ذَنْبٍ إِلَيْهِمْ عَلِمْتُهُ ... سِوَى أنّني قَدْ قُلْتُ: "يَا سَرْحَةُ اسْلَمِى" بَلَى، فاسلِمي، ثُمَّ اسْلَمِي، ثُمَّتَ اسلمي، ... ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ، وإن لم تَكَلَّمي فكان رحمه الله خفيف الدم (كما يقول المصريون) . أما الأبيات التي منها البيت المستشهد به، فإنه ذكر السرحة واستسقى لها، ووصفها واستجاد لصفتها مكارم الصفات، ثم قال: فَيَا طِيبَ رَيَّاهَا، وَيَا بَرْدَ ظِلِّهَا ... إذَا حَانَ من حَامي النّهارِ وُدُوقُ وهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحةٍ ... من السَّرْحِ، مَسدُودٌ عَلَيَّ طريقُ حَمَى ظِلَّهَا شَكْسُ الخَلِيقَةِ، خَائِفٌ ... عَلَيْهَا غَرَامَ الطَّائِفينَ، شَفِيقُ فَلاَ الظِلَّ مِنْهَا بالضُّحَى تَسْتَطِيعُه ... وَلاَ الفَيْءَ مِنْهَا بالعَشِيّ تَذُوقُ مع اختلاف الروايتين كما ترى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 وأما"الإبكار" فإنه مصدر من قول القائل:"أبكر فلان في حاجة فهو يُبْكِر إبكارًا"، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضُّحى، فذلك"إبكار". يقال فيه:"أبكر فلان" و"بكر يَبكُر بُكورًا". فمن"الإبكار"، قول عمر بن أبي ربيعة: أَمِنْ آلِ نُعَمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ (1) ومن"البكور" قول جرير: أَلا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا ... وَشَقَّ العَصَا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ أَمِيرُهَا (2) ويقال من ذلك:"بكر النخلُ يَبْكُر بُكورًا = وأبكر يُبكر إبكارًا"، (3) و"الباكور" من الفواكه: أوّلها إدراكًا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7024 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وسبِّح بالعشيّ والإبكار"، قال:   (1) ديوانه: 1، من قصيدته النفيسة، يقولها في"نعم"، وهي امرأة من قريش، من بني جمح، كان عمر كثير الذكر لها في شعره. وكأن شعره فيها من أصدق ما قال في امرأة، وهذا الشطر أول القصيدة وتمامه: غَدَاةَ غَدٍ? أمْ رَائحٌ فَمُهَجِّر?" (2) ديوانه: 293، والنقائض: 7، يجيب حكيم بن معية الربعي، وكان هجا جريرًا. قال أبو عبيدة: "شق العصا: التفرق، ومن هذا يقال للرجل المخالف للجماعة: قد شق العصا. وأميرها: الذي تؤامره، زوجها أو أبوها". (3) هذا نص خلت منه كتب اللغة، وحفظه أبو جعفر. وهو صواب، فإنهم قالوا: "البكيرة والباكورة والبكور" من النخل: التي تدرك في أول النخل، فذكروا الصفات، وتركوا الفعل. فهي زيادة ينبغي تقييدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 الإبكار أوّل الفجر، والعشيّ مَيْل الشمس حتى تغيب. (1) 7025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله سميعٌ عليم إذ قالت امرأة عمران ربّ نذرتُ لك ما في بطني محرَّرًا"،"وإذ قالت الملائكة يا مريمُ إن الله اصطفاك". * * * ومعنى قوله:"اصطفاك"، اختارك واجتباك لطاعته وما خصّك به من كرامته. (2) * * * وقوله:"وطهَّرك"، يعني: طهَّر دينك من الرّيب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم (3) * * * ="واصطفاك على نساء العالمين"، يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك، (4) بطاعتك إياه، ففضَّلك عليهم، كما روى عن رسول الله صلى الله   (1) في المخطوطة: "مثل الشمس حيا يعيب"،!!! هكذا كتب وأعجم!! (2) انظر معنى"اصطفى" فيما سلف 3: 91 / ثم 5: 312 / 6: 326. (3) انظر معنى"طهر" فيما سلف 3: 38-40، وفهارس اللغة. (4) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف 1: 143-146 / 2: 23-26 / ثم 5: 375. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 عليه وسلم أنه قال:"خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة بنت خويلد" = يعني بقوله:"خير نسائها"، خير نساء أهل الجنة. 7026 - حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا محاضر بن المورّع قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليًّا بالعراق يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة. (1) 7027 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد. (2)   (1) الحديث: 7026- محاضر بن المورع الهمداني الكوفي، وكنيته"أبو المورع" أيضًا: ثقة، لينة أحمد وأبو حاتم. ورجحنا في المسند: 3823 توثيقه. ووثقه ابن سعد 6: 278. و"محاضر": بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة. و"المورع": بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة وآخره عين مهملة. والحديث رواه أحمد في المسند، عن عبد الله بن نمير: 640، وعن وكيع: 1109، وعن محمد ابن بشر: 1211- ثلاثتهم عن هشام بن عروة. ورواه ابنه عبد الله، في المسند: 938، عن طريق أبي خيثمة، ووكيع، وأبي معاوية - ثلاثتهم عن هشام بن عروة، بهذا الإسناد. ورواه البخاري 6: 339، و 7: 100-110، ومسلم 2: 243، والترمذي 4: 365- كلهم من طريق هشام بن عروة، به. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 184، عن طريق ابن نمير، ثم من طرق المسند عن وكيع وابن نمير. وذكره ابن كثير في التفسير 2: 138، وفي التاريخ 2: 59، عن رواية الصحيحين. وذكره السيوطي 2: 23، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة، وابن مردويه. (2) الحديث: 7027- المنذر بن عبد الله بن المنذر الحزامي: ثقة، كان من سروات قريش وأهل الندى والفضل. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 359، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 243- فلم يذكرا فيه جرحًا. والحديث هو الحديث السابق. ولكنه هنا من حديث عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك من حديثه عن عمه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهو إما مرسل صحابي، وإما قصر الراوي عن هشام، فترك ذكر علي، والأرجح أن يكون عبد الله بن جعفر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعه عنه بواسطة علي. فرواه على الوجهين. وهو صحيح بكل حال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 7028 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: حسبك بمريم بنت عمران، وامرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، من نساء العالمين = قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"خيرُ نساء ركبن الإبل صوالحُ نساء قريش، أحناهُ على ولد في صغره، وأرعاهُ على زوج في ذات يده" = (1) قال قتادة: وذكر لنا أنهُ كان يقول:"لو علمت أنّ مريم ركبت الإبل، ما فضّلت عليها أحدًا". (2)   (1) من العربية العريقة إعادة الضمير المفرد بعد أفعل التفضيل، على الجمع، وقد جاء في الشعر، وجاء في الآثار كقوله: "كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا". وقد سلف بيان ذلك في رقم: 5968، 6129، (فانظره) . (2) الحديث: 7028 - هو حديث مرسل. بل هو في حقيقته ثلاثة أحاديث، يقول قتادة في أول كل منها: "ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول": فأولها -"حسبك بمريم ... "-: ثبت موصولا. فرواه أحمد في المسند: 12418 (ج 3 ص 135 حلبي) - عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس - هو ابن مالك - مرفوعًا، بنحوه. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 3: 157-158، عن أبي بكر القطيعي - راوي المسند - عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن عبد الرزاق. ولكنه ذكر أنه رواه عن القطيعي "في فضائل أهل البيت، تصنيف أبي عبد الله أحمد بن حنبل". فلم يروه من كتاب (المسند) ، إنما رواه من كتاب آخر لأحمد والإسناد واحد. ورواه الترمذي 4: 366، وابن حبان في صحيحه (2: 375 من مخطوطة التقاسيم والأنواع) - كلاهما من طريق عبد الرزاق، به. وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: حسبك من نساء العالمين - يسوي بين نساء الدنيا". وقد يوهم كلام الحاكم أن الشيخين روياه من حديث أنس بغير هذا اللفظ. والشيخان لم يروياه من حديث أنس أصلا. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 59-60، من رواية المسند، وفي التفسير 2: 138-139، من رواية الترمذي. وأشار في الموضعين إلى رواية ابن مردويه إياه من طريق ثابت عن أنس. وسيأتي من رواية ثابت: 7030. وسنذكره هناك، إن شاء الله. وأشار الحافظ في الفتح 6: 340، إلى رواية الترمذي إياه، وقال: "بإسناد صحيح". وثانيها: "خير نساء ركبن الإبل ... " - وسيأتي عقب هذا: 7029، من رواية قتادة، عن أبي هريرة. وسيأتي عقب هذا: ونذكر علته وتخريجه هناك، إن شاء الله. وثالثها: "لو علمت أن مريم ركبت الإبل، ما فضلت عليها أحدًا". وهو لفظ منكر، ما علمته ثبت من طريق متصل. والصحيح أنه من كلام أبي هريرة، كما سيأتي في الحديث التالي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 7029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، قال: كان أبو هريرة يحدث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيرُ نساء ركبن الإبل صُلحُ نساء قُرْيش، أحناه على ولد، وأرعاه لزوج في ذات يده = قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرًا قط. (1)   (1) الحديث: 7029- وهذا إسناد منقطع، لأن قتادة بن دعامة السدوسي لم يدرك أبا هريرة، لأنه ولد سنة 61، بعد وفاة أبي هريرة. ولذلك قال هنا: "كان أبو هريرة يحدث"، فهو شبيه في عبارته بالبلاغ. ومتن الحديث صحيح: فرواه أحمد في المسند: 7637، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، بنحوه، مطولا. ورواه كذلك: 7695، بهذا الإسناد، مختصرًا. ورواه: 7638، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، مختصرًا. وذكره ابن كثير في التفسير 2: 138، عن الرواية الأولى من المسند، ثم قال: "ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد - كلاهما عن عبد الرزاق، به". وذكره أيضًا في التاريخ 2: 60، ثم أشار إلى رواية مسلم. ورواية مسلم، هي في صحيحه 2: 370. ورواه أيضا البخاري 9: 107-108، و 448، ومسلم 2: 369-370، من طرق عن أبي هريرة. والروايات الصحاح، هي أن أبا هريرة قال من عند نفسه، في آخر الحديث: "ولم تركب مريم بعيرًا قط". وأما رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، باللفظ الذي في الحديث السابق - فهو كما قلنا: "لفظ منكر". قوله"صلح" - بضمتين: هكذا في المخطوطة. وكان ناسخها كتب"صوالح"، ثم ضرب عليها وكتب"صلح". و"صلح": جمع"صليح". يقال: صالح وصلح، وهو جمع محمول على"فعيل" في الأسماء، فقالوا في جمع الصفات: "نذير ونذر، وجديد وجدد"، كما قالوا في الأسماء"كثيب وكثب". وهذا حرف لم ينص عليه في كتب اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 7030 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، قال: كان ثابت البناني يحدث، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. (1) 7031 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرّجال كثيرٌ،   (1) الحديث: 7030- هذا إسناد ضعيف، لجهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري، إذ قال"حدثت" بالبناء للمجهول. وابن أبي جعفر: هو عبد الله الرازي. وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 127. أبوه "أبو جعفر الرازي": اختلف في اسمه، والراجح أنه"عيسى بن ماهان". وهو ثقة، وثقه ابن المديني، وابن سعد 7 / 2 / 109، وغيرهما. ترجم في التهذيب في الكنى، وترجمه ابن أبي حاتم في ترجمة"عيسى" 3 / 1 / 280. وقد أشرنا إلى ترجمته في: 164. ولم أستطع أن أجد ما يدل على أنه أدرك ثابتًا البناني. ثم هذا الحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2: 139، والتاريخ 2: 60 أنه رواه ابن مردويه، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن ثابت، عن أنس. وزاد في التاريخ أنه رواه ابن عساكر من طريق تميم بن زياد، عن أبي جعفر الرازي، ولكنه لم يكشف عن سنده في ابن مردويه إلى ابن أبي جعفر، ولا عن سنده في ابن عساكر إلى تميم بن زياد، فلا نستطيع أن نتبين صحة هذين الإسنادين أو أحدهما. وقد مضى في شرح 7028، أنه رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم - من حديث معمر، عن قتادة، عن أنس. فأغنى ثبوته من ذاك الوجه الصحيح عن هذا الوجه الضعيف، أو المشكوك في صحته. والحمد لله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 ولم يكمل من النساء إلا مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. (1) 7032 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود المصري قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا عند عائشة، فناجاني، فبكيتُ، ثم ناجاني فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عَجلْتِ! أخبرُك بسرّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فتركتني. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عائشة فقالت: نعم، ناجاني فقال: جبريلُ كان يعارضُ القرآنَ كلّ عام مرة، وإنه قد عارضَ القرآنَ مرّتين؛ وإنه ليس من نبيّ إلا عُمِّر نصف عُمر الذي كان قبله، وإن عيسى أخي كان عُمْره عشرين ومئة سنة، وهذه لي ستون، وأحسبني ميتًا في عامي هذا، وإنه لم تُرْزأ امرأةٌ من نساء العالمين بمثل ما رُزئتِ، ولا تكوني دون امرأة صبرًا! قالت: فبكيتُ، ثم قال: أنت سيدة   (1) الحديث: 7031- آدم العسقلاني: هو آدم بن أبي إياس، شيخ البخاري. مضى مرارًا. عمرو بن مرة: هو الجملي المرادي. مضى توثيقه: 175. واسم جده"عبد الله بن طارق". فمرة أبوه، غير"مرة الهمداني" شيخه هنا. فإنه"مرة بن شراحيل الهمداني" الثقة التابعي المخضرم. وقد مضى مرارًا. والحديث رواه البخاري 6: 340، عن آدم - وهو ابن أبي إياس العسقلاني، بهذا الإسناد، مطولاً. ورواه أيضا 6: 320، من طريق وكيع، عن شعبة، ورواه أيضًا 7: 83، عن آدم، وعن عمرو - وهو ابن مرزوق - كلاهما عن شعبة. ونقله ابن كثير في التفسير 2: 139، عن هذا الموضع من الطبري، ثم قال: "وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة، به". ثم ذكر أنه استقصى طرقه في التاريخ. ولكنه لم يفعل، فإنه ذكره فيه 2: 61، منسوبًا إلى"الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة". وذكره السيوطي 2: 23، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 نساء أهل الجنة إلا مريم البتول. فتوفي عامه ذلك. (1) 7033 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو الأسود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، أن أبا زياد الحميريّ حدثه، أنه سمع عمار بن سعد يقول: قال   (1) الحديث: 7032- أبو الأسود المصري: هو النضر بن عبد الجبار بن نصير المرادي. وهو ثقة. روى عنه يحيى بن معين، وأبو حاتم، وغيرهما. عمارة بن غزية - بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء التحتية - بن الحارث، الأنصاري المازني المدني: ثقة، وثقه ابن سعد، والدارقطني، وغيرهما، وأخرج له مسلم في الصحيح. محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: ثقة، وثقه النسائي، والعجلي، وغيرهما. وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث عالمًا". وكان جوادًا ممدحًا. وهو المعروف بالديباج، لحسنه. وأبوه"عبد الله بن عمرو بن عثمان": هو المعروف بالمطرف، لحسنه أيضًا. ووقع في المخطوطة والمطبوعة"محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان". وهو خطأ يقينًا في اسم والد"محمد". فهو"عبد الله"، لا"عبد الرحمن". وفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: تابعية ثقة. كانت تحت ابن عمها"الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب"، وأعقبت منه، فلما مات تزوجت"المطرف عبد الله بن عمرو بن عثمان". زوجه إياها ابنها عبد الله بن حسن بن حسن، بأمرها، فأعقبت منه أولادًا، منهم "محمد" الراوي عنها هنا. وعمرت فاطمة حتى قاربت التسعين. وروايتها عن جدتها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - رواية منقطعة، ظاهرة الإرسال، لأن الزهراء ماتت بعد أبيها بستة أشهر، وكان ولدها الحسن والحسين صغيرين. فهذا الحديث ضعيف الإسناد، لهذا الانقطاع. ولم أجده في شيء من الدواوين غير هذا الموضع. وقد أشار إليه الحافظ في الفتح مرتين، لم ينسبه فيهما لغير الطبري: فأشار إليه 6: 104، وجعله"عند الطبري من وجه آخر عن عائشة"، وهو وهم، فإنه من حديث فاطمة، كما ترى. ثم أشار إليه 7: 82 على الصواب، من حديث فاطمة. ووقع فيه في الموضعين غلط من ناسخ أو طابع. وأصل هذه القصة ثابت من حديث عائشة، في الصحيحين وغيرهما. ولكن ليس فيه ذكر عيسى وعمره، ولا أنه"لم ترزأ امرأة ... ". وعمر عيسى المذكور - في هذه الرواية- منكر جدًا، لم نجد أحدًا قال مثل هذا، فيما نعلم. وهو من دلائل ضعف هذه الرواية. وانظر حديث عائشة في البخاري 65: 462، و 7: 63-64، و 8: 103-104 (فتح) ، ومسلم 2: 248-249، وابن سعد 2 / 2 / 39-40، و 8: 17. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 رسول الله صلى الله عليه وسلم: فُضّلت خديجةُ على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين. (1) * * * وبمثل الذي قلنا في معنى قوله:"وطهرك"، أنه: وطهَّر دِينك من الدّنس والرّيب، قاله مجاهد. (2) 7034 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن الله اصطفاك وطهرك"، قال: جعلك طيبةً إيمانًا. 7035 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * 7036 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح:"واصطفاك على نساء العالمين"، قال: ذلك للعالمين يومئذ. (3) * * * وكانت الملائكة - فيما ذكر ابن إسحاق - تقول ذلك لمريم شفاهًا. 7037 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال:   (1) الحديث: 7033- هذا إسناد ضعيف بكل حال. أما أبو زياد الحميري: فلم نعرف من هو؟ ولم نجد له ترجمة ولا ذكرًا. والغالب أنه محرف عن شيء لا ندريه. وأما "عمار بن سعد بن عابد المؤذن": فإنه المعروف أبوه بلقب"سعد القرظ" المؤذن. وعمار هذا تابعي، نص في التهذيب على أن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة. وقد ترجمه الحافظ في الإصابة 5: 83، في القسم الثاني، الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "قال مجاهد"، والصواب ما أثبت كما يدل عليه السياق. (3) انظر ما سلف ص: 393 تعليق: 4، مراجع تفسير"العالمين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 كانت مريم حبيسًا في الكنيسة، ومعها في الكنيسة غُلام اسمه يُوسف، وقد كانَ أمه وأبوه جعلاه نذيرًا حبيسًا، فكانا في الكنيسة جميعًا، وكانت مريم، إذا نَفِدَ ماؤها وماء يوسف، أخذا قُلَّتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذِبان منه، (1) فيملآن قلتيهما، ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم:"يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، فإذا سمع ذلك زكريا قال: إنّ لابنة عمرانَ لشأنًا. * * * القول في تأويل قوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله - خبرًا عن قِيل ملائكته لمريم:"يا مريم اقنتي لربك"، أخلصي الطاعة لربك وحده. * * * وقد دللنا على معنى"القنوت"، بشواهده فيما مضى قبل. (2) والاختلافُ بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع، نحو اختلافهم فيه هنالك. وسنذكر قول بعضهم أيضًا في هذا الموضع. فقال بعضهم: معنى"اقنتي"، أطيلي الرُّكود. ذكر من قال ذلك: 7038 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) يستعذبان: يستقيان، وأصله من قولهم: "استعذب": أي استقى أو طلب ماء عذبًا. وفي الحديث: "أنه كان يستعذب له من بيوت السقيا"، أي يحضر له منها الماء العذب. (2) انظر ما سلف 2: 538، 539 / ثم 5: 228، 237 / 6: 264. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: أطيلي الركود، يعني القنوت. 7039 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7040 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"اقنتي لربك"، قال قال مجاهد: أطيلي الركود في الصّلاة = يعني القنوت. 7041 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى وَرِم كعباها. 7042 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى ورمت قدَماها. 7043 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن مجاهد:"اقنتي لربك"، قال: أطيلي الركود. 7044 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: القنوت: الركود. يقول: قومي لربك في الصلاة. يقول: اركدي لربّك: أي انتصبي له في الصلاة ="واسجدي واركعي مع الراكعين". 7045 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: كانت تصلي حتى تَرِم قدماها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 7046 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا الأوزاعي:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: كانت تقوم حتى يَسيل القيح من قدميها. * * * وقال أخرون: معناه: أخلصي لربك. ذكر من قال ذلك: 7047 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: أخلصي لربك. * * * وقال أخرون: معناه: أطيعي ربك. ذكر من قال ذلك: 7048 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"اقنتي لربك"، قال: أطيعي ربك. 7049 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"اقنتي لربك"، أطيعي ربك. 7050 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن، فهو طاعة لله. (1) 7051 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"يا مريم اقنتي لربك"، قال يقول: اعبدي ربك. * * *   (1) الأثر: 7050 - هذا إسناد آخر للخبر السالف رقم: 5518 من طريق الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن ابن لهيعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 قال أبو جعفر: وقد بينا أيضًا معنى"الرّكوع""والسجود" بالأدلة الدالة على صحته، (1) وأنهما بمعنى الخشوع لله، والخضوع له بالطاعة والعُبُودة. (2) * * * فتأويل الآية، إذًا: يا مريم أخلصي عبادةَ ربك لوجهه خالصًا، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه، شكرًا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتَّطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالم دَهرك. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم، وزكريا وابنه يحيى، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا"، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، فقال: هذه الأنباء من"أنباء الغيب"، أي: من أخبار الغيب. ويعني ب"الغيب"، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم. ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقًا لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب، فيصل إلى علم ذلك من   (1) انظر تفسير"السجود" فيما سلف 2: 104، 105، 242، وفهارس اللغة، وتفسير"الركوع" فيما سلف 1: 574، 575 / ثم 3: 43، 44، وفهارس اللغة. (2) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت صواب ما في المخطوطة، والطبري يكثر من استعمالها كذلك. انظر ما سلف: 271؛ والتعليق: 1. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 قِبَل الكتب، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم. * * * وأما"الغيْب" فمصدر من قول القائل:"غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً". (1) * * * وأما قوله:"نُوحيه إليك"، فإن تأويله: نُنَزِّله إليك. * * * وأصل"الإيحاء"، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه. وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء، وبإلهام، وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [سورة النحل: 68] ، بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) [سورة المائدة: 111] ، بمعنى: ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا، وكما قال الراجز: (2) * أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ * (3) بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا، وكما قال جل ثناؤه: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم: 11] ، بمعنى: فألقى ذلك إليهم إيماء. (4) والأصل   (1) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف 1: 236، 237. (2) هو العجاج. (3) ديوانه 5، واللسان"وَحَى"، وسيأتي في التفسير 4: 142 (بولاق) ، وغيرها. ورواية ديوانه، وإحدى روايتي اللسان"وحى" ثلاثيًا، وقال: "أراد أوحى"، إلا أن من لغة هذا الراجز إسقاط الهمزة مع الحرف"، وانظر ما سيأتي في تفسير سورة مريم (16: 41 بولاق) . والبيت من رجز للعجاج يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه، أوله: الحَمْدُ لِلِه الَّذِي اسْتَقَّلتِ ... بِإِذْنِه السَّماءُ، وَاطْمأَنَّتِ بِإذْنِهِ الأَرْضُ وما تَعَتَّتِ ... وَحَى لَهَا القرارَ فَاسْتَقَرَّتِ وَشدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثَّبتِ ... رَبُّ البِلادِ والعِبَادِ القُنَّتِ (4) في المخطوطة والمطبوعة: "فألقى ذلك إليهم أيضًا"، وهو خطأ بين، والصواب ما أثبته، وانظر ما سلف قريبًا في بيان قوله تعالى: "رمزًا"، ص: 388، وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 فيه ما وصفتُ، من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماءً، ويكون بكتاب. ومن ذلك قوله: (1) (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) [سورة الأنعام: 121] ، يلقون إليهم ذلك وسوسةً، وقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [سورة الأنعام: 19] ، (2) ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عز وجل. وأما"الوحْي"، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب"وحيًا"، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه، كما قال كعب بن زهير: أَتَى العُجْمَ والآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ (3) يعني به: الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً، إذا كتبه الكاتب:"وحَى" بغير ألف، ومنه قول رؤبة: كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحِ تَدْهَمُهْ ... وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ (4) * * *   (1) في المخطوطة: "وذلك قوله"، والصواب ما في المطبوعة. (2) قوله: "لأنذركم به ومن بلغ"، ليس في المخطوطة. (3) ديوانه: 64، من قصيدة مضى منها بيت فيما سلف 1: 106، وهي قصيدة جيدة، يرد فيها ما قاله فيه مزرد، أخو الشماخ، حين ذكر كعب الحطيئة في شعره وقدمه وقدم نفسه، فغضب مزرد وهجاه، فقال يفخر بأبيه ثم بنفسه، بعد البيت السالف في الجزء الأول في التفسير: فَإِنْ تَسْأَلِ الأَقْوَامَ عَنِّي، فَإِنَّنِي ... أَنَا ابْنُ أبِي سُلْمَى عَلَى رَغْمِ مَنْ رَغِمْ أنَا ابنُ الَّذِي قَدْ عَاشَ تِسْعِينَ حِجَّةً ... فَلَمْ يَخْزَ يَوْمًا في مَعَدٍّ وَلَمْ يُلَمْ وَأَكْرَمَهُ الأكْفَاءُ فِي كُلِّ مَعْشَرٍ ... كِرَامٍ، فَإِنْ كَذَّبْتَني، فَاسْأَلِ الأُمَمْ أَتَى العُجْمَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (4) ديوانه: 149، من رجز طويل بارع غريب المعاني والوجوه، يذكر فيه مآثر أبي العباس السفاح، وهو غريب الكلام، ولكنه حسن المعاني إذا فتشته، فأقرأه وتأمله. وهذه الأبيات في مطلع الرجز، والضمير عائد فيها على ربع دارس طال قدمه، وعفته الرياح. وقوله: "تدهمه" تغشاه كما يغشى المغير جيشًا فيبيده. وارثعن المطر (بتشديد النون) : كثر وثبت ودام. فهو مرثعن. ووثم المطر الأرض يثمها وثمًا: ضربها فأثر فيها، كما يثم الفرس الأرض بحوافره: أي يدقها، إلا أن هذا أخفى وأكثر إلحاحًا. ونمنم الكتاب: رقشه وزخرفه وأدق حظه: وقارب بين حروفه الدقاق، وتلك هي النمنمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 القول في تأويل قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما كنت لديهم"، وما كنت، يا محمد، عندهم فتعلم ما نعلِّمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدركُ معرفته، بتعريفناكَهُ. * * * ومعنى قوله:"لديهم"، عندهم. * * * ومعنى قوله:"إذ يلقون"، حينَ يلقون أقلامهم. * * * وأما"أقلامهم"، فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله:"وكفَّلها زكريا". (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7052 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وما كنت لديهم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم. 7053 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،   (1) انظر ما سلف ص: 345-352. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يلقون أقلامهم"، زكريا وأصحابه، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلتْ عليهم. 7054 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7055 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون"، كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها،"فكفَّلها زكريا"، يقول: ضمها إليه. (1) 7056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يلقون أقلامهم"، قال: تساهموا على مريم أيُّهم يكفلها، فقرَعهم زكريا. 7057 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، وإنّ مريم لما وضعت في المسجد، اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوَحْى، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفُلها، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لدَيهم إذْ يختصمون". 7058 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد   (1) قوله: "وكان زوج أختها"، يعني زوج أخت أم مريم، لا زوج أخت مريم، وكأن الخبر لما اختصر، سقط منه ذكر أم مريم، وبقي باقي الخبر على حاله، وقد بينت ذلك فيما سلف ص: 349، تعليق: 4. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، اقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفل مريم، فقرَعهم زكريا. 7059 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم"، قال: حيث اقترعوا على مريم، وكان غَيبًا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبرَه الله. * * * وإنما قيل:"أيهم يكفل مريم"، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل:"إذ يلقون أقلامهم"، دلالة على محذوف من الكلام، وهو:"لينظروا أيهم يكفل، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه". * * * فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في"أيهم" النصبُ، إذ كان ذلك معناه، فقد ظن خطأ. وذلك أن"النظر" و"التبين" و"العلم" مع"أيّ" يقتضي استفهامًا واستخبارًا، وحظ"أىّ" في الاستخبار، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل:"لأنظُرَنّ أيهم قام"، لأستخبرنَ الناس: أيهم قام، وكذلك قولهم:"لأعلمن". * * * وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى"يكفل"، يضمُّ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * *   (1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 348. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 القول في تأويل قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما كنتَ، يا محمد، عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى. وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟ كما:- 7060 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما كنت لديهم إذ يختصمون"، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت الملائكة"، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضًا إذ قالت الملائكة: يا مريم إنّ الله يبشرك. * * *   (1) الأثر: 7060- سيرة ابن هشام 2: 229، وهو من بقية الآثار التي كان آخرها رقم: 6911. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 " والتبشير" إخبار المرء بما يسره من خبر. (1) * * * وقوله:"بكلمة منه"، يعني برسالة من الله وخبر من عنده، وهو من قول القائل:"ألقى فلانٌ إليّ كلمةً سَرّني بها"، بمعنى: أخبرني خبرًا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) [سورة النساء: 171] ، يعني: بشرى الله مريمَ بعيسى، ألقاها إليها. * * * فتأويل الكلام: وما كنت، يا محمد، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم. * * * وقد قال قوم - وهو قول قتادة -: إن"الكلمة" التي قال الله عز وجل:"بكلمة منه"، هو قوله:"كن". 7061 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"بكلمة منه"، قال: قوله:"كن". * * * فسماه الله عز وجل"كلمته"، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء:"هذا قدَرُ الله وقضاؤُه"، يعنى به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) [سورة النساء: 47 \ سورة الأحزاب: 37] ، يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل. (2) * * *   (1) انظر معنى"التبشير" فيما سلف في هذا الجزء: 369، تعليق: 2، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة هنا"من خير". وفي المخطوطة غير منقوطة، وصوابه ما أثبت. (2) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء. * * * وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"الكلمة" هي عيسى. 7062 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه"، قال: عيسى هو الكلمة من الله. * * * قال أبو جعفر: وأقربُ الوُجوه إلى الصواب عندي، القولُ الأول. وهو أنّ الملائكة بشَّرت مريمَ بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرَها أن تُلقيها إليها: أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل، ولذلك قال عز وجل:"اسمه المسيح"، فذكَّر، ولم يقُل:"اسمُها" فيؤنث، و"الكلمة" مؤنثة، لأن"الكلمة" غير مقصود بها قصدُ الاسم الذي هو بمعنى"فلان"، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكِّرت كنايتها كما تذكر كناية"الذرّية" و"الدابّة" والألقاب، (1) على ما قد بيناه قبل فيما مضى. (2) * * * فتأويل ذلك كما قلنا آنفًا، من أنّ معنى ذلك: إن الله يبشرك ببشرى = ثم بيَّن عن البشرى أنها ولدٌ اسمه المسيح. * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال:"اسمه المسيح"، وقد قال:"بكلمة منه"، و"الكلمة"، عنده هي عيسى = لأنه في المعنى كذلك، كما قال جل ثناؤه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا) ، ثم قال (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا) [سورة الزمر: 56- 59] ، وكما يقال:"ذو الثُّدَيَّة"، لأن يده   (1) الكناية: الضمير، كما سلف مرارًا، وهو من اصطلاح الكوفيين. (2) انظر ما سلف 2: 210 / ثم هذا الجزء: 362، 363، ومواضع أخرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 كانت قصيرة قريبة من ثدييه، (1) فجعلها كأنّ اسمها"ثَدْيَة"، ولولا ذلك لم تدخل"الهاء" في التصغير. * * * وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة: في أنّ"الهاء" من ذكر"الكلمة"، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله"اسمه"، و"الكلمة"، متقدمة قبله. فزعم أنه إنما قيل:"اسمه"، وقد قدّمت"الكلمة"، ولم يقل:"اسمها"، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضَع لتعريف المسمى به، كـ"فلان" و"فلان"، وذلك، مثل"الذرّية" و"الخليفة" و"الدابة"، ولذلك جاز عنده أن يقال:"ذرية طيبة" و"ذرّيةً طيبًا"، ولم يجز أن يقال:"طلحة أقبلت = ومغيرة قامت". (2) * * * وأنكر بعضهم اعتلالَ من اعتلّ في ذلك بـ"ذي الثدية"، وقالوا: إنما أدخلت"الهاء" في"ذي الثدية"، لأنه أريد بذلك القطعة منَ الثَّدْي، كما قيل:"كنا في لحمة ونَبيذة"، يراد به القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك. * * * وأما قوله:"اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم"، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمّه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوّته إلى الله عز وجل، وما قَرَفَتْ أمَّه به المفتريةُ عليها من اليهود، (3) كما:-   (1) خبر ذي الثدية مشهور معروف، انظر سنن أبي داود"باب قتال الخوارج" 4: 334-338. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 362، 363. (3) في المطبوعة: "قذفت به"، والصواب من المخطوطة. قرف الرجل بسوء: رماه به واتهمه، فهو مقروف. وقوله: "المفترية" مرفوعة فاعل"قرفت أمه به"، ويعني الفئة المفترية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 7063 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين"، أي: هكذا كان أمرُه، لا ما يقولون فيه. (1) * * * وأما"المسيح"، فإنه"فعيل" صرف من"مفعول" إلى"فعيل"، وإنما هو"ممسوح"، يعني: مَسحه الله فطهَّره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم:"المسيح" الصدّيق ... (2) 7064 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله. 7065 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله. * * * وقال آخرون: مُسح بالبركة. 7066 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، قال سعيد: إنما سمي"المسيح"، لأنه مُسِح بالبركة. * * *   (1) الأثر: 7063- سيرة ابن هشام 2: 229-230، وهو من بقية الآثار التي آخرها: 7060، ونصه: "لا كما تقولون فيه". (2) مكان هذه النقط سقط لا شك فيه عندي، وأستظهر أنه إسناد واحد إلى"إبراهيم" ثم يليه الأثر رقم: 7064، فيه أن المسيح هو الصديق، كما ذكر. وكان في المخطوطة والمطبوعة موضع هذه النقط: "وقال آخرون: مسح بالبركة"، وهو كلام لا يستقيم، كما ترى، فأخرت هذه الجملة إلى مكانها قبل الأثر رقم: 7066، واستجزت أن أصنع ذلك، لأنه من الوضوح بمكان لا يكون معه شك أو لجلجة. هذا، وفي تفسير"المسيح" أقوال أخر كثيرة، لا أظن الطبري قد غفل عنها، ولكني أظن أن في النسخة سقطًا قديمًا، ولذلك اضطرب الناسخ هنا. هذا إذا لم يكن الطبري قد أغفلها اختصارًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 القول في تأويل قوله: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) } قال أبو جعفر: يعني بقوله"وجيهًا"، ذا وَجْهٍ ومنزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس"وجيه"، يقال منه:"ما كان فلان وَجيهًا، ولقد وَجُهَ وَجاهةً" ="وإن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً"، و"الجاه" مقلوب، قلبت، واوه من أوّله إلى موضع العين منه، فقيل:"جاه"، وإنما هو"وجه"، و"فعل" من الجاه:"جاهَ يَجوه". مسموع من العرب:"أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا"، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه. * * * وأما نصب"الوجيه"، فعلى القطع من"عيسى"، (1) لأن"عيسى" معرفة، و"وجيه" نكرة، وهو من نعته. ولو كان مخفوضًا على الردّ على"الكلمة" كانَ جائزًا. * * * وبما قلنا (2) = من أنّ تأويل ذلك: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله = قال، فيما بلغنا، محمد بن جعفر. 7067 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وجيهًا"، قال: وجيهًا في الدنيا والأخرة عند الله. (3) * * * وأما قوله:"ومِنَ المقرّبين"، فإنه يعني أنه ممن يقرِّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره ويدنيه منه، كما:-   (1) "القطع"، كما أسلفنا في مواضع متفرقة، هو الحال، انظر ما سلف في هذا الجزء: 371، تعليق: 2، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 213. (2) في المطبوعة: "كما قلنا"، والصواب من المخطوطة. (3) الأثر: 7067- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7063. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 7068 - حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن المقربين"، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة. 7069 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن المقرّبين"، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة. 7070 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 القول في تأويل قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) } قال أبو جعفر: وأما قوله:"ويكلمُ الناس في المهد"، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد. = ف"يكلم"، وإن كان مرفوعًا، لأنه في صورة"يفعل" بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر: (1) بِتُّ أُعَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ (2) * * *   (1) لم أعرف قائله. (2) معاني القرآن للفراء 1: 213 وأمالي ابن الشجري 2: 167، والخزانة 2: 345، واللسان (كهل) . وقد ذكر البغدادي اختلاف رواية الشعر، "ويعشيها" من العشاء، وهو طعامها عند العشاء. يصف كرم الكريم ينحر عند مجيء الأضياف إبله في قراهم، والعضب: السيف القاطع، والباتر: الذي يفصم الضريبة. وأسوق جمع ساق. وقصد يقصد: توسط فلم يجاوز الحد. يقول: يضرب سوقها بسيفه لا يبالي أيقصد أم يجور، من شدة عجلته وحفاوته بضيفه. هذا، وانظر تفصيل ما قال أبو جعفر في معاني القرآن للفراء 1: 213، 214. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 وأما"المهد"، فإنه يعني به: مضجع الصبيّ في رضاعه، كما:- 7071 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"ويكلم الناس في المهد"، قال: مضجع الصبي في رَضَاعه. * * * وأما قوله:"وكهلا"، فإنه: وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة، (1) ودُون الشيخوخة، يقال منه:"رجل كهل = وامرأة كهلة"، كما قال الراجز: (2) وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيَّا ... أُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصَّبِيَّا (3) * * *   (1) يقال: "غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية"، مثل: "الطفولة والطفولية". (2) هو عذافر الفقيمي. (3) الجمهرة 3: 339، المخصص 1: 40 أمالي، القالي 2: 215، والسمط: 836، شرح أدب الكاتب لابن السيد: 217، 389، وللجواليقي: 295، واللسان (كهل) (كرا) (شعفر) (أمم) ، وغيرها، وكان العذافر يكري إبله إلى مكة، فأكرى معه رجل من بني حنيفة، من أهل البصرة، بعيرًا يركبه هو وزوجته، وكان اسمها"شعفر"، فقال يرجز بهما: لَوْ شَاءَ رَبِّي لَمْ أكُنْ كَرِيَّا ... وَلَمْ أَسُقْ بَشَعْفَرَ المطَّيا بَصْرِيّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيَّا ... يُطْعِمُهَا المَالِحَ والطَّرِيَّا وَجَيِّدَ البُرِّ لَهَا مَقْلِيَّا ... حَتَّى نَتَتْ سُرَّتُها نَتِيَّا وَفَعَلَتْ ثُنَّتُها فَرِيَّا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والرجز المروي بعد هذه الأبيات، فيما يظهر. والكري: المكاري، الذي يستأجر الركاب دابته. وبعد البيتين اللذين رواهما أبو جعفر: وَالْعَزَبَ المُنَفَّهَ الأُمِّيَّا والمنفه: الذي قد أعياه السير ونفهه، فضعف وتساقط. والأمي: العيي الجلف الجافي القليل الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 وإنما عنى جل ثناؤه بقوله:"ويكلم الناسَ في المهد وكهلا"، ويكلم الناس طفلا في المهد = دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها، (1) وحجة له على نبوّته = وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه، (2) بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما ينزل عليه من كتابه. (3) * * * وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا = احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ، (4) وأنه كان = [منذ أنشأه] مولودًا طفلا ثم كهلا = يتقلب في الأحداث، (5) ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام، من صِغر إلى كبر، ومن حال إلى حال = وأنه لو كان، كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، واحتج به عليهم   (1) في المطبوعة: "قذفها"، وانظر آنفًا: ص 413، تعليق: 3. (2) قوله: "وبالغًا" معطوف على قوله آنفًا: "طفلا في المهد". ثم قوله: بعد"بوحي الله" جار ومجرور متعلق بقوله آنفًا: "ويكلم الناس. .". (3) في المطبوعة: "وما تقول عليه"، ومعاذ الله أن يكون ذلك!! والكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة، مستفسدة مستصلحة، وهي على ذلك بينة لمن يدرك بعض معاني الكلام!! (4) في المطبوعة: "بالباطل"، وهو تبديل لعبارة الطبري التي يألفها قارئ كتابه. وقوله: "الباطل" منصوب مفعول به لقوله: "القائلين ... " (5) في المطبوعة: "وأنه كان في معناه أشياء مولودًا ... "، وفي المخطوطة: "وأنه كان في معانيه أشيا مولودًا ... "، ولم أستطع أن أجد لشيء من ذلك معنى أرتضيه، وقد جهدت في معرفة تصحيفه أو تحريفه زمنًا، حتى ضفت به، وحتى ظننت أنه سقط من الناسخ شيء يستقيم به هذا الكلام، مع ترجيح التصحيف والتحريف فيه. فرأيت أن أضع بين القوسين ما يستقيم به الكلام، وأن أخلي الأصل من هذه الجملة. هذا مع اعتقادي أن"معه أشيا" هي"منذ أنشأه" كما أثبتها. والسياق: "أنه كان ... يتقلب في الأحداث"، وما بينهما فصل وضعته بين الخطين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم، كما:- 7072 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين": يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته. (1) 7073 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين"، يقول: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا. 7074 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا. 7075 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكهلا ومن الصالحين"، قال: الكهلُ الحليم. 7076 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا = وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل الحليم. 7077 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: كلمهم في المهد صبيًّا، وكلمهم كبيرًا. * * *   (1) الأثر: 7072- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7067. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 وقال آخرون: معنى قوله:"وكهلا"، أنه سيكلمهم إذا ظهر. ذكر من قال ذلك: 7078 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهلٌ. * * * ونصب"كهلا"، عطفًا على موضع"ويكلم الناس". * * * وأما قوله:"ومن الصالحين"، فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، قالت مريم = إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه =:"ربِّ أنَّى يكون لي ولد"، من أيِّ وجه يكون لي ولد؟ (1) أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، (2) ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها ="كذلك الله يخلق ما يشاء"، يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد   (1) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398-416 / 5: 312، 447 / 6: 358. (2) في المخطوطة: "أي تبتدئ"، وهو خطأ، وفي المطبوعة: "أو تبتدئ" وآثرت الذي أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد [خلقه] فيقول له: (1) "كن فيكون" ما شاء، مما يشاء، وكيف شاء، كما:- 7079 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء"، يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء، من بشر أو غير بشر ="إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن"، مما يشاء وكيف يشاء ="فيكون" ما أراد. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (48) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين: (وَيُعلِّمُهُ) بالياء، ردًّا على قوله:"كذلك الله يخلق ما يشاء"،"ويعلمه الكتاب"، فألحقوا الخبرَ في قوله:"ويعلمه"، بنظير الخبر في قوله:"يخلق ما يشاء"، وقوله:"فإنما يقول له كنْ فيكون". * * *   (1) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من السياق. (2) الأثر: 7079- سيرة ابن هشام 2: 230 من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7072، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إذا قضى أمرًا ... "، وظاهر أن"أي" لا مكان لها هنا، ونص ابن هشام عن ابن إسحاق دال على صواب ذلك، فحذفتها. وكان في المخطوطة والمطبوعة أيضًا"فإنما يقول له كن فيكون، مما يشاء ... ". وظاهر أيضًا زيادة"فيكون" هنا، لأن السياق يقتضي إغفالها هنا، ولأنها ستأتي بعد، كما هو في نص رواية ابن هشام عن ابن إسحاق، فرفعتها من هذا المكان أيضًا. وفي سيرة ابن هشام"فيكون، كما أراد"، وكلاهما صواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: (وَنُعَلِّمُهُ) بالنون، عطفًا به على قوله:"نوحيه إليك"، كأنه قال:"ذلك من أنباء الغيب نُوحيه إليك""ونعلمه الكتاب". وقالوا: ما بعد"نوحيه" في صلته إلى قوله:"كن فيكون"، ثم عطف بقوله:"ونعلمه" عليه. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك، لاتفاق معنى القراءتين، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلمه. * * * وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعلٌ بالولد الذي بشَّرها به من الكرامة ورفعة المنزلة والفضيلة، فقال: كذلك الله يخلق منك ولدًا، من غير فحل ولا بعل، فيعلمه الكتاب، وهو الخطّ الذي يخطه بيده = والحكمة، وهي السنة التي يُوحيها إليه في غير كتاب = والتوراة، وهي التوراة التي أنزلت على موسى، كانت فيهم من عهد موسى = والإنجيل، إنجيل عيسى ولم يكن قبله، ولكن الله أخبر مريمَ قبل خلق عيسى أنه مُوحيه إليه. وإنما أخبرها بذلك فسَّماه لها، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعثٌ نبيًا، يوحى إليه كتابًا اسمه الإنجيل، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي سَمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشَّرها به. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ونعلمه الكتاب"، قال: بيده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 7081 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ونعلمه الكتاب والحكمة"، قال: الحكمة السنة. 7082 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، قال:"الحكمة" السنة ="والتوراة والإنجيل"، قال: كان عيسى يقرأ التوراةَ والإنجيل. 7083 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ونعلمه الكتاب والحكمة"، قال: الحكمة السنة. 7084 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: أخبرها - يعني أخبر الله مريم - ما يريد به فقال:"ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة" التي كانت فيهم من عهد موسى ="والإنجيل"، كتابًا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه، إلا ذِكرُه أنه كائن من الأنبياء قبله. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ورسولا"، ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل، فترك ذكر"ونجعله" لدلالة الكلام عليه، كما قال الشاعر: وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2) * * *   (1) الأثر: 7084- سيرة ابن هشام 2: 230، من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7079. وفي ابن هشام: "لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده"، أسقط"علمه" ومكان"قبله""بعده"، والصواب فيها نص الطبري في روايته عن ابن إسحاق. (2) مضى البيت وتخريجه في 1: 140. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 وقوله:"أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني: (1) ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل بأنه نبيّي وبشيرى ونذيرى (2) = وحجتي على صدقي على ذلك:"أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني: بعلامة من ربكم تحقق قولي، وتصدق خبري أني رسول من ربكم إليكم، كما:- 7085 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، أي: يُحقق بها نبوّتي، أني رسولٌ منه إليكم. (3) * * * القول في تأويل قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، ثم بين عن الآية ما هي، فقال:"أني أخلق لكم". * * * فتأويل الكلام: ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم، بأنْ أخلق لكم من الطين كهيئة الطير. * * *   (1) في المطبوعة: "بمعنى"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "نبي وبشير ونذير"، والصواب من المخطوطة. هذا، وقوله: "ونجعله رسولا ... "، إلى قوله: "ونذيري" بيان عن قول الله تعالى لمريم: "رسولا إلى بني إسرائيل" - ثم ابتدأ في بيان قول عيسى عليه السلام: "أني قد جئتكم بآية"، فقال عيسى عليه السلام: "وحجتي على صدقي في ذلك ... ". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "على صدقي على ذلك"، وهو لا يستقيم، خطأ أو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت. (3) الأثر: 7085- سيرة ابن هشام 2: 230، تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7084، وكان في المطبوعة: تحقق بها نبوتي، وأني رسول ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية ابن هشام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 "والطير" جمع"طائر". * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعض أهل الحجاز: (كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا) ، على التوحيد. * * * وقرأه آخرون: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا) ، على الجماع فيهما. (1) * * * قال أبو جعفر: وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ:"كهيئة الطير فأنفخُ فيه فيكون طيرًا، على الجماع فيهما جميعًا، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موافق لخطّ المصحف. واتباعُ خطّ المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به، أعجب إليّ من خلاف المصحف. * * * وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير، كما:- 7086 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق: أنّ عيسى صلوات الله عليه جلسَ يومًا مع غلمان من الكُتّاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك! قال: نعم! بإذن ربي. ثم هيّأه، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال:"كن طائرًا بإذن الله"، فخرج يطيرُ بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلّمهم،   (1) في المطبوعة: "على الجماع كليهما"، وفي المخطوطة"كلهما" أيضًا، دون شرطة الكاف كأنه أراد أن يكتب"كليهما"، ثم استدرك، فترك عقدة الكاف على حالها ليعود فيجعلها"فيهما" وكذلك أثبتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 فأفشوه في الناس. وترعرع، فهمَّت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيرِّ لها، ثم خرجت به هاربة. (1) * * * وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطيرَ من الطين سألهم: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ فقيل له: الخفاش، كما:- 7087 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قوله:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"، قال: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم. قال ففعل. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"فأنفخ فيه"، وقد قيل:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"؟ قيل: لأن معنى الكلام: فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك:"فأنفخ فيها". كان صحيحًا جائزًا، كما قال في المائدة، (فَتَنْفُخُ فِيهَا) [سورة المائدة: 110] : (2) يريد: فتنفخ في الهيئة. (3) وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين:"فأنفخها"، بغير"في". (4) وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول:"رب ليلة قد بتُّها، وبتُّ فيها"، قال الشاعر: (5)   (1) "حمير" (بضم الحاء وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة) ، تصغير"حمار"، وهو مضبوط هكذا في المخطوطة، وهو الصواب. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فأنفخ فيها"، وهو مخالف للتلاوة في سورة المائدة، وهو سهو من الناسخ لقرب عهده بآية آل عمران، وتابعه الناشرون. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "فأنفخ" أيضًا، وهو متابعة للسهو السالف. (4) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 214، وهو: (وفي إحدى القراءتين: "فأنفخها" وفي قراءة عبد الله بغير"في"، وهو مما تقوله العرب: رب ليلة قد بت فيها وبتها) . ولعله تصرف واختصار من الطبري نفسه كعادته في الذي ينقله عن الفراء، وظني أن في نص الفراء خطأ، وصوابه: "وهي قراءة عبد الله..". (5) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا قَامَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلا بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أَسْلابِ (1) بمعنى: ولا قامت عليك، وكما قال الآخر: (2) إحْدَى بَنِي عَيِّذِ اللهِ اسْتَمَرَّ بِهَا ... حُلْوُ العُصَارَةِ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّوَرُ (3) * * *   (1) الأغاني 17: 68، ومعاني القرآن للفراء 1: 215. وهو من أبيات من خبرها أن عبيد الله بن زياد، كان عدوًا لابن مفرغ، فلما قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد يوم الزاب، قال ابن مفرغ فيه، وفي طغيانه عليه، وهو عظة لكل جبار طاغية: إِنَّ الَّذِي عَاشَ خَتَّارًا بِذِمَّتِه ... وعاشَ عبدًا، قَتِيلُ الله بالزَّابِ العَبْدُ لِلْعَبْدِ، لا أَصْلٌ وَلاَ طرَفٌ، ... أَلْوَتْ بِهِ ذَاتُ أظْفَارٍ وأنْيَابِ إِنّ المَنَايَا إِذَا ما زُرْنَ طَاغِيَةً ... هَتَكْنَ عَنْهُ سُتُورًا بَيْنَ أبْوَابِ هَلاَّ جُمُوعَ نِزَارٍ إذْ لَقِيتَهُمُ ... كُنْتَ امْرَءًا مِنْ نِزَارٍ غَيْرَ مُرْتَابِ لاَ أنْتَ زَاحَمْتَ عَنْ مُلْكٍ فَتَمنَعَهُ ... وَلاَ مَدَدْتَ إلَى قَوْمِ بأَسْبَابِ مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا نَاحَتْكَ نَائِحَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورواية الأغاني"ناحتك"، جارية على القياس، يقال: "ناحت المرأة"، لازمًا، و"ناحت المرأة زوجها"، أما رواية الفراء وأبي جعفر، فهي التي حذف من قوله: "قامتك" حرف الجر، من"قامت عليك". والأسلاب جمع سلب (بفتحتين) : وهو ما على المحارب والرجل من ثيابه وثياب الحرب، فإذا قتل أخذ قاتله سلبه، أي ما عليه من ثياب وسلاح، وما معه من دابة. يقول: لست فارسًا من أهل الحرب والمعارك، فيحبك فرسك، فيبكيك عند مصرعك. (2) لم أعرف قائله. (3) "بنو عيذ الله" (بتشديد الياء المكسورة) ، وهم بنو عيذ الله بن سعد العشيرة بن مذحج."استمر بها": ذهب بها."حلو العصارة": حلو الأخلاق. والعصارة والعصير: ما يتحلب من الشيء إذا عصر. يقول: ذهب بها فلن تعود إلى يوم الدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 القول في تأويل قوله: {وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وأبرئ"، وأشفي. يقال منه:"أبرأ الله المريض"، إذا شفاه منه،"فهو يُبرئه إبراءً"، و"بَرَأ المريض فهو يَبرَأ بَرْأ"، وقد يقال أيضًا:"بَرئ المريض فهو يبرَأ"، لغتان معروفتان. * * * واختلف أهل التأويل في معنى"الأكمه". فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بالليل، ويُبصر بالنهار. ذكر من قال ذلك: 7088 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، فهو يتكمَّه. (1) 7089 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك. ذكر من قال ذلك: 7090 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدَّثُ أن"الأكمه"، الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين. (2) 7091 - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"وأبرئ الأكمه والأبرص"، قال: كنا نحدّث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى، مضموم العينين. (3) * * *   (1) يقال: "خرج يتكمه في الأرض"، إذا خرج متحيرًا مترددًا، راكبًا رأسه، لا يدري أين يتوجه. (2) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: " مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائى للخط. والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذ ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما. (3) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: "مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائي للخط، والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذا ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 7092 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الأكمه، الذي يولد وهو أعمى. * * * وقال آخرون: بل هو الأعمى. ذكر من قال ذلك: 7093 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأبرئ الأكمه"، هو الأعمى. 7094 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: الأعمى. 7095 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الأعمى. 7096 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمى. * * * وقال آخرون: هو الأعمش. ذكر من قال ذلك: 7097 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمش. * * * قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب من معنى"الكمه"، العَمى، يقال منه:"كمِهَت عينه فهي تَكْمَه كمهًا، وأكمهتها أنا" إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 كَمَّهَتْ عَيْنَيْهِ حَتَّى ابْيَضّتَا ... فَهْوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لَمَّا نزعْ (1) ومنه قول رؤبة: هَرَّجْتُ فَارْتَدَّ ارْتِدَادَ الأكْمَهِ ... فِي غَائِلاتِ الحَائِرِ المُتَهْتِهِ (2) * * * وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجًا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوته، وذلك أن: الكَمَه والبرص لا علاج لهما، فيقدرَ على إبرائه ذو طِبّ بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله: إنه لله رسول، لأنه من المعجزات، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالةً على نبوته. * * * فأما ما قال عكرمة من أن"الكمه"، العمش، وما قاله مجاهد: من أنه   (1) المفضليات: 405، اللسان (كمه) في المطبوعة: {كِمِهَتْ عَيْنَاهُ} ، وهي رواية المفضليات وفيها"كمهت عيناه لما ابيضتا". والبيت من قصيدته الفذة. يذكر في هذه الأبيات التي قبل البيت، بعض عدوه، كان يريد سقاطه بعد احتناكه وشدته، وكيف تلقى العداوة عن آبائه، فسعى كما سعى آباؤه فلم يظفر من سويد بشيء، فضرب لنفسه مثلا بالصفاة التي لا ترام، فقال أن عدوه ظل: مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لَمْ تُرَمْ ... فِي ذُرَى أَعْيَطَ وَعْرِ المُطَّلَعْ مَعْقِلٌ يَأْمَنُ مَنْ كانَ بِهِ ... غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أنْ تُقْتَلَعْ غَلَبَتْ عَادًا وَمَنْ بَعْدَهُمْ ... فَأَبَتْ بَعْدُ، فَلَيْسَتْ تُتَّضَعْ لاَ يَرَاها النَّاسُ إِلا فَوْقَهُمْ ... فَهْيَ تَأْتِي كَيْفَ شَاءَتْ وَتَدَعْ وَهْوَ يَرْمِيهَا، وَلَنْ يَبْلُغَها، ... رِعَةَ الجَاهِلِ يَرْضَى ما صَنَعْ كَمِهَتْ عَيْنَاهُ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يقول: عمي من شدة ما يلقى، أو أعمته هي بشدتها. فلما كف عنها ونزع، ظل يلوم نفسه على تعرضه لها. (2) ديوانه: 166، واللسان (كمه) (هرج) (تهته) وجاز القرآن 1: 93، وسيرة ابن هشام 2: 230، من قصيدة يذكر فيها نفسه وأيامه، وقد سلفت منها أبيات كثيرة، يذكر قبله خصما له قد بالغ في ضلاله، فرده وزجره، "هرج بالسبع": صاح به وزجره. و"الغائلات": التي تغوله وتهلكه. و"المتهته": الذي تهته في الأباطيل. أي تردد فيها. ورواية الديوان"في غائلات الخائب.."، وهي قريب من قريب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما. لأن الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيلُ إلى معارضته فيها، ولو كان مما احتجَّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوته، أنه يبرئ الأعمش، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، لقدروا على معارضته بأن يقولوا:"وما في هذا لك من الحجة، وفينا خَلقٌ ممن يعالج ذلك، وليسوا لله أنبياءَ ولا رسلا" ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا، من أنّ"الأكمه"، هو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا لا ليلا ولا نهارًا. وهو بما قال قتادة: - من أنه المولود كذلك - أشبهُ، لأن علاجَ مثل ذلك لا يدّعيه أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاجُ الأبرص. * * * القول في تأويل قوله: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} قال أبو جعفر: وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم، فيستجيب له، كما:- 7098 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معفل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر: أنِ اطْلُعي به إلى الشام. ففعلت الذي أمرت به. فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه = قال: وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله. * * * وأما قوله:"وأنبئكم بما تأكلون"، فإنه يعني: وأخبرُكم بما تأكلون، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه ="وما تدّخرون"، يعني بذلك: وما ترفعونه فتخبَأونه ولا تأكلونه. = يعلمهم أنّ من حجته أيضًا على نبوّته = مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره أنّ الله أرسله إليهم: من خلق الطير من الطين، وإبراءِ الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، التي لا يطيقها أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك عَلَمًا له على صدقه، وآيةً له على حقيقة قوله، من أنبيائه ورسله، وَمن أحبّ من خلقه = (1) إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلُهم سبيلُه، عليه. (2) * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجِّمة والمتكهِّنة تخبرُ بذلك كثيرًا فتصيب؟ قيل: إن المتنجِّم والمتكهِّن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك، (3) أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه. ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورُسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج، ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه، (4)   (1) قوله: "إنباءه" خبر"أن" في قوله آنفًا: "أن من حجته أيضًا على بنوته.. إنباءه". (2) قوله"عليه" من تمام قوله: "الذي لا سبيل لأحد ... ". (3) في المخطوطة والمطبوعة: "عند من يخبره بذلك" وسياق الضمائر يقتضي ما أثبت. (4) في المطبوعة: "ولكن ابتدأ"، والصواب ما أثبته، ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 من غير أصل تقدّم ذلك احتذاه، أو بنى عليه، أو فزع إليه، كما يفزَع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيِّه. (1) فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذِّبة على الله، أو المدَّعية علم ذلك، كما:- 7099 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرًا أو نحو ذلك، أدخلته أمه الكتاب، فيما يزعمون. فكان عند رجل من المكتِّبين يعلمه كما يعلّم الغلمان، (2) فلا يذهب يعلمه شيئًا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فيقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرْملة، ما أذهب أعلّمه شيئًا إلا وحدته أعلمَ به منى! ! 7100 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم. 7101 - حدثني يعقوب بن إبراهيم. قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم"، قال: كان عيسى ابن مريم، إذْ كان في الكتّاب، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدَّخرون. 7102 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتّاب:   (1) الرئي: هو التابع من الجن، يراه الإنسان أو الكاهن، فيؤالفه ويعتاده ويحدثه بما يكذب به من النبأ عن المغيب. (2) المكتب (بضم الميم وفتح الكاف وتشديد التاء المكسورة) على وزن"معلم": هو الذي يعلم الصغار الكتابة. ويقال أيضًا"المكتب" (بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء) على وزن"مبصر" وهو المعلم أيضًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 "يا فلان، إن أهلكُ قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام، فتطعمني منه"؟ * * * قال أبو جعفر: فهكذا فعل الأنبياء وحججها، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قِبَل الله. * * * وبنحو ما قلناه في تأويل قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7103 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه = عيسى ابن مريم يقوله. 7104 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7105 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" - قال: الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم، غيبًا علمه الله إياه. 7106 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال:"ما تأكلون"، ما أكلتم البارحةَ من طعام، وما خبأتم منه. 7107 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي قال: كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتّاب بما يصنع آباؤهم، وبما يَرْفعون لهم، وبما يأكلون. ويقول للغلام: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 "انطلق، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا"، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء. (1) فيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى! = فذلك قول الله عز وجل:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" = فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر! فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليس هم هاهنا، فقال: ما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون! ففتحوا عنهم، فإذا هم خنازير. فذلك قوله: (عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [سورة المائدة: 78] . 7108 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما تدخرون في بيوتكم"، قال: ما تخبأون مخافةَ الذي يمسك أن يخلفه. (2) * * * وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها. ذكر من قال ذلك: 7109 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، فكان القومُ لما سألوا المائدةَ فكانت خِوانًا ينزل عليه أينما كانوا ثمَرًا من ثمار الجنة، (3) فأمر القوم أن   (1) "يبكي عليهم"، يلح عليهم بالبكاء، عدى"بكى" بعلى، لتضمينه معنى"الإلحاح". (2) في المطبوعة: "ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء"، زاد في نص المخطوطة"لا"، و"شيء". أما المخطوطة ففيها" ... الذي يمسك أن يخلفه". وكلاهما لا معنى له. والمخطوطة مضطربة الحروف في هذا الموضع، وأخشى أن يكون صواب الجملة: "ما تخبأون مخافة عليه، الذي تمسكون خيفة عليه". وتركت نص المخطوطة، على حاله في الأصل. (3) في المطبوعة: "فكانت جرابًا ينزل عليه"، وهو خطأ لا شك فيه، وفي المخطوطة"حوابا" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. والمائدة، هي الخوان، وقال أهل اللغة: "لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 لا يخونوا فيه ولا يخبأوا ولا يدخروا لغد، بلاءٌ ابتلاهم الله به. فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئًا أنبأهم به عيسى ابن مريم، فقال:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم". 7110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون"، قال: أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها. قال: فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلتْ: أن يأكلوا ولا يدّخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا، فذلك قوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [سورة المائدة: 115] . = قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، ذلك. * * * وأصل"يدخرون" من"الفعل"،"يفتعلون" من قول القائل:"ذخرتُ الشيء" بالذّال،"فأنا أذخره". ثم قيل:"يدّخر"، كما قيل:"يدَّكِرُ" من:"ذكرت الشيء"، يراد به"يذتخر". فلما اجتمعت"الذال" و"التاء" وهما متقاربتا المخرج، ثقل إظهارهما على اللسان، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وصيرتا"دالا" مشددة، صيروها عَدْلا بين"الذال" و"التاء". (1) ومن العرب من يغلب"الذال" على"التاء"، فيدغم"التاء" في"الذال"، فيقول: وما تَذَّخِرون"،"وهو مذّخَر لك"،"وهو مُذَّكِر". واللغة التي بها القراءةُ، الأولى، وذلك إدغام"الذال" في"التاء"، وإبدالهما   (1) قوله"عدلا"، أي متوسطة بينهما، وهذا نص عبارة الفراء في معاني القرآن 1: 215. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 "دالا" مشددة. لا يجوز القراءة بغيرها، لتظاهر النقل من القرأة بها، وهي اللغة الجُودَى، (1) كما قال زهير: إنّ الكَرِيمَ الَّذِي يُعْطِيكَ نَائِلَهُ ... عَفْوًا، وَيُظْلَمُ أَحْيَانًا فَيَظَّلِمُ (2) يروى"بالظاء"، يريد:"فيفتعل" من"الظلم"، ويروى"بالطاء" أيضًا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ، وإحيائي الموتى، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، ابتداءً من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة = لعبرةً لكم ومتفكَّرًا، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم:"إني رسولٌ من ربكم إليكم"، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ="إن كنتم مؤمنين"، يعني: إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرّين بتوحيده، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها. * * *   (1) "الجودى"، "فعلى" من"الأجود" مثل"أفضل، وفضلى"، ولم أرها مستعملة إلا قليلا عند أهل طبقة أبي جعفر. وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 215، 216. (2) ديوانه: 152 وسيبويه 2: 421، والمخصص 2: 206، 207، واللسان (ظلم) وغيرها. هكذا جاء به أبو جعفر، وصواب روايته ما جاء في ديوانه، لأن قبله: إنّ البَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُ كَانَ وَلـ ... ـكِنَّ الجوادَ عَلَى عِلاتِهِ هَرِمُ هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيكَ نائِلَهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وانظر روايات مختلفة للبيت، وبيان هذه الروايات في هذه الكتب وغيرها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 القول في تأويل قوله: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبأني قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقًا لما بين يديّ من التوراة، ولذلك نصب"مصدّقًا" على الحال من"جئتكم". والذي يدل على أنه نصب على قوله:"وجئتكم"، دون العطف على قوله:"وجيهًا"، قوله:"لما بين يديّ من التوراة". ولو كان عطفًا على قوله"وجيهًا"، لكان الكلام: ومصدّقًا لما بين يديه من التوراة، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم. (1) * * * وإنما قيل:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة"، (2) لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمنًا بالتوراة مقرًا بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعضُ شرائع أحكامهم، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددًا عليهم فيها، كما:- 7111 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وكانَ يسبِت، ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار. (3)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 216. (2) انظر تفسير"لما بين يدي" و"لما بين يديه" فيما سلف من هذا الجزء: 160، 161. (3) الآصار جمع إصر (بكسر فسكون) : وهو العهد، أي ما عقد من عقد ثقيل عليهم، مثل قتلهم أنفسهم، وما أشبه ذلك من قرض الجلد إذا أصابته النجاسة، وغير ذلك من الأحكام المشددة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 7112 - حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومصدقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم"، كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حُرّم عليهم فيما جاء به موسى لحومُ الإبل والثُّروب، وأشياء من الطير والحيتان. (1) 7113 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى. قال: وكان حُرّم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة، لحومُ الإبل والثُّروب، فأحلها لهم على لسان عيسى - وحرّمت عليهم الشحوم، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى - وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صِيصِيَةَ له، (2) وفي أشياء حرّمها عليهم، وشدّدها عليهم، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، فكان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه. 7114 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: لحوم الإبل والشحوم. لما بُعث عيسى أحلَّها لهم، وبُعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرّقوا. 7115 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن   (1) الثروب جمع ثرب (بفتح فسكون) : وهي الشحم الرقيق الذي يغشى الكرش والأمعاء والمصارين من الذبائح والأنعام. (2) صيصية الديك (بكسر الصاد الأولى والثانية وفتح الياء الأخير) ، وجمعها الصياصي: هي الشوكة التي في رجل الديك. وقرون البقر يقال لها"الصياصي"، ومنه قيل للحصون"الصياصي" لأن المقاتلين يحتمون بها كما تحتمي البقر بقرونها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 جعفر بن الزبير:"ومصدقًا لما بين يدىّ من التوراة"، أي: لما سبقني منها -"ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم"، أي: أخبركم أنه كان حرامًا عليكم فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفًا عنكم، فتصيبون يُسْرَه، وتخرجون من تِباعَته. (1) 7116 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان حرّم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحلّ لهم الذي حرّم عليهم، يبتغي بذلك شُكْرهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلمون بها حقيقةَ ما أقول لكم. كما:- 7117 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، قال: ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه. 7118 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها. * * * ويعني بقوله:"من ربكم"، من عند ربكم. * * *   (1) الأثر: 7115- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من تتمة الآثار التي كان آخرها رقم: 7085. وقوله: "وتخرجون من تباعته"، أي من إثمه الذي تبعكم إن اقترفتموه. والتبعة والتباعة (بكسر التاء) : ما كان فيه إثم يتبع به مقترفه، يقال: "ما عليه من الله في هذا تبعة، ولا تباعة". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 القول في تأويل قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50 إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول ="فاتقوا الله"، يا معشرَ بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه ="وأطيعون"، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم، فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويمُ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه، (1) كما:- 7119 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم"، تبرِّيًا من الذي يقولون فيه - يعني: ما يقول فيه النصارى - واحتجاجًا لربه عليهم ="فاعبدوه هذا صراط مستقيم"، أي: هذا الذي قد حملتُكم عليه وجئتكم به. (2) * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"إن الله ربي وربكم فاعبدوه". فقرأته عامة قرأة الأمصار: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بكسر"ألف""إنّ" على ابتداء الخبر. * * * وقرأه بعضهم: (أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، بفتح"ألف""أنّ"، بتأويل:   (1) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170-177 / 3: 140، 141. (2) الأثر: 7119- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7115. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 وجئتكم بآية من ربكم، أنّ الله ربي وربكم، على ردّ"أن" على"الآية"، والإبدال منها. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار، وذلك كسر ألف"إن" على الابتداء، لإجماع الحجة من القرأة على صحة ذلك. وما اجتمعت عليه فحجةٌ، وما انفرد به المنفرد عنها فرأيٌ. ولا يعترضُ بالرأي على الحجة. * * * وهذه الآية وإن كان ظاهرُها خبرًا، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجُّوه من أهل نجران، بإخبار الله عزّ وجل عن أن عيسى كان بريئًا مما نسبه إليه مَن نسبه إلى غير الذي وصفَ به نفسه، من أنه لله عبدٌ كسائر عبيده من أهل الأرض، إلا ما كان الله جل ثناؤه خصَّه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى سائرَ المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحُجةً على نبوته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فلما أحسّ عيسى منهم الكفر"، فلما وَجد عيسى منهم الكفر. * * *   (1) في المطبوعة: "والحجة على نبوتهم"، وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. وقوله: "وحجة على نبوته" معطوف على قوله: "دليلا على صدقه"، والضمير لعيسى، وما بين المعطوف والمعطوف عليه فصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 "والإحساس"، هو الوجود، ومنه قول الله عز وجل: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [سورة مريم: 98] . فأما"الحَسُّ"، بغير"ألف"، فهو الإفناء والقتل، ومنه قوله: (إذ تحسونهم بإذنه) [سورة آل عمران: 152] . "والحَسُّ" أيضًا العطف والرقة، ومنه قول الكميت: هَلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أَنْ تَحِسَّ لَهُ، ... أَوْ يُبْكِيَ الدَّارَ مَاءُ العَبْرَةِ الخَضِلُ? (1) يعني بقوله:"أن تحس له"، أن ترقّ له. * * * فتأويل الكلام: فلما وَجد عيسى - من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم - جحودًا لنبوّته، وتكذيبًا لقوله، وصدًّا عما دعاهم إليه من أمر الله، قال:"مَن أنصاري إلى الله"؟، يعني بذلك: قال عيسى: من أعواني على المكذبين بحجة الله، (2) والمولِّين عن دينه، والجاحدين نبوة نبيه، ="إلى الله" عز وجل؟ * * * ويعني بقوله:"إلى الله"، مع الله. وإنما حَسُن أن يقال:"إلى الله"، بمعنى: مع الله، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه، جعلوا مكان"مع"،"إلى" أحيانًا، وأحيانًا تخبر عنهما بـ"مع" فتقول:"الذود إلى الذود إبل"، بمعنى: إذا ضممتَ الذود إلى الذود صارت إبلا. فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بـ"إلى"، ولم يجعلوا مكان"مع""إلى".   (1) معاني القرآن للفراء 1: 217، ومجالس ثعلب: 486، وإصلاح المنطق: 240، واللسان (حسس) . والخضل: المتتابع الدائم الكثير الهمول. يتعجب من الباكي على أطلال أحبابه، وما يرجو منها: أترق له، أم تبكي لبكائه؟ يسفه ما يفعل. ثم انظر سائر ما قيل في هذا الحرف من اللغة في المراجع السالفة. (2) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف 2: 489 / 5: 581. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 غيرُ جائز أن يقال:"قدم فلانٌ وإليه مالٌ"، بمعنى: ومعه مال. (1) * * * وبمثل ما قلنا في تأويل قوله:"مَنْ أنصاري إلى الله"، قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7120 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع الله. (2) 7121 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع الله. * * * وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين، فإن بين أهل العلم فيه اختلافًا. فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما:- 7122 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما بعث الله عيسى، فأمره بالدعوة، نفتْه بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يسيحون في الأرض. فنزل في قرية على رجل فضافَهم وأحسن إليهم. وكان لتلك المدينة ملك جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يومًا وقد وقعَ عليه همٌّ وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته. فقالت مريم لها: ما شأن زوجك؟ أراه حزينًا! قالت: لا تسألي! قالت: أخبريني! لعل الله يُفرِّج كربته! قالت: فإن لنا ملكًا يجعل على كلّ رجل منا يومًا يُطعمه هو وجنودَه   (1) انظر ما سلف 1: 299، ثم انظر معاني القرآن للفراء 1: 218، وهذا مختصر مقالته. (2) الأثر: 7120- مضى هذا الإسناد قديمًا برقم: 2100، "محمد بن الحسين بن موسى ابن أبي حنين الكوفي"، روى عن عبيد الله بن موسى، وأحمد بن المفضل، وأبي غسان مالك بن إسماعيل. وهو صدوق قاله ابن أبي حاتم في كتابه 3 / 2 / 230. و"أحمد بن المفضل القرشي الأموي" الكوفي الحفري. روى عن الثوري، وأسباط بن نصر، وإسرائيل. روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما قال أبو حاتم: "كان صدوقًا، وكان من رؤساء الشيعة". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 77. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نَوبتُه اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه، وليس لذلك عندنا سعة! قالت: فقولي له لا يهتم، فإني آمر ابني فيدعُو له، فيُكْفَي ذلك. قالت مريم لعيسى في ذلك، قال عيسى: يا أمَّهْ، إني إن فعلت كان في ذلك شرٌّ. قالت: فلا تُبالِ، فإنه قد أحسنَ إلينا وأكرمنا! قال عيسى: فقولي له: إذا اقترب ذلك، فاملأ قُدُورك وخوَابيك ماء، ثم أعلمني. (1) قال: فلما ملأهنَّ أعلمه، فدعا الله، فتحوَّل ما في القدُور لحمًا ومَرَقًا وخبزًا، وما في الخوابي خمرًا لم ير الناس مثله قطّ وإياه طعامًا. (2) فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ سأل: من أين هذه الخمر؟ قال له: هي من أرض كذا وكذا. قال الملك: فإنّ خمري أوتَي بها من تلك الأرض، فليس هي مثل هذه! قال: هي من أرض أخرى. فلما خلَّط على الملك اشتدّ عليه، قال: فأنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا اللهَ، فجعل الماءَ خمرًا. قال الملك = وكان له ابنٌ يريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه = فقال: إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرًا، ليُستجابَنّ له حتى يُحييَ ابني! فدعا عيسى فكلمه، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه، فقال عيسى: لا تفعلْ، فإنه إن عاش كان شرًا. فقال الملك: لا أبالي، أليس أراه، فلا أبالي ما كان. فقال عيسى عليه السلام: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا؟ قال الملك: نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلما رآه أهل مملكته قد عاش، تنادَوْا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه، فيأكلنا كما أكلنا أبوه!! فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمُّه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: شاركني. فقال اليهودي: نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهوديّ يريد أن يأكلَ الرغيف، فلما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء! فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله. فلما أصبحا قال له عيسى: هلمَّ طعامك! فجاء برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد. فسكت عنه عيسى، فانطلقوا، فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرْنا شاةً من غنمك. (3) قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهوديّ، فجاء بالشاة فذبحوها وشوَوْها، ثم قال لليهودي: كل، ولا تكسِرنّ عظمًا. فأكلا. (4) فلما شبعوا، قذفَ عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله! فقامت الشاة تَثغُو، فقال: يا صاحبَ الغنم، خذ شاتك. فقال له الراعي: من أنتَ؟ فقال: أنا عيسى ابن مريم. قال: أنت الساحر! وفرّ منه. قال: عيسى لليهودي: بالذي أحيى هذه الشاة بعدَما أكلناها، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف كان معه إلا رغيف واحد، فمرُّوا بصاحب بَقر، فنادى عيسى فقال: يا صاحب البقر، أجزرنا من بَقرك هذه عجلا. قال: ابعث صاحبك يأخذه. قال: انطلق يا يهوديّ فجئ به. فانطلق فجاءَ به. فذبحه وشواه وصاحبُ البقر ينظر، فقال له عيسى: كلْ ولا تكسِرَن عظمًا. فلما فرغوا، قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه، = وقال: قم بإذن الله. فقام وله خُوَارٌ، قال: خُذ عجلك. قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى. قال: أنت السحَّار! ثم فر منه. قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه! قالَ عيسى: فبالذي أحيَى الشاة بعد ما أكلناها، والعجلَ بعد ما أكلناه، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد. فانطلقا، حتى نزلا قريةً، فنزل اليهودي أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عَصا مثل عصا عيسى وقال: أنا الآنَ أحيي الموتى! وكان ملك تلك المدينة مريضًا شديد المرض، فانطلق اليهودي يُنادي: من يبتغي طبيبًا؟ حتى أتى ملك تلك القرية، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إن وجع الملك قد أعيَى الأطباء قبلك، ليس من طبيب يُداويه ولا يُفيء دواؤه شيئًا إلا أمر به فصلب. (5) قال: أدخلوني عليه، فإني سأبرئه. فأدخل عليه فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ويقول: قُم بإذن الله! فأخذ ليُصْلب، فبلغ عيسى، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم، أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم. فأحيى اللهُ الملكَ لعيسى، فقام وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنتَ أعظم الناس عليّ منةً، والله لا أفارقك أبدًا. قال عيسى = فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي = لليهودي: أنشُدك بالذي أحيى الشاة والعجلَ بعد ما أكلناهما، وأحيى هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجِذْع بعد ما رُفعت عليه لتصلب، كم كان معك رغيفًا؟ قال: فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس! فانطلقا، حتى مرّا على كنز قد حفرته السباع والدواب، فقال اليهودي: يا عيسى، لمن هذا المال؟ قال عيسى: دعه، فإنّ له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفسُ اليهودي تَطلَّعُ إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع عيسى. ومرّ بالمال أربعة نَفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه، فقال: اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعامًا وشرابًا ودوابَّ نحملُ عليها هذا المال. فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعامًا وشرابًا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سَمًّا، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك، فقال الآخر: نعم! ففعلا. وقال الآخران: إذا ما أتيانا بالطعام، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله، فيكون الطعامُ والدوابّ بيني وبينك. فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا. وأعْلِم ذلك عيسى، (6) فقال لليهودي: أخرجه حتى نقتسمه، فأخرجه، فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي: يا عيسى، اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت!! وما هذه الثلاثة؟ قال له عيسى: هذا لي، وهذا لك، وهذا الثلث لصاحب الرغيف. قال اليهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف، تعطيني هذا المال؟ فقال عيسى: نعم. قال: أنا هو. قال: عيسى: خذ حظي وحظَّك وحظَّ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة. فلما حمله مَشى به شيئًا، فخُسِف به. (7) وانطلق عيسى ابن مريم، فمر بالحواريِّين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك. فقال: أفلا تمشون حتى نصطادَ الناس؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، فآمنوا به وانطلقوا معه. فذلك قول الله عز وجل:"مَنْ أنصاري إلى الله قال الحواريون نحنُ أنصارُ الله أمنا بالله واشهدْ بأنا مسلمون". 7122م - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله"، الآية قال: استنصر فنصرَه الحواريون، وظهر عليهم. * * * وقال آخرون: كان سببُ استنصار عيسى من استنصرَ، لأن من استنصرَ الحواريِّين عليه كانوا أرادُوا قتله. ذكر من قال ذلك: 7123 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فلما أحس عيسى منهم الكفر"، قال: كفروا وأرادُوا قتله، فذلك حين استنصر قومه ="قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصارُ الله". * * * "والأنصار"، جمع"نصير"، (8) كما"الأشراف" جمع"شريف"،"والأشهاد" جمع"شهيد". * * * وأما"الحواريون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا"حواريون". فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم. ذكر من قال ذلك: 7124 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال: مما روى أبي قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: إنما سمُّوا"الحواريين"، ببياض ثيابهم. * * *   (1) الخوابي جمع خابية: وهي الحب (بضم الحاء) ، والحب: جرة ضخمة يجعل فيها الماء والخمر وغيرهما. (2) هذه الكلمة: "وإياه طعامًا" هكذا هي غير منقوطة في المخطوطة، وأما المطبوعة، فإنها جعلتها"وإياه طعامًا"، ولم أجد لها وجهًا أرتضيه. وقد رأيت كل من نقل خبر السدي قد أسقط هذه الكلمة من روايته، فأسقطها الثعلبي في قصص الأنبياء: 341، والبغوي في تفسيره (بهامش ابن كثير) 2: 146، والدر المنثور 2: 34، وغيرهم. وأنا أستبعد أن تكون زيادة من الناسخ، وأقطع بأنها ثابتة في أصل أبي جعفر، ولكني لم أجد لها وجهًا من وجوه التصحيف أحملها عليه، ولكنها ولا شك تعني: "وهيأ طعامًا". وأرجو أن يوفق غيري إلى معرفة صوابها، وأسأل الله أن يوفقني إلى مثله. (3) في المخطوطة: "اجزر شاة"، والصواب ما في المطبوعة: أجزره شاة: أعطاه شاة تصلح للذبح. وستأتي مرة أخرى على الصواب في حديث البقرة الآتي، في المخطوطة. (4) خالف بين الضمائر، فقال"فأكلا" يعني عيسى وصاحبه، ثم قال: "فلما شبعوا"، يعني عيسى وصاحبه وأمه مريم عليهما السلام. وهذا سياق لا بأس به في مجاز العربية. (5) أفا يفيء: رد وأرجع. يعني: لا يرد عليه عافيته. وفي المخطوطة: "لا يفي"، وهذا صواب قراءتها. (6) في المطبوعة: "أعلم ذلك لعيسى"، والصواب ما في المخطوطة. (7) قوله: "شيئًا"، أي قليلا، كقول سالم بن وابصة الأسدي: غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ خَلَّةٍ ... فإن زادَ شيئًا، عَادَ ذَاكَ الغِنَى فَقْرَا وكقول عمر بن أبي ربيعة: وقالت لَهُنَّ: ارْبَعْنَ شيئًا، لَعَلَّنِي ... وَإنْ لامَني فِيمَا ارْتَأَيْتَ مُلِيمُ وهذا من نوادر اللغة، مما أغفلت بيانه المعاجم. (8) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف قريبًا: 443، تعليق: 2. والمراجع هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 وقال آخرون: سموا بذلك: لأنهم كانوا قَصّارين يبيِّضون الثياب. ذكر من قال ذلك: 7125 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبي أرطأة قال:"الحواريون"، الغسالون الذين يحوّرون الثياب، يغسلونها. * * * وقال آخرون: هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم. ذكر من قال ذلك: 7126 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان من الحواريين. فقيل له: من الحواريُّون؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة. 7127 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله:"إذ قال الحواريون"، قال: أصفِياء الأنبياء. * * * قال أبو جعفر: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى"الحواريين"، قولُ من قال:"سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين". وذلك أن"الحوَر" عند العرب شدة البياض، ولذلك سمي"الحُوَّارَى" من الطعام"حُوّارَى" لشدة بياضه، (1) ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين"أحور"، وللمرأة"حوراء". وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا، من تبييضهم الثيابَ، وأنهم كانوا قصّارين، فعرفوا بصحبة عيسى، واختياره إياهم لنفسه أصحابًا وأنصارًا، فجرى ذلك الاسم لهم، واستُعمل،   (1) الحواري (بضم الحاء وتشديد الواو، وراء مفتوحة) : هو ما حور من الطعام، أي بيض، ودقيق حوارى: هو الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 حتى صار كل خاصّة للرجل من أصحابه وأنصاره:"حواريُّه"، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم. * * * 7128 - "إنّ لكلّ نبيَ حواريًّا، وَحوَاريَّ الزبير". (1) * * * = يعني خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرَى والأمصار"حَوَاريَّات"، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن، ومن ذلك قول أبي جَلْدة اليشكري: (2) فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا ... وَلا تَبْكِنَا إلا الكِلابُ النَّوابِحُ (3) * * * ويعني بقوله:"قال الحواريون"، قال هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا، من تبييضهم الثياب:"آمنا بالله"، صدقنا بالله، واشهد أنتَ يا عيسى بأننا مسلمون. * * * قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله عز وجل أن الإسلامَ دينُه الذي ابتعثَ به   (1) الأثر: 7128- ذكره الطبري بغير إسناد، وهو من صحيح الحديث. أخرجه البخاري في مواضع (الفتح 6: 39 / 7: 64، 412 / 13: 203، 204) ، وأخرجه مسلم في صحيحه 15: 188. وكان في المطبوعة: "إن لكل نبي حواري"، وصوابه ما أثبت. والرواية الأخرى بحذف: "إن" أي: "لكل نبي حواري". (2) هو أبو جلدة بن عبيد بن منقذ اليشكري، من شعراء الدولة الأموية، كان من أخص الناس بالحجاج، ثم فارقه وخرج مع ابن الأشعث، وصار من أشد الناس تحريضًا على الحجاج. فلما قتل وأتى الحجاج برأسه ووضع بين يديه، مكث ينظر إليه طويلا ثم قال: كم من سر أودعته هذا الرأس فلم يخرج منه حتى أتيت به مقطوعًا!! (3) الؤتلف والمختلف للآمدي: 79، والأغاني 11: 311، والوحشيات: 36، وحماسة ابن الشجري: 65، واللسان (حور) ، وبعده. بَكَيْنَ إِلَيْنَا خَشْيَةً أَنْ تُبِيحَهَا ... رمَاحُ النَّصَارَى والسُّيُوفُ الجوارحُ بَكَيْنَ لِكَيْمَا يَمْنَعُوهُنَّ مِنْهُمُ ... وَتَأْبَى قُلُوبٌ أَضْمَرَتْها الجَوَانِحُ يقولها تحريضًا وتحضيضًا على قتال أهل الشام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 عيسى والأنبياءَ قبله، لا النصرانية ولا اليهوديةَ = وتبرئةٌ من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برّأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران، كما:- 7129 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما أحسّ عيسى منهم الكفر" والعدوان (1) ="قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله"، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضلَ من ربهم ="واشهد بأنا مسلمون"، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه - يعني وفدَ نصارَى نجران. (2) * * *   (1) في سيرة ابن هشام: "والعدوان عليه". (2) الأثر: 7129- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7119. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا:"ربنا آمنا"، أي: صدّقنا ="بما أنزلت"، يعني: بما أنزلتَ على نبيك عيسى من كتابك ="واتبعنا الرسول"، يعني بذلك: صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به، وأعوانه على الحق الذي أرسلتَه به إلى عبادك = وقوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقرُّوا لك بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحِلَّنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصدَّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيلَ الذين رضي أقوالهم وأفعالهم، ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته = ويكذّب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة، في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها = ويحتجُّ به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران: بأنّ قِيلَ مَنْ رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قِيلهم، ومنهاجهم غير منهاجهم، كما:- 7130 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين"، أي: هكذا كان قولهم وإيمانهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أنّ عيسى أحسّ منهم الكفر. * * * وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مُواطأة بعضهم بعضًا على الفتك بعيسى وقَتْله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، بعد إخراج قومه إياه وأمّه من بين أظهُرِهم، عاد إليهم، فيما:- 7131 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن عيسى سار بهم = يعني: بالحواريين الذين كانوا   (1) الأثر: 7130- سيرة ابن هشام 2: 230، هو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7129. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 يصطادون السمك، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم = حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصَاح فيهم، فذلك قوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) الآية [سورة الصف: 14] . * * * وأما مكر الله بهم: فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبَه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك، كما:- 7132 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريِّين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله:"ومكرُوا ومكر الله والله خير الماكرين". فلما خرج الحواريون أبصرُوهم تسعةَ عشر، فأخبروهم أن عيسى قد صُعد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدُونهم ينقصون رجلا من العِدّة، ويرون صورةَ عيسى فيهم، فشكُّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يُرَوْن أنه عيسى وصَلبوه، فذلك قول الله عز وجل: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [سورة النساء: 157] . * * * وقد يحتمل أن يكون معنى"مكر الله بهم"، استدراجُه إياهم ليبلغ الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة: 15] . (1) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 301-306. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتلَ عيسى = مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم = إذ قال الله جل ثناؤه:"إني متوفيك"، فـ"إذ" صلةٌ من قوله:"ومكر الله"، يعني: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى"إني متوفيك ورافعك إليّ، فتوفاه ورفعه إليه. * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية. فقال بعضهم:"هي وفاة نَوْم"، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني مُنِيمك ورافعك في نومك. ذكر من قال ذلك: 7133 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إني متوفيك"، قال: يعني وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه = قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود:"إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إليّ، قالوا: ومعنى"الوفاة"، القبض، لما يقال:"توفَّيت من فلان ما لي عليه"، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله:"إني متوفيك ورافعك"، أي: قابضك من   (1) الأثر: 7133- هو أثر مرسل، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 36، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم، وساقه ابن كثير في تفسيره 2: 150 بإسناد ابن أبي حاتم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذُك إلى ما عندي بغير موت، ورافعُك من بين المشركين وأهل الكفر بك. ذكر من قال ذلك: 7134 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق في قول الله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت. (1) 7135 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من الأرض. 7136 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا"، قال: فرفعه إياه إليه، توفِّيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا. 7137 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن كعب الأحبار قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قِلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، وليس مَنْ رفعته عندي ميتًا، وإني سأبعثك على الأعوَر الدجّال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ. قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث   (1) الأثر: 7134-"علي بن سهل الرملي"، ثقة. مضت ترجمته رقم: 1384."ضمرة ابن ربيعة الفلسطيني الرملي"، قال ابن سعد: "كان ثقة مأمونًا خيرًا، لم يكن هناك أفضل منه". وقال آدم بن أبي إياس: "ما رأيت أحدًا أعقل لما يخرج من رأسه منه". وهو رواية ابن شوذب. مترجم في التهذيب."ابن شوذب" هو: عبد الله بن شوذب الخراساني. ثقة. مترجم في التهذيب. و"مطر الوراق" هو: مطر بن طهمان الوراق. مضى في رقم: 1913. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 قال: كيف تهلك أمة أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها. (1) 7138 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"يا عيسى إني متوفيك"، أي قابضُك. 7139 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، قال:"متوفيك": قابضك = قال:"ومتوفيك" و"رافعك"، واحدٌ = قال: ولم يمت بعدُ، حتى يقتل الدجالَ، وسيموتُ. وقرأ قول الله عز وجل:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا = قال: وينزل كهلا. 7140 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل:"يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي"، الآية كلها، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاةَ موتٍ. ذكر من قال ذلك: 7141 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إني متوفيك"، يقول: إني مميتك. 7142 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه.   (1) الأثر: 7137- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 36، ونسبه للطبري وحده، وقال: "وأخرج ابن جرير بسند صحيح"، وذكر الأثر، وحديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث مرسل، ومهما كان سنده صحيحًا، فإن روايته كعب الأحبار إنما هي لا شيء، ولا يحتج بها. وصدق معاوية في قوله في كعب الأحبار: "إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب"، رواه البخاري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 7143 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياهُ الله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قولُ من قال:"معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ"، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكَرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه. 7144 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليهبطنّ اللهُ عيسى ابن مريم حَكمًا عدلا وإمامًا مُقسِطًا، يكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضَعُ الجزية، ويُفيضُ المالَ حتى لا يجد من يأخذه، وليسكنّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا، أو ليُثَنِّينَّ بهما جميعًا. (1)   (1) الحديث: 7144- سلمة: هو ابن الفضل الأبرش. رجحنا توثيقه في: 246. حنظلة بن علي بن الأسقع الأسلمي - ويقال"السلمي"-: تابعي ثقة معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: 7890 (ج 2 ص 290-291 حلبي) ، بنحوه، مطولا، عن يزيد، وهو ابن هارون، عن سفيان، وهو ابن حسين، عن الزهري، عن حنظلة. ورواه أحمد قبل ذلك، مختصرًا: 7271، عن سفيان، وهو ابن عيينة. و: 7667، عن عبد الرزاق، عن معمر - كلاهما عن الزهري، عن حنظلة. ورواه أيضًا مختصرًا: 10671 (ج 2 ص 513) ، من طريق ابن أبي حفصة. و: 10987 (ج 2 ص 540) ، من طريق الأوزاعي - كلاهما عن الزهري، عن حنظلة. وهذه الرواية المختصرة عند أحمد - رواها مسلم 1: 356-357. وروى أحمد معنى هذا الحديث مفرقًا في أحاديث، من طرق عن أبي هريرة. انظر المسند: 7267، 7665، 7666، 9110 (ج 2 ص 394) ، 9312 (ص 411) ، 10266 (ص 482-483) ، 10409 (ص 493-494) ، 10957 (ص 538) . وذكر ابن كثير كثيرًا من طرقه ورواياته، في التفسير 3: 15-16. وانظر أيضًا تاريخه 2: 96-101. قوله: "أو ليثنين بهما"- هذا هو الصواب الثابت في المخطوطة، والصحيح المعنى. ووقع في المطبوعة"أو يدين بهما"!! وهو تخليط لا معنى له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 7145 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوَةٌ لعَلاتٍ، أمَّهاتهم شتى، ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه خليفتي على أمتي. وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: فإنه رجل مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سَبط الشعر، كأن شَعرَه يقطُر، وإن لم يصبه بَللٌ، بين مُمصَّرَتين، يدق الصّليبَ، ويقتل الخنزير، ويُفيضُ المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه المِللَ كلها، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضّلالة الكذّاب الدجال وتقعُ في الأرض الأمَنَةُ حتى ترتع الأسُود مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمانُ بالحيات، لا يَضرُّ بعضُهم بعضًا، فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه. (1) * * *   (1) الحديث: 7145- إسناده ضعيف جدًا. وأصل الحديث صحيح، كما سيأتي. الحسن بن دينار البصري، كذاب لا يوثق به. وقد مضت ترجمته في: 682. عبد الرحمن بن آدم البصري، صاحب السقاية، مولى أم برثن: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له مسلم في صحيحه، وترجمنا له في شرح المسند: 7213. والحديث سيأتي بإسناد آخر صحيح: من رواية سعيد - وهو ابن أبي عروبة - عن قتادة بهذا الإسناد نحوه (ج 6 ص 16 بولاق) . وقد رواه أحمد في المسند: 9259 (ج 2 ص 406 حلبي) ، عن عفان، عن همام، عن قتادة، به نحوه. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 595، من طريق عفان. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكر ابن كثير في التفسير 3: 16، من رواية أحمد بن عفان. ثم أشار إلى أن أبا داود رواه من طريق همام، ثم أشار إلى رواية الطبري الآتية، من طريق ابن أبي عروبة. ورواه أحمد أيضًا: 9630 (ج 2 ص 437) ، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، به نحوه. ثم رواه: 9631، من طريق هشام، و: 9632، من طريق شيبان - كلاهما عن قتادة. ولم يذكر لفظه. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 98-99، عن رواية ابن أبي عروبة في المسند، وأشار إلى روايتي أحمد وأبي داود من طريق همام. وليس في هذه الروايات ولا في رواية الطبري الآتية-: الكلمة التي هنا في رواية الحسن بن دينار: "وإنه خليفتي على أمتي". وهي عندنا كلمة شاذة، انفرد بروايتها رجل غير موثق به. وصدر هذا الحديث رواه أحمد، والبخاري، وابن حبان، من أوجه، عن أبي هريرة. وانظر تفسير ابن كثير 3: 16، وتاريخه 2: 98-99. قوله: "إخوة لعلات" - بفتح العين المهملة وتشديد اللام- قال ابن الأثير: "أولاد العلات: الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد. أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة". قوله: "وإنه نازل" - نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان: مما لم يختلف فيه المسلمون، لورود الأخبار المتواترة الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره طائفة طيبة منها، ج 3 ص 15-24. وهذا معلوم من الدين بالضرورة، لا يؤمن من أنكره. قوله: "مربوع الخلق" - بفتح الخاء وسكون اللام- المربوع: هو بين الطويل والقصير. يقال: رجل ربعة ومربوع. "الشعر السبط": المنبسط المسترسل. قوله: "بين ممصرتين" - الممصرة من الثياب، بتشديد الصاد المهملة المفتوحة: هي التي فيها صفرة خفيفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يُميتهم ثم يُحييهم، كما قال جلّ ثناؤه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الروم: 40] . * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 فتأويل الآية إذًا: قال الله لعيسى: يا عيسى، إني قابضك من الأرض، ورافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا فجحدوا نبوّتك. * * * وهذا الخبر، وإن كان مخرجه مخرجَ خبر، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجًا على الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجرانَ بأن عيسى لم يُقتَل ولم يُصْلب كما زعموا، وأنهم واليهودَ الذين أقرُّوا بذلك وادَّعوا على عيسى - كذَبةٌ في دعواهم وزعمهم، كما:- 7146 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - وردّ عليهم فيما أقرُّوا لليهود بصلبه، (1) كيفَ رفعه وطهره منهم، فقال:"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ". (2) * * * وأما"مطهِّرك من الذين كفروا"، فإنه يعني: منظّفك، فمخلّصك ممن كفر بك، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها، كما:- 7147 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: إذْ همُّوا منك بما همّوا. (3) 7148 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد،   (1) في المطبوعة: "فيما أخبروا هم واليهود بصلبه"، وما أثبته هو نص المخطوطة ولكن الناسخ أساء كعادته فكتب"أحروا لليهود" كأنها حاء، فبدل الناشر لما شاء كما شاء. ومع ذلك، فالذي في المخطوطة هو نص ابن هشام أيضًا على الصواب. (2) الأثر: 7146- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7130. (3) الأثر: 7147- سيرة ابن هشام 2: 231، تتمة الأثر السالف رقم: 7146. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 عن الحسن في قوله:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: طهَّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على منهاجِك وملَّتك من الإسلام وفطرته، فوق الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا سبيلهم [من] جميع أهل الملل، (1) فكذّبوا بما جئت به وصدّوا عن الإقرار به، فمصيِّرهم فوقهم ظاهرين عليهم، كما:- 7149 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، هم أهلُ الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسُنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة. 7150 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه. 7151 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) في المطبوعة: "وخالفوا بسبيلهم جميع أهل الملل"، وفي المخطوطة: "وخالفوا سبيلهم جميع وهل الملل"، والصواب زيادة [من] ، يعني: وخالفوا سبيل الذين اتبعوك، من جميع أهل الملل. أهو صواب المعنى، إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 ابن جريج:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه. 7152 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: ناصرُ من اتبعك على الإسلام، على الذين كفروا إلى يوم القيامة. 7153 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، أما"الذين اتبعوك"، فيقال: هم المؤمنون، = ويقال: بل هم الرّوم. (1) 7154 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. قال: المسلمون من فوقهم، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود. ذكر من قال ذلك: 7155 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: الذين كفروا من بني إسرائيل ="وجاعل الذين اتبعوك"، قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم ="فوق الذين كفروا"، النصارى فوقَ اليهود إلى يوم القيامة. قال: فليس بلدٌ فيه أحدٌ من النصارى، إلا وهم فوق يهودَ، في شرقٍ ولا غرب، هم في البلدان كلِّها مستذلون. * * *   (1) في المطبوعة: "فيقال هم المؤمنون، ليس هم الروم" بدل ما في المخطوطة، والروم كانوا هم النصارى يومئذ، ويعني بالمؤمنين فيما سلف، أهل الإسلام ممن لم يبدل ولم يقل في عيسى ما قالت النصارى بعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ثم إليّ"، ثم إلى الله، أيها المختلفون في عيسى ="مرجعكم"، يعني: مصيركم يوم القيامة ="فأحكم بينكم"، يقول: فأقضي حينئذ بين جَميعكم في أمر عيسى بالحق ="فيما كنتم فيه تختلفون" من أمره. وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله:"ثم إليَّ مرجعكم"، إنما قُصد به الخبرُ عن متَّبعي عيسى والكافرين به. وتأويل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مَرجعُ الفريقين: الذين اتبعوك، والذين كفروا بك، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن ردَّ الكلام إلى الخطاب لسبوق القول، (1) على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس: 22] . (2) * * *   (1) في المطبوعة: "لسوق القول" وهو خطأ لا معنى له. وفي المخطوطة"لسوق" غير منقوطة، فلم يحسن قراءتها. والطبري يكثر استعمال"سبوق" مصدر"سبق"، كما أشرت إليه في 4: 287، تعليق: 4 / ثم ص: 427، تعليق: 1 / ثم ص: 446، تعليق: 4، وغيره من المواضع. ويعني بقوله: "لسبوق القول" مثل ما مضى من قوله في 1: 153 أن من شأن العرب"إذا حكت، أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبر عن غائب ثم تعود إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب". والقول هنا هو قوله تعالى: "إذ قال الله يا عيسى ... ". ومعنى ما قال الطبري، أن قوله تعالى: "ثم إلي مرجعكم ... " إنما هو في أمر الذين اختلفوا في أمر عيسى، وقالوا فيه ما قالوا من اليهود والنصارى وغيرهم، وأمر الذين قالوا فيه الحق ولم يمتروا فيه أنه عبد الله ورسوله. وذلك بعد أن كان الخطاب إلى عيسى نفسه، وكان ذكر الذين اتبعوه والذين كفروا به، غائبًا في خطاب عيسى، فرد الخطاب إليهم في آخر الآية. (2) انظر ما سلف 1: 153، 154 / 3: 304، 305. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأما الذين كفروا"، فأما الذين جَحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بما جئتهم به من الحق، وقالوا فيك الباطلَ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يُضيفوك إليه، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان، فإني أعذبهم عذابًا شديدًا، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدًا ="وما لهم من ناصرين"، يقول: وما لهم من عذاب الله مانعٌ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لأنه العزيز ذُو الانتقام. * * * وأما قوله:"وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، فإنه يعني تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول: صدّقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على لسانك، وشرعتُ من شرائعي، وسننتُ من سنني. كما: 7156 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وعملوا الصالحات"، يقول: أدوا فرائضي. * * * ="فيوفيهم أجورَهم"، يقول: فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 وأما قوله:"والله لا يحب الظالمين"، فإنه يعني: والله لا يحبُّ من ظلم غيرَه حقًا له، أو وضع شيئًا في غير موضعه. فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عبادَه، فيجازي المسيءَ ممن كفر جزاءَ المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسنَ ممن آمن به واتبعَ أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاءَ المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه. فقال: إني لا أحبّ الظالمين، فكيف أظلم خلقي؟ * * * وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنه وعيدٌ منه للكافرين به وبرسله، (1) ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، (2) لأنه أعلم الفريقين جميعًا أنه لا يبخسُ هذا المؤمن حقه، ولا يظلمُ كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالمًا. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك"، هذه الأنباءَ التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمِّه مريم، وأمِّها حَنَّة وزكريا وابنه يحيى، وما قصَّ من أمر الحواريين واليهودَ من بنى إسرائيل ="نتلوها عليك"، يا محمد، يقول: نقرؤها عليك يا محمد على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، (3) بوحيناها إليك ="من   (1) في المطبوعة: "كأنه وعيد منه"، وهو خطأ بين، لم يحسن قراءة المخطوطة لسوء خط الناسخ. (2) في المخطوطة: "ووعيد منه للمؤمنين"، وهو خطأ بين، والصواب ما في المطبوعة. (3) انظر معنى"التلاوة" فيما سلف 2: 411، 569. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 الآيات"، يقول: من العبر والحجج على من حاجَّك من وفد نصارى نجران، (1) ويهود بني إسرائيل الذين كذَّبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي ="والذكر"، يعني: والقرآن (2) ="الحكيم"، يعني: ذي الحكمة الفاصلة بين الحقّ والباطل، (3) وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه، كما:- 7157 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"، القاطع الفاصل الحقّ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرًا غيره. (4) 7158 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"، قال: القرآن. 7159 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والذكر"، يقول: القرآن ="الحكيم" الذي قد كمَلَ في حكمته. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل = فأخبرْ به، يا محمد، الوفدَ من نصارى نجران = عندي، كشبه آدمَ الذي   (1) انظر معنى"الآيات"، فيما سلف قريبًا، ومادة (أيي) من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"الذكر" فيما سلف 1: 94، 99. (3) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف، في مادة (حكم) من فهارس اللغة. (4) الأثر: 7157- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7147، وكان في المطبوعة: "فلا يقبلن" بالياء، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 خلقتُه من تراب ثم قلت له:"كن"، فكان من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. يقول: فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان لحمًا. يقول: فكذلك خلقى عيسى: أمرتُه أن يكون فكانَ. (1) * * * وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجُّوه في عيسى. ذكر من قال ذلك: 7160 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، إلى قوله"فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين". 7161 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، وذلك أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم = وكان فيهم السيّد والعاقب = فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسَى، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد:   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بأعجب من خلقى آدم من غير ذكر ولا أنثى (فكان لحمًا يقول) ، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان. فكذلك خلقى عيسى ... " وهي عبارة مضطربة اضطرابًا فاسدًا جدًا، وذلك أن الناسخ عجل نظره وهو ينسخ فكتب ما وضعته بين القوسين آنفًا في هذا المكان ثم استمر يكتب، ثم نسي أن يضرب على هذا الكلام ويعيده إلى مكانه فإن قوله: "وأمري إذ أمرته" معطوف على قوله"بأعجب من خلقى آدم"، وغير ممكن أن يفصل بينهما بمثل قوله: "فكان لحمًا يقول"، واستظهرت أن مكانها حيث أثبت في آخر الجملة، فرددتها إلى مكانها، فاستقام الكلام إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 أجل، إنه عبد الله. قالوا له: فهل رأيت مثلَ عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربِّنا السميع العليم فقال: قل لهم إذا أتوك:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم"، إلى آخر الآية. 7162 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم: السيد والعاقبُ، لقيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى فقالا كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون". 7163 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب"، لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل نجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم: العاقب، والسيد، وما سَرجس، ومار يحز. (1) فسألوه ما يقول   (1) هكذا جاء الاسمان في المخطوطة والمطبوعة، أما "ماسرجس" فالمشهور"مَارَسَرْجِسَ"، وهكذا رأيته في أشعارهم كقول جرير للأخطل: قال الأُخَيْطِلُ إِذْ رَأَى رَايَاتِهِمْ ... يَامَارَ سَرْجِسَ لا نُرِيدُ قِتَالاَ ويقولن فيه أيضًا: "مارسرجيس" بالياء، كما قال الأخطل: لَمَّا رَأَوْنَا وَالصَّلِيبَ طَالِعَا ... وَمَارَ سَرْجِيسَ وسمًّا ناقِعَا وهذا الذي ذكره جرير والأخطل رجل مشهور من قديسيهم. وأما "ماريحز"، فلم أعرف ضبطه وأظنه غير صحيح، وكأنه مصحف، وقد جاء في الدر المنثور 2: 37"مار بحر"، وقد ذكر ابن هشام في سيرته 2: 224، أسماء الأربعة عشر الذين يؤول إليهم وفد نصارى نجران. فلم أجد فيها"ماسرجس" ولا"مار يحز"، وأخشى أن يكون"مار يحنس" فقد ذكر فيهم"يحنس"، ولكنه رجم لا أحققه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 في عيسى، فقال: هو عبد الله ورُوحُه وكلمته. قالوا هم: لا! ولكنه هو الله، نزل من ملكه فدَخل في جوف مريم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمرَه! فهل رأيتَ قَط إنسانًا خُلق من غير أب؟ فأنزل الله عز وجل:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون". 7164 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح، عن عكرمة قوله:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، وهما نصرانيان. = قال ابن جريج: بلغنا أنّ نصارى أهل نجران قدم وفدُهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم السيد والعاقبُ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيما تشتمُ صاحبنا؟ قال: من صاحبكما! قالا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أجل، إنه عبدُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا فأرنا عبدًا يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، الآية، لكنه الله. فسكتَ حتى أتاه جبريلُ فقال: يا محمد: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة: 17، 72] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، إنهم سألوني أن أخبرَهم بمثَل عيسى. قال جبريل: مثلُ عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كُن فيكون. فلما أصبحوا عادُوا، فقرأ عليهم الآيات. 7165 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إن مثل عيسى عند الله"، فاسمع، (1) "كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، فإن قالوا:   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فاسمع"، وفي سيرة ابن هشام: "فاستمع". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 خُلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدمَ من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كانَ عيسى لحمًا ودمًا وشعرًا وبَشرًا، فليس خلقُ عيسى من غير ذكر بأعجبَ من هذا. (1) 7166 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب"، قال: أتى نجرانيَّان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا له: هل علمتَ أنّ أحدًا وُلد من غير ذكر، فيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنزل الله عز وجل:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، أكان لآدم أب أو أم! ! كما خلقت هذا في بطن هذه؟ * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فكيف قال:"كمثل آدم خلقه"،"وآدم" معرفة، والمعارفُ لا تُوصَل؟ قيل: إن قوله:"خلقه من تراب" غير صلة لآدم، (2) وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه، وكيف كان. (3) * * * وأما قوله:"ثم قال له كن فيكون"، فإنما قال:"فيكون" وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضَّى، وقد أخرجَ الخبر عنه مُخرَج الخبر عما قد مضَى فقال جل ثناؤه:"خلقه من تراب ثم قال له كن"، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيَّه أن تكوينه الأشياء بقوله:"كن"، ثم قال:"فيكون"،   (1) الأثر: 7165- سيرة ابن هشام 2: 231، 232، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7157، ولكن أبا جعفر اختصر كلام ابن إسحاق هنا، ولكنه سيسوقه وما حذف منه، برقم: 7169. (2) يعني بقوله"صلة" التابع، وهو النعت بالجملة. فإن شرط النعت بالجملة أن يكون المنعوت نكرة لفظًا أو معنى، وأن يكون في الجملة ضمير ملفوظ أو مقدر يربطها بالموصوف، وأن تكون الجملة خبرية. فهذه ثلاثة شروط، أحدها في المنعوت، وشرطان في جملة النعت. (3) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 219. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 خبرًا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله:"كنْ". (1) فتأويل الكلام إذًا:"إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، واعلم، يا محمد، أن ما قال له ربك"كن"، فهو كائن. فلما كان في قوله:"كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، دلالةٌ على أن الكلام يرادُ به إعلام نبي الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداءً من غير أصل ولا أوّل ولا عُنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل:"فيكون"، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى. * * * وقد قال بعض أهل العربية:"فيكون"، رفع على الابتداء، ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن. * * * القول في تأويل قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأنَّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه"كن" = هو الحق من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك ="فلا تكن من الممترين"، يعني: فلا تكن من الشاكين في أنّ ذلك كذلك، (2) كما:- 7167 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، يعني: فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم، عبدُ الله ورسوله، وكلمةُ الله ورُوحه.   (1) انظر الفقرتين الآتيتين، ففيهما تفسير هذه الجملة السالفة. ولقد بين الطبري عنها بيانًا شافيًا قل أن تظفر بمثله في كتاب من كتب التفسير أو غيرها. والمذهب الذي ذهب إليه أبو جعفر في تفسيره، هو عندي أرجح من القول الآتي، وهو الذي اشتهر في كتب التفسير. (2) انظر تفسير"الامتراء"، وتفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 190، 191. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 7168 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، يقول: فلا تكن في شكّ مما قصصنا عليك أنّ عيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمةٌ منه ورُوحٌ، وأنّ مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تُراب ثم قال له كن فيكون. 7169 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"الحق من ربك"، ما جاءك من الخبر عن عيسى ="فلا تكن من الممترين"، أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتَرِ فيه. (1) 7170 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا تكن من الممترين"، قال: والممترون الشاكون. * * * "والمرية""والشك""والريب"، واحد سواءٌ، كهيئة ما تقول:"أعطني""وناولني""وهلم"، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فمن حاجك فيه"، فمن جادلك، يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم. (2) * * * والهاء في قوله:"فيه"، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون عائدة   (1) الأثر: 7169- سيرة ابن هشام 2: 231، 232، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7165، فانظر التعليق على هذا الأثر. وفي سيرة ابن هشام"فلا تمترين فيه"، وهي أجود. (2) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 121 / 5: 429 / 6: 280. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 على"الحق" الذي قال تعالى ذكره:"الحق من ربك". * * * ويعني بقوله:"من بعد ما جاءك من العلم"، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله ="فقل تعالوا"، هلموا فلندع = (1) "أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل"، يقول: ثم نلتعن. * * * يقال في الكلام:"ما لهُ؟ بَهَله الله" أي: لعنه الله ="وما له؟ عليه بُهْلةُ الله"، يريد اللعن، وقال لبيد، وذكر قومًا هلكوا فقال: * نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ * (2) يعني: دعا عليهم بالهلاك. * * * ="فنجعل لعنة الله على الكاذبين" منا ومنكم في أنه عيسى، (3) كما:-   (1) انظر تفسير"تعالوا" فيما يلي ص: 483، 485. (2) ديوانه قصيدة 39، البيت: 81 وأساس البلاغة (بهل) ، وأمالي الشريف المرتضي 1: 45، من قصيدة مضى بعض أبياتها، وهي من شعره الذي رثى فيه أربد: وَأَرَى أَرْبَدَ قَدْ فَارَقَنِي ... وَمِنَ الأَرْزَاءِ رُزْءٌ ذُو جَلَلْ مُمْقِرٌ مُرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ، ... وَعَلَى الأَدْنَيْنَ حُلْوٌ كَالْعَسَلْ فِي قُرُومٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ... نَظَر الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ وهذا التفسير الذي ذكره الطبري لمعنى بيت لبيد، جيد. وجيد أيضًا تفسير الزمخشري في أساس البلاغة قال: "فاجتهد في إهلاكهم". وكأن أجود تفسير للابتهال أن يقال: هو الاسترسال في الأمر، والاجتهاد فيه، ومعنى البيت: فاسترسل في أمرهم، واجتهد في إهلاكهم فأفناهم. وأما قوله: "نظر الدهر إليهم"، فقد قال الجوهري وغيره: "نظر الدهر إلى بني فلان فأهلكهم"، فقال ابن سيده: "هو على المثل، وقال: ولست على ثقة منه". وقال الزمخشري: "ونظر الدهر إليهم: أهلكهم"، وهو تفسير سيئ، إذا لم يكن في نسخة الأساس تحريف. وصواب المعنى أن يقال: "نظر الدهر إليهم"، نظر إليهم مكبرًا أفعالهم، فحسدهم على مآثرهم وشرفهم. كما يقال: "هو سيد منظور"، أي: ترمقه الأبصار إجلالا. وإكبارًا. وإنما فسرته بالحسد، لأنهم سموا الحسد"العين"، فيقال: "عان الرجل يعينه عينًا، فهو معين ومعيون"، والنظر بالعين لا يزال مستعملا في الناس بمعنى الحسد، وإنما أغفل شارحو بيت لبيد هذا المعنى. (3) في المطبوعة: "في آية عيسى"، وهذا لا معنى له هنا والصواب ما في المخطوطة، وإنما أراد: الكاذبين منا ومنكم في أنه عيسى عبد الله ورسوله، لا أنه"الله" تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقد مضى في الأثر رقم 7164، قولهم: "ولكنه الله". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 7171 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، أي: في عيسى: أنه عبدُ الله ورسوله، من كلمة الله وروحه ="فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، إلى قوله:"على الكاذبين". 7172 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره ="فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم"، الآية. (1) 7173 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، يقول: من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم. 7174 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين"، قال: منا ومنكم. 7175 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ليتَ بيني وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. (2) * * *   (1) الأثر: 7172- سيرة ابن هشام 2: 232، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: 7169. (2) الحديث: 7175- سليمان بن زياد الحضرمي المصري: تابعي ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وقال أبو حاتم: "شيخ صحيح الحديث". عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله الزبيدي: صحابي نزل مصر، وهو آخر من مات بها من الصحابة. و"جزء": بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. و"الزبيدي": بضم الزاي، نسبة إلى القبيلة. ووقع هنا في الإسناد قول ابن وهب: "وحدثني ابن لهيعة" - ومثل هذا يكون كثيرًا في الأسانيد: يحدث الرجل عن شيوخه بالأحاديث، فيذكرها بحرف العطف، عطف حديث على حديث، وإسناد على إسناد، فإذا حدث السامع عن الشيخ، فقد يحذف حرف العطف وقد يذكره. والأمر قريب. والحديث رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر، ص: 301، بنحوه، عن عبد الملك بن مسلمة، وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار - كلاهما عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد. وذكره السيوطي 2: 38، عن ابن جرير وحده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 القول في تأويل قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به، يا محمد، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح منّي، لهو القصَص والنبأ الحق، فاعلم ذلك. واعلم أنه ليس للخلق معبودٌ يستوجبُ عليهم العبادةَ بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبُدُه، وهو الله العزيز الحكيم. * * * ويعني بقوله:"العزيز"، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهًا غيرَه، أو عبد ربًّا سواه (1) ="الحكيم" في تدبيره، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ. (2) * * * "فإن تولوا"، يعني: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجُّوك في عيسى، عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان،   (1) انظر تفسير"العزيز" فيما سلف 3: 88 / 6: 165، 168، 271. (2) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف قريبًا: 467، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 فأعرضوا عنه ولم يقبلوه = (1) "فإن الله عليم بالمفسدين"، يقول: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم. (2) يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها، حتى يجازيهم عليها جزاءَهم. * * * وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: 7176 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، أي: إن هذا الذي جئتَ به من الخبر عن عيسى، ="لهو القصَص الحقّ"، من أمره. (3) 7177 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"إنّ هذا لهو القصص"، إن هذا الذي قُلنا في عيسى ="لهو القصَص الحق". 7178 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، قال: إن هذا القصصَ الحقّ في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدَّى هذا ولا يُجاوزُه: أنْ يتعدّى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم، (4) وروحًا منه، وعبدَ الله ورسوله. 7179 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، إنّ هذا الذي قلنا في   (1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162-164، 298 / 3: 131 / 4: 237 / 6: 283، 291. (2) انظر معنى"الفساد" فيما سلف 1: 287، 416 / 4: 238، 243، 244 / 5: 372. (3) الأثر: 7176- سيرة ابن هشام 2: 232، هو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7172. (4) في المطبوعة: "ولا يجاوز أي يتعدى ... "، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 عيسى، هو الحق ="وما من إله إلا الله"، الآية. * * * فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران، بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمرَه (1) = إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبدُه ورسوله، وأبوا إلا الجدلَ والخصومة = (2) أن يدعوَهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة، كالذي:- 7180 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: فأمِر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بملاعنتهم - يعني: بملاعنة أهل نجران - بقوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغدَ. فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم، فتابعاهم. فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعتم!! ونَدَّمهم، (3) وقال لهم: إن كان نبيًّا ثم دعا عليكم لا يغضبُه الله فيكم أبدًا، ولئن كان ملِكًا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدًا. (4) قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا! فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه، فقولوا:"نعوذ بالله"! فإن دعاكم أيضًا فقولوا له:"نعوذ بالله"! ولعله أن يعفيَكم من ذلك. فلما غدَوْا غدَا النبّي صلى الله عليه وسلم محتضِنًا حسَنًا آخذًا بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وأمره ... " بالواو، وهي زائدة مفسدة، فأسقطتها. (2) سياق الجملة: "أمره ... أن يدعوهم إلى الملاعنة"، وما بينهما فصل. (3) قوله: "ندمهم" (مشدد الدال) لامهم حتى حملهم على الأسف والندم. وهذا لفظ عربي عريق قل أن تظفر به في كثير من كتب اللغة. (4) في المطبوعة: "لا يستبقينكم"، بزيادة النون، والصواب من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 فقالوا:"نعوذ الله"! ثم دعاهم فقالوا:"نعوذ بالله"! مرارًا قال: فَإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين كما قال الله عز وجل، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله عز وجل. قالوا: ما نملك إلا أنفسنا! قال: فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما قال الله عز وجل. قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدّي الجزية. قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة، ألفًا في رجب، وألفًا في صفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتاني البشير بهلكه أهل نجران، (1) حتى الطير على الشجر = أو: العصافيرُ على الشجر = لو تمُّوا على الملاعنة. (2) = حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال: فقلت للمغيرة: إن الناس يروُون في حديث أهل نجران أن عليًّا كان معهم! فقال: أما الشعبي فلم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ، أو لم يكن في الحديث! (3) 7181 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق" إلى قوله:"فقولوا اشهدُوا بأنا مسلمون"، فدعاهم إلى النَّصَف، (4) وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من الله عنه، والفصلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم، إنْ ردُّوا عليه = (5) دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رَأيهم، (6) فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ قال:   (1) في المطبوعة: "قد أتاني"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) "تم على الشي" استمر عليه وأمضاه. (3) هذه الفقرة من تتمة الأثر السالف، فلذلك لم أفردها بالترقيم. (4) النصف والنصفة (كلاهما بفتحتين) : هو الإنصاف، وإعطاء الحق لصاحبك كالذي تستحق لنفسك. (5) في المخطوطة: "أو ردوا عليه"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة مطابقًا لسيرة ابن هشام، وفيها: "إن ردوا ذلك عليه". (6) "ذو رأيهم"، صاحب الرأي والتدبير، يستشار فيما يعرض لهم لعقله وحسن رأيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أنّ محمدًا لنبيّ مرسل، (1) ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قَوْمٌ نبيًّا قط فبقي كبيرُهم ولا نبتَ صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْفَ دينكم، والإقامةَ على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجلَ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمنٌ رَأيه. (2) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنَك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضَاهُ لنا، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رِضًى. (3) 7182 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي في قوله:"تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم" الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين. (4)   (1) في المطبوعة: "أن محمد نبي مرسل"، وهو خطأ، وتحريف لما في المخطوطة كما أثبتها، وهو المطابق أيضًا لما في سيرة ابن هشام. (2) قوله: "حتى يريكم زمن رأيه" ليست في سيرة ابن هشام. ويعني بذلك: حتى يمضي زمن، وتتقلب أحوال، فترون عاقبة أمره، صلى الله عليه وسلم، وقد قال شارح السيرة، السهيلي، في الروض الأنف 2: 50"وفي حديث أهل نجران، زيادة كثيرة عن ابن إسحاق، من غير رواية ابن هشام". (3) الأثر: 7181- سيرة ابن هشام 2: 232، 233، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7176- يقال: "رجل رضى من قوم رضى"، أي مرضى، وصف بالمصدر مثل رجل عدل، كما قال زهير: مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ يَقُلْ سَرَواتُهُمْ: ... هُمُ بَيْنَنَا، فَهُمُ رِضًى، وهُمُ عَدْلُ (4) الأثر: 7182-"عيسى بن فرقد المروزي"، أبو مطهر. روى عنه عمرو بن رافع، وابن حميد، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه فقال: مروزي. قلت: ما حاله؟ قال: شيخ". مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 284. و"أبو الجارود" هو: زياد بن المنذر الهمداني. قال ابن معين: "كذاب، عدو الله، ليس يسوي فلسًا". وكان رافضيًا يضع الحديث في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى في فضائل أهل البيت رضي الله عنهم أشياء ما لها أصول. لا يحل كتب حديثه، وهو من غلاة الشيعة، وله فرقة تعرف بالجارودية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 7183 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، الآية، فأخذ - يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا. فخرجَ معهم، فلم يخرج يومئذ النصارَى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس دعوة النبيّ كغيرها! ! فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو خرجوا لاحترقوا! فصالحوه على صلح: على أنّ له عليهم ثمانين ألفًا، فما عجزت الدراهم ففي العُرُوض: الحُلة بأربعين = وعلى أن له عليهم ثلاثًا وثلاثين درعًا، وثلاثًا وثلاثين بعيرًا، وأربعة وثلاثين فرسًا غازيةً كلّ سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَامنٌ لها حتى نُؤدّيها إليهم. 7184 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدًا من وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه، في عيسى، فنكصُوا عن ذلك وخافوا = وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تَدَلَّى على أهل نجران، ولو فعلوا لاستُؤصلوا عن جديد الأرض. (1) 7185 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ليُداعي أهل نجران، (2) فلما رأوه خرج، هابوا وفَرِقوا، فَرَجعوا = قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهل نَجران، أخذَ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله، رجعوا.   (1) جديد الأرض، وجدها (بفتح الجيم وكسرها) وجددها (بفتحات) : هو وجه الأرض. (2) في المطبوعة: خرج ليلاعن أهل نجران"، قرأ"ليداعي""ليلاعن"، و"يداعي" من"الدعاء"، يعني هذه المباهلة والملاعنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 7186 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لو خرج الذين يُباهلون النبّي صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا. 7187 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زكريا، عن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. 7188 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحدٌ إلا أهلك الله الكاذبين. 7189 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم، بمن كنتَ تأتي حين قلت"أبناءَنا وأبناءَكم"؟ قال: حسن وحسين. 7190 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا المنذر بن ثعلبة قال، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية:"فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم"، الآية، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ وفاطمةَ وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليُلاعنهم، فقال شاب من اليهود، ويحكم! أليس عهدُكم بالأمس إخوانُكم الذين مُسخوا قردةً وخنازير؟! لا تُلاعنوا! فانتهَوْا. (1) * * *   (1) الأثر: 7190-"المنذر بن ثعلبة بن حرب الطائي"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"علباء بن أحمر اليشكري" روى عن عكرمة مولى ابن عباس. قال أحمد: "لا بأس به، لا أعلم إلا خيرًا"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. هذا وأحاديث هذا الباب كلها مرسلة، كما رأيت، إلا خبر ابن عباس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل ="تعالوا"، هلموا (1) ="إلى كلمة سواء"، يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، (2) والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا. = وقوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا"، يقول: ولا يدين بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظِّمه بالسجود له كما يسجدُ لربه ="فإن تولوا"، يقول: فإن أعرضوا عما دعوتَهم إليه من الكلمة السواء التي أمرُتك بدعائهم إليها، (3) فلم يجيبوك إليها ="فقولوا"، أيها المؤمنون، للمتولِّين عن ذلك ="اشهدوا بأنا مسلمون". * * * واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حَوالى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 7191 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.   (1) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف قريبًا: 474، وسيأتي ص: 485. (2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256 / 2: 495-497. (3) انظر معنى"تولى" فيما سلف قريبًا ص: 477، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 7192 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم دَعا اليهود إلى كلمة السَّواء. 7193 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى ذلك، فأبوا عليه، فجاهدهم = قال: دعاهم إلى قول الله عز وجل:"قل يا أهل الكتاب تَعالوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية. * * * وقال آخرون: بل نزلت في الوفد من نصارى نجران. ذكر من قال ذلك: 7194 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" الآية، إلى قوله:"فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، قال: فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجةَ - يعني وفد نجران. (1) 7195 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم دعاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم. - يعني الوفدَ من نصارى نجران - فقال:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية. 7196 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال قال: يعني جل ثناؤه:"إنّ هذا لهو القصص الحقّ"، في عيسى = على ما قد بيناه فيما مضى = (2) قال: فأبوا - يعني الوفدَ من نجران - فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا،"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"،   (1) الأثر 7194- سيرة ابن هشام 2: 232، ومضى أيضًا برقم: 7181، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7181. (2) يعني الأثر السالف رقم: 7178. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 فقرأ حتى بلغ:"أربابًا من دون الله"، فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر. * * * قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بقوله:"يا أهل الكتاب"، أهلَ الكتابين، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب" بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر = لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح = فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه، وإخلاصَ التوحيد له، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم"أهل الكتاب"، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل، (1) فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا. * * * وأما تأويل قوله:"تعالوا"، فإنه: أقبلوا وهلمُّوا. (2) وإنما"هو تفاعلوا" من"العلوّ" فكأن القائل لصاحبه:"تعالَ إليّ"، قائلٌ"تفاعل" من"العلوّ"، (3) كما يقال:"تَدَانَ مني" من"الدنوّ"، و"تقارَبْ مني"، من"القرب". * * *   (1) في المطبوعة: "وأهل الكتاب يعم أهل التوراة وأهل الإنجيل"، غير ما في المخطوطة حين لم يحسن قراءة ما فيه من التصحيف، وكان في المخطوطة: "وأنتم أهل الكتاب يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل" صحف الكاتب فكتب مكان"واسم"، "وأنتم"، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) قد فسر أبو جعفر"تعالوا" في موضعين سلفا ص: 474، ص: 483، ولكنه استوفى هنا الكلام في بيانها، ولا أدري لم يفعل مثل ذلك، وكان الأولى أن يفسرها أول مرة. (3) في المطبوعة: "فكأن القائل تعالى إلى، فإنه تفاعل من العلو" لأنه لم يفهم ما كان في المخطوطة، فبدله، ووضع علامة (3) للدلالة على أنه خطأ لا معنى له، أو سقط في الكلام. والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 وقوله:"إلى كلمة سواء". فإنها الكلمة العدلُ،"والسَّواء" من نعتِ"الكلمة". (1) * * * وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع"سواء" في الإعراب"لكلمة"، وهو اسمٌ لا صفة. فقال بعض نحويي البصرة: جر"سواء" لأنها من صفة"الكلمة" وهي العدل، وأراد مستوية. قال: ولو أراد"استواء"، كان النصب. وإن شاء أن يجعلها على"الاستواء" ويجرّ، جاز، ويجعله من صفة"الكلمة"، مثل"الخلق"، لأن"الخلق" هو"المخلوق"."والخلق" قد يكونُ صفةً واسمًا، ويجعل"الاستواء" مثل"المستوى"، قال عز وجل: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [سورة الحج: 25] ، لأن"السواء" للآخر، وهو اسمٌ ليس بصفة فيجرى على الأول، وذلك إذا أراد به"الاستواء". فإن أراد به"مستويًا" جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا المعنى جيدٌ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل"عدل" و"رضًى" و"جُنُب"، وما أشبه ذلك. وقالوا: [في قوله] : (2) (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) [سورة الجاثية: 21] ، فـ"السواء" للمحيا والممات بهذا، المبتدأ. وإن شئت أجريته على الأول، وجعلتَه صفة مقدمة، كأنها من سبب الأول   (1) انظر تفسير"سواء" فيما سلف قريبًا ص: 483، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) الزيادة التي بين القوسين، زدتها ليستقيم الكلام ويستبين، وأخشى أن يكون في هذه الجملة سقط لم أستطع أن أتبينه، وراجع قول أبي جعفر في هذه الآية من تفسيره، 25، 89، 90 (بولاق) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 فجرت عليه. وذلك إذا جعلته في معنى"مستوى". والرفع وجه الكلام كما فسَّرتُ لك. * * * وقال بعض نحويي الكوفة:"سواء" مصدرٌ وضع موضع الفعل، (1) يعني موضع"متساوية": و"متساو"، فمرة يأتي على الفعل، ومرّةً على المصدر. وقد يقال في"سواء"، بمعنى عدل:"سِوًى وسُوًى"، كما قال جل ثناؤه: (مَكَانًا سُوًى) و (سِوًى) [سورة طه: 58] ، يراد به: عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك (" إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ") . (2) * * * وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله:"إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، بأن"السواء" هو العدلٍ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7197 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، عدل بيننا وبينكم ="ألا نعبد إلا الله"، الآية. 7198 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا"، بمثله. (3) * * *   (1) "الفعل" يعني به الصفة المشتقة مثل فاعل ومفعول، كما هو ظاهر هنا، وراجع فهرس المصطلحات. (2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 220. (3) الأثر: 7198- في المخطوطة: "و.. ولا نشرك به شيئًا" الآية، وليس فيها"بمثله"، زادها الناشر أو ناسخ قبله، لما رأى الأثر غير تام، وهو صنيع حسن، وإن كنت لا أرتضيه، وظني أنه قد سقط من الناسخ الأول بقية التفسير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 وقال آخرون: هو قولُ"لا إله إلا الله". ذكر من قال ذلك: 7199 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال أبو العالية:"كلمة السواء"، لا إله إلا الله. * * * وأما قوله:"ألا نعبُدَ إلا الله"، فإنّ"أنْ" في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى أنْ لا نعبد إلا الله. (1) * * * وقد بينا - معنى"العبادة" في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وأما قوله:"ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا"، فإنّ"اتخاذ بعضهم بعضًا"، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله، (3) وتركِهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) [سورة التوبة: 31] ، كما:- 7200 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، يقول: لا يطع بعضُنا بعضًا في معصية الله. ويقال إنّ تلك الرُّبوبية: أن يطيعَ الناس سادَتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلُّوا لهم. * * *   (1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 220، فانظر تمامها هناك. (2) انظر ما سف 1: 160، 161، 362 / 3: 120، 317. (3) في المطبوعة: "هو ما كان بطاعة الأتباع ... " بزيادة"هو"، وليست في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 وقال آخرون:"اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا"، سجودُ بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك: 7201 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، قال: سجود بعضهم لبعض. * * * وأما قوله:"فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، فإنه يعني: فإن تولَّى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم، أيها المؤمنون، لهم: اشهدوا علينا بأنا = بما تولَّيتم عنه، من توحيد الله، وإخلاص العبودية له، وأنه الإلهُ الذي لا شريك له ="مسلمون"، يعني: خاضعون لله به، متذلِّلون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا. * * * وقد بينا معنى"الإسلام" فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أهل الكتاب"، يا أهل التوراة والإنجيل ="لم تحاجون"، لم تجادلون ="في إبراهيم" وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه. وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان   (1) انظر ما سلف 2: 510، 511 / 3: 73، 74، 92، 110 / ثم 6: 275، 280. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته. فعابهم الله عز وجل بادِّعائهم ذلك، ودلّ على مُناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أنّ دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أنّ دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه، (1) وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم؟ * * * وقيل: نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم. ذكر من قال ذلك: 7202 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق = قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنزل الله عز وجل فيهم:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراةُ والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون"، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا! فأخبرهم الله أنّ التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية. (2)   (1) في المخطوطة: "فكيف يكون منهم، أما وجه اختصامكم فيه.."، وهو خطأ من عجلة الناسخ وصححه في المطبوعة، ولكنه كتب"فما وجه اختصامكم فيه"، وهو ليس بشيء، والصواب ما أثبت. (2) الأثر: 7202- سيرة ابن هشام 2: 201: 202 مختصرًا، والأثر الذي قبله فيما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق، هو ما سلف رقم: 6782. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 7203 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم"، يقول:"لم تحاجون في إبراهيم" وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، ="وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده"، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، ="أفلا تعقلون"؟ * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم. ذكر من قال ذلك: 7204 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا. فأكذبهم الله عز وجل ونفاهم منه فقال:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون". 7205 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 7206 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم"، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله عز وجل منهم، حين ادعت كل أمة أنه منهم، (1) وألحق به المؤمنين، مَنْ كان من أهل الحنيفية. 7207 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "حين ادعى"، وهو سبق قلم من الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 وأما قوله:"أفلا تعقلون" فإنه يعني:"أفلا تعقلون"، تفقَهون خطأ قيلكم: إنّ إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت من بعد مَهلكه بحين؟ * * * القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ها أنتم"، القومَ الذين (1) [قالوا في إبراهيم ما قالوا ="حاججتم"] ، (2) خاصمتم وجادلتم (3) ="فيما لكم به علم"، من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته (4) ="فلم تحاجون"، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون="فيما ليس لكم به علم"، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟ كما:- 7208 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجُّون فيما   (1) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم هؤلاء، القوم ... "، ومثله في المخطوطة، وليس فيها"هؤلاء"، وصواب السياق يقتضي أن يكون كما أثبت. وقوله: "القوم" مفعول به لقوله: "يعني ... ". (2) هذه الزيادة التي بين القوسين، أو ما يقوم مقامها، لا بد منها، ولا يستقيم الكلام إلا بها، وظاهر أن الناسخ قد تخطى عبارة أو سطرا من فرط عجلته أو تعبه. واستظهرتها من نهج أبي جعفر وسياق تفسيره. (3) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 121، 200 / 5: 429 / 6: 280، 473. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن غير ذلك"، والصواب ما أثبت، تصحيف ناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 ليس لكم به علم، أما"الذي لهم به علم"، فما حرّم عليهم وما أمروا به. وأما"الذي ليس لهم به علم"، فشأن إبراهيم. 7209 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم"، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم ="فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم"، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا ="والله يعلم وأنتم لا تعلمون". 7210 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * وقوله:"والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه، لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض ="وأنتم لا تعلمون"، من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم، أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع. * * * القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) } قال أبو جعفر: وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم = وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون = وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 يقول الله عز وجل: = ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا كان من المشركين، (1) الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم ="ولكن كان حنيفًا"، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها ="مسلمًا"، يعني: خاشعًا لله بقلبه، متذللا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه. (2) * * * وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى"الحنيف" فيما مضى، ودللنا على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم، بما أغنى عن إعادته. (3) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7211 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنزل الله عز وجل:"ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا" الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم - يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا. (4) 7212 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.   (1) في المطبوعة: "ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين"، ساق الآية كقراءتها، وذلك لأن ناسخ المخطوطة كان كتب"وكان من المشركين" ثم كتب بين الواو و"كان"، "لا" ضعيفة غير بينة، فلم يحسن الناشر قراءتها، فساق الآية، ولم يصب فيما فعل ورددت عبارة الطبري إلى صوابها. (2) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف قريبًا: 489 تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر ما سلف 3: 104 - 108. (4) الأثر: 7211-"إسحاق بن شاهين الواسطي"، روى عنه أبو جعفر في مواضع من تاريخه، ولم أجد له ترجمة. و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن" أبو الهيثم المزني الواسطي. ثقة حافظ صحيح الحديث، مترجم في التهذيب، و"داود" هو: "ابن أبي هند" و"عامر" هو الشعبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 7213 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن أبيه -: أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين، ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ (1) قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! (2) قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا أستطيع، (3) فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. (4) فخرج من عنده، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: (5) اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم. (6)   (1) في المطبوعة: "وأنا لا أستطيع"، زاد"لا"، وليست في المخطوطة، وهي خطأ فاحش، ومخالف لرواية الحديث في البخاري كما سيأتي في تخريجه. وفي رواية البخاري: "وأنا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ " (2) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري. (3) في المطبوعة هنا أيضًا: "وأنا لا أستطيع" بزيادة"لا"، وليست في المخطوطة، وانظر التعليق: 1. (4) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري. (5) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يزل رافعًا يديه إلى الله"، وأنا في شك من لفظ هذا الكلام، وأكبر ظني أنه تصحيف من كاتب قديم، ونص رواية البخاري"فلما برز رفع يديه فقال" فجعل"فلما"، وجعل"برز""يزل"، وجعل"رفع""رافعًا"، والسياق يقتضي مثل رواية البخاري. (6) الأثر: 7213-"يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الزهري"، سكن الإسكندرية. ثقة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، مترجم في التهذيب. وهذا الخبر، رواه البخاري (الفتح 7: 109، 110) من طريق فضيل بن سليمان، عن موسى ابن عقبة، بمثل لفظ الطبري مع بعض الاختلاف. وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة ما نصه: "يتلوه القول في تأويل قوله عز وجل " ": إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِبنَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" والحمد لله على (..!!) وصلى الله على محمد وآله وسلم" ثم يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يَسِّرْ أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري". وهذا شيء جديد قد ظهر في هذه النسخة، فإن ما مضى جميعه، كان ختام التقسيم القديم، رواية أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ثم بدأت رواية التفسير بإسناد آخر لم نكن نعرفه عن رجل آخر غير أبي محمد الفرغاني، وهو المشهور برواية التفسير، فأثبت الإسناد في صلب التفسير لذلك: فلا بد من التعريف هنا بأبي بكر البغدادي. حتى نرى بعد كيف تمضي رواية التفسير، أهي رواية أبي محمد الفرغاني إلى آخر الكتاب، غير قسم منه رواه أبو بكر، أم انقضت رواية أبي محمد الفرغاني، ثم ابتدأت رواية أبي بكر من عند هذا الموضع؟ وراوي هذا التفسير، من أول هذا الموضع هو: "محمد بن داود بن سليمان سيار بن بيان، البغدادي، الفقيه، أبو بكر"، نزل مصر، وحدث بها عن أبي جعفر الطبري، وعثمان بن نصر الطائي. روى عنه أبو الفتح عبد الواحد بن محمد بن مسرور البلخي، كان ثقة. قال الخطيب البغدادي في تاريخه 5: 265 بإسناده إلى أبي سعيد بن يونس: "محمد بن داود بن سليمان، يكنى أبا بكر، بغدادي، قدم مصر، وكان يتولى القضاء بتنيس، وكان يروي كتب محمد بن جرير الطبري عنه. حدث عنه جماعة من البغداديين. وكان نظيفًا عاقلا. وولي ديوان الأحباس بمصر. توفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة". ولم أجد له غير هذه الترجمة في تاريخ بغداد، لا في قضاة مصر للكندي، ولا في غيره من الكتب التي تحت يدي الآن، ولعلي أجد في موضع آخر من التفسير، شيئًا يكشف عن روايته التفسير، غير هذا القدر الذي وصلت إليه، والله الموفق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري: * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 القول في تأويل قوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ أولى الناس بإبراهيم"، إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ="للذين اتبعوه"، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به ="وهذا النبي"، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم ="والذين آمنوا"، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله ="والله ولي المؤمنين"، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمد، (1) المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به من عنده، على من خالفهم من أهل الملل والأديان. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7214 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته ="وهذا النبي"، وهو نبي الله محمد ="والذين آمنوا" معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبيّ الله واتبعوه. كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم.   (1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف 1: 489، 564 / 5: 424 / 6: 142، 313. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 7215 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 7216 - حدثنا محمد بن المثنى، وجابر بن الكردي، والحسن بن أبي يحيى المقدسي، قالوا: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين". (1)   (1) الحديث: 7216- جابر بن الكردي بن جابر الواسطي البزار: ثقة من شيوخ النسائي، مترجم في التهذيب. الحسن بن أبي يحيى المقدسي: لم أصل إلى معرفة من هو؟ أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. سفيان: هو الثوري. وأبوه: سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وهو ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح - بالتصغير. مضت ترجمته في: 5424. مسروق: هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني. مضت ترجمته في: 4242. وهذا إسناد صحيح متصل. وسيأتي - عقبه - بإسناد منقطع: من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- منقطعًا، بإسقاط"مسروق" بين أبي الضحى وابن مسعود. وأبو الضحى لم يدرك ابن مسعود. مات ابن مسعود سنة 33. ومات أبو الضحى سنة 100. وهكذا روى هذا الحديث في الدواوين بالوجهين: متصلا ومنقطعًا. والوصل زيادة ثقة، فهي مقبولة. فرواه الترمذي 4: 80-81، عن محمود بن غيلان، عن أبي أحمد الزبيري، بهذا الإسناد، متصلا. كمثل رواية الطبري هذه من طريق أبي أحمد. وكذلك رواه البزار، من طريق أبي أحمد الزبيري، فيما نقل عنه ابن كثير 2: 163. ولم ينفرد أبو أحمد الزبيري بوصله بذكر"مسروق" في إسناده. تابعه على ذلك راويان ثقتان. فرواه الحاكم في المستدرك 2: 292، من طريق محمد بن عبيد الطنافسي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله - مرفوعًا موصولا. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونقل ابن كثير 2: 161-162 أنه رواه سعيد بن منصور: "حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق [هو والد سفيان] عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود ... " - فذكره. وأبو الأحوص سلام بن سليم: ثقة متقن حافظ، مضى في: 2058. فقد رواه مرفوعًا متصلا، عن سعيد الثوري - والد سفيان - كما رواه سفيان عن أبيه. فهذا يرجح رواية من رواه عن سفيان موصولا، على رواية من رواه عنه منقطعًا. فإذا اختلفت الرواية على سفيان بين الوصل والانقطاع، فلم تختلف على أبي الأحوص. بل الظاهر عندي أن هذا ليس اختلافًا على سفيان. وأن سفيان هذا هو الذي كان يصله مرة، ويقطعه مرة. ومثل هذا في الأسانيد كثير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 7217 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، أراه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. (1) 7218 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه:"إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، وهم المؤمنون. * * *   (1) الحديث: 7217- هذه هي الرواية المنقطعة لهذا الحديث. رواه الطبري من طريق أبي نعيم عن سفيان، منقطعًا. وكذلك رواه الترمذي 4: 81، عن محمود، وهو ابن غيلان، عن أبي نعيم، بهذا الإسناد. وتابع أبا نعيم على روايته هكذا منقطعًا رواة آخرون ثقات: فرواه أحمد في المسند: 3800، عن وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله - هو ابن مسعود- مرفوعًا. وكذلك رواه الترمذي 4: 81، عن أبي كريب، عن وكيع. ولكن نقله ابن كثير 2: 163-164 عن تفسير وكيع، بهذا الإسناد، وفيه"عن أبي إسحاق" بدل"عن أبي الضحى". وأنا أرجح أن هذا خطأ من بعض ناسخي تفسير وكيع، ترجيحًا لرواية أحمد عن وكيع، والترمذي من طريق وكيع - وفيهما: "عن أبي الضحى". ورواه أحمد أيضًا: 4088، عن يحيى، وهو القطان، وعن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي - كلاهما عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، مرفوعًا. وقد رجح الترمذي الرواية المنقطعة، وهو ترجيح بغير مرجح. والوصل زيادة تقبل من الثقة دون شك. وفي رواية الطبري هذه قوله: "أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم"، مما يفهم منه الشك في رفعه أيضًا. وهذا الشك لعله من ابن المثنى شيخ الطبري، أو من الطبري نفسه، لأن رواية الترمذي من طريق أبي نعيم ليس فيها الشك في رفعه. والحديث ذكره السيوطي 2: 42، دون بيان الروايات المتصلة من المنقطعة - وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ولم يذكر نسبته لمسند أحمد ولا للبزار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 القول في تأويل قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ودّت"، تمنت = (1) "طائفة"، يعني جماعة ="من أهل الكتاب"، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى ="لو يضلُّونكم"، يقولون: لو يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك. * * * و"الإضلال" في هذا الموضع، الإهلاكُ، (2) من قول الله عز وجل: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سورة السجدة: 10] ، يعني: إذا هلكنا، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير: كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ ... قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا (3) يعنى: هلك هلاكًا، وقول نابغة بني ذبيان: فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ (4) يعني مهلكوه. * * *   (1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542. (2) انظر تفسير"ضل" فيما سلف 1: 195 / 2: 495، 496. (3) مضى تخريجه وشرحه في 2: 496. (4) ديوانه: 83، واللسان (ضلل) (جلا) ، من قصيدته الغالية في رثاء أبي حجر النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وقبل البيت: فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَّعْتَ غَيْرَ مُذَمَّمٍ ... أَوَاسِيَ مُلْكٍ ثبَّتَتْهُ الأَوَائِلُ فَلاَ تَبْعَدَنْ، إِنْ المَنَّيَة مَوْعِدٌ، ... وَكُلُّ امْرِئ يَوْمًا به الحَالُ زَائِلُ فمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر، لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أَبُو حُجُرٍ، إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ فَإِنْ تَحْيَ لا أَمْلَلْ حَيَاتِي، وَإنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طائِل فَآبَ مُضِلُّوهُ. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورواية الأصمعي وأبي عبيدة: "فآب مصلوه" بالصاد المهملة. وفسرها الأصمعي فقال: "أراد: قدم أول قادم بخبر موته، ولم يتبينوه ولم يحققوه ولم يصدقوه، ثم جاء المصلون، وهم الذين جاءوا بعد الخبر الأول، وقد جاءوا على أثره، وأخبروا بما أخبر به، بعين جلية: أي بخبر متواتر صادق يؤكد موته، ويصدق الخبر الأول. وإنما أخذه من السابق والمصلي (من الخيل) " وقال أبو عبيدة: "مصلوه: يعني أصحاب الصلاة، وهم الرهبان وأهل الدين منهم". والذي قاله الأصمعي غريب جدًا، وأنا أرفضه لبعده وشدة غرابته، واحتياله الذي لا يغني، ولو قال: "مصلوه"، هم مشيعوه الذين سوف يتبعون آثاره عما قليل إلى الغاية التي انتهى إليها، وهي اللحد - لكان أجود وأعرق في العربية!! ولكن هكذا تذهب المذاهب أحيانًا بأئمة العلم. والذي قال أبو عبيدة، على ضعفه، أجود مما قاله الأصمعي، وأنا أختار الرواية التي رواها الطبري، ولها تفسيران: أحدهما الذي قاله الطبري، وهو يقتضي أن يكون النعمان مات مقتولا، ولم أجد خبرًا يؤيد ذلك، فإنه غير ممكن أن يكون تفسيره"مهلكوه"، إلا على هذا المعنى، والآخر: "مضلوه" أي: دافنوه الذي أضلوه في الأرض: أي دفنوه وغيبوه، وهو المشهور في كلامهم، كقول المخبل: أَضَلَّتْ بَنْو قيْسِ بن سَعْدٍ عَمِيدَهَا ... وفَارِسَها في الدَّهْرِ قَيْسَ بنَ عاصِمِ فمعنى قول النابغة: كذب الناس خبر موت النعمان أول ما جاء، فلما جاء دافنوه بخبر ما عاينوه، صدقوا الخبر الأول. هذا أجود ما يقال في معنى البيت. و"الجولان" جبل في نواحي دمشق، من عمل حوران. وتبين من شعر النابغة أنه كانت به منازل النعمان وقصوره ودوره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 ="وما يضلون إلا أنفسهم"، وما يهلكون - بما يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم - أحدًا غير أنفسهم، يعني بـ"أنفسهم": أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم، وإنما أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخَطه، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته، لكفرهم بالله، ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم، في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته. ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 ومدَّخِر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى ذكره:"وما يشعرون" أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون. * * * ومعنى قوله:"وما يشعرون"، وما يدرون ولا يعلمون. * * * وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أهل الكتاب"، من اليهود والنصارى ="لم تكفرون"، يقول: لم تجحدون ="بآيات الله"، يعني: بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم، من آيه وأدلته="وأنتم تشهدون" أنه حق من عند ربكم. * * * وإنما هذا من الله عز وجل، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه في كتبهم، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ، وأنه من عند الله، كما:- 7219 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"، يقول: تشهدون   (1) انظر تفسير"شعر" فيما سلف 1: 277، 278. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 أن نَعتَ محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل:"النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته". 7220 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"، يقول: تشهدون أن نعتَ محمد في كتابكم، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل:"النبيّ الأميّ". 7221 - حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"،"آيات الله" محمد، وأما"تشهدون"، فيشهدون أنه الحق، يجدونه مكتوبًا عندهم. 7222 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون" أنّ الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره. (1) * * *   (1) الأثر: 7222- أسقطت المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا القاسم قال"، فأثبتها، وهو إسناد دائر في التفسير من أوله، أقربه رقم: 7200، وسيأتي بعد قليل على الصواب، رقم: 7226. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أهل التوراة والإنجيل ="لم تلبسون"، يقول: لم تخلطون ="الحق بالباطل". * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 وكان خلطهم الحقّ بالباطل، إظهارهم بألسنتهم من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، غيرَ الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية. كما:- 7223 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيِّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غُدْوةً ونكفُر به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنعُ، فيرجعوا عن دينهم! فأنزل الله عز وجل فيهم:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل" إلى قوله:"والله واسع عليم". (1) 7224 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"، يقول: لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أنّ دين الله الذي لا يقبل غيرَه، الإسلام، ولا يجزي إلا به؟ 7225 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: الذي لا يقبل من أحد غيرَه، الإسلامُ = ولم يقل:"ولا يجزي إلا به". (2) 7226 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"، الإسلامَ باليهودية والنصرانية. * * * وقال آخرون: في ذلك بما:-   (1) الأثر: 7223- سيرة ابن هشام 2: 202، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7202. (2) في المطبوعة: "ولم يقبل ولا يجازى إلا به"، قرأها الناشر كذلك لفساد خط الناسخ في كتابته، وصواب قراءتها ما أثبت، وفي المخطوطة"لا يجزى الآية"، وهو تصحيف قبيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 7227 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"لم تلبسون الحق بالباطل"، قال:"الحقّ" التوراة التي أنزل الله على موسى، و"الباطل"، الذي كتبوه بأيديهم. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"اللبس" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم تكتمون، يا أهل الكتاب، الحقّ؟ (2) * * * و"الحق" الذي كتموه: ما في كتُبهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوّته، كما:- 7227 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، كتموا شأنَ محمد، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وَينهاهم عن المنكر. 7229 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، يقول: يكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. 7230 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) انظر ما سلف 1: 567، 568. (2) انظر تفسير نظيرة هذه الآية والتي قبلها فيما سلف 1: 566-572، والآثار التي رواها هنا قد رويت هناك في مواضعها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 ابن جريج:"تكتمون الحق"، الإسلام، وأمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ="وأنتم تعلمون" أنّ محمدًا رسولُ الله، وأنّ الدين الإسلامُ. * * * وأما قوله:"وأنتم تعلمون"، فإنه يعني به: وأنتم تعلمون أنّ الذي تكتمونه من الحق حقّ، وأنه من عند الله. وهذا القول من الله عز وجل، خبرٌ عن تعمُّد أهل الكتاب الكفرَ به، وكتمانِهم ما قد علموا من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وَوَجدوه في كتبهم، وجاءَتهم به أنبياؤهم. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة مَنْ أمرَت به: من الإيمان وجهَ النهار، وكفرٍ آخره. (1) فقال بعضهم: كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوّته وما جاء به من عند الله، وأنه حق، في الظاهر = (2) من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك = وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره. ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "والكفر آخره" غير ما في المخطوطة، وهو صواب متمكن. (2) سياق قوله: "بتصديق النبي ... في الظاهر". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 7231 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره"، فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدّقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدَرُ أن يرجعوا عن دينهم. 7232 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قوله:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره"، قال: قالت اليهود: آمنوا معهم أوّل النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم. 7233 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"، كان أحبارُ قُرَى عربيةَ اثني عشر حبرًا، (1) فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا:"نشهد أن محمدًا حقّ صادقٌ"، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا:"إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدَّثونا أن محمدًا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم"، لعلهم يشكّون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار، فما بالهم؟ فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك. 7234 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: قالت اليهود بعضهم لبعض: أسلِموا أول النهار، وارتدُّوا آخره لعلهم يرجعون. فأطلع الله على سرّهم، فأنزل الله عز وجل:   (1) في المطبوعة: "قرى عرينة" وهي قراءة فاسدة للمخطوطة، إذ كانت غير منقوطة وجاءت على الصواب في الدر المنثور 2: 42. وانظر معجم ما استعجم: 929، فهو اسم مكان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون". * * * وقال آخرون: بل الذي أمرَت به من الإيمان: الصلاةُ، وحضورها معهم أول النهار، وتركُ ذلك آخرَه. ذكر من قال ذلك: 7235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، يهودُ تقوله. صلَّت مع محمد صلاةَ الصبح، وكفروا آخرَ النهار، مكرًا منهم، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالةُ، بعد أن كانوا اتَّبعوه. 7236 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله. 7237 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، الآية، وذلك أنّ طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم أوّل النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهلُ الكتاب، وهم أعلم منا! لعلهم ينقلبون عن دينهم، ولا تُؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا:"وقالت طائفة من أهل الكتاب"، يعني: من اليهود الذين يقرأون التوراة ="آمنوا" صدّقوا ="بالذي أنزل على الذين آمنوا"، وذلك ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه ="وجه النهار"، يعني: أوّل النهار. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 وسمَّى أوّله"وجهًا" له، لأنه أحسنه، وأوّلُ ما يواجه الناظرَ فيراه منه، كما يقال لأول الثوب:"وجهه"، وكما قال ربيع بن زياد: مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7238 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وجه النهار"، أوّلَ النهار. 7239 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وجه النهار"، أول النهار ="واكفروا آخره"، يقول: آخر النهار. 7240 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا   (1) مجاز القرآن 1: 97، حماسة أبي تمام 3: 26، والأغاني 16: 27، والخزانة 3: 538، واللسان (وجه) وغيرها، من أبياته التي قالها حين قتل حميمه مالك بن زهير، وحمى لقتله، واستعد لطلب ثأره، وبعد البيت، وهو من تمامه. يَجِدِ النَّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّج الأسْحَارِ قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوُجُوهُ تَسَتُّرًا ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَرَزْنَ للنظّارِ يَخْمِشنَ حُرَّاتِ الوُجُوهِ عَلَى امْرِئٍ ... سَهْلِ الخليقةِ طَيِّبِ الأخبارِ قالوا في معنى البيت الشاهد: "يقول: من كان مسرورًا بمقتل مالك، فلا يشتمن به، فإنا قد أدركنا ثأره به. وذلك أن العرب كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر". ومعنى البيت عندي شبيه بذلك، إلا أن قوله: "فليأت نسوتنا بوجه نهار"، أراد به أنه مدرك ثأره من فوره، فمن شاء أن يعرف برهان ذلك، فليأت ليشهد المأتم قد قام يبكيه في صبيحة مقتله. يذكر تعجيله في إدراك الثأر، كأنه قد كان. وتأويل ذلك أنه قال هذه الأبيات لامرأته قبل مخرجه إلى قتال الذين قتلوا مالكًا، فقال لامرأته ذلك، يعلمها أنه مجد في طلب الثأر، وأنه لن يمرض في طلبه، بل هو مدركه من فوره هذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 آخره) ، قال قال: صلوا معهم الصبح، ولا تصلّوا معهم آخرَ النهار، لعلكم تستزلُّونهم بذلك. * * * وأما قوله:"واكفروا آخره"، فإنه يعني به، أنهم قالوا: واجحدوا ما صدَّقتم به من دينهم في وَجه النهار، في آخر النهار ="لعلهم يرجعون": يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويَدَعونه: كما:- 7241 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لعلهم يرجعون"، يقول: لعلهم يدَعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه. 7242 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 7243 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لعلهم يرجعون"، لعلهم ينقلبون عن دينهم. 7244 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لعلهم يرجعون"، لعلهم يشكّون. 7245 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لعلهم يرجعون"، قال: يرجعون عن دينهم. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 القول في تأويل قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديًّا. * * * وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار". * * * و"اللام" التي في قوله:"لمن تبع دينكم"، نظيرة"اللام" التي في قوله: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) ، بمعنى: ردفكم، (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [سورة النمل: 72] . * * * وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7246 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"، هذا قول بعضهم لبعض. 7247 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 7247 م - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" قال: لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية. 7248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن يزيد في قوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"، قال: لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم، ومَنْ خالفه فلا تؤمنوا له. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُم عِنْدَ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: قوله:"قل إنّ الهدى هدى الله"، اعتراضٌ به في وسط الكلام، (2) خبرًا من الله عن أن البيان بيانُه والهدى هُداه. قالوا: وسائرُ الكلام بعدَ ذلك متصلٌ بالكلام الأول، خبرًا عن قِيل اليهود بعضها لبعض. (3) فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، أو أنْ يحاجُّوكم عند ربكم = أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّكم أحدٌ عند ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد:"إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، و"إن الهدى هدى الله". ذكر من قال ذلك: 7249 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةَ أن يُتَّبعوا على دينهم.   (1) في المطبوعة: "لا من خالفه فلا تؤمنوا به" بزيادة"لا" وفي المخطوطة: "من خالفه فلا تؤمنوا به"، والصواب زيادة الواو كما أثبت، والصواب أيضًا"تؤمنوا له"، وذاك تصحيف من الناسخ. (2) في المطبوعة: "اعترض به في وسط الكلام، خبر من الله. . ." والصواب ما في المخطوطة كما أثبته. (3) في المطبوعة هنا أيضًا: "خبر عن قيل اليهود" برفع الخبر، والصواب من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 7250- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد:"إن الهدى هدى الله"، إنّ البيان بيانُ الله ="أن يؤتى أحدٌ"، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: 176] ، بمعنى: لا تضلون، وكقوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) [سورة الشعراء: 200-201] ، يعني: أن لا يؤمنوا ="مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد، وأمتك من الإسلام والهدى ="أو يحاجوكم عند ربكم"، قالوا: ومعنى"أو":"إلا"، أيْ: إلا أن"يحاجوكم"، يعني: إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم. (1) ذكر من قال ذلك: 7251 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل إنّ الهدى هُدَى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم"، يقول، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ="أو يحاجوكم عند ربكم"، تقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنزل علينا المن والسلوى = فإن الذي أعطيتكم أفضلُ فقولوا:"إن الفضْل بيد الله يؤتيه من يشاء"، الآية. * * * فعلى هذا التأويل، جميع هذا الكلام، [أمرٌ] من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود، (2) وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه. و"الهدى"   (1) انظر تفصيل هذه المقالة في معاني القرآن للفراء 1: 222-223. (2) في المطبوعة: "جميع هذا الكلام من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم"، وفي المخطوطة"جميع هذا الكلام من الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم"، ولما رأى الناشر عبارة لا تستقيم، اجتهد في إصلاحها، والصواب القريب زيادة ما زدته بين القوسين، سقط من الناسخ"أمر" لقرب رسمها مما بعدها وهو: "من". وقد استظهرته مما سيأتي في أول الفقرة التالية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 الثاني ردّ على"الهدى" الأول، و"أن" في موضع رفع على أنه خبر عن"الهدى". * * * وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبيَّه أن يقوله لليهود. (1) وقالوا: تأويله:"قل" يا محمد"إن الهدى هُدى الله أن يؤتى أحد" من الناس"مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتُم يا معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم، مثلَ الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء. ذكر من قال ذلك: 7252 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قل إن الهدى هدى الله أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم"، يقول: لما أنزل الله كتابًا مثلَ كتابكم، وبعثَ نبيًّا مثل نبيكم، حسدتموهم على ذلك ="قلْ إنّ الفضلَ بيد الله"، الآية. 7253 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * وقال آخرون: بل تأويل ذلك:"قل" يا محمد:"إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا: وهذا آخر القول الذي أمرَ الله به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود من هذه الآية. قالوا: وقوله:"أو يحاجوكم"، مردود على قوله:"ولا تؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم". وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة -: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فتتركوا الحقَّ: أنّ يحاجُّوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه فاخترتموه: أنه محقٌّ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله:"أو يحاجوكم" مردودًا   (1) في المطبوعة: "أمر من الله لنبيه" زاد لامًا لا ضرورة لها. وانظر التعليق السالف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 على جواب نهي متروك، على قول هؤلاء. ذكر من قال ذلك: 7254 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ="أو يحاجوكم عند ربكم"، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم = قال: ليخاصموكم = به عند ربكم ="قل إن الهدى هدى الله". * * * [قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله:"قل إن الهدى هُدى الله"] = معترضًا به، (1) وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، (2) ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = (3) "أو يحاجوكم عند ربكم"، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم. . . . . . . . (4) أحد بإيمانكم،   (1) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها كما سترى في التعليق ص 516، تعليق: 3. وكان في المطبوعة"قل إن الهدى هدى الله، معترض به"، وهو لا يستقيم، وفي المخطوطة مثله إلا أنه كتب"معترضًا به" بالنصب. والظاهر أن الناسخ لما بلغ"قل إن الهدى هدى الله" في الأثر السالف تخطى بصره إلى نظيرتها في كلام الطبري، فكتب بعده: "معترضًا به" وأسقط ما بينهما كما سيتبين لك فيما بعد. (2) في المطبوعة: "اتبع دينكم"، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "بمثل ما أوتيتم" زاد"باء"، والصواب من المخطوطة. (4) موضع هذه النقط سقط، لا أشك فيه، وكان في المطبوعة: "أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو غير مستقيم، وكان في المخطوطة: "أو أن يحاجوكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو كلام مختل، حمل ناشر المطبوعة الأولى على تغييره، كما رأيت. وظاهر أنه سقط من هذا الموضع، سياق أبي جعفر لهذا التأويل الذي اختاره، ورد فيه قوله تعالى: "قل إن الهدى هدى الله"، إلى موضعها بعد قوله: "أو يحاجوكم به عند ربكم"، كما هو بين من كلامه. وأنا أظن أن قوله: "أحد بايما لم" وهكذا كتبت في المخطوطة غير منقوطة، صوابها"حسدا لما آتاكم"، كما يستظهر من الآثار السالفة. هذا، وإن شئت أن تجعل الكلام جاريًا كله مجرى واحدًا على هذا: "أو أن يحاجوكم عند ربكم، حسدًا لما آتاكم، لأنكم أكرم على الله منهم. . ."، كان وجهًا، غير أني لست أرتضيه، بل أرجح أن هاهنا سقطًا لا شك فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 لأنكم أكرمُ على الله بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار" سوى قوله:"قلُ إن الهدى هدى الله". ثم يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم:"قل"، يا محمد، للقائلين ما قولوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود = (1) "إن الهدى هدى الله"، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه، (2) "وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء" لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود. وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، (3) لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِمٌ (73) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفتُ قولهم لأوليائهم ="إنّ الفضل بيد الله"، إنّ التوفيق للإيمان والهدايةَ للإسلام، (4) بيد الله وإليه، دونكم ودون سائر خلقه ="يؤتيه من يشاء" من   (1) التباع جمع تابع، مثل: "جاهل وجهال". (2) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551 / 3: 101، 140، 141، 223 / 4: 283. (3) من ذكر الطبري اختياره، تبين بلا ريب أن في صدر الكلام سقطًا، كما أسلف في ص: 515، تعليق: 1، ولعل الزيادة التي أسلفتها، قد نزلت منزلها من الصواب إن شاء الله. (4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 334 / 5: 571. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 خلقه، يعني: يعطيه من أراد من عباده، (1) تكذيبًا من الله عز وجل لهم في قولهم لتُبّاعهم:"لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم". فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: ليس ذلك إليكم، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها، وإليه الفضل، وبيده، يُعطيه من يشاء ="والله واسع عليم"، يعني: والله ذُو سعةٍ بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه = (2) "عليم"، ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل. (3) 7255 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج في قوله:"قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، قال: الإسلام. * * * القول في تأويل قوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) } قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يختص برحمته من يشاء"،"يفتعل" من قول القائل:"خصصت فلانًا بكذا، أخُصُّه به". (4) * * * وأما"رحمته"، في هذا الموضع، فالإسلام والقرآن، مع النبوّة، كما:- 7256 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يختص برحمته من يشاء"، قال: النبوّة، يخصُّ بها من يشاء.   (1) انظر تفسير: "آتى" فيما سلف 1: 574 / 2: 317 وفهارس اللغة. (2) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 2: 537 / 5: 516، 575. (3) انظر تفسير"عليم" فيما سلف 1: 438، 496 / 2، 537 / 3: 399، وفهارس اللغة. (4) انظر تفسير"يختص" فيما سلف أيضا 2: 471. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 7257 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7258 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يختص برحمته من يشاء"، قال: يختص بالنبوة من يشاء. 7259 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج:"يختص برحمته من يشاء"، قال: القرآن والإسلام. 7260 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله. * * * ="والله ذو الفضل العظيم"، يقول: ذو فضل يتفضَّل به على من أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعِظَم فقال:"فضله عظيم"، لأنه غير مشبهه في عِظَم موقعه ممن أفضله عليه [فضلٌ] من إفضال خلقه، (1) ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يُدانيه. * * *   (1) في المطبوعة: "غير مشبه ... ممن أفضله عليه أفضال خلقه"، وأما المخطوطة ففيها: " غير مشبهه ... ممن أفضله عليه من أفضال خلقه"، فرأيت أنه قد سقط من ناسخ المخطوطة ما زدته بين القوسين ليستقيم الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 القول في تأويل قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أنّ من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ. (1) * * * فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟ قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، (2) وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين. * * * فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة. * * *   (1) لعل في المخطوطة سقطًا، صوابه: "المستحل أموال الأميين من العرب" أو "المستحل أموال المؤمنين"، كما يتبين من بقية تفسير الآية. (2) في المخطوطة: "أن نهوهم على أموالهم" غير منقوطة، والذي قرأه الناشر الأول جيد وهو الصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 و"الباء" في قوله:"بدينار" و"على" يتعاقبان في هذا الموضع، كما يقال:"مررت به، ومررت عليه". (1) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا". فقال بعضهم:"إلا ما دمت له متقاضيًا". ذكر من قال ذلك: 7261 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، إلا ما طلبته واتبعته. 7262 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: تقتضيه إياه. 7263 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: مواظبًا. 7264 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه". (2) ذكر من قال ذلك: 7265 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، يقول: يعترف   (1) انظر ذلك فيما سلف 1: 313. (2) في المطبوعة: "إلا ما دمت عليه قائمًا" بزيادة"عليه"، وهي فساد، والصواب من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه، فإذا قمتَ ثم جئت تطلبهُ كافرك = (1) الذي يؤدِّي، والذي يجحد. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال:"معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء". من قولهم:"قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي"، أي عمل في تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. (3) فذلك الاقتضاء، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا = من أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب   (1) كافره حقه: جحده حقه. (2) قوله: "الذي يؤدي، والذي يجحد" بيان عن ذكر الفريقين اللذين ذكرا في الآية، أي: هذا الذي يؤدي، وهذا الذي يجحد. (3) سياق العبارة: "قد يكون ... إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء ... "، وما بينهما فصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 ولا إثم، لأنهم على غير الحق، وأنهم مشركون. (1) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه. ذكر من قال ذلك: 7266 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ. 7267 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: ليس علينا في المشركين سبيل = يعنون من ليس من أهل الكتاب. 7268 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: يقال له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلَّها الله لنا! ! 7269 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: لما نزلت"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر. (2)   (1) انظر تفسير"الأمي" فيما سلف 2: 257- 259 / ثم 5: 442 في كلام الطبري نفسه / ثم 6: 281 / ثم الآثار رقم: 5827، 6774، 6775. (2) الأثر: 7269-"يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي"، و"جعفر" هو: "جعفر ابن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، مضيا في رقم: 617. قال أخي السيد أحمد في مثل هذا الإسناد سالفًا: "هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي، وإسناده إليه إسناد جيد". وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 169، 170 من تفسير ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر المنثور 2: 44، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، وابن المنذر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 7270- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما قالت اليهود:"ليس علينا في الأميين سبيل"، يعنون أخذَ أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه = إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ = ولم يزد على ذلك. 7271 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: (ليس علينا في الأميين سبيل) ، إلى آخر الآية. * * * وقال آخرون في ذلك، ما:- 7272 - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانةٌ، ولا قضاءَ لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال: وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، (1) فقال الله عز وجل:"ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون". 7273 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهلَ الكتاب فنصيبُ من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهلُ الكتاب:"ليس علينا في الأميين سبيل!! (2)   (1) في المطبوعة: "وادعوا ... "، أسقط"قال"، وأثبتها من المخطوطة. (2) الأثر: 7273-"أبو إسحاق الهمداني" كما بين في الأثر التالي. و"صعصعة بن يزيد"، ويقال"صعصعة بن زيد"، وذكر البخاري الاختلاف في اسمه، وأشار إلى رواية هذا الخبر. في الكبير 2 / 2 / 321، 322، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 446. وانظر التعليق على الأثر التالي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 7274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزْو = أو: [العذق] ، الشك من الحسن = من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس! قال: هذا كما قال أهل الكتاب:"ليس علينا في الأميين سبيل"! إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب أنفسهم. (1) * * *   (1) الأثر: 7274- هذا طريق آخر للأثر السالف، وبلفظ غيره. ورواه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتاب الأموال (ص 149، رقم: 415) من طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة، بلفظ آخر. ورواه البيهقي في السنن 9: 198 من طريق"شعبة، عن أبي إسحاق، عن صعصعة، قال قلت لابن عباس"، بلفظ آخر غير كل ما سلف. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 169 من تفسير عبد الرزاق وفيه"عن أبي صعصعة بن يزيد" وهو خطأ صوابه"صعصعة". وقال: "وكذا رواه الثوري عن أبي إسحاق بنحوه". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 4، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وساقه الزمخشري في تفسير الآية، بنص أبي جعفر، والقرطبي 4: 118، 119، وأبو حيان في تفسيره من تفسير عبد الرزاق أيضًا 2: 501، وفي جميعها"إنا نصيب في الغزو" إلا القرطبي فإن فيه: "إنما نصيب في العمد"، وأما البيهقي ففيه: "إنا نأتي القرية بالسواد فنستفتح الباب ... "، وفي الأموال: "إنا نسير في أرض أهل الذمة فنصيب منهم". وكان في أصل المخطوطة والمطبوعة من الطبري: "إنا نصيب في العرف، أو العذق، الشك من الحسن"، ولم أجد ذلك في مكان، وهو لا معنى له أيضًا. وقد أطبق كل من ذكرنا ممن نقل من تفسير عبد الرزاق بهذا الإسناد نفسه، على عبارة واحدة هي"إنا نصيب في الغزو"، فأثبتها كذلك، أما ما شك فيه الحسن بن يحيى فقد وضعته بين قوسين، وهو لا معنى له. وأرجح الظن عندي أنها"أو: الغزوة -الشك من الحسن"، أو تكون: "أو: القرية- الشك من الحسن". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم:"ليس علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه"، يقولون = بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك، فلا حرجَ علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم = (1) الكذبَ على الله عامدين الإثمَ بقيل الكذب على الله، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل:"وهم يعلمون"، كما:- 7275 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فيقول على الله الكذب وهو يعلم = يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ -: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا! 7276 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني: ادّعاءهم أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم:"ليس علينا في الأميين سبيل". * * * القول في تأويل قوله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) } قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّا لمنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه، عنده. (2) فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول   (1) قوله: "الكذب" مفعول"يقولون"، وما بينهما فصل. (2) في المطبوعة: "هذا إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته وعيده"، والذي أثبت هو نص المخطوطة، وهو الصواب المحض. والسياق: "وهذا إخبار من الله ... عما لمن أدى أمانته ... عنده". وقوله: "واتقاء الله ومراقبته" على النصب فيهما، مفعول لأجله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم، ثمّ قال: بلى، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني: ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. (1) * * * و"الهاء" في قوله:"من أوفى بعهده"، عائدة على اسم"الله" في قوله:"ويقولون على الله الكذب". * * * يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصَدّق به وبما جاء به من الله، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه ="واتقى"، يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه ="فإنّ الله يحبّ المتقين"، يعني: فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به. * * * وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك. 7277 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"بلى من أوفى بعهده واتقى" يقول: اتقى الشرك ="فإنّ الله يحب المتقين"، يقول: الذين يتقون الشرك. * * *   (1) انظر بيان معنى"أوفى" فيما سلف 1: 557-559 / 3: 348. وانظر تفسير"العهد" فيما سلف 1: 410-414، ثم 557-559 / 3: 20-24، 348، 349. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 وقد بينا اختلافَ أهل التأويل في ذلك والصوابَ من القول فيه، بالأدلة الدّالة عليه، فيما مضى من كتابنا، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين يستبدلون - بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه، باتباع محمد وتصديقه والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا عليها (2) ="ثمنًا"، يعني عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحُطامها (3) ="أولئك لا خلاق لهم في الآخرة"، يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم. (4) * * * وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى"الخلاق"، ودللنا على   (1) انظر تفسير"اتقى" و"التقوى" فيما سلف 1: 232، 233، 364 / 2: 181، 457 / 4: 162، 244، 425، 426 / ثم 6: 261. (2) سياق الجملة: "إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله ... وبأيمانهم الكاذبة ... ثمنًا ... (3) انظر تفسير"اشترى" فيما سلف 1: 311-315، 565 / 2: 316، 317 ثم 341، 342، ثم 452 / 3: 328. وانظر تفسير"ثمنًا قليلا" فيما سلف 2: 565 / 3: 328. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "دون غيرها"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 أولى أقوالهم في ذلك بالصواب، بما فيه الكفاية. (1) * * * وأما قوله:"ولا يكلمهم الله"، فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما يسرُّهم ="ولا ينظر إليهم"، يقول: ولا يعطف عليهم بخير، مقتًا من الله لهم، كقول القائل لآخر:"انظُر إليّ نَظر الله إليك"، بمعنى: تعطف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة = وكما يقال للرجل:"لا سمع الله لك دعاءَك"، يراد: لا استجاب الله لك، والله لا يخفى عليه خافية، وكما قال الشاعر: (2) دَعَوْتُ اللهَ حَتى خِفْتُ أَنْ لا ... يَكْونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ (3) * * * وقوله"ولا يُزكيهم"، يعني: ولا يطهرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم ="ولهم عذاب أليم"، يعني: ولهم عذابٌ موجع. (4) * * * واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية، ومن عني بها. فقال بعضهم نزلت في أحبار من أحبار اليهود. ذكر من قال ذلك: 7278 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية:"إن الذين يشترون بعهد الله   (1) انظر ما سلف 2: 452-454 / 4: 201-203. (2) هو شمير بن الحارث الضبي، ويقال"سمير" بالمهملة، مصغرًا- وهو جاهلي. (3) نوادر أبي زيد: 124، والخزانة 2: 363، واللسان (سمع) ، وبعده: لِيَحْمِلَني عَلَى فَرَسٍ، فَإِنِّي ... ضَعِيفُ المَشْيِ، لِلأَدْنَى حَمُولُ و"يسمع ما أقول"، يستجيب، كقولنا: "سمع الله لمن حمده". (4) انظر تفسير"التزكية" فيما سلف 1: 573، 574 / 3: 88 / 5: 29 = و"أليم" 1: 283 / 2: 140، 377، 469، 540 / 3: 330، وغيرها، فاطلبه في فهارس اللغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 وأيمانهم ثمنًا قليلا"، في أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحُييّ بن أخطب. * * * وقال آخرون: بل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له. ذكر من قال ذلك: 7279 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حَلف على يمين هو فيها فاجرٌ ليقتطع بها مالَ امرئ مسلم، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان = فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك: كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بيِّنة؟ قلت: لا! فقال لليهودي:"احلفْ. قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف فيذهبَ مالي! فأنزل الله عز وجل:"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. (1)   (1) الحديث: 7279- أبو وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي. وهذا الحديث في الحقيقة حديثان: أوله من حديث عبد الله بن مسعود، وآخره في سبب نزول الآية من حديث الأشعث بن قيس. والأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي، صحابي معروف. والحديث رواه أحمد: 3597، 4049، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد. ثم رواه بالإسناد نفسه، في مسند"الأشعث بن قيس"، ج 5 ص 211 (حلبي) . وكذلك رواه البخاري 5: 53، 206 (فتح الباري) ، من طريق أبي معاوية. ورواه مسلم 1: 49-50، من طريق أبي معاوية ووكيع - كلاهما عن الأعمش. ورواه أحمد مختصرًا، عن ابن مسعود وحده، من أوجه أخر: 3576، 3946، 4212. ورواه أيضًا، مختصرًا ومطولا، في مسند الأشعث بن قيس، من ثلاثة أوجه أخر، ج 5 ص 211-212 (حلبي) . وكذلك رواه البخاري من أوجه، مختصرًا ومطولا، في مواضع غير الموضعين السابقين 5: 25، 207، 211، و 11: 473، 485-490 (وهنا شرحه الحافظ شرحًا وافيًا) ، و 13: 156، 364. ورواه مسلم من وجهين أيضًا 1: 50. وذكره ابن كثير 2: 172: 173، من رواية المسند عن أبي معاوية، ثم ذكره من روايته الأخيرة في مسند الأشعث بن قيس. وذكره السيوطي 2: 44، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب. وسيأتي أيضًا: 7282، من رواية منصور، عن شقيق، وهو أبو وائل، به، نحوه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 7280 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم، عن عدي بن عدي، عن رجاء بن حيوة والعُرس أنهما حدثاه، عن أبيه عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومةٌ، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي:"بيِّنَتَك، وإلا فيمينه". قال: يا رسول الله، إن حلف ذهب بأرضي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حقّ أخيه، لقي الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فما لمن تركها، وهو يعلم أنها حقّ؟ قال: الجنة. قال: فإني أشهدك أني قد تركتها = قال جرير: فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عدي، فقال أيوب: إنّ عديًّا قال في حديث العُرْس بن عميرة: فنزلت هذه الآية:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" إلى آخر الآية = قال جرير: ولم أحفظ يومئذ من عدي. (1)   (1) الحديث: 7280- عدي بن عدي بن عميرة الكندي: تابعي ثقة معروف، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 44: "سيد أهل الجزيرة". وهو يروي عن أبيه، ولكنه روى عنه هنا بواسطة عمه العرس بن عميرة ورجاء بن حيوة. رجاء بن حيوة - بفتح الحاء المهملة والواو بينهما تحتية ساكنة: تابعي ثقة كثير العلم والحديث. وهو من رهط امرئ القيس بن عابس الكندي صاحب هذه الحادثة. جدهما الأعلى: "امرؤ القيس ابن عمرو بن معاوية الأكرمين الكندي". العرس - بضم العين المهملة وسكون الراء وآخره سين مهملة: هو ابن عميرة الكندي، وهو صحابي، جزم البخاري بصحبته، وروى له حديثًا في الكبير 4 / 1 / 87. وهو أخو عدي بن عميرة، وعم عدي ابن عدي. عدي بن عميرة بن فروة الكندي: صحابي معروف، يكنى"أبا زرارة"، له أحاديث في صحيح مسلم، كما قال الحافظ في الإصابة. و"عميرة": بفتح العين وكسر الميم، كما نص عليه في المشتبه للذهبي وغيره. وضبط في طبقات ابن سعد 6: 36 بضمة فوق العين. وهو خطأ صرف، فإن اسم"عميرة" بالضم - من أسماء النساء. وضبط في الطبقات على الصواب في ترجمة أخرى لعدي 7 / 2 / 176. ووقع في المخطوطة هنا"عدي بن عمير" و"العرس بن عمير" - بدون هاء في آخره فيهما. وهو خطأ. والحديث رواه أحمد في المسند 4: 191-192 (حلبي) ، عن يحيى بن سعيد، عن جرير ابن حازم، بهذا الإسناد، نحوه. ثم رواه، ص: 192، عن يزيد، وهو ابن هارون، "حدثنا جرير بن حازم"، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظ الحديث كله. ووقع في نسخة المسند المطبوعة في هذا الموضع سقط قول أحمد: "حدثنا يزيد"، وهو خطأ واضح. وثبت على الصواب في مخطوطة المسند المرموز لها بحرف"م". وذكره ابن كثير 2: 172، من رواية المسند الأولى، ثم قال: "ورواه النسائي، من حديث عدي بن عدي، به"، وهو يريد بذلك السنن الكبرى، فإنه ليس في السنن الصغرى. ولذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 178، وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير، ورجالهما ثقات". وهو في الدر المنثور 2: 44، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 7281 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال آخرون: إن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض كانت في يده لذلك الرجل، أخذها لتعزُّزه في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أقم بينتك. قال الرجل: ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث! قال: فلك يمينه. فقام الأشعث ليحلف، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فنكلَ الأشعَث وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فرد إليه أرضَه، وزاده من أرض نفسه زيادةً كثيرةً، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه، فهي لعقب ذلك الرجل بعده. (1)   (1) الحديث: 7281- هذا حديث مرسل، لم يذكر ابن جريج من حدثه به. فهو ضعيف الإسناد. وقول ابن جريج"قال آخرون" - هو ثابت في المخطوطة والمطبوعة. ولم يذكره السيوطي، فلعله اختصره. ومعناه أن ابن جريج كان يتحدث في شأن نزول الآية، والظاهر أنه تحدث بخبر قبل هذا، ثم قال: "وقال آخرون" - فذكر هذا الحديث. ولعله ذكر الآية الماضية: 7279-، أو الآتية: 7282، أو نحو ذلك، ثم أتى بروايته هذه المرسلة. وهي ضعيفة الإسناد كما قلنا لإرسالها. ثم هي ضعيفة لما فيها من منافاة لتينك الروايتين الصحيحتين: أن الخصومة كانت بين الأشعث ورجل يهودي، وأن اليهودي كان المدعى عليه الذي عليه اليمين، وأن الأشعث قال: "إذن يحلف". فهي ضعيفة الإسناد، ضعيفة السياق. وهذه الرواية ذكرها السيوطي 2: 44، ولم ينسبها لغير الطبري. وقوله: "فقام الأشعث ليحلف" - هذا هو الثابت في المطبوعة، وهو الصواب إن شاء الله. وفي المخطوطة: "فحلف"، وهو خطأ، يدل على غلطه قوله بعد"فنكل". والنكول إنما يكون عند عرض اليمين أو الهم بالحلف. أما بعد الحلف فلا يكون نكول، بل رجوع إلى الحق، أو إقرار به، ولا يسمى نكولا. وفي الدر المنثور: "فقال الأشعث: نحلف" - والظاهر أنه تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 7282 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنزل الله تصديق ذلك:"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. ثم إن الأشعث بن قيس خَرَج إلينا فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه بما قال، فقال: صَدَق، لفيَّ أنزلت! كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه. فقلت: إذًا يحلف ولا يُبالي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان"، ثم أنزل الله عز وجل تصديقَ ذلك:"إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا"، الآية. (1) * * *   (1) الحديث: 7282- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي. ومنصور: هو ابن المعتمر. وشقيق: هو أبو وائل. وهذا الحديث هو الحديث السابق: 7279، بنحوه. ذاك من رواية الأعمش عن أبي وائل، وهذا من رواية منصور عن أبي وائل. وقد بينا تخريجه هناك. ونذكر هنا أن من روايات البخاري إياه، روايته في 5: 207 (فتح) ، عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير بهذا الإسناد. وكذلك رواه مسلم 1: 50، عن إسحاق بن إبراهيم -وهو ابن راهويه- عن جرير، به، ولم يذكر لفظه. ورواه أحمد في المسند 5: 211 (حلبي) ، عن زياد البكائي عن منصور. ورواه البخاري 11: 473، من طريق شعبة، عن سليمان - وهو الأعمش - ومنصور، كلاهما عن أبي وائل. ورواه أيضًا 13: 156، من طريق سفيان، وهو الثوري عن منصور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 وقال آخرون بما:- 7283 - حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال، أخبرني داود بن أبي هند، عن عامر: أنّ رجلا أقام سِلعته أوّل النهار، فلما كان آخرُه جاء رجل يساومه، فحلفَ لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنزل الله عز وجل:"إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا". 7284 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن رجل، عن مجاهد نحوه. 7285 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا) الآية، إلى:"ولهم عذاب أليم"، أنزلهم الله بمنزلة السَّحَرة. 7286 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن عمران بن حصين كان يقول: من حَلفَ على يمين فاجرة يقتطع بها مالَ أخيه، فليتبوَّأ مقعده من النار. فقال له قائل: شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتجدون ذلك. ثم قرأ هذه الآية:"إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. (1) 7287 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال، قال محمد، عن عمران بن حصين: من حلف على يمين مَصْبورَة فليتبوّأ بوجهه مقعده من النار. ثم قرأ هذه الآية كلها:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا". (2)   (1) الحديث: 7286- هذا إسناد مرسل، قتادة -وهو ابن دعامة-: لم يدرك عمران ابن حصين، مات عمران سنة 52، وولد قتادة سنة 61. وسيأتي الحديث عقب هذا بإسناد آخر متصل. (2) الحديث: 7287- موسى بن عبد الرحمن المسروقي، وحسين بن علي الجعفي: ترجمنا لهما فيما مضى: 174. زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، مضى في: 4897. هشام: هو ابن حسان. محمد: هو ابن سيرين. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "قال محمد بن عمران بن حصين"! وهو خطأ صرف، حرفت كلمة"عن" إلى"بن". والصواب ما أثبتنا: "محمد، عن عمران بن حصين". وهكذا مخرج الحديث، كما سيأتي. وهذا الحديث ظاهره هنا أنه موقوف. ولكنه في الحقيقة مرفوع، حتى لو كان موقوفًا لفظًا، فإنه - على اليقين- مرفوع حكمًا، لأن الوعيد الذي فيه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس، ولا مما يدرك بالاستنباط من القرآن. ثم قد ثبت رفعه صريحًا، من هذا الوجه: فرواه أحمد في المسند 4: 436، 441، عن يزيد، وهو ابن هارون: "أخبرنا هشام، عن محمد، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من حلف على يمين كاذبة مصبورة متعمدًا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار". ولم يذكر فيه الاستشهاد بالآية. وكذلك رواه أبو داود: 3242، عن محمد بن الصباح البزاز، عن يزيد بن هارون به، نحوه. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 4: 294، من طريق يزيد بن هارون، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3: 47، من رواية أبي داود والحاكم. وذكره السيوطي 2: 46، بنحو رواية الطبري هنا: موقوفًا لفظًا مع الاستشهاد بالآية - ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، والحاكم، مع اختلاف السياق بين الروايتين، كما هو ظاهر. وذلك منه دلالة على أنه لا فرق بين رفعه ووقفه لفظًا، إذ كان مرفوعًا حكمًا ولا بد. "اليمين المصبورة" و"يمين الصبر" - قال القاضي عياض في المشارق 2: 38"من الحبس والقهر"، بمعنى"إلزامها والإجبار عليها". وقال الخطابي في معالم السنن، رقم: 3115 من تهذيب السنن: "اليمين المصبورة، هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم، فيصبر من أجلها، أي يحبس. وهي يمين الصبر، وأصل الصبر: الحبس. ومن هذا قولهم: قتل فلان صبرًا، أي حبسًا على القتل وقهرًا عليه". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 7288 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: إن اليمين الفاجرة من الكبائر. ثم تلا"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا". 7289 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كنا نَرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من الذنب الذي لا يُغفر: يمين الصَّبر، إذا فجر فيها صاحبها. (1) * * *   (1) الحديث: 7289- هذا إسناد مرسل. فإن قتادة لم يدرك ابن مسعود. ولد بعد موته بنحو 29 سنة. والحديث لم أجده إلا عند السيوطي 2: 46 ونسبه لابن جرير فقط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإنّ من أهل الكتاب = وهم اليهود الذين كانوا حَوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده، من بني إسرائيل. * * * و"الهاء والميم" في قوله:"منهم"، عائدة على"أهل الكتاب" الذين ذكرهم في قوله:"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك". وقوله ="لفريقًا"، يعني: جماعة (1) ="يلوون"، يعني: يحرِّفون ="ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، يعني: لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله. (2) يقول الله عز وجل: وما ذلك الذي لوَوْا به ألسنتهم فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله، (3) ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله ="من عند الله"، يقول: مما أنزله الله على أنبيائه ="وما هو من عند الله"، يقول: وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم فأحدثوه، مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه، ولكنه مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم افتراء على الله. = يقول عز وجل:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني بذلك: أنهم يتعمدون قِيلَ الكذب على الله، والشهادة عليه بالباطل، والإلحاقَ بكتاب   (1) انظر تفسير"فريق" فيما سلف 2: 244، 245، ثم 402 / 3: 549. (2) في المطبوعة"لكلامهم" باللام، ولم يحسن قراءة المخطوطة. (3) قوله: "وما ذلك. . . من كتاب الله": ليس ذلك. . . من كتاب الله، هذا هو السياق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 الله ما ليس منه، طلبًا للرياسة والخسيس من حُطام الدنيا. * * * وبنحو ما قلنا في معنى"يلوون ألسنتهم بالكتاب"، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 7290 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، قال: يحرفونه. 7291- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7292 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، حتى بلغ:"وهم يعلمون"، هم أعداء الله اليهود، حرَّفوا كتابَ الله، وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله. 7293 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 7294 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، وهم اليهود، كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل اللهُ. 7295 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإن منهم لفريقًا يلوونَ ألسنتهم بالكتاب"، قال: فريقٌ من أهل الكتاب ="يلوون ألسنتهم"، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه. * * * قال أبو جعفر: وأصل"الليّ"، الفَتْل والقلب. من قول القائل:"لوَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 فلانٌ يدَ فلان"، إذا فَتلها وقَلبها، ومنه قول الشاعر: (1) لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ (2) يقال منه:"لوى يدَه ولسانه يلوي ليًّا" ="وما لوى ظهر فلان أحد"، إذا لم يصرعه أحدٌ، ولم يَفتل ظهره إنسان ="وإنه لألوَى بعيدُ المستمر"، إذا كان شديد الخصومة، صابرًا عليها، لا يُغلب فيها، قال الشاعر: (3) فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَدًا مِنْ خُصُومَةٍ ... لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الخُصُومِ المَلاوِيَا (4) * * *   (1) هو فرعان بن الأعرف السعدي التميمي، ويقال: فرعان بن أصبح بن الأعرف. (2) كتاب العققة لأبي عبيدة (نوادر المخطوطات: 7) ص: 360، الحماسة 3: 10، معجم الشعراء: 317، العيني بهامش الخزانة 2: 398، واللسان (لوى) وسيأتي بتمامه في التفسير 15: 160 (بولاق) ، وغيرها، أبيات يقولها فرعان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان عق أباه وضربه، لأنه تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب لأمه، ثم استاق مال أبيه واعتزل مع أمه، فقال فيه: جَزَتْ رَحِمٌ بَيْني وَبَيْنَ مُنَازِلٍ ... جَزَاءً، كَمَا يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طالِبُهْ وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أنْ يَكُونَ منازلٌ ... عَدُوّي، وَأَدْنَى شَانِئٍ أَنَا رَاهِبُهْ حَمَلْتُ عَلَى ظَهْرِي، وفَدَّيْتُ صَاحِبي ... صَغِيرًا، إلَى أَنْ أَمْكَنَ الطَّرَّ شَارِبُهْ وَأَطْعَمْتُه، حَتَّى إِذَا صَارَ شَيْظَمًا ... يَكادُ يُسَاوِي غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ تَخَوّنَ مالِي ظَالِمًا، وَلَوَى يَدِي! ... لَوَى يَدَه اللهُ الَّذِي هُو غَالِبُهْ من أبيات كثيرة، فيقال: إن منازلا، أصبح وقد لوى الله يده. ثم ابتلاه الله بابن آخر عقه كما عق أباه، واستاق ماله، فقال فيه: تَظَلَّمَنِي مَالِي خَليجٌ وعَقَّنِي ... عَلَى حِينَ كَانَتْ كالحَنيِّ عظامي في أبيات. وقد أتم البيت أبو جعفر في التفسير بعد، وصدره هناك: "تظلمني مالي كذا، ولوى يدي". وهي إحدى الروايات فيه. (3) هو مجنون بني عامر. (4) ليس في ديوانه، وهو في الأغاني 2: 38، مع أبيات، واللسان (شدا) ، (شذا) ، (لوى) ، وغيرها، وقبله: يَقُولُ أُنَاسٌ: عَلَّ مَجْنُونَ عَامِرٍ ... يَرُومُ سُلُوًّا! قُلْتُ: إِنِّي لِمَا بِيَا وَقَدْ لاَمَنِي في حُبِّ لَيْلَى أَقَارِبِي ... أَخِي، وَابْنُ عَمِّي، وَابنُ خَالِي، وَخَالِيَا يَقُولُونَ: لَيْلَى أَهْلُ بَيْتِ عَدَاوة!! ... بِنَفْسِي لَيْلَى من عَدُوٍّ ومَالِيَا ورواية اللسان وغيره: "أعناق المطى"، ورواية صاحب الأغاني"أعناق الخصوم" كما رواها أبو جعفر، ولكن من سوء صنيع ناشري الأغاني أنهم خالفوا أصول الأغاني جميعًا، لرواية أخرى، مع صحة الرواية التي طرحوها، وهي رواية أبي جعفر وأبي الفرج، وقوله: "شدًا من خصومة"، ويروى"شذًا من خصومة". والشذا: حد كل شيء. ومن معانيه أيضًا طرف من الشيء، أو بقية منه. و"الملاوي" جمع"ملوى" مصدر ميمي من"لوى". يقول: لو خاصموني في ليلى خصومة حديدة، لفتلت أعناقهم حتى أذهب بأرواحهم. وأما رواية"المطى" مكان"الخصوم"، وهي رواية ابن الأعرابي، فكأنه يقول: لو علمت في ليلى بعض ما يقولون من الخصومة والعداوة لأهلي وعشيرتي، لأعرضت عنها إعراض من يأنف لعشيرته ويحمى لها غضبًا وحفيظة، ولفارقتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما ينبغي لأحد من البشر. * * * و"البشر" جمع بني آدم لا واحد له من لفظه مثل:"القوم" و"الخلق". وقد يكون اسمًا لواحد ="أن يؤتيه الله الكتاب" يقول: أن ينزل الله عليه كتابه ="والحكم" يعني: ويعلمه فصْل الحكمة ="والنبوة"، يقول: ويعطيه النبوّة ="ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله"، يعني: ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة. ولكن إذا آتاه الله ذلك، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمةً في طاعته وعبادته، بكونهم معلِّمي الناس الكتاب، وبكونهم دَارِسيه. (1) * * *   (1) انظر تفسير"آتي" و"الحكم"، و"النبوة" فيما سلف من فهارس اللغة مادة (أتى) (حكم) (نبأ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 وقيل: إنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك؟ كما:- 7296 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي = (1) حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام =: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس: (2) أوَ ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا! أو كما قال = فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني = أو كما قال. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (3) "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة"، الآية إلى قوله:"بعد إذ أنتم مسلمون". 7297- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نحوه. (4) 7298 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا   (1) أبو رافع القرظي، هو سلام بن أبي الحقيق اليهودي. (2) في المطبوعة: "الرئيس"، وفي المخطوطة: "الريس" غير منقوطة، وهو في سيرة ابن هشام المطبوعة الأوربية والمصرية: "الربيس" مثل"سكيت" (بكسر الراء وتشديد الباء المكسورة) . وربيس السامرة: هو كبيرهم. وفي التعليقات على سيرة ابن هشام. الطبعة الأوروبية"الريس، والرئيس" معًا، وكأن الصواب هو ما جاء في نص ابن هشام الأول. (3) في سيرة ابن هشام: "من قولهما"، وهي أجود، ولعل هذه من قلم الناسخ. (4) الأثران: 7296، 7297- سيرة ابن هشام 2: 202، 203، وهما من تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7223، وفي الطبري اختلاف في قليل من اللفظ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 عبادًا لي من دون الله"، يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوةَ، يأمر عبادَه أن يتخذوه ربًّا من دون الله. 7299 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 7300 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان ناس من يهود يتعبَّدون الناسَ من دون ربهم، بتحريفهم كتابَ الله عن موضعه، فقال الله عز وجل:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله"، ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"ولكن" يقول لهم:"كونوا ربانيين"، فترك"القول"، استغناء بدلالة الكلام عليه. * * * وأما قوله:"كونوا ربانيين"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء. ذكر من قال ذلك: 7301 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء علماء. 7302 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء علماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 7303 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين مثله. 7304 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي رزين:"ولكن كونوا ربانيين"، حكماء علماء. 7305 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء. 7306 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: فقهاء. 7307 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7308 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني القاسم، عن مجاهد قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، قال: فقهاء. 7309 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء. 7310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن منصور بن المعتمر، عن أبي رزين في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: علماء حكماء = قال معمر: قال قتادة. 7311 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"كونوا ربانيين"، أما"الربانيون"، فالحكماء الفقهاء. 7312 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا سفيان، عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"الربانيون"، الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. 7313 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، يقول: كونوا حكماء فقهاء. 7314 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي حمزة الثمالي، عن يحيى بن عقيل في قوله: (الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) [سورة المائدة: 63] ، قال: الفقهاء العلماء. 7315 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس مثله. 7316 - حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا حكماء فقهاء. 7317 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"كونوا ربانيين"، يقول: كونوا فقهاء علماء. * * * وقال آخرون: بل هم الحكماء الأتقياء. ذكر من قال ذلك: 7318 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قوله:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء أتقياء. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم. ذكر من قال ذلك: 7319 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: الربانيون: الذين يربُّون الناس، ولاة هذا الأمر، يرُبُّونهم: يلونهم. وقرأ: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) [سورة المائدة: 63] ، قال: الربانيون: الولاة، والأحبار العلماء. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في"الربانيين" أنهم جمع"رباني"، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة: وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ، رُبُوبُ (1) يعني بقوله:"ربتني": ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعتُ. يقال منه:"رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه". (2) فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل:"هو ربّان"، كما يقال:"هو نعسان" من قولهم:"نعَس يَنعُس". وأكثر ما يجيء من الأسماء على"فَعْلان" ما كان من الأفعال ماضيه على"فَعِل" مثل قولهم:"هو سكران، وعطشان، وريان" من"سَكِر يسكَر، وعطِش يعطَش، ورَوي يرْوَى". وقد يجيء مما كان ماضيه على"فَعَل يَفعُل"، نحو ما قلنا من"نَعَس يَنعُس" و"ربَّ يَرُبّ". فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وكان"الربَّان" ما ذكرنا،   (1) سلف البيت وتخريجه وشرحه في 1: 142. (2) انظر تفسير"رب" فيما سلف 1: 141، 142. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 و"الربّاني" هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ = وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم = وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم = كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] ممن دَخل في قوله عز وجل:"ولكن كونوا ربانيين". (1) ف"الربانيون" إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد:"وهم فوق الأحبار"، لأن"الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز وبعض البصريين: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بفتح"التاء" وتخفيف"اللام"، يعني: بعلمكم الكتابَ ودراستكم إياه وقراءتكم.   (1) في المطبوعة: "كانوا جميعًا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله ... "، وهي عبارة سقيمة غير المخطوطة كما شاء. وفي المخطوطة: "كانوا جميعًا مستحقون أن ممن دخل في قوله ... "، وظاهر أن الناسخ جعل"يستحقون"، "مستحقون"، وهو خطأ في الإعراب، وسقط من عجلته قوله: "يكونوا"، فزدتها بين القوسين، فاستقام الكلام. (2) هذا التفسير قل أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود ما قرأت في معنى"الرباني"، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية، والبصر بمعاني كتاب الله. فرحم الله أبا جعفر رحمة ترفعه درجات عند ربه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 واعتلُّوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك، بأن الصواب = كذلك، لو كان التشديد في"اللام" وضم"التاء" = لكان الصواب في:"تدرسون"، بضم"التاء" وتشديد"الراء". (1) * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) بضم"التاء" من"تعلمون"، وتشديد"اللام"، بمعنى: بتعليمكم الناسَ الكتابَ ودراستكم إياه. واعتلوا لاختيارهم ذلك، بأن مَنْ وصفهم بالتعليم، فقد وصفهم بالعلم، إذ لا يعلِّمون إلا بعد علمهم بما يعلِّمون. قالوا: ولا موصوف بأنه"يعلم"، إلا وهو موصوف بأنه"عالم". قالوا: فأما الموصوف بأنه"عالم"، فغير موصوف بأنه معلِّم غيره. قالوا: فأولى القراءتين بالصواب أبلغهما في مدح القوم، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلمون الناسَ الكتابَ، كما:- 7320 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قرأ:"بما كنتم تَعلَمون الكتابَ وبما كنتم تَدْرسون"، مخففةً بنصب"التاء" = وقال ابن عيينة: ما علَّموه حتى علِموه! * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءة من قرأه بضم"التاء" وتشديد"اللام". لأن الله عز وجل وصف القوم بأنهم أهل عمادٍ للناس في دينهم ودنياهم، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية. يقول جل ثناؤه:"ولكن كونوا ربانيين"، على ما بينا قبل من معنى"الرباني"،   (1) في المطبوعة: "بأن الصواب لو كان التشديد في اللام ... "، حذف من المخطوطة"كذلك"بعد" بأن الصواب"، وظاهر أن موضع الخطأ هو سقوط"الواو" قبل قوله: "لو كان التشديد". فأثبتها، واستقام الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتابَ ربِّهم. * * * = و"دراستهم" إياه: تلاوته. (1) * * * وقد قيل:"دراستهم"، الفقه. * * * وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا: من تلاوة الكتاب، لأنه عطف على قوله:"تعلمون الكتاب"،"والكتاب" هو القرآن، فلأنْ تكون الدراسة معنيًّا بها دراسة القرآن، أولى من أن تكون معنيًّا بها دراسة الفقه الذي لم يجرِ له ذكرٌ. ذكر من قال ذلك: (2) 7321 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال يحيى بن آدم قال، أبو زكريا: كان عاصم يقرأها: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) ، قال: القرآن = (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) ، قال: الفقه. * * * فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا، أيها الناس، سادة الناس، وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربَّانيِّين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراسَتِكموه. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "ودراستهم إياه وتلاوته"، بزيادة الواو قبل"تلاوته" والسياق بين في أنه يفسر معنى"الدراسة"، وأنهما تأويلان، كما سيأتي، فحذفت الواو، وفصلت بين الكلامين. (2) أنا أرتاب في سياق هذا الموضع من التفسير، وأخشى أن يكون سقط من النساخ شيء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 القول في تأويل قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا يأمركم". فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة: (وَلا يَأْمُرُكُمْ) ، على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمركم، أيها الناس، أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها، وهي: (" وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ ") ، فاستدلوا بدخول"لن"، على انقطاع الكلام عما قبله، وابتداء خبر مستأنف. قالوا: فلما صير مكان"لن" في قراءتنا"لا"، وجبت قراءَته بالرفع. (1) * * * وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: (وَلا يَأْمُرَكُمْ) ، بنصب"الراء"، عطفًا على قوله:"ثم يقولَ للناس". وكان تأويله عندهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يقولَ للناس، ولا أن يأمرَكم = بمعنى: ولا كان له أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك:"ولا يأمرَكم"، بالنصب على الاتصال بالذي قبله، بتأويل: (2) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله = ولا أنْ يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. لأن الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول   (1) هذا وجه ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 224، 225. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "بتأول"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 الله صلى الله عليه وسلم: (1) "أتريد أن نعبدك"؟ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه ليس لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناسَ إلى عبادة نفسه، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا. ولكن الذي له: أنْ يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين. * * * فأما الذي ادَّعى من قرأ ذلك رفعًا، (2) أنه في قراءة عبد الله:"ولن يأمركم" استشهادًا لصحة قراءته بالرفع، فذلك خبر غيرُ صحيح سَنَده، وإنما هو خبر رواه حجاج، عن هارون الأعور (3) أنّ ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرًا صحيحًا سنده، لم يكن فيه لمحتجٍّ حجة. لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاءَ به المسلمون وراثةً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لا يجوز تركه لتأويلٍ على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة، (4) بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو. * * *   (1) في المطبوعة: "في سب القوم.."، وهو باطل المعنى، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، يعني بقوله: "في سب القوم ... "، من جراء القوم وبسبب قولهم ما قالوا. (2) يعني الفراء كما أسلفنا في التعليق رقم: 1، ص: 547. (3) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . عن هارون لا يجوز أن ذلك ... "، وهو كلام بلا معنى، جعل الناشرين الأولين للتفسير يكتبون في وجوه تأويلها وتصويبها خلطًا لا معنى له أيضًا، والصواب ما أثبت. وهذا من التصحيف الغريب في نسخ النساخ. وحجاج، هو: "حجاج بن محمد المصيصي الأعور" سكن بغداد، ثم تحول إلى المصيصة قال أحمد: "ما كان أضبطه وأشد تعاهده للحروف" ورفع أمره جدًا. كان ثقة صدوقًا، ثم تحول من المصيصة فعاد إلى بغداد في حاجة له، فمات بها سنة 206، وعند مرجعه هذا إلى بغداد كان قد تغير وخلط، فرآه يحيى بن معين، فقال لابنه: "لا تدخل عليه أحدًا"، ولكن روى الحافظ في ترجمة سنيد ابن داود ما يدل على أن حجاجًا قد حدث في حال اختلاطه، حتى ذكره أبو العرب القيرواني في الضعفاء، لسبب الاختلاط. وأخشى أن يكون الطبري، إنما أشار إلى هذا، وإلى رواية سنيد عنه في حال اختلاطه، فقال إن إسناده غير صحيح، لأنه من رواية سنيد عنه. وأما "هارون الأعور" فهو: "هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور العتكي" علامة صدوق نبيل، له قراءة معروفة. وهو من الثقات. وكلاهما مترجم في التهذيب، وفي الطبقات القراء لابن الجزري. (4) في المطبوعة: "لتأويل نحو قراءة ... "، وهي عبارة مريضة، وسبب ذلك أنه لم يحسن قراءة"على" لسوء حظ الناسخ، فكتبها"نحو"، فمرضت العبارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وما كان للنبي أن يأمركم، أيها الناس، (1) "أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا" = يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله =، كما ليس له أن يقول لهم: كونوا عبادًا لي من دون الله. * * * ثم قال جل ثناؤه = نافيًا عن نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأمرَ عباده بذلك =:"أيأمُركم بالكفر"، أيها الناس، نبيُّكم، بجحود وحدانية الله ="بعد إذ أنتم مسلمون"، يعني: بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة، متذللون له بالعبودة = (2) أي أن ذلك غير كائن منه أبدًا. وقد:- 7322 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال:"ولا يأمركم" النبيُّ صلى الله عليه وسلم ="أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربايًا". * * *   (1) في المخطوطة: "وما كان للنبي أن يأمر الناس أن يتخذوا ... "، وهي عبارة مستقيمة المعنى، أما المخطوطة فقد كانت فيها عجيبة من عجائب التصحيف - وقد كثر تصحيف الناسخ في هذا الموضع كما ترى وذلك أنه كتب: "وما كان للنبي أن يأمر كما نهى الناس"، وصل ألف"أيها" بالميم في"يأمركم"، ثم قرأ"يها" من"أيها"، "نهى"، وكتبها كذلك. وكأن الناسخ كان قد تعب وكل، فكل مع كلالة ذهنه. وجاء الناشر، فلم يجد لذلك معنى فحذفه. كل هو أيضًا من كثرة تصحيف الناسخ!! (2) في المطبوعة: "بالعبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، ولم يدع الناشر كلمة"العبودة" إلا جعلها"العبودية" في كل ما سلف. انظر آخر تعليق على ذلك ص: 404، تعليق: 2. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا، يا أهل الكتاب،"إذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يعني: حين أخذ الله ميثاق النبيين ="وميثاقهم"، ما وثقوا به على أنفسهم طاعةَ الله فيما أمرهم ونهاهم. * * * وقد بينا أصل"الميثاق" باختلاف أهل التأويل فيه، بما فيه الكفاية. (1) * * * =:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، (2) فاختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق (لَمَا آتَيْتُكُمْ) بفتح"اللام" من"لما"، إلا أنهم اختلفوا في قراءة:"آتيتكم". فقرأه بعضهم:"آتيتكم" على التوحيد. وقرأه آخرون: (آتينَاكم) على الجمع. * * * ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك. فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" التي مع"ما" في أول الكلام"لام الابتداء"، نحو قول القائل:"لزيدٌ أفضل منك"، لأن"ما" اسم، والذي بعدها صلة لها، (3) "واللام" التي في:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمنن به = يؤكد في أول الكلام وفي آخره، كما يقال:"أما والله أن لو جئتني   (1) انظر ما سلف 1: 414 / 2: 156، 157، 288. (2) في المطبوعة: "اختلفت"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة: "لأن لما اسم ... "، وهو جيدًا أيضًا وتركت ما في المطبوعة على حاله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 لكان كذا وكذا"، وقد يستغنى عنها. فوكَّد في:"لتؤمنن به"، باللام في آخر الكلام. (1) وقد يستغنى عنها، ويجعل خبر"ما آتيتكم من كتاب وحكمة""لتؤمنن به". مثل:"لعبد الله والله لتأتينَّه". (2) قال: وإن شئت جعلت خبر"ما""من كتاب"، يريد: لما آتيتكم، كتابٌ وحكمة = وتكون"من" زائدة. * * * وخطّأ بعضُ نحويي الكوفيين ذلك كله وقال:"اللام" التي تدخل في أوائل الجزاء، تجابُ بجوابات الأيمان، يقال:"لَمَن قام لآتينّه"،"ولَمَن قام ما أحسن"، (3) فإذا وقع في جوابها"ما" و"لا"، علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى، لأنه يوضع موضعها"ما" و"لا"، فتكون كالأولى، (4) وهي جواب للأولى. قال: وأما قوله:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، بمعنى إسقاط"من"، غلطٌ. لأن"منْ" التي تدخل وتخرج، لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع في الخبر أيضًا، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء. (5) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة من قرأ ذلك بفتح"اللام" - بالصواب: أن يكون قوله:"لما" بمعنى"لمهما"، وأن تكون"ما" حرف جزاء أدخلت عليها"اللام"، وصيِّر الفعل معها على"فَعَل"، (6) ثم   (1) في المطبوعة: "فيؤكد في لتومنن به"، والصواب ما في المخطوطة. و"وكد" و"أكد" واحد. (2) في المطبوعة: "لا يأتينه"، والصواب ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا لا"، فلا يقال: لمن قام لا تتبعه، ولا: لمن قام ما أحسن"، أحدثوا في نص المخطوطة تغييرًا تامًا. فاضطرب الكلام اضطرابًا شديدًا، واختلفت معانيه. (4) يعني"ما" و"لا" التي يتلقى بها القسم. (5) انظر ذلك فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470. (6) قوله: "على فعل"، يعني على الفعل الماضي، لا المضارع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 أجيبت بما تجاب به الأيمان، فصارت"اللام" الأولى يمينًا، إذ تُلقِّيت بجواب اليمين. * * * وقرأ ذلك آخرون: (لِمَا آتَيْتكُمْ) "بكسر"اللام" من"لما"، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة. * * * ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم: معناه إذا قرئ كذلك: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم = فـ"ما" على هذه القراءة. بمعنى"الذي" عندهم. وكان تأويل الكلام: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة = ثم"جاءكم رسول"، يعني: ثم إنْ جاءكم رسول، يعني: ذكر محمد في التوراة ="لتؤمنن به"، أي: ليكونن إيمانكم به، للذي عندكم في التوراة من ذكره. * * * وقال آخرون منهم: تأويل ذلك إذا قرئ بكسر"اللام" من"لما": وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين، للذي آتاهم من الحكمة. ثم جعل قوله:"لتؤمنن به" من الأخذِ أخذِ الميثاق. كما يقال في الكلام:"أخذتُ ميثاقك لتفعلن". لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول: وإذ استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متى جاءهم رسولٌ مصدق لما معهم، ليؤمننّ به ولينصرنه. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءةُ من قرأ:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بفتح"اللام". لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم، كان ممن آتاه كتابًا أو ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذْ كان ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 كذلك، وكان معلومًا أن منهم من أنزل عليه الكتابَ، وأنّ منهم من لم ينزل عليه الكتاب = كان بينًا أن قراءة من قرأ ذلك:"لمِا آتيتكم"، بكسر"اللام"، بمعنى: من أجل الذي آتيتكم من كتاب، لا وجه له مفهومٌ إلا على تأويل بعيد، وانتزاع عميق. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رُسل الله مصدّقًا لما معه. فقال بعضهم: إنما أخذ الله بذلك ميثاقَ أهل الكتاب دون أنبيائهم. واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه". قالوا: فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرّسل من الأمم بالإيمان برسل الله ونُصْرتها على من خالفها. وأما الرسل، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها المحتاجةُ إلى المعونة على من خالفها من كفَرة بني آدم. فأما هي، فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها. قالوا: وإذا لم يكن غيرُها وغيرُ الأمم الكافرة، فمن الذي ينصر النبي، فيؤخذ ميثاقه بنصرته؟ ذكر من قال ذلك: 7323 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود:"وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب". (1)   (1) بمثل هذا الأثر، يستدل من يستدل من جهله المستشرقين وأشياعهم، على الخطأ والتحريف في كتاب الله المحفوظ. وهم لم يكونوا أول من قال به، بل سبقهم إليه أسلافهم من غلاة الرافضة وأشباههم من الملحدة. ولم يقصر علماء أهل الإسلام في بيان ما قالوه، وفي تعقب آرائهم وبيان فسادها، ووهن حجتها. ومن أعظم ما قرأت في ذلك، كتاب"الانتصار لنقل القرآن"، للقاضي الباقلاني، وهو كتاب مخطوط لا يزال، وهي في ملك أخي السيد أحمد صقر، وهو أمين على نشره. وقد عقد القاضي بابًا، بل أبوابًا، في تعلق القائلين بذلك، بالشواذ من القراءات، والزيادات المروية عن السلف رواية الآحاد، وكشف عن فساد تعلقهم بذلك فيما راموه من الطعن في نقل المصحف. وقد أطال في ذلك واستوعب، وذكرها مفصلة، وذكر الروايات التي رويت في ذلك. ومما قال في باب منه: "وأما نحن، وإن كنا نوثق جميع من ذكرنا من السلف وأتباعهم، فإنا لا نعتقد تصديق جميع ما يروى عنهم، بل نعتقد أن فيه كذبًا كثيرًا قد قامت الدلالة على أنه موضوع عليهم، وأن فيه ما يمكن أن يكون حقًا عنهم، وما يمكن أن يكون باطلا، ولا يثبت عليهم من طريق العلم البتات، بأخبار الآحاد. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه القراءات والكلمات المروية عن جماعة منهم، المخالفة لما في مصحفنا، مما لا نعلم صحتها وثبوتها، وكنا مع ذلك نعلم اجتماعهم على تسليم مصحف عثمان، وقراءتهم وإقراءهم ما فيه، والعمل به دون غيره = لم يجب أن نحفل بشيء من هذه الروايات عنهم، لأجل ما ذكرنا". قلت: والقول الذي ذكره مجاهد، أنه: "خطأ من الكاتب"، إنما عنى به أن قراءة ابن مسعود هي القراءة التي كانت في العرضة الأخيرة، وأن الكاتب كتب القراءة التي كانت قبل العرضة الأخيرة، وأنه كان عليه أن يكتب ما كان في العرضة الأخيرة، فأخطأ وكتب القراءة الأولى. ولم يرد بقوله: "خطأ من الكاتب"، أنه وضع ذلك من عند نفسه. كيف؟ والقرآن متلقى بالرواية والوراثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بما هو مكتوب في الصحف!! هذا بيان قد تعجلته، ولتفصيل هذا موضع غير الذي نحن فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 7324 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7325 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربيع:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، إنما هي أهل الكتاب. (1) قال: وكذلك كان يقرأها أبي بن كعب. قال الربيع: ألا ترى أنه يقول:"ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه؟ يقول: لتؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه. قال: هم أهل الكتاب. * * * وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك، الأنبياءُ دون أممها. ذكر من قال ذلك:   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "إنما هي أهل الكتاب"، ولها وجه ضعيف، والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 7326 - حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. 7327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، أن يصدّق بعضُهم بعضًا. 7328 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم" الآية، قال: أخذ الله ميثاق الأوَل من الأنبياء، ليصدقن وليؤمنن بما جَاء به الآخِرُ منهم. 7329 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عُمر، (1) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا، آدمَ فمن بعدَه - إلا أخذ عليه العهدَ في محمد: لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرَنّه = ويأمرُه فيأخذ العهدَ على قومه، فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية. 7330 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب"، الآية: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضُهم بعضًا، وأن يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم - فيما بلَّغتهم رُسلهم - أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.   (1) في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، والصواب ما أثبت من المخطوطة: "سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. أكثر الطبري الرواية عنه في تاريخه، قال ابن عدي: "بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث. اتهم بالزندقة". وقال الحاكم: "اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 7331 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية. قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا قطُّ من لدُنْ نوح، إلا أخذ ميثاقه ليؤمننّ بمحمد ولينصرنَّه إن خَرَج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرُنَّه إن خَرَج وهم أحياء. 7332 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور قال، سألت الحسن عن قوله:"وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلِّغن آخرُكم أولكم، ولا تختلفوا. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم = فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع، دلالةٌ على أخذه على التبَّاع، لأن الأمم هم تُبَّاعُ الأنبياء. (1) ذكر من قال ذلك: 7333 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم - إذا جاءَهم، وإقرارهم به على أنفسهم. فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة" إلى آخر الآية. (2) 7334 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد   (1) في المطبوعة: "هم تباع الأنبياء"، زاد"هم" بلا ضرورة. والصواب ما في المخطوطة. (2) الأثران: 7333، 7334- سيرة ابن هشام 2: 203، وهما تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7296، 7297. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها. ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها = وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله، بجحودها نبوّته = مقرّةٌ بأنّ من ثبتت صحّة نبوته، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم. * * * ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين، فسواءٌ قال قائل:"لم يأخذ ذلك منها ربها" أو قال:"لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت"، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه، لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها: أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما، جازَ في الآخر. * * * وأما ما استشهد به الربيع بن أنس، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ الكتاب من قوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض، وتصديقُ بعضها بعضًا، نُصرةٌ من بعضها بعضًا. * * * تم اختلفوا في الذين عُنوا بقوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه". فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك، هم الأنبياء، أخذت مواثيقهم أن يصدّق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 بعضهم بعضًا وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله. (1) * * * وقال آخرون: هم أهل الكتاب، أمروا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضًا عمن قاله. (2) * * * وقال آخرون = ممن قال: الذين عُنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الأنبياء = قوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم"، معنيٌّ به أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: 7335 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال أخذَ الله ميثاق النبيين أن يصدّق بعضهم بعضًا، ثم قال:"ثم جاءكم رسولٌ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه"، قال: فهذه الآية لأهل الكتاب، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدِّقوه. 7336 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال قتادة: أخذ الله على النبيين ميثاقهم: أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتابَ الله ورسالتَه إلى عباده، فبلَّغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذوا مواثيقَ أهل الكتاب - في كتابهم، فيما بلَّغتهم رسلهم -: أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية: أنّ جميع ذلك خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أممها   (1) انظر ما سلف من رقم: 7326-7332. (2) انظر ما سلف من رقم: 7323-7325. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 إليه، (1) والإقرار به. لأن ابتداء الآية خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم فقال: هو كذا وهو كذا. وإنما قلنا إنّ ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك، قد أخذت الأنبياءُ مواثيق أممها به، لأنها أرسلت لتدعو عبادَ الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها، من تصديق رسل الله، على ما قدمنا البيانَ قبل. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية: واذكرُوا يا معشرَ أهل الكتاب، إذ أخذَ الله ميثاق النبيين لَمَهْما آتيتكم، أيها النبيون، من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم، لتؤمنن به = يقول: لتصدقنه = ولتنصرنه. * * * وقد قال السديّ في ذلك بما:- 7337 - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لما آتيتكم"، يقول لليهود: أخذت ميثاقَ النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم. * * * فتأويل ذلك على قول السدّي الذي ذكرناه: واذكروا، يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم، أيها اليهود، من كتاب وحكمة. (2) وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجهٌ، (3) لو كان التنزيل:"بما آتيتكم"، ولكن التنزيل باللام"لما آتيتكم". وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال:"أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بمعنى: بما آتيتكم. * * *   (1) في المطبوعة: "دعاء أممهم"، وفي المخطوطة"أممها" كما أثبته، والمخالفة بين الضمائر في هذا الموضع سياق صحيح، فرددتها إلى أصل المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "لما آتيتكم" باللام، والسياق دال على خلافه، وعلى صواب ما أثبت. (3) في المطبوعة: "كان تأويلا لا وجه غيره"، وهو تصويب لما جاء في المخطوطة: "كان تأويلا لا وجه له"، وهي عبارة لا تستقيم. ورأيت أن الناسخ عجل فكتب"لا وجه له" مكان"له وجه"، فرددتها إلى هذا، وخالفت المطبوعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 القول في تأويل قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه: (1) من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق لما معكم ="لتؤمنن به ولتنصرنه" ="وأخذتم على ذلك إصري"؟ يقول: وأخذتم = على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم ="إصري". يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه. * * * و"الأخذ": هو القبول - في هذا الموضع - والرّضى، من قولهم:"أخذ الوالي عليه البيعة"، بمعنى: بايعه وقبل ولايته ورَضي بها. * * * وقد بينا معنى"الإصر" باختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * وحذفت"الفاء" من قوله:"قال أأقررتم"، لأنه ابتداء كلام، على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى. (3) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أقررتم ... " بحذف ألف الاستفهام، وهو فساد. (2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 6: 135-138. (3) انظر ما سلف 2: 183. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 وأما قوله:"قالوا أقررنا"، فإنه يعني به: قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية: أقرَرْنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا من كتبك، وبنصرتهم. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله: فاشهدوا، أيها النبيون، بما أخذتُ به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونُصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك، كما:- 7338 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، قال، أخبرنا سيف بن عمر، (1) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب في قوله:"قال فاشهدوا"، يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك ="وأنا معكم من الشاهدين"، عليكم وعليهم. * * *   (1) في المطبوعة هنا أيضًا"سيف بن عمرو"، مخالفًا لما في المخطوطة وهو الصواب. وقد سلف تصويب ذلك في الأثر رقم: 7329. وسيأتي خطأ فيما يلي، في مواضع كثيرة، سوف أصححه دون إشارة إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 القول في تأويل قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن أعرَض عن الإيمان برسلي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة، وعن نصرتهم، فأدبر ولم يؤمن بذلك، ولم ينصر، ونكث عهدَه وميثاقه ="بعد ذلك"، يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذَه الله عليه ="فأولئك هم الفاسقون"، يعني بذلك: أن المتولين عن الإيمان بالرسل الذين وصف أمرَهم، ونُصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين أخذَا عليهم بذلك ="هم الفاسقون"، يعني بذلك: الخارجون من دين الله وطاعة ربهم، (1) كما:- 7339 - حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب: فمن تولى عنك، يا محمد، بعد هذا العهد من جميع الأمم ="فأولئك هم الفاسقون"، هم العاصون في الكفر. 7340 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه = قال أبو جعفر: يعني الرازي = (2) "فمن تولى بعد ذلك" يقول: بعد العهد والميثاق الذي أخذَ عليهم ="فأولئك هم الفاسقون".   (1) انظر تفسير"تولى" و"الفاسقون" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) و (فسق) . (2) قوله: "قال أبو جعفر" فيما بين الخطين، هو أبو جعفر الطبري صاحب هذا التفسير. وقوله"يعني الرازي"، يعني"أبا جعفر الرازي" الذي قال في الإسناد"حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه". وبيان الطبري في هذا الموضع عن"أبي جعفر الرازي" بعد أن مضى مئات من المرات في هذا الإسناد وغيره من الأسانيد، دليل على أن أبا جعفر الطبري، قد كتب تفسيره هذا على فترات متباعدة = أو لعل أحدًا سأله وهو يملي تفسيره، فبين له، وأثبته الذين سمعوه منه كما قاله في مجلسه ذاك. وقد مضى"ذكر أبي جعفر الرازي" في التعليق على الأثر رقم: 164. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 562 7341 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، [عن أبيه] ، عن الربيع مثله. (1) * * * قال أبو جعفر: وهاتان الآيتان، وإن كان مَخرَج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه أشهدَ وأخذَ به ميثاقَ منْ أخذَ ميثاقه به، عن أنبيائه ورسله، (2) فإنه مقصودٌ به إخبارُ من كان حوالَي مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه وسلم، عَمَّا لله عليهم من العهد في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم = (3) ومعنيٌّ [به] تذكيرُهم ما كان الله آخذًا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود، وما كانت أنبياءُ الله عرَّفتهم وتقدّمت إليهم في تصديقه واتباعه ونُصرته على من خالفه وكذبه = وتعريفهم ما في كتب الله، التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثها إليهم، من صفته وعلامته. * * * القول في تأويل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة، وقرأةُ الكوفة: (" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ ") ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) على وجه الخطاب. * * *   (1) الأثر: 7341- هذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 7234، أسقط منه الناسخ"عن أبيه"، فوضعتها بين القوسين في مكانها. (2) السياق: وإن كان مخرج الخبر ... عن أنبيائه ورسله، فإن مقصود به ... (3) في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى تذكيرهم ... "، والصواب الراجح زيادة ما زدت بين القوسين. وسياق هذه الجملة وما بعدها: فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله ... ومعنى به تذكيرهم ... وتعريفهم ما في كتب الله ... من صفته وعلامته". فصلتها لتسهل قراءتها وتتبعها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 563 وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) بالياء كلتيهما، على وجه الخبر عن الغائب. * * * وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) ، على وجه الخبر عن الغائب، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، بالتاء على وجه المخاطبة. * * * قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ:"أفغير دين الله تبغون" على وجه الخطاب"وإليه تُرجعون" بالتاء. لأن الآية التي قبلها خطابٌ لهم، فإتباعُ الخطاب نظيرَه، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل: من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا على الخطاب كله، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، وأحيانًا بعضُه على الخطاب، وبعضُه على الغيبة، فقوله:"تبغون" و"إليه ترجعون" في هذه الآية، من ذلك. (1) * * * وتأويل الكلام: يا معشرَ أهل الكتاب ="أفغيرَ دين الله تبغون"، يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون، (2) ="وله أسلم من في السماوات والأرض"، يقول: وله خَشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودة، (3) وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية (4) ="طوْعًا وكرهًا"، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين،   (1) انظر ما سلف: 464 والتعليق رقم: 2، والمراجع هناك. وانظر فهرس مباحث العربية. (2) انظر تفسير"الدين" فيما سلف 1: 115، 221 / 3: 571 / ثم 6: 273، 274 = ثم معنى"يبغي" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / ثم 6: 196، تعليق: 3. (3) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، كما سلف مرارًا. انظر قريبًا: ص: 549 تعلق 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"أسلم" فيما سلف ص: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 564 فإنهم أسلموا لله طائعين ="وكرهًا"، من كان منهم كارهًا. (1) * * * واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته. فقال بعضهم: إسلامه، إقراره بأنّ الله خالقه وربُّه، وإن أشرك معه في العبادة غيرَه. ذكر من قال ذلك: 7342 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: هو كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [سورة الزمر: 38] . 7343 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله. 7344 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:" وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه تُرجعون "، قال: كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربّي وأنا عبده. فمن أشرَكَ في عبادته فهذا الذي أسلم كَرْهًا، ومن أخلص له العبودة، (2) فهو الذي أسلم طوعًا. * * * وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم، كان حين أخذَ منه الميثاق فأقرَّ به. ذكر من قال ذلك: 7345 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: حين أخذَ الميثاق. * * *   (1) انظر تفسير"الكره" فيما سلف 4: 297، 298. (2) في المطبوعة: "العبودية"، وانظر التعليق السالف رقم ص: 564، رقم: 3. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 وقال آخرون؛ عنى بإسلام الكاره منهم، سُجودَ ظله. ذكر من قال ذلك: 7346 - حدثنا سوَّار بن عبد الله قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: الطائع المؤمن = و"كرهًا"، ظلّ الكافر. 7347 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"طوعًا وكرهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود الكافر وهو كاره. 7348 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كَرْهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره. 7349 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: سجود وجهه طائعًا، وظله كارهًا. (1) * * * وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله، واستقادته لأمره وإن أنكر ألوهته بلسانه. ذكر من قال ذلك: 7350 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: استقاد كلهم له. (2) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "سجود وجهه وظله طائعًا"، وهو لا يستقيم، واستظهرت من أخبار مجاهد السالفة، أن هذا هو حق المعنى، وأنه أولى بالصواب. (2) الأثر: 7350-"جابر" هو: "جابر بن يزيد الجعفي". روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وطاوس. روى عنه شعبة والثوري وإسرائيل وجماعة. و"عامر"، هو الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "جابر بن عامر"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرْهًا، حَذَر السيف على نفسه. ذكر من قال ذلك: 7351 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا" الآية كلها، فقال: أكره أقوامٌ على الإسلام، وجاء أقوامٌ طائعين. 7352 - حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال، حدثنا روح بن عطاء، عن مطر الورّاق في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون"، قال: الملائكة طوعًا، والأنصار طوعًا، وبنو سُلَيمُ وعبد القيس طوعًا، والناس كلهم كرهًا. * * * وقال آخرون معنى ذلك: أنّ أهل الإيمان أسلموا طوعًا، وأنّ الكافر أسلم في حال المعاينة، حينَ لا ينفعه إسلامٌ، كرهًا. ذكر من قال ذلك: 7353 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أفغير دين الله تبغون"، الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعًا فنفعه ذلك، وقُبِل منه، وأما الكافر فأسلم كارهًا حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه. 7354 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: أما المؤمن فأسلم طائعًا، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأسَ الله، (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [سورة غافر: 85] . * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 567 وقال آخرون: معنى ذلك: أيْ: عبادةُ الخلق لله عز وجل. (1) ذكر من قال ذلك: 7355 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: عبادتهم لي أجمعين طوعًا وكرهًا، وهو قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [سورة الرعد: 15] . * * * وأما قوله:"وإليه تُرجعون"، فإنه يعني:"وإليه"، يا معشر من يبتغي غيرَ الإسلام دينًا من اليهود والنصارى وسائر الناس ="ترجعون"، يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءَته. * * * وهذا من الله عز وجل تحذيرٌ خلقَه أن يرجع إليه أحدٌ منهم فيصيرُ إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام. * * *   (1) في المطبوعة: "في عبادة الخلق"، وفي المخطوطة"أن عبادة الخلق"، وصوابه قراءتها ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 568 القول في تأويل قوله: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"أفغير دين الله تبغون"، يا معشر اليهود،"وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون" = فإن ابتغوا غيرَ دين الله، يا محمد، فقل لهم:"آمنا بالله"، فترك ذكر قوله:"فإن قالوا: نعم"، أو ذكر قوله: (1) "فإن ابتغوا غير دين الله"، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه. وقوله:"قل آمنا بالله"، يعني به: قل لهم، يا محمد،: صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحدًا سواه ="وما أنزل علينا"، يقول: وقل: وصدَّقنا أيضًا بما أنزل علينا من وَحيه وتنزيله، فأقررنا به ="وما أنزل على إبراهيم"، يقول: وصدقنا أيضًا بما أنزل على إبراهيم خليل الله، وعلى ابنيه إسماعيل وإسحاق، وابن ابنه يعقوب = وبما أنزل على"الأسباط"، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بينا أسماءَهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) ="وما أوتي موسى وعيسى"، يقول: وصدّقنا أيضًا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوَحْي، وبما أنزل على النبيين من عنده. والذي آتى الله موسى وعيسى = مما أمرَ الله عز وجل محمدًا بتصديقهما فيه، والإيمان به = التوراة التي آتاها موسى، والإنجيل الذي أتاه عيسى. ="لا نفرق بين أحد منهم"، يقول: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضَهم،   (1) في المطبوعة: "وذكر قوله"، جعل الواو مكان "أو"، والصواب ما في المخطوطة. (2) انظر ما سلف 2: 120، 121 / 3: 111-113. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 569 ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله وصدّقت بعضًا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدّقهم ="ونحن له مسلمون". يعني: ونحن ندين لله بالإسلام لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره. ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون". ونحن له منقادون بالطاعة، متذللون بالعبودة، (1) مقرّون لهُ بالألوهة والربوبية، وأنه لا إله غيره. وقد ذكرنا الروايةَ بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى، وكرهنا إعادته. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غيرَ دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه (3) ="وهو في الآخرة من الخاسرين"، يقول: من الباخسين أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله عز وجل. (4) * * * وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون، لما نزلت هذه الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين، لأن من سُنة الإسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم.   (1) في المطبوعة: "بالعبودية" كما فعل في سابقتها، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر ما سلف قريبًا ص: 565، تعليق: 2. (2) يعني ما سلف 3: 109-111، وهي نظيرة هذه الآية، وانظر فهارس اللغة"سلم". (3) انظر معنى"يبتغي" فيما سلف ص: 564، تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"الخاسرين" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 ذكر الخبر بذلك: 7356 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال، زعم عكرمة:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا"، فقالت الملل: نحن المسلمون! فأنزل الله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران: 97] ، فحجَّ المسلمون، وقعدَ الكفار. 7357 - حدثني المثنى قال، حدثنا القعنبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه"، قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنزلَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يحُجُّهم أنْ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) . (1) 7358 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نزلت:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا" إلى آخر الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون! قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم إنْ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ) من أهل الملل (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) . * * * وقال آخرون: في هذه الآية بما:- 7359 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) الأثر: 7357-"القعنبي"، هو: "عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي"، روى عنه الأئمة. قال ابن سعد: "كان عابدًا فاضلا، قرأ عن مالك كتبه". وقال العجلي: "قرأ عليه مالك نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي"، وسئل ابن المديني عنه فقال: "لا أقدم من رواة الموطأ أحدًا على القعنبي". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 571 معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) إلى قوله: (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة: 62] ، فأنزل الله عز وجل بعد هذا:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه". * * * القول في تأويل قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) } اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت. فقال بعضهم: نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان مسلمًا فارتدّ بعد إسلامه. ذكر من قال ذلك: 7360 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ قال: فنزلت:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" إلى قوله:"وجاءَهم البيناتُ والله لا يهدي القوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 572 الظالمين إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم"، فأرسل إليه قومه فأسلم. 7361 - حدثني ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة بنحوه، ولم يرفعه إلى ابن عباس = إلا أنه قال: فكتب إليه قومه، فقال: ما كذَبني قومي! فرجع. 7362 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حكيم بن جُميع، عن علي بن مُسْهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ارتد رجل من الأنصار، فذكر نحوه. (1) 7363 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرنا حميد الأعرج، عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله عز وجل فيه القرآن:"كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعدَ إيمانهم" إلى"إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ"، قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمتُ لصَدُوقٌ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك، وإنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه. 7364 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدُوا أنّ الرسول حق"، قال: أنزلت في الحارث بن سُوَيد الأنصاري، كفر بعد إيمانه، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات، إلى:"أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"،   (1) الأثر: 7362-"حكيم بن جميع الكوفي"، مترجم في الكبير 2 / 1 / 18، والجرح 1 / 2 / 202. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 573 ثم تاب وأسلم، فنسخها الله عنه، فقال:"إلا الذين تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ". 7365 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءَهم البينات"، قال: رجلٌ من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه. 7366 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7367 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو رجل من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه = قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لحق بأرض الرّوم فتنصَّر، ثم كتب إلى قومه:"أرسلوا، هل لي من توبة؟ " قال: فحسبتُ أنه آمن، ثم رَجع = قال ابن جريج، قال عكرمة، نزلت في أبي عامر الرّاهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووَحْوَح بن الأسلت = في اثني عشر رجلا رَجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت:"إلا الذي تابوا من بعد ذلك"، الآيات. * * * وقال آخرون: عنى بهذه الآية أهل الكتاب، وفيهم نزلت. ذكر من قال ذلك: 7368 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفرُوا بعد إيمانهم"، فهم أهلُ الكتاب، عرَفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 574 7369 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" الآية كلها، قال: اليهود والنصارى. 7370 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" الآية، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقرّوا به، وشهدوا أنه حقٌّ، فلما بُعث من غيرهم حَسدوا العربَ على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم، حسدًا للعرب، حين بُعثَ من غيرهم. 7371 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم"، قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم. * * * قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن: منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم، بتأويل القرآن. (1) وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وهو حيٌّ عن   (1) هذا حكم جيد فاصل في هذه الآية، وفي غيرها مما اختلف في معانيه المختلفون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله. * * * فتأويل الآية إذًا:"كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم"، يعني: كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان، قومًا جحدُوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ="بعد إيمانهم"، أي: بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه ="وَشهدوا أن الرسول حقّ"، يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقًّا ="وجاءهم البينات"، يعني: وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك؟ ="والله لا يهدي القوم الظالمين"، يقول: والله لا يوفّق للحق والصّواب الجماعة الظَّلمة، وهم الذين بدّلوا الحق إلى الباطل، فاختارُوا الكفر على الإيمان. * * * وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى"الظلم"، وأنه وضعُ الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * ="أولئك جزاؤهم"، يعني: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حَقّ -"جزاؤهم"، ثوابهم من عملهم الذي عملوه (2) ="أنّ عليهم لعنة الله"، يعني: أن يحلّ بهم من الله الإقصاء والبعد، (3) ومن الملائكة والناس الدعاءُ بما يسوؤهم من العقاب (4) ="أجمعين"، يعني: من جميعهم، لا من   (1) انظر ما سلف 1: 523، 524 / ثم باقي المواضع في فهرس اللغة"ظلم"، وانظر أيضًا فهارس اللغة في سائر ألفاظ الآية. (2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314، وغيره في فهارس اللغة"جزى". (3) في المخطوطة والمطبوعة: "أن حل بهم"، فعل ماض، والسياق يقتضي المضارع. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم ... "، وهو كلام غير مستقيم، وهو تصحيف لما كتبت، كان في الأصل"الدعاما يسوءهم" بغير همزة"الدعاء"، وبغير نقط"بما"، فاشتبهت الحروف على الناسخ، فحرفها إلى ما ترى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 576 بعض من سمَّاه جل ثناؤه من الملائكة والناس، ولكن من جميعهم. وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم، لأن عملهم كان بالله كفرًا. * * * وقد بينا صفة"لعنة الناس" الكافرَ في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * ="خالدين فيها" يعني: ماكثين فيها، يعني في عقوبة الله (2) ="لا يخفَّف عنهم العذاب"، لا ينقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال، ولا ينفَّسون فيه (3) ="ولا هم ينظرون"، يعني: ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون. (4) وذلك كله عَينُ الخلود في العقوبة في الآخرة. (5) ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره:"إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا"، يعني: إلا الذين تابوا   (1) انظر ما سلف 2: 328، 329 / ثم 3: 254-258، 261-263، وفيها نظير ما في هذه الآية. (2) انظر تفسير"خالدين" فيما سلف 1: 397، 398 / 2: 287 / 4: 317، وفهارس اللغة. (3) انظر تفسير"يخفف" فيما سلف 2: 316، 317، والتنفيس: والترفيه والتفريج هنا. (4) انظر تفسير"ينظرون" في نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 264، 265، وقبله 2: 467، 468. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "وذلك كله أعني الخلود في العقوبة في الآخرة"، وهي جملة فاسدة البناء والمعنى، أخطأ الناسخ فهم مراد أبي جعفر، فكتب ما كتب، والصواب هو ما أثبت. فإن أبا جعفر قد لجأ إلى الاختصار في مواضع كثيرة من تفسيره، منها هذا الموضع، فلم يبين إعراب قوله تعالى: "لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون"، وأهل الإعراب يعربونها حالا متداخلة - أي حالا من حال - لأن"خالدين" حال من الضمير في"عليهم". وأما أبو جعفر، فهو يعدها جملة مستأنفة، وهي بذلك بيان عن الخلود في النار. والدليل على صحة ذلك، وعلى صحة ما أثبت من الصواب في نص أبي جعفر هنا، أنه قال في تفسير نظيرة هذه الآية من"سورة البقرة: 162" في الجزء 3: 264 ما نصه. "وأما قوله: " لا يخفف عنهم العذاب"، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن دوام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف". فهذا نص قاطع في أن إعراب الطبري لهذا الموضع من الآية هو ما ذهبت إليه، وفي أنه يرى أن معنى هذه الجملة من الآية، هو معنى"الخلود" بعينه. والحمد لله أولا وآخرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 577 من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ="وأصلحوا"، يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال ="فإنّ الله غفور رحيم"، يعني: فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره ="غفور"، يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الرّدّة، فتاركٌ عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غيرُ مؤاخذه به إذا مَات على التوبة منه ="رحيم"، متعطِّف عليه بالرحمة. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضُهم: عنى الله عز وجل بقوله:"إنّ الذين كفروا" ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم (1) ="بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا" بكفرهم بمحمد ="لن تقبل توبتهم"، عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه. ذكر من قال ذلك: 7372 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، قال: اليهودُ والنصارى، لن تُقبل توبتهم عند الموت. 7373 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،   (1) في المطبوعة: "أي: ببعض أنبيائه"، زاد ما ليس في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 578 قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفُرْقان. 7374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت = قال معمر: وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني. 7375 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، وقال: هم اليهود، كفروا بالإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنكرُوه، وكذبوا به. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد، بعد إيمانهم بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: ذنوبًا ="لن تقبل توبتهم" من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون. ذكر من قال ذلك: 7376 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال، حدثنا داود، عن رفيع:"إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، ازدادوا ذنوبًا وهم كفار ="لن تقبل توبتهم" من تلك الذنوب، ما كانوا على كفرهم وضَلالتهم. 7377 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية، قال، قلت:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم"؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم. 7378 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال، أخبرنا ابن أبي عدي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 579 عن داود قال: سألت أبا العالية عن: الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نحوًا منه. (1) 7379 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم، فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، (2) ألا ترى أنه يقول:"وأولئك هم الضالون"؟ 7380 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله:"لن تقبل توبتهم"، قال: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل. 7381 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، قال: هم اليهود والنصارى، يصيبون الذنوبَ فيقولون:"نتوب"، وهم مشركون. قال الله عز وجل: لن تُقبل التوبة في الضّلالة. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: بزيادتهم الكفر: تمامُهم عليه، (3) حتى هلكوا وهم عليه مقيمون ="لن تقبل توبتهم"، لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم، لكفرهم الآخِر وموتهم. ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 7378- في المطبوعة: "عبد الحميد بن بيان اليشكري"، وهو خطأ والصواب ما أثبت من المخطوطة. وقد مضت الرواية عنه كثيرًا، ينسبه أحيانًا"السكري"، وأخرى"القناد" نسبة إلى"القند"، وهو السكر. وقد مضت ترجمته برقم: 30، وسيأتي خطأ مثله في رقم: 7580. (2) أخشى أن يكون الصواب، "ولم يتوبوا من الكفر"، وانظر التالي. (3) في المطبوعة"بما هم عليه"، وهو كلام غث. وفي المخطوطة: "ممامهم عليه" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. يقال: و"تم على الشيء تمامًا" ثبت عليه وأقام، وأمضى أمره فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 580 7382 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: تمُّوا على كفرهم = (1) قال ابن جريج:"لن تقبل توبتهم"، يقول: إيمانهم أوّلَ مرة لن ينفعهم. * * * وقال آخرون: معنى قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، ماتوا كفارًا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى"لن تقبل توبتهم"، لن تقبل توبتهم عند موتهم. ذكر من قال ذلك: 7383 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، أمّا"ازدادوا كفرًا"، فماتوا وهم كفار. وأما"لن تقبل توبتهم" فعند موته، إذا تاب لم تقبل توبته. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية، قولُ من قال:"عنى بها اليهودَ" = وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه، بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله. (2) * * * وإنما قلنا:"ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب"، لأن الآيات   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "نموا على كفرهم" بالنون، وهو تصحيف. وانظر التعليق السالف. (2) في المطبوعة"بتصديق ما جاء به من عند الله" وفي المخطوطة"بتصديقه ما جاء به من عند الله"، وعلى الميم من"ما" فتحة مائلة، وهي في الحقيقة"باء"، فصواب قراءة المخطوطة ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد. وإنما قلنا:"معنى ازديادهم الكفر: ما أصابوا في كفرهم من المعاصي"، لأنه جل ثناؤه قال:"لن تقبل توبتهم"، فكان معلومًا أن معنى قوله:"لن تقبل توبتهم"، إنما هو معنيٌّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) [سورة الشورى: 25] ، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل:"أقبل" و"لا أقبل" في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك = وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله:"إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" (1) = علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. (2) وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي لا يَقبل منه التوبة، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ. * * * فإن قال قائل: وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال: (3) "فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى"؟ (4)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا الذين تابوا وأصلحوا ... "، سها الناسخ فأسقط"من بعد ذلك" من الآية، وهي الآية السابقة. وسياق الكلام: وإذْ كان ذلك كذلك، وكان من حكم ... علم أن المعنى ... ". (2) في المطبوعة: "تقبل.. تقبل.." بالتاء، وما في المخطوطة هو السياق. ومثل ذلك فيما سيلي. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وما ينكر" بالياء، وهي بالتاء أجود، كما يدل عليه الجواب بعد. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "توبتهم من كفرهم" بالجمع، والسياق ما أثبت، وهو الصواب. وفي المطبوعة: "أو توبته الأولى" والصواب بالواو كما في المخطوطة. وقوله هذا رد على القائلين بذلك فيما سلف في الأثر: 7382، والترجمة التي قبله، وما قبله من الآثار، وما يليه في الأثر رقم: 7382. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 582 قيل: أنكرنا ذلك، لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خُرُوج نفسه بطرْفة عين، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه، والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منزلةَ بين الموت والحياة، يجوزُ أن يقال:"لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر". فإذْ صحّ أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيلَ بعد الممات إليها، بطل قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل. * * * وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك:"التوبة التي كانت قبل الكفر"، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كُفْر بعد إيمان = بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة = إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره، وإن أمكن توجيهه إلى غيره. * * * وأما قوله:"وأولئك هم الضالون"، فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين كفرُوا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ فأخطأوا منهجه، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين، حَيرةً منهم، وعَمىً عنه. (1) * * *   (1) في المطبوعة: " ... وهدى الله الذي أخبرهم عنه فعموا عنه"، ولم يقل ذلك أبو جعفر! وفي المخطوطة: "وهذي الذي حره منهم وعمى عنه" غير منقوطة، فلم يستطع الناشر أن يقرأها على وجه صحيح، ففعل بعبارة الطبري ما فعل، وبئس ما فعل! وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "نصف السبيل"، كان أحب إلى أن أقرأها"قصد السبيل"، ولكني رجحت أن أبا جعفر يترجم عن معنى قوله تعالى"سواء السبيل"، وهو وسطه، وقد بين شرح ذلك في تفسيره فيما مضى 2: 497، وقال: " ... الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته"، ورأيتهم يقولون: "منصف الطريق" (بفتح الميم، وسكون النون، وفتح الصاد) : وسط الطريق و"نصف الطريق". وجائز أن تكون كانت"منصف الطريق" في كلام الطبري ومهما يكن من شيء، فهي صحيحة المعنى، جيدة المجاز في العربية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 583 وقد بينا فيما مضى معنى"الضلال" بما فيه الكفاية. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه"إنّ الذين كفروا"، أي: جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم ="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به ="فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذَهبًا ولو افتدى به"، يقول: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره، ولا جُعْلٌ على العفو عنه، (2) ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى مغربها، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها من كان ذَا حاجة إلى ما رُشى. فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف يقبل   (1) انظر ما سلف 1: 189-196 / 2: 496، 497 / 6: 66. (2) "الجزاء" هنا: البدل والكفارة. و"الجعل" (بضم الجيم وسكون العين) : الأجر على الشيء. يقول: لا يقبل منه أجر يدفعه على شريطة العفو عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 584 الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدَى بها مفتدٍ منْ نفسه أو غيره؟ (1) * * * وقد بينا أن معنى"الفدية" العوَضُ، والجزاء من المفتدى منه = بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * = ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده فقال:"أولئك"، يعني هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار ="لهم عذاب أليم"، يقول: لهم عند الله في الآخرة عذابٌ موجع ="وما لهم من ناصرين"، يعني: وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذَاه ومكروهه؟ (3) وقد:- 7384 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملءُ الأرض ذهبًا، أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم! قال فيقال: لقد سُئلت ما هو أيسرُ من ذلك! فذلك قوله:"إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به". (4) 7385 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله:"إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا"، قال: هو كل كافر. * * *   (1) في المخطوطة: "وهو خلاف"، وهو تصحيف، وفي المطبوعة: "عن نفسه"، كأن الناشر استنكر عربية أبي جعفر، فحولها إلى عربيته. (2) انظر ما سلف 3: 438-439. (3) اختلاف الضمائر في هذه العبارة جائز حسن، وإن أشكل على بعض من يقرأه. (4) الأثر: 7384- أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 11: 348-350) من طريقين طريق هشام الدستوائي عن قتادة، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، كرواية الطبري هنا. ورواه مسلم (17: 148، 149) من طريق هشام عن قتادة، وأشار إلى طريق سعيد، وذكر اختلافه. وللحديث طرق أخرى بغير هذا اللفظ أخرجها البخاري (الفتح 6: 262 / 11: 367) ومسلم 17: 148، 149. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 585 ونصب قوله"ذهبًا" على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منهُ، وهو قوله:"ملءُ الأرض"، كقول القائل:"عندي قدرُ زِقٍّ سمنًا = وقدْرُ رطل عَسلا"، ف"العسل" مبينٌ به ما ذكر من المقدار، وهو نكرة منصوبةٌ على التفسير للمقدار والخروج منه. (1) * * * وأما نحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب"الذهب" لاشتغال"الملء" بـ"الأرض"، ومجيء"الذهب" بعدهما، فصار نصبهُا نظيرَ نصب الحال. وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شُغل بفاعله، فينصبُ كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شُغل بفاعله. قالوا: ونظير قوله:"ملء الأرض ذهبًا" في نصب"الذهب" في الكلام:"لي مثلك رجُلا" بمعنى: لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب"الرجل"، لاشتغال الإضافة بالاسم، فنصب كما ينصب المفعول به، لاشتغال الفعل بالفاعل. * * * وأدخلت الواو في قوله:"ولو افتدى به"، لمحذوف من الكلام بعدَه، دلّ عليه دخول"الواو"، وكالواو في قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: 75] ، وتأويل الكلام: وليكون من الموقنين أرَيناه ملكوتَ السموات والأرض. فكذلك ذلك في قوله:"ولو افتدى به"، ولو لم يكن في الكلام"واو"، لكان الكلام صحيحًا، ولم يكن هنالك متروك، وكان: فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا لو افتدى به. (2) * * *   (1) "التفسير": هو التمييز، ويقال له أيضًا"التبيين"، والمميز هو: "المفسر والمبين"، وقد سلف ذلك فيما مضى 2: 338، تعليق: 1 / 3: 90، تعليق 2 / وانظر ما فصله الفراء في معاني القرآن 1: 225، 226. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 226. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 586 القول في تأويل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن تدركوا، أيها المؤمنون، البرَّ = وهو"البر" من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ويرجونه منه، وذلك تفضّله عليهم بإدخالهم جنته، وصرف عذابه عنهم. * * * ولذلك قال كثير من أهل التأويل"البر" الجنة، لأن بر الربّ بعبده في الآخرة، إكرامه إياه بإدخاله الجنة. (1) ذكر من قال ذلك. 7386 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله:"لن تنالوا البر"، قال: الجنة. 7387 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله:"لن تنالوا البر"، قال: البر الجنة. 7388 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لن تنالوا البر"، أما البر فالجنة. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: لن تنالوا، أيها المؤمنون، جنة ربكم ="حتى تنفقوا مما تحبون"، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم، كما:- 7389 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، يقول: لن تنالوا برَّ ربكم حتى   (1) انظر تفسير"البر" فيما سلف 2: 8 / 3: 336-338، 556 / 4: 425. وفي المطبوعة: "وإكرامه إياه" بزيادة "واو"، وهو خطأ صوابه في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 587 تنفقوا مما يعجبكم، ومما تهوَوْن من أموالكم. 7390 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن قوله:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال: من المال. * * * وأما قوله:"وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم"، فإنه يعني به: ومهما تنفقوا من شيء فتتصدقوا به من أموالكم، (1) فإنّ الله تعالى ذكرُه بما يتصدَّق به المتصدِّق منكم، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله وغير ذلك -"عليم"، يقول: هو ذو علم بذلك كله، لا يعزُبُ عنه شيء منه، حتى يجازي صاحبه عليه جزاءَه في الآخرة، كما:- 7391 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم"، يقول: محفوظٌ لكم ذلك، اللهُ به عليمٌ شاكرٌ له. * * * وبنحو التأويل الذي قلنا تأوَّل هذه الآية جماعةٌ من الصحابة والتابعين. ذكر من قال ذلك: 7392 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أنْ يبتاع له جارية من جَلولاء يوم فُتحت مدائن كسرى في قتال سَعد بن أبي وقاص، فدعا بها عمر بن الخطاب فقال: إن الله يقول:"لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون"، فأعتقها عمر = وهي مثْل قول الله عز وجل: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [سورة الإنسان: 8] ، و (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [سورة الحشر: 9] .   (1) انظر"ما" بمعنى"مهما" فيما سلف قريبًا ص: 551. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 7393 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله سواء. 7394 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، أو هذه الآية: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [سورة البقرة: 245\ الحديد: 11] ، قال أبو طلحة، يا رسول الله، حائطي الذي بكذا وكذا صَدَقة، ولو استطعت أن أجعله سرًّا لم أجعله علانية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في فقراء أهلك. (1) 7395 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إنّ الله يسألنا من أموالنا، اشهدْ أني قد جعلت أرضي بأرْيحا لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها   (1) الحديث: 7394- حميد: هو ابن أبي حميد الطويل. والحديث رواه أحمد في المسند: 12170، عن يحيى بن سعيد القطان، و: 12809، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، و: 13803، عن عبد الله بن بكر - ثلاثتهم عن حميد، عن أنس ابن مالك (ج 3 ص 115، 174، 262 حلبي) . ورواه الترمذي 4: 81، من طريق عبد الله بن بكر، عن حميد. وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وذكره السيوطي 1: 50، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه. وهو اختصار لرواية مطولة، رواها مالك في الموطأ، ص: 995-996، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك. ورواها أحمد في المسند: 12465 (3: 141 حلبي) ، من طريق مالك. ورواها البخاري 3: 257، 5: 295-297، و 8: 168، ومسلم 1: 274- كلاهما من طريق مالك أيضًا. وسيأتي عقب هذا، مختصرًا أيضًا، من رواية ثابت عن أنس. الحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، وهو الجدار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 589 في قرابتك. فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب. (1) 7396 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا ليث، عن ميمون بن مهران: أنّ رجلا سأل أبا ذَرّ: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة عمادُ الإسلام، والجهاد سَنامُ العمل، والصدقة شيء عَجبٌ! فقال: يا أبا ذر، لقد تركتَ شيئًا هو أوَثقُ عملي في نفسي، لا أراك ذكرته! قال: ما هو؟ قال: الصّيام! فقال: قُرْبة، وليس هناك! وتلا هذه الآية:"لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبُون". (2)   (1) الحديث: 7395- حماد: هو ابن سلمة. والحديث رواه أحمد في المسند: 14081 (3: 285 حلبي) ، عن عفان، عن حماد، به، نحوه. ورواه مسلم 1: 274-275، من طريق بهز، عن حماد بن سلمة، به، نحوه. ورواه أبو داود: 1689، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، وهو ابن سلمة. وذكره السيوطي 1: 50، وزاد نسبته للنسائي. وقوله"بأريحا"- هكذا ثبت في هذه الرواية في الطبري وليست تصحيفًا، ولا خطأ من الناسخين هنا. بل هي ثابتة كذلك في رواية أبي داود. ونص الحافظ في الفتح: 3: 257، على أنها ثابتة بهذا الرسم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة. ورواية مسلم"بيرحا". واختلف في ضبط هذا الحرف فيه وفي غيره، اختلافًا كثيرًا. ونذكر هنا كلام القاضي عياض في مشارق الأنوار 1: 115-116، بنصه. ثم نتبعه بكلام الحافظ في الفتح 3: 257، بنصه أيضًا: قال القاضي عياض: "بيرحا، اختلف الرواة في هذا الحرف وضبطه. فرويناه بكسر الباء وضم الراء وفتحها، والمدّ والقصر. وبفتح الباء والراء معًا. ورواية الأندلسيين والمغاربةٌ"بيرُحَا" - بضم الراء وتصريف حركات الإعراب في الراء. وكذا وجدتُها بخط الأصيلي. وقالوا: إنها"بير" مضافةُ إلى"حاء" - اسم مركب. قال أبو عبيد البكري: "حاء" على وزن حرف الهجاء: بالمدينة، مستقبلة المسجد، إليها ينسب"بِيرُحَاء"، وهو الذي صححه. وقال أبو الوليد البَاجِي: أنكر أبو ذَرّ الضم والإعراب في الراء، وقال: إنما هي بفتح الراء في كل حال. قال الباجي: وعليه أدركتُ أهل العلم والحفظ في المَشْرِق، وقال لي أبو عبد الله الصُّورِي: إنما هو"بَيْرَحَاء" بفتحهما في كل حال، وعلى رواية الأندلسيين ضبطنا الحرف عَلى ابن أبي جعفر في مسلم. وبكسر الباء وفتح الراء والقصر ضبطناها في الموطأ علَى ابن عتَّاب وابن حمدين وغيرهما. وبضم الراء وفتحها معًا قيَّده الأصيلي. وهو موضع بقبليّ المسجد، يعرف بقَصْر بني حُدَيْلة، بحاء مهملة مضمومة. وقد رواه من طريق حماد بن سلمة"بَرِيحا". هكذا ضبطناه عن شيوخنا: الحُشَنِي، والأسدي، والصَّدَفِي - فيما قيَّدوه عن العذري، والسمرقندي، والطبري، وغيرهم. ولم أسمع من غيرهم فيه خلافًا، إلاّ أني وجدتُ أبا عبد الله بن أبي نصر الحُميديّ الحافظ ذَكَر هذا الحرف في اختصاره، عن حماد بن سلمة -"بَيْرَحَاء" كما قال الصُّوري. ورواية الرازي في مسلم، في حديث مالك: "بَرِيحا". وهو وَهَم، وإنما هذا في حديث حماد، وإنما لمالك"بيرحا" كما قيده فيها الجميع، على الاختلاف المتقدّم عنهم، وذكر أبو داود في مصنفه هذا الحرف في هذا الحديث - بخلاف ما تقدم، قال: "جعلتُ أرضي بأريحا". وهذا كله يدلّ على أنها ليست بِبِيٍر". وقال الحافظ: "وقوله فيه"بَيْرَحَاء" - بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمدّ. وجاء في ضبطه أوجُهٌ كثيرة، جمعها ابن الأثير في النهاية، فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمدّ والقصر. فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة"بَرِيحَا" - بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية. وفي سنن أبي داود"بَارِيحَا" - مثله، لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور. وكذا جزم به الصغاني، وقال: إنه"فَيْعَلى" من"البَرَاح". قال: ومَن ذكره بكسر الموحدة، وظنَّ أنها بئر من آبار المدينة - فقد صَحَّفَ". وانظر الفتح أيضًا 5: 296، ومعجم البلدان 2: 327-328. (2) الخبر: 7396- هذا خبر منقطع الإسناد، لأن ميمون بن مهران لم يدرك أبا ذر، أبو ذر مات سنة 32، وميمون ولد سنة 40، ومات سنة 118، كما في تاريخي البخاري، وتهذيب الكمال (مخطوط مصور) . والخبر ذكره السيوطي 2: 50، ولم ينسبه لغير الطبري. قوله: "شيء عجب" -"أثبتنا ما في المخطوطة، والذي في المطبوعة والدر المنثور"عجيب". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 590 7397 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عمرو بن دينار قال: لما نزلت هذه الآية:"لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون"، جاء زيدٌ بفرس له يقال له:"سَبَل" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تصدَّق بهذه يا رسول الله. فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أسامة بن زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إنما أردت أن أتصدّق به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قُبلتْ صَدَقتك. (1) 7398- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب وغيره: أنها حين نزلت:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبُّها، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله. فحملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها أسامةَ بن زيد، فكأنَّ زيدًا وَجد في نفسه، فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما إن الله قد قبلها. (2) * * *   (1) الحديث: 7397- هذا حديث مرسل، لأن عمرو بن دينار تابعي. داود بن عبد الرحمن العطار المكي: ثقة من شيوخ الشافعي. وثقه ابن معين، وأبو داود، وغيرهما. عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث، المكي النوفلي: ثقة. أخرج له الجماعة. وقد مضى في: 1489. والحديث أشار إليه السيوطي 2: 50، ولم يذكر لفظه، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكر قبله حديثًا"مثله"، عن محمد بن المنكدر. وهو حديث مرسل أيضًا. ونسبه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. اسم الفرس: "سبل" - بفتح السين المهملة والباء الموحدة. ولم تنقط في المخطوطة، ونقطت ياء تحتية في المطبوعة، ورسمت"شبلة" في الدر المنثور. والصواب ما أثبتنا، وهكذا جاء اسمها في كتب الخيل وفي الشعر. (2) الحديث: 7398- هوس حديث مرسل، مثل سابقه. وقد ذكره السيوطي 2: 50. ونسبه لعبد الرزاق، والطبري، ولم ينسبه لغيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 592 القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزِّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه لم يكن حرَّم على بني إسرائيل = وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن = شيئًا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالا إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه، فإن وَلده حرّموه استنانًا بأبيهم يعقوب، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل، ولا على لسان رسولٍ له إليهم، من قبل نزول التوراة. * * * ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم، هل نزل في التوراة أم لا؟ فقال بعضهم: لما أنزل الله عز وجل التوراةَ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرِّمونه قبل نزولها. *ذكر من قال ذلك: 7399- حدثني محمد بن الحسين، قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" قالت اليهود: إنما نحرِّم ما حرّم إسرائيل على نفسه، وإنما حرّم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 إسرائيل العرُوق، (1) كان يأخذه عِرق النَّسا، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار، فحلف لئْن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقًا أبدًا، فحرّمه الله عليهم ثم قال:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، ما حرَّم هذا عليكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [سورة النساء: 160] * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل تنزل التوراة، فإن اللهَ حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرَّمه على نفسه في التوراة، ببغيهم على أنفسهم وظلمهم لها. قل يا محمد: فأتوا، أيها اليهود، إن أنكرتم ذلك بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه. * * * وقال آخرون: ما كان شيءٌ من ذلك عليهم حرامًا، لا حرّمه الله عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه، فقال الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة فاتلوها، حتى ننظر هل ذلك فيها، أم لا؟ فيتبين كذبهم لمن يجهلُ أمرهم. (2) ذكر من قال ذلك:   (1) العروق هي عروق اللحم، وهو الأجوف الذي يكون فيه الدم، وأما غير الأجوف فهو العصب. (2) في المطبوعة: "ليتبين"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 7400- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" إسرائيل هو يعقوب، أخذه عرق النسا فكان لا يَبيتُ الليل من وجعه، (1) وكان لا يؤذيه بالنهار. فحلف لئن شفاهُ الله لا يأكل عِرْقًا أبدًا، وذلك قبل نزول التوراة على موسى. فسأل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم اليهود: ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقالوا: نزلت التوراة بتحريم الذي حرَّم إسرائيل. فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" إلى قوله:"فأولئك هم الظالمون"، وكذبوا وافتروا، لم تنزل التوراة بذلك. * * * وتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة = بمعنى: لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك. (2) وكأن الضحاك وجّه قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون"الاستثناء المنقطع". * * * وقال آخرون: تأويل ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإنّ ذلك حرامٌ على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده.   (1) في المطبوعة: "لا يثبت الليل"، وليست بشيء، وسبب ذلك أن ناسخ المخطوطة قد استكثر من النقط على حروف هذه الكلمة، فاختلط الأمر على الناشر. وليس معنى"يبيت": ينام، فإن أهل اللغة قالوا: "بات: دخل في الليل، ومن قال: بات فلان، إذا نام، فقد أخطأ. ألا ترى أنك تقول: بت أرعى النجوم؟ معناه: بت أنظر إليها، فكيف ينام وهو ينظر إليها؟ " ومعنى"لا يبيت الليل"، أي يسكن الليل ولا يستريح، لأن البتوتة هي دخول الليل، والليل سكن للناس، فمن ضافه هم، أو أقلقه ألم، لم يسكن، فكأن الليل لم يشمله بهدأته. وفي ألفاظ أخرى لهذا الخبر: "لا ينام الليل من الوجع". ثم انظر الأثر رقم: 7402: "لا يبيت بالليل". (2) انظر"إلا" بمعنى"لكن" فيما سلف 3: 206. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 *ذكر من قال ذلك: 7401- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" فإنه حرّم على نفسه العروقَ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام الليل، فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد = وليس مكتوبًا في التوراة! وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرًا من أهل الكتاب فقال: ما شأن هذا حرامًا؟ فقالوا: هو حرام علينا من قِبَل الكتاب. فقال الله عز وجل:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل" إلى"إنْ كنتم صادقين". 7402- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: أخذه -يعني إسرائيل- عرقُ النسا، فكان لا يبيتُ بالليل من شدّة الوجع (1) ، وكان لا يؤذيه بالنهار، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرقًا أبدًا، وذلك قبل أن تنزل التوراة. فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، وكذبوا، ليس في التوراة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال:"معنى ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه، فإنه كان حرامًا عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنزيل ولا وحي قبل التوراة، حتى نزلت التوراةُ، فحرّم الله عليهم فيها ما شاءَ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ". وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل. ذكر بعض من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "لا يثبت"، وفي المخطوطة: "لا يبيت"، واضحة. وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص: 9. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 7403 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة"، وإسرائيل، هو يعقوب ="قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" يقول: كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة. إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما أنزل الله التوراة حرّم عليهم فيها ما شاء وأحلّ لهم ما شاء. 7404- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه. * * * واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرَّمه على نفسه. فقال بعضهم: كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العُرُوق. *ذكر من قال ذلك: 7405- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن يوسف بن مَاهَك قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إنه جعل امرأته عليه حرامًا، قال: ليست عليك بحرام. قال: فقال الأعرابي: ولم؟ والله يقول في كتابه:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه"؟ قال: فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيل حَرّم على نفسه؟ قال: ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال: إسرائيل عرَضتْ له الأنساءُ فأضنته، (1) فجعل لله عليه إنَ شفاه الله منها لا يطعم عِرْقًا. قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم. 7406- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،   (1) الأنساء جمع نسا: وهو هذا العرق الذي يخرج من الورك فيستبطن الفخذين، ثم يمر حتى يبلغ الكعب. وهو الذي يأخذه المرض المعروف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 عن أبي بشر. قال: سمعت يوسف بن ماهك يحدثُ: أنّ أعرابيًّا أتى ابن عباس، فذكر رجلا حرّم امرأته فقال: إنها ليست بحرام. فقال الأعرابي: أرأيت قول الله عز وجل:"كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه"؟ فقال: إن إسرائيل كان به عِرْق النسا، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العرُوق من اللحم، وإنها ليست عليك بحرام. 7407- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا، فجعل لله عليه = أو: أقسم، أو: آلى =: لا يأكله من الدواب. (1) قال: والعروق كلها تبعٌ لذلك العرق. 7408- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ الذي حرّم إسرائيل على نفسه: أنّ الأنساء أخذته ذات ليلة، فأسهرته، فتألَّى إنِ الله شفاه لا يطعم نَسًا أبدًا، فتتبعت بنوهُ العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم. (2) 7409- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه = وزاد فيه. قال: فتألَّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقًا أبدًا، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق، فيخرجونها من اللحم. وكان"الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة"، العُروق. 7410- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، اشتكى   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أو أقسم أو قال لا يأكله من الدواب"، وهو غير مستقيم، وأشبه بالصواب ما أثبت. وانظر الأثر التالي وفيه"تألى"، أي أقسم، ومنه استظهرت هذا التصويب. (2) في المخطوطة: "يخرجونه"، فلعل ما قبلها"العرق" مفردًا، ولكني تركت ما في المطبوعة فهو أجود، لما في الأثر الذي يليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 إسرائيل عرق النسا فقال: إنِ الله شفاني لأحرِّمنّ العروق! فحرَّمها. 7411- حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان إسرائيل أخذه عرق النسا، فكان يبيتُ لهُ زُقاء، (1) فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق. فأنزل الله عز وجل:"كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" = قال سفيان:"له زقاء"، يعني صياح. 7412- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" قال، كان يشتكي عرق النسا، فحرَّم العروق. 7413- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال،: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 7414- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة" قال، كان إسرائيل يأخذه عرق النسا، فكان يبيت وله زقاء، فحرَّم على نفسه أن يأكل عرقًا. * * * وقال آخرون: بل"الذي كان إسرائيل حرَّم على نفسه"، لحوم الإبل وألبانُها. *ذكر من قال ذلك: 7415- حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن   (1) في المطبوعة: "يبيت وله زقاء"، بالواو، وأثبت ما في المخطوطة وهو جيد أيضًا. الزقاء: صوت الباكي وصياحه. زقا الصبي يزقو: اشتد بكاؤه وصاح. وسيأتي مشروحًا في الأثر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 جريج، عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنه اشتكى شكوى، فقالوا: إنه عرق النسا، فقال: رَبّ، إن أحب الطعام إليّ لحومُ الإبل وألبانُها، فإن شفيتني فإني أحرمها عليّ = قال ابن جريج، وقال عطاء بن أبي رباح: لحومَ الإبل وألبانَها حرّم إسرائيل. 7416- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل" قال، كان إسرائيل حرّم على نفسه لحومَ الإبل، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحومَ الإبل وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة، فقال الله:"فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، فقال: لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه، أي لحم الإبل. (1) 7417- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال، حدثنا سعيد، عن ابن عباس: أن إسرائيل أخذَه عرق النسا، فكانَ يبيت بالليل له زُقاء = يعني: صياح = قال: فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله = يعني: لحوم الإبل = قال: فحرمه اليهود، وتلا هذه الآية:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، أي: إن هذا قبل التوراة. 7418- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، حرّم العروقَ ولحوم الإبل. قال: كان به عرق النسا، فأكل من لحومها فباتَ بليلةٍ يَزْقُو، فحلف أن لا يأكله أبدا.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا لحم الإبل" وهو لا يستقيم، وظننتها تحريف "أي"، فأثبتها كذلك، ولو حذفت كان الكلام مستقيما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 7419- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد في قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه". قال: حرم لحم الأنعام. (1) * * * قال أبو جعفر: (2) وأولى هذه الأقوال بالصواب، قولُ ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد عنه: أنّ ذلك، العروقُ ولحوم الإبل، لأنّ اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلُها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر، وهو: ما:- 7420- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرضَ مرضًا شديدًا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقْمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. (3) * * * وأما قوله:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، فإن معناه: قل، يا محمد، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها =:"ائتوا بالتوراة فاتلوها"، يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفى عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم: أن ذلك ليس مما   (1) في المطبوعة: "لحوم الأنعام"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "قال أبو جعفر رضي الله عنه". (3) الأثر: 7420- هذا مختصر الأثر السالف رقم: 1605، وإسناده صحيح، وقد مضى تخريجه هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 أنزلته في التوراة ="إن كنتم صادقين"، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أنّ الله أنزل تحريمَ ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريمَ ذلك علينا منها. * * * وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدًا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجةً له عليهم. لأن ذلك إذْ كان يخفى على كثير من أهل ملتّهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميٌّ من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده = كان أحرَى أن لا يعلمَه. فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم، (1) من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، إليهم. لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفيِّ عُلومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن كذَب على الله منا ومنكم، من بعد مجيئكم بالتوراة، وتلاوتكم إياها، وَعَدَمِكم ما ادّعيتم من تحريم الله العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها فيها ="فأولئك هم الظالمون" يعني: فمن فعل ذلك منهم ="فأولئك"، يعني: فهؤلاء الذين يفعلون ذلك ="هم الظالمون"، يعني: فهم الكافرون، القائلون على الله الباطل، كما:-   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان في ذلك له صلى الله عليه وسلم"، و"في" زيادة لا شك فيها من سبق قلم الناسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 7421- حدثنا المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي:"فأولئك هم الظالمون" قال، نزلت في اليهود. * * * القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد ="صدق الله"، فيما أخبرنا به من قوله:"كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل"، وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروقَ ولا لحومَ الإبل وألبانَها، وأنّ ذلك إنما كان شيئًا حرّمه إسرائيل على نفسه وَوَلده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة = وفي كل ما أخبر به عباده من خبر، (1) دونكم. وأنتم، يا معشر اليهود، الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة، (2) المفتريةُ على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق ="فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين"، يقول: فإن كنتم، أيها اليهود، محقين في دعواكم أنكم على الدّين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورُسله ="فاتبعوا ملة إبراهيم"، خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضَاه الله منْ خلقه دينًا، وابتعث به أنبياءَه، ذلك الحنيفية -يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه- دون اليهودية والنصرانية والمشركة. * * *   (1) في المخطوطة"في كل ما أخبر ... " بحذف الواو، والصواب ما في المطبوعة. وهو معطوف على قوله آنفا: "صدق الله فيما أخبرنا به ... ". وقوله: "دونكم"، سياقه"صدق الله ... دونكم"، يعني فأنتم غير صادقين. (2) في المطبوعة: "أنتم يا معشر اليهود الكذبة ... " والصواب إثبات الواو كما في المخطوطة. وسياقه"وأنتم ... الكذبة ... المفترية ... " بالرفع فيهما، خبر"أنتم". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 وقوله:"وما كان من المشركين"، يقول: لم يكن يشرك في عبادته أحدًا من خلقه. فكذلك أنتم أيضًا، أيها اليهود، فلا يتخذ بعضكم بعضًا أربابًا من دون الله تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه = وأنتم يا معشرَ عبدة الأوثان، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابًا، ولا تعبدوا شيئًا من دون الله، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينُه إخلاص العبادة لربه وحدَه، من غير إشراك أحد معه فيه. فكذلك أنتم أيضًا، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدًا، فإن جميعكم مقرُّون بأنّ إبراهيم كان على حقّ وَهدْى مستقيم، فاتبعوا ما قد أجمع جميعُكم على تصويبه من ملته الحنيفية، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائر الملل غيرها، أيها الأحزاب، فإنها بدَع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حق، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صوابٌ وحق من ملة إبراهيم، هو الحق الذي ارتضيتُه وابتعثتُ به أنبيائي ورسلي، وسائرُ ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءَني به يوم القيامة. * * * وإنما قال جل ثناؤه:"وما كان من المشركين"، يعني به: وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [من] نصرائهم وأهل ولايتهم. (1) وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان، غير الحنيفية. قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا. * * *   (1) الزيادة بين القوسين يستقيم بها الكلام على وجهه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: إنّ أول بيت وضع للناس، يُعبَد الله فيه مباركًا وهُدًى للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة. *ذكر من قال ذلك: 7422- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى عليّ فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أوّل بيت وُضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع في البرَكة مقامِ إبراهيم، ومن دَخَله كان آمنًا. (1) 7423- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالدَ بن عرعرة قال: سمعت عليًّا، وقيل له:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة"، هو أوّل بيت كان في الأرض؟ قال: لا! قال: فأين كان قَوْم نُوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه أوّل بيت وُضع للناس مبارَكًا وهدًى. (2)   (1) الأثر 7422- هو مختصر الأثر السالف رقم: 2058، وفي المخطوطة والمطبوعة هنا أيضا"وضع في البركة"، كما كان في المطبوعة والمخطوطة هناك. ولكني صححته من المستدرك والدر المنثور: "فيه البركة"، غير أني أعود فأقول إني أرجح أن ما كان هناك صواب، وأنه غير مستساغ أن يكون هذا الخطأ قد تكرر في موضعين متباعدين من الكتاب. وإعراب الكلام فيما أرجح"مقام إبراهيم" بالجر، بدلا من"البركة"، على غير ما ضبطته هناك برفع"مقام إبراهيم". هذا، وقد مضى الكلام على رجال إسناده في الأثر السالف. (2) الأثر: 7423- مضى إسناده برقم: 2059، ولم يذكر لفظه. وقد مضى ذكر رجاله هناك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 7424- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال، سأل حفْصٌ الحسنَ وأنا أسمع عن قوله:"إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا" قال، هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض. 7425- حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر في قوله:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة" قال: قد كانت قبله بيوتٌ، ولكنه أول بيت وُضع للعبادة. (1) 7426- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله:"إن أوّل بيت وضع للناس"، يُعبد الله فيه ="للذي ببكة". 7427- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا" قال، وضع للعبادة. * * * وقال آخرون: بل هو أوّل بيت وضع للناس. ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل. فقال بعضهم: خُلق قبل جميع الأرَضين، ثم دُحِيت الأرَضون من تحته. *ذكر من قال ذلك: 7428- حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله البيتَ قبل الأرض بألفي سنة، وكان -إذ كان عرشه على الماء- زَبْدةً (2) بيضاءَ، فدحيتُ الأرض من تحته.   (1) الأثر: 7325-"عبد الجبار بن يحيى الرملي"، شيخ الطبري، لم أجد ترجمته في مكان. وسيأتي برقم: 7446. (2) "الزبدة": الطائفة من زبد الماء، الأبيض الذي يعلوه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 7429- حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال: سمعت مجاهدًا يقول: إنّ أول ما خلق الله الكعبةَ، ثم دَحى الأرض من تحتها. 7430- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"إن أول بيت وضع للناس"، كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران: 110] 7431- حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين"، أما"أول بيت"، فإنه يوم كانت الأرض ماء، كان زَبْدَة على الأرض، فلما خلق الله الأرضَ، خلق البيت معها، فهو أول بيت وضع في الأرض. 7432- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا) قال، أوّل بيت وَضَعه الله عز وجل، فطاف به آدم وَمنْ بعده. * * * وقال آخرون: موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض. *ذكر من قال ذلك: 7433- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذُكر لنا أن البيتَ هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبِط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بَعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمنُ الطوفان، زَمنَ أغرقَ الله قوم نوح، رَفعه الله وطهَّره من أن يصيبهُ عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السماء. ثم إنّ إبراهيم تتبع منه أثرًا بعد ذلك، فبناه على أساسٍ قديم كانَ قبله. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه: إن أول بيت مباركٍ وهُدًى وُضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك:"إن أول بيت وضع للناس"، أي: لعبادة الله فيه ="مباركًا وهدًى"، يعني بذلك: ومآبًا لنُسْك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيما لله وإجلالا له ="للذي ببكة" = لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما:- 7434- حدثنا به محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال، قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع أوّل؟ قال:"المسجد الحرام. قال: ثم أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة. (1) * * * فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض، على ما قلنا. فأما في موضعه بيتًا، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة، (2) ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضَه في هذا الموضع، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سُور القرآن، وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * *   (1) الحديث: 7434- سليمان: هو الأعمش. إبراهيم التيمي: هو إبراهيم بن يزيد بن شريك. مضى هو وأبوه في: 2998. والحديث رواه أحمد في المسند 5: 166 - 167 (حلبى) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به، بزيادة في آخره. ورواه أيضا 5: 150، 156، 157، 160 (حلبي) ، بأسانيد، عن الأعمش، مطولا. وكذلك رواه مسلم 1: 146 - 147، من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش. وذكره ابن كثير 2: 190، من رواية المسند (5: 150) ، ثم قال: "وأخرجه البخاري، ومسلم - من حديث الأعمش، به". وذكره السيوطي 2: 52، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب. (2) في المطبوعة: "فأما في وضعه بيتا ... "، غيروا ما في المخطوطة وهو صواب. (3) انظر ما سلف 3: 57 - 64. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 وأما قوله:"للذي ببكة مباركا"،، فإنه يعني: للبيت الذي بمُزْدَحم الناس لطوافهم في حجهم وعمَرهم. * * * وأصل"البكّ": الزحم، يقال: منه:"بكّ فلانٌ فلانًا" إذا زحمه وصدمه -"فهو يَبُكه بَكًّا، وهم يتباكُّون فيه"، يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه. فكأن"بَكَّة""فَعْلة" من"بَكَّ فلان فلانًا" زحمه، سُميت البقعة بفعل المزدحمين بها. * * * فإذا كانت"بكة" ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حَوْل البيت، وكان لا طوافَ يجوز خارج المسجد = كان معلومًا بذلك أن يكون ما حَوْل الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارجَ المسجد فمكة، لا"بكة". لأنه لا معنى خارجَه يوجب على الناس التَّباكَّ فيه. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك فسادُ قول من قال:"بكة" اسم لبطن"مكة"، ومكة اسم للحرم. (1) . * * * *ذكر من قال في ذلك ما قلنا: من أن"بكة" موضع مزدحم الناس للطواف:   (1) انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة ما نصه: "يتلوهُ ذكر مَنْ قال في ذلك ما قُلنا من أن بكة موضع مزدحم الناس للطواف والحمد لله على عونه وإحسانه، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليمًا" ثم يتلوه ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يَسِّر أَخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان البغدادي قال حدثنا محمد بن جرير" فأعاد إسناد المخطوطة التي نقل عنها، كما سلف في تعليقنا 6: 495، 496 رقم: 5، وهذا هو الموضع الثاني لذكر هذا الإسناد الجديد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 7435- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال،: حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري في قوله:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة" قال،"بكة" موضع البيت،"ومكة" ما سوى ذلك. 7436- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم مثله. 7437- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن أبي جعفر قال: مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بَكَّةٌ، يبكّ بعضُها بعضًا. 7438- حدثنا ابن المثني قال: حدثنا عبد الصمد قال،: حدثنا شعبة قال، حدثنا سلمة، عن مجاهد قال: إنما سميت"بكة"، لأن الناس يتباكُّون فيها، الرجالَ والنساءَ. 7439- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد قال، قلت لأي شيء سُميت"بكة"؟ قال: لأنهم يتباكُّون فيها =قال: يعني: يزدحمون. (1) 7440- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال، إنما سميت"بكة"، لأنهم يأتونها حُجّاجًا. (2) 7441- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا"، فإن الله بَكَّ به الناس جميعًا، فيصلي النساءُ قدّام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره. 7442- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"بكة"، بكّ الناس بعضهم بعضًا، الرجال والنساء، يصلي بعضُهم بين يدَيْ بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة.   (1) في المطبوعة: "يتزاحمون"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 7440-"الأسود بن قيس العبدي"، روى عن أبيه وجماعة، وروى عنه شعبة والثوري وشريك وغيرهم. وأبوه: "قيس العبدي" الكوفي، مترجم في الكبير 4 / 1 / 149. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عن أخيه"، وهو تصحيف والصواب ما أثبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 7443- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال:"بكة"، موضع البيت، و"مكة": ما حولها. 7444- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن أزهر، عن غالب بن عبيد الله: أنه سأل ابن شهاب عن"بكة" قال،"بكة" البيت، والمسجد. وسأله عن"مكة"، فقال ابن شهاب:"مكة": الحرم كله. 7445- حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد قالا"بكة": بكّ فيها الرجالَ والنساءَ. 7446- حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي. قال: قال ضمرة بن ربيعة،"بكة": المسجد،. و"مكة": البيوت. (1) * * * وقال بعضهم بما:- 7447- حدثني به يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة" قال، هي مكة. * * * وقيل:"مباركًا"، لأن الطواف به مغفرةٌ للذنوب. (2) * * * فأما نصب قوله:"مباركا"، فإنه على الخروج من قوله:"وضع"، لأن في"وضع" ذكرًا من"البيت" هو به مشغول، وهو معرفة، و"مبارك" نكرة لا يصلح أن يتبعه في الإعراب. (3) * * *   (1) الأثر: 7446-"عبد الجبار بن يحيى الرملي" شيخ الطبري، مضى برقم: 7425. (2) هذا كلام الفراء في معاني القرآن 1: 227. (3) "الخروج" هنا، كأنه الحال، وقد سلف في 5: 253، 254 ما يشبه أن يكون أيضا بمعنى الحال. وانظر ما سلف 6: 586"أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله، فينصب كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي شغل بفاعله". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 وأما على قول من قال:"هو أول بيت وضع للناس"، على ما ذكرنا في ذلك قولَ من ذكرنا قوله، فإنه نصبٌ على الحال من قوله:"للذي ببكة". لأن معنى الكلام على قولهم: إن أول بيت وضع للناس البيتُ [الذي] ببكة مباركًا. فـ "البيت" عندهم من صفته"الذي ببكة"، و"الذي" بصلته معرفته، و"المبارك" نكرة، فنصب على القطع منه، في قول بعضهم = وعلى الحال في قول بعضهم. (1) و"هدى" في موضع نصب على العطف على قوله"مباركا". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه قرأة الأمصار: (فِيهِ أيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) على جماع"آية"، بمعنى: فيه علامات بيناتٌ. * * * وقرأ ذلك ابن عباس. (فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ) ، يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها: علامة واحدةٌ. * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فيه آيات بينات" وما تلك الآيات؟. فقال بعضهم: مقامُ إبراهيم والمشعرُ الحرام، ونحو ذلك. *ذكر من قال ذلك: 7448- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،   (1) "القطع" كأنه باب من الحال، انظر ما سلف 6: 270، 371، 415 وما قبلها في فهرس المصطلحات من الأجزاء السالفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فيه آيات بينات"، مقامُ إبراهيم، والمشعر. 7449- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة ومجاهد:"فيه آيات بينات مَقامُ إبراهيم" قال، مقامُ إبراهيم، من الآيات البينات. (1) * * * وقال آخرون:"الآيات البينات"، مقام إبراهيم ="ومن دخله كانَ آمنا". *ذكر من قال ذلك: 7450- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"فيه آيات بينات" قال،"مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا". وقال آخرون:"الآيات البينات"، هو مقام إبراهيم. *ذكر من قال ذلك: 7451- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله:"فيه آيات بَينات مقام إبراهيم" أما"الآيات البينات" فمقام إبراهيم. * * * قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوا ذلك:"فيه آية بينة" على التوحيد، فإنهم عنوا بـ "الآية البينة"، مقام إبراهيم. *ذكر من قال ذلك: 7452- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "إسحاق بن يحيى"، والصواب"الحسن بن يحيى"، وهو إسناد يدور دورانًا في التفسير أقربه رقم: 7442. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 نجيح، عن مجاهد:"فيه آية بينة"، (1) قال: قدمَاه في المقام آية بينة. يقول:"ومن دخله كان آمنا" قال، هذا شيء آخر. 7453- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد:"فيه آية بينة مقام إبراهيم" قال، أثر قدميه في المقام، آية بينة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال:"الآيات البينات، منهنّ مقام إبراهيم"، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما. فيكون الكلام مرادًا فيه"منهن"، فترك ذكرُه اكتفاء بدلالة الكلام عليها. * * * فإن قال قائل: فهذا المقامُ من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل:"آيات بينات"؟ قيل: منهنّ المقام، ومنهن الحجرُ، ومنهن الحطيمُ. * * * وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأه: (2) "فيه آياتٌ بيناتٌ"، على الجماع، لإجماع قرأة أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها. * * * وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل:"مقام إبراهيم"، فقد ذكرناهُ في"سورة البقرة"، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك، وأنه عندنا المقامُ المعروف به. (3) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فيه آيات بينات"، وهو هنا يذكر قول مجاهد في قراءة ابن عباس على الإفراد، فكتبها الناسخ على قراءته بالجمع. ورددتها إلى ما ينبغي، ودليل ذلك السهو من الناسخ في الأثر التالي. (2) في المطبوعة: "من قرأ". وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر ما سلف 3: 33-37. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 فتأويل الآية إذًا: إن أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدًى للعالمين، للَّذي ببكة، فيه علاماتٌ بيناتٌ من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم، منهن أثر قَدَم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قامَ عليه. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: الخبرُ عن أنّ كل من جرّ في الجاهلية جريرةً ثم عاذَ بالبيت، لم يكن بها مأخوذًا. *ذكر من قال ذلك: 7454- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ومن دخله كان آمنا"، وهذا كان في الجاهلية، كان الرّجل لو جرّ كل جريرة على نفسه، ثم لجأ إلى حَرَم الله، لم يُتناول ولم يُطلب. فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، مَنْ سَرَق فيه قطع، ومن زَنى فيه أقيمَ عليه الحدّ، ومن قَتل فيه قُتل = وعن قتادة: أن الحسن كان يقول: إنّ الحرم لا يمنع من حدود الله. لو أصاب حدًّا في غير الحرم، فلجأ إلى الحرم، لم يمنعه ذلك أن يُقام عليه الحدّ. * * * *ورأى قتادةُ ما قاله الحسن. 7455- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ومن دخله كان آمنًا" قال، كان ذلك في الجاهلية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 فأما اليوم، فإن سرق فيه أحدٌ قطع، وإن قتل فيه قُتل، ولو قدِر فيه على المشركين قتِلوا. 7456- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا خصيف، عن مجاهد = في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم = قال: يؤخَذ، فيخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد. يقول: القتل. 7457- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مجاهد. 7458- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن وعطاء = في الرجل يصيب الحدّ ويلجأ إلى الحرم = يُخرج من الحرم، فيقامُ عليه الحد. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقامُ إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمنًا بها في الجاهلية. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يَدْخله يكن آمنًا بها = بمعنى الجزاء، كنحو قول القائل."من قامَ لي أكرمته"، بمعنى: من يَقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمرٌ كان في الجاهلية، كان الحرمُ مَفزَع كل خائف. وملجأ كل جانٍ، لأنه لم يكن يُهاج به ذو جريرة، ولا يَعرِض الرّجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زادَه تعظيمًا وتكريمًا. *ذكر من قال ذلك: 7459- حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا مجاهد قال، قال ابن عباس: إذا أصاب الرجل الحدَّ: قتل أو سرق، فدخل الحرم، لم يُبايع ولم يُؤوَ، حتى يتبرّم فيخرج من الحرم، فيقام عليه الحد. قال. فقلت لابن عباس: ولكني لا أرَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 ذلك! أرى أن يؤخذ برمُتّه، (1) ثم يخرج من الحرَم، فيقام عليه الحد، فإن الحرم لا يزيده إلا شدّة. 7460- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: أخذَ ابن الزبير سعدًا مولى معاوية -وكان في قلعة بالطائف- فأرسل إلى ابن عباس من يُشاوره فيهم: إنهم لنا عَدوّ. (2) فأرسل إليه ابن عباس: لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له. قال: فأرسل إليه ابن الزبير: ألا نخرجهم من الحرم؟ قال: فأرسل إليه ابن عباس: أفلا قبل أن تدخلهم الحرم؟ = زاد أبو السائب في حديثه: فأخرجهم فصلبهم، ولم ينظر إلى قول ابن عباس. (3) 7461- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: من أحدَثَ حَدَثًا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم لم يُعرَض له، ولم يبايع، ولم يكلَّم، ولم يؤوَ حتى يخرج من الحرم. فإذا خرج من الحرم، أخذ فأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث في الحرم حدَثًا أقيم عليه. (4)   (1) الرمة (بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة) : قطعة حبل يشد بها الأسير أو القاتل إذا قيد إلى القتل للقود. وقوله: أخذ برمته (بالبناء للمجهول) : أي أخذ قسرًا حتى يقتل. (2) في المطبوعة"لنا عين"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "لنا عرق"، ولم أجد لها وجهًا، وهي مصحفة، فرأيت أن أقرب ذلك إليها"عدو" فأثبتها، مع مخافتي أن لا تكون كذلك. (3) في المطبوعة: "ولم يصغ إلى قول ابن عباس"، وفي المخطوطة"لم ينطق إلى قول ابن عباس" وهي لا معنى لها، وهي مصحفة، وأقرب ما يكون صوابها، هو ما أثبته. هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان بعد الجهد، وقد أشاروا إلى خبر ابن عباس وابن الزبير في كثير من الكتب، ولكنهم لم يأتوا فيه بهذا النص. وقد روى الأزرقي في أخبار مكة 2: 111 معنى هذا الأثر فقال: "حدثنا أبو الوليد، قال حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء: أنكر ابن عباس قتل ابن الزبير سعدًا مولى عتبة وأصحابه ... " ولم يقل"مولى معاوية". وأخشى أن يكون"مولى عتبة"، يعني: عتبة بن أبي سفيان. وقد ذكر الطبري سعدًا مولى معاوية في تاريخه 6: 183، 184 فقال: "وكان على حجابه سعد مولاه". وهذا يحتاج إلى تحقيق لم يتيسر لي عند كتابة هذا. فأرجو أن أبلغ منه ما أريد إن شاء الله. (4) في المطبوعة: "أقيم عليه الحد"، زاد"الحد"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 7462- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نَصر السّلمي، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: من أحدث حدَثًا ثم استجار بالبيت فهو آمن، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج. فإذا خَرَج أقاموا عليه الحدّ. (1) 7463- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حجاج، عن عطاء عن ابن عمر قال: لو وجدتُ قاتل عمر في الحرَم، ما هِجْتُه. 7464- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن عطاء: أن الوليد بن عتبة أراد أن يُقيم الحدّ في الحرم، فقال له عُبيد بن عمير: لا تقم عليه الحد في الحرَم إلا أن يكون أصابه فيه. 7465- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مطرف، عن عامر قال: إذا أصاب الحدّ ثم هرب إلى الحرم، فقد أمن فإذا أصابه في الحرم، أقيم عليه الحدُّ في الحرم. 7466- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبي قال: من أصاب حدًّا في الحرم أقيم عليه في الحرم. ومن أصابه خارجًا من الحرم ثم دخل الحرم، لم يكلَّم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه. 7467- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير = وعن عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح = في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم = قال: لا يبيعه أهلُ مكة ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه = عد أشياء كثيرة = حتى   (1) الأثر: 7426-"إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي" هو التبان، مضى في مثل هذا الإسناد رقم: 3439، 3484، 3521."وابن أبي حبيبة"، هو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي. مضى فيها وفي رقم: 4319. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 يخرج من الحرَم، فيؤخذ بذنبه. 7468- حدثت عن عمار قال،: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنّ الرجل إذا أصاب حدًّا ثم دخل الحرم، أنه لا يُطعَم، ولا يُسقى، ولا يؤوَى، ولا يكلَّم، ولا ينكح، ولا يبايع. فإذَا خرج منه أقيم عليه الحد. 7469- حدثني المثني قال، حدثني حجاج قال،: حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا أحدث الرجل حدَثًا ثم دخل الحرم، لم يؤْوَ، ولم يجالس، ولم يبايع، ولم يطعَم، ولم يُسْق، حتى يخرج من الحرَم. 7470- حدثني المثني قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. 7471- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"ومن دخله كان آمنًا"، فلو أنّ رجلا قتلَ رجلا ثم أتى الكعبة فعاذّ بها، ثم لقيه أخو المقتول لم يحلّ له أبدًا أن يقتله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يَكن آمنًا من النار. *ذكر من قال ذلك: 7472- حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي قال، حدثنا زياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة في قوله:"ومن دخله كان آمنًا" قال، آمنًا من النار. (1) * * *   (1) الخبر: 7472- هذا أثر ليس بحجة في نفسه على أحد. هو قول في معنى الآية قاله تابعي، رأي من الآراء. فإن يحيى بن جعدة بن هبيرة القرشي المخزومي: تابعي ثقة. ولكنه في هذا الخبر لم يرو شيئًا عن غيره. إنما المشكل هنا رجال الإسناد! رزيق بن مسلم المخزومي: هكذا ثبت هنا في المطبوعة والمخطوطة، ولكن المخطوطة لم تنقط فيها الزاي، فاحتمل أن يكون"رزيق" بتقديم الراء، أو "زريق" بتقديم الزاي. ووقع في ابن كثير 2: 193، نقلا عن إسناد هذا الأثر من تفسير ابن أبي حاتم"زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم" - بتقديم الزاي. وليست مطبوعة ابن كثير بعمدة في التصحيح. ولم أجد لهذا الرجل ترجمة بعد طول البحث والعناء. إلا أن الحافظ الذهبي فرق في المشتبه، ص: 220 - 224 بين تقديم الراء وتأخيرها في هذا الرسم، مستوعبًا كل الأعلام فيه أو يكاد. وتبعه الحافظ في تحرير المشتبه (مخطوط) . وزاد عليه ما فاته. فقال الذهبي -في تقديم الراء-: "ورزيق بن هشام، عن زياد بن أبي عياش". ثم ذكر آخر، ثم قال: "ورزيق الأعمى، عن أبي هريرة. واه". وهذا الواهي مترجم بإيجاز في لسان الميزان. ولم أستطع الجزم بأن هذين أو أحدهما هو المذكور في هذا الإسناد. فإن اتفاق روايتي الطبري وابن أبي حاتم على تسميته"رزيق بن مسلم" - يبعد معه الظن بتحريفه عن"رزيق بن هشام". ولكن اتفاق اسم شيخه عند ابن أبي حاتم مع ما ذكره الذهبي يكاد يرجح أنه هو. وأما ترجيح أنه بتقديم الراء، خلافًا لما ثبت في مطبوعة ابن كثير، فمرده إلى ارتفاع الثقة بتصحيحها. وشيخه"زياد بن أبي عياش": لم أجد له ترجمة أيضًا، إلا ذكره في المشتبه والتحرير. وثبت في مطبوعة الطبري هنا"زياد بن أبي عياض"، بالضاد. وهو تحريف، صوابه ما في ابن كثير عن إسناد ابن أبي حاتم. وكذلك ثبت في مخطوطة الطبري، ولكن بدون نقط على الشين، كأنه"عباس". وهو خطأ واضح، أو تساهل في إعجام الحرف. ورجح إعجامه ثبوته بالشين معجمة في المشتبه والتحرير. وزادنا توثيقًا الحافظ حين نص عليه في تحرير المشتبه، فقال فيما زاده على الذهبي استكمالا لمن عرف باسم"عياش"-: "وزياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن، ومن قال:"معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذًا به، كان آمنًا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد، إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه. وإن كان أصابه فيه أقيمَ عليه فيه". * * * فتأويل الآية إذا: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيرًا به، يكن آمنًا مما استجارَ منه ما كان فيه، حتى يخرج منه. * * * فإن قال قائل: وما منعك من إقامة الحد عليه فيه؟ قيل: لاتفاق جميع السلف على أنّ من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه. وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها. فقال بعضهم: صفة ذلك: منعه المعانىَ التي يضطرّ مع منعه وفقدِه إلى الخروج منه. وقال آخرون: لا صفة لذلك غيرُ إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي تُوصِّل إلى إقامة حدّ الله معها. فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الحدّ فيه، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقامُ عليه فيه الحد. فكلتا المسألتين أصل مُجمَع على حكمهما على ما وصفنا. * * * فإن قال لنا قائل: وما دِلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت =إذا أتاه مستجيرًا به من جريرة جرّها. أو من حدٍّ أصابه= من الحرم، جائزٌ لإقامة الحد عليه، وأخذه بالجريرة، وقد أقررتَ بأن الله عز وجل قد جَعل من دخله آمنًا، ومعنى"الآمن" غير معنى"الخائف"؟ فبما هما فيه مختلفان؟ (1) . قيل: قلنا ذلك، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، على أنّ إخراج العائذ به =من جريرة أصابها أو فاحشةٍ أتاها وجبتْ عليه بها عقوبة منه= ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه، واجبٌ على إمام المسلمين وأهلِ الإسلام معه. (2) وإنما اختلفوا في السبب الذي يُخرَج به منه. فقال بعضهم: السبب الذي يَجوز إخراجه به منه: ترك جميع المسلمين مبايَعته وإطعامَه وسقيه وإيواءَه وكلامه، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قَرار للعائذ به   (1) في المطبوعة: "فيما هما فيه مختلفان"، وفي المخطوطة"فيما" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبته، على الاستفهام. يقول: فيم يختلف معنى الآمن ومعنى الخائف في الحرم؟ (2) سياق هذه الجملة: " ... على أن إخراج العائذ به ... ببعض معاني الإخراج. . واجب على إمام المسلمين ... ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 فيه مع بعضها، فكيف مع جميعها؟ وقال آخرون منهم: بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة، واجبٌ بكل معاني الإخراج. =فلما كان إجماعًا من الجميع على أنّ حكم الله -فيمن عاذ بالبيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها- إخراجه منه، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه، ثم اختلفوا في السبب الذي يَجوز إخراجُه به منه = كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه، حتى يقيموا عليه الحدّ الذي لزمه خارجًا منه إذا كان لجأ إليه من خارج، على ما قد بينا قبل. * * * وبعدُ، فإن الله عز وجل لم يضع حدًّا من حُدُوده عن أحد من خلقه من أجل بُقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك،. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: 7473- "إني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة". (1) * * * =ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذًا لو عَاذَ من عقوبة لزمته بحرَم النبي صلى الله عليه وسلم، يؤاخذ بالعقوبة فيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أنّ حرَم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذَ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه، لكان أحقّ البقاع أن تؤدَّى فيه فرائض الله التي ألزمها عبادَه من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلى الله، كحرم الله وحرَم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حَرَم الله لإقامة الحد، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثةً. * * *   (1) الأثر: 7473- رواه أبو جعفر بغير إسناد، وهو حديث صحيح، ولفظه في مسلم: 9: 134 والبخاري (الفتح 4: 290) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 فمعنى الكلام =إذ كان الأمر على ما وصفنا=: ومن دخله كان آمنًا ما كان فيه. فإذ كان ذلك كذلك، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذًا به، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه، وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه، فحينئذ هو غير داخله ولا هو فيه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وفرضٌ واجبٌ لله =على من استطاع من أهل التكليف السبيلَ إلى حجّ بيته الحرام= الحج إليه. * * * وقد بينا فيما مضى معنى"الحج"، ودللنا على صحة ما قلنا من معناه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل:"من استطاع إليه سبيلا"، وما السبيل التي يجبُ مع استطاعتها فرض الحج؟ فقال بعضهم: هي الزّاد والراحلة. *ذكر من قال ذلك: 7474- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"من استطاع إليه سبيلا" قال، الزاد والراحلة. 7475- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن   (1) انظر ما سلف 3: 228، 229 / 4: 21. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 جريج قال، قال عمرو بن دينار: الزاد والراحلة. 7476- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي جناب، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والبعير. (1) 7477- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، والسبيل، أن يصحّ بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحف به. 7478- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي عبد الله البجلي قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال قال ابن عباس: من ملك ثلثمائة درهم فهو السبيل إليه. 7479- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن إسحاق بن عثمان قال: سمعت عطاء يقول: السبيلُ، الزاد والراحلة. 7480- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"من استطاع إليه سبيلا"، فإن ابن عباس قال: السبيلُ، راحلةٌ وزادٌ. 7481- حدثني المثني وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة.   (1) الأثر: 7476-"أبو جناب الكلبي". هو"يحيى بن أبي حية"، واسم"أبي حية" حي. روي عن أبيه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والضحاك بن مزاحم، والحسن البصري وغيرهم. روى عنه الثوري، وابن عيينة، وهشيم، ووكيع وغيرهم. فتكلم فيه لأنه كان يدلس فأفسد أحاديثه، كان يحدث بما لم يسمع. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "أبو خباب"، وهو خطأ، وفي المخطوطة: "أبو خباب" غير منقوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 7482- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، أخبرنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: الزادُ والراحلة. 7483- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحسن قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا"، فقال رجلٌ: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة. * * * واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما قالوا في ذلك. *ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 7484- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث، عن ابن عمر قال: قام رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما السبيل؟ قال:"الزاد والراحلة". (1)   (1) الحديث: 7484- إبراهيم بن يزيد المكي الخوزي: ضعيف جدًا. ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم. "الخوزي" بضم الخاء المعجمة: نسبة إلى"شعب الخوز بمكة"، كما في اللباب وغيره. محمد بن عباد بن جعفر المخزومي المكي: تابعي ثقة. والحديث جزء من حديث مطول، رواه الترمذي 4: 81 - 82، عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي. وقد تكلم بعض أهل العلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه". ورواه قبل ذلك 2: 79، مختصرًا، من طريق وكيع، عن إبراهيم بن يزيد، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث حسن". ثم ذكر علته بإبراهيم الخوزي. ورواه الشافعي في الأم 2: 99 -مطولا- عن سعيد بن سالم، عن إبراهيم الخوزي. وأشار إلى ضعف إسناده. ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 330. ورواه ابن ماجه: 2896- مطولا أيضا - من طريق وكيع، عن إبراهيم الخوزي. وسيأتي عقب هذا، من رواية أبي حذيفة، عن سفيان، وهو الثوري، عن إبراهيم الخوزي. وكذلك رواه البيهقي 4: 327، من طريق ثلاثة أحدهم أبو حذيفة، عن سفيان. وذكره السيوطي 2: 55 - 56، مطولا، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه. وذكره ابن كثير 2: 195 - 196، من رواية الترمذي المطولة. ثم أشار إلى روايته الأخرى، وإلى رواية ابن ماجه. ثم قال: "لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، سوى الخوزي هذا، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث. لكن قد تابعه غيره". ثم ذكره من رواية ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عبد العزيز بن عبد الله العامري، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عمر - بهذا الحديث نحوه، مختصرًا. ثم كر أنه"رواه ابن مردويه، من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، به". وهذا الإسناد الآخر الذي نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم وابن مردويه - ضعيف أيضا: محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي: ضعيف جدا. قال البخاري في الكبير 1 / 1 / 142: "ليس بذاك الثقة". وروى ابن أبي حاتم 3 / 2 / 300 عن ابن معين قال: "ليس حديثه بشيء". وقال النسائي في الضعفاء، ص 26: "متروك الحديث". وانظر ترجمته في لسان الميزان 5: 216 - 217. وانظر الأحاديث الآتية: 7485 - 7491. وانظر أيضا قول الطبري، الآتي، ص: 45، "أنها أخبار في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 7485- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم الخوزي، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله عز وجل:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: السبيل إلى الحج، الزاد والراحلة. (1) 7486- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يونس =وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس= عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قالوا: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال."الزادُ والراحلة. (2)   (1) الحديث: 7485- أبو حذيفة: هو النهدي البصري، موسى بن مسعود. وقد مضى توثيقه: 280، 1693. سفيان: هو الثوري. والحديث مكرر ما قبله. وقد بينا هناك أن البيهقي رواه 4: 327، من طريق أبي حذيفة -هذا- وغيره، عن الثوري. (2) الحديث: 7486- هذا حديث مرسل عن الحسن البصري. وقد رواه الطبري هنا بإسنادين من طريق يونس، عن الحسن. وسيأتي: 7488، 7491، من رواية قتادة، عن الحسن. ثم: 7490، من رواية قتادة وحميد، عن الحسن. ورواه البيهقي 4: 327، 330، بأسانيد، عن الحسن. وذكره ابن كثير 2: 196، من رواية الطبري عن يعقوب، التي هنا - ثم قال: "ورواه وكيع في تفسيره، عن سفيان، عن يونس، به". وذكره السيوطي 2: 56، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والدارقطني. ونسي أن ينسبه لوكيع. ونقل الحافظ في التلخيص، ص: 202، عن أبي بكر بن المنذر، قال: "لا يثبت الحديث في ذلك مسندًا. والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة". يريد أن أسانيدها إلى الحسن أسانيد صحاح، لا أن الحديث المرسل صحيح، لأنه لا شك في ضعف الأحاديث المراسيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 7487- حدثنا أبو عثمان المقدمي والمثني بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي قال: حدثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ملك زادًا وراحلةً تبلغه إلى بيت الله فلم يحجّ فلا عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا، وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا" الآية. (1) 7488- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،   (1) الحديث: 7487- مسلم بن إبراهيم: هو الأزدي الفراهيدي الحافظ. مضى في: 1219. هلال بن عبد الله، أبو هاشم، مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي: ضعيف جدًا. قال البخاري"منكر الحديث". وقال الترمذي: "مجهول". ولم يذكروا له رواية إلا هذا الحديث. ولذلك أشار إليه المزي في التهذيب، والذهبي في الميزان. وقال ابن عدي: "هو معروف بهذا الحديث، وليس هو بمحفوظ". ووقع اسم أبيه في المطبوعة"عبيد الله". وهو خطأ، صوابه"عبد الله" بالتكبير. أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني. الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني. وهو ضعيف جدًا، كما بينا في: 174. والحديث رواه الترمذي 2: 78، عن محمد بن يحيى القطعي، عن مسلم بن إبراهيم، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفي إسناده مقال. وهلال بن عبد الله: مجهول. والحارث: يضعف في الحديث". وسيأتي هذا الحديث: 7489، من رواية شاذ بن فياض، عن هلال أبي هاشم، بهذا الإسناد. وقد ذكره ابن كثير 2: 197، من رواية ابن مردويه، من الوجهين اللذين رواه منهما الطبري: من رواية مسلم بن إبراهيم، وشاذ بن فياض. ونقل عن ابن عدي قال: هذا الحديث ليس بمحفوظ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 عن الحسن قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال له قائل، أو رجل: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: من وجد زادًا وراحلةً. 7489- حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا شاذ بن فياض البصري قال، حدثنا هلال أبو هاشم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادًا وراحلة فلم يحجّ ماتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. وذلك أن الله يقول في كتابه:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" الآية. (1) 7490- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة وحميد، عن الحسن، أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة. 7491- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا   (1) الحديث: 7489- أحمد بن الحسن بن جنيدب، أبو الحسن الترمذي، الحافظ العلم الرحال: ثقة من أصحاب أحمد بن حنبل، ومن شيوخ البخاري والترمذي. مترجم في التهذيب وطبقات الحنابلة لأبي يعلى 1: 37 - 38، وتذكرة الحفاظ 2: 106 - 107. "جنيدب": بضم الجيم وفتح النون، وبعد الدال المهملة باء موحدة. ووقع في تذكرة الحفاظ"جنيد" بحذف الباء، وهو خطأ طابع أو ناسخ، وثبت على الصواب في التهذيب، وأصله"تهذيب الكمال" مخطوط، والتقريب، والخلاصة. شاذ بن فياض اليشكري، أبو عبيدة البصري: ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره. وتكلم فيه بعضهم بغير حجة. واسمه"هلال بن فياض"، و"شاذ": لقب غلب عليه. وقد ترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 211، والصغير، ص: 238، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 78 - في اسم"هلال". هلال أبو هاشم: هو"هلال بن عبد الله، مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي" - كما بينا في: 7487. وثبت هنا في المطبوعة"هلال بن هشام". وهو خطأ واضح. والحديث مكرر: 7487، وقد أشرنا إليه هناك. وذكر ابن كثير 2: 197، أن ابن أبي حاتم رواه"عن أبي زرعة الرازي، حدثنا هلال بن الفياض، حدثنا هلال أبو هاشم ... " - إلخ" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. * * * وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج: الطاقةُ للوصول إليه. قالوا: (1) وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه: بامتناع الطريق من العدوّ الحائل، وبقلة الماء، وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بيَّنه الله عز وجل، بأن يكون مستطيعًا إليه السبيل، وذلك: الوصولُ إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده وإنْ أعوزَه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك. *ذكر من قال ذلك: 7492- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن خالد بن أبي كريمة، عن رجل، عن ابن الزبير قوله:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا" قال: على قدر القوة. 7493- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة، فإن كان شابًّا صحيحًا ليس له مال، فعليه أن يُؤاجر نفسه بأكله وغُفَّته حتى يقضي حجته به، (2) فقال له قائل: كلَّف الله الناسَ أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أنّ لبعضهم ميراثًا بمكة، أكان تاركَه؟ والله لانطلق إليه ولو حَبوًا!! كذلك يجبُ عليه الحج. 7494- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "قال"، والسياق بعد يقتضي ما أثبت. (2) في المطبوعة: "بأكله وعقبه حتى يقضي حجته"، وليس فيها"به"، وهي في المخطوطة، ومثل هذا في تفسير القرطبي 4: 148، إلا أنه قال: "بأكله أو عقبه"، ولم أجد لذلك معنى. وهي في المخطوطة"وعفته" غير منقوطة، فاستظهرت قراءتها"وغفته". والغفة (بضم الغين، وتشديد الفاء المفتوحة) : البلغة من العيش والقليل منه. وهي هنا أنسب معنى، فأثبتها كذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 جريج قال، قال عطاء: من وجد شيئًا يبلِّغه، فقد وَجد سبيلا كما قال الله عز وجل:."من استطاع إليه سبيلا". 7495- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن هذه الآية:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"؟ قال: السبيلُ، ما يسَّره الله. (1) 7496- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن: من وجد شيئًا يُبْلغه فقد استطاع إليه سبيلا. * * * وقال آخرون: السبيلُ إلى ذلك: الصحةُ. *ذكر من قال ذلك: 7497- حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثني بن إبراهيم قالوا، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري: أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: السبيلُ الصحةُ. * * * وقال آخرون بما:- 7498- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: من وجد قُوّة في النفقة والجسد والحُمْلان. (2) قال: وإن كان في جَسده ما لا يستطيع   (1) الأثر: 7495-"أبو هانئ"، هو: "عمر بن بشير أبو هانئ الهمداني". مضت ترجمته رقم: 4422، و"عامر" هو: عامر الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا شيء عجيب، كان"قال حدثنا أبو هانئ، قال حدثنا سهل بن عامر"، زاد"حدثنا" وجعل"سئل"، "سهل" وزاد بعدها"بن"، فكان خلطًا عجبًا. وسيأتي على الصواب برقم: 7516. (2) الحملان (بضم الحاء وسكون الميم) : ما يحمل عليه من الدواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 الحج، فليس عليه الحج، وإن كان له قوة في مال، كما إذا كان صحيحَ الجسد ولا يجد مالا ولا قوة، يقولون: لا يكلف أن يَمشي. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إنّ ذلك على قدر الطاقة. لأن"السبيل" في كلام العرب: الطريقُ، فمن كان واجدًا طريقًا إلى الحج لا مانعَ له منه من زَمانة، أو عَجز، أو عدوّ، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، أو ضعف عن المشي، فعليه فرضُ الحج، لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجدًا سبيلا =أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقًا الحجَّ، بتعذُّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه= فهو ممن لا يجدُ إليه طريقًا ولا يستطيعه. لأن الاستطاعة إلى ذلك، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزًا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيلَ. وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عز وجل لم يخصُص، إذ ألزم الناسَ فرضَ الحج، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلا بعموم الآية. فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه:"الزاد والراحلة"، فإنها أخبار: في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدّين. * * * قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة"الحج". فقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل المدينة والعراق بالكسر: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ) . * * * وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ) . * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 وهما لغتان معروفتان للعرب، فالكسر لغة أهل نجد، والفتح لغة أهل العالية. ولم نر أحدًا من أهل العربية ادّعى فرقًا بينهما في معنى ولا غيره، غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين؛ إلا ما:- 7499- حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال، قال حسين الجعفي"الحَج". مفتوح، اسم،"والحِج" مكسورٌ، عمل. (1) * * * وهذا قول لم أرَ أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت، من أنهما لغتان بمعنى واحد. * * * والذي نقول به في قراءة ذلك: أنّ القراءتين =إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره= فهما قراءتان قد جاءتا مجيءَ الحجة، فبأي القراءتين -أعني: بكسر"الحاء" من"الحج" أو فتحها- قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته. * * * وأما"مَنْ" التي مع قوله:"من استطاع"، فإنه في موضع خفض على الإبدال من"الناس". لأن معنى الكلام: ولله على من استطاع من الناس سبيلا إلى حجّ البيت، حَجُّه. فلما تقدم ذكر"الناس" قبل"مَنْ"، بيَّن بقوله:"من استطاع إليه سبيلا"، الذي عليه فرضُ ذلك منهم. لأن فرضَ ذلك على بعض الناس دون جميعهم. * * *   (1) الأثر: 7499-"حسين الجعفي" هو: "حسين بن علي بن الوليد"، سلفت ترجمته برقم: 29، 174، وفي المخطوطة والمطبوعة: "حسن الجعفي"، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جَحد ما ألزمه الله من فرض حَجّ بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خَلقه من الجن والإنس، كما: 7500- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن أبي المجالد قال، سمعت مقسمًا، عن ابن عباس في قوله:"ومن كفر"، قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه. 7501- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن عطاء = وجويبر، عن الضحاك في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"، قالا من جحد الحجّ وكفر به. 7502- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء قال، من جحد به. 7503- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عمران القطان، يقول: من زعم أن الحجّ ليس عليه. (1) 7504- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين"، قال: من أنكره، ولا يَرَى أن ذلك عليه حقًّا، فذلك كُفرٌ. 7505- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن كفر"، قال: من كفر بالحج.   (1) الأثر: 7503-"عمران القطان" هو: "عمران بن داور العمي" أبو العوام القطان، كان من أخص الناس بقتادة. روى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وأبو داود الطيالسي، وأبو عاصم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 7506- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من كفر بالحج، كفر بالله. 7507- حدثني المثني قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الحسن في قول الله عز وجل:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومَنْ كفر"، قال: من لم يره عليه واجبًا. (1) 7508- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن كفر"، قال: بالحج. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"أن لا يكون معتقِدًا في حجه أن له الأجرَ عليه، ولا أن عليه بتركه إثمًا ولا عقوبةً". *ذكر من قال ذلك: 7509- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني عبد الله بن مسلم، عن مجاهد في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"، قال: هُو ما إن حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا. 7510- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو ما إنْ حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا. 7511- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فِطْر، عن أبي داود نفيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"   (1) الأثر: 7507-"خالد"، هو"خالد بن الحارث الهجيمي". روي عن حميد الطويل وأيوب، وابن عون، وهشام بن حسان، وغيرهم. وروى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، والفلاس وغيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 فقام رجل من هذيل، فقال: يا رسول الله، من تركه كفر؟ قال: من تركه ولا يخاف عقوبته، ومن حجّ ولا يرجو ثوابه، فهو ذاك. (1) 7512- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، يقول: من كفر بالحج، فلم يَر حجه برًّا، ولا تركه مأثمًا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بالله واليوم الآخر. *ذكر من قال ذلك: 7513- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: سألته عن قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بالله واليوم الآخر. 7514- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله:"ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر. 7515- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: لما نزلت آية الحج، جَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان كلَّهم فقال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجُّوا، فآمنتْ به ملة   (1) الأثر: 7511-"أبو داود، نفيع"، هو: "نفيع بن الحارث، أبو داود الأعمى الهمداني القاص". روي عن عمران بن حصين ومعقل بن يسار وابن عباس وابن عمر. روى عنه أبو إسحاق والأعمش والثوري. قال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث". وقال النسائي: "ليس بثقة، ولا يكتب حديثه". وقال ابن حبان: "يروى عن الثقات الموضوعات توهمًا، لا يجوز الاحتجاج به" وقال ابن عبد البر: "أجمعوا على ضعفه، وكذبه بعضهم، وأجمعوا على ترك الرواية عنه". مترجم في التهذيب. و"فطر" هو"فطر بن خليفة" مضى مرارًا. وكان في المطبوعة: "مطر"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 واحدة، وهي من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآمن به، وكفرَتْ به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله. فأنزل الله عز وجل:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين". 7516- حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن قوله:"ومن كفر"، قال: من كفر من الخلق، فإن الله غنيّ عنه. (1) 7517- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قول الله:"ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر. 7518- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عنْ ابن أبي نجيح، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا) [سورة آل عمران: 85] ، فقالت الملل: نحن مسلمون! فأنزل الله عز وجل:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فحج المؤمنون، وقعد الكفار. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم. *ذكر من قال ذلك: 7519- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فقرأ:"إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركًا"، فقرأ حتى بلغ:"من استطاع إليه سبيلا ومن كفر"، قال: من كفر بهذه الآيات ="فإن الله غني عن العالمين"، ليس كما يقولون:"إذا   (1) الأثر: 7516- انظر إسناد الأثر السالف رقم: 7495 والتعليق عليه. (2) الأثر: 7518- مضى برقم: 7356. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 لم يحج وكان غنيًّا وكانت له قوة"، فقد كفر بها. (1) وقال قوم من المشركين: فإنا نكفر بها ولا نفعل! فقال الله عز وجل:"فإن الله غني عن العالمين". * * * وقال آخرون بما:- 7520- حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال، أخبرنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا حماد، عن حبيب بن أبي بقية، عن عطاء بن أبي رباح، في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من كفر بالبيت. (2) * * * وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتى يموت. *ذكر من قال ذلك: 7521- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"من كفر"، فمن وجدَ ما يحج به ثم لا يحجَّ، فهو كافر. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قولُ من قال:"معنى"ومن كفر"، ومن جحد فرضَ ذلك وأنكرَ وُجوبه، فإن الله غني عنه وعن حَجه وعن العالمين جميعًا". وإنما قلنا ذلك أولى به، لأن قوله:"ومن كفر" بعقب قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، بأن يكون خبرًا عن الكافر بالحج، أحقُّ منه بأن يكون خبرًا عن غيره، مع أنّ الكافر بفرض الحج على مَن فرضه   (1) قوله: "فقد كفر بها"، أي بهذه الآيات المذكورة في الآية. (2) الأثر: 7520-"إبراهيم بن عبد الله بن مسلم"،، و"أبو عمر الضرير" وهو: "حفص بن عمر البصري" مضت ترجمتهما برقم: 3562، و"حماد"، هو"حماد بن سلمة". وأما "حبيب بن أبي بقية" ويقال: "حبيب بن أبي قريبة" فهو: "حبيب المعلم" أبو محمد البصري. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة: "ثقة"، وقال أحمد: "ما أحتج بحديثه". مترجم في التهذيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 الله عليه، بالله كافر = وأن"الكفر" أصله الجحود، ومن كان له جاحدًا ولفرضه منكرًا، فلا شك إن حج لم يرجُ بحجه برًّا، وإن تركه فلم يحجّ لم يره مأثمًا. فهذه التأويلات، وإن اختلفت العبارات بها، فمتقاربات المعاني. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الدِّيانة بما أنزلَ الله عز وجل من كتبه، ممن كفَر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوَّته: ="لم تكفرون بآيات الله"، يقول: لم تجحدونُ حجج الله التي آتاها محمدًا في كتبكم وغيرها، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوَّته وحُجته. (1) وأنتم تعلمون: يقول: لم تجحدون ذلك من أمره، وأنتم تعلمون صدقه؟ (2) فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمِّدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم، ومعرفةٍ من كفرهم، وقد: 7522- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله"، أما"آيات الله"، فمحمد صلى الله عليه وسلم. 7523- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون"، قال: هم اليهودُ والنصارى. * * *   (1) هذه العبارة، هي هي في المخطوطة والمطبوعة، وأنا في شك منها، وإن كانت قريبة من الاستقامة على بعض وجه الكلام. (2) ظاهر أن أبا جعفر وهم، وترك تفسير بقية هذه الآية، وفسر مكانها"وأنتم تعلمون"، وهي ليست من هذه الآية في شيء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله: ="لم تصدُّون عن سبيل الله"، يقول: لم تضِلُّون عن طريق الله ومحجَّته التي شرَعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان= (1) "من آمن"، يقول: من صدّق بالله ورَسوله وما جاء به من عند الله="تبغونها عوجًا"، يعني: تبغون لها عوجًا. * * * "والهاء والألف" اللتان في قوله:"تبغونها" عائدتان على"السبيل"، وأنثها لتأنيث"السبيل". * * * ومعنى قوله:"تبغون لها عوجًا"، من قول الشاعر، وهو سحيم عبدُ بني الحسحاس بَغَاك، وَمَا تَبْغِيهِ حَتَّى وَجَدْتَهُ ... كأَنِّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أَمْسِ مَوْعِدَا (2) يعني: طلبك وما تطلبه. (3) يقال:"ابغني كذا"، يراد: ابتغه لي. فإذا أرادوا أعِنِّي على طلبه وابتغه معي قالوا:"أبغني" بفتح الألف. وكذلك يقال:"احلُبْني"، بمعنى: اكفني الحلب -"وأحلبني" أعني عليه. وكذلك جميع ما وَرَد من هذا النوع، فعلى هذا. (4) * * * وأما"العِوَج" فهو الأوَد والميْل. وإنما يعني بذلك: الضلال عن الهدى. * * *   (1) انظر معنى"الصد" فيما سلف 4: 300. (2) سلف تخريجه في 4: 163، تعليق: 2. (3) انظر تفسير"بغى" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / 6: 196، 564، 570. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 227، 228. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 يقول جل ثناؤه: لم تصدُّون عن دين الله مَنْ صَدّق الله ورسوله تبغون دينَ الله اعوجاجًا عن سننه واستقامته؟ وخرج الكلام على"السبيل"، والمعنى لأهله. كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحق، عوجا = يقول: ضلالا عن الحق، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجَّة. * * * "والعِوج" بكسر أوله: الأوَد في الدين والكلام."والعَوَج" بفتح أوله: الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم. (1) * * * وأما قوله:"وأنتم شهداء". فإنه يعني: شهداء على أنّ الذي تصدّون عنه من السبيل حقٌّ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم ="وما الله بغافل عما تعملون"، يقول: ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجَّلة، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقَوْهُ فيجازيكم عليها. * * * وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله" والآياتُ بعدَهما إلى قوله:"فأولئك لهم عذاب عظيم"، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيَّين من الأوس والخزرج بعد الإسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء. فعنَّفه الله بفعله ذلك، وقبَّح له ما فعل ووبَّخه عليه، ووعظ أيضًا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف. *ذكر الرواية بذلك:   (1) انظر مجاز القرآن 1: 98. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 7524- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني الثقة، عن زيد بن أسلم، قال: مرّ شأسُ بن قيس = وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، (1) عظيمَ الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديدَ الحسد لهم = على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه. فغاظه ما رأى من جَماعتهم وألفتهم وصَلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قَيْلة بهذه البلاد! (2) لا والله ما لنا معهم، إذا اجتمع ملأهم بها، من قرار! (3) فأمر فَتى شابًّا من يهودَ وكان معه، (4) فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، وذَكّرهم يَوْم بعاث وما كان قبله، وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه من الأشعار =وكان يوم بُعَاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفرُ فيه للأوس على الخزرج= ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجُلان من الحيَّين على الرُّكَب: أوسُ بن قَيْظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس - وجبّار بن صخر، أحد بني سَلمة من الخزرج. فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رَدَدْناها الآن جَذَعَةً! (5) وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ!! موعدُكم الظاهرة =والظاهرةُ: الحَرَّة= فخرجوا إليها. وتحاوز الناس. (6) فانضمت الأوس بعضها إلى بعض،   (1) عسا الشيخ يعسو عسوا وعسيًا: كبر وأسن، ويقال أيضًا في مثله"عتا". وقوله: "في الجاهلية" ليست في نص ابن هشام عن ابن إسحاق. (2) الملأ: الرؤساء وأشراف القوم ووجوههم ومقدموهم، الذين يرجع إلى قولهم ورأيهم. وبنو قيلة: هم الأنصار من الأوس والخزرج، وقيلة: اسم أم لهم قديمة، هي قيلة بنت كاهل، سموا بها. (3) في المطبوعة: "والله مالنا"، أسقط"لا"، وهي في المخطوطة وابن هشام. (4) في المطبوعة: "من اليهود"، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. (5) ردها جذعة: أي جديدة كما بدأت. والجذع والجذعة: الصغير السن من الأنعام، أول ما يستطاع ركوبه. يعني أعدناها شابة فتية. (6) "تحاوز الناس"، مثل"تحوز وتحيز وانحاز"، أي تنحى ناحية وانضم إلى جماعته، والذي يلي هذه الكلمة هو تفسيرها قوله: "فانضمت الأوس ... " وفي المطبوعة: "تحاور" بالراء، ولا معنى لها هنا. والجملة كلها من أول قوله"وتحاوز ... " إلى"التي كانو عليها في الجاهلية" مما أسقطه ابن هشام من نص ابن إسحاق، وليس في السيرة. ونص الطبري هنا أتم من نص ابن هشام في مواضع من هذا الأثر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال:"يا معشرَ المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم بعد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيدٌ من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكَوْا، وعانقَ الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيدَ عدوِّ الله شَأس بن قيس وما صنع. فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع:"قل يا أهل الكتاب لم تكفرُون بآيات الله والله شهيدٌ على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا" (1) الآية. وأنزل الله عز وجل في أوس بن قَيْظيّ وجبّار بن صخر ومَنْ كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية: (2) "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين" إلى قوله:"أولئك لهم عذابٌ عظيم". (3) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة، أسقط الناسخ"قل" من أول الآيتين سهوا منه. (2) في المطبوعة: "مما أدخل عليهم ... "، غيروا ما في المخطوطة، وهو المطابق لنص ابن هشام. وقوله: "عما أدخل عليهم"، أي بسبب ما أدخل عليهم ومن جرائه ومن أجله. و"عن" تأتي بهذا المعنى في كلامهم. (3) الأثر: 7524- سيرة ابن هشام 2: 204 - 206، وهو بقية الآثار السالفة التي كان آخرها رقم: 7333، 7334. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 وقيل: إنه عنى بقوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات، والنصارى = وأن صدّهم عن سبيل الله كانَ بإخبارهم من سألهم عن أمر نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم: هل يجدون ذكره في كتبهم؟. أنهم لا يجدون نعتَه في كتبهم. *ذكر من قال ذلك: 7525- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا"، كانوا إذا سألهم أحدٌ: هل تجدون محمدًا؟ قالوا: لا! فصدّوا عنه الناس، وبغوْا محمدًا عوجًا: هلاكًا. 7526- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، يقول: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله، من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله: أن محمدًا رسول الله، وأنّ الإسلام دين الله الذي لا يَقبل غيره ولا يجزى إلا به، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل. 7527- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه. 7528- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، قال: هم اليهودُ والنصارى، نهاهم أنْ يصدّوا المسلمين عن سبيل الله، ويريدون أن يعدِلوا الناسَ إلى الضلالة. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية على ما قاله السدي: يا معشر اليهود، لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 تصدّون عن محمد، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به، بكتمانكم صفتَه التي تجدونها في كتبكم؟. و"محمد" على هذا القول: هو"السبيل"، ="تبغونَها عوجًا"، تبغون محمدًا هلاكًا. وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك، فإنه نحو التأويل الذي بيّناه قبل: من أن معنى"السبيل" التي ذكرها في هذا الموضع: الإسلام، وما جاء به محمد من الحقّ من عند الله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك. فقال بعضهم: عنى بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، الأوس والخزرج، وبـ "الذين أوتوا الكتاب"، شأس بن قيس اليهودي، على ما قد ذكرنا قبلُ من خبره عن زيد بن أسلم. (1) * * * وقال آخرون، فيمن عُني بالذين آمنوا، مثل قول زيد بن أسلم = غير أنهم قالوا: الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى همّوا بالقتال ووجد اليهوديّ به مغمزًا فيهم: ثعلبة بن عَنَمة الأنصاري. (2) *ذكر من قال ذلك: 7529- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا   (1) هو الأثر السالف رقم: 7524. (2) في المطبوعة: "بن غنمة"، والصواب بالعين المهملة، وهي في المخطوطة تحتها حرف"ع"، وهو الصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين"، قال: نزلت في ثعلبة بن عَنمة الأنصاري، (1) كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام، فمشى بينهم يهوديٌّ من قَيْنُقاع، فحمَل بعضَهم على بعضٍ، (2) حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاحَ فيقاتلوا، فأنزل الله عز وجل:"إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين"، يقول: إن حملتم السلاحَ فاقتتلتم، كفرتم. 7530- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب"، قال: كان جِماعُ قبائل الأنصار بطنين: الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حربٌ ودماء وشنَآنٌ، حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم، وألفَّ بينهم بالإسلام. قال: فبينا رجل من الأوس ورجلٌ من الخزرج قاعدان يتحدّثان، ومعهما يهوديّ جالسٌ، فلم يزل يذكِّرهما أيامهما والعداوةَ التي كانت بينهم، حتى استَبَّا ثم اقتتلا. قال: فنادى هذا قومه وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصفَّ بعضهم لبعض. قال: ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ يومئذ بالمدينة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم، حتى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"عذابٌ عظيم". * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتابَ من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يُضِلُّوكم   (1) انظر ص 58 تعليق 2. (2) حمل بني فلان على بني فلان: إذا أرش بينهم وأوقع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 فيردّوكم بعد تصديقكم رسولَ ربكم، وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم، كافرين = يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدَّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جَلّ ثناؤه: أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيًا أو مشورةً، ويعلِّمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوُون على غِلٍّ وغِش وحسد وبغض، كما: 7531- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين"، قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذَّركم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأتمنوهم على دينكم، ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداءُ الحسَدَة الضُّلال. كيف تأتمنون قومًا كفروا بكتابهم، وقتلوا رُسلهم، وتحيَّروا في دينهم، وعجزوا عَنْ أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التُّهَمة والعداوة! 7532- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. * * * الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وكيف تكفرون"، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدّوا على أعقابكم ="وأنتم تتلى عليكم آيات الله"، يعني: حججُ الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ="وفيكم رسوله" حجةٌ أخرَى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ، ويبصِّركم الهدَى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال؟. يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عُذْركم عند ربكم في جحودكم نبوَّة نبيِّكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم، إنْ أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة والآياتُ البينة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه؟ كما:- 7533- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله" الآية، علَمان بيِّنان: وُجْدان نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكتابُ الله. فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم. وأما كتاب الله، فأبقاه الله بين أظهُركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. * * * وأما قوله:"ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني: ومن يتعلق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته ="فقد هدى"، يقول: فقد وُفِّق لطريق واضح، ومحجةٍ مستقيمة غير معوجَّة، فيستقيم به إلى رضى الله، وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته، كما:- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 7534- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ومن يعتصم بالله فقد هدى" قال: يؤمن بالله. * * * وأصل"العَصْم" المنع، فكل مانع شيئًا فهو"عاصمه"، والممتنع به"معتصمٌ به"، ومنه قول الفرزدق: أَنَا ابنُ العَاصِمينَ بَنِي تَمِيم ... إذَا مَا أَعْظَمُ الحَدَثَانِ نَابَا (1) ولذلك قيل للحبل"عِصام"، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته"عِصام"، ومنه قول الأعشى: إلَى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى ... وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عُصمْ (2) يعني بـ "العُصم" الأسباب، أسبابَ الذمة والأمان. يقال منه:"اعتصمت بحبل من فلان" و"اعتصمتَ حبلا منه" و"اعتصمت به واعتصمته"، وأفصح اللغتين إدخال"الباء"، كما قال عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) ، وقد جاء:"اعتصمته"، كما الشاعر: (3) إذَا أَنْتَ جَازَيْتَ الإخاءَ بِمِثْلِهِ ... وَآسَيْتَنِي، ثمَّ اعْتَصَمْتَ حِبَالِيَا (4)   (1) ديوانه: 115، والنقائض: 451، مطلع قصيدة ينقض بها هجاء جرير. (2) ديوانه: 29 من قصيدته في ثنائه على صاحبه قيس بن معد يكرب الكندي، وقد مضت منها أبيات في 1: 242 / 5: 422. والسرى: سير الليل كله. والعصم جمع عصام، وهكذا ضبط في شعره، وجائز أن يضبط"عصم" (بكسر العين وفتح الصاد) جمع"عصمة" (بكسر العين وسكون الصاد) وكلاهما مجاز في معنى العهود. وقوله: "وآخذ من كل حي عصم"، يعني أن سطوة قيس في الأحياء، ورهبته في صدورهم، تجعل له عند كل حي عهدًا يأخذه ليجوز به أرضهم آمنًا، لا يمسه أحد ولا ينال منه. وسيأتي مثل هذا المعنى في بيت آخر يأتي بعد قليل ص: 70، تعليق: 3. (3) لم أعرف قائله. (4) معاني القرآن للفراء 1: 228، وضبطه"ثم" هكذا، وبقى جواب"إذا" في بيت بعده فيما أرجح. ولو قرأته"ثم" بفتح الثاء، أي هناك، كان جواب"إذا"، "اعتصمت حباليا". وتم البيت، وانفرد عما بعده. ولكني لا أستطيع أن أرجح هذا حتى أعرف بقية الأبيات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 فقال:"اعتصمت حباليا"، ولم يدخل"الباء". وذلك نظير قولهم:"تناولت الخِطام، وتناولت بالخطام"، و"تعلَّقت به وتعلقته"، كما قال الشاعر: (1) تَعَلَّقَتْ هِنْدًا ناشِئًا ذَاتَ مِئْزَرٍ ... وَأَنْتَ وَقَدَ قَارَفْتَ، لم تَدْرِ مَا الحِلْمُ (2) * * * وقد بينت معنى"الهدى"،"والصراط"، وأنه معنيّ به الإسلام، فيما مضى قبل بشواهده، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (3) * * * وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تَحاوُز القبيلين (4) الأوس والخزرج، كان منْ قوله: (5) "وكيف تكفرُون وأنتم تتلى عليكم آيات الله". *ذكر من قال ذلك: 7535- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأغرّ بن الصبّاح، عن خليفة بن حُصَين، عن أبي نصر، عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، (6)   (1) لم أعرف قائله. (2) معاني القرآن 1: 228. يقال: "غلام ناشئ، وجارية ناشئة"، ولكنه وصف"هندًا" على التذكير فقال: "ناشئًا"، وقد زعم الليث أنه لم يسمع هذا النعت في الجارية، فكأن الشاعر وصفها به، وأمره على التذكير. وقوله: "وقد قارفت"، أي قاربت ودنوت من الكبر، والجملة حال معترضة. يقول: تعلقها صغيرة لم تحجب بعد، وبلغت ما بلغت، ولم تدر بعد ما الحلم، وهو الأناة والعقل ومفارقة الصبا وطيش الشباب. (3) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف 1: 166 - 170، وفهارس اللغة / وانظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170 - 177 وفهارس اللغة. (4) في المطبوعة: "تحاور"، وقد أسلفت قراءتي لهذا الحرف وبيانه فيما سلف: ص55 تعليق: 6، وفي المطبوعة: "القبيلتين" بالتاء، وأثبت ما في المخطوطة. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "كان منه قوله"، وهو خطأ، والصواب ما في المخطوطة. ويعني أن الآيات التي نزلت في شأن تحاوز الأوس والخزرج واقتتالهما، كان من أول هذه الآية، لا الآيتين قبلها. (6) قوله: "كل شهر"، هكذا جاء في المخطوطة واضحا، والذي في الدر المنثور 2: 58: "كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر"، وفي القرطبي 4: 156: "كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية"، ويخشى أن يكون ما في المخطوطة: "كل شهر"، تصحيف"وكل شر"، ولكن ليس هذا موضع الرأي، فإن الذين نقلوا هذا الأثر فيما بين يدي، لم ينقلوه بإسناده هذا، ولا بتمام لفظه كما هنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 فبينما هم جلوس إذْ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذه الآية:"وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله" إلى آخر الآيتين،"واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً" إلى آخر الآية. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر من صدّق الله ورسوله ="اتقوا الله"، خافوا الله ورَاقبوه بطاعته واجتناب معاصيه ="حقّ تُقاته"، حقّ خوفه، (2) وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويُذكر فلا يُنسى =   (1) الأثر: 7535-"حسن بن عطية بن نجيح القرشي"، سلفت ترجمته في رقم: 4962. و"قيس بن الربيع الأسدي" أبو محمد الكوفي. روي عن أبي إسحاق السبيعي، والأغر بن الصباح، وسماك بن حرب وغيرهم. روى عنه الثوري، وهو من أقرانه، وشعبة، ومات قبله، وعبد الرزاق ووكيع. تكلموا فيه، وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. وضعفه آخرون وقالوا: "ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به". مترجم في التهذيب. و"الأغر بن الصباح التميمي المنقري". روى عن خليفة بن حصين، روى عنه الثوري وقيس بن الربيع، وأبو شبيبة. قال ابن معين والنسائي: "ثقة"، وقال أبو حاتم"صالح" مترجم في التهذيب. و"خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم التميمي المنقري" روى عن أبيه وجده، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن أرقم، وأبي نصر الأسدي. وروى عنه الأغر بن الصباح. ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو نصر الأسدي". روي عن ابن عباس، وعنه خليفة بن حصين. قال البخاري: "لم يعرف سماعه من ابن عباس"، وقال أبو زرعة: "أبو نصر الأسدي الذي يروي عن ابن عباس: ثقة". مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 76، وأشار إلى هذا الأثر، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 448. (2) انظر القول في بيان"تقاة" فيما سلف 6: 313 - 317. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 "ولا تموتن"، أيها المؤمنون بالله ورسوله ="إلا وأنتم مسلمون" لربكم، مذعنون له بالطاعة. مخلصون له الألوهةَ والعبادة. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7536- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري = عن زبيد، عن مُرّة، عن عبد الله:"اتقوا الله حق تقاته"، قال: أن يطاع فلا يُعصي، ويُذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر. (2) 7537- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله. 7538- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله. 7539- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل البَكيليّ، عن عبد الله بن مسعود، مثله. (3) 7540- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا جرير، عن زبيد، عن عبد الله، مثله.   (1) في المطبوعة: "الألوهية"، وهي صواب، وأثبت ما في المخطوطة، وهي صواب أيضا بمعناها، ولكن هكذا يكتبها أبو جعفر، وانظر ما سلف 6: 275، تعليق: 2. (2) الأثر: 7537- والآثار التي تليه أسانيد مختلفة لهذا الأثر. وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي نعيم، عن مسعر، وهو الأثر رقم: 7541، وليس فيه"ويشكر فلا يكفر"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. (3) الأثر: 7539- في المطبوعة: "مرة بن شراحيل الهمداني". غير ما في المخطوطة، وكلاهما صحيح وصواب، وانظر الأثر رقم: 2521، والتعليق عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 7541- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، مثله. 7542- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن المسعودي، عن زبيد الأيامي، عن مرة، عن عبد الله، مثله. 7543- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، مثله. 7544- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون:"اتقوا الله حق تقاته"، قال: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. (1) 7545- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو ابن ميمون، نحوه. 7546- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة، عن مرة، عن الربيع بن خُثَيم قال: أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. 7547- حدثنا المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن الربيع بن خُثيم في قول الله عز وجل:"اتقوا الله حق تقاته"، فذكره نحوه. (2) 7548- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) الأثر: 7544-"يحيى" هو: "يحيى بن أبي بكير الأسدي" مضى في رقم: 5797، "وسفيان" هو الثوري، و"أبو إسحاق" هو: أبو إسحاق السبيعي، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "حدثنا يحيى بن سفيان"، وليس في الرواة من يسمى بهذا، والصواب ما أثبته. (2) الأثران: 7546، 7547 -"الربيع بن خثيم الثوري" مضت ترجمته في رقم: 1430، وكان في المطبوعة"بن خيثم"، وهو خطأ مضى مثله في الأثر الآخر، وفي مواضع غيره، وصححته من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 قيس بن سعد، عن طاوس:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، أن يطاع فلا يُعصى. 7549- حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته"، قال:"حق تقاته"، أن يطاع فلا يُعصى. 7550- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم تقدم إليهم -يعني إلى المؤمنين من الأنصار-. فقال:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أما"حق تقاته"، يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر. 7551- حدثني المثني قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، أن يطاع فلا يعصى، قال:"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون". * * * وقال آخرون: بل تأويل ذلك، كما:- 7552- حدثني به المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اتقوا الله حق تقاته"، قال:"حق تقاته"، أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومةُ لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل هي منسوخة أم لا؟   (1) الأثر: 7552- رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 88، مع بعض الخلاف في لفظه. وفي المخطوطة: "أن تجاهد في الله" بالإفراد، والسياق يقتضي الجمع، وجاءت على الصواب في المطبوعة وفي الناسخ والمنسوخ، إلا أنه قال: "أن تجاهدوا ... ولا يأخذكم ... وتقوموا ... ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم" على الخطاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 فقال بعضهم: هي محكمة غيرُ منسوخة. *ذكر من قال ذلك: 7553- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اتقوا الله حق تقاته" أنها لم تنسخ، ولكن"حق تقاته"، أن تجاهدَ في الله حق جهاده = ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه عنه آنفًا. (1) 7554- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن طاوس:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. 7555- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال طاوس قوله:"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، يقول: إن لم تتقوه فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. * * * وقال آخرون: هي منسوخة، نسخها قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة التغابن: 16] . *ذكر من قال ذلك: 7556- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ثم أنزل التخفيف واليسر، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه فقال: (فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، فجاءت هذه الآية، فيها تخفيفٌ وعافيةٌ ويُسر. 7557- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال،   (1) الأثر: 7553- هو الأثر السالف، وفي المخطوطة والمطبوعة: "أن تجاهد"، وانظر التعليق السالف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 حدثنا همام، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، قال: نسختها هذه الآية التي في"التغابن": (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) ، وعليها بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطاعوا. 7558- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت:"اتقوا الله حق تقاته"، ثم نزل بعدها: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْْ) ، فنسخت هذه الآية التي في"آل عمران". 7559- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، فلم يطق الناسُ هذا، فنسخه الله عنهم، فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) 7560- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، قال: جاء أمر شديد! قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف أنه قد اشتد ذلك عليهم، نسخها عنهم، وجاء بهذه الأخرى فقال: (فاتَّقُوا اللهَ مَا استَطَعْتُمْ) فنسخها. (1) * * *   (1) ترك أبو جعفر رضي الله عنه، ترجيح أحد القولين على الآخر، وكان حقًا عليه أن يبينه. وقد بينه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 88، 89، قال بعد سياقه الأثر: 7542، وروايته عن قول قتادة: "قال أبو جعفر: محال أن يقال هذا ناسخ ولا منسوخ إلا على حيلة، وذلك أن معنى نسخ الشيء: إزالته والمجيء بضده، فمحال أن يقال: "اتقوا لله" منسوخ، ولا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه بيان الآية، كما قرأ على أحمد بن محمد بن الحجاج، عن يحيى بن سليمان قال، حدثنا أبو الأحوص قال، حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"، أفلا ترى أنه محال أن يقع في هذا نسخ ... قال أبو جعفر: "فكل ما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه، ولا يقع فيه نسخ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا" وكذا على المسلمين - كما قال ابن مسعود: "أن تطيعوا الله فلا تعصوه، وتذكروه فلا تنسوه، وأن تشكروه فلا تكفروه، وأن تجاهدوا فيه حق جهاده. وأما قول قتادة، مع محله من العلم: أنها نسخت، فيجوز أن يكون معناه: نزلت: فاتقوا الله ما استطعتم - بنسخه: اتقوا الله حق تقاته، وأنها مثلها، لأنه لا يكلف أحدًا إلا طاقته". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 وأما قوله:" ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، فإن تأويله كما:- 7561- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن طاوس:" ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، قال: على الإسلام، وعلى حُرْمة الإسلام. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعًا. يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسَّكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عَهده إليكم في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله. * * * وقد دللنا فيما مضى قبلُ على معنى"الاعتصام" (2) * * * وأما"الحبل"، فإنه السبب الذي يوصَل به إلى البُغية والحاجة، ولذلك سمي الأمان"حبلا"، لأنه سبب يُوصَل به إلى زوال الخوف، والنجاة من الجزَع والذّعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ ... أَخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَها (3)   (1) انظر تفسير أبي جعفر في نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 96، 97. (2) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف قريبا ص: 62، 63. (3) ديوانه: 24، ومشكل القرآن: 358، والمعاني الكبير: 1120، واللسان (حبل) وغيرها. من قصيدته في قيس بن معد يكرب، ومضت منها أبيات في 4: 238، 327، وهذا البيت في ذكر ناقته، يقول قبله: فَتَرَكْتُها بَعْدَ المِرَاحِ رَذِيةً ... وَأَمِنْتُ عِنْدَ رُكُوبِهَا إِعْجَالَها فَتَنَاوَلتْ قَيْسًا بِحُرِّ بِلادِه ... فأتَتْهُ بَعْدَ تَنُوفَةٍ فأَنَالَهَا فإِذَا تُجَوِّزُهَا ............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد مضى قبل مثل هذا البيت الأخير ص: 62، تعليق: 2 إلَى المرءِ قيسٍ أُطِيلُ السُّرَى ... وَآخذُ من كُلّ حَيٍّ عُصُمْ يقول: إذا أخذت من قبيلة عهودها حتى أجتاز ديارها آمنًا، أعطتها القبيلة التي تليها عهدًا وذمامًا أن تخترق ديارها آمنة لا ينالها أحد بسوء. وذلك أن القبائل كلها ترهب قيسًا وتخافه، فكل قاصد إليه، أجد الأمان حيث سار، لأنه بقصده قيسًا جار له، لا يطيق أحد أن يناله بسوء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 ومنه قول الله عز وجل: (إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [سورة آل عمران: 112] * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7562- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: الجماعة. 7563- حدثنا المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن العوّام، عن الشعبي، عن عبد الله في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: حبلُ الله، الجماعة. * * * وقال آخرون: عنى بذلك القرآنَ والعهدَ الذي عَهِدَ فيه. *ذكر من قال ذلك: 7564- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:" واعتصموا بحبل الله جميعًا"، حبل الله المتين الذي أمر أن يُعتصم به: هذا القرآن. 7565- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا" قال: بعهد الله وأمره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 7566- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: إن الصراط مُحْتَضَر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله، هلمّ هذا الطريق! ليصدّوا عن سبيل الله،. فاعتصموا بحبل الله، فإن حبلَ الله هو كتاب الله. (1) 7567 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد بن المفضل، عن أسباط، عن السدي:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، أما"حبل الله"، فكتاب الله. 7568- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بحبل الله"، بعهد الله. 7569- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء:"بحبل الله"، قال: العهد. 7570- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله:"واعتصموا بحبل الله" قال: حبلُ الله: القرآن. 7571- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: القرآن. 7572- حدثنا سعيد بن يحيى قال: حدثنا أسباط بن محمد، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله، هو حبل الله الممدودُ من السماء إلى الأرض. (2) * * *   (1) الأثر: 7566- رواه في مجمع الزوائد بغير هذا اللفظ، وهو قريب منه. ونسبه إلى الطبراني وقال: "رواه عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف". وهذا الذي رواه الطبري إسناد صحيح. (2) الحديث: 7572- عبد الملك بن أبي سليمان العرزمى -بسكون الراء ثم زاي مفتوحة- أحد الأئمة: مضى توثيقه: 1455. عطية: هو ابن سعد بن جنادة -بضم الجيم- العوفي. وقد بينا في: 305 أنه ضعيف. وقد سقط من المخطوطة والمطبوعة هنا قوله [عن عطية] . وزدناه من نقل ابن كثير 2: 203، عن هذا الموضع من الطبري. ثم الحديث -من حديث أبي سعيد- يدور في كل ما رأينا من طرقه على عطية العوفي، كما سيأتي: فرواه أحمد في المسند: 11229، 11582 (ج3ص 26، 59 حلبي) ، عن ابن نمير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، بنحوه، مرفوعًا مطولا. ورواه أيضا: 11120 (ج 3 ص 14) ، من طريق إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي، عن عطية. ورواه أيضا: 11148 (ج 3 ص 17) ، عن أبي النضر، عن محمد بن طلحة، عن الأعمش عن عطية العوفي. وكذلك رواه الترمذي 4: 343، من طريق محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد -وعن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم، مرفوعًا، نحوه مطولا. فهو عنده عن أبي سعيد وعن زيد بن أرقم. ثم قال: "هذا حديث حسن غريب". فأما حديث أبي سعيد، فقد بينا أنه ضعيف، من أجل عطية العوفي. وأما حديث زيد بن أرقم، فإنه حديث صحيح. وهو قطعة من قصة مطولة، رواها أحمد في المسند 4: 366 - 367 (حلبي) . ورواها مسلم 2: 237 - 238، مطولة ومختصرة. وروى ابن حبان في صحيحه، رقم: 123 (بتحقيقنا) - قطعة منه، فيها أن"كتاب الله، هو حبل الله". ثم نعود لحديث أبي سعيد: فذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 163، مطولا، بنحو رواية الترمذي. ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط. وفي إسناده رجال مختلف فيهم"! ولست أدرى، لم ذكره في الزوائد، وهو في الترمذي؟ ثم لم ترك نسبته للمسند، وهو مروي فيه أربع مرات؟! وذكره السيوطي 2: 60، مختصرًا كما هنا. ولم ينسبه إلا لابن أبي شيبة وابن جرير. ثم ذكر الرواية المطولة عن أبي سعيد. ونسبه لابن سعد، وأحمد، والطبراني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله. *ذكر من قال ذلك: 7573- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعا"، يقول: اعتصموا بالإخلاص لله وحده. 7574- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: الحبل، الإسلام. وقرأ"ولا تفرقوا". * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 القول في تأويل قوله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا تفرقوا"، ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى أمره. كما:- 7575- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم"، إنّ الله عز وجل قد كره لكم الفُرْقة، وقدّم إليكم فيها، وحذّركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمعَ والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضى الله لكم إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله. 7576- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبى العالية:"ولا تفرّقوا"، لا تعادَوْا عليه، يقول: على الإخلاص لله، وكونوا عليه إخوانًا. (1) 7577- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن الأوزاعي حدثه، أنّ يزيد الرقاشي حدّثه أنه سمع أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسَبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة. قال: فقيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يَدَه وقال: الجماعة،"واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا". (2)   (1) في المخطوطة"وتكونوا عليه إخوانا"، والصواب ما في المطبوعة، والدر المنثور 2: 61 (2) الحديث: 7577- يزيد الرقاشي: هو يزيد أبان، أبو عمرو، البصري القاص. وقد أشرنا في شرح: 6654، 6728 إلى أنه ضعيف. وقال البخاري في الكبير 4 / 2 / 320: "كان شعبة يتكلم فيه"، وقال النسائي في الضعفاء: "متروك"، وقال ابن سعد 7 / 2 / 13: "كان ضعيفًا قدريًا". والحديث رواه ابن ماجه: 3993، من طريق الوليد بن مسلم: "حدثنا أبو عمرو [هو الأوزاعي] ، حدثنا قتادة، عن أنس. فذكره نحوه مرفوعًا، ولكن آخره عنده: "كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة". وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح. رجاله ثقات". وهو كما قال. فيكون الأوزاعي رواه عن شيخين، أحدهما ضعيف، والآخر ثقة. وأن الضعيف -يزيد الرقاشي- زاد الاستشهاد بالآية. ولا بأس بذلك، فالمعنى قريب. وذكره السيوطي 2: 60، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 7578- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، سمعت الأوزاعي يحدث، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (1) 7579- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قُطْبَة المدنيّ، عن عبد الله: أنه قال:"يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمرَ به، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة، هو خيرٌ مما تستحبون في الفرقة". (2) 7580- حدثنا عبد الحميد بن بيان السكريّ قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قطبَة قال: سمعت ابن مسعود وهو يخطب وهو يقول: يا أيها الناس، ثم ذكر نحوه. (3)   (1) الحديث: 7578- هذا الحديث تكرار للحديث قبله. وعبد الكريم بن أبي عمير - شيخ الطبري: ذكره الذهبي في الميزان 2: 144 بلقب"للدهان"، وقال: "فيه جهالة. والخبر منكر". يريد حديثًا آخر، بينه الحافظ في لسان الميزان 4: 50 - 51، عن تاريخ بغداد. في ترجمة رجل آخر. وهو في تاريخ بغداد 3: 242. وفيه اسم هذا الشيخ في ذاك الإسناد: "عبد الكريم بن أبي عمير الدهقان". ولم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في موضع آخر. (2) الأثر: 7579-"ثابت بن قطبة المدني الثقفي"، مترجم في الكبير 1 / 2 / 168، والجرح 1 / 1 / 457، قال البخاري: "سمع ابن مسعود، روى عنه أبو إسحاق، والشعبي" وزاد ابن أبي حاتم: "وزياد بن علاقة، وسالم بن أبي الجعد". وكان في المطبوعة في هذا الموضع وفي الأثرين التاليين"ثابت بن قطنة" بالنون من"قطنة"، وهو خطأ. وفي المخطوطة في هذا الأثر"فطنه" غير منقوطة، ونقطت الباء في الأثرين التاليين. وفي المخطوطة والمطبوعة: "المرى" في هذا الأثر وفي رقم: 7581، والصواب"المدني" كما أثبته، وثابت ثقفي، لا مرى. (3) الأثر: 7580- في المطبوعة: "عبد الحميد بن بيان اليشكري"، وهو خطأ، والصواب المخطوطة. وقد سلف مثل هذا الخطأ في رقم: 7378، فانظر التعليق عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 7581- حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُلِّيُّ قال، حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام قال، حدثنا مجالد بن سعيد، عن عامر، عن ثابت بن قطبة المدني قال: قال عبد الله: عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمرَ به، ثم ذكر نحوه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واذكروا نعمة الله عليكم"، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام. واختلف أهل العربية في قوله:"إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم". فقال بعض نحويي البصرة في ذلك: انقطع الكلام عند قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم"، ثم فسر بقوله:"فألف بين قلوبكم"، وأخبرَ بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول:"أمسَكَ الحائط أن يميل". وقال بعض نحويي الكوفة: قوله"إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، تابع قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم" غير منقطعة منها.   (1) الأثر: 7581-"إسماعيل بن حفص بن عمرو الأبلى، أبو بكر الأودي البصري، و"الأبلي" (بضم الهمزة والباء الموحدة، واللام المشددة المكسورة) نسبة إلى"الأبلة". وفي بعض الكتب"الأيلي" بالياء. روى عن أبيه، وحفص بن غياث، ومعتمر بن سليمان وغيرهم. روى عنه النسائي وابن ماجه، وابن خزيمة وجماعة. وسمع منه أبو حاتم، قال ابن أبي حاتم: "وسألت أبي عنه فقال: كتبت عنه وعن أبيه، وكان أبوه يكذب، وهو بخلاف أبيه. قلت: لا بأس به؟ قال: لا يمكنني أن أقول لا بأس به". وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 165. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله:"إذ كنّتم أعداءً فألّف بين قلوبكم"، متصل بقوله:"واذكروا نعمة الله عليكم"، غير منقطع عنه. وتأويل ذلك: واذكروا، أيها المؤمنون، نعمة الله عليكم التي أنعمَ بها عليكم، حين كنتم أعداء في شرككم، (1) يقتل بعضكم بعضًا، عصبيةً في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانًا بعد إذ كنتم أعداءً تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه، كما:- 7582- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألَّف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إنّ الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذابٌ. 7583- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء"، يقتل بعضكم بعضًا، ويأكل شديدُكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فألف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانًا. * * * قال أبو جعفر: فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكرُوها، هي ألفة الإسلام، واجتماع كلمتهم عليها = والعداوةُ التي كانت بينهم، التي قال الله عز وجل:"إذ كنتم أعداء" فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة،. كما:-   (1) في المطبوعة: "أي بشرككم"، وليست بشيء، وفي المخطوطة"أي شرككم" ولا معنى لها، وفيها زيادة ألف"أي"، و"ى" هي"في" فالذي أثبته هو الصواب والسياق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 7584- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام وهم على ذلك، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم. ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم. (1) * * * فذكَّرهم جل ثناؤه إذ وعظهم، عظيمَ ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضًا وقتل بعضهم بعضًا، وخوف بعضهم من بعض، وما صارُوا إليه بالإسلام واتباع الرّسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وبما جاء به، من الائتلاف والاجتماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخوانًا، وكأن سبب ذلك ما:- 7585- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا. قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، قال: فقال له سويد: فلعل الذي مَعك مثل الذي معي! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان -يعني: حكمة لقمان- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعرضْها عليّ" فعرضها عليه، فقال:"إن هذا لكلام حسنٌ، (2) معي أفضل من هذا، قرآنٌ أنزله الله عليّ هدًى ونورٌ. قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ، ودعاه إلى الإسلام، فلم يُبعد منه، وقال: إن هذا لقولٌ حَسن! ثم   (1) الأثر: 7584- لم أستطع أن أهتدي إلى مكانه من سيرة ابن هشام في هذه الساعة. (2) في المطبوعة: "إن هذا الكلام"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 انصرف عنه وقدم المدينةَ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج. فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بُعاثٍ. (1) 7586- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، (2) أحد بني عبد الأشهل: أن محمودَ بن لبيد، (3) أحدَ بني عبد الأشهل قال: لما قدم أبو الحَيْسر أنس بن رافع مكة، (4) ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، (5) سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم فقال"هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ " قالوا: وما ذاك؟ قال:"أنا رسولُ الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، (6) وأنزل عليَّ الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ، وكان غلامًا حدُثًا: (7) أيْ قوم، هذا والله خير مما جئتم له! قال: فيأخذ أبو الحَيْسَر أنس بن رافعَ حفنةً من البطحاء، (8) فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال: فصمت إياس بن معاذ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا   (1) الأثر: 7585- سيرة ابن هشام 2: 67 - 69. (2) في المطبوعة: "الحسين بن عبد الرحمن ... "، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام، وهو مترجم في التهذيب. (3) في المطبوعة: "محمود بن أسد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة، ولم يحسن الناشر قراءتها لخلوها من النقط، وصوابه أيضًا في ابن هشام. و"محمود بن لبيد الأشهلي" تابعي، واختلف في صحبته. مترجم في التهذيب. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "أبو الجيش أنس بن رافع"، وهو خطأ فاحش، صوابه من سيرة ابن هشام 2: 69، وسائر كتب التاريخ. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "على قوم من الخزرج"، والصواب ما في سيرة ابن هشام. كما أثبت. (6) في المخطوطة: "أن يعبدون الله. . ." سهو من الناسخ، وفي ابن هشام"أدعوهم إلى أن يعبدوا الله". (7) غلام حدث (بفتح الحاء وضم الدال) : كثير الحديث حسن السياق له. (8) في المطبوعة: "فأخذ أبو الجيش"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 إلى المدينة، وكانت وقعةُ بعاث بين الأوس والخزرج. قال. ثم لم يلبث إياسُ بن معاذ أن هلك. قال: فلما أراد الله إظهارَ دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجازَ موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفرَ من الأنصارَ يعرض نفسه على قبائل العرب، (1) كما كان يصنع في كل موسم. فبينا هو عند العقبة، إذ لقي رهطًا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا (2) . =قال ابن حميد قال، سلمة قال، محمد بن إسحاق، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة؛ عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"من أنتم؟ " قالوا: نفر من الخزرج قال، أمن موالي يهود؟ (3) قالوا: نعم قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ قالوا: بلى!. قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرَض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنَع الله لهم به في الإسلام، (4) أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهلَ كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحابَ أوثان، (5) وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالوا لهم: إن نبيًّا الآن مبعوث قد أظلّ زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتلَ عاد وإرَم!. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفرَ ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي تَوَعَّدُكم به يهود، فلا يسبقُنَّكم إليه! (6) فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صَدّقوه وقبلوا منه   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسم. . ." بإسقاط"في" وأثبتها من ابن هشام. وفي ابن هشام: "فعرض نفسه" بالفاء، وما في مخطوطة الطبري، جيد (2) في المطبوعة: "لهم خيرًا"، والصواب من المخطوطة وابن هشام. (3) "موالي يهود": أي من حلفائهم، والمولي: الحليف. (4) هذا هو النص الصحيح، لما أثبت ناشر سيرة ابن هشام، مخالفا أصول السيرة، وما جاء هنا. (5) في ابن هشام: "وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان"، وما في الطبري صواب أيضا. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا يسبقنكم" بالواو، وأثبت ما في سيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 ما عَرَض عليهم من الإسلام، وقالوا له: (1) إنا قد تركنا قومَنا ولا قومَ بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسَى الله أن يجمعهم بك، وسنَقْدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين؛ فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجلَ أعزّ منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدّقوا = وهم فيما ذكر لي ستة نفر. قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكرُوا لهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فَشا فيهم، فلم تَبقَ دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العامُ المقبل، وافى الموسمَ من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيْعَة النساء، (2) وذلك قبل أن تُفترَض عليهم الحرب. (3) 7587- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أنه لقىَ النبي صلى الله عليه وسلم ستةُ نفرٍ من الأنصار فآمنوا به وصدّقوه، فأراد أن يذهبَ معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "قالوا" بإسقاط الواو، والصواب ما في سيرة ابن هشام. (2) بيعة النساء، هي البيعة المذكورة في [سورة الممتحنة: 12] ، ونصها فيما رواه ابن إسحاق بإسناديه عن عبادة بن الصامت أنه قال (ابن هشام 2: 75، 76) : "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ العقبة الأولى على أن لا نُشْرك بالله شيئًا، ولا نَسْرِق، ولا نزني، ولا نقتُل أولادَنا، ولا نأتي ببُهْتانٍ نَفتريهِ من بين أيدينا وأرجُلنا، ولا نَعْصِيه في معروفٍ = فإِن وَفَيْتُم، فلكُمُ الجنَّة. وإن غَشِيتُم من ذلك شيئًا فأُخِذْتم بحدِّه في الدنيا، فهو كفَّارةٌ لكم. وإن سترتُم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله، إن شاءَ عذب وإن شاءَ غفر". وهذه بيعة لم يذكر فيها القتال والجهاد، مما كتبه الله على الرجال دون النساء، ولذلك سميت بيعة النساء، لأنها مطابقة لبيعتهن المذكورة في سورة الممتحنة. (3) الأثر: 7586- سيرة ابن هشام 2: 69 - 73، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7585. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 بين قومنا حربًا، وإنا نخافُ إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريدُ. فوعدوه العامَ المقبلَ، وقالوا: يا رسول الله، نذهب، فلعلّ الله أن يُصْلح تلك الحرب! قال: فذهبوا ففعلوا، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب، وكانوا يُرَوْن أنها لا تَصْلُح = وهو يوم بُعاث. فلقوه من العام المقبل سبعينَ رجلا قد آمنوا، فأخذ عليهم النقباءَ اثني عشر نقيبًا، فذلك حين يقول:"واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم". 7588- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما:"إذ كنتم أعداء"، ففي حرب ابن سُمَير (1) ="فألف بين قلوبكم"، بالإسلام. 7589- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة بنحوه = وزاد فيه: فلما كان من أمر عائشة ما كان، (2) فتثاوَر = الحيَّان، فقال بعضهم لبعض: مَوْعدُكم الحَرَّة! فخرجوا إليها، فنزلت هذه الآيةُ:"واذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ كنتم أعداء فألَّف بين   (1) في المخطوطة والمطبوعة"ففي حرب فألف ... " أسقط"ابن سمير"، وسيأتي نص قول السدي، كما أثبته بعد ص 83 س: 3. (2) يعني ما كان من حديث الإفك في أمر عائشة أم المؤمنين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس فذكر لهم رجالا يؤذونه في أهله ويقولون عليهن غير الحق، وتولى كبر ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول في رجال من الخزرج. فقام أسيد بن حضير الأوسي فقال: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج، فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة الخزرجي، فقال: كذبت لعمر الله، لا تضرب أعناقهم! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا لأنك عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا! فقال أسيد بن الحضير: كذبت لعمر الله: ولكنك منافق تجادل عن المنافقين! وتثاور الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر (تاريخ الطبري 3: 69) . هذا ولم أجد ذكر هذا الخبر في كتاب، ولم أجد في كتب أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها، ولا ما كان يومئذ بين الأوس والخزرج. ولم يذكر ذلك أبو جعفر مصرحًا في هذا الموضع، ولا ذكر ذلك في تفسير سورة النور، حيث آيات حديث الإفك وبراءة عائشة أم المؤمنين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا"، الآية. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضًا، وحتى إن لهم لخنينًا = يعني البكاءَ. (1) * * * "وسُمَير" الذي زعم السدي أن قوله"إذ كنتم أعداء" عنى به حربه، هو سُمير بن زيد بن مالك، (2) أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله: إنَّ سُمَيْرًا أَرُى عَشِيرَتَهُ ... قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا (3) إنْ يَكًنِ الظَّنُّ صَادِقِي بَبَنِي ... النَّجَّارِ لَمْ يَطْعَمُوا الَّذِي عُلِفُوا (4)   (1) في المطبوعة: "لحنينًا" بالحاء، وأما في المخطوطة، فإن الناسخ على غير عادته نقط حروفها المعجمة جميعًا، كما أثبتها، وهو الصواب المحض. والخنين: تردد البكاء في الأنف والخياشيم حتى يصير في الصوت مثل الغنة، لكتمان البكاء من ألم وحياء وخجل. وقد ورد في كثير من الأحاديث من ذلك: "أنه كان يسمع خنينه في الصلاة"، وفي حديث أنس: "فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم خنين". (2) في الأغاني 3: 40"سمير بن يزيد بن مالك"، وذكر في 3: 21 أنه أخو"درهم بن يزيد بن ضبيعة"، وقد رجحت في التعليق على طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 247 تعليق: 6 أنه"درهم بن يزيد بن مالك" من بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمر بن عوف. وقد جاء في المطبوعتين"درهم بن زيد" كما جاء هنا في ذكر أخيه"سمير بن زيد". (3) جمهرة أشعار العرب: 122، والأغاني 20، واللسان (سمر) وهذا البيت والذي يليه كتب في المطبوعة بالقاف"أبقوا" ثم"علقوا" وهما في المخطوطة غير منقوطتين، وأوقعهم في ذلك النقط ما جاء في اللسان (سمر) ، "أبقوا" بالباء والقاف، وهو خطأ محض ينبغي تصحيحه. فقصيدة مالك فائية لا شك فيها. رواها صاحب جمهرة أشعار العرب بطولها، ورواها أبو الفرج، وروى معها نقائضها، لدرهم بن يزيد، ثم لقيس بن الخطيم، فيما بعد هذه الحرب بدهر، ورد حسان بن ثابت عليه ومناقضته له. وخبر هذا الشعر طويل، هو في الأغاني 3: 18 - 26، ثم 39 - 42. ثم انظر ما قاله الطبري بعد الأبيات. وقوله: "حدبوا دونه"، يقال: "حدب عليه"، إذا تعطف عليه وحنا عليه. وقوله: "دونه"، عني أنهم عطفوا عليه وحاموا دونه ليمنعوه. وقوله: "أنفوا"، يقال: "أنف الرجل من الشيء يأنف أنفا"، إذا حمى وغضب، وأخذته الغيرة من أن يضام. وكان سمير هذا هو الذي قتل الرجل الثعلبي جار مالك بن العجلان -في خبر الحرب- فطالب مالك بني عمرو بن عوف أن يرسلوا إليه سميرًا ليقتله بجاره، أو يأخذ الدية كاملة، فأبى أولئك، وأبى مالك، وحدب بنو عمرو بن عوف على صاحبهم سمير، واستنفر مالك قبائل الخزرج، فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره، فقال هذه الأبيات يحرض بني النجار على نصرته. (4) في رواية الجمهرة والأغاني: "صادقا"، وهما سواء. وفي شرح هذا البيت قال أبو الفرج في أغانيه: "علفوا الضيم: إذا أقروا به. أي ظني أنهم لا يقبلون الضيم"، وهذا مجاز قلما تظفر بتفسيره في كتب اللغة. وقد جاء مثل ذلك في هذا المعنى من قول سبيع بن زرارة، أو خالد بن نغسلة (الحماسة 1: 186) . إِذَا كُنْتَ في قومٍ عِدًى لَسْتَ مِنْهُمُ ... فَكُلْ مَا عُلِفْتُ من خبيثٍ وطيِّبِ وقول العباس بن مرداس (الحماسة 1: 225) . ولا تَطْعَمَنْ ما يَعْلِفٌونَك إنَّهُمْ ... أَتَوْكَ عُلىْ قُرْبَاهُمْ بِالمُثَمَّلِ وكأنهم يريدون بذلك: ما يقدم إليك، مما يكون حسن الظاهر كأنه رعاية وكرم، خبيث الباطن يراد به الأذى والضيم، واستعملوا"العلف" لأنه كالاستغفال لمن يقدم إليه، كأنه بهيمة لا تدرك الخفي الباطن. هذا وقد ترك ناشرو هذا التفسير هذين البيتين على حالهما من التصحيف. ثم جاء بعض المعلقين، فكتب ما لا قبل لذي عقل بقبوله، إلا على قول القائل: "فكل ما علفت"! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وقد ذكر علماء الأنصار: أنّ مبدأ العداوة التي هيَّجت الحروب التي كانت بين قبيلتَيها الأوسِ والخزرجِ وأوَّلها، كان بسبب قتل مَولى لمالك بن العجلان الخزرجيّ، يقال له:"الحرُّ بن سُمَير" من مزينة، (1) وكان حليفًا لمالك بن العجلان، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك معنى قول السدي:"حرْب ابن سمير". * * * وأما قوله:"فأصبحتم بنعمته إخوانًا"، فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق، والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانًا متصادقين، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد، كما:- 7590- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،   (1) لست على ثقة من هذا الاسم"الحر بن سمير"، ولكني لم أجده في مكان آخر، والذي يقولونه في غير هذا الخبر أن اسمه"كعب بن العجلان"، ويقال غير ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 قوله:"فأصبحتم بنعمته إخوانًا"، وذكر لنا أن رجلا قال لابن مسعود: كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"وكنتم على شفا حفرة من النار"، وكنّتم، يا معشر المؤمنين، من الأوس والخزرج، على حرف حُفرةٍ من النار. وإنما ذلك مثَلٌ لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرَف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن يُنعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانًا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له. * * * و"شفا الحفرة"، طرفها وَحرفها، مثل"شفا الركيَّة والبئر"؛ ومنه قول الراجز: نَحْنُ حَفَرنَا لِلْحَجيِجِ سَجْلَهْ ... نَابِتَةٌ فَوْقَ شَفَاهَا بَقْلَةْ (1)   (1) لم أجد هذا الرجز بهذه الرواية في كتاب غير هذا التفسير. أما "سجلة" فهي بئر المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ويقال حفرها عدي بن نوفل، ويقال حفرها هاشم بن عبد مناف، ويقال حفرها قصى. وقد ذكرها ابن هشام في سيرته 2: 157، والأزرقي في تاريخ مكة 1: 64، 65 / 2: 175، 176، والبلاذري في فتوح البلدان: 55، 56، والبكري في معجم ما استعجم: 724، ومعجم البلدان (سجلة) ، والروض الأنف 1: 101، وذكرها المصعب في نسب قريش: 31، 197، ولم يذكر اسمها بل قال: "سقاية عدي، التي بالمشعرين، بين الصفا والمروة، وفيها يقول مطرود الخزاعي، يمدح عدى بن نوفل: وَمَا النِّيلُ يَأْتِي بالسَّفِينِ يَكُفُّه ... بأَجْوَدَ سَيْبًا من عَدِىّ بن نَوْفَل وأنبطْتَ بين المَشْعَرَيْنِ سِقايةً ... لِحُجَّاجِ بَيْتِ الله أفْضَلَ مَنْهَلِ ونسب أبو الفرج في أغانيه 13: 5 هذا الشعر لقيس بن الحدادية من أبيات. وأما الرجز الذي يشبه هذا وذكروه في المراجع السالفة، فقد اختلف في نسبته، إلى قصى، وإلى خلدة بنت هاشم، تقول: نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِىٍّ سَجْلَهْ ... في تُرْبةٍ ذَاتِ عَذَاةٍ سَهْلَهْ تُرْوِى الحَجِيج زُغْلَةً فزُغْلَهْ أي جرعة فجرعة. ولم يتيسر لي تحقيق ذلك الآن بأكثر من هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 يعني: فوق حرفها. يقال:"هذا شفا هذه الركية" مقصور"وهما شفواها" * * * وقال:"فأنقذكم منها"، يعني فأنقذكم من الحفرة، فردّ الخبر إلى"الحفرة"، وقد ابتدأ الخبر عن"الشفا"، لأن"الشفا" من"الحفرة". فجاز ذلك، إذ كان الخبر عن"الشفا" على السبيل التي ذكرها في هذه الآية = خبرًا عن"الحفرة"، كما قال جرير بن عطية: رَأَتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنَّي ... كما أخَذ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ (1)   (1) ديوانه: 426، مجاز القرآن: 98، الكامل 1: 324، وغيرها، وسيأتي في التفسير 12: 94 / 13: 109 / 19: 39 (بولاق) ، من قصيدة يهجو الفرزدق، لم تذكر في نقائضهما، يقول قبل البيت: دَعِيني، إِنَّ شَيْبى قَدْ نَهَانِي ... وَتَجْرِيبِى، وَشَيْبِى، وَاكْتِهَالِى رَأَتْ مَرَّ السِّنِينِ ......... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَمَنْ يَبْقَى عَلَى غَرَضِ المَنَايا ... وَأَيَّامٍ تَمُرُّ مَعَ اللَّيّالِي?! والسرار (بكسر السين وفتحها) : آخر ليلة من الشهر، ليلة يستسر القمر، أي يختفي، وأراد جرير بالسرار في هذا البيت: نقصان القمر حتى يبلغ آخر ما يكون هلالا، حتى يخفى في آخر ليلة، فهذا النقصان هو الذي يأخذ منه ليلة بعد ليلة، أما "السرار" الذي شرحه أصحاب اللغة، فهو ليلة اختفاء القمر، وذلك لا يتفق في معنى هذا البيت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 فذكر:"مر السنين"، ثم رجع إلى الخبر عن"السنين"، وكما قال العجاج: (1) طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي (2) وقد بيَّنتُ العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7591- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته"، كان هذا الحيّ من العرب أذلَّ الناس ذُلا وأشقاهُ عيشًا، (4) وأبْيَنَه ضلالة، وأعراهُ   (1) وينسب للأغلب العجلى، كما سترى في المراجع، وقال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب."ليس هذا الرجز للأغلب، هو لغيره، من شوارد الرجز". (2) ديوان العجاج: 80، سيبويه 1: 26، كتاب المعمرين: 87، الأغاني 18: 164، والبيان والتبيين 4: 60، والخزانة 2: 168، العيني (هامش الخزانة) 3: 395، وشرح شواهد المغنى: 298 وغيرها. وقد اختلفت في رواية الرجز اختلاف كثير. ورواية أبي محمد الأعرابي: أَصْبَحْتُ لا يَحْمِلُ بَعْضِي بَعْضِي ... مُنَفَّهًا، أَرُوح مِثْلَ النِّقْضِ مَرُّ اللَّيالي ............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ثُمَّ الْتَحَيْنَ عَنْ عِظامِي نَحْضِى ... أَقْعِدْنَنِي مِنْ بَعْدِ طُول نَهْضِي المنفه: الذي عليه الكلال والإعياء. والنقض: البعير المهزول. التحى العود من الشجر: قشر عنه لحاءه، وهو قشره. والنحض: اللحم. يقول: تركته الليالي عظامًا، قد أكلت لحمه. (3) 5: 77، 78. (4) قوله: "وأشقاه عيشًا، وأبينه ضلالة. . ." مع عودة الضمير إلى"الناس"، لأن ضمير المثنى والجمع بعد"أفعل" التفضيل، يجوز إفراده وتذكيره، انظر ما سلف من التعليق على الآثار رقم: 5968، 6129، 7028، 7029. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 جلودًا، وأجوعَه بطونًا، مَكْعُومين (1) على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. مَنْ عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات رُدِّي في النار، (2) يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظًّا، وأدق فيها شأنًّا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورَّثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، (3) وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نِعمَه، فإن ربكم منعِمٌ يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك. 7592- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله:"وكنتم على شفا حفرة من النار"، يقول: كنتم على الكفر بالله، ="فأنقذكم منها"، من ذلك، وهداكم إلى الإسلام. 7593- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها"، بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول: كنتم على طرَف النار، من مات منكم أوبِقَ في النار، (4) فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فاستنقذكم به من تلك الحفرة.   (1) في المطبوعة: "معكومين"، والصواب من المخطوطة: كعم فم البعير وغيره شد فاه في هياجه لئلا يعض. ومنه قيل: "كعمه الخوف فهو مكعوم"، أمسك فاه، ومنعه من النطق، وفي حديث على: "فهم بين خائف مقموع، وساكت مكعوم"، وفي شعر ذى الرمة يصف صحراء بعيدة الأرجاء، يخافها سالكها: بَيْنَ الرَّجَا والرَّجَا من جَنْبِ واصِيَةٍ ... يَهْمَاءَ، خَابِطُهَا بالخوف مَكْعُومُ (2) ردى في النار: ألقى فيها. (3) هكذا جاءت الجملتان في المخطوطة، ولست على ثقة من صوابهما، ولا أدري ما يعني بقوله: "دار الجهاد"، والذي نعرف أن الإسلام جاء فأحله للمجاهدين هو"الغنائم" غنائم الحرب والجهاد. فأخشى أن يكون في الكلام تحريف. وقوله: "ووضع لكم به من الرزق" كأنه يعني بقوله: "وضع" بسط، كما فسروه في حديث التوبة: "إن الله واضع يده لمسيء الليل ليتوب بالنهار، ولمسيء النهار ليتوب بالليل"، أي بسط، كما جاء في الرواية الأخرى: "إن الله باسط يده. . .". (4) أوبقه: أهلكه، وقوله: "أوبق" بالبناء للمجهول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 7594- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا حسن بن حيّ:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها" قال: عصبية. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"كذلك"، كما بيَّن لكم ربكم في هذه الآيات، أيها المؤمنون من الأوس والخزرج، من غِلّ اليهود الذي يضمرونه لكم، (2) وغشهم لكم، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم، والتي صرتم إليها في إسلامكم،= (3) مُعَرِّفَكم في كل ذلك مواقع نعمة قِبَلكم، وصنائعه لديكم،= (4) فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ="لعلكم تهتدون"، يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها، فلا تضِلوا عنها. (5) * * *   (1) الأثر: 7594-"الحسن بن حي"، هو: "الحسن بن صالح بن صالح بن حي، وهو حيان، الهمداني" قال البخاري: "يقال: حي، لقب"، وكان في المطبوعة: "حسن بن يحيى"، والصواب في المخطوطة، وهو مترجم في التهذيب. (2) في المطبوعة: "من علماء اليهود. . ."، وهو فاسد جدًا، والصواب في المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءتها"من عل" غير منقوطة. والغل (بكسر الغين) : الحقد الدفين. (3) سياق الجملة: كما بين لكم في هذه الآيات. . . من غل اليهود. . . ومن غشهم. . . ومن أمره. . . ومن نهيه. . . ومن الحال التي كنتم عليه. . ." معطوف بعضه على بعض. (4) في المطبوعة: "يعرفكم" بالياء في أوله، والصواب ما في المخطوطة، وهو منصوب الفاء، نصب على الحال. (5) عند هذا الموضع، انتهى الجزء الخامس من مخطوطتنا، وفي آخره ما نصه: "نَجَز الجزء الخامس من كتاب البيان، بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، أعان الله على ما بعده بمنه وكرمه، وخفىّ لطفه وسعة رحمته، إنه وَلِيّ ذلك والقادرُ عليه. يتلوه في السادس إنْ شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله: "وَلْتَكُنْ منكُمْ أمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ويَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولئكَ هُمُ المُفْلِحُون". * * * وكان الفراغُ منه في شهر الله المحرّم غُرّة سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسن الله تَقَضِّيها وخاتمتها في خيرٍ وعافية، بمنّه وكرمه ولطفه - على يدِ العبد الفقير إلى رحمة مولاه، الغنيِّ به عمن سواه: علىّ بن محمد بن عباد (أو: عنان) بن عبد الصمد بن صالح الديدبلى (؟؟) الشافعي، غفر الله له ولوالديه، ولصاحب هذا الكتاب، ولمن قرأ فيه ودعا لهم بالتوبة والمغفرة ورضى الله تعالى والجنة، ولجميع المسلمين. وذلك بالقاهرة المحروسة، بحارة العطوفة. الحمد لله رب العالمين" ثم يتلوه الجزء السادس، وأوله: "بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعِنْ" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 القول في تأويل قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولتكن منكم" أيها المؤمنون ="أمة"، يقول: جماعة (1) ="يدعون" الناس="إلى الخير"، يعني إلى الإسلام وشرائعه   (1) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 1: 221 / 3: 74، 100، 128، 141، 275 - 277. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 التي شرعها الله لعباده (1) ="ويأمرون بالمعروف"، يقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله (2) "وينهون عن المنكر"،: يعني وينهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله، بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة. * * * وقوله:"وأولئك هم المفلحون"، يعني: المنجحون عند الله الباقون في جناته ونعيمه. * * * وقد دللنا على معنى"الإفلاح" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (3) * * * 7595- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عيسى بن عمر القارئ، عن أبي عون الثقفي: أنه سمع صُبيحًا قال: سمعت عثمان يقرأ: (" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللهَ عَلَى مَا أَصَابَهُم ") . (4) 7596- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن   (1) انظر تفسير"الخير" فيما سلف 2: 505. (2) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 293 / 4: 547، 548 / 5: 44، 76، 93، 137، 520. (3) انظر ما سلف 1: 249، 250 / 3: 561. (4) الأثر: 7595-"عيسى بن عمر الأسدي" المعروف بالهمداني، القارئ الأعمى صاحب الحروف، كوفي ثقة. مترجم في التهذيب وطبقات القراء 1: 612."أبو عون الثقفي" هو: "محمد بن عبيد الله بن سعيد" الأعور، كوفي تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وطبقات القراء 2: 194. أما "صبيح"، فلم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 449 قال: "صبيح، قال سمعت عثمان يقرأ: "ولتكن منكم أمة يهدون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم. روى عيسى بن عمر القارئ، عن أبي عون، عنه". ولم يزد على ذلك، وفي الجرح كما ترى"يهدون إلى الخير" على غير ما جاء في الطبري، فإنه يوافق القراءة الموروثة. وفي التاريخ الكبير للبخاري"صبيح بن عبد الله العبسي" أنه قال: "استعمل عثمان أبا سفيان بن الحارث على الفروض"، ولست أستطيع أن أرجح أنهما رجل واحد. وانظر الدر المنثور 2: 61، 62. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 عيينة، عن عمرو ابن دينار قال: سمعت ابن الزبير يقرأ، فذكر مثل قراءة عثمان التي ذكرناها قبل سواء. 7597- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، قال: هم خاصة أصحابِ رسول الله، وهم خاصَّة الرواة. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تكونوا"، يا معشر الذين آمنوا ="كالذين تفرقوا" من أهل الكتاب="واختلفوا" في دين الله وأمره ونهيه ="من بعد ما جاءهم البينات"، من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمرَ الله، ونقضوا عهده وميثاقه جراءة على الله="وأولئك لهم"، يعني: ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم ="عذاب" من عند الله="عظيم"، يقول جل ثناؤه: فلا تتفرقوا، يا معشر المؤمنين، في دينكم تفرُّق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم، كما:- 7598- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات"، قال: هم أهل الكتاب، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا، كما   (1) الأثر 7597- رواه ابن كثير في تفسيره 2: 209 ولفظه: "قال الضحاك: هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة" ثم بينه فقال: "يعني المجاهدين والعلماء". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 تفرق واختلف أهل الكتاب، قال الله عز وجل:"وأولئك لهم عذابٌ عظيم". 7599- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. 7600 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم"، قال: هم اليهود والنصارى. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه. * * * وأما قوله:"فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، فإن معناه: فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. ولا بدل"أما" من جواب بالفاء، فلما أسقط الجواب سقطت"الفاء" معه. وإنما جاز ترك ذكر"فيقال" لدلالة ما ذكر من الكلام عليه. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 وأما معنى قوله جل ثناؤه:"أكفرتم بعد إيمانكم"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به. فقال بعضهم: عني به أهل قبلتنا من المسلمين. *ذكر من قال ذلك: 7601- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، قوله:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، الآية، لقد كفر أقوامٌ بعد إيمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"والذي نفس محمد بيده، ليردنّ على الحوض ممن صحبني أقوامٌ، حتى إذا رُفعوا إليّ ورأيتهم، اختُلِجوا دوني، فلأقولن: ربّ! أصحابي! أصحابي! فليقالنّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"! = وقوله:"وأما الذين ابيضتْ وجوههم ففي رحمة الله"، هؤلاء أهل طاعة الله، والوفاء بعهد الله، قال الله عز وجل:"ففي رحمة الله هم فيها خالدون". (1) 7602- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا. 7603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح، عن أبي مجالد، عن أبي أمامة:"فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، قال: هم الخوارج. * * * وقال آخرون: عنى بذلك: كلّ من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن،   (1) الأثر: 7601- هذا أثر مرسل، وقد أخرجه البخاري في صحيحه بغير هذا اللفظ (الفتح 11: 408، 412 وما بعدها) ومسلم في صحيحه 17: 194، وقوله: "رفعوا إلى"، أي أظهرهم الله له فرآهم من بعيد. واختلج الشيء: نزعه وجذبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بيَّن في كتابه. (1) *ذكر من قال ذلك: 7604- حدثني المثني قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب، في قوله:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، قال: صاروا يوم القيامة فريقين، فقال لمن اسودَّ وجهه، وعيَّرهم."أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون"، قال: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقرُّوا كلهم بالعبودية، وفطرهُمْ على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين، يقول:"أكفرتم بعد إيمانكم"، يقول: بعد ذلك الذي كان في زمان آدم. وقال في الآخرين: الذين استقاموا على إيمانهم ذلك، فأخلصوا له الدين والعمل، فبيَّض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه وجنته. * * * وقال آخرون: بل الذين عنوا بقوله:"أكفرتم بعد إيمانكم"، المنافقون. *ذكر من قال ذلك: 7605- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" الآية، قال: هم المنافقون، كانوا أعطوا كلمةَ الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب، القولُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار، وأنّ الإيمان الذي يوبَّخُون على ارتدادهم عنه، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) [سورة الأعراف: 172] .   (1) يعني آية"سورة الأعراف: 172 قوله تعالى: {وَإِذْ أخَذَ ربكَ مِنْ بني آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميعَ أهل الآخرة فريقين: أحدهما سودًا وجوهه، والآخر بيضًا وجوهه. (1) فمعلوم -إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان- أن جميع الكفار داخلون في فريق من سُوِّد وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بُيِّض وجهه. فلا وجه إذًا لقول قائل:"عنى بقوله:"أكفرتم بعد إيمانكم"، بعض الكفار دون بعض"، وقد عمّ الله جل ثناؤه الخبرَ عنهم جميعهم، وإذا دخل جميعهم في ذلك، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعدُ إلا حالة واحدة، كان معلومًا أنها المرادة بذلك. (2) * * * فتأويل الآية إذًا: أولئك لهم عذاب عظيمٌ في يوم تبيضُّ وجوه قوم وتسودُّ وجوه آخرين. فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال: أجحدتم توحيد الله وعهدَه وميثاقَه الذي واثقتموه عليه، بأن لا تشركوا به شيئًا، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم =يعني: بعد تصديقكم به؟ ="فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، يقول: بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق="وأما الذين أبيضَّت وجوههم". ممن ثبتَ على عهد الله وميثاقه، فلم يبدِّل دينه، ولم ينقلب على عَقِبيه بعد الإقرار بالتوحيد، والشهادة لربه بالألوهة، وأنه لا إله غيره ="ففي رحمة الله"، يقول: فهم في رحمة الله، يعني: في جنته ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها="هم فيها خالدون"، أي: باقون فيها أبدًا بغير نهاية ولا غاية. * * *   (1) في المطبوعة: "سوداء ... بيضاء" والصواب ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "أنها المراد" بغير تاء، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"تلك آيات الله"، هذه آيات الله. * * * وقد بينا كيف وضعت العرب"تلك" و"ذلك" مكان"هذا" و"هذه"، في غير هذا الموضع فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وقوله:"آيات الله"، (2) يعني: مواعظ الله وعبره وحججه. ="نتلوها عليك"، (3) نقرؤها عليك ونقصُّها=" (بالحق) ، يعني بالصدق واليقين. وإنما يعني بقوله:"تلك آيات الله"، هذه الآيات التي ذكر فيها أمورَ المؤمنين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده، وبالمبدِّلين دينه، والناقضين عهدَه بعد الإقرار به. ثم أخبر عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يتلو ذلك عليه بالحق، وأعلمه أن من عاقبَ من خلقه بما أخبر أنه معاقبه [به] : (4) من تسويد وجهه، وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه =ومن جازاه منهم بما جازاه: من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه، بتخليده في دائم نعيمه، فبغير ظلم منه لفريق منهم، بل بحق استوجبوه، (5) وأعمال لهم سلفت، جازاهم عليها، فقال تعالى ذكره:"وما الله يريد ظلمًا للعالمين"، يعني بذلك: وليس الله يا محمد=   (1) انظر ما سلف 1: 225 - 228 / 3: 335. (2) انظر تفسير"آية" فيما سلف في فهارس اللغة مادة"أيا". (3) انظر تفسير"تلا" فيما سلف 2: 409 - 411، 566 - 570 / 6: 466. (4) في المطبوعة: "أن من عاقبه"، وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب. وما بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق. (5) في المطبوعة: "بل لحق"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 بتسويد وجوه هؤلاء، وإذاقتهم العذاب العظيم، وتبييض وجوه هؤلاء وتنعيمه إياهم في جنته =طالبًا وضعَ شيء مما فعل من ذلك في غير موضعه الذي هو موضعه= إعلامًا بذلك عباده أنه لن يصلح في حكمته بخلقه غير ما وعد أهل طاعته والإيمان به، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به = وإنذارًا منه هؤلاء وتبشيرًا منه هؤلاء. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (109) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم وتسويد الوجوه، ويثيب أهلَ الإيمان به الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها بما وصفَ أنه مثيبهم به من الخلود في جنانه، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل، لأنه لا حاجة به إلى الظلم. وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه، أو إلى سلطانه سلطانًا، أو إلى ملكه ملكًا، = (1) أو إلى نقصان في بعض أسبابه يتمم بها ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام. (2) فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب، وما في الدنيا والآخرة، فلا معنى لظلمه أحدًا، فيجوز أن يظلم شيئًا، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقصٌ يحتاج إلى تمام، فيتم ذلك بظلم   (1) في المطبوعة: "وإلى ملكه" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "وإلى ملكه ملكًا لنقصان في بعض أسبابه يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام"، وهي جملة تشبه أن تكون مستقيمة، بيد أن الطبري أراد أن الظالم يظلم ليزداد عزة إلى عزه - أو سلطانًا إلى سلطانه - أو ملكًا إلى ملكه - أو أن يتمم بظلمه ما كان ناقصًا من أسبابه. وعبارة الطبري التي أثبتها مستقيمة جدا على طريقته في العبارة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 غيره، تعالى الله علوًّا كبيرًا. ولذلك قال جل ثناؤه عَقِيب قوله:"وما الله يريد ظلمًا للعالمين"،"ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور". * * * واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" ظاهرًا، وقد تقدم اسمُه ظاهرًا مع قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض". فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة: ذلك نظيرُ قول العرب:"أما زيدٌ فذهب زيدٌ"، وكما قال الشاعر: (1) لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى وَالفَقِيرَا (2) فأظهر في موضع الإضمار. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: ليس ذلك نظير هذا البيت، لأن موضع"الموت"   (1) هو عدى بن زيد، وقد ينسب إلى ولده سوادة بن عدي، وربما نسب لأمية بن أبي الصلت. (2) حماسة البحتري: 98، وشعراء الجاهلية: 468، وسيبويه 1: 30، وخزانة الأدب 1: 183، 2: 534، 4: 552، وأمالي ابن الشجري 1: 243، 288، وشرح شواهد المغني: 296، وهو من أبيات مفرقة في هذه الكتب وغيرها من حكمة عدي في تأمل الحياة والموت، يقول قبل البيت: إنّ للدَّهْرِ صَوْلَةً فَاحْذَرنْهَا ... لا تَبِيتَنَّ قَدْ أمِنْتَ الدّهورَا قَدْ يَنَامُ الفَتَى صَحِيحًا فَيَرْدَى ... وَلَقَدْ بَاتَ آمِنًا مَسْرُورَا لا أَرَى المَوْتَ ................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ثم يقول بعد أبيات: أَيْنَ أيْنَ الفِرَارُ مِمَّا سَيَأْتِي ... لا أَرَى طَائِرًا نَجَا أَنْ يَطِيرَا ويقول: غني الناس وفقيرهم، فيهم مفسد عليه حياته من مخافة هذا الموت، ومن ترقبه، هذا يخاف أن يسبقه الموت إلى ماله الذي جمع، وذاك يفزع أن يسبقه الردى إلى ما يؤمل من متاع الدنيا. وكان هذا البيت في المخطوطة فاسدًا محرفًا ناقصًا، وهو في المطبوعة سوى مستقيم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 الثاني في البيت موضع كناية، لأنه كلمة واحدة، (1) وليس ذلك كذلك في الآية، لأن قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض" خبرٌ، ليس من قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" في شيء، وذلك أنّ كلّ واحدة من القصتين مفارقٌ معناها معنى الأخرى، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها، غير محتاجة إلى الأخرى. وما قال الشاعر:"لا أرى الموت"، محتاجٌ إلى تمام الخبر عنه. (2) * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب، لأن كتاب الله عز وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيان، (3) إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم، وجهٌ صحيح موجودٌ. وأما قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" فإنه يعني تعالى ذكره: إلى الله مصير أمر جميع خلقه، الصالح منهم والطالح، والمحسن والمسيء، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء، بغير ظلم منه أحدا منهم. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس". فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة   (1) الكناية: هو الضمير في اصطلاح بقية النحويين. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "كما قال الشاعر"، وهو غير مستقيم، والصواب ما أثبت. (3) في المطبوعة: "لا يؤخذ معانيه"، وفي المخطوطة: "لا يوحد" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، والناسخ كثير التصحيف كما علمت، والدال هي الهاء في آخر الكلمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 إلى المدينة وخاصة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. *ذكر من قال ذلك: 7606- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين خرجوا معه من مكة. 7607- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. 7608- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال:"أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال:"كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. 7609- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، عكرمة: نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل. 7610- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه: قال عمر:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا. 7611- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. (1)   (1) الأثر: 7611- رواه أحمد في المسند رقم: 2463، 2928، 2989، 3321، وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 294، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 7612- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجّة حجّها ورأى من الناس رِعَة سيئة، (1) فقرأ هذه:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، الآية. ثم قال: يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها. (2) 7613- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، يعني = وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. (3) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم. *ذكر من قال ذلك: 7614- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، يقول: على هذا الشرط: أن تأمرُوا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله = يقول: لمن أنتم بين ظهرانيه، كقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة الدخان: 32] . 7615- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) الرعة (بكسر الراء وفتح العين) أصلها من الورع، مثل"العدة" من"الوعد". والرعة: الهدى وسوء الهيئة أو حسن الهيئة، أي هي بمعنى: الشأن والأمر والأدب. وفي حديث الحسن: "ازدحموا عليه فرأى منهم رعة سيئة فقال: اللهم إليك"، أي سوء أدب، لم يحسنوا الكف عما يشين. (2) قوله: "شرط الله منها"، أي شرط الله الذي طلبه منها. (3) قد مضى تفسير معنى"الرواة" في الأثر رقم 7597، والتعليق عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 ابن جريج، عن مجاهد قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال يقول: كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر. وتؤمنوا بالله = يقول: لمن بين ظَهريه، كقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة الدخان: 32] . 7616- وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: كنتم خير الناس للناس، تجيئون بهم في السلاسل، تدخلونهم في الإسلام. (1) 7617- حدثنا عبيد بن أسباط قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: خيرَ الناس للناس. * * * وقال آخرون: إنما قيل:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام. *ذكر من قال ذلك: 7618- حدثت عن عمار بن الحسن قال، (2) حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثمَ قال:"كنتم خير أمة أخرجت للناس". * * *   (1) الأثر: 7616- أخرجه البخاري من طريق محمد بن سفيان عن ميسرة. (الفتح 8: 169) وقال الحافظ: "ميسرة: هو ابن عمار الأشجعي، كوفي ثقة ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق". و"أبو حازم" هو"سلمان الأشجعي الكوفي"، وفي الفتح"سليمان"، وهو خطأ وتصحيف. ولفظ البخاري: "تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام". وقد استوفى الحافظ في هذا الموضع، الحديث عن معنى الآية، وذكر أكثر الآثار التي سلفت، والتي ستأتي بعد. (2) في المطبوعة: "عمار بن الحسين"، وهو خطأ، والصواب في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 وقال بعضهم: عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس. *ذكر من قال ذلك: 7619- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال: قد كان ما تسمعُ من الخير في هذه الأمة. 7620- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرُها وأكرمُها على الله. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن، وذلك أن: 7621- يعقوب بن إبراهيم حدثني قال، حدثنا ابن علية، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ألا إنكم وفيَّتم سبعين أمَّة، أنتم آخرها وأكرمها على الله. 7622- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: أنتم تتمُّون سبعين أمة، أنتم خيرُها وأكرمها على الله". (1)   (1) الحديثان: 7621، 7622- هما حديث واحد بإسنادين. وقد مضى بالإسنادين معًا مجموعين، برقم: 873. وقد خرجناه هناك مفصلا، وأشرنا إلى مواضعه هنا في طبعة بولاق. ونزيد هنا أنه رواه أيضا الحاكم في المستدرك 4: 84، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، بالإسناد الثاني هنا. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ثم أشار الحاكم إلى متابعة سعيد الجريري، بروايته إياه عن حكيم بن معاوية. ثم رواه من طريق يزيد بن هارون، عن الجريري. ورواية الجريري سبق أن خرجناها هناك من رواية أحمد في المسند. وذكره الحافظ في الفتح 8: 169، مشيرًا إلى رواية الطبري إياه، ثم قال: "وهو حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي وحسنه. وابن ماجه، والحاكم وصححه". وقد ورد معناه أيضًا، ضمن حديث مطول عن أبي سعيد الخدري، مرفوعا، رواه أحمد في المسند: 11609 (ج3 ص 61 حلبى) . وإسناده صحيح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 7623- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة:"نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرُها". * * * وأما قوله:"تأمرون بالمعروف"، فإنه يعني: تأمرون بالإيمان بالله ورسوله، والعمل بشرائعه ="وتنهون عن المنكر"، يعني: وتنهون عن الشرك بالله. وتكذيب رسوله، وعن العمل بما نهى عنه، كما:- 7624- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس". يقول: تأمرونهم بالمعروف: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و"لا إله إلا الله"، هو أعظم المعروف = وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكرُ المنكر. * * * وأصل"المعروف" كل ما كان معروفًا فعله، جميلا مستحسنًا، (1) غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله"معروفًا"، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله. (2) . * * * وأصل"المنكر"، ما أنكره الله، ورأوه قبيحًا فعلهُ، ولذلك سميت معصية الله"منكرًا"، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون رُكوبها. (3) * * * وقوله:"وتؤمنون بالله"، يعني: تصدّقون بالله، فتخلصون له التوحيد والعبادة. * * *   (1) في المطبوعة: "كل ما كان معروفًا، ففعله جميل مستحسن"، غيروا نص المخطوطة. ظنًا منهم أنه غير مستقيم، وهو أحسن استقامة مما أثبتوا!! بل هو الصواب المحض. (2) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف قريبًا ص: 91، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف قريبا ص: 91. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل:"كنتم خير أمة"، وقد زعمتَ أن تأويل الآية: أنّ هذه الأمة خيرُ الأمم التي مضت، وإنما يقال:"كنتم خير أمة"، لقوم كانوا خيارًا فتغيَّروا عما كانوا عليه؟ قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: أنتم خير أمة، كما قيل: (واذكروا إذ أنتم قليل) [الأنفال: 26] وقد قال في موضع آخر: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) [الأعراف: 86] فإدخال"كان" في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه. (1) ولو قال أيضا في ذلك قائل:"كنتم"، بمعنى التمام، كان تأويله: خُلقتم خير أمة = أو: وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحًا. * * * وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ، أخرجت للناس. * * * والقولان الأولان اللذان قلنا، أشبهُ بمعنى الخبر الذي رويناه قبلُ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أهل طريقة. وقال:"الأمة": الطريقة. (2) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 229. (2) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 1: 221 / ثم هذا ص 90، والمراجع هناك في التعليق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولو صدَّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله؛ لكان خيرًا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم ="منهم المؤمنون"، يعني: من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، المؤمنون المصدِّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله، وهم: عبد الله بن سلام وأخوه، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه، (1) وأشباههم ممن آمنوا بالله وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله ="وأكثرهم الفاسقون"، يعني: الخارجون عن دينهم، (2) وذلك أن من دين اليهود اتباعُ ما في التوراة والتصديقُ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن دين النصارى اتباعُ ما في الإنجيل، والتصديق به وبما في التوراة، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه، (3) وأنه نبي الله. وكلتا الفرقتين -أعني اليهود والنصارى- مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به، الذي قال جل ثناؤه:"وأكثرهم الفاسقون". * * * وقال قتادة بما:-   (1) في المطبوعة: "ثعلبة بن سعيد"، وهو خطأ، والصواب ما أثبته من المخطوطة و"سعية" بالسين المهملة المفتوحة والياء المنقوطة باثنين. وسيأتي على الصواب في خبر إسلامه وإسلام أخيه، بعد قليل، رقم: 7644. (2) انظر تفسيره"الفسق" فيما سلف 1: 409، 410 / 2: 118، 399 / 4. 135 - 141 / 6: 91. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "وفي كل الكتابين. . ."، وهو تحريف، والصواب ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 7625- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"، ذم الله أكثر الناس. * * * القول في تأويل قوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن يضركم، يا أهل الإيمان بالله ورسوله، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم وتكذيبهم نبيَّكم محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئا ="إلا أذى"، يعني بذلك: ولكنهم يؤذونكم بشركهم، وإسماعكم كفرهم، وقولهم في عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلى الضلالة، ولن يضروكم بذلك، (1) . * * * وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله، كما قيل:"ما اشتكى شيئًا إلا خيرًا"، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعًا. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7626- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"لن يضروكم إلا أذى"، يقول: لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم. 7627- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"لن يضروكم إلا أذى"، قال: أذى تسمعونه منهم. 7628- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) في المطبوعة: "ولا يضرونكم"، وفي المخطوطة: "ولا يضروكم"، والصواب هو ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 ابن جريج، قوله:"لن يضروكم إلا آذى"، قال: إشراكهم في عُزير وعيسى والصَّليب. 7629- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"لن يضروكم إلا أذى" الآية، قال: تسمعون منهم كذبًا على الله، يدعونكم إلى الضلالة. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن يقاتلكم أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى يهزَموا عنكم، فيولوكم أدبارهم انهزامًا. * * * فقوله:"يولوكم الأدبار"، كناية عن انهزامهم، لأن المنهزم يحوِّل ظهره إلى جهة الطالب هربًا إلى ملجأ وموئل يئل إليه منه، خوفًا على نفسه، والطالبُ في أثره. فدُبُر المطلوب حينئذ يكون محاذي وجه الطالب الهازِمِِة. * * * ="ثم لا ينصرون"، يعني: ثم لا ينصرهم الله، أيها المؤمنون، عليكم، لكفرهم بالله ورسوله، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. لأن الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوبهم، فأيدكم أيها المؤمنون بنصركم. (1) . * * *   (1) في المطبوعة: "قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم"، وهو تصحيح لما في المخطوطة: "قد ألقى الرعب في قلوب فأيدكم"، وظاهر أن"قلوب" صوابها"قلوبهم"، واستقام الكلام على ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 وهذا وعدٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان، نصرَهم على الكفرة به من أهل الكتاب. * * * وإنما رفع قوله:"ثم لا ينصرون" وقد جَزم قوله:"يولوكم الأدبار"، على جواب الجزاء، ائتنافًا للكلام، لأن رؤوس الآيات قبلها بالنون، فألحق هذه بها، كما قال: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [سورة المرسلات: 36] ، رفعًا، وقد قال في موضع آخر: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [سورة فاطر: 36] إذْ لم يكن رأس آية. (1) * * * القول في تأويل قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"ضُربت عليهم الذلة"، ألزموا الذلة. و"الذلة""الفعلة" من"الذل"، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (2) * * * "أينما ثقفوا" يعني: حيثما لقوا. (3) * * * يقول جل ثناؤه: ألزِم اليهود المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها، من بلاد المسلمين والمشركين ="إلا بحبل من الله، وحبل من الناس"، كما:- 7630- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 229. (2) انظر تفسير"ضربت عليهم الذلة" فيما سلف 2: 136. (3) انظر تفسير"ثقف" فيما سلف 3: 564. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 الحسن في قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة"، (1) قال: أدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لتجبيهم الجزية. 7631- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: أذلهم الله فلا مَنْعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين. * * * وأما"الحبل" الذي ذكره الله في هذا الموضع، (2) فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يُثْقَفوا في بلاد الإسلام. كما:- 7632- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا بحبل من الله"، قال: بعهد ="وحبل من الناس"، قال: بعهدهم. 7633- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس. 7634- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 7635- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد، عن عثمان بن غياث، قال، (3) عكرمة: يقول:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: بعهد من الله، وعهد من الناس.   (1) سقط من الناسخ: "وباءوا بغضب من الله"، ومضت على ذلك المطبوعة، فأثبت وجه التلاوة. (2) انظر تفسير"الحبل" فيما سلف قريبا ص: 70، 71. (3) في المخطوطة: "عثمان بن عتاب"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 7636- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس. 7637- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس. 7638- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، فهو عهد من الله وعهد من الناس، كما يقول الرجل:"ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم"، فهو الميثاق. 7639- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: بعهد من الله وعهد من الناس لهم = قال ابن جريج، وقال عطاء: العهدُ حبل الله. 7640- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: إلا بعهد، وهم يهود. قال: والحبل العهد. قال: وذلك قول أبي الهيثم بن التَّيَّهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة:"أيها الرجل، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس"، يقول: عهودًا، قال: واليهود لا يأمنون في أرضٍ من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل. وقرأ: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [سورة آل عمران: 55] ، قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذَلُّون، قال الله: (وَقَطَّعْنَاهُم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 فِي الأرْضِ أُمَمًا) [سورة الأعراف: 168] ، يهود. (1) 7641- حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: بعهد من الله وعهد من الناس. 7642- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب"الباء" في قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، فقال بعض نحويي الكوفة: (2) الذي جلب"الباء" في قوله:"بحبل"، فعل مضمر قد تُرك ذكره. قال: ومعنى الكلام: ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا أن يعتصموا بحبل من الله = فأضمر ذلك، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: (3) رَأَتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الحَبْلِ رَوْعَاءُ الفُؤَادِ فَرُوقُ (4) وقال: أراد: أقبلت بحبليها، وبقول الآخر: (5)   (1) الأثر: 7640 - مضى مختصرًا برقم: 7155. (2) هو الفراء في معاني القرآن 1: 230. (3) هو حميد بن ثور الهلالي. (4) ديوانه: 35، ومعاني القرآن للفراء 1: 230، واللسان (نسع) و (فرق) وفي رواية البيت في مادة (فرق) خطأ قبيح وتصحيف، صوابه ما في التفسير هنا. وأما رواية الديوان فهي: فَجِئْتُ بِحَبْلَيْهَا، فَرَدَّتْ مَخَافةً ... إِلى النَّفْسِ رَوْعَاءُ الجنانِ فَرُوقُ و"روعاء الجنان": شديدة الذكاء، حية النفس، شهمة، كأن بها فزعًا من حدتها وخفة روحها. و"فروق": شديدة الفزع. لم يرد ذمًا، ولكنه مدح ناقته بحدة الفؤاد، تفزع لكل نبأة من يقظتها، كما قالوا في مدحها: "مجنونة". يقول ذلك في ناقته: رأتني أقبلت بالحبلين، لأشد عليها رحلي، فصدت خائفة. يصفها بأنها كريمة لم تبتذلها الأسفار. ثم قال: فلما شددت عليها الرحل، كانت في الحبل ذكية شهمة، تتوجس لكل نبأة من يقظتها وتوقدها. (5) هو أبو الطمحان القينى، حنظلة بن الشرقي، من بني كنانة بن القين. وهو أحد المعمرين وينسب هذا الشعر أيضًا لعدي بن زيد، وللمسحاج بن سباع الضبي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 حَنْتنِي حَانِيَاتُ الدَّهْرِ حَتَّى ... كأَنِّي خَاتِلٌ أَدْنُو لِصَيْدِ (1) قَرِيبُ الخَطُوِ يَحْسِبُ مَنْ رَآنِي ... وَلْسُت مقَيدًا أَنِّى بِقَيْدِ فأوجب إعمال فعل محذوف، وإظهار صلته وهو متروك. (2) وذلك في مذاهب العربية ضعيف، ومن كلام العرب بعيد. وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات، فغير دالّ على صحة دعواه، لأن في قول الشاعر:"رأتني بحبليها"، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكًا، ففي إخباره عنها أنها"رأته بحبليها"، إخبارٌ منه أنها رأته ممسكًا بالحبلين. فكان فيما ظهر من الكلام مستغنًى عن ذكر"الإمساك"، وكانت"الباء" صلة لقوله:"رأتني"، كما في قول القائل: (3) "أنا بالله"، مكتف بنفسه، ومعرفةِ السامع معناه، أن تكون"الباء" محتاجة إلى كلام يكون لها جالبًا غير الذي ظهر، وأن المعنى:"أنا بالله مستعين". * * *   (1) كتاب المعمرين: 57، ومعاني القرآن للفراء 1: 230، والأغاني 2: 353، 356، وفيه أيضا 12: 347، وحماسة البحتري: 202، وأمالي القالي 1: 110، وأمالي الشريف 1: 46، 257، ومجموعة المعاني: 123، والمعاني الكبير: 1214، مع اختلاف كبير في الرواية، واللسان (ختل) ، وغيرها. هذا، وقد اقتصرت المطبوعة والمخطوطة على البيت الأول، وهو عمل فاسد جدًا، وليس من فعل أبي جعفر بلا شك، ولكنه من سهو الناسخ. لأن أبا جعفر نقل مقالة الفراء في معاني القرآن، وإسقاط البيت الثاني، وهو بيت الشاهد، فساد عظيم، فأثبت البيت، وأثبت أيضًا تعقيب الفراء عليه، وهو قوله: "يريد مقيدًا بقيد"، ولم أضع هذا بين أقواس، لأن سهو الناسخ أمر مقطوع به بالدليل البين. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أحنو لصيد"، وهو تصحيف لا شك فيه. ذلك أن أبا جعفر إنما ينقل مقالة الفراء، وهو في كتاب الفراء، وفيما نقله عنه الناقلون في المراجع السالفة، هو الذي أثبته. هذا مع ظهور التصحيف وقربه، ومع فساد معنى هذا التصحيف، ومع فقدان هذه الرواية الغريبة. وقوله: "خاتل"، يعني صائدًا، يقال: "ختل الصيد"، أي: استتر الصائد بشيء ليرمي الصيد، فهو في سبيل ذلك يمشي قليلا قليلا في خفية، لئلا يسمع الصيد حسه. فهذا هو الختل والمخاتلة. (2) "الصلة" هنا: الجار والمجرور. (3) في المطبوعة: "كما في قول القائل" بزيادة"في"، وهي أشد إفسادًا للكلام من تصحيف هذا الناسخ في بعض ما يكتب. وقوله: "مكتف بنفسه" خبر لقوله: "كما قول القائل" وقوله: "ومعرفة السامع" معطوف على قوله: "بنفسه" أي: مكتف بنفسه وبمعرفة السامع معناه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 وقال بعض نحويي البصرة، قوله:"إلا بحبل من الله" استثناء خارجٌ من أول الكلام. قال: وليس ذلك بأشد من قوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا) [سورة مريم: 62] * * * وقال آخرون من نحويي الكوفة: هو استثناء متصل، والمعنى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، أي: بكل مكان = إلا بموضع حبل من الله، كما تقول: ضُربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان. * * * وهذا أيضًا طلب الحق فأخطأ المفصل. وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلا كما زعم، لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة. وليس ذلك صفة اليهود، لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس، أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس، فالذلة مضروبة عليهم، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل. فلو كان قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثُقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلةُ مضروبةً عليهم. وذلك خلاف ما وصَفهم الله به من صفتهم، وخلافُ ما هم به من الصفة، فقد تبين أيضًا بذلك فساد قول هذا القائل أيضًا. * * * قال أبو جعفر: ولكن القول عندنا أن"الباء" في قوله:"إلا بحبل من الله"، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتضٍ في المعنى"الباء". وذلك أن معنى قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا" ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا = ثم قال:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس" على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه. ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 كما قيل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً) [سورة النساء: 92] ، فالخطأ وإن كان منصوبًا بما عمل فيما قبل الاستثناء، فليس قوله باستثناء متصل بالأول بمعنى:"إلا خطأ"، فإن له قتله كذلك = ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ. فكذلك قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله، وإن كان الذي جلب"الباء" التي بعد"إلا" الفعل الذي يقتضيها قبل"إلا"، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله، بمعنى: أن القوم إذا لُقوا، فالذلة زائلة عنهم، بل الذلة ثابتة بكل حال. ولكن معناه ما بينا آنفا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"وباؤوا بغضب من الله"، وتحمَّلوا غضب الله فانصرفوا به مستحقِّيه. وقد بينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى"المسكنة" وأنها ذل الفاقة والفقر وخُشوعهما، ومعنى:"الغضب من الله" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وقوله:"ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله"، يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلك"، أي بوْءُهم الذي باءوا به من غضب الله، وضْربُ الذلة عليهم، بدل مما كانوا   (1) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138، 345. وتفسير"غضب الله" 1: 188، 189 / 2: 138، 345. وتفسير"ضربت عليهم" 2: 136 / 7: 110 وتفسير"المسكنة" 2: 137، 292، 293 / 3: 345 / 4: 295. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 يكفرون بآيات الله = يقول: مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه، وما فرض عليهم من فرائضه ="ويقتلون الأنبياء بغير حق"، يقول: وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم، اعتداءً على الله وجرأة عليه بالباطل، وبغير حق استحقوا منهم القتل. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ألزِموا الذلة بأي مكان لُقوا، إلا بذمة من الله وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من الله متحمِّليه، وألزموا ذل الفاقة وخشوع الفقر، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله وأدلته وحججه، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلمًا واعتداء. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الأنبياء، ومعصيتهم ربَّهم، واعتدائهم أمرَ ربهم. * * * وقد بينا معنى"الاعتداء" في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته (1) . * * * فأعلم رُّبنا جل ثناؤه عبادَه، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا، مع ما ذخر لهم في الأجل من العقوبة والنكال وأليم العذاب، (2) إذ تعدوا حدودَ الله، واستحلوا محارمه = تذكيرًا منه تعالى ذكره   (1) انظر ما سلف 2: 142، 167، 307 / 3: 375، 376، 564، 580 / 4: 583، 584، وغيرها. (2) في المطبوعة: "مع ما ادخر لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء في المعنى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 لهم، وتنبيهًا على موضع البلاء الذي من قِبَاله أتوا لينيبوا ويذّكروا، وعِظة منه لأمتنا أن لا يستنُّوا بسنتهم ويركبوا منهاجهم، (1) فيسلك بهم مسالكهم، ويحل بهم من نقم الله ومثُلاته ما أحل بهم. كما:- 7643- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، اجتنِبُوا المعصية والعدوان، فإن بهما أهلِك مَنْ أُهْلك قبلكم من الناس. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ليسوا سواء"، ليس فريقًا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر: سواء. يعني بذلك: أنهم غير متساوين. يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر. (2) . * * * وإنما قيل:"ليسوا سواء"، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) ، (3) ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة فقال:"ليسوا سواء"، أي: ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الخبرَ جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل   (1) في المطبوعة: "منها جهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو أجود. (2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256. (3) هي الآية السالفة قبل قليل: 110 من سورة آل عمران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 الكتاب، ومدحَهم، وأثنى عليهم، بعد ما وصف الفِرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع، ونَخْب الجَنان، (1) ومحالفة الذل والصغار، وملازمة الفاقة والمسكنة، وتحمُّل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة، فقال:"من أهل الكتاب أمَّة قائمةٌ يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون"، الآيات الثلاث، إلى قوله:"والله عليم بالمتقين". * * * فقوله: (2) "أمة قائمة" مرفوعةٌ بقوله:"من أهل الكتاب". * * * وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدَّمين منهم في صناعتهم: (3) أن ما بعد"سواء" في هذا الموضع من قوله:"أمة قائمة"، ترجمةٌ عن"سواء" وتفسيرٌ عنه، (4) بمعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة. وزعموا أنّ ذكر الفرقة الأخرى، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين، وهي"الأمة القائمة"، ومثَّلوه بقول أبي ذئيب: عَصَيْتُ إلَيْهَا القَلْبَ: إنِّي لأمْرِهَا ... سَمِيعٌ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابُهَا? (5) ولم يقل:"أم غير رشد"، اكتفاء بقوله:"أرشد" من ذكر"أم غير رشد"،. وبقول الآخر: (6) أَرَاك فَلا أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتُه? ... وَذُو الهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ (7) * * *   (1) النخب (بفتح فسكون) : الجبن وضعف القلب. ورجل منخوب الجنان ونخيب الجنان: جبان لا قلب له، كأنه منتزع الفؤاد فلا فؤاد له. (2) في المطبوعة: "قوله" بغير فاء في أولها، والصواب من المخطوطة. (3) يعني الفراء في معاني القرآن 1: 230، 231، وهذا قريب من نص كلامه، وبعض شواهده. (4) الترجمة: يعني البدل، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2: 340، 374، 420، 424، 426، وغيرها من المواضع في فهرس المصطلحات. (5) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1: 327. (6) لم أعرف قائله. (7) معاني القرآن للفراء 1: 231. وكان في المطبوعة: "أزال فلا أدري ... "، وهو لا معنى له، والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن. ولست أدري أيخاطب امرأة فيقول لها: إن الهم يغلبني إذا رأيتك. فأنا له خاشع متضائل = أم هو يريد الهم والفتك، فيقول: إن الذي يضمر في نفسه شيئًا يهم به من الفتك، يخفى شخصه حتى يبلغ غاية ثأره بعدوه. ولا أرجح شيئًا حتى أجد إخوة هذا البيت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 قال أبو جعفر: وهو مع ذلك عندهم خطأٌ قولُ القائل المريد أن يقول:"سواء أقمتَ أم قعدت" =:"سواء أقمت"، حتى يقول:"أم قعدت".، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيًا بواحد، دون ما كان ناقصًا عن ذلك، وذلك نحو:"ما أبالي" أو"ما أدري"، فأجازوا في ذلك:"ما أبالي أقمت"، وهم يريدون:"ما أبالي أقمت أم قعدت"، لاكتفاء"ما أبالي" بواحد = وكذلك في"ما أدري". وأبوا الإجازة في"سواء"، من أجل نقصانه، وأنه غير مكتف بواحد، فأغفلوا في توجيههم قوله:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة" على ما حكينا عنهم، إلى ما وجهوه إليه -مذاهبَهم في العربية = (1) إذّ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع"سواء"، وأخطأوا تأويل الآية. فـ"سواء" في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء، لا بالمعنى الذي تأوَّله من حكينا قوله. * * * وقد ذكر أن قوله:"من أهل الكتاب أمة قائمة" الآيات الثلاث، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم. *ذكر من قال ذلك: 7644- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سَعْية، وأسَيْد بن سعية، وأسد بن عُبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدَّقوا ورغبوا في الإسلام، ورسخوا   (1) قوله: "مذاهبهم" مفعول"فأغفلوا". والسياق: فأغفلوا في توجيههم قوله إلى ما وجهوه إليه - مذاهبهم في العربية. . . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 فيه، (1) قالت: أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! (2) ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله" إلى قوله:"وأولئك من الصالحين". (3) 7645- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير، (4) عن محمد بن إسحاق قال، حدثني بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه. (5) 7646- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة" الآية، يقول: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية. (6) 7647- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"أمة قائمة"، عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية، (7) ومبشر، وأسَيْد وأسد ابنا كعب. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله، سواء عند الله. *ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "ومنحوا فيه"، وفي المخطوطة: "ومحوا" غير منقوطة، وهي تصحيف للذي أثبته من سيرة ابن هشام. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود. (3) الأثران: 7644، 7645 - سيرة ابن هشام 2: 206. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "يونس عن بكير"، وهو خطأ، وهذا إسناد كثير الدوران في التفسير أقربه رقم: 7334. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود. (6) في المخطوطة"لله فيهم عليه" غير منقوطة، وتركت ما في المطبوعة، لأنه وافق ما في الدر المنثور 2: 64، 65. (7) في المطبوعة: "شعية"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 7648- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة"، قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمةُ محمد صلى الله عليه وسلم. (1) 7649- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة"، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك، قولُ من قال: قد تمت القصة عند قوله:"ليسوا سواء"، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم، وأنّ قوله:"من أهل الكتاب أمة قائمة"، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج. * * * ويعني جل ثناؤه بقوله:"أمة قائمة"، جماعة ثابتةٌ على الحق. * * * وقد دللنا على معنى"الأمة" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2) وأما"القائمة"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناها: العادلة. *ذكر من قال ذلك:   (1) الحديث: 7648- أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد. مضى في: 2155. عيسى: هو ابن ميمون الجرشي المكي. مضى في: 278. الحسن بن يزيد العجلى: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمة البخاري في الكبير، 1 / 2 / 306، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 42 - فلم يذكرا فيه جرحًا وهذا الحديث ذكره ابن كثير 2: 224، عن ابن أبي نجيح غير منسوب لتخريج وسيأتي له بقية بهذا الإسناد 7660، وقد جمعها السيوطي حديثا واحدا 2: 65، كما سيأتي هناك. (2) انظر ما سلف قريبًا ص: 106 والتعليق: 2، وفيه المراجع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 7650- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أمة قائمة"، قال: عادلة. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه. *ذكر من قال ذلك: 7651- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"أمة قائمة"، يقول: قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. 7652- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"أمة قائمة"، يقول: قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه. 7653- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"من أهل الكتاب أمة قائمة"، يقول: أمة مهتدية، قائمة على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. * * * وقال آخرون. بل معنى"قائمة"، مطيعة. *ذكر من قال ذلك: 7654- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أمة قائمة"، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله و"القانتة"، المطيعة. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقوال الأخَر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله:"قائمة"، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه، والعدلُ والطاعةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 وغير ذلك من أسباب الخير، (1) من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك، الخبرُ الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 7655- "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة"، ثم ضرب لهم مثلا. (2) . * * * فالقائم على حدود الله: هو الثابت على التمسك بما أمره الله به، واجتناب ما نهاهُ الله عنه. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "بالعدل والطاعة. . ."، وهو خطأ وفساد كبير في السياق، والصواب ما أثبت، لأن الطبري فسر"قائمة" بمعنى مستقيمة، ثم ذكر أقوال أهل التأويل التي قالوها قبل من"العدل" و"الطاعة"، ثم قال إنها"من صفة أهل الاستقامة". فهي بذلك داخلة في معنى"قائمة" كما فسرها. (2) الحديث: 7655- هذا حديث صحيح، أشار إليه الطبري إشارة، دون أن يذكره بتمامه، ولم يذكر إسناده. وقد رواه أحمد في المسند 4: 268 (حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بَشِير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ القائم على حدود الله تعالى، والمُدْهِنِ فيها، كَمَثَلِ قوم اسْتَهَمُوا على سَفِينة في البحر فأصاب بعضُهم أَسْفَلهَا، وأصاب بعضُهم أَعْلاها، فكان الذين في أسفلها يَصْعَدُون فيَسْتَقُون الماءَ، فيَصُبُّون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أَعلاها: لا نَدَعُكم تَصْعَدون فتؤْذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإننا نَنْقُبُها من أسفلها فنَسْتَقِي! قال: فإن أَخَذُوا على أيديهم فمَنَعُوهم نَجَوْا جميعًا، وإن تركوهم غَرِقُوا جميعًا". ثم رواه أحمد أيضًا 4: 269، عن يحيى بن سعيد، عن زكريا، و 270، عن إسحاق بن يوسف، عن زكريا بن أبي زائدة، و 273 - 274، عن سفيان، عن مجالد - كلاهما، أعني زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، نحوه. ورواه البخاري 5: 94 (فتح) ، عن أبي نعيم، عن زكريا، عن الشعبي. ثم رواه أيضا 5: 216: 217، عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن الشعبي، به نحوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 القول في تأويل قوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) } قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يتلون آيات الله"، يقرءون كتاب الله آناء الليل. ويعني بقوله:"آيات الله"، ما أنزل في كتابه من العبَر والمواعظ. يقول: يتلون ذلك آناء الليل، يقول: في ساعات الليل، فيتدبَّرونه ويتفكرون فيه. * * * وأما"آناء الليل"، فساعات الليل، واحدها"إنْيٌ"، كما قال الشاعر: (1) حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ القِدْحِ مِرَّتُهُ ... فِي كُلِّ إِنْيٍ حذَاه اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ (2)   (1) هو المتنخل الهذلي، ولكنه سيأتي في الطبري منسوبًا إلى"المنخل السعدي"، وهو خطأ حققته في موضعه بعد. (2) ديوان الهذليين 2: 35، ومجاز القرآن 1: 102، وسيرة ابن هشام 2: 206، واللسان"أنى"، وسيأتي من التفسير 16: 168 (بولاق) ، من قصيدته في رثاء ابنه أثيلة، والبيت في صفة ولده، وقد رواه ابن الأنباري، كما جاء في اللسان: السَّالِكُ الثَّغْرَ مَخْشِيًّا مَوَارِدُهُ ... بِكُلِّ إِنْيٍ قَضَاه اللَّيلُ يَنْتَعِلُ فذكر الأزهري رواية ابن الأنباري، وقال: وأنشده الجوهري، ثم ساق البيت كما هو في التفسير، ثم قال: "ونسبه أيضا للمنخل، فإما أن يكون هو البيت بعينه، أو آخر من قصيدة أخرى". وهذا كلام لا شك في ضعفه، والذي رواه ابن الأنباري خلط خلطه من بيت آخر في القصيدة، أخطأ في روايته. وهو قوله قبل ذلك بأبيات: السَّالِكُ الثَّغْرَةَ اليَقْظَانَ كَالِئُهَا ... مَشْىَ الهَلُوكِ عَلَيْها الخَيْعَلُ الفُضُلُ وأما معنى البيت الذي رواه في التفسير، فإنه يعني بقوله: "حلو ومر"، أنه سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنة. وقوله"كعطف القدح"، يريد أنه يطوى كما يطوى القدح ثم يعود إلى شدته واستقامته. والمرة: القوة والشدة. ورواية الديوان والطبري"حذاه الليل"، أي قطعه الليل حذاء، وهو شبيه في المعنى بقوله: "قضاه"، لأن معنى"قضاه": أي صنعه وقدره وفصله. وانتعل الليل: اتخذه نعلا، يعني سرى فيه، غير حافل بما يلقى. هذا، وقد كان في المطبوعة من التفسير: "قضاه الليل"، نقله ناشر من مكان غير التفسير، لأن في المخطوطة"حداه" غير منقوطة، فلم يعرف معناها، ولم يعرف صوابها فاستبدل بها ما أثبته من اللسان أو غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 وقد قيل إنّ واحد"الآناء"،"إنًى" مقصور، كما واحد"الأمعاء""مِعًى". * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: ساعات الليل، كما قلنا. *ذكر من قال ذلك: 7656- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يتلون آيات الله آناء الليل"، أي: ساعات الليل. * * * 7657- حدثت عن عمار قال، حدثنا أبن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"آناء الليل"، ساعات الليل. 7658- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال، عبد الله بن كثير: سمعنا العرب تقول:"آناء الليل"، ساعات الليل. وقال آخرون"آناء الليل"، جوف الليل. *ذكر من قال ذلك: 7659- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يتلون آيات الله آناء الليل"، أما"آناء الليل"، فجوفُ الليل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 وقال آخرون: بل عنى بذلك قومٌ كانوا يصلون العشاء الآخرة. (1) *ذكر من قال ذلك: 7660- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"يتلون آيات الله آناء الليل"، صلاة العَتَمة، هم يصلُّونها، ومَنْ سِواهم من أهل الكتاب لا يصلِّيها. (2) 7661- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن سليمان، عن زِرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، كان عند بعض أهله ونسائه: فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فبشَّرنا وقال:"إنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب! فأنزل الله:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" (3) * * *   (1) في المطبوعة: "العشاء" الأخيرة"، والصواب من المخطوطة. (2) الحديث: 7660- هذا تتمة الحديث الماضي بهذا الإسناد: 7648، كما أشرنا هناك. وقد جمعهما السيوطى 2: 65 حديثًا واحدًا، نسبه للفريابي، والبخاري في تاريخه. وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. ولم نر من هذه المصادر إلا ابن جرير، وهو قد رواه مفرقًا حديثين، كما ترى - وإلا التاريخ الكبير للبخاري، وهو لم يروه كله. بل روى هذا القسم الأخير وحده موجزًا كعادته، في ترجمة الحسن بن يزيد 1 / 2 / 306، قال، "قال محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن ابن مسعود (يتلون آيات الله آناء الليل) ، قال: صلاة العتمة. وروى عمر بن ذر، عن الحسن بن يزيد العجلى، مرسلا". وانظر الحديثين بعد هذا. (3) الحديث: 7661- عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي: ثقة، وثقه البخاري فيما نقل عنه الترمذي، كما في التهذيب، وكذلك وثقه أحمد بن صالح، فيما روى عنه أبو داود. وضعفه أحمد، وابن معين، وابن المديني. وروى ابن أبي حاتم 2 / 2 / 315 عن أبيه، أنه قال: "لين الحديث". وعن أبي زرعة، أنه قال: "لا بأس به، صدوق". ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء، ونرى أن من تكلم فيه إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني، الحمل فيها على علي بن يزيد. وانظر التهذيب. و"زحر": بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة. سليمان: هو الأعمش. وأنا أخشى أن يكون قد سقط من هذا الإسناد"عن عاصم" - بين سليمان الأعمش وزر بن حبيش. فإن الأعمش لم يذكر أنه يروى عن زر، وإنما روايته عنه بواسطة"عاصم بن أبي النجود" وأقرانه من هذه الطبقة. والحديث سيأتي -نحوه- عقب هذا. وتخريجه هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 7662- حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي يحيى الخراساني، عن نصر بن طريف، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر العشاء -يريد العَتَمة- فقال لنا: ما على الأرض أحدٌ من أهل الأديان ينتظر هذة الصلاة في هذا الوقت غيركم! قال: فنزلت:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" (1)   (1) الحديث: 7662- علي بن معيد بن شداد العبدي. الرقي، نزيل مصر: ثقة، روى عنه أبو حاتم ووثقه. وقال الحاكم: "شيخ من جلة المحدثين". أبو يحيى الخراساني: لم أعرف من هو، بعد طول البحث والتتبع. وفي كنية"أبي يحيى"، وفي نسبة"الخراساني" كثرة. نصر بن طريف، أبو جزى القصاب الباهلي: ضعيف جدًا، أجمعوا على ضعفه. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 105، وقال: "سكتوا عنه، ذاهب"، وابن سعد 7 / 2 / 41، وقال: "ليس بشيء، وقد ترك حديثه". وقال يحيى: "من المعروفين بوضع الحديث"؛ وذكره الفلاس فيمن"أجمع عليه من أهل الكذب أنه لا يروى عنهم". وكنيته"أبو جزى": بفتح الجيم وكسر الزاي، كما ضبطه الذهبي في المشتبه، ص 104. والحديث ثابت، بنحوه - بإسناد آخر صحيح، يغني عن إسنادى الطبري هذين: فرواه أحمد في المسند: 3760، عن أبي النضر وحسن بن موسى، كلاهما عن شيبان، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 312. وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني في الكبير"، ثم ذكره بنحوه، بلفظ يكاد يكون لفظ الرواية الماضية: 7661. ثم قال: "ورجال أحمد ثقات، ليس فيهم غير عاصم بن أبي النجود، وهو مختلف في الاحتجاج به. وفي إسناد الطبراني عبيد الله بن زحر. وهو ضعيف". وذكره السيوطي 2: 65، وزاد نسبته للنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء. * * * *ذكر من قال ذلك: 7663- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور قال، بلغني أنها نزلت:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" فيما بين المغرب والعشاء. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرتُها على اختلافها، متقاربة المعاني. وذلك أن الله تعالى ذكره وَصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وهي آناؤه، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليًا لها آناء الليل، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء، ومن تلاها جوفَ الليل، فكلٌّ تالٍ له ساعات الليل. غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال:"عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء"، لأنها صلاة لا يصلِّيها أحد من أهل الكتاب"، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله. * * * وأما قوله:"وهم يسجدون"، فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى"السجود" في هذا الموضع، اسم الصلاة لا للسجود، (1) لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع. فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون، (2) . * * * وليس المعنى على ما ذهب إليه، وإنما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم، وهم مع ذلك يسجدون فيها، فـ"السجود"، هو"السجود" المعروف في الصلاة. * * *   (1) في المطبوعة: "لا السجود"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 231. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 القول في تأويل قوله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز:"يؤمنون بالله واليوم الآخر"، يصدِّقون بالله وبالبعث بعد الممات، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم; وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله، ويعبدون معه غيره، ويكذبون بالبعث بعد الممات، وينكرون المجازاة على الأعمال والثوابَ والعقابَ. * * * وقوله:"ويأمرون بالمعروف"، يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. (1) "وينهون عن المنكر"، يقول: وينهون الناس عن الكفر بالله، وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله: (2) يعني بذلك: أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به، وينهونهم عن المعروف من الأعمال، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله. ="ويسارعون في الخيرات"، يقول: ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم. * * * ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب، هم من عداد الصالحين، (3) لأن من كان منهم فاسقًا، قد باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وعصيانه ربّه واعتدائه في حدوده. * * *   (1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف ص: 105 تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف ص: 105 تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91 / 6: 380. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) } قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الكوفة: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ، جميعًا، ردًّا على صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقرأته عامة قرأة المدينة والحجاز وبعض قرأة الكوفة بالتاء في الحرفين جميعًا: (" وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَروهُ ") ، بمعنى: وما تفعلوا، أنتم أيها المؤمنون، من خير فلن يكفُرَكموه ربُّكم. * * * وكان بعض قرأة البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزًا بالياء والتاء، في الحرفين. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"وما يفعلوا، من خير فلن يُكفروه"، بالياء في الحرفين كليهما، يعني بذلك الخبرَ عن الأمة القائمة، التالية آيات الله. وإنما اخترنا ذلك، لأن ما قبل هذه الآية من الآيات، خبر عنهم. فإلحاق هذه الآية = إذْ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم = بمعاني الآيات قبلها، أولى من صرفها عن معاني ما قبلها. وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ. 7664- حدثني أحمد بن يوسف التغلبيّ قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن أبي عمرو بن العلاء قال: بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرأهما جميعًا بالياء. (1) * * *   (1) الأثر: 7664-"أحمد بن يوسف التغلبي" سلفت ترجمته في رقم: 5954، وأما المطبوعة فقد حذفت"التغلبي"، لأن الناشر لم يحسن قراءة الكلمة، فإنها كانت فيها"التعلبى" غير منقوطة ولا بينة، فحذفها الناشر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا، على ما اخترنا من القراءة: وما تفعل هذه الأمة من خير، وتعمل من عملٍ لله فيه رضًى، فلن يكفُرهم الله ذلك، يعني بذلك: فلن يبطل الله ثوابَ عملهم ذلك، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه، ولكنه يُجزل لهم الثواب عليه، ويسني لهم الكرامة والجزاء. * * * وقد دللنا على معنى"الكفر" فيما مضى قبل بشواهده، وأنّ أصله تغطية الشيء (1) * * * فكذلك ذلك في قوله:"فلن يكفروه"، فلن يغطّى على ما فعلوا من خير فيتركوا بغير مجازاة، ولكنهم يُشكرون على ما فعلوا من ذلك، فيجزل لهم الثواب فيه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأوَّل من تأول ذلك من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7665- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما تفعلوا من خير فلن تكفروه" يقول: لن يضلّ عنكم. 7666- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. * * * وأما قوله:"والله عليم بالمتقين"، فإنه يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بمن اتقاه، لطاعته واجتناب معاصيه، وحافظٌ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ويجازيهم بها، تبشيرًا منه لهم جل ذكره في عاجل الدنيا، وحضًّا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 255، 382، 552، ثم ما بعد ذلك في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) } قال أبو جعفر: وهذا وعيدٌ من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون، وأنهم قد باؤوا بغضب منه، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله. يقول تعالى ذكره:"إن الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله ="لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني: لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا، وأولاده الذين ربَّاهم فيها، شيئًا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة، ولا في الدنيا إنْ عجَّلها لهم فيها. * * * وإنما خصّ أولاده وأمواله، لأن أولاد الرجل أقربُ أنسبائه إليه، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره، (1) وأمرُه فيه أجوز من أمره في مال غيره. فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا. * * * ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله:"وأولئك أصحاب النار". وإنما جعلهم أصحابها، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها،   (1) في المطبوعة: "وهو على ماله أقرب ... "، وهي في المخطوطة شبيهة بها، إلا أنها سيئة الكتابة، ولكن لا معنى لها، والصواب ما أثبت، فهو حق السياق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله. (1) ثم وكد ذلك بإخباره عنهم إنهم"فيها خالدون"، أنّ صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها، (2) إذْ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال، ويزايله في بعض الأوقات، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النارَ التي أصْلوها، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع. نعوذ بالله منها ومما قرَّب منها من قول وعمل. * * * القول في تأويل قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا، أي: شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله، (3) فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب، في أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه = كشبه ريح فيها برد شديد، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد ="حرثَ قوم"، (4) يعني: زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه ="ظلموا أنفسهم"، يعني: أصحاب الزرع، عصوا الله، وتعدَّوا حدوده ="فأهلكته"، يعني: فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.   (1) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف 1: 286، 287 / 4: 317 / 5: 429 / 6: 14. (2) في المطبوعة أسقط"أن" من أول هذه العبارة، وهي ثابتة في المخطوطة. وفيهما جميعًا بعد: "إذا كان من الأشياء"، وصواب السياق"إذ"، كما أثبتها. (3) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف 5: 555، 580 / 6: 265. (4) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف 4: 240، 397 / 6: 257. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 يقول تعالى ذكره: فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته، حين يلقاه، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها. وخرج المثَل للنفقة، والمراد بـ "المثل" صنيع الله بالنفقة، فبيَّن ذلك قوله:"كمثل ريح فيها صرٌّ"، فهو كما قد بيّنا في مثله قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) (1) [سورة البقرة: 17] وما أشبه ذلك. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام،: مثل إبطال الله أجرَ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر"إبطال الله أجر ذلك"، لدلالة آخر الكلام عليه، وهو قوله:"كمثل ريح فيها صرٌّ"، ولمعرفة السامع ذلك معناه. * * * واختلف أهل التأويل في معنى"النفقة" التي ذكرها في هذه الآية. فقال بعضهم: هي النفقة المعروفة في الناس. *ذكر من قال ذلك: 7667- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا"، قال: نفقة الكافر في الدنيا. * * * وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه، مما لا يصدِّقه بقلبه. *ذكر من قال ذلك: 7668- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مثل ما ينفقون في هذ الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرثَ قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته"، يقول: مثل ما يقول فلا يقبل   (1) انظر ما سلف 1: 318 - 328. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 منه، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون، فأصابه ريح فيها صر، أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم. * * * وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل. * * * وقد تقدم بياننا تأويل"الحياة الدنيا" بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وأما"الصر" فإنه شدة البرد، وذلك بعُصُوف من الشمال في إعصار الطَّلّ والأنداء، في صبيحة مُعْتمة بعقب ليلة مصحية، (2) كما: 7669- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث قال، سمعت عكرمة يقول:"ريح فيها صر"، قال: بردٌ شديد. 7670- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"ريح فيها صر"، قال: برد شديد وزمهرير. 7671- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"ريح فيها صر"، يقول: برد. 7672- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس:"الصر"، البرد. 7673- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"كمثل ريح فيها صر"، أي: برد شديد. 7674- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 7675- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في"الصر"، البرد الشديد.   (1) انظر ما سلف 1: 314، 316. (2) هذا البيان عن معنى"الصر" قلما تصيب مثله في كتب اللغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 7676- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"كمثل ريح فيها صر"، يقول: ريح فيها برد. 7677- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ريح فيها صر"، قال:"صر"، باردة أهلكت حرثهم. قال: والعرب تدعوها"الضَّريب"، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبًا قد أحرق الزرع، (1) تقول:"قد ضُرب الليلة" أصابه ضريبُ تلك الصر التي أصابته. 7678- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك:"ريح فيها صر"، قال: ريح فيها برد. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلمًا منه لهم = يعني: وضعًا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله، بل وضَع فعله ذلك في موضعه، وفعل بهم ما هم أهله. لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون، ولأمره مُتبعون، ولرسله مصدقون، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون، ولأمره مخالفون، ولرسله مكذبون، بعد تقدُّم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له، والإقرار بنبوة أنبيائه، وتصديق ما جاءوهم به، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن = بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك = بعد   (1) الضريب: الصقيع والجليد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 الإعذار إليه، (1) من إحباط وَفْر عمله = له ظالمًا، بل الكافرُ هو الظالم نفسه، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره، ما أوردها به نار جهنم، وأصلاها به سعير سقَرَ. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم ="لا تتخذوا بطانة من دونكم"، يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم ="من دونكم" يقول: من دون أهل دينكم وملَّتكم، يعني من غير المؤمنين. * * * وإنما جعل"البطانة" مثلا لخليل الرجل، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه -في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه- محلَّ ما وَلِيَ جَسده من ثيابه. * * * فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "الاعتذار إليه"، وهو خطأ صرف. وأعذر إعذارًا: أي بلغ الغاية في البلاغ، ومنه قولهم: "أعذر من أنذر"، أي بالغ في الإنذار حتى بان عذره، إذا أنزل بمن أنذره ما يسوءه. وقوله: "وفر عمله" أي كثير عمله ووافره. و"الوفر" (بفتح فسكون) . وكان في المطبوعة"وافر عمله"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) سياق الجملة: "فلم يكن. . . له ظالما"، وما بينهما فصل للبيان متعلق بقوله: "ظالما" ولكنه مقدم عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 مخالَّتهم، (1) فقال تعالى ذكره: "لا يألونكم خبالا"، يعني لا يستطيعونكم شرًّا، من"ألوت آلُو ألوًا"، يقال: "ما ألا فلان كذا"، أي: ما استطاع، كما قال الشاعر: (2) جَهْرَاءُ لا تَأْلُو، إذَا هِيَ أَظْهَرَتْ، ... بَصَرًا، وَلا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِيني (3) يعني: لا تستطيع عند الظهر إبصارًا. * * * وإنما يعني جل ذكره بقوله:"لا يألونكم خبالا"، البطانةَ التي نهى المؤمنين   (1) في المطبوعة: "فحذرهم بذلك منهم عن مخاللتهم"، فك إدغام اللام وحذف الواو قبل"عن"، وفي المخطوطة"وعن مخالتهم"، والصواب في قراءتها ما أثبت، إلا أن يكون سقط من الكلام"نهاهم" فيكون"ونهاهم عن مخالتهم". (2) هو أبو العيال الهذلي. (3) ديوان الهذليين 2: 263، الحيوان 3: 535، المعاني الكبير: 690، اللسان (ألا) (جهر) . من شعر جيد في مقارضات بينه وبين بدر بن عامر الهذلي، قال بدر بن عامر أبياتًا، حين بلغه أن ابن أخ لأبي العيال، أنه ضلع مع خصمائه، فانتفى من ذلك وزعم أنه ليس ممن يأتي سوءًا إلى أخيه أبي العيال، فكذبه أبو العيال، فبادر بدر يرده. وكله شعر حسن في معناه. فشبه أبو العيال شعر بدر فيه وفي الثناء عليه بالشاة فقال له: أَقْسَمْتَ لا تَنْسَى شَبابَ قَصِيدَةٍ ... أبدًا!! فَمَا هذا الَّذِي يُنْسِينِي? فَلَسَوْفَ تَنْسَاهَا وَتَعْلَمُ أَنَّها ... تَبَعٌ لآبِيَةِ العِصَابِ زَبُونِ وَمَنَحْتَني فَرَضِيتُ زِىَّ مَنِيحَتي ... فَإِذَا بِهَا، وَأَبِيكَ، طَيْفُ جُنُونِ جَهْرَاءَ لا تَأْلُو ................... ... .................................... والجهراء: هي التي لا تبصر في الشمس، وهو ضعف في البصر. ويقال:"عال يعيل عيلا وعيلة" افتقر. يقول: أهديت لي شعرًا وثناء وقولا فرضيته، ثم إذا لا شيء إلا قول وكلام، إذا انكشف الأمر وظهر، عمى هذا الشعر وانطفأ، وإذا جد الجد، لم يغن قولك شيئًا، بل كنت كما قلت لك آنفًا: فَلَقَد رَمَْقُتك فِي المجَالِسِ كلِّهَا ... فَإِذَا، وأنتَ تُعِينُ من يَبْغِيني" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 عن اتخاذها من دونهم، فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال. (1) * * * وأصل"الخبْل" و"الخبال"، الفساد، ثم يستعمل في معان كثيرة، يدل على ذلك الخبرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم: 7679- "من أصيب بخبْل = أو جرَاح". (2) * * * وأما قوله:"ودوا ما عنِتُّم"، فإنه يعني: ودوا عنتكم، يقول: يتمنون لكم العنَت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسرُّكم. (3) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم. *ذكر من قال ذلك:   (1) لقد أبعد أبو جعفر المذهب في احتياله في تفسير"لا يألونكم"، فإن بيان أهل اللغة عن معنى هذا الحرف من العربية، أصدق وأكمل من بيانه، فقد ذكروا المعنى الذي ذكره ثم قالوا: "ما ألوت ذلك: أي ما استطعته؛ وما ألوت أن أفعله: أي ما تركت" وقالوا: "هي من الأضداد؛ ألا: فتر وضعف = وألا: اجتهد"، فراجع ذلك في كتب العربية. (2) الأثر: 7679- رواه أبو جعفر غير مسند؛ ورواه أحمد في مسنده 4: 31، والبيهقي في السنن 8: 53، ورواية أحمد من طريق شيخه"محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق = ويزيد بن هرون قال أنبأنا محمد بن إسحاق = عن الحارث بن فضيل، عن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء -قال يزيد: السلمي- عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال يزيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول-: من أصيب بدم أو خبل =الخبل: الجراح= فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يده، فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل، فله النار خالدا فيها مخلدا". يعني بالدم: قتل النفس -وبالخبل أو الجراح: قطع العضو. وقد تركت ما في الطبري على حاله: "أو جراح" وبينت بالترقيم أنها كأنها رواية أخرى في قوله: "خبل"، شك من الراوي. ولكن سياق الخبر يرجح عندي أنها: "أي: جراح"، لأنه قد جاء في الحديث نفسه تفسير"الخبل" بالجراح. (3) انظر تفسير"العنت" فيما سلف 4: 358 - 361. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 7680- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، قال محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحِلْف في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل فيهم، ينهاهم عن مباطنتهم (1) تخوُّف الفتنة عليهم منهم:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" إلى قوله:"وتؤمنون بالكتاب كله". (2) 7681- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، في المنافقين من أهل المدينة. نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولَّوهم. 7682- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم"، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، (3) أو يؤاخوهم، أو يتولوهم من دون المؤمنين. (4) 7683- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"لا تتخذوا بطانة من دونكم"، هم المنافقون. 7684- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن   (1) في المطبوعة: "فنهاهم" بالفاء في أوله، والصواب من المخطوطة وابن هشام. (2) الأثر: 7680- سيرة ابن هشام 2: 207، وهو تابع الأثرين السالفين رقم: 7644، 7645. (3) قوله: "يستدخلوا" أي يتخذوهم أخلاء. استدخله: اتخذه دخيلا، مثل قولهم استصحبه: اتخذه صاحبًا، والدخيل والمداخل: الذي يداخل الرجل في أموره كلها. وهذا البناء"استدخله" مما أغفلته كتب اللغة، وهو عربي معرق كما ترى. (4) في المطبوعة: "أي يتولوهم"، وفي المخطوطة: "أن يتولوهم"، والصواب ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 الربيع، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، يقول: لا تستدخلوا المنافقين، (1) تتولوهم دون المؤمنين. 7685- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تستضيئوا بنار أهل الشرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال: فلم ندر ما ذلك، حتى أتوا الحسن فسألوه، فقال: نعم، أما قوله:"لا تنقشوا في خواتيمكم عربيًّا"، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم"محمد"، وأما قوله:"ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك"، فإنه يعني به المشركين، يقول: لا تستشيروهم في شيء من أموركم. قال: قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم". (2) .   (1) انظر ص 141، تعليق: 3. (2) الحديث: 7685- الأزهر بن راشد البصري: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 1 / 1 / 455، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 313 - فلم يذكر فيه جرحا. وهناك راو آخر، اسمه"الأزهر بن راشد الكاهلي"، وهو كوفي، وهو غير البصري، ومتأخر عنه. وترجمه البخاري وابن أبي حاتم أيضا. فإن البصري يروى عنه"العوام بن حوشب" المتوفي سنة 148، والكوفي الكاهلي يروى عنه"مروان بن معاوية الفزاري" المتوفي سنة 193. ومروان بن معاوية من شيوخ أحمد. والعوام بن حوشب من شيوخ شيوخه. فشتان هذا وهذا. ومع هذا الفرق الواضح أخطأ الحافظ المزي، فذكر في التهذيب الكبير أن أبا حاتم قال في البصري: "مجهول". وتبعه الحافظ في تهذيب التهذيب، والذهبي في الميزان. وزاد الأمر تخليطًا، فذكر أنه ضعفه ابن معين. وابن معين وأبو حاتم إنما قالا ذلك في الكاهلي الكوفي. فروى ابن أبي حاتم في ترجمة"الكاهلي" 1 / 1 / 313، رقم: 1180، عن ابن معين، قال: "أزهر بن راشد، الذي روى عنه مروان بن معاوية: ضعيف". ثم قال: "سألت أبي عن أزهر بن راشد؟ فقال: هو مجهول". ولم يحقق الحافظ ابن حجر، واشتبه عليه الكلام في الترجمتين، فقال في ترجمة"الكاهلي" -بعد ترجمة"البصري"-: "أخشى أن يكونا واحدًا! لكن فرق بينهما ابن معين". والفرق بينهما كالشمس. والحديث رواه أحمد في المسند: 11978 (ج 3 ص 99 حلبى) ، عن هشيم، بهذا الإسناد - دون كلام الحسن، وهو البصري. ورواه البخاري كذلك في الكبير 1 / 1 / 455 - دون كلام الحسن، عن مسدد، عن هشيم، به. ثم فسر البخاري بعضه، فقال: "قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : عربيًا، يعني"محمد رسول الله". يقول: لا تكتبوا مثل خاتم النبي: "محمد رسول الله". ورواه أبو يعلى مطولا -مثل رواية الطبري أو أطول قليلا- وفيه كلام الحسن. رواه عن إسحاق بن إسرائيل، عن هشيم، بهذا الإسناد. نقله عنه ابن كثير 2: 227، ثم قال: "هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله. وقد رواه النسائي، عن مجاهد بن موسى، عن هشيم، به. ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، بإسناده مثله، من غير ذكر تفسير الحسن البصري. وهذا التفسير فيه نظر"- إلى آخر ما قال. ولم أجده في سنن النسائي، فلعله في السنن الكبرى. وذكره السيوطي 2: 66، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب. ولم ينسبه للنسائي، ولا لتاريخ البخاري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 7686- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم"، أما"البطانة"، فهم المنافقون. 7687- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه. (1) 7688- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: هؤلاء المنافقون. وقرأ قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم" الآية. * * * قال أبو جعفر: واختلفوا في تأويل قوله:"ودّوا ما عنِتُّم". فقال بعضهم معناه: ودوا ما ضللتم عن دينكم. (2) *ذكر من قال ذلك: 7689- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ودوا ما عنتم"، يقول: ما ضللتم. * * * وقال آخرون بما:-   (1) انظر: 141، تعليق: 3 / ص: 142، تعليق: 1. (2) انظر تفسير"العنت" فيما سلف ص4: 358 - 361. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 7690- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ودوا ما عنتم"، يقول: في دينكم، يعني: أنهم يودون أن تعنتُوا في دينكم. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ودوا ما عنتم"، فجاء بالخبر عن"البطانة"، بلفظ الماضي في محل الحال، والقطع بعد تمام الخبر، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها؟ (1) . قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أنّ قوله:"ودوا ما عنتم" حال من"البطانة"، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطعٌ عن الأول غير متصل به. وإنما تأويل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا، صفتهم كذا. فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى، وإن كانتا جميعًا من صفة شخص واحد. * * * وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله:"ودوا ما عنتم"، من صلة البطانة، وقد وصلت بقوله:"لا يألونكم خبالا"، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام"البطانة" بصلته. (2) ولكن القول في ذلك كما بينا قبل، من أن قوله:"ودوا ما عنتم"، خبر مبتدأ عن"البطانة"، غير الخبر الأول، وغير حال من البطانة ولا قطع منها. (3) . * * *   (1) انظر"القطع" فيما سلف 6: 270، تعليق: 3، وسائر فهارس المصطلحات. (2) انظر تفسير"الصلة" فيما سلف 5: 299، تعليق: 5، وهو نعت النكرة. (3) انظر"القطع" فيما سلف 6: 270، تعليق: 3، وسائر فهارس المصطلحات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم ="من أفواههم"، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم، (1) إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة. * * * وقد قال بعضهم: معنى قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر، بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أنّ الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق، دون من كان مصرحًا بالكفر من اليهود وأهل الشرك. * ذكر من قال ذلك: 7691- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة، قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم. 7692- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: من أفواه المنافقين. * * * وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له. وذلك أن الله تعالى   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "بأفواههم"، والصواب المطابق لنص هذه الآية، هو ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم. فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالَّته ومباطنته، (1) فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته، إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها. وإذْ كان ذلك كذلك = وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم = كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل. * * * و"البغضاء"، مصدر. وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود: (" قَدْ بَدَا البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ") ، على وجه التذكير. وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم، فيجوز تذكيرُ ما خرج منها   (1) في المطبوعة: "فأما من لم يتئسوه معرفة"، ولا معنى له، وفي المخطوطة: "لم سوه معرفة" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "أثبته معرفة" أي: عرفه حق المعرفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 على لفظ المؤنث وتأنيثه، كما قال عز وجل: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [سورة هود: 67] ، وكما قال: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة الأنعام: 157] ، وفي موضع آخر: (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [سورة هود: 94] (" وجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ") [سورة الأعراف: 73، 85] (1) * * * وقال:"من أفواههم"، وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم، فقال:"قد بدت البغضاء من أفواههم" بألسنتهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي تخفي صدورهم = يعني: صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة، فتخفيه عنكم، أيها المؤمنون ="أكبر"، يقول: أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما:- 7693- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر"، يقول: وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم. 7694- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر" يقول: ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 231. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 القول في تأويل قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قد بينا لكم" أيها المؤمنون ="الآيات"، يعني بـ"الآيات" العبر. قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم ="إن كنتم تعقلون"، يعني: إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم، ومبلغ عائدته عليكم. * * * القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم، أيها المؤمنون، الذين تحبونهم، يقول: تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، فتودونهم وتواصلونهم وهم لا يحبونكم، بل يبطنون لكم العداوة والغش (1) = "وتؤمنون بالكتاب كله". * * * ومعنى "الكتاب" في هذا الموضع معنى الجمع، كما يقال:"كثر الدرهم في أيدي الناس"، بمعنى الدراهم. فكذلك قوله:"وتؤمنون بالكتاب كله"، إنما معناه: بالكتب كلها،   (1) في المطبوعة: "بل سطروه"، وفي المخطوطة: "بل ينتظرون" غير منقوطة، وصوابها ما أثبت كما استظهره طابع الأميرية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 كتابكم الذي أنزل الله إليكم، وكتابهم الذي أنزله إليهم، وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على عباده. يقول تعالى ذكره: فأنتم = إذ كنتم، أيها المؤمنون، تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أنّ الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه = (1) أولى بعداوتكم إياهم وبغضائهم وغشهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم، مع جحودهم بعضَ الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما:- 7695- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تؤمنون بالكتاب كله"، أي: بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم، منهم لكم. (2) * * * قال أبو جعفر: وقال:"ها أنتم أولاء" ولم يقل:"هؤلاء أنتم"، (3) ففرق بين"ها و"أولاء" بكناية اسم المخاطبين، لأن العرب كذلك تفعل في"هذا" إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر، (4) وذلك مثل   (1) سياق هذه العبارة: فأنتم ... أولى بعداوتكم إياهم. (2) الأثر: 7695- سيرة ابن هشام 2: 207، وهو من تمام الآثار السالفة التي آخرها: 7680. (3) في المخطوطة: "ولم يقل: هذا أنتم"، والصواب ما في المطبوعة، فهو حق السياق. (4) التقريب" من اصطلاح الكوفيين، وقد فسره السيوطي في همع الهوامع 1: 113، فقال [ذهب الكوفيون إلى أن"هذا" و"هذه"، إذا أريد بها التقريب كانا من أخوات"كان"، في احتياجهما إلى اسم مرفوع وخبر منصوب، نحو: "كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادمًا؟ "، "وكيف أخاف البرد، وهذه الشمس طالعة؟ "، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود، نحو: "هذا ابن صياد أسقى الناس"، فيعربون"هذا" تقريبًا، والمرفوع اسم التقريب، والمنصوب خبر التقريب. لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم، وعن الشمس بالطلوع، وأتى باسم الإشارة تقريبا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهما وهما حاضران؟ وأيضًا، فالخليفة والشمس معلومان، فلا يحتاج إلى تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب، لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى، كما لو أسقطت"كان" من: "كان زيد قائما"] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 أن يقال لبعضهم: أين أنت"، فيجيب المقول ذلك له."ها أنا ذا" = (1) فتفرق بين التنبيه و"ذا" بمكنيّ اسم نفسه، (2) ولا يكادون يقولون:"هذا أنا"، ثم يثني ويجمع على ذلك. وربما أعادوا حرف التنبيه مع:"ذا" فقالوا:"ها أنا هذا". ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبًا، (3) فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان قالوا:"هذا هو""وهذا أنت". وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة، يقولون:"هذا عمرو قائمًا"، إن كان"هذا" تقريبًا. (4) وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب، (5) تفرقة بين"هذا" إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام، وبينه إذا كان بمعنى الاسم الصحيح. (6) * * * وقوله:"تحبونهم" خَبَرٌ للتقريب. (7) * * * قال أبو جعفر: وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين - أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما:-   (1) في المطبوعة: "فيفرق"، والصواب بالتاء، لأنه يريد"العرب". وسياق الكلام: "لأن العرب كذلك تفعل ... فتفرق ... ". (2) في المخطوطة: "بين التنبيه وأولاء". والذي في المطبوعة أجود وأمضى على السياق، وهو تغيير مستحسن. والظاهر أن الخطأ قديم في نسخ الطبري، بل لعله من فعل أبي جعفر نفسه، وكأنه لما نقل هذا الكلام، وهو كلام الفراء، اختصر أوله فقال: "لأن العرب كذلك تفعل في هذا"، واقتصر عليها، مع أن الفراء ذكر"هذا، وهذان، وهؤلاء". هذا مع اشتغال ذهنه بنص الآية نفسها، فدخل عليه السهو فيما كتب. هذا ما أرجحه والله ولي التوفيق. (3) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن كان ... " بالواو، وإثباتها فساد في الكلام شديد لأنه يعني أنهم ينصبون: "قائما"، إن كان"هذا" بمعنى التقريب. والجملة الآتية مؤيدة لذلك. (5) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4. (6) في المطبوعة: "وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح"، زاد من زاد"وبين ما" ظنا منه أن ذلك أقوم في الدلالة على المعنى من عبارة أبي جعفر التي ثبتها من المخطوطة. وقد أساه غاية الإساءة! (7) يعني بقوله: "خبر للتقريب"، أي هو في موضع نصب خبرًا للتقريب، كما أسلفت بيان ذلك من كلام السيوطي في ص 149، تعليق: 4. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 7696- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله"، فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى له ويرحمه. ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه، لأباد خضراءه. (1) 7697- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن، يرحمه. ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه، لأباد خضراءه. * * * وكان مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في المنافقين. 7698- حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم، ووصفهم بصفتهم، إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوهم بألسنتهم تقيةً حذرًا على أنفسهم منهم فقالوا لهم:"قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم"، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون، (2) عضوا - على ما يرون من ائتلاف   (1) أوى له وأوى إليه: رثى له وأشفق عليه ورحمه. ويقال: "أباد خضراءهم"، أي سوادهم ومعظمهم، واستأصلهم. وذلك أن الكثرة المجتمعة، ترى من بعيد سوداء، والعرب تسمى الأخضر، أسود. (2) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 1: 298، 299. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم - أناملَهم، وهي أطراف أصابعهم، تغيُّظًا مما بهم من الموجدة عليهم، وأسىً على ظهرٍ يسنِدون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 7699- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، إذا لقوا المؤمنين قالوا:"آمنا"، ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك ="وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه. لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين، (2) فهم كما نعت الله عز وجل. 7700- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه = ولم يقل:"لو يجدون ريحًا"، وما بعده. 7701- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا مسلم قال: حدثني يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال، حدثنا أبي قال: كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، قال: هم الإباضية. (3) * * *   (1) الظهر: الأعوان والأنصار، كأنهم لمن ينصرونه ظهر. (2) الريح: القوة والغلبة، ومنه قول تأبط شرًا أو السليك بن السلكة: أَتَنْظُرَانِ قَلِيلا رَيْثَ غَفْلَتِهمْ ... أَوْ تَعْدُوَان، فَإِنَّ الرِّيحَ للعَادِي (3) الأثر: 7701-"عباس بن محمد بن حاتم" الدوري، روى عنه الأربعة. مترجم في التهذيب. و"مسلم" هو"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، مضت ترجمته برقم: 2861. و"يحيى بن عمرو بن مالك النكري". روى عن أبيه، وهو منكر الحديث. و"النكرى" بضم النون وتسكين الكاف، نسبة إلى بني نكرة بن لكيز من عبد قيس. وأبوه"عمرو بن مالك النكري"، ثقة وتكلم فيه البخاري وضعفه. روى عن أبيه وعن أبي الجوزاء. و"أبو الجوزاء" هو"أوس بن عبد الله الربعي من الأزد"، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس. كان عابدًا فاضلا. واستضعف البخاري إسناده إلى عائشة وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. مترجم في التهذيب. و"الإباضية"، فرقة من الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، الخارج في أيام مروان بن محمد. ومن قولهم: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال، وما سواه حرام، وإن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد. وقالوا: إن مرتكب الكبيرة موحد، لا مؤمن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 و"الأنامل" جمع"أنملة" ويقال"أنملة"، (1) وربما جمعت"أنملا"، (2) قال الشاعر: (3) أوَدُّكُما، مَا بَلَّ حَلْقِيَ رِيقَتِي ... وَما حَمَلَتْ كَفَّايَ أَنْمُلِيَ العَشْرَا (4) وهي أطراف الأصابع; كما:- 7702- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الأنامل"، أطراف الأصابع. 7702 م - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله. 7703- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل"، الأصابع. 7704- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي   (1) يعني بفتح الهمزة وضم الميم، وضم الهمزة والميم جميعا. (2) "أنمل" هذا جمع لم تورده كتب اللغة، وإنما ذكروا"أنملات"، وقالوا إنه أحد ما كسر وسلم بالتاء، قال ابن سيدهْ: "إنما قلت هذا، لأنهم قد يستغنون بالتكسير عن جمع السلامة، وبجمع السلامة بالتكسير، وربما جمع الشيء بالوجهين جميعًا". (3) لم أعرف قائله. (4) قوله: "أود كما" أي: لا أود كما، حذفت"لا" مع القسم. والريقة: الريق. وقوله: "ما بل حلقي ريقي ... " إلى آخر البيت بمعنى التأييد، أي. لا أود كما أبدًا ما حييت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 الأحوص، عن عبد الله، قوله:"عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، قال: عضوا على أصابعهم. (1) * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) } قال أب جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ =:"موتوا بغيظكم" الذي بكم على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم. وخرَج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله، كمَدًا مما بهم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أهلكوا بغيظكم ="إن الله عليم بذات الصدور"،   (1) عند هذا آخر قسم من التقسيم القديم، وفي المخطوطة هنا ما نصه: "يتلوه القولُ في تأويل قوله: قُلْ مُوتُوا بِغَيظكم إنَّ الله عليمٌ بذات الصُّدُور وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرًا" ثم يتلوه بعد: "بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في بيان هذا الإسناد الجديد للنسخة، في 6: 495، 496 تعليق: 5 / ثم 7: 23، تعليق 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 يعني بذلك: إن الله ذو علم بالذي في صدور هؤلاء الذين إذا لقوا المؤمنين، قالوا:"آمنا"، وما ينطوون لهم عليه من الغل والغم، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء، وبما في صدور جميع خلقه، حافظٌ على جميعهم ما هو عليه منطوٍ من خير وشر، حتى يجازي جميعهم على ما قدَّم من خير وشر، واعتقد من إيمان وكفر، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحة، أو غِلّ وغِمْر. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم"، إن تنالوا، أيها المؤمنون، سرورًا بظهوركم على عدوكم، وتتابع الناس في الدخول في دينكم، وتصديق نبيكم ومعاونتكم على أعدائكم = يسؤهم. (2) وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم، أو بإصابة عدوٍّ لكم منكم، أو اختلاف يكون بين جماعتكم = يفرحوا بها. كما:- 7705- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها"، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرَّهم   (1) الغمر (بكسر الغين وسكون الميم) ، والغمر (بفتحتين) ، الحقد والغل، الذي يغمر القلب غمرًا. (2) انظر تفسير"المس" فيما سلف 5: 118. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به. فهم كلما خرج منهم قَرْنٌ أكذبَ الله أحدوثته، وأوطأ محلَّته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقى إلى يوم القيامة. 7706- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها"، قال: هم المنافقون، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك غيظًا شديدًا وساءهم. وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافًا، أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به. قال الله عز وجل:"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط". 7707- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"إن تمسكم حسنه تسؤهم"، قال: إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافًا فرحوا. * * * وأما قوله:"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا، أيها المؤمنون، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ="وتتقوا" ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجبَ عليكم من حقه وحق رسوله ="لا يضركم كيدهم شيئًا"، أي: كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم. * * * ويعني بـ "كيدهم"، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين، ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحق. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"لا يضركم". فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعضُ البصريين: (لا يَضُرُّكُمْ) مخففة بكسر"الضاد"، من قول القائل:"ضارني فلان فهو يضيرني ضيرًا". وقد حكي سماعًا من العرب:"ما ينفعني ولا يضورني"، فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل: (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) ، ولكني لا أعلم أحدًا قرأ به". (1) * * * وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة: (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) بضم"الضاد" وتشديد"الراء"، من قول القائل: ضرّني فلان فهو يضرني ضرًا". * * * وأما الرفع في قوله:"لا يضركم"، فمن وجْهين. أحدهما: على إتباع"الراء" في حركتها = إذْ كان الأصل فيها الجزم، ولم يمكن جزمها لتشديدها = أقربَ حركات الحروف التي قبلها. وذلك حركة"الضاد" وهي الضمة، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها، كما قالوا:"مُدُّ يا هذا". والوجه الآخر من وجهي الرفع في ذلك: أن تكون مرفوعة على صحة، وتكون"لا" بمعنى"ليس"، وتكون"الفاء" التي هي جواب الجزاء، متروكة لعلم السامع بموضعها. وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وإن تصبروا وتتقوا، فليس يضرُّكم كيدهم شيئًا - ثم تركت"الفاء" من قوله:"لا يضركم كيدهم"، ووجهت"لا" إلى معنى"ليس"، كما قال الشاعر: (2) فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ، لا إخَالُكَ رَاضِيَا (3)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 232. (2) هو سوار بن المضرب السعدي التميمي. (3) نوادر أبي زيد: 45، الكامل 1: 300، حماسة ابن الشجري: 54، 55، معاني القرآن للفراء 1: 232، من أبيات ضرب بها وجه الحجاج بن يوسف الثقفي، لما كتب على بني تميم البعث إلى قتال الخوارج، فهرب سوار وقال: أَقَاتِلِىَ الحَجَّاجُ أَنْ لَمْ أَزُرْ لَهُ ... دَرَابَ، وَأَتْرُكْ عِنْدَ هِنْدٍ فُؤَادِيَا? فَإن كُنْتَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ، لا إِخالُكَ رَاضِيَا!! إذَا جَاوَزَتْ دَرْبَ المُجِيزِينَ نَاقَتي ... فَبِأسْتِ أبي الحَجَّاجِ لَمَّا ثَنَانِيَا أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وطَاعَتِي، ... وَدُونِي تَمِيمٌ، والفَلاةُ وَرَائِيَا!! وقوله: "دراب" يعني: دراب جرد، وهي بلدة في بلاد فارس، وكان المهلب يومئذ يقاتل بها الخوارج ورأسهم قطرى بن الفجاءة. ثم يقول له في البيت الثاني: إن كان لا يرضبيك إلا ردي إلى قتال قطري، فلا أظنك تبلغ رضاك، فإنك غير مدركي، ولن تنالني يدك. يسخر بسطوة الحجاج. وقوله: "درب المجيزين" هم المقيمون على أبواب المدن والثغور. يمنعون الخارج والداخل، إلا من كان بيده جواز معطى من أميره. يقول: إذا جاوزت الدرب فيا بعد يديك عن أن تنالني وتثنيني عن وجهتي! والشاهد عند الطبري هو في قوله: "لا إخالك راضيًا"، أي: فلست إخالك راضيًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 ولو كانت"الراء" محركة إلى النصب والخفض، كان جائزًا، كما قيل:"مُدَّ يا هذا، ومُدِّ. (1) * * * وقوله:"إنّ الله بما يعملون محيطٌ"، يقول جل ثناؤه: إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله، والعداوة لأهل دينه، وغير ذلك من معاصي الله ="محيط" بجميعه، حافظ له، لا يعزب عنه شيء منه، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله، ويذيقهم عقوبته عليه. (2) * * *   (1) الذي سلف هو مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 232. (2) انظر تفسير"الإحاطة" فيما سلف 2: 284 / 5: 396. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين"، وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم، أيها المؤمنون، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئًا، ولكن الله ينصرُكم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة. وإن أنتم خالفتم، أيها المؤمنون، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحُد، واذكروا ذلك اليوم، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين. =فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحُد، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا الرأي بينهم. =وأخرج الخطاب في قوله:"وإذ غدوت من أهلك"، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بمعناه: الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين. فقد بيَّن إذًا أن قوله:"وإذ"، إنما جرَّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت. * * * وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال". فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحُد. *ذكر من قال ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 7708- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، قال: مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين. 7709- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، ذلك يوم أحد، غدا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحُد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال. 7710- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال. 7711- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، فهو يوم أحد. 7712- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين"، قال: هذا يوم أحد. 7713- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: مما نزل في يوم أحد:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين". (1) * * * وقال آخرون: عنى بذلك يوم الأحزاب. *ذكر من قال ذلك: 7714- حدثني محمد بن سنان القزاز قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال،   (1) الأثر: 7713- مختصر من سيرة ابن هشام 3: 112. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"وإذ غدوتَ من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، قال: يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، غدا يبوئ المؤمنين مقاعدَ للقتال يوم الأحزاب. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال:"عنى بذلك يوم أحد". لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عُنى بالطائفتين: بنو سلمة وبنو حارثة، (1) ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّ الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد، دون يوم الأحزاب. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رَاح إلى أحُد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس، كالذي حدثكم:- 7715- ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلَّى الجمعة إلى أحُد، دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقال:"ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل"؟. (2) * * *   (1) بنو سلمة (بفتح السين وكسر اللام) ، وليس في العرب"سلمة" بكسر اللام غيرها، وسائرها بفتح اللام. وهم بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جشم بن الخزرج. (2) الأثر: 7715- إسناده في سيرة ابن هشام 3: 64، ثم اختصر أبو جعفر خبر ابن إسحاق الذي رواه ابن هشام في السيرة 3: 67، 68. واللأمة: هي الدرع الحصينة، وسائر أداة الحرب من السلاح كالسيف والرمح. هذا وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم". وهذا غير جيد، وكأنه عجلة من الناسخ، وأثبت نص ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحًا، (1) فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدَهم للقتال عند خروجه، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوّه. وذلك أنّ المشركين نزلوا منزلهم من أحُد -فيما بلغنا- يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم ويومَ الخميس ويومَ الجمعة، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة، بعد ما صَلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشِّعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال. 7716- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. (2) * * * فإن قال: وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعدَ للقتال غُدُوًّا قبل خروجه، وقد علمت أن"التبوئة"، اتخاذ الموضع. قيل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم، بيوم أو يومين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحُدًا قال = فيما:- 7717- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي = لأصحابه: أشيروا عليَّ ما أصنع؟ " فقالوا: يا رسول الله، اخرج إلى هذه الأكلُب! فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌّ لنا أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب!   (1) الرواح: هو وقت العشى آخر النهار. (2) الأثر: 7716- جمعه أبو جعفر من مواضع متفرقة من خبر ابن إسحاق في يوم أحد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة! فقال له: بم؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأني لا أفرُّ من الزحف! قال:"صدقت. فقُتل يومئذ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه!! فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. (1) 7718- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّي قد رأيتُ بقرًا فأوّلتها خيرًا، ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمًا، (2) ورأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأيُ عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبُنَّا عنهم وضعُفنا! فقال عبد الله بن أبى ابن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله   (1) الأثر: 7717- هو في تاريخ الطبري 3: 11، 12. (2) ذباب السيف: طرفه المتطرف الذي يضرب به. والثلم: هو الكسر في حرفه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه، فدعْهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ محبِس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رَجعوا خائبين كما جاؤوا. فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كان من أمرهم حُبُّ لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته. (1) . * * * فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعدَ للقتال، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا، على ما وصفه الذين حكينا قولهم. * * * يقال منه:"بوَّأت القوم منزلا وبوّأته لهم، فأنا أبوِّئهم المنزل تبوئة، وأبوئ لهم منزلا تبوئة". وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِِ) ، وذلك جائز، كما يقال:"رَدِفَك ورَدِفَ لك"، و"نقدت لها صَداقها ونقدتها"، كما قال الشاعر: أَسْتغِفرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ وَالعَمَلُ (2) والكلام: أستغفر الله لذنب. (3) وقد حكي عن العرب سماعًا:"أبأت القوم منزلا فأنا أبيئهم إباءة"، ويقال منه:"أبأت الإبل". إذا رددتها إلى المباءة. و"المباءة"، المُرَاح الذي تبيت فيه. * * * "والمقاعد" جمع"مقعد"، وهو المجلس. * * *   (1) الأثر: 7718- سيرة ابن هشام 3: 66، 67، وهو السابق مباشرة للأثر السالف رقم: 7751، وهو من تمامه. (2) مضى تخريجه فيما سلف 1: 169، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 233. (3) هذه الفقرة من معاني القرآن للفراء 1: 233. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: واذكر إذ غدوت، يا محمد، من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرًا وموضعًا لقتال عدوهم. * * * وقوله:"والله سميع عليم"، يعني بذلك تعالى ذكره:"والله سميع"، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه، من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم، من قول من قال:"اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة"، وقول من قال لك:"لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا"، على ما قد بينا قبل - ولما تشير به عليهم أنت يا محمد = (1) "عليم" بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم، كما:- 7719- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"والله سميع عليم"، أي: سميع لما يقولون، عليم بما يخفون. (2) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: " ومما تشير به. . ."، والصواب الذي يقتضيه السياق، هو ما أثبت. (2) الأثر: 7719- سيرة ابن هشام 3: 112، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7713. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 القول في تأويل قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله سميع عليم، حين همت طائفتان منكم أن تفشلا. والطائفتان اللتان همتا بالفشل، ذكر لنا أنهم بنو سَلِمة وبنو حارثة. (1)   (1) انظر ضبط"سلمة" ص: 161 تعليق: 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 *ذكر من قال ذلك: 7720- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، قال: بنو حارثة، كانوا نحو أحُد، وبنو سلِمة نحو سَلْع، وذلك يوم الخندق. * * * قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) * * * 7721- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، الآية، وذلك يوم أحد، والطائفتان: بنو سلِمة وبنو حارثة، حيان من الأنصار، همُّوا بأمر فعصمهم الله من ذلك = قال قتادة: وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا: ما يسرُّنا أنَّا لم نَهُمَّ بالذي هممنا به، وقد أخبرنا الله أنه ولينا. 7722- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إذ همت طائفتان منكم" الآية، وذلك يوم أحد، فالطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، حيان من الأنصار. فذكر مثل قول قتادة. 7723- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتحَ إن صبروا. فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعنَّ معنا = وقال [الله عز وجل] :"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، وهم بنو سلمة وبنو حارثة = هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم   (1) انظر ما سلف ص: 161 وما قبلها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 الله، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمئة. (1) 7724- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة: نزلت في بني سلِمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس، ورأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول. 7725- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، فهو بنو حارثة وبنو سلمة. 7726- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، والطائفتان: بنو سلمة من جشم بن الخزرج، وبنو حارثة من النبيت من الأوس، وهما الجناحان. (2) 7727- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الآية، قال: هما طائفتان من الأنصار هَّما أن يفشلا فعصمهم الله، وهزَم عدوهم. 7728- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"،قال: هم بنو سلمة وبنو حارثة، وما نحبُّ أن لو لم نكن هممنا لقول الله عز وجلّ:"والله وليهما". (3) . 7729- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول، فذكر نحوه.   (1) الأثر: 7723- في تاريخ الطبري 3: 12، وهو تمام الأثر السالف رقم: 7177، والزيادة بين القوسين من التاريخ. (2) الأثر: 7726- سيرة ابن هشام 3: 112، وهو من تتمة الأثر السالف رقم: 7791. (3) الأثر: 7728- رواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 275 / 8: 169) من طريق علي بن عبد الله، عن سفيان بن عيينة، بغير هذا اللفظ. وكان في المطبوعة: "وما نحب أن لو لم تكن همتا"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ولكن الناشر لم يحسن قراءتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 7730- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، قال: هذا يوم أحد. * * * وأما قوله:"أن تفشلا"، فإنه يعني: همَّا أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوّهما. * * * =يقال منه:"فشل فلان عن لقاء عدوه ويفشل فشلا"، كما:- 7731- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"الفشل"، الجبن. * * * قال أبو جعفر: وكان همُّهما الذي همَّا به من الفشل، الانصرافَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه، جبنًا منهم، من غير شك منهم في الإسلام ولا نفاق، فعصمهم الله مما هموا به من ذلك، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبد الله بن أبي ابن سلول والمنافقين معه، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق، وأخبر أنه وليُّهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار، (1) كما: 7732- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله وليُهما"، أي: المدافع عنهما ما همَّتا به من فشلهما. (2) وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما، من غير شك أصابهما في دينهما، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما، ولحقتا بنبِّيهما صلى الله عليه وسلم. يقول:"وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، أي: من كان به ضعف من المؤمنين أو وهَن،   (1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف 6: 497 تعليق: 1. والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "الدافع عنهما"، وأثبت ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة"ما هما به"، وهو صواب، ولكني أثبت نص ابن هشام، فهو أقوم على السياق، والتصحيف في مثل هذا قريب، ولست أظنه من أصل الطبري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 فليتوكل عليّ، وليستعن بي أعنِه على أمره، وأدفع عنه، حتى أبلغ به وأقوّيه على نيته. (1) * * * قال أبو جعفر: وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ: (" وَاللهُ وَليُّهُمْ ") ، وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك، لأن"الطائفتين" وإن كانتا في لفظ اثنين، فإنهما في معنى جماع، بمنزلة"الخصمين" و"الحزبين". (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا، وينصركم ربكم، ="ولقد نصركم الله ببدر" على أعدائكم وأنتم يومئذ ="أذلة" يعني: قليلون، في غير منعة من الناس، حتى أظهركم الله على عدوكم، مع كثرة عددهم وقلة عددكم، وأنتم اليوم أكثر عددًا منكم حينئذ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم، ="فاتقوا الله"، يقول تعالى ذكره: فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه ="لعلكم تشكرون"، يقول: لتشكروه على ما منَّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضلّ عنه مخالفوكم، كما:-   (1) الأثر: 7732- سيرة ابن هشام 3: 112، 113، وهو من سياق الأثر السالف رقم: 7726. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 133. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 7733- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"، يقول: وأنتم أقل عددًا وأضعف قوة ="فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، أي: فاتقون، فإنه شكر نعمتي. (1) * * * واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر"بدرًا". فقال بعضهم: سمي بذلك، لأنه كان ماء لرجل يسمى"بدرًا"، فسمي باسم صاحبه. *ذكر من قال ذلك: 7734- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن الشعبي قال: كانت"بدر" لرجل يقال له"بدر"، فسميت به. * * * 7735- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي أنه قال:"ولقد نصركم الله ببدر"، قال: كانت"بدر" بئرًا لرجل يقال له"بدر"، فسميت به. وأنكر ذلك آخرون وقالوا: ذلك اسم سميت به البقعة، كما سمى سائر البلدان بأسمائها. *ذكر من قال ذلك: 7736- حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا ابن سعد قال، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، حدثنا منصور، عن أبي الأسود، عن زكريا، عن الشعبي قال: إنما سمي"بدرًا"، لأنه كان ماء لرجل من جهينة يقال له"بدر" = وقال الحارث، قال ابن سعد، قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا فلأيّ شيء سميت"الصفراء"؟ ولأي شيء سميت   (1) الأثر: 7733- سيرة ابن هشام 3: 113، هو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7732، وسياق أبي جعفر في روايته، أقوم من سياق ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 "الحمراء"؟ ولأيّ شيء سمي"رابغ"؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع = قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاريّ فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه أحدٌ قط يقال له"بدر"، وما هو من بلاد جهينة، إنما هي بلاد غِفار = قال الواقدي: فهذا المعروف عندنا. 7737- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"بدر"، ماء عن يمين طريق مكة، بين مكة والمدينة. * * * وأما قوله:"أذلة"، فإنه جمع"ذليل"، كما"الأعزة" جمع"عزيز"،"والألِبَّة" جمع"لبيب". * * * قال أبو جعفر: وإنما سماهم الله عز وجل"أذلة"، لقلة عددهم، لأنهم كانوا ثلثمئة نفس وبضعة عشر، وعدوهم ما بين التسعمئة إلى الألف -على ما قد بينا فيما مضى- فجعلهم لقلة عددهم"أذلة". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7738- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، وبدر ماء بين مكة والمدينة، التقى عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم والمشركون، وكان أول قتال قاتله نبي الله صلى الله عليه وسلم = وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذ:"أنتم اليوم بعدَّة أصحاب طالوت يوم لقى جالوت": فكانوا ثلثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون يومئذ ألفٌ، أو راهقوا ذلك. (1)   (1) الأثر: 7738- مضى بعضه برقم: 5730، وانظر عدة أهل بدر فيما سلف من 5724 - 5732. وقوله: "راهقوا ذلك" أي: قاربوا ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 7739- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، قال: يقول:"وأنتم أذلة"، قليل، وهم يومئذ بضعة عشر وثلثمئة. 7740- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو قول قتادة. 7741- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"، أقل عددًا وأضعف قوة. (1) * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، فإن تأويله، كالذي قد بيَّنت، كما:- 7742- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، أي: فاتقوني، فإنه شكر نعمتي. (2) * * *   (1) الأثر: 7741- سيرة ابن هشام 3: 113، وهو بعض الأثر السالف قريبًا رقم: 7733. (2) الأثر: 7742- سيرة ابن هشام 3: 113، وهو أيضًا بعض الأثر: 7733. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"نعمى"، وأثبت ما مضى في المخطوطة والمطبوعة في الأثر السالف، وهو مطابق نص ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 القول في تأويل قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك: ألن يكفيكم أن يمدكم ربَكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ وذلك يوم بدر. * * * ثم اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حرَبهم، في أيّ يوم وُعدوا ذلك؟ فقال بعضهم: إن الله عز وجل كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدَّهم بملائكته، إن أتاهم العدو من فورهم، فلم يأتوهم، ولم يُمَدُّوا. (1) *ذكر من قال ذلك: 7743- حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال، حُدِّث المسلمون أن كُرز بن جابر المحاربي يُمِدُّ المشركين، قال: فشق ذلك على المسلمين، فقيل لهم:"ألن يكفيَكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومِّين"، قال: فبلغت كرزًا الهزيمة، فرجع، ولم يمدّهم بالخمسة.   (1) في المخطوطة: "ولم يعدوا"، وهو خطأ صرف. هذا والمخطوطة في هذا الموضع كثيرة الخطأ فيما هو واضح كهذا الحرف الذي أثبته، ولذلك أغفلت كثيرًا من أشباهه، ونبهت عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 7744- حدثني ابن المثني قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر قال: لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم = ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال:"ويأتوكم من فورهم هذا" -يعني كرزا وأصحابه-"يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"، قال: فبلغ كرزًا وأصحابه الهزيمة، فلم يمدهم، ولم تنزل الخمسة، وأمِدّوا بعد ذلك بألف، فهم أربعة آلاف من الملائكة مع المسلمين. 7745- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد عن الحسن في قوله:"إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة"، الآية كلها، قال: هذا يوم بدر. 7746- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: حُدِّث المسلمون أن كرزَ بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين ببدر، قال: فشق ذلك على المسلمين؛ فأنزل الله عز وجلّ:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم" إلى قوله:"من الملائكة مسومِّين"، قال: فبلغته هزيمة المشركين، فلم يمدّ أصحابه، ولم يمدُّوا بالخمسة. * * * وقال آخرون: كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر، فصبر المؤمنون واتقوا الله، فأمدهم بملائكته على ما وعدهم. *ذكر من قال ذلك: 7747- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 ومعي بَصَري، لأخبرتكم بالشِّعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشُك ولا أتمارى. 7748- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق، وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرًا: أنه قال بعد إذ ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري، لأريتكم الشِّعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارَى. (1) 7749- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر: أنه حُدِّث عن ابن عباس: أن ابن عباس قال: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عمّ لي حتى أصعدنا في جبل يُشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة، على من تكون الدَّبْرة فننتهِبُ مع من ينتهب. (2) قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم. (3) قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، (4) وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. (5) 7750- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس قال: لم تُقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عَددًا ومَددًا لا يضربون. (6) 7751- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق،   (1) الأثران: 7747، 7748 - سيرة ابن هشام 2: 286، وانظره بإسناد آخر يأتي برقم: 7777 مع اختلاف في لفظه، ومع نسبته إلى يوم أحد، لا يوم بدر. وانظر التعليق عليه هناك. (2) الدبرة (بفتح الدال وسكون الباء، وبفتحتين أيضًا) والدابرة: الهزيمة في القتال، وهي اسم من"الإدبار". يقال: على من الدبرة؟ أي الهزيمة. ثم يقال: لمن الدبرة؟ أي لمن الدولة والظفر. (3) قوله: "أقدم" هي كلمة زجر تزجر بها الخيل، وأمر لها بالتقدم. وحيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة يومئذ. ويقال هو فرس جبريل عليه السلام. هذا وفي المخطوطة: "إذ ذهب منا سحابة" وهو تصحيف. (4) قناع القلب: غشاؤه، تشبيهها له بقناع المرأة الذي تلبسه. (5) الأثر: 7749- سيرة ابن هشام 2: 285. (6) الأثر: 7750- سيرة ابن هشام 2: 286. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرًا قال: إني لأتبعُ رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن قد قتله غيري. (1) 7752- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ. وكان العباس يهاب قومه ويكرَهُ أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلَّف عن بدر وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة. وكذلك صنعوا، لم يتخلَّف رجل إلا بعث مكانه رجلا. فلما جاء الخبرُ عن مُصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعِزًّا. (2) قال: وكنت رجلا ضعيفًا، وكنت أعمل القِداح أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجرُّ رجليه بشرٍّ حتى جلس على طُنُب الحجرة، (3) فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم! قال: قال أبو لهب: هلُمّ إليّ يا ابن أخي، فعندك الخبر! قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني، كيف كان أمرُ الناس؟ قال: لا شيء والله، إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا! وايم الله،   (1) الأثر: 7751- سيرة ابن هشام 2: 286. (2) في المطبوعة: "قوة وعونة"، وليست بشيء، وفي المخطوطة"قوة وعبدا" وصواب قراءتها ما أثبته من سيرة ابن هشام. (3) طنب الحجرة: جانبها المسدل. أخذ من طنب الخباء، وهو الحبل يشد به إلى الأرض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 مع ذلك ما لمتُ الناس، لقينا رجالا بيضًا على خيل بلق ما بين السماء والأرض ما تلِيق شيئًا، ولا يقوم لها شيء. (1) قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك الملائكة! (2) 7753- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبا اليَسَر كعب بن عمرو أخو بني سلِمة، (3) وكان أبو اليسر رَجلا مجموعًا، (4) وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر:"كيف أسرت العباس أبا اليسر؟! قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا! (5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد أعانك عليه ملك كريم". (6) 7754- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين"، أمدوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف ="بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"،   (1) يقال الكريم: "فلان لا يليق شيئًا" من"ألاق"، أي: ما يحبس شيئا ولا يمسكه. ويقال للسيف: "سيف لا يليق شيئًا"، أي: ما يرد ضربته شيء. وهذا الأخير هو المراد هنا. وكان في المطبوعة: "ما يليق لها شيء" بدل ما في المخطوطة، إذ لم يفهمه. وأثبت ما في المخطوطة والسيرة. (2) الأثر: 7752- سيرة ابن هشام 2: 301، مع اختلاف يسير في بعض اللفظ. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "أبا اليسر ... أخا بني سلمة"، وأثبت ما في التاريخ، فهو أجود عربية. (4) قوله: "مجموعًا"، يعني: قد اجتمع خلقه فلم يبسط، وهو نقيض الجسيم، كما يظهر من سياق الأثر. ولم أجده في كتب اللغة التي بين يدي. (5) في المخطوطة: "هيئته كذا، هيئته كذا"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه مطابق لما في التاريخ. (6) الأثر: 7753- لم أجده في المطبوع من سيرة ابن هشام، وهو في تاريخ الطبري 2: 288، 289. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 وذلك يوم بدر، أمدَّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة. 7755- حدثت عن عمار، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه. 7756- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، (1) عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"، فإنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم مسوِّمين. 7757- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. * * * وقال آخرون: إن الله عز وجلّ: إنما وعدهم يوم بدر أن يمدَّهم إن صبروا عند طاعته وجهاد أعدائه، واتقوه باجتناب محارمه، أن يمدهم في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب، فأمدَّهم حين حاصروا قريظة. *ذكر من قال ذلك: 7758- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم، فلم يفتح علينا، فرجعنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فهو يغسل رأسه، (2) إذ جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة، فلفَّ بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا فقمنا   (1) "قال حدثني أبي" هذه، سقطت من المطبوعة، والصواب من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير. (2) في المطبوعة: "فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يغسل رأسه"، وهو تصرف لا شك فيه من ناشر أو ناسخ آخر، فإن الذي في المخطوطة: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يغسل رأسه"، لما سقط من الجملة قوله: "بماء"، تصرف الناسخ، وما كان له أن يفعل! والصواب كما أثبته، مطابقًا لما في الخصائص الكبرى للسيوطي. وانظر البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 235. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 كالِّين مُعْيِينَ لا نعبأ بالسير شيئًا، (1) حتى أتينا قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله عز وجل بثلاثة آلاف من الملائكة، وفتح اللهُ لنا فتحًا يسيرًا، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل. (2) * * * وقال آخرون بنحو هذا المعنى، غير أنهم قالوا: لم يصبر القوم ولم يتقوا ولم يُمدوا بشيء في أحُد. * ذكر من قال ذلك: 7759- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني عمرو بن دينار، عن عكرمة، سمعه يقول:"بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا"، قال: يوم بدر. قال: فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد، ولو مُدُّوا لم يُهزموا يومئذ.   (1) في المخطوطة: "فقمنا كالبر معين" غير منقوطة، فلم يحسن الناشر أن يقرأها، فجعلها في المطبوعة: "كالزمعين"، فجاء معلق على التفسير ففسر الكلمة تفسيرًا لا يصلح أن يكون كلامًا ها هنا، فخرج الكلام تصحيفًا وخلطًا معًا!! وأما السيوطي في الخصائص الكبرى، فالظاهر أنه لم يحسن هو أيضًا قراءة المخطوطة، أو كانت في نسخة مصحفة عنده كمثل هذا التصحيف، فأسقط الجملة كلها وساق الكلام هكذا: "فقمنا حتى أتينا بني قريظة". وكذلك فعل البغوي. وصواب القراءة هو ما أثبت، وهو مطابق لصفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخرجهم إلى بني قريظة. يقال"كل الرجل يكل من المشي فهو كال": إذا بلغ منه التعب والإعياء. ويقال: "أعيى الرجل والبعير وغيره يعيي إعياء فهو معي"، إذا أكله السير وطلحه وبرح به. يقول: فقمنا وقد بلغ منا ومن دوابنا التعب. (2) الأثر: 7785- أخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى 1: 233 نقلا عن ابن جرير في تفسيره هذا. و"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضت ترجمته برقم: 5796، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن موسى"، وهو خطأ. وأما "سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي" فهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 15، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 117، قال يحيى بن معين"ليس بثقة، كذاب، ليس يسوى حديثه فلسًا". وقال النسائي: "متروك الحديث". وكان في المطبوعة: "أبو آدم" وهو خطأ، ومثله في التهذيب في ترجمته، وهو خطأ أيضًا صوابه ما أثبت من المخطوطة. و"عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي"، شهد بيعة الرضوان، ومات رضي الله عنه سنة 88، كما صححه الذهبي في تاريخه. وهذا الأثر، وإن كان إسناده لا يقوم، فإن معناه يشبه أن يكون حقًا، لموافقته ما جاءت به الرواية عن غزوة بني قريظة في الروايات الصحيحة عن غير عبد الله بن أبي أوفى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 7760- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: لم يمدوا يوم أحُد ولا بملك واحد = أو قال: إلا بملك واحد، أبو جعفر يشك. 7761- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف" إلى"خمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، كان هذا موعدًا من الله يوم أحُد عرضه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنّ المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين؛ ففرّ المسلمون يوم أحد وولَّوا مدبرين، فلم يمدهم الله. 7762- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا" الآية كلها. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ينظرون المشركين: يا رسول الله، أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين"، وإنما أمدكم يوم بدر بألف؟ " قال: فجاءت الزيادة من الله على أن يصبروا ويتقوا، قال: بشرط أن يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم الآية كلها. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبرَ عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيَكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددًا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله. ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآف، ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم. وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم، على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم = وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك. ولا خبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 عندنا صحَّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمِدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف. وغير جائز أن يقال في ذلك قولٌ إلا بخبر تقوم الحجة به. ولا خبر به كذلك، فنسلم لأحد الفريقين قوله. غير أنّ في القرآن دلالةً على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، وذلك قوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [سورة الأنفال: 9] فأما في يوم أحُد، فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبينُ منها في أنهم أمدوا. وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا، ويُنالَ منهم ما نيل منهم. فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره. * * * وقد بينا معنى"الإمداد" فيما مضى،"والمدد"، ومعنى"الصبر" و"التقوى." (1) * * * وأما قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، فإنّ أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: معنى قوله:"من فورهم هذا"، من وجههم هذا. * ذكر من قال ذلك: 7763- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة قال:"ويأتوكم من فورهم هذا"، قال: من وجههم هذا. 7764- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"من فورهم هذا"، يقول: من وجههم هذا. 7765- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 7766- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، من وجههم هذا.   (1) انظر معنى"الإمداد والمدد" فيما سلف 1: 307، 308 / "والصبر" 2: 11، 124 / 3: 214، 349 كم فهارس اللغة فيما سلف / و"التقوى" 1: 232، 333، 364 / 4: 162، وفهارس اللغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 7767- حدثت عن عمار بن الحسن، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، يقول: من وجههم هذا. 7768- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا" يقول: من وجههم هذا. 7779- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، يقول: من سفرهم هذا = ويقال -يعني عن غير ابن عباس- بل هو من غضبهم هذا. 7770- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"من فورهم هذا"، من وجههم هذا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: من غضبهم هذا. * ذكر من قال ذلك: 7771- حدثني محمد بن المثني قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة في قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة"، قال:"فورهم ذلك"، كان يوم أحد، غضبوا ليوم بدر مما لقوا. 7772- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا صالح مولى أم هانئ يقول:"من فورهم هذا"، يقول: من غضبهم هذا. 7773- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، قال: غضَبٌ لهم، يعني الكفار، فلم يقاتلوهم عند تلك الساعة، وذلك يوم أحد. 7774- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد:"من فورهم هذا"، قال: من غضبهم هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 7775- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك، في قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، يقول: من وجههم وغضبهم. * * * قال أبو جعفر: وأصل"الفوْر"، ابتداء الأمر يؤخذ فيه، ثم يوصل بآخر، (1) يقال منه:"فارت القدرُ فهي تفور فورًا وفورانًا" إذا ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل. و"مضيت إلى فلان من فوْري ذلك"، يراد به: من وجهي الذي ابتدأت فيه. * * * = فالذي قال في هذه الآية: معنى قوله:"من فورهم هذا"، من"وجههم هذا"= قصد إلى أن تأويله: ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين. * * * =وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من غضبهم هذا =فإنما عنوا أن تأويل ذلك: ويأتيكم كفار قريش وتُبَّاعهم يوم أحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها، يمددكم ربكم بخمسة آلاف. * * * ولذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله:"ويأتوكم من فورهم هذا"، (2) اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحُد بملائكته. فقال بعضهم: لم يمدوا بهم، لأن المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم ولم يتقوا الله عز وجل، بترك من ترك من الرماة طاعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه، ولكنهم أخلُّوا به   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يوجد فيه"، وهو كلام سخيف. وأخذ في الأمر: شرع وبدأ. (2) في المطبوعة: "وكذلك من اختلاف تأويلهم. . ."، وهو كلام غير مستقيم. ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة، لأن من عادة ناسخها أن يترك كثيرًا شرطة الكاف، ويدعها كاللام، فظنها هنا"كذلك"، ولكنها"لذلك" كما قرأتها لك. يقول الطبري: ومن أجل اختلافهم في تأويل: "ويأتوكم من فورهم هذا"، اختلف أهل التأويل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 طلبَ الغنائم، (1) فقتل من قتل المسلمين ونال المشركون منهم ما نالوا، (2) وإنما كان الله عز وجل وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إمدادَهم بهم إن صبروا واتقوا الله. * * * =وأما الذين قالوا: كان ذلك يوم بدر بسبب كُرْز بن جابر، فإن بعضهم قالوا: لم يأت كرزٌ وأصحابُه إخوانَهم من المشركين مددًا لهم ببدر، ولم يمد الله المؤمنين بملائكته، لأن الله عز وجل إنما وعدهم أن يمدهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم، ولم يأتهم المددُ. * * * =وأما الذين قالوا: إنّ الله تعالى ذكره أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر، فإنهم اعتلوا بقول الله عز وجل: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [سورة الأنفال: 9] ، قال: فالألف منهم قد أتاهم مددًا. وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط، فما زاد على الألف، (3) فأما الألف فقد كانوا أمدُّوا به، لأن الله عز وجل كان قد وعدهم ذلك، ولن يُخلف الله وعده. * * * قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"مسوّمين". فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (مُسَوَّمِينَ) بفتح"الواو"، بمعنى أن الله سوَّمها. * * * وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الكوفة والبصرة: (مُسَوِّمِينَ) بكسر"الواو"، بمعنى أن الملائكة سوَّمتْ لنفسها. * * *   (1) في المطبوعة: "طلبًا للغنائم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مثله في المعنى. (2) في المطبوعة: "فقتل من المسلمين"، وهي غير مستقيمة، وفي المخطوطة: "في قتل من قتل من المسلمين"، وهي الصواب، إلا في تصحيف الناسخ وخطئه إذ كتب مكان"فقتل" -"في قتل". (3) في المطبوعة: "فيما زاد"، وفي المخطوطة مثلها غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر"الواو"، لتظاهرُ الأخبار عن [أصحاب] رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم (1) بأن الملائكة هي التي سوَّمت أنفسها، من غير إضافة تسويمها إلى الله عز وجل، أو إلى غيره من خلقه. ولا معنى لقول من قال: إنما كان يُختار الكسرُ في قوله:"مسوِّمين"، لو كان في البشر، فأما الملائكة فوصفهم غيرُ ذلك = ظنًا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويمُ أنفسها إمكانَ ذلك في البشر. وذلك أنه غيرُ مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها نحو تمكينه البشر من تسويم أنفسهم، فسوَّموا أنفسهم نحو الذي سوَّم البشر، (2) طلبًا منها بذلك طاعة ربها، فأضيف تسويمها أنفسهَا إليها. وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه. وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسهَا تقرٌُّبًا منها إلى ربها، كأن أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها. * * * ذكر الأخبار بما ذكرنا: من إضافة من أضاف التسويم إلى الملائكة، دون إضافة ذلك إلى غيرهم، على نحو ما قلنا فيه:   (1) في المطبوعة: "لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم. . ." وهي عبارة فاسدة، ثم لا تؤيدها الأخبار التي رواها بعد. وفي المخطوطة مثلها، إلا أنه كتب"بأهل التأويل"، وهو تحريف وخطأ. والصواب أن الأخبار المتظاهرة التي سيذكرها هي عن أصحاب رسول الله وأهل التأويل منهم، فلذلك زدت"أصحاب" بين القوسين، وجعلت"فأهل"، "وأهل"، واستقام الكلام. ولو تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان به ولا بأحد حاجة إلى تظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله وأهل التأويل منهم ومن التابعين من بعدهم. ففي خبره صلى الله عليه وسلم كفاية من كل خبر، بأبي هو وأمي. (2) في المطبوعة: ". . . مكنها من تسويم أنفسها بحق تمكينه البشر. . ." ثم". . . فسوموا أنفسهم بحق الذي سوم البشر"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة أساء الكاتب في الكلمة الأولى فنقط الحروف ومجمجها فاختلطت، وكتب الثانية"بحق" غير منقوطة، وصواب قراءتها في الموضعين"نحو" كما أثبتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 7776- حدثني يعقوب قال، أخبرنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: إن أول ما كان الصوف ليومئذ = يعني يوم بدر = قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تسوَّموا، فإنّ الملائكة قد تسوَّمت. (1) 7777- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مختار بن غسان قال، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن الزبير بن المنذر، عن جده أبي أسيد -وكان بدريًا- فكان يقول: لو أن بصري فُرِّج منه، (2) ثم ذهبتم معي إلى أحد، لأخبرتكم بالشِّعب الذي خرجت منه الملائكة في عمائم صُفر قد طرحوها بين أكتافهم. (3)   (1) الأثر: 7776-"ابن عون"، هو: "عبد الله بن عون بن أرطبان المزني" أبو عوف الخراز البصري أحد الفقهاء الكبار. رأى أنس بن مالك، وروى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والحسن البصري والشعبي وطبقتهم. وكان في المطبوعة: "ابن عوف"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. و"عمير بن إسحاق القرشي" أبو محمد مولى بني هاشم، روى عن المقداد بن الأسود، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وكان قليل الحديث. وقال أبو حاتم والنسائي: "لا نعلم روى عنه غير ابن عون" قال ابن معين: "ثقة"، وقال أيضا: "لا يساوي حديثه شيئًا، ولكن يكتب حديثه". فهذا الحديث كما ترى مرسل، وعن رجل يكتب حديثه ولا يحتج به. (2) في المطبوعة: "لو أن بصري معي، ثم ذهبتم معي"، وهو تصرف من الطابعين فيما يظهر، نقلا عن تصرف السيوطي في الدر المنثور 2: 70. أما المخطوطة، فكان فيها: "لو أن بصرى حرح منه، ثم ذهبتم معي" فيها"حرح" غير منقوطة، والظاهر أن السيوطي رآها كذلك، فعجز عنها، فاستظهرها من الأثرين السالفين: 7747، 7748، ولكني حرصت على متابعة ما في المخطوطة، فوجدت رواية الأثرين السالفين من طريق ابن شهاب عن أبي حازم، عن سهل بن سعد: "قال لي أبو أسيد الساعدي، بعد ما ذهب بصره: يا ابن أخي، لو كنت أنت وأنا ببدر ثم أطلق الله لي بصري، لأريتك الشعب. . ." (الاستيعاب: 621) فاستظهرت أن"حرح" تصحيف"فرج" (بتشديد الراء، والبناء للمجهول) ، وهي بمعنى"أطلقه الله". وقوله: "فرج منه"، أي: فرج الله عن بعضه. ولو كانت"فرج عنه" لكان صوابًا مطابقًا لرواية سهل بن سعد في المعنى. وأرجو أن أكون قد وفقت إلى الصواب بحمد الله وتوفيقه. (3) الأثر: 7777-"مختار بن غسان التمار الكوفي العبدي"، روى عن حفص بن عمر البرجمي وإسماعيل بن مسلم. مترجم في التهذيب. و"عبد الرحمن بن الغسيل"، هو: "عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري" سلفت ترجمته في رقم: 5123. أما "الزبير بن المنذر ابن أبي أسيد" فيقال أيضا أنه"الزبير بن أبي أسيد"، أن أبا أسيد أبوه لا جده، وإسناد الطبري مبين عن أنه جده. وقد ذكر ذلك البخاري في الكبير 2 / 1 / 375، في خبر ساقه عن ابن الغسيل، وكذلك ابن أبي حاتم 1 / 2 / 579، وذكره الحافظ في التهذيب وقال: "وفي إسناده اختلاف"، إشارة إلى هذا الاختلاف في أن أبا أسيد أبوه أو جده. أما خبر أبي أسيد هذا فقد سلف بإسناد أبي كريب وابن حميد: 7747، 7748، مع اختلاف في بعض اللفظ، ومع نسبة هذا إلى يوم بدر، لا يوم أحد. والأول هو الثابت الصحيح. وأخشى أن يكون الذي هنا سهوًا من ناسخ أو راو، وأن صوابه"إلى بدر". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 7778 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بخمسة آلاف من الملائكة مسومين"، يقول: معلمين، مجزوزة أذنابُ خيلهم، ونواصيها - فيها الصوف أو العِهْن، (1) وذلك التسويم. 7779- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، قال: مجزوزة أذنابها، وأعرافها فيها الصوف أو العهن، فذلك التسويم. 7780- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مسوّمين"، ذكر لنا أن سيماهم يومئذ، الصوف بنواصي خيلهم وأذنابها، وأنهم على خيل بُلْق. 7781- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مسومين"، قال: كان سيماها صوفًا في نواصيها. 7782- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد، أنه كان يقول:"مسومين"، قال: كانت خيولهم مجزوزة الأعراف، معلمة نواصيها وأذنابها بالصوف والعِهْن. 7783- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: كانوا يومئذ على خيل بُلْق. 7784- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا   (1) في المخطوطة: "الصوف، العهن"، بحذف "أو"، وهو صواب. والعهن: هو الصوف المصبوغ الملون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 جويبر، عن الضحاك وبعض أشياخنا، عن الحسن، نحو حديث معمر، عن قتادة. 7785- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مسومين"، معلمين. 7786- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، فإنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، مسوِّمين بالصوف، فسوَّم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف. 7787- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عباد بن حمزة قال، نزلت الملائكة في سيما الزبير، عليهم عمائم صفر. وكانت عمامة الزبير صَفراء. 7788- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"مسومين"، قال: بالصوف في نواصيها وأذنابها. 7789- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة قال: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، عليهم عمائم صفر. وكان على الزبير يومئذ عمامة صفراء. 7790- حدثني أحمد بن يحيى الصوفي قال، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال، حدثنا أبي قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير: أنّ الزبير كانت عليه مُلاءة صفراء يوم بدر، فاعتم بها، فنزلت الملائكة يوم بدر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم معمَّمين بعمائم صفر. (1) * * *   (1) الأثر: 7790-"أحمد بن يحيى الصوفي" روى عن محمد بن بشر، ومحمد بن عبيد وزيد بن الحباب، وكتب عنه أبو حاتم، وقال: "ثقة"، وروى عنه أبو عوانة الكوفي. مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 1 / 81. و"عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي". روى عن أبيه. روى عنه البخاري في الأدب، وأبو كريب. قال أبو حاتم: "واهن الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "ربما أخطأ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 قال أبو جعفر: فهذه الأخبار التي ذكرنا بعضها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه:"تسوَّموا فإن الملائكة قد تسوَّمت" وقول أبي أسيد:"خرجت الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم"، وقول من قال منهم:"مسوِّمين" معلمين = ينبئ جميعُ ذلك عن صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك، وأن التسويم كان من الملائكة بأنفسها، على نحو ما قلنا في ذلك فيما مضى. * * * وأما الذين قرأوا ذلك:"مسوَّمين"، بالفتح، فإنهم أراهم تأوَّلوا في ذلك ما: 7791- حدثنا به حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة:"بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين"، يقول: عليهم سيما القتال. 7792- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"بخمسة آلاف من الملائكة مسومين"، يقول: عليهم سيما القتال، وذلك يوم بدر، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، يقول: عليهم سيما القتال. * * * =فقالوا: كان سيما القتال عليهم، لا أنهم كانوا تسوَّموا بسيما فيضاف إليهم التسويم، فمن أجل ذلك قرأوا:"مسوَّمين"، بمعنى أن الله تعالى أضاف التسويم إلى مَنْ سوَّمهم تلك السيما. * * * و"السيما" العلامة يقال:"هي سيما حسنة، وسيمياء حسنة"، كما قال الشاعر: (1) غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بِالحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمِياءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (2)   (1) هو أسيد بن عنقاء الفزاري. (2) سلف تخريجه وشرحه في 5: 594، 595. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 يعني بذلك: علامة من حسن، (1) فإذا أعلم الرجل بعلامة يعرف بها في حرب أو غيره قيل:"سوَّم نفسه فهو يسوِّمها تسويمًا". (2) * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم ="إلا بشرى لكم"، يعني بشرى، يبشركم بها ="ولتطمئن قلوبكم به"، يقول. وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم، فتسكن إليه، ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم ="وما النصر إلا من عند الله"، يعني: وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله، لا من قِبَل المدد الذي يأتيكم من الملائكة. يقول: فعلى الله فتوكلوا، وبه فاستعينوا، لا بالجموع وكثرة العدد، فإن نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف، (3) فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوكم، وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة = أحْرَى، (4) فاتقوا الله واصبروا   (1) انظر تفسيره"السيما" فيما سلف 5: 594. (2) انظر تفسير"سوم" فيما سلف 5: 251 - 257. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "وبعونه معكم من ملائكته. . ." بإسقاط الواو من"معكم"، وهو خلل في الكلام والسياق. (4) سياق الكلام: "فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم. . . أحرى". ثم انظر إلى هذا الإمام كيف يتحرى في بيان معاني كتاب الله إخلاص التوحيد لله، ونفى الشرك عنه في صفاته سبحانه، فأخرج من النصر ما يتوهم المتوهم أن نزول الملائكة كان هو سبب نصر المؤمنين، فلخص المعنى تلخيصًا كله تقوى لله وإخلاص له، ونفي للشرك عن صفاته سبحانه، فبين أن النصر من عند الله للمؤمنين وللملائكة جميعًا على عدو الله وعدوهم، وأنهم إنما كانوا مددًا للمؤمنين، كما قال ربنا سبحانه. وهذا من فقه أبي جعفر وبصره وتحققه بمعاني هذا الكتاب الذي لا يدرك أحد توحيد الله حق توحيده إلا بتلاوته وفهمه وتفقهه فيه، واتباعه لبيانه العربي المحكم. ورحم الله أبا جعفر، فإنه كان إمامًا في التفسير، قيما عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 على جهاد عدوكم، فإن الله ناصركم عليهم. كما:- 7793- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما جعله الله إلا بشرى لكم"، يقول: إنما جعلهم ليستبشروا بهم وليطمئنوا إليهم، ولم يقاتلوا معهم يومئذ = يعني يوم أحد = قال مجاهد: ولم يقاتلوا معهم يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. 7794- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به"، لما أعرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي، وذلك أن العزّ والحكم إلىّ، (1) لا إلى أحد من خلقي. (2) 7795- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وما النصر إلا من عند الله"، لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعَل"العزيز الحكيم". * * * وأما معنى قوله:"العزيز الحكيم"، فإنه جل ثناؤه يعني:"العزيز" في انتقامه من أهل الكفر به بأيدي أوليائه من أهل طاعته ="الحكيم" في تدبيره لكم، أيها المؤمنون، على أعدائكم من أهل الكفر، وغير ذلك من أموره. (3) يقول:   (1) في المطبوعة: "وذلك أني أعرف الحكمة التي لا إلى أحد من خلقي"، وهو كلام قد ضل عنه معناه. وفي المخطوطة: "وذلك أن العرف الحكمة التي لا إلى أحد من خلقي"، وهو شبيه به في الخطل. والصواب ما أثبته من نص ابن إسحاق في سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 7994- سيرة ابن هشام 3: 114، وهو تابع للأثرين السالفين: 7733، 7741. (3) في المخطوطة: "في تدبيره ولكم أيها المؤمنون وعلى أعدائكم"، وهو لا يستقيم مع سياقته، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 فأبشروا أيها المؤمنون، بتدبيري لكم على أعدائكم، ونصري إياكم عليهم، إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به، وصبرتم لجهاد عدوِّى وعدوِّكم. * * * القول في تأويل قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد نصركم الله ببدر"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، ويعني بـ"الطرف"، الطائفة والنفر. * * * يقول تعالى ذكره: ولقد نصركم الله ببدر، كما يُهلك طائفة من الذين كفروا بالله ورسوله، فجحدوا وحدانية ربهم، ونبوة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، كما:- 7796- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، فقطع الله يوم بدر طرفًا من الكفار، وقتل صناديدهم ورؤساءهم، وقادتهم في الشر. 7797- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه. 7798- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا" الآية كلها، قال: هذا يوم بدر، قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة. 7799- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، أي: ليقطع طرفًا من المشركين بقتل ينتقم به منهم. (1) * * *   (1) الأثر: 7799- سيرة ابن هشام 3: 114، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7994. هذا وقد أسقطت المخطوطة والمطبوعة"عن ابن إسحاق"، فأثبتها، فهو إسناد دائر في التفسير كما ترى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفًا من الذين كفروا. وقال: إنما عنى بذلك من قُتل بأحد. *ذكر من قال ذلك: 7800- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر الله قتلى المشركين -يعني بأحد- وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال:"ليقطع طرفًا من الذين كفروا"، ثم ذكر الشهداء فقال: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الآية. [سورة آل عمران: 169] * * * وأما قوله:"أو يكبتهم"، فإنه يعني بذلك: أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظفر بكم. وقد قيل: إن معنى قوله:"أو يكبتهم"، أو يصرعهم لوجوههم. ذكر بعضهم أنه سمع العرب تقول:"كبته الله لوجهه"، بمعنى صرعه الله. (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ولقد نصركم الله ببدر ليهلك فريقًا من الكفار بالسيف، أو يخزيهم بخيبتهم مما طمعوا فيه من الظفر ="فينقلبوا خائبين"، يقول: فيرجعوا عنكم خائبين، لم يصيبوا منكم شيئًا مما رجوا أن ينالوه منكم، كما:- 7801- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أو يكبتهم فينقلبوا خائبين"، أو يردهم خائبين، أي: يرجع من بقي منهم فلاًّ خائبين، (2) لم ينالوا شيئًا مما كانوا يأملون. (3)   (1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 103. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "أو يرجع من بقي. . ."، والصواب من سيرة ابن هشام. وأما المطبوعة فقد حذفت قوله: "فلا"، لأن قلم الناسخ قد اضطرب فضرب خطأ غير بالغ على قوله: "فلا"، فظنها الناشر علامة حذف. والصواب إثباتها كما في سيرة ابن هشام. والفل (بفتح الفاء وتشديد اللام) : المنهزمون، يقال: "جاء فل القوم"، أي منهزموهم، يستوي فيه الواحد والجمع. (3) الأثر: 7801- سيرة ابن هشام 3: 114، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم: 7799. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 7802- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أو يكبتهم"، يقول: يخزيهم،"فينقلبوا خائبين". 7803- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. * * * القول في تأويل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ليقطع طرفًا من الذين كفروا، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء. * * * فقوله:"أو يتوب عليهم"، منصوبٌ عطفًا على قوله:"أو يكبتهم". وقد يحتمل أن يكون تأويله: ليس لك من الأمر شيء، حتى يتوب عليهم = فيكون نصب"يتوب" بمعنى"أو" التي هي في معنى"حتى". (1) * * * قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحدٍ سوى خالقهم، قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك. * * * وتأويل قوله:"ليس لك من الأمر شيء"، ليس إليك، يا محمد، من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري، وتنتهيَ فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إليّ والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضى فيهم وأحكمُ بالذي أشاء، من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنّقَم المبيرة، وإما في آجل الآخرة بما أعددتُ لأهل الكفر بي. كما:-   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 234. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 7804- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون"، أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي، إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوب عليهم برحمتي، فإن شئتُ فعلتُ، أو أعذبهم بذنوبهم = (1) "فإنهم ظالمون"، أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي. (2) * * * وذكر أن الله عز وجل إنما أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما أصابه بأحُد ما أصابه من المشركين، قال، كالآيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلى الحق:"كيف يفلح قومٌ فعلوا هذا بنبيهم!! *ذكر الرواية بذلك: 7805- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا حميد قال، قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكسرت رَبَاعيته، وشُجَّ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم!! فأنزلت:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوبَ عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". (3)   (1) في سيرة ابن هشام: ". . . بذنوبهم، فبحقي". (2) الأثر: 7804- سيرة ابن هشام 3: 115، وهو تابع الآثار التي آخرها: 7801، مع اختلاف يسير في بعض لفظه. (3) الحديث: 7805- هذا الحديث رواه الطبري متصلا بخمسة أسانيد: 7805 - 7808، 7810، من طريق بشر بن المفضل، وابن أبي عدي، وهشيم، وأبي بكر بن عياش، وابن علية = الخمسة عن حميد بن أبي حميد الطويل، عن أنس بن مالك. ورواه: 7809، من حديث الحسن البصري، بنحوه، مرسلا. وقد رواه أحمد في المسند: 11980، عن هشيم، و: 12862، عن سهل بن يوسف، و: 13115، عن يزيد بن هارون، و: 13170، عن ابن أبي عدي = أربعتهم عن حميد الطويل، به. (ج3 ص99، 178 - 179، 201، 206 حلبى) . ورواه الترمذي 4: 83، عن أحمد بن منيع، وعبد بن حميد - كلاهما عن يزيد بن هارون، كرواية المسند: 13115. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه أبو جعفر النحاس، في الناسخ والمنسوخ، ص: 90، من طريق يزيد بن هارون. ورواه أحمد أيضًا، بنحوه: 13692 (ج3 ص253 حلبي) ، عن عفان، عن حماد - وهو ابن سلمة - عن ثابت، عن أنس. وكذلك رواه مسلم 2: 67، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن حماد بن سلمة، به وذكره البخاري في الصحيح 7: 281، مختصرًا، معلقًا، من الوجهين. قال: "قال حميد وثابت، عن أنس. . .". وبين الحافظ في الفتح أن رواية حميد وصلها أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن إسحاق في المغازي. وأن رواية ثابت وصلها مسلم. وذكر ابن كثير 2: 238 رواية البخاري المعلقة. وفي ص: 239 رواية أحمد عن هشيم. ثم أشار إلى رواية مسلم. وذكره السيوطي 2: 70 - 71، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. وانظر ما يأتي: 7818 - 7821. "الرباعية" - على وزن"ثمانية": الأسنان الأربعة التي تلي الثناياه، بين الثنية والناب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 7806- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. 7807- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن حميد الطويل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. 7808- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شُجَّ في جبهته وكسِرت رباعيته: لا يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم! فأوحى الله إليه:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". (1) 7809- حدثني يعقوب، عن ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحُد: كيف يفلح قوم دمَّوا وجه نبيهم وهو   (1) الحديث: 7808- يحيى بن طلحة اليربوعي: سبق في: 421 أن النسائي ضعفه. والراجح توثيقه. فقد ترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 160، فلم يذكر فيه جرحًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 يدعوهم إلى الله عز وجل!! فنزلت:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". (1) 7810- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك. 7811- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون"، ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وقد جُرح نبي الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وأصيبَ بعضُ رباعيته، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم! فأنزل الله عز وجل:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". 7812- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن مطر، عن قتادة قال: أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكِسرت رباعيته، وفُرِق حاجبه، فوقع وعليه درعان، والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول: كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله! فأنزل الله تبارك وتعالى:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". 7813- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قوله:"ليس لك من الأمر شيء" الآية قال قال الربيع بن أنس: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحُد، وقد شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وأصيبتْ رباعيته، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ عليهم،   (1) الحديث: 7809- هذه رواية الحسن المرسلة. وقد ذكر السيوطي 2: 71 رواية عن الحسن، مطولة مرسلة أيضًا، ونسبها لعبد بن حميد، وحده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 فقال: "كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله وهم يدعونه إلى الشيطان، ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار! فهمَّ أن يدعوَ عليهم، فأنزل الله عز وجل:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون"، فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم. 7814- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم" الآية كلها، فقال: جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صُنع بأصحابه يوم بدر، فقاتل أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد قتالا شديدًا، حتى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمةً علم الله أنها قد خالطت غضبًا: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الإسلام! فقال الله عز وجل:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". 7815- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: أن رباعية النبي صلى الله عليه وسلم أصيبت يوم أحد، أصابها عتبة بن أبي وقاص، وشجه في وجهه. وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم الدمَ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كيف يفلح قوم صنعوا بنبيهم هذا!! فأنزل الله عز وجل:"ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". 7816- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، وعن عثمان الجزري، عن مقسم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد، حين كسر رباعيته، وَوثأ وجهه، (1)   (1) وثأه وثأه: فهو أن يضرب حتى يرهص الجلد واللحم، ويصل الضرب إلى العظم من غير أن ينكسر، يكسر اللحم ولا يكسر العظم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 فقال:"اللهم لا يحل عليه الحول حتى يموت كافرا! " قال: فما حال عليه الحول حتى مات كافرا. 7817 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: شج النبي صلى الله عليه وسلم في فرق حاجبه، وكسرت رباعيته. = قال ابن جريج: ذكر لنا أنه لما جرح، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله! ". فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء) * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه دعا على قوم، فأنزل الله عز وجل: ليس الأمر إليك فيهم. * ذكر الرواية بذلك: 7818 - حدثني يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) قال: وهداهم الله للإسلام (1) .   (1) الحديث: 7818 - خالد بن الحارث بن عبيد، أبو عثمان الهجيمي: ثقة ثبت إمام. وقال أحمد: " إليه المنتهى في التثبت بالبصرة ". والحديث رواه أحمد في المسند: 5813، عن يحيى بن حبيب بن عربي- شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية قبله. ورواه الترمذي 4: 84 عن يحيى بن حبيب بن عربي أيضًا. وقال: " هذا حديث حسن غريب صحيح، يستغرب من هذا الوجه، من حديث نافع عن ابن عمر. ورواه يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان". ورواه أحمد أيضًا: 5812 - قبل الرواية السابقة -: عن أبي معاوية الغلابي، عن خالد بن الحارث. ورواه أحمد أيضًا: 5997، بنحوه، عن هارون بن معروف المروزي، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر. وهو متابعة صحيحة لرواية ابن عجلان عن نافع، التي استغربها الترمذي - فكانت غير غريبة، بهذه المتابعة الصحيحة. وذكره ابن كثير 2: 238، من رواية المسند: 5812. وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 170، من روايتي أحمد والترمذي. وذكره السيوطي 2: 71، ونسبه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، فقط. وانظر الحديث التالي لهذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 7819 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن عمر بن حمزة، عن سالم، عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم العن أبا سفيان! اللهم العن الحارث بن هشام! اللهم العن صفوان بن أميه! فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) (1) .   (1) الحديث: 7819 - أحمد بن بشير، أبو بكر الكوفي، مولى عمرو بن حريث المخزومي: ثقة، أخرج له البخاري في صحيحه، وترجمه هو وابن أبي حاتم، فلم يذكرا فيه جرحًا. ومن نقل فيه جرحًا عن ابن معين فقد وهم. ذاك " أحمد بن بشير " آخر، كما بينه الخطيب في تاريخ بغداد 4: 46 - 48. ووقع في المطبوعة هنا اسم أبيه " سفيان"، وفي المخطوطة "سنين" - وكلاهما خطأ، ليس في الرواة من يسمى بهذا أو بذاك، إلا راويًا اسمه " أحمد بن سفيان أبو سفيان النسائي" وهو متأخر عن هذه الطبقة. وأثبتنا الصواب عن ذلك، وعن رواية الترمذي هذا الحديث بهذا الإسناد، كما سيأتي. عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: رجحنا توثيقه في شرح المسند: 5638، بأنه أخرج له مسلم في صحيحه، وبقول الحاكم: " أحاديثه كلها مستقيمة". وهو يروي هنا عن عمه " سالم بن عبد الله بن عمر " عن جده " عبد الله بن عمر". والحديث رواه أحمد في المسند: 5674، عن أبي النضر، عن أبي عقيل عبد الله بن عقيل، عن عمر بن حمزة، به وزاد في آخره بعد نزول الآية: " قال: فتيب عليهم ". ورواه الترمذي 4: 83، عن أبي السائب سلم بن جنادة بن سلم الكوفي - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. وزاد في آخره: " فتاب عليهم، فأسلموا فحسن إسلامهم ". وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب، يستغرب من حديث عمر بن حمزة عن سالم. وكذا رواه الزهري، عن سالم، عن أبيه". ورواية الزهري عن سالم - التي أشار إليها الترمذي - رواها أحمد في المسند: 6349، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. وكذا رواها أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص: 89، من طريق عبد الرزاق، به. ورواه أيضًا ابن المبارك عن معمر. فرواه أحمد في المسند: 6350، عن علي بن إسحاق، عن ابن المبارك، عن معمر، عن سالم. عن أبيه. وكذلك رواه البخاري 7 / 281، 8: 170 / و 13: 263 - 264، من طريق عبد الله بن المبارك. ورواه البخاري أيضًا 7: 281، من رواية ابن المبارك، عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، عن سالم بن عبد الله: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو. . . " رواه تبعًا لحديث ابن المبارك عن معمر، فقال الحافظ في الفتح: " والراوي له عن حنظلة، هو عبد الله بن المبارك". ووهم من زعم أنه معلق. وقوله: " سمعت سالم بن عبد الله يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو "، إلى آخره -: هو مرسل. وقد ذكره ابن كثير 2: 238، عن رواية المسند: 5674. وذكره السيوطي 2: 71، وزاد نسبته للنسائي، والبيهقي في الدلائل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 7820 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد الله بن كعب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قالاللهم أنج عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد! اللهم أنج المستضعفين من المسلمين! اللهم اشدد وطأتك على مضر! اللهم سنين كسنين آل يوسف! فأنزل الله: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم) (1) الآية.   (1) الحديث: 7820 - عبد الله بن كعب: هو الحميري المدني، مولى عثمان بن عفان. وهو ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه، وترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 142. وهذا الحديث مرسل، لأن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي - تابعي- وقد مضت ترجمته في: 2351. ولم أجد هذا الحديث المرسل في موضع آخر. ومعناه ثابت صحيح في الحديث الآتي عقبه: 7821، وفي حديث أبي هريرة في المسند: 7656، من رواية الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. عن أبي هريرة. ولكن ليس فيه نزول الآية. ثم وجدته موصولا من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه: فرواه البخاري 2: 241 - 242، في حديث مطول، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري " قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة ... قالا: وقال أبو هريرة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه. . . " - إلخ. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 207، مقتصرًا على القسم الأخير منه، من أول قوله: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " - من طريق عثمان بن سعيد الدارمي، عن أبي اليمان، بمثل إسناد البخاري، ثم قال: " رواه البخاري في الصحيح، عن أبي اليمان ". ووجدته أيضا مرسلا، مثل رواية الطبري هنا: فرواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 142، من طريق سلمة بن رجاء، عن محمد بن إسحاق، بمثل إسناد الطبري هنا. وزاد في آخره بعد الآية: " قال: فما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء على أحد ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 7821 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب أخبره، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن: أنهما سمعا أبا هريرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ، في صلاة الفجر، من القراءة ويكبر ويرفع رأسه:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" ثم يقول وهو قائم:"اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين! اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف! اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله! ". ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) (1) . * * * القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) }   (1) الحديث: 7821 - روى مسلم في صحيحه 1: 187، عن أبي الطاهر، وحرملة بن يحيى - كلاهما عن ابن وهب، بهذا الإسناد. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 197، من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب، به. ثم أشار إلى رواية مسلم. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 142، عن يونس بن عبد الأعلى - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد؛ ولكنه اختصر آخره، فلم يذكر قوله: " ثم بلغنا أنه ترك ذلك. . . ". ورواه أحمد في المسند: 7458، عن أبي كامل، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه البخاري 8: 170 - 171 (فتح) ، عن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، به. وكذلك رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ، ص: 89، من طريق الحسن بن محمد، عن إبراهيم بن سعد. وكذلك رواه البيهقي 2: 197، من طريق محمد بن عثمان بن خالد، عن إبراهيم بن سعد. ونقله ابن كثير 2: 238، عن رواية البخاري، التي أشرنا إليها آنفًا. وذكره السيوطي 2: 71، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم. ولم يفرق بين روايتي إبراهيم بن سعد ويونس، والفرق بينهما واضح - فنسبه بنحو رواية يونس - للبخاري والنحاس، وهما لم يروياه بهذا اللفظ. وقد قال الحافظ في الفتح 7: 282، في شرح حديث ابن عمر، الذي أشرنا إليه في شرح: 7819 - قال: " ووقع في رواية يونس، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، نحو حديث ابن عمر، لكن فيه: اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية، قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت: (ليس لك من الأمر شيء) . قلت: [القائل ابن حجر] . وهذا إن كان محفوظًا احتمل أن يكون نزول الآية تراخى عن قصة أحد. لأن قصة رعل وذكوان كانت بعدها، كما سيأتي تلو هذه الغزوة، وفيه بعد. والصواب: أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد. والله أعلم. ويؤيد ذلك ظاهر قوله في صدر الآية: (ليقطع طرفًا من الذين كفروا) أي يقتلهم، (أو يكبتهم) أي يخزيهم، ثم قال: (أو يتوب عليهم) أي فيسلموا، (أو يعذبهم) أي إن ماتوا كفارًا ". وهذا تحقيق نفيس جيد من الطراز العالي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ليس لك يا محمد، من الأمر شيء، ولله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما يشاء، ويقضي فيهم ما أحب، فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمرَه ونهيه، ثم يغفر له، ويعاقب من شاء منهم على جرمه فينتقم منه، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح، والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم. كما:- 7822- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله غفور رحيم"، أي يغفر الذنوب، ويرحم العباد، على ما فيهم. (1) * * *   (1) الأثر: 7822- سيرة ابن هشام 3: 115، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم: 7804. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تأكلوا الربا في إسلامكم بعد إذ هداكم له، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم. * * * وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم: أنّ الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخِّر عنى ديْنك وأزيدك على مالك. فيفعلان ذلك. فذلك هو"الربا أضعافًا مضاعفة"، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه،. كما:- 7823- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كانت ثقيف تدَّاين في بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حلّ الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخِّرون؟ فنزلت:"لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة". 7824- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة"، أي: لا تأكلوا في الإسلام إذ هداكم الله له، (1) ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره، مما لا يحل لكم في دينكم. (2) 7825- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجلّ:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة" قال: ربا الجاهلية. 7826- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول   (1) سيرة ابن هشام: "هداكم الله به". (2) الأثر: 7824- سيرة ابن هشام 3: 115، من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7822. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 في قوله:"لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة"، قال: كان أبي يقول: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن. (1) يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضيني أو تزيدني؟ (2) فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوَّله إلى السن التي فوق ذلك = إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حِقَّة، ثم جَذَعة، ثم رباعيًا، (3) ثم هكذا إلى فوق = وفي العين يأتيه، (4) فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضًا، فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مئتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه. قال: فهذا قوله:"لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة". * * * وأما قوله:"واتقوا الله لعلكم تفلحون"، فإنه يعني: واتقوا الله أيها المؤمنون، في أمر الربا فلا تأكلوه، وفي غيره مما أمركم به أو نهاكم عنه، وأطيعوه فيه ="لعلكم تفلحون"، يقول: لتنجحوا فتنجوا من عقابه، وتدركوا ما رغَّبكم فيه من ثوابه والخلود في جنانه، كما:- 7827- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"واتقوا الله لعلكم تفلحون"، أي: فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذركم من عذابه، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه. (5) * * *   (1) السن: العمر. يريد بها أسنان الأنعام، كما سيتبين لك من بقية الأثر. (2) في المخطوطة: "تقضي أو تزدني". (3) "المخاض": النوق الحوامل. و"ابن المخاض" و"ابنة المخاض"، ما دخل في السنة الثانية، لأن أمه لحقت بالمخاض، أي الحوامل."واللبون": الناقة ذات اللبن. و"ابن اللبون" و"ابنة لبون"، ما أتى عليه سنتان، ودخل في السنة الثالثة. فصارت أمه لبونًا، أي ذات لبن. و"الحق" و"الحقة" البعير إذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة."والجدع" و"الجذعة" ما استكمل أربعة أعوام ودخل في الخامسة. فإذا طعن البعير في السادسة فهو"ثنى"، وقد سقط هذا من الأسنان التي يذكرها. أما "الرباع" للذكر، و"الرباعية" للأنثى، فهو الذي دخل في السابعة. (4) العين: المال. من ذهب وفضة وأشباهها. (5) الأثر: 7827- سيرة ابن هشام 3: 115، وهو تابع الآثار التي آخرها: 7824، وفي السيرة"لعلكم تنجون. . . وتدركون". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واتقوا، أيها المؤمنون، النارَ أن تصلوْها بأكلكم الربا بعد نهيي إياكم عنه = التي أعددتها لمن كفر بي، فتدخلوا مَدْخَلَهم بعد إيمانكم بي، (1) بخلافكم أمري، وترككم طاعتي. كما:- 7828- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"واتقوا النار التي أعدت للكافرين"، التي جعلت دارًا لمن كفر بي. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأطيعوا الله، أيها المؤمنون، فيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره من الأشياء، وفيما أمركم به الرسول. يقول: وأطيعوا الرسول أيضًا كذلك ="لعلكم ترحمون"، يقول: لترحموا فلا تعذبوا. * * * وقد قيل إن ذلك معاتبة من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خالفوا أمرَه يوم أحد، فأخلُّوا بمراكزهم التي أمروا بالثبات عليها. *ذكر من قال ذلك: 7829- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وأطيعوا   (1) في المطبوعة: "مداخلهم" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 7828- سيرة ابن هشام 3: 115 تابع الآثار التي آخرها: 7827. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 الله والرسول لعلكم ترحمون"، معاتبة للذين عصوْا رسوله حين أمرهم بالذي أمرهم به في ذلك اليوم وفي غيره - يعني: في يوم أحُد. (1) * * *   (1) الأثر: 7829- سيرة ابن هشام 3: 115، تابع الآثار التي آخرها: 7828. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 القول في تأويل قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وسارعوا"، وبادروا وسابقوا = (1) "إلى مغفرة من ربكم"، يعني: إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها ="وجنة عرضها السموات والأرض"، يعني: وسارعوا أيضًا إلى جنة عرضها السموات والأرض. * * * ذكر أن معنى ذلك: وجنة عرضها كعرض السموات السبع والأرضين السبع، إذا ضم بعضها إلى بعض. *ذكر من قال ذلك: 7830- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجنة عرضها السموات والأرض"، قال: قال ابن عباس: تُقرن السموات السبع والأرضون السبع، كما تُقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذاك عرض الجنة. * * * وإنما قيل:"وجنة عرضها السموات والأرض"، فوصف عرضها بالسموات والأرضين، والمعنى ما وصفنا: من وصف عرضها بعرض السموات والأرض،   (1) انظر تفسير"سارع" فيما سلف 7: 130. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 تشبيها به في السعة والعظم، كما قيل: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [سورة لقمان: 28] ، يعني: إلا كبعث نفس واحدة، وكما قال الشاعر: (1) كأَنَّ عَذِيرَهُمْ بِجَنُوب سِلَّى ... نَعَامٌ قَاقَ فِي بَلَدٍ قِفَارِ (2) أي: عذيرُ نعام، وكما قال الآخر: (3) حَسِبتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! ... وَمَا هي، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (4) يريد صوت عناق. * * * قال أبو جعفر: وقد ذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له:   (1) هو شقيق بن جزء بن رياح الباهلي، وينسب لأعشى باهلة، وللنابغة خطأ. (2) الكامل 2: 196، معجم البلدان (سلى) ، واللسان (فوق) (سلل) ، وكان شقيق بن جزء قد أغار على بني ضبة بروضة سلى وروضة ساجر، وهما روضتان لعكل -وضبة وعدى وعكل وتيم حلفاء متجاورون- فهزمهم، وأفلت عوف بن ضرار، وحكيم بن قبيصة بن ضرار بعد أن جرح، وقتلوا عبيدة بن قضيب الضبي، فقال شقيق: لَقَدْ قَرَّتْ بِهِمْ عَيْني بِسِلَّى ... وَرَوْضَةِ سَاجِرٍ ذَاتِ القَرَارِ جَزَيْتُ المُلْجِئِينَ بِمَا أَزَلْتْ ... مِنَ البُؤْسَى رِمَاحُ بني ضِرَارِ وَأَفْلَتَ من أسِنَّتِنَا حَكِيمٌ ... جَرِيضًا مِثْلَ إفْلاتِ الحِمارِ كأَنَّ عَذِيرَهُمْ ............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي المعجم"ذات العرا"، والصواب ما أثبت. والقرار: المكان المنخفض المطمئن يستقر فيه الماء، فتكون عندها الرياض، ومنه قوله تعالى: "وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين". والملجئ الذي قد تحصن بملجأ واعتصم. وأزل إليه زلة: أي أنعم إليه واصطنع عنده صنيعة، وإنما أراد: ما قدم من السوء، سخرية منهم. يقول: جزيتهم هؤلاء المعتصمين بأسوأ ما صنعوا. وقوله: "جريضًا"، أي أفلت وقد كاد يقضى ويهلك. والعذير: الحال. يقول كأن حالهم حال نعام في أرض قفر يصوت مذعورًا، هزموا وتصايحوا. والقفار جمع قفر، يقال: "أرض قفر وأرض قفار"، يوصف بالجمع. (3) هو ذو الخرق الطهوي. (4) سلف تخريجه وشرحه في 3: 103. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 هذه الجنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال: هذا النهار إذا جاء، أين الليل. *ذكر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره. 7831- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مرة قال: لقيت التنوخيّ رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص، شيخًا كبيرًا قد فُنِّد. (1) قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره. قال قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية. فإذا كتاب صاحبي:"إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، (2) فأين النار؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار؟ (3)   (1) في المطبوعة: "قد أقعد". وهو خطأ لا شك فيه، وفي تفسير ابن كثير 2: 240"قد فسد"، وهو خطأ أيضًا، ولكنه رجع عندي أن نص الطبري هنا قد"فند" (بضم الفاء وتشديد النون المكسورة مبنيًا للمجهول) بمعنى: قد نسب إلى الفند (بفتحتين) وهو العجز، والخرف وإنكار العقل من الهرم والمرض، ولم يرد ذلك إنما أراد الكبر والهرم إلى أقصى العمر. وأهل اللغة يقولون في ذلك"أفند" (بالبناء للمعلوم) ، وأفنده الكبر: إذا أوقعه في الفند، وأما رواية أحمد في المسند، فنصها: "شيخًا كبيرًا قد بلغ الفند أو قرب". (2) في المطبوعة: "فإذا هو أنك كتبت تدعوني"، وهو محاولة تصحيح لما في المخطوطة، وكان فيها: "فإذا كان كتبت تدعوني"، والصواب الذي أثبته من ابن كثير في تفسيره 2: 241، ومثله في خبر أحمد في مسنده. (3) الحديث: 7831-"مسلم بن خالد": هو الزنجي المكي الفقيه، شيخ الإمام الشافعي. وهو في نفسه صدوق، ولكنه يخطئ كثيرًا في روايته، حتى قال البخاري: "منكر الحديث" ولذلك رجحنا تضعيفه في المسند: 613. ابن خثيم - بضم الخاء المعجمة ثم فتح الثاء المثلثة: هو عبد الله بن عثمان بن خثيم، مضت ترجمته في: 4341. سعيد بن أبي راشد: في التهذيب 4: 26 ويقال: ابن ر0اشد. روى عن يعلى بن مرة الثقفي، وعن التنوخي النصراني رسول قيصر، ويقال: رسول هرقل. وعنه عبد الله بن عثمان بن خثيم. ذكره ابن حبان في الثقات، قلت: وفي الرواة سعيد بن أبي راشد، أو ابن راشد - آخر". ثم نقل طابع التهذيب هامشة عن الأصل الذي يطبع عنه. وجعل رقمها عند قوله"النصراني" - وهذا نصها: "قال شيخنا: أسلم متأخرًا، عن هذا يقال له أبو محمد المازني، السماك، مذكور في كتاب الضعفاء. نبهت عليه"!! وهذا تخطيط عجيب من الطابع. فالهامشة أصلها هامشتان يقينًا، كل منهما في موضع، كما هو بديهي. فإن قوله: "أسلم متأخرًا" هو المناسب لقوله"النصراني". وأما ما بعده، فإنه يريد به أن"سعيد بن راشد" أو"ابن أبي راشد" متأخر عن المترجم الذي يروى عن رسول قيصر، وأن هذا المتأخر هو الذي كنيته"أبو محمد المازني السماك". وهو مترجم في الكبير للبخاري 2 / 1 / 431، وقال فيه: "منكر الحديث". وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 19 - 20 برقم: 80، وترجم قبله، برقم: 79"سعيد بن أبي راشد" وأنه صحابي، وترجم بعدهما برقم: 81"سعيد بن راشد المرادى" - وهو متأخر عن هذين. وترجم الحافظ في الإصابة 3: 96 للصحابي، ثم قال في آخر الترجمة: "وأما سعيد بن أبي راشد شيخ عبد الله بن عثمان بن خثيم، روى عنه عن رسول قيصر حديثًا = فأظنه غير هذا". وترجم الذهبي في الميزان 1: 379 ثلاث تراجم، فرق بينها، وبين ضعف"سعيد بن راشد المازني السماك". وكذلك صنع الحافظ في لسان الميزان 3: 27 - 28. و"سعيد بن راشد السماك" الضعيف: ترجمه ابن حبان في المجروحين، برقم: 398، وأساء القول فيه. والراجح عندي أن"سعيد بن أبي راشد" الذي هنا = هو الصحابي. وأنه روى هذا عن التنوخي رسول هرقل. يعلى بن مرة: هو الثقفي الصحابي المعروف. وعندي أن ذكره في هذا الإسناد مقحم خطأ، كما سيأتي. التنوخي رسول هرقل: لم أجد له ترجمة، إلا ذكره بهذا الوصف وأنه روى عنه سعيد بن أبي راشد، كما ذكره الحافظ في التعجيل، ص: 535. وإلا الكلمة التي نقلها طابع التهذيب عن هامش أصله بأنه أسلم متأخرًا. فهو بهذا لا يعتبر من الصحابة، لأنه حين لقي النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلمًا، وإنما أسلم بعده. ولا يعتبر من الصحابة إلا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مسلمًا حين الرؤية. أما من رآه وكان كافرًا حين الرؤية ثم أسلم بعد موته صلى الله عليه وسلم -كالتنوخي هذا- فلا صحبة له. انظر تدريب الراوي، ص: 202 ولكن روايته تكون صحيحة مقبولة، لأنه كان مسلمًا حين الأداء، أعني التبليغ والتحديث، وإن كان كافرًا حين التحمل، أعني الرؤية وسماع ما يرويه. وانظر أيضًا تدريب الراوي، ص: 128. وهذا الحديث طرف من حديث طويل في قصة، رواه الإمام أحمد في المسند: 15719 (ج3 ص 441 - 442 حلبي) ، عن إسحاق بن عيسى -وهو الطباع- عن يحيى بن سليم، وهو الطائفي، "عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد، قال: رأيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحمص، وكان جارًا لي، شيخًا كبيرًا، قد بلغ الفند أو قرب. . ." - إلى آخر القصة. وقد نقله الحافظ ابن كثير في التاريخ 5: 15 - 16، عن المسند -بطوله- وبإسناده، ثم قال: "هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به. تفرد به أحمد". وأشار إليه في التفسير 2: 240، إشارة موجزة. وقد وقع في نسختي المسند - المطبوعة والمخطوطة: "يحيى بن سليمان"، بدل"يحيى بن سليم". وهو خطأ من الناسخين. وثبت على الصواب في تاريخ ابن كثير. فهذه رواية يحيى بن سليم الطائفي عن ابن خثيم - فيها أن سعيد بن أبي راشد هو الذي لقى التنوخي وسمع منه هذا الحديث. ويحيى بن سليم: سبق توثيقه في: 4894. وقد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه، ومهما يقل في حفظه فلا نشك أنه كان أحفظ من مسلم بن خالد الزنجي الضعيف، وخاصة في حديث ابن خثيم، فقد شهد أحمد ليحيى بن سليم بأنه"كان قد أتقن حديث ابن خثيم". فعن ذلك قطعنا بأن زيادة"عن يعلى بن مرة" - في إسناد الطبري هذا - خطأ ووهم. والراجح أن الخطأ من مسلم بن خالد. ورواية الطبري - هذه - ذكرها ابن كثير في التفسير 2: 240 - 241، والسيوطي 2: 71، ولم ينسبها لغيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 7832- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أنّ ناسًا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن"جنة عرضها السموات والأرض"، أين النار؟ قال: أرأيتم إذا جاء الليل، أن يكون النهار؟ "فقالوا: اللهم نزعْتَ بمثَله من التوراة! (1) . 7833- حدثني محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران، فسألوه وعنده أصحابه فقالوا: أرأيت قوله:"وجنة عرضها السموات والأرض"، فأين النار؟ فأحجم الناس، فقال عمر:"أرأيتم إذا جاء الليل، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ " فقالوا: نزعت مثَلها من التوراة. 7834- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، أخبرنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن طارق بن شهاب، عن عمر بنحوه، في الثلاثة الرّهط الذين أتوا عمر فسألوه: عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض، بمثل حديث قيس بن مسلم.   (1) في المطبوعة: "مثله من التوراة"، وفي المخطوطة"فمثله"، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "انتزع معنى جيدًا ونزعه"، أي استخرجه واستنبطه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 7835- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال، أخبرنا الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: تقولون:"جنة عرضها السموات والأرض"، أين تكون النار؟ فقال له عمر: أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل؟ أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار؟ فقال: إنه لمثلها في التوراة، فقال له صاحبه: لم أخبرته؟ فقال له صاحبه: دعه، إنه بكلٍّ موقنٌ. 7836- حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا جعفر بن برقان قال، حدثنا يزيد بن الأصم: أن رجلا من أهل الكتاب أتى ابن عباس فقال: تقولون"جنة عرضها السموات والأرض"، فأين النار؟ فقال ابن عباس: أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ (1) * * *   (1) الحديث: 7836- جعفر بن برقان -بضم الباء الموحدة وسكون الراء- الكلابي الجزري: ثقة صدوق، وثقه ابن معين، وابن نمير، وغيرهما. يزيد بن الأصم بن عبيد البكائي: تابعي ثقة، أمه برزة بنت الحارث، أخت ميمونة أم المؤمنين. وعبد الله بن عباس هو ابن خالته. ووقع في المطبوعة هنا"يزيد الأصم"، وهو خطأ."الأصم" لقب أبيه، وليس لقبه. وهذا الحديث رواه يزيد بن الأصم عن ابن خالته ابن عباس، موقوفًا عليه من كلامه. والإسناد إليه صحيح. وقد رواه أيضًا يزيد، عن أبي هريرة، مرفوعًا قال، "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أرأيت جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذا الليل قد كان ثم ليس شيء، أين جعل؟ قال: الله أعلم، قال: فإن الله يفعل ما يشاء". رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 103 بتحقيقنا، والحاكم في المستدرك 1: 36 - من حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولا أعلم له علة"، ووافقه الذهبي. وكذلك رواه البزار من حديثه. نقله عنه ابن كثير 2: 241، بنحوه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 327، وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح". وذكره السيوطي 2: 71، ونسبه للبزار والحاكم فقط. وأما الموقوف على ابن عباس، فقد نقله ابن كثير 2: 241، عن هذا الموضع من الطبري. وذكره السيوطي 2: 71، ونسبه إليه وإلى عبد بن حميد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 قال أبو جعفر: وأما قوله:"أعدت للمتقين" فإنه يعني: إنّ الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع، أعدها الله للمتقين، الذين اتقوا الله فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم، فلم يتعدوا حدوده، ولم يقصِّروا في واجب حقه عليهم فيضيِّعوه. كما:- 7837- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،"وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين"، أي: دارًا لمن أطاعني وأطاع رسولي. (1) * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين ينفقون في السراء والضراء"، أعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله، إما في صرفه على محتاج، وإما في تقوية مُضعِف على النهوض لجهاده في سبيل الله. (2) * * * وأما قوله:"في السراء"، فإنه يعني: في حال السرور، بكثرة المال ورخاء العيش * * *   (1) الأثر: 7837- سيرة ابن هشام 3: 115، وهو من تمام الآثار التي آخرها: 7829. وكان في المطبوعة: "أي ذلك لمن أطاعني"، وهو إن كان مستقيما على وجه، إلا أن نص ابن هشام أشد استقامة على منهاج المعنى في الآية، فأثبت نص ابن هشام. هذا مع قرب التصحيف في"دارًا" إلى"ذلك". فمن أجل هذا رجحت ما في سيرة ابن هشام. (2) في المطبوعة: "للجهاد"، بلامين، وأثبت ما في المخطوطة. والمضعف: الذي قد ضعفت دابته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 "والسراء" مصدر من قولهم"سرني هذا الأمر مسرَّة وسرورًا" * * * "والضراء" مصدر من قولهم:"قد ضُرّ فلان فهو يُضَرّ"، إذا أصابه الضُّر، وذلك إذا أصابه الضيق، والجهد في عيشه. (1) * * * 7838- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"الذين ينفقون في السراء والضراء"، يقول: في العسر واليسر. * * * فأخبر جل ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها، لمن اتقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة، (2) وفي حال الضيق والشدة، في سبيله. * * * وقوله:"والكاظمين الغيظ"، يعني: والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه. * * * يقال منه:"كظم فلان غيظه"، إذا تجرَّعه، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرةٌ على إمضائه، باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها. وأصل ذلك من"كظم القربة"، يقال منه:"كظمتُ القربة"، إذا ملأتها ماء. و"فلان كظيمٌ ومكظومٌ"، إذا كان ممتلئًا غمٌّا وحزنًا. ومنه قول الله عز وجل، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [سورة يوسف: 84] يعني: ممتلئ من الحزن. ومنه قيل لمجاري المياه:"الكظائم"، لامتلائها بالماء. ومنه قيل:"أخذت بكَظَمِه" يعني: بمجاري نفسه. * * *   (1) انظر تفسير"الضراء" فيما سلف 3: 350 - 352. (2) في المخطوطة: "في حال الرضا"، وكأنها صواب أيضًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 و"الغيظ" مصدر من قول القائل:"غاظني فلان فهو يغيظني غيظًا"، وذلك إذا أحفظه وأغضبهُ. * * * وأما قوله:"والعافين عن الناس"، فإنه يعني: والصافحين عن الناس عقوبَةَ ذنوبهم إليهم وهم على الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم. * * * وأما قوله:"والله يحب المحسنين"، فإنه يعني: فإن الله يحب من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدَّ للعاملين بها الجنة التي عرضُها السموات والأرض، والعاملون بها هم"احسنون"، وإحسانهم، هو عملهم بها،. كما:- 7839- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"الذين ينفقون في السراء والضراء" الآية:"والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، أي: وذلك الإحسان، وأنا أحب من عمل به. (1) 7840- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله. فنِعْمت والله يا ابن آدم، الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ، وأنت مظلومٌ. 7841- حدثني موسى بن عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا محرز أبو رجاء، عن الحسن قال: يقال يوم القيامة: ليقم من كان له على الله أجر. فما يقوم إلا إنسان عفا، ثم قرأ هذه الآية:"والعافين عن الناس والله يحب المحسنين". (2)   (1) الأثر: 7839- سيرة ابن هشام 3: 115 وهو من تمام الآثار التي آخرها: 7837. (2) الأثر: 7841-"موسى بن عبد الرحمن المسروقي" سلفت ترجمته برقم: 3345. و"محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي" مضت ترجمته أيضًا برقم: 4557. و"محرز""أبو رجاء" هو"محرز بن عبد الله الجزري"، مولى هشام بن عبد الملك. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان يدلس عن مكحول". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 7842- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل، عن عم له، عن أبي هريرة في قوله:"والكاظمين الغيظ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنًا وإيمانًا. (1) 7843- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والكاظمين الغيظ" إلى"والله يحب المحسنين"، فـ"الكاظمين الغيظ" كقوله: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)   (1) الحديث 7842- داود بن قيس الفراء: سبق توثيقه في: 5398. زيد بن أسلم: تابعي ثقة معروف، مضى في 5465. وأما عبد الجليل، الذي ذكر غير منسوب، إلا بأنه من أهل الشام -: فإنه مجهول. وعمه أشد جهالة منه. وقد ذكره الذهبي في الميزان، والحافظ في اللسان، في ترجمة"عبد الجليل"، وقالا: "قال البخاري: لا يتابع عليه". وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 33، وقال: "روى عنه داود بن قيس. وقال بعضهم: عن داود ابن قيس، عن زيد بن أسلم". أي كمثل رواية الطبري هنا. وهذا الإسناد ضعيف، لجهالة اثنين من رواته. وقد نقله ابن كثير 2: 244، عن عبد الرزاق، به. ونقله السيوطي 2: 71 - 72، ونسبه لعبد الرزاق، والطبري وابن المنذر. وذكره في الجامع الصغير: 8997، ونسبه لابن أبي الدنيا في ذم الغضب؛ ولم ينسبه لغيره، فكان عجبًا!! وفي معناه حديثان، رواهما أبو داود: 4777، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه. و: 4778، عن سويد بن وهب، عن رجل من أبناء الصحابة، عن أبيه. وقد روى أحمد في المسند: 6114، عن علي بن عاصم، عن يونس بن عبيد، أخبرنا الحسن، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ، يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى". وهذا إسناد صحيح. ونقله ابن كثير 2: 244، من تفسير ابن مردويه. من طريق علي بن عاصم، عن يونس بن عبيد، به. ثم قال: "رواه ابن جرير. وكذا رواه ابن ماجه، عن بشر بن عمر، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، به". فنسبه ابن كثير -في هذا الموضع- لرواية الطبري. ولم يقع إلينا فيه في هذا الموضع. فلا ندري: أرواه ابن جرير في موضع آخر، أم سقط هنا سهوًا من الناسخين؟ فلذلك أثبتناه في الشرح احتياطًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 [سورة الشورى: 37] ، يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حرامًا، فيغفرون ويعفون، يلتمسون بذلك وجه الله ="والعافين عن الناس" كقوله: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) إلى (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [سورة النور: 22] ، يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئًا واعفوا واصفحوا. * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين، المنفقين في السراء والضراء، والذين إذا فعلوا فاحشة. وجميع هذه النعوت من صفة"المتقين"، الذين قال تعالى ذكره:"وجنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين"، كما:- 7844- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية:"الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، ثم قرأ:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" إلى"أجر العاملين"، فقال: إن هذين النعتين لنعت رجل واحد. 7845- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، قال: هذان ذنبان،"الفاحشة"، ذنب،"وظلموا أنفسهم" ذنب. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 وأما"الفاحشة"، فهي صفة لمتروك، ومعنى الكلام: والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة. * * * ومعنى"الفاحشة"، الفعلة القبيحة الخارجة عما أذِن الله عز وجل فيه. وأصل"الفحش": القبح، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء. ومنه قيل للطويل المفرط الطول:"إنه لفاحش الطول"، يراد به: قبيح الطول، خارج عن المقدار المستحسن. ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد:"كلام فاحش"، وقيل للمتكلم به:"أفحش في كلامه"، إذا نطق بفُحش (1) . * * * وقيل: إن"الفاحشة" في هذا الموضع، معنىٌّ بها الزنا. *ذكر من قال ذلك: 7846- حدثنا العباس بن عبد العظيم قال، حدثنا حبان قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن جابر:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، قال: زنى القوم وربّ الكعبة. 7847- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، أما"الفاحشة"، فالزنا. * * * وقوله:"أو ظلموا أنفسهم"، يعني به: فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك، ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته، كما:- 7848- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قوله:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، قال: الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم. * * *   (1) انظر تفسير"الفحشاء" فيما سلف 3: 303 / 4: 571. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 وقوله:"ذكروا الله"، يعني بذلك: ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه ="فاستغفروا لذنوبهم"، يقول: فسألوا ربهم أن يستُر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها ="ومن يغفر الذنوب إلا الله"، يقول: وهل يغفر الذنوب -أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه- إلا الله ="ولم يصروا على ما فعلوا"، يقول: ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها، ومعصيتهم التي ركبوها ="وهم يعلمون"، يقول: لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها، وهم يعلمون أنّ الله قد تقدم بالنهي عنها، وأوعد عليها العقوبةَ من ركبها. * * * وذكر أن هذه الآية أنزلت خصوصًا بتخفيفها ويسرها أُمَّتَنا، (1) مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها. 7849- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبى رباح: أنهم قالوا: يا نبي الله، بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه:"اجدع أذنك"،"اجدع أنفك"،"افعل"! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:"وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" إلى قوله:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بخير من ذلك"؟ فقرأ هؤلاء الآيات. 7850- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني عمر بن أبي خليفة العبدي قال، حدثنا علي بن زيد بن جدعان قال: قال ابن مسعود: كانت   (1) في المطبوعة: "أمنا"، مكان"أمتنا"، أخطأ الناشر الأول قراءتها، لأنها غير منقوطة في المخطوطة، وقوله: "أمتنا" منصوب، مفعول به لقوله: "خصوصًا". أي: قد خص الله بتخفيفها ويسرها أمتنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 بنو إسرائيل إذا أذنبوا أصبح مكتوبًا على بابه الذنب وكفارته، فأعطينا خيرًا من ذلك، هذه الآية. (1) 7851- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني قال: لما نزلت:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه"، بكى إبليس فزعًا من هذه الآية. 7852- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم"، بكى. 7853- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي قال، سمعت علي بن ربيعة يحدِّث، عن رجل من فزارة يقال له أسماء -و: ابن أسماء-، عن علي قال: كنت إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني [منه] ، فحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبد -قال شعبة: وأحسبه قال: مسلم- يذنب ذنبًا، ثم يتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب [إلا غفر له] = وقال شعبة: وقرأ إحدى هاتين الآيتين: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) . (2)   (1) الأثر: 7850-"عمر بن أبي خليفة العبدي"، واسم"أبي خليفة": "حجاج بن عتاب"، ثقة مات سنة 189، مترجم في التهذيب، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عمر بن خليفة" وهو خطأ. (2) الحديث: 7853- عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي: هو عثمان بن المغيرة مولى ثقيف. وسيأتي باسم أبيه في الحديث التالي لهذا. وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين وغيرهما. علي بن ربيعة بن فضلة الوالبي الأسدي: تابعي ثقة، روى له الشيخان وأصحاب السنن. أسماء أو ابن أسماء؛ هكذا شك فيه شعبة. وغيره لم يشك فيه. وهو أسماء بن الحكم الفزاري، كما سيأتي في الإسناد التالي لهذا. وهو تابعي ثقة، وثقه العجلي وغيره. وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 1 / 325، فلم يذكر فيه جرحًا. وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 55، وأشار إلى روايته هذا الحديث، ثم قال: "ولم يتابع عليه. وقد روى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم عن بعض، فلم يحلف بعضهم بعضًا". وهذا لا يقدح في صحة الحديث، كما قال الحافظ المزي. والحديث رواه الطيالسي، عن شعبة، بهذا الإسناد. وهو أول حديث في مسنده المطبوع. ورواه أحمد في المسند، برقم: 48، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. ورواه أيضًا، برقم: 47، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة. ورواه أيضًا، برقم: 56، عن أبي كامل، عن أبي عوانة، عن عثمان بن أبي زرعة، عن علي بن ربيعة. و"عثمان بن أبي زرعة": هو عثمان بن المغيرة الثقفي. وكذلك رواه الترمذي 1: 313 - 314 (رقم: 406 بشرحنا) . عن قتيبة، عن أبي عوانة. وكذلك رواه أيضا في كتاب التفسير 4: 84، بهذا الإسناد. وقال في الموضع الأول: "حديث على حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث عثمان بن المغيرة. وروى عنه شعبة وغير واحد، فرفعوه مثل حديث أبي عوانة. ورواه سفيان الثوري ومسعر فأوقفاه، ولم يرفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم"! وقال نحو ذلك في الموضع الثاني. كأنه يريد تعليل المرفوع بالموقوف. وما هي بعلة. ولكنه وهم -رحمه الله- وهمًا شديدًا فيما نسب إلى مسعر وسفيان. وها هي ذي روايتهما عقب هذه الرواية، مرفوعة أيضًا. ولعل له عذرًا أن تكون روايتهما وقعت له موقوفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 7854- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = وحدثنا الفضل بن إسحاق قال، حدثنا وكيع = عن مسعر وسفيان، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة الوالبي، عن أسماء بن الحكم الفزاري، عن علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدَّقته. وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يتوضأ، ثم يصلي = قال أحدهما: ركعتين، وقال الآخر:"ثم يصلي = ويستغفر الله، إلا غفر له". (1)   (1) الحديث: 7854- هو تكرار للحديث السابق، ولكنه مختصر قليلا. والفضل بن إسحاق - شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة. ولعله محرف عن اسم آخر. والحديث من هذا الوجه رواه أحمد في المسند، برقم: 2، عن وكيع، عن مسعر وسفيان، بهذا الإسناد، مرفوعًا أيضًا. فهو يرد على الترمذي ادعاءه أن سفيان ومسعرًا روياه موقوفًا. وقد نقله ابن كثير 2: 246، عن رواية المسند هذه. ثم قال: "وهكذا رواه علي بن المديني، والحميدي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السنن، وابن حبان في صحيحه، والبزار، والدارقطني - من طرق، عن عثمان بن المغيرة، به". وذكره السيوطي 2: 77، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1: 241، مختصرًا، ونسبه لبعض من ذكرنا، ثم قال: "وذكره ابن خزيمة في صحيحه بغير إسناد، وذكر فيه الركعتين". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 7855- حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثني سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أخيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما حدثني أحدٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لَهُوَ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أبا بكر، فإنه كان لا يكذب. قال علي رضي الله عنه: فحدثني أبو بكر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنبًا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ويستغفر الله من ذنبه ذلك، إلا غفره الله له. (1) * * * وأما قوله"ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم"، فإنه كما بينا تأويله. وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون: 7856- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق:"والذين إذا فعلوا فاحشة"، أي إن أتوا فاحشة ="أو ظلموا أنفسهم" بمعصية،   (1) الحديث: 7855- وهذا إسناد ثالث للحديث السابق. ولكنه إسناد ضعيف جدًا. الزبير بن بكار - شيخ الطبري: ثقة ثبت عالم بالنسب، عارف بأخبار المتقدمين. وهو ابن أخي المصعب بن عبد الله الزبيري، صاحب كتاب"نسب قريش". سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري: قال أبو حاتم - فيما روى عنه ابنه 2 / 1 / 85: "هو في نفسه مستقيم، وبليته أنه يحدث عن أخيه عبد الله بن سعيد، وعبد الله بن سعيد ضعيف الحديث، ولا يحدث عن غيره. فلا أدري، منه أو من أخيه؟ ". وأخوه: هو عبد الله بن سعيد المقبري، وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. والإسنادان السابقان كافيان كل الكفاية لصحة الحديث، دون هذا الإسناد الواهي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 ذكروا نهي الله عنها، وما حرَّم الله عليهم، فاستغفروا لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوبَ إلا هو. (1) * * * وأما قوله:"ومن يغفر الذنوب إلا الله"، فإن اسم"الله" مرفوع ولا جحد قبله، وإنما يرفع ما بعد"إلا" بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد، كقول القائل:"ما في الدار أحد إلا أخوك". (2) فأما إذا قيل:"قام القوم إلا أباك"، فإن وجه الكلام في"الأب" النصب. و"مَنْ" بصلته في قوله:"ومن يغفر الذنوب إلا الله"، معرفة. فإن ذلك إنما جاء رفعًا، لأن معنى الكلام: وهل يغفر الذنوب أحدٌ = أو: ما يغفر الذنوب أحدٌ إلا الله. فرفع ما بعد"إلا" من [اسم] الله، (3) على تأويل الكلام لا على لفظه. * * * وأما قوله:"ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون"؛ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل"الإصرار"، ومعنى هذه الكلمة. فقال بعضهم: معنى ذلك: لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ولم يقيموا عليه، ولكنهم تابوا واستغفروا، كما وصفهم الله به. *ذكر من قال ذلك: 7857- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون"، فإياكم والإصرار، فإنما هلك المصرُّون، الماضون قُدُمًا، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرَّمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموتُ وهم على ذلك.   (1) الأثر: 7856- ابن هشام 3: 115، 116 - وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7839. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 234. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "ما بعد إلا من الله"، والصواب زيادة ما بين القوسين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 7858- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"؟ قال: قُدمًا قُدُمًا في معاصي الله!! لا تنهاهم مخافة الله، حتى جاءهم أمر الله. 7859- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، أي: لم يقيموا على معصيتي، كفعل من أشرك بي، فيما عملوا به من كفرٍ بي. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لم يواقعوا الذنب إذا همُّوا به. *ذكر من قال ذلك: 7860- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"ولم يصروا على ما فعلوا"، قال: إتيان العبد ذنبًا إصرارٌ، حتى يتوب. 7861- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولم يصروا على ما فعلوا"، قال: لم يواقعوا. (2) * * * وقال آخرون: معنى"الإصرار"، السكوت على الذنب وترك الاستغفار. *ذكر من قال ذلك: 7862- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، أما"يصروا" فيسكتوا ولا يستغفروا. * * *   (1) الأثر: 7859- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7856. (2) في المخطوطة: "قال: لم يصروا"، لم يفعل غير إعادة لفظ الآية، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب، كما سترى في ترجيح أبي جعفر بعد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال:"الإصرار"، الإقامة على الذنب عامدًا، وترك التوبة منه. (1) ولا معنى لقول من قال:"الإصرار على الذنب هو مواقعته"، لأن الله عز وجل مدح بترك الإصرار على الذنب مُواقع الذنب، فقال:"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، ولو كان المواقع الذنب مصرًّا بمواقعته إياه، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم. لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه، وجهٌ. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما أصرَّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة". 7863- حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن عثمان بن واقد، عن أبي نصيرة، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أو ترك التوبة"، ولا معنى لوضع "أو" هنا والصواب ما أثبت. (2) الحديث: 7863- الحسين بن يزيد السبيعي؛ مضى الكلام في: 2892 بالشك في نسبته"السبيعي". ولكن هكذا ثبتت هذه النسبة مرة أخرى في هذا الموضع. فلعله شيخ للطبري لم تصل إلينا معرفته. عبد الحميد الحماني - بكسر الحاء وتشديد الميم: هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني الكوفي، وهو ثقة، وثقه ابن معين، وأخرج له الشيخان. عثمان بن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر: ثقة، وثقه ابن معين. وقال أحمد: "لا أرى به بأسا". أبو نصيرة -بضم النون وفتح الصاد المهملة- الواسطي: اسمه مسلم بن عبيد. وهو تابعي ثقة. والحديث ذكره ابن كثير 2: 248، من رواية أبي يعلى، من طريق عبد الحميد الحماني، بهذا الإسناد، ووقع فيه تحريف في كنية"أبي نصيرة" واسمه ونسبته. وهو خطأ مطبعي فيما أرجح. وقال ابن كثير - بعد ذكره: "ورواه أبو داود، والترمذي، والبزار في مسنده، من حديث عثمان بن واقد، وقد وثقه يحيى بن معين - به. وشيخه أبو نصيرة الواسطى، واسمه مسلم بن عبيد، وثقه الإمام أحمد، وابن حبان. وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك - فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر. ولكن جهالة مثله لا تضر، لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر، فهو حديث حسن". وذكره السيوطي 2: 78، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 = فلو كان مواقع الذنب مصرًّا، لم يكن لقوله"ما أصرَّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة"، معنى لأن مواقعةَ الذنب إذا كانت هي الإصرار، فلا يزيل الاسمَ الذي لزمه معنى غيره، كما لا يزيل عن الزاني اسم"زان" وعن القاتل اسم"قاتل"، توبته منه، ولا معنى غيرها. وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصرٍّ عليه، فمعلوم بذلك أن"الإصرار" غير المواقعة، وأنه المقام عليه، على ما قلنا قبل. * * * واختلف أهل التأويل، في تأويل قوله:"وهم يعلمون". فقال بعضهم: معناه: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا. *ذكر من قال ذلك: 7864- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وهم يعلمون"، فيعلمون أنهم قد أذنبوا، ثم أقاموا فلم يستغفروا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية لله. (1) *ذكر من قال ذلك: 7865- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وهم يعلمون"، قال: يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري. (2) * * * قال أبو جعفر: وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب. * * *   (1) في المخطوطة: "معصية الله"، والصواب ما أثبت. (2) الأثر: 7865- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7859 وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بما حرمت عليهم"، وأثبت ما في ابن هشام، فهو الصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، الذين ذكر أنه أعد لهم الجنة التي عرضها السموات والأرض، من المتقين، ووصفهم بما وصفهم به. ثم قال: هؤلاء الذين هذه صفتهم ="جزاؤهم"، يعني ثوابهم من أعمالهم التي وصَفهم تعالى ذكره أنهم عملوها، (1) = "مغفرة من ربهم"، يقول: عفوٌ لهم من الله عن عقوبتهم على ما سلف من ذنوبهم، ولهم على ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم بالحسن منها ="جنات"، وهي البساتين (2) = "تجري من تحتها الأنهار"، يقول: تجري خلال أشجارها الأنهار وفي أسافلها، جزاء لهم على صالح أعمالهم (3) = "خالدين فيها" يعني: دائمي المقام في هذه الجنات التي وصفها ="ونعم أجر العاملين"، يعني: ونعم جزاء العاملين لله، الجنات التي وصفها، كما:- 7866- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين"، أي ثواب المطيعين. (4) * * *   (1) انظر تفسير: "الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314 / 6: 576. (2) انظر تفسير: "الجنات" فيما سلف 1: 384 / 5: 535، 542. (3) انظر تفسير: "تجري من تحتها الأنهار" فيما سلف 5: 542. (4) الأثر: 7866- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7865. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 القول في تأويل قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) } قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"قد خلت من قبلكم سنن"، مضت وسلفت منى فيمن كان قبلكم، (1) يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به، من نحو قوم عاد وثمود وقوم هود وقوم لوط، وغيرهم من سُلاف الأمم قبلكم (2) = "سنن"، يعني: مثُلات سيرَ بها فيهم وفيمن كذَّبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، بإمهالي أهلَ التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجَّلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي، وأنزلتُ بساحتهم نِقَمي، (3) فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرًا ="فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانَ عاقبه المكذبين"، يقول: فسيروا - أيها الظانّون، أنّ إدالتي مَنْ أدلت من أهل الشرك يوم أحُد على محمد وأصحابه، لغير استدراج مني لمن أشرك بي، وكفرَ برسلي، وخالف أمري - في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي والجاحدون وحدانيتي، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي، وما الذي آل إليه غِبُّ خلافهم أمري، (4) وإنكارهم وحدانيتي، فتعلموا عند ذلك أنّ إدالتي من أدلت من المشركين على نبيي محمد وأصحابه بأحد، إنما هي استدراج وإمهال ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم.   (1) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 3: 100، 128 / 4: 289. (2) "سلاف" على وزن"جهال" جمع"سلف"، وجمعه أيضًا"أسلاف"، والسلاف: المتقدمون من الآباء الذين مضوا. (3) في المطبوعة: "نقمتي"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "عن خلافهم أمري"، وهي في المخطوطة"عب" غير منقوطة، فلم يحسن الناشر قراءتها، وغب الأمر: عاقبته وآخرته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الأمم الذين سلفوا قبلهم: من تعجيل العقوبة عليهم، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7867- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين"، فقال: ألم تسيروا في الأرض فتنظروا كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقومَ صالح، والأممَ التي عذَّب الله عز وجل؟ 7868- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد خلت من قبلكم سنن"، يقول: في الكفار والمؤمنين، والخير والشرّ. 7869- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قد خلت من قبلكم سنن"، في المؤمنين والكفار. 7870- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم = يعني بالمسلمين يوم أحد = والبلاء الذي أصابهم، والتمحيص لما كان فيهم، واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم وتعريفًا لهم فيما صنعوا، وما هو صانع بهم:"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين"، أي: قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي: (1) عادٍ وثمودَ وقوم لوط وأصحاب مدين، فسيروا في الأرض تروْا مثُلات قد مضت فيهم، ولمن كان على مثل ما هم عليه من ذلك   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "والشرك في عاد وثمود. . ."، وهو خطأ جدًا، والصواب ما أثبته من سيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 مني، (1) وإن أمْليْتُ لهم، (2) أي: لئلا تظنوا أنّ نقمتي انقطعت عن عدوكم وعدوي، (3) للدوْلة التي أدلتها عليكم بها، لأبتليكم بذلك، (4) لأعلم ما عندكم. (5) 7871- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبه المكذبين"، يقول: متَّعهم في الدنيا قليلا ثم صيرَّهم إلى النار. * * * قال أبو جعفر: وأما"السنن" فإنها جمع"سنَّة"،"والسُّنَّة"، هي المثالُ المتبع، والإمام المؤتمُّ به. يقال منه:"سنّ فلان فينا سُنة حسنة، وسنّ سُنة سيئة"، إذا عمل عملا اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد بن ربيعة: مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آباؤُهُمْ ... وَلِكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا (6)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "ما هم عليه مثل ذلك مني"، والصواب من ابن هشام. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "إن أمكنت لهم"، والصواب من ابن هشام. والإملاء: الإمهال والاستدراج. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "عن عدوهم وعدوي"، والصواب من ابن هشام، وهو مقتضى سياق الضمائر في عبارته. (4) الإدالة الغلبة. يقال: "أديل لنا على عدونا"، أي نصرنا عليهم، و"أدلني على فلان"، أي: انصرني عليه. والدولة (بضم الدال، وبفتحها وسكون الواو) : الانتقال من حال إلى حال في الحرب وغيرها. وانظر ما سيأتي في تفسير ذلك بعد قليل ص: 239. (5) الأثر: 7870- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو من تمام الآثار التي آخرها: 7866. (6) من معلقته البارعة، يذكر قومه وفضلهم، والبيت متعلق بقوله قبل: إِنّا إِذَا التَقَتِ المَجَامِعُ لم يَزَلْ ... مِنَّا لِزَازُ عَظِيمَةٍ جَشّامُهَا وَمُقَسِّمٌ يُعْطِى العَشِيرَةَ حَقّهَا ... ومُغَذْمِرٌ لِحقوقِها هَضّامُها فَضْلا وَذُو كَرَمٍ يعِين عَلَى النَّدَى ... سَمْحٌ كَسُوبُ رَغَائِبٍ غَنّامُهَا مِنْ مَعْشَرٍ ............................ ... ...................................... يقول: هذه العادة سنة وطريقة قد توارثناها، ولكل سنة إمام قد تقدم الناس فيها فاتبعوه، فنحن أهل الفضل القديم الذي ابتدعته أوائلنا للناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 وقولُ سليمان بن قَتَّه: (1) وَإنَّ الألَى بالطَفِّ مِنْ آل هَاشِم ... تَآسَوْا فَسَنُّوا لِلكِرَامِ التَّآسِيَا (2) * * * وقال ابن زيد في ذلك ما:- 7872- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قد خلت من قبلكم سنن"، قال: أمثالٌ. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بـ"هذا". فقال بعضهم: عنى بقوله"هذا"، القرآن. *ذكر من قال ذلك: 7873- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "سليمان بن قنة"، وهو تصحيف وقع في كتب كثيرة، و"قتة" أمه، وهو مولى لتيم قريش. وهو من التابعين، روى عن أبي سعيد الخدري، وابن عمر وابن عباس، وعمرو ابن العاص، ومعاوية. ترجم له البخاري في الكبير 2 / 2 / 33، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 136. وزعم بعضهم أنه"سليمان بن حبيب المحاربي"، وهو خطأ، بل هما رجلان، هذا محاربي، وهذا تيمي. وهو أحد الشعراء الفرسان، وهو القائل: وَقَدْ يَحْرِمُ الله الفَتَى وَهْوَ عَاقِلٌ ... وَيُعْطِى الفَتَى مَالا وَلَيْس له عَقْلُ وهو من أول من سن رثاء أهل البيت، وله في رثائهم شعر كثير. (2) تاريخ الطبري 7: 184، وأنساب الأشراف 5: 339، وأمالي الشجري 1: 131، واللسان (أسى) ، وغيرها. وهذا البيت، أنشده مصعب بن الزبير قبل مقتله، فعلم الناس أن لا يريم حتى يقتل. و"الطف": أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، فيها كان مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وقوله: "تآسوا"، صار بعضهم أسوة لبعض في الصبر على المصير إلى الموت بلا رهبة ولا فرق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 عباد، عن الحسن في قوله:"هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"، قال: هذا القرآن. 7874- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة. قوله:"هذا بيان للناس"، وهو هذا القرآن، جعله الله بيانًا للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خصوصًا. 7875- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال في قوله:"هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"، خاصةً. 7876- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج في قوله:"هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"، خاصةً. * * * وقال آخرون: إنما أشير بقوله"هذا"، إلى قوله:"قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرض فانظرُوا كيف كان عاقبه المكذبين"، ثم قال: هذا الذي عرَّفتكم، يا معشر أصحاب محمد، بيان للناس. *ذكر من قال ذلك: 7877- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق بذلك. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: قوله:"هذا"، إشارةٌ إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين، وتعريفهم حدوده، وحضِّهم على لزوم طاعته والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم. لأن قوله:"هذا"، إشارة إلى حاضر: إما مرئيّ وإما مسموع، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة. فمعنى الكلام: هذا الذي أوضحتُ لكم وعرفتكموه، بيانٌ للناس = يعني بـ"البيان"، الشرح والتفسير، كما:- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 7878- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"هذا بيان للناس"، أي: هذا تفسير للناس إن قبلوه. (1) 7879- حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي:"هذا بيان للناس"، قال: من العَمى. 7880- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الشعبي، مثله. * * * وأما قوله:"وهدى وموعظة"، فإنه يعني بـ"الهدى"، الدلالةَ على سبيل الحق ومنهج الدين = وبـ"الموعظة"، التذكرة للصواب والرشاد، (2) كما:- 7881- حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي:"وهدى"، قال: من الضلالة ="وموعظة"، من الجهل. 7882- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن بيان، عن الشعبي مثله. 7883- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"للمتقين"، أي: لمن أطاعني وعرَف أمري. (3) * * *   (1) الأثر: 7878- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7870. (2) انظر تفسير: "الهدى" فيما سلف، من فهارس اللغة = وتفسير"الموعظة"، فيما سلف 2: 180 / 6: 14. (3) الأثر: 7883- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7878، والظاهر أنه قد سقط من نص ابن إسحاق، ما أثبته ابن هشام في تفسير هذه الآية، وهو قوله قبل الذي رواه أبو جعفر: أي: "نور وأدب للمتقين". أما ما رواه أبو جعفر فهو تفسير قوله: "للمتقين"، وهو في هذا الموضع يفسر"الهدى"، و"الموعظة". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 القول في تأويل قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) } قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تعزيةٌ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأحد. قال:"ولا تهنوا ولا تحزنوا"، يا أصحاب محمد، يعني: ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأحد، من القتل والقروح - عن جهاد عدوكم وحربهم. * * * =من قول القائل:"وهنَ فلان في هذا الأمر فهو يهنُ وَهْنًا". * * * ="ولا تحزنوا"، ولا تأسوْا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ، فإنكم"أنتم الأعلون"، يعني: الظاهرُون عليهم، ولكم العُقبَى في الظفر والنُّصرة عليهم ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم مصدِّقي نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يَعدكم، وفيما ينبئكم من الخبر عما يؤول إليه أمركم وأمرهم. كما:- 7884- حدثنا المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري قال: كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتلُ والجراح، حتى خلص إلى كل امرئ منهم البأسُ، فأنزل الله عز وجل القرآن، فآسَى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قومًا من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنم مؤمنين" إلى قوله:"لبرز الذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم". 7885- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوَهن في طلب عدوهم في سبيل الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 7886- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، قال: يأمر محمدًا، يقول:"ولا تهنوا"، أن تمضوا في سبيل الله. (1) 7887- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولا تهنوا"، ولا تضعفوا. 7888- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7889- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"ولا تهنوا ولا تحزنوا"، يقول: ولا تضعفوا. 7890- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولا تهنوا"، قال ابن جريج: ولا تضعفوا في أمر عدوكم، ="ولا تحزنوا وأنتم الأعلون"، قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب، فقالوا: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضًا، وتحدَّثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فكانوا في همّ وحزَن. فبينما هم كذلك، إذ علا خالد بن الوليد الجبلَ بخيل المشركين فوقهم، وهم أسفلُ في الشِّعب. فلما رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فرحوا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا قوة لنا إلا بك، وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر"!. قال: وثاب نفرٌ من المسلمين رُماة، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبلَ. فذلك قوله:"وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". 7891- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولا تهنوا"، أي: لا تضعفوا ="ولا تحزنوا"، ولا تأسوا على ما أصابكم، (2) ="وأنتم الأعلون"،   (1) في المخطوطة: "وأن تمضوا"، بزيادة "واو"، والذي في المطبوعة أظهر. (2) في سيرة ابن هشام: "ولا تبتئسوا". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 أي: لكم تكون العاقبة والظهور ="إن كنتم مؤمنين" إن كنتم صدَّقتم نبيي بما جاءكم به عني. (1) 7892- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا يعلُون علينا". فأنزل الله عز وجل:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ، كلاهما بفتح"القاف"، بمعنى: إن يمسسكم القتل والجراح، يا معشر أصحاب محمد، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح = قتلٌ وجراح = مثله. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قُرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ) . [كلاهما بضم القاف] . (2) * * *   (1) الأثر: 7891- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7878. (2) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق كلامه. هذا، وظاهر من ترجيح أبي جعفر بعد، أن في الكلام سقطًا من الناسخ، وذلك تفسير"القرح" بضم القاف، ولعله كان قد ذكر هنا ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 234 وذلك قوله: "وقد قرأ أصحابُ عبد الله"قُرْح" وكأن القُرْح: ألم الجراحات، وكأن القَرْحَ الجراحاتُ بأعيانها". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ:"إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قَرْح مثله"، بفتح"القاف" في الحرفين، لإجماع أهل التأويل على أن معناه: القتل والجراح، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح. وكان بعض أهل العربية يزعُمُ أن"القَرح" و"القُرح" لغتان بمعنى واحد. والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا. (1) * * * *ذكر من قال: إنّ"القَرح"، الجراح والقتل. 7893- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قرحٌ مثله"، قال: جراحٌ وقتلٌ. 7894- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 7895- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله"، قال: إن يقتلوا منكم يوم أحد، فقد قتلتم منهم يوم بدر. 7896- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، والقرح الجراحة، وذاكم يوم أحد، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثلُ الذي أصابكم، وأن الذي أصابكم عقوبة.   (1) انظر التعليق السالف، فنص قوله هنا دال على خرم في نص الطبري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 7897- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله"، قال: ذلك يوم أحد، فشا في المسلمين الجراح، وفشا فيهم القتل، فذلك قوله:"إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، يقول: إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوّكم مثله = يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهُّم على القتال. 7898- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، والقرح هي الجراحات. 7899- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن يمسسكم قرح" أي: جراح ="فقد مس القوم قرح مثله"، أي: جراح مثلها. (1) 7900- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم = يعني يوم أحد = قال عكرمة: وفيهم أنزلت:"إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس"، وفيهم أنزلت: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [سورة النساء: 104] . * * * وأما تأويل قوله:"إن يمسسكم قرحٌ"، فإنه: إن يصبكم،. (2) كما:- 7901- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إن يمسسكم"، إن يصبكم. * * *   (1) الأثر: 7899- سيرة ابن هشام 3: 116، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7891. (2) انظر تفسير: "المس" فيما سلف 2: 274 / 5: 118 / 7: 155. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 القول في تأويل قوله: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره [بقوله] (1) "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، أيام بدر وأحُد. * * * ويعني بقوله:"نداولها بين الناس"، نجعلها دُوَلا بين الناس مصرَّفة. = ويعني بـ"الناس"، المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين. وأدال المشركين من المسلمين بأحُد، فقتلوا منهم سبعين، سوى من جرحوا منهم. * * * يقال منه:"أدال الله فلانًا من فلان، فهو يُديله منه إدالة"، إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المُدَال منه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7902- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، قال جعل الله الأيام دولا أدال الكفار يوم أحُد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 7903- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، إنه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب. 7904- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فأظهر الله عز وجل   (1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق تفسيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر، وأظهر عليهم عدوَّهم يوم أحُد. وقد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب. وأما من ابتلى منهم = من المسلمين = يوم أحد، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 7905- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، يومًا لكم، ويومًا عليكم. 7906- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"نداولها بين الناس"، قال: أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. 7907- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فإنه كان يوم أحُد بيوم بدر، قُتل المؤمنون يومَ أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين، فجعل له الدولة عليهم. 7908- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أحد وأصاب المسلمين ما أصابَ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد! يا محمد! ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحربُ سجال: يوم لنا ويوم لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم! فقال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان: موعدكم وموعدنا بدرٌ الصغرى = قال عكرمة: وفيهم أنزلت:"وتلك الأيام نداولها بين الناس". 7909- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 عن ابن جريج، عن ابن عباس، في قوله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فإنه أدال على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. 7910- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، أي نصرِّفها للناس، للبلاء والتمحيص. (1) 7911- حدثني إبراهيم بن عبد الله قال، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، عن محمد في قول الله:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، قال: يعني الأمراء. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء = نداولها بين الناس. ولو لم يكن في الكلام"واو"، لكان قوله:"ليعلم" متصلا بما قبله، وكان"وتلك الأيام نداولها بين الناس"، ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت"الواو" فيه، آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها، وأن بعدها خبرًا مطلوبًا، واللام التي في قوله:"وليعلم"، به متعلقة. (3) * * *   (1) الأثر: 7910- سيرة ابن هشام 3: 116، 117، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7899. (2) الأثر: 7911-"إبراهيم بن عبد الله"، كثير، والذي نصوا على أن الطبري روى عنه، هو: "إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي، أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة" توفى سنة 265. مترجم في التهذيب."وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي"، روى عن مالك وحماد بن زيد. وروى عنه البخاري، مات سنة 228. مترجم في التهذيب. و"محمد" هو ابن سيرين. (3) في المطبوعة والمخطوطة"اللام" بغير واو، والصواب إثباتها. وفي المطبوعة: "متعلقة به"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 فإن قال قائل: وكيف قيل:"وليعلم الله الذين آمنوا" معرِفةً، وأنت لا تستجيز في الكلام:"قد سألت فعلمتُ عبد الله"، وأنت تريد: علمت شخصه، إلا أن تريد: علمت صفته وما هو؟ قيل: إن ذلك إنما جاز مع"الذين"، لأن في"الذين" تأويل"مَن" و"أيّ"، وكذلك جائز مثله في"الألف واللام"، كما قال تعالى ذكره: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [سورة العنكبوت: 3] ، (1) لأن في"الألف واللام" من تأويل"أيّ"، و"مَن"، مثل الذي في"الذي". ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على"أيّ"، جاز، كما يقال:"سألت لأعلم عبد الله مِنْ عمرو"، ويراد بذلك: لأعرف هذا من هذا. (2) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وليعلم الله الذين آمنوا منكم، أيها القوم، من الذين نافقوا منكم، نداول بين الناس = فاستغنى بقوله:"وليعلم الله الذين آمنوا منكم"، عن ذكر قوله:"من الذين نافقوا"، لدلالة الكلام عليه. إذ كان في قوله:"الذين آمنوا" تأويل"أيّ" على ما وصفنا. فكأنه قيل: وليعلم الله أيكم المؤمن، كما قال جل ثناؤه: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى) [سورة الكهف: 12] (3) غير أن"الألف واللام"، و"الذي" و"من" إذا وضعت مع العَلم موضع"أيّ"، نصبت بوقوع العلم عليه، كما قيل:"وليعلمَنَّ الكاذبين"، فأما"أيّ" فإنها ترفع. (4) * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"ويتخذ منكم شهداء"، فإنه يعني:"وليعلم   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وليعلمن الله" بالواو، وهو سهو من الناسخ مخالف للتلاوة. (2) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 234، 235. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "ليعلم" بالياء، وهو سهو من الناسخ مخالف للتلاوة. (4) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 234، 235. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 الله الذين آمنوا" وليتخذ منكم شهداء، أي: ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها. * * * ="والشهداء" جمع"شهيد"، (1) كما:- 7912- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، أي: ليميِّز بين المؤمنين والمنافقين، وليكرم من أكرَم من أهل الإيمان بالشهادة. (2) 7913- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، قال: فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم:"ربنا أرنا يومًا كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونُبليك فيه خيرًا، ونلتمس فيه الشهادة"! فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء. 7914- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، فكرَّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوِّهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله. 7915- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، قال: قال ابن عباس: كانوا يسألون الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء. 7916- حدثني عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، كان المسلمون يسألون ربهم أن يُريهم يومًا كيوم بدر، يبلون فيه خيرًا، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق، فلقوا المشركين   (1) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف 1: 376 - 378 / 3: 97، 145 / 6: 75. (2) الأثر: 7912- سيرة ابن هشام 3: 117، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7910. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 يوم أحد، (1) فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل فقال: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) الآية، [سورة البقرة: 154] . * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"والله لا يحب الظالمين"، فإنه يعني به: الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم،، كما:- 7917- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله لا يحب الظالمين"، أي: المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة، وقلوبهم مصرَّة على المعصية. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "فلقى المسلمون"، بدل الناشر ما كان في المخطوطة: "فلقوا المسلمين"، أما السيوطي في الدر المنثور 2: 79، فحذف"المسلمين"، وكتب: "فلقوا يوم أحد" لفساد العبارة التي في مخطوطة الطبري فيما استظهر. ولكني رجحت أن الناسخ الكثير السهو، سها أيضًا فكتب"المسلمين" مكان"المشركين"، وأثبت ما رجحت، لأنه حق الكلام. (2) الأثر: 7917- سيرة ابن هشام 3: 117، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7912. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 القول في تأويل قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وليمحِّصَ الله الذين آمنوا"، وليختبرَ الله الذين صدَّقوا الله ورسوله، فيبتليهم بإدالة المشركين منهم، حتى يتبين المؤمن منهم المخلصَ الصحيحَ الإيمان، من المنافق. كما:- 7918- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا"، قال: ليبتلي. (1)   (1) في المطبوعة: ". . . عن مجاهد مثله في قوله. . ."، وزيادة"مثله" فساد، وليس في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 7919- حدثنا المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 7920- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا"، قال: ليمحص الله المؤمن حتى يصدِّق. 7921- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وليمحص الله الذين آمنوا"، يقول: يبتلي المؤمنين. 7922- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وليمحص الله الذين آمنوا"، قال: يبتليهم. 7923- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، فكان تمحيصًا للمؤمنين، ومحقًا للكافرين. 7924- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،"وليمحص الله الذين آمنوا"، أي يختبر الذين آمنوا، حتى يخلِّصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صَبْرهم ويقينُهم. (1) 7925- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، قال: يمحق من مُحق في الدنيا، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار. * * * وأما قوله:"ويمحق الكافرين"، فإنه يعني به: أنه ينقُصهم ويفنيهم. * * * يقال منه:"محقَ فلان هذا الطعام"، إذا نقصه أو أفناه،"يمحقه محقًا"، ومنه قيل لمحاق القمر:"مُحاق"، وذلك نقصانه وفناؤه، (2) كما:- 7926- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) الأثر: 7924- سيرة ابن هشام 3: 117، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7917. (2) انظر تفسير"محق" فيما سلف 6: 15. و"المحاق" بضم الميم وكسرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 ابن جريج قال، قال ابن عباس:"ويمحق الكافرين"، قال: ينقصهم. 7927- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ويمحق الكافرين"، قال: يمحق الكافر حتى يكذِّبه. 7928- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ويمحق الكافرين"، أي: يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"أم حسبتم"، يا معشر أصحاب محمد، وظننتم ="أن تدخلوا الجنة"، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف المنازل عنده ="ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم"، يقول: ولما يتبيَّن لعبادي المؤمنين، المجاهدُ منكم في سبيل الله، على ما أمره به. * * * وقد بينت معنى قوله:"ولما يعلم الله"،"وليعلم الله"، وما أشبه ذلك، بأدلته فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (2) . * * * وقوله:"ويعلم الصابرين"، يعني: الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه. كما:-   (1) الأثر: 7928- سيرة ابن هشام 3: 117، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7924. (2) انظر تفسير"لنعلم فيما سلف 3: 158 - 162. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 7929- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة" وتصيبوا من ثوابي الكرامة، ولم أختبركم بالشدة، وأبتليكم بالمكاره، حتى أعلم صِدق ذلك منكم الإيمان بي، والصبر على ما أصابكم فيّ. (1) * * * ونصب"ويعلم الصابرين"، على الصرف. و"الصرف"، أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف، لأنه مصروف عن معنى الأول، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام. (2) وذلك كقولهم:"لا يسعني شيء ويضيقَ عنك"، لأن"لا" التي مع"يسعني" لا يحسن إعادتها مع قوله:"ويضيقَ عنك"، فلذلك نصب. (3) . والقرأة في هذا الحرف على النصب. * * * وقد روي عن الحسن أنه كان يقرأ: (وَيَعْلَمِ الصَّابِرِينَ) ، فيكسر"الميم" من"يعلم"، لأنه كان ينوي جزمها على العطف به على قوله:"ولما يعلم الله". * * *   (1) الأثر: 7929- سيرة ابن هشام 3: 117، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7928 وكان في المطبوعة والمخطوطة: "حتى أعلم أصدق ذلكم الإيمان بي. . ." فرددته إلى الصواب من رواية ابن هشام. (2) انظر"الصرف" فيما سلف 1: 569، وتعليق: 1 / 3: 552، تعليق: 1. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 235، 236. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولقد كنتم تمنون الموت"، ولقد كنتم، يا معشر أصحاب محمد ="تمنون الموت"، يعني أسبابَ الموت، وذلك: القتالُ ="فقد رأيتموه"، فقد رأيتم ما كنتم تمنونه - و"الهاء" في قوله"رأيتموه" عائدة على"الموت"، والمعنىُّ: [القتال] = (1) "وأنتم تنظرون"، يعني: قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر، أي بقرب منكم. * * * وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل:"وأنتم تنظرون"، على وجه التوكيد للكلام، كما يقال:"رأيته عيانًا" و"رأيته بعيني، وسمعته بأذني". * * * قال أبو جعفر: وإنما قيل:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، لأن قومًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرًا، كانوا يتمنون قبل أحد يومًا مثل يوم بدر، فيُبْلُوا الله من أنفسهم خيرًا، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر. فلما كان يوم أحد فرّ بعضهم، وصبرَ بعضهم حتى أوفَى بما كان عاهد الله قبل ذلك، فعاتب الله من فرّ منهم فقال:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، الآية، وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم. *ذكر الأخبار بما ذكرنا من ذلك: 7930- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، قال: غاب رجال عن بدر، فكانوا   (1) في المطبوعة: " عائدة على الموت، ومعنى وأنتم تنظرون"، وهو كلام فاسد. وفي المخطوطة: "عائدة على الموت، والمعنى" وبعدها بياض قدر كلمة، ثم كتب: "وأنتم تنظرون" فوضعت بين القوسين ما استظهرته من كلام أبي جعفر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه، فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصابَ أهل بدر. فلما كان يوم أحد، ولَّى من ولىَّ منهم، فعاتبهم الله = أو: فعابهم، أو: فعيَّبهم = على ذلك. (1) شك أبو عاصم. 7931- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه - إلا أنه قال:"فعاتبهم الله على ذلك"، ولم يشكّ. 7932- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، أناسٌ من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر، فكان يتمنون أن يرزقوا قتالا فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال حتى كان في ناحية المدينة يوم أحُد، فقال الله عز وجل كما تسمعون:"ولقد كنتم تمنون الموت"، حتى بلغ"الشاكرين". 7933- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، قال: كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم، فلما لقوهم يوم أحد ولّوا. 7934- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن أناسًا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل، فكانوا يتمنون أن يروا قتالا فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال حتى كان بناحية المدينة يوم أحد، فأنزل الله عز وجل:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه"، الآية. 7935- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف،   (1) في المطبوعة: "أو فعتبهم"، وفي المخطوطة" فتعتهم" غير منقوطة، وكأن صواب قراءتها ما أثبت عابه وعيبه: نسبه إلى العيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 عن الحسن قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون:"لئن لقينا مع النبي صلى الله عليه وسلم لنفعلن ولنفعلن"، فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلُّهم صَدق الله، فأنزل الله عز وجل."ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون". 7936- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: كان ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهدوا بدرًا، فلما رأوا فضيلة أهل بدر قالوا:"اللهم إنا نسألك أن ترينا يومًا كيوم بدر نبليك فيه خيرًا"! فرأوا أحدًا، فقال لهم:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون". 7937- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، أي: لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم = يعني الذين استنهضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خروجه بهم إلى عدوهم، (1) لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر، رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به. يقول:"فقد رأيتموه وأنتم تنظرون"، أي: الموتَ بالسيوف في أيدي الرجال، قد خلَّى بينكم وبينهم، (2) وأنتم تنظرون إليهم، فصددتُم عنهم. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "يعني الذين حملوا رسول الله. ."، غيره الناشر، وكان في المخطوطة"استاصوا" غير منقوطة، ولولا أن الذي في سيرة ابن هشام"استنهضوا"، لقلت إن صواب قراءتها: "استباصوا" بالصاد في آخره من قولهم: "بصت فلانًا" إذا استعجلته. والبوص (بفتح فسكون) : أن تستعجل إنسانًا في تحميلكه أمرًا، لا تدعه يتمهل فيه. وهذه صفة فعل أصحاب رسول الله الذين لم يشهدوا بدرًا، وأرادوا القتال يوم أحد. (2) في المطبوعة: "قد حل بينكم وبينهم"، وهي في المخطوطة غير بينة، والصواب ما جاء في سيرة ابن هشام، وقد أثبته. (3) الأثر: 7937- سيرة ابن هشام 3: 117، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7929. هذا وفي السيرة خطأ بين، تصحيحه في رواية الطبري، فليراجع. وقد جاء في السيرة."ثم صدهم عنكم" مكان"فصددتم عنهم"، وهما معنيان مختلفان، ولكنها الرواية، لا يمكن أن أرجح فيها بغير مرجح، فكلاهما صواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 القول في تأويل قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه، داعيًا إلى الله وإلى طاعته، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه. (1) يقول جل ثناؤه: فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما الله به صانعٌ من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله، كسائر رسله إلى خلقه الذين مضوْا قبله، (2) وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم. ثم قال لأصحاب محمد، معاتبَهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأحُد:"إنّ محمدًا قتل"، ومُقبِّحًا إليهم انصرافَ من انصرفَ منهم عن عدوهم وانهزامه عنهم: أفائن مات محمد، أيها القوم، لانقضاء مدة أجله، أو قتله عدو = (3) "انقلبتم على أعقابكم"، = يعني: ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدًا بالدعاء إليه ورجعتم عنه كفارًا بالله بعد الإيمان به، وبعد ما قد وَضَحت لكم صحةُ ما دعاكم محمد إليه، وحقيقةُ ما جاءكم به من عند ربه ="ومن ينقلب على عقبيه"، يعني بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرًا بعد إيمانه، (4)   (1) قوله: "الذين حين انقضت آجالهم"، من صفة"رسل الله" الذين ذكرهم قبل. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "كسائر مدة رسله إلى خلقه" بزيادة"مدة"، وهي مفسدة للكلام وكأنها سبق قلم من الناسخ، فلذلك أسقطتها. (3) في المطبوعة: "أو قتله عدوكم"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) انظر تفسير"انقلب على عقبيه" فيما سلف 3: 163. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 ="فلن يضر الله شيئًا" يقول: فلن يوهن ذلك عزة الله ولا سلطانه، ولا يدخل بذلك نقصٌ في ملكه، (1) بل نفسه يضر بردَّته، وحظَّ نفسه ينقص بكفره ="وسيجزي الله الشاكرين"، يقول: وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه، بثبوته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل، واستقامته على منهاجه، وتمسكه بدينه وملته بعده. كما:- 7938- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، (2) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"وسيجزي الله الشاكرين"، الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه. فكان عليّ رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر أمين الشاكرين، وأمين أحِباء الله، وكان أشكرَهم وأحبَّهم إلى الله. 7939- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر قال: إن أبا بكر أمينُ الشاكرين. وتلا هذه الآية:"وسيجزي الله الشاكرين". (3) 7940- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وسيجزي الله الشاكرين"، أي: من أطاعه وعمل بأمره. (4) * * * وذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انهزم عنه بأحد من أصحابه.   (1) في المطبوعة: "ولا يدخل بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، وهو خطأ والصواب من المخطوطة. وهو: "سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. وقد أكثر أبو جعفر سياق روايته في تاريخه. (3) الأثر: 7939-"العلاء بن بدر"، هو: "العلاء بن عبد الله بن بدر الغنوي"، نسب إلى جده، أرسل عن علي. وهو ثقة. مترجم في التهذيب. (4) الأثر: 7940- سيرة ابن هشام 3: 118، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: 7937. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 *ذكر الأخبار الواردة بذلك: 7941- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" إلى قوله:"وسيجزي الله الشاكرين"، ذاكم يوم أحُد، حين أصابهم القَرْح والقتل، ثم تناعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم تَفِئة ذلك، (1) فقال أناسٌ:"لو كان نبيًّا ما قتل"! وقال أناس من عِليْة أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم:"قاتلوا على ما قاتل عليه محمدٌ نبيكم حتى يفتح الله لكم أو تلحقوا به"! فقال الله عز وجل:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن ماتَ أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، يقول: إن مات نبيكم أو قُتل، ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم. 7942- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه = وزاد فيه، قال الربيع: وذكر لنا والله أعلم، أنّ رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه، (2) فقال: يا فلان، أشعرت أنّ محمدًا قد قتل؟ (3) فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل الله عز وجل:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، يقول: ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم.   (1) في المطبوعة: "ثم تنازعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بقية ذلك"، وهو كلام أهدر معناه. وأما السيوطي في الدر المنثور 2: 80 فقد خفى عليه صواب الكلام، فجعله: "ثم تداعوا نبي الله قالوا قد قتل"، ولعلها رواية الربيع، كما نسبها إليه. أما المخطوطة فإن فيها"ساعوا"، و" ذلك" غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "تناعوا نبي الله" أي نعاه بعضهم لبعض، قالوا: قتل نبي الله. وكانت العرب تتناعى في الحرب، ينعون قتلاهم ليحرضوهم على القتل وطلب الثأر. وقوله: "تفئة ذلك"، أي: على إثر ذلك. يقال: "أتيته على تفئة ذلك" أي: على حينه وزمانه. وفي الحديث: "دخل عمر فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل أبو بكر على تفئة ذلك"، أي على إثره، وفي ذلك الحين. (2) تشحط القتيل في دمه: تخبط فيه واضطرب وتمرغ. (3) قوله: "أشعرت"، أي: أعلمت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 7943- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحُد إليهم - يعني: إلى المشركين - أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال:"لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم". (1) وأمرَّ عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوَّات بن جبير. (2) = ثم شدّ الزبيرُ بن العوام والمقدادُ بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد، وهو على خيل المشركين، كرّ. (3) فرمته الرماة فانقمع. (4) فلما نظرَ الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادرُوا الغنيمة، فقال بعضهم:"لا نترك أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة، صاح في خيله ثم حمل، فقتل الرماة وحَمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركونَ أنّ خيلهم تقاتل، تنادوْا، (5) فشدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (6) . =فأتى ابن قميئة الحارثي - أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة (7) - فرمى   (1) نص ما في تاريخ الطبري: "إن رأيتم قد هزمناهم، فإنا لا نزال غالبين"، وهي أجود، وأخشى أن يكون ما في التفسير من تصرف الناسخ. ثم انظر ما سيأتي رقم: 8004. (2) بين هذه الفقرة والتي تليها، كلام قد اختصره أبو جعفر، وأثبته في روايته في التاريخ. (3) في المطبوعة مكان"كر""قدم" بمعنى أقدم. وهو تصرف كالمقبول من الناشر الأول، ولكنه في المخطوطة"لر" وعلى الراء شدة، وصواب قراءتها ما أثبت."كر على العدو" رجع وعطف ثم حمل عليه. وأما رواية التاريخ، ففيها مكان"كر""حمل"، وهما سواء في المعنى، والأولى أجودهما. وانظر ما سيأتي في التعليق على الأثر: 8004. (4) انقمع: رجع وارتد وتداخل فرقًا وخوفًا. (5) في المطبوعة: "تبادروا"، وهو خطأ غث، والصواب من المخطوطة والتاريخ، ومن الأثر الآتي: 8004. وقوله: "تنادوا" تداعوا ونادى بعضهم بعضًا لكي يؤوبوا إلى المعرك. (6) إلى هذا الموضع من الأثر، انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه 3: 14، 15، وسيأتي تخريج بقية الأثر كله في آخره. وانظر ما سيأتي رقم: 8004. (7) في المطبوعة والمخطوطة: "بني الحارث بن عبد مناف"، وهو خطأ محض. والصواب من التاريخ ومن نسب القوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسرَ أنفه ورباعيته، وشجَّه في وجهه فأثقله، (1) وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس:"إليَّ عباد الله! إلى عباد الله! "، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحدٌ إلا طلحة وسهل بن حنيف. فحماه طلحة، فَرُمِيَ بسهم في يده فيبست يده. = وأقبل أبي بن خلف الجمحي - وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتله (2) - فقال: يا كذاب، أين تفرّ؟ فحمل عليه، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع، (3) فجُرح جَرحًا خفيفًا، فوقع يخور خوار الثور. (4) فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة!، [فما يُجزعك] ؟ (5) قال: أليس قال:"لأقتلنك"؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم! ولم يلبث إلا يومًا وبعض يوم حتى مات من ذلك الجرح. = وفشا في الناس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة:"ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أمَنَةً من أبي سفيان!! يا قوم، إن محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم". (6) قال أنس بن النضر:"يا قوم، إن كان محمد قد قُتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنى أعتذر إليك مما   (1) الرباعية (مثل ثمانية) : إحدى الأسنان الأربعة التي تلي الثنايا، بين الثنية والناب. (2) في المطبوعة: "بل أقتلك"، غير الناشر ما في المخطوطة، وهو موافق لما في التاريخ، ظنًا منه أن أبي بن خلف، قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك كذلك، بل قاله في مغيبه لا في مشهده. فلما بلغ ذلك رسول الله قال: بل أنا أقتله. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "جنب الدرع"، وهو خطأ، صوابه من التاريخ. وجيب القميص والدرع: الموضع الذي يقور منه ويقطع، لكي يلبس من ناحيته. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "يخور خوران الثور"، وهو خطأ صرف، والصواب من التاريخ. خار الثور يخور خوارًا: صاح وصوت أشد صوت. وليس في مصادره"خوران". (5) الزيادة بين القوسين من التاريخ. (6) الأمنة (بفتح الألف والميم والنون) : الأمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء"! ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل. = وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس، حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه، وضع رجُل سهمًا في قوسه فأراد أن يرميه، فقال:"أنا رسول الله"! ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا، وفرحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أنّ في أصحابه من يمتنع به. (1) فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. (2) = فقال الله عز وجل للذين قالوا: إن محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن ماتَ أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين". (3) 7944- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن ينقلب على عقبيه"، قال: يرتدّ. 7945- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه = وحدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه =: أنّ رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدًا قد قتل! فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلَّغ! فقاتلوا عن دينكم. 7946- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى   (1) في المخطوطة والمطبوعة"من يمتنع" بإسقاط"به" وليست بشيء، والصواب من التاريخ. وانظر التعليق على الأثر رقم: 8064، الآتي. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "ويذكرون أصحابه"، والصواب من التاريخ. (3) الأثر: 7943- صدره في التاريخ 3: 14، 15 / ثم سائره فيه 3: 20 / ثم انظر رقم: 8004. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 أنس بن النضر = عم أنس بن مالك = إلى عمر، وطلحة بن عبد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، (1) فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمدٌ رسول الله! قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! واستقبل القومَ فقاتل حتى قتل = وبه سمي أنس بن مالك. (2) 7947- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قال: نادى منادٍ يوم أحد حين هزم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:"ألا إنّ محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى دينكم الأول"! فأنزل الله عز وجل:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية. 7948- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: القى في أفواه المسلمين يومَ أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فنزلت هذه الآية:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" الآية. 7949- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة، والناس يفرُّون، ورجل قائم على الطريق يسألهم:"ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم، فيقولون:"والله ما ندري ما فعل"! فقال:"والذي نفسي بيده، لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، لنعطينَّهم بأيدينا، إنهم لعشائرنا وإخواننا"! وقالوا:"إن محمدًا إن كان حيًّا لم يهزم، ولكنه قُتل"! فترخَّصوا في الفرار حينئذ. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية كلها.   (1) "ألقى بيده": استسلم، فبقى لا يصنع شيئًا يأسًا أو مللا. وهو مجاز، كأنه طرح يده طرحًا بعيدًا عنه. (2) الأثر: 7946- سيرة ابن هشام 3: 88، وتاريخ الطبري 3: 19. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 7950- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" الآية، ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق، قالوا يوم فرّ الناس عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وشُجَّ فوق حاجبه وكُسرت رباعيته:"قُتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول"! فذلك قوله:"أفإئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم". 7951- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، قال: ما بينكم وبين أن تدعوا الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم إلا أن يموت محمد أو يقتل! فسوف يكون أحد هذين: فسوف يموت، أو يقتل. 7952- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، إلى قوله:"وسيجزي الله الشاكرين"، أي: لقول الناس:"قتل محمد"، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم = أي: أفائن مات نبيكم أو قتل، رجعتم عن دينكم كفارًا كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم وكتابَ الله، وما قد خلف نبيُّه من دينه معكم وعندكم، وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميتٌ ومفارقكم؟ ="ومن ينقلب على عقبيه"، أي: يرجع عن دينه ="فلن يضر الله شيئا"، أي: لن ينقص ذلك من عز الله ولا ملكه ولا سلطانه. (1) 7953- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال: أهل المرض والارتياب والنفاق، حين فرّ الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"قد قتل محمد، فألحقوا بدينكم الأول"! فنزلت هذه الآية. * * *   (1) الأثر: 7952- سيرة ابن هشام 3: 117، 118، وهو تتمة الآثار السالفة التي آخرها: 7937، ثم تتمة هذا الأثر، مرت برقم: 7940. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفتنقلبون على أعقابكم، إن مات محمد أو قتل؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا = فجعل الاستفهام في حرْف الجزاء، ومعناه أن يكون في جوابه. وكذلك كلّ استفهام دخل على جزاء، فمعناه أن يكون في جوابه. لأن الجواب خبرٌ يقوم بنفسه، والجزاء شرط لذلك الخبر، ثم يجزم جوابه وهو كذلك ومعناه الرفع، لمجيئه بعد الجزاء، كما قال الشاعر: (1) حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدْلِجِ اللَّيلَ لا يَزَلْ ... أَمَامَك بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِي سَائِر (2) فمعنى"لا يزل" رفع، ولكنه جزم لمجيئه بعد الجزاء، فصار كالجواب. ومثله: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [سورة الأنبياء: 34] و (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) [سورة المزمل: 17] ، (3) ولو كان مكان"فهم الخالدون"،"يخلدون"، وقيل:"أفائن مت يخلدوا"، جاز الرفع فيه والجزم. وكذلك لو كان مكان"انقلبتم"،"تنقلبوا"، جاز الرفع والجزم، لما وصفت قبل. (4) وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله:"انقلبتم"، اكتفاءً بالاستفهام في أول الكلام، وأنّ الاستفهام في أوَّله دالٌّ على موضعه ومكانه. وقد كان بعض القرأة يختار في قوله: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا   (1) هو الراعي. (2) معاني القرآن للفراء 1: 69، 236، والمعاني الكبير: 805، والخزانة 4: 450، وسيأتي في التفسير 13: 69 (بولاق) ، ورواه ابن قتيبة في المعاني الكبير: "عائر" مكان"سائر" وقال: "أي بيت هجاء سائر". وذلك من قولهم: "عار الفرس"، إذا أفلت وذهب على وجهه، وذهب وجاء مترددًا. ويقال: "قصيدة عائرة"، أي سائرة في كل وجه. وكان في المطبوعة هنا"ساتر" وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومن الموضع الآخر من التفسير، ومن المراجع. (3) في المطبوعة والمخطوطة"وكيف تتقون. . ."، وهو خطأ في التلاوة. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 236. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 لَمَبْعُوثُونَ) [سورة الإسراء: 82\سورة الصافات: 16\سورة الواقعة: 47] ، (1) ترك إعادة الاستفهام مع"أئنا"، اكتفاء بالاستفهام في قوله:"أئذا كنا ترابًا"، ويستشهد على صحة وجه ذلك بإجماع القرأة على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله: (2) "انقلبتم"، اكتفاء بالاستفهام في قوله:"أفائن مات"، إذ كان دالا على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه. (3) وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن. وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه. (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له، وأذن له بالموت، فحينئذ يموت. فأما قبل ذلك، فلن يموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال، كما:- 7954- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلا"، أي: أن لمحمد أجلا هو بالغه، إذا أذن الله له في ذلك كان. (5) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أئذا كنا ترابًا وعظامًا "أسقط"متنا" والواو من"وكنا"، وهو خطأ في التلاوة. (2) في المطبوعة"باجتماع القراء"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "إذا كان دالا"، والصواب"إذ" كما أثبتها. (4) كأنه يعني ما سيأتي في تفسيره 13: 69 (بولاق) ، فإذا وجدت بعد ذلك مكانًا آخر غيره أشرت إليه. (5) الأثر: 7954- سيرة ابن هشام 3: 118، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7940. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 وقد قيل إنّ معنى ذلك: وما كانت نفسٌ لتموت إلا بإذن الله. (1) * * * وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله:"كتابًا مؤجلا". فقال بعض نحويي البصرة: هو توكيد، ونصبه على:"كتب الله كتابًا مؤجلا". قال: وكذلك كل شيء في القرآن من قوله: (حَقًّا) إنما هو: أحِقُّ ذلك حقًّا". وكذلك: (وَعَدَ اللَّهُ) (ورَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) ، (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (وكِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ، (2) إنما هو: صَنَعَ الله هكذا صنعًا. فهكذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا، فإنه كثيرٌ. * * * وقال بعض نحويي الكوفة في قوله:"وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله"، معناه: كتب الله آجالَ النفوس، ثم قيل:"كتابًا مؤجلا"، فأخرج قوله:"كتابًا مؤجلا"، نصبًا من المعنى الذي في الكلام، إذ كان قوله:"وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله"، قد أدَّى عن معنى:"كتب"، (3) قال: وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك، فهو على هذا النحو. * * * وقال آخرون منهم: قول القائل:"زيد قائم حقًّا"، بمعنى:"أقول زيد قائم حقًّا"، لأن كل كلام"قول"، فأدى المقول عن"القول"، ثم خرج ما بعده منه، كما تقول:"أقول قولا حقًّا"، وكذلك"ظنًّا" و"يقينًا" وكذلك:"وعدَ الله"، وما أشبهه. * * *   (1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 104. (2) هذه مواضع الآيات من كتاب الله على الترتيب: [سورة النساء: 122 / سورة يونس: 4 / سورة لقمان: 9] / [سورة الكهف: 82 / سورة القصص: 46 / سورة الدخان: 6] / [سورة النمل: 88] / [سورة النساء: 24] . (3) في المطبوعة: "عن معناه كتب"، وهو كلام مختل، والصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن كل ذلك منصوب على المصدر من معنى الكلام الذي قبله، لأن في كل ما قبل المصادر التي هي مخالفة ألفاظُها ألفاظَ ما قبلها من الكلام، معانِيَ ألفاظ المصادر وإن خالفها في اللفظ، فنصبها من معاني ما قبلها دون ألفاظه. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: من يرد منكم، أيها المؤمنون، بعمله جزاءً منه بعضَ أعراض الدنيا، دون ما عند الله من الكرامة لمن ابتغى بعمله ما عنده ="نؤته منها"، يقول: نعطه منها، يعني من الدنيا، يعني أنه يعطيه منها ما قُسم له فيها من رزق أيام حياته، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدها لمن أطاعه وطلب ما عنده في الآخرة ="ومن يرد ثوابَ الآخرة"، يقول: ومن يرد منكم بعمله جزاءً منه ثواب الآخرة، يعني: ما عند الله من كرامته التي أعدها للعاملين له في الآخرة ="نؤته منها"، يقول: نعطه منها، يعني من الآخرة. والمعنى: من كرامة ألله التي خصَّ بها أهلَ طاعته في الآخرة. فخرج الكلامُ على الدنيا والآخرة، والمعنىُّ ما فيهما. كما:- 7955- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها"، أي: فمن كان منكم يريد الدنيا، ليست له رغبة في الآخرة، نؤته ما قسم له منها من رزق، ولا حظ له في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 الآخرة = ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها" ما وعده، مع ما يُجرى عليه من رزقه في دنياه. (1) * * * وأما قوله:"وسنجزي الشاكرين"، يقول: وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه = بطاعته إياي، وانتهائه إلى أمري، وتجنُّبه محارمي = في الآخرة مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي. وقال ابن إسحاق في ذلك بما:- 7956- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وسنجزي الشاكرين"، أي: ذلك جزاء الشاكرين، يعني بذلك، إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة، مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأه بعضهم: (وَكَأَيِّنْ) ، بهمز"الألف" وتشديد"الياء". * * * وقرأه آخرون بمد"الألف" وتخفيف"الياء" * * * وهما قراءتان مشهورتان في قرأة المسلمين، ولغتان معروفتان، لا اختلاف في معناهما، فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيبٌ. لاتفاق معنى ذلك، وشهرتهما في كلام العرب. ومعناه: وكم من نبي. * * *   (1) الأثر: 7955- سيرة ابن هشام 3: 118، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7954. والاختلاف عظيم في لفظ الأثر. (2) الأثر: 7956- ليس في سيرة ابن هشام بنصه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 القول في تأويل قوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"قتل معه ربيون". (1) فقرأ ذلك جماعة من قرأة الحجاز والبصرة: (قُتِلَ) ، بضم القاف. * * * وقرأه جماعة أخر بفتح"القاف" و"بالألف". (2) وهي قراءة جماعة من قرأة الحجاز والكوفة. * * * قال أبو جعفر: فأما من قرأ (قَاتَلَ) ، فإنه اختار ذلك، لأنه قال: لو قُتلوا لم يكن لقوله:"فما وهنوا"، وجه معروف. لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يَهِنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا. وأما الذين قرأوا ذلك: (قُتِلَ) ، فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبيَّ وبعضَ من معه من الربيين دون جميعهم، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقى من الربيين ممن لم يقتل. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بضم"القاف": (" قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ ") ، لأن الله عز وجل إنما عاتب بهذه الآية والآيات التي قبلها = من قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) (3) الذين انهزموا يوم أحُد، وتركوا القتال، أو سمعوا الصائح يصيح:"إن محمدًا قد قتل". فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال فقال: أفائن مات محمد أو قتل، أيها المؤمنون، ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم، وقال لهم: هلا فعلتم كما كان   (1) في المطبوعة: "ربيون كثير"، واتبعت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "جماعة أخرى"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) السياق: إنما عاتب بهذه الآية. . . الذين انهزموا. . . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم = من المضي على منهاج نبيهم، والقتال على دينه أعداءَ دين الله، على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم = ولم تهنوا ولم تضعفوا، كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم، ولكنهم صَبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم؟ وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأوِّلين. (1) * * * وأما"الربيون"، فإنهم مرفوعون بقوله:"معه" لا بقوله:"قتل". وإنما تأويل الكلام: وكأين من نبيّ قتل، ومعه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله. وفي الكلام إضمار"واو"، لأنها"واو" تدل على معنى حال قَتْل النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام عليها من ذكرها، وذلك كقول القائل في الكلام:"قتل الأمير معه جيش عظيم"، بمعنى: قتل ومعه جيشٌ عظيم. * * * وأما"الربيون"، فإن أهل العربية اختلفوا في معناه. فقال بعض نحويي البصرة: هم الذين يعبدون الرَّبَّ، واحدهم"رِبِّي". * * * وقال بعض نحويي الكوفة: لو كانوا منسوبين إلى عبادة الربّ لكانوا"رَبِّيون" بفتح"الراء"، ولكنه: العلماء، والألوف. * * * و"الربيون" عندنا، الجماعات الكثيرة، (2) واحدهم"رِبِّي"، وهم الجماعة. (3) * * * واختلف أهل التأويل في معناه. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "تأويل المتأول"، ولكن"لام""المتأول" في المخطوطة ممدودة في الهامش، وتحتها نقطتان، فهذا صواب قراءتها، وهو صواب السياق. (2) في المطبوعة: "الجماعة الكثيرة"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وهم جماعة"، وكأن الأجود ما أثبت، إلا أن يكون قد سقط من الناسخ شيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 فقال بعضهم مثل ما قلنا. *ذكر من قال ذلك: 7957- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: الربيون: الألوف. 7958- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله، مثله. 7959- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عبد الله، مثله. 7960- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله. 7961- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"ربيون كثير"، قال: جموع كثيرة. 7962- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"قاتل معه ربيون كثير" (1) قال: جموع. 7963- حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" قال: الألوف. * * * وقال آخرون بما:- 7964- حدثني به سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت   (1) في هذا الموضع من الآثار التالية، كتب"قاتل معه"، وسائرها"قتل"، كالقراءة التي اختارها أبو جعفر، فتركت قراءة أبي جعفر كما هي في هذه الآثار، وإن خالفت القراءة التي عليها مصحفنا وقراءتنا في مصر وغيرها. وذلك لأن معاني الآثار كلها مطابقة لقراءتها"قتل" بالبناء للمجهول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 قال، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" قال: علماء كثير. 7965- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن الحسن في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، قال: فقهاء علماء. 7966- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية. عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" قال: الجموع الكثيرة = قال يعقوب: وكذلك قرأها إسماعيل: (" قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ ") . 7967- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" يقول: جموع كثيرة. 7968- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"قتل معه ربيون كثير"، قال: علماء كثير = (1) وقال قتادة: جموعٌ كثيرة. 7969- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله:"ربيون كثير"، قال: جموع كثيرة. 7970- حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، مثله. 7971- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"قتل معه ربيون كثير" قال: جموع كثيرة. 7972- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.   (1) في المطبوعة: "علماء كثيرة"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 7973- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"قتل معه ربيون كثير" يقول: جموع كثيرة. 7974- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، يقول: جموع كثيرة، قُتل نبيهم. 7975- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جعفر بن حبان والمبارك، عن الحسن في قوله:"وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير"، قال جعفر: علماء صبروا = وقال ابن المبارك: أتقياء صُبُر. (1) 7976- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"قتل معه ربيون كثير" يعني الجموع الكثيرة، قتل نبيهم. 7977- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قاتل معه ربيون كثير"، يقول: جموع كثيرة. 7978- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير" قال: وكأين من نبي أصابه القتل، ومعه جماعات. (2) 7979- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، الربيون: هم الجموع الكثيرة. (3) * * * وقال آخرون: الربيون، الاتباع.   (1) في المطبوعة: "أتقياء صبروا" والصواب ما في المخطوطة: "صبر" (بضمتين) جمع"صبور". (2) الأثر: 7978- سيرة ابن هشام 3: 118، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: 7955 مع بعض خلاف في لفظه. (3) في المطبوعة: "الربيون الجموع" بإسقاط"هم"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 *ذكر من قال ذلك: 7980- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير"، قال:"الربيون" الأتباع، و"الرّبانيون" الولاة، و"الربِّيون" الرعية. وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه، (1) حين صاح الشيطان:"إن محمدًا قد قتل" = قال: كانت الهزيمة عند صياحه في [سه صاح] : (2) أيها الناس، إنّ محمدًا رسول الله قد قُتل، فارجعوا إلى عشائركم يؤمِّنوكم!. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) } قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله"، فما عجزوا = لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله، (3) ولا لقتل من قُتل منهم =، عن حرب أعداء الله، ولا نكلوا عن جهادهم ="وما ضعفوا"، يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم ="وما استكانوا"، يعني وما ذلوا فيتخشَّعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم، ولكن مضوا قُدُمًا على بصائرهم ومنهاج نبيِّهم، صبرًا على أمر الله وأمر نبيهم، وطاعة لله واتباعًا لتنزيله ووحيه =   (1) في المطبوعة: "وهذا عاتبهم"، وكأن صواب قراءتها في المخطوطة ما أثبت، وهو السياق. (2) الكلمات التي بين القوسين، هكذا جاءت في المخطوطة غير منقوطة، أما المطبوعة فقد قرأها"في سننية صاح"، وهو لا معنى له. وقد جهدت أن أجد هذا الأثر في مكان آخر، أو أن أعرف وجهًا مرضيًا في قراءته، فأعياني طلب ذلك. وقد بدا لي أنها محرفة عن اسم موضع، أو ثنية، وقف عندها إبليس فنادى بذلك النداء، ولكني لم أجد ما أردت. والمعروف في السير، أن أزب العقبة إبليس قد تصور متمثلا في شبه جعال بن سراقة، وصرخ بما صرخ به، حتى هم أناس بقتل جعال، فشهد له خوات بن جبير، وأبو بردة بن نيار، بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما يقاتل، حين صرخ ذلك الصارخ. فأرجو أن أجد بعد إن شاء الله صواب قراءة هذا الرسم المشكل. (3) انظر تفسير"وهن" فيما سلف قريبًا: 234. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 "والله يحب الصابرين"، يقول: والله يحب هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته وطاعة رسوله في جهاد عدوه، لا مَنْ فشل ففرَّ عن عدوه، ولا من انقلب على عقبيه فذلّ لعدوه لأنْ قُتِل نبيه أو مات، ولا مَن دخله وهن عن عدوه، وضعفٌ لفقد نبيه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 7981- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا"، يقول: ما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم ="وما استكانوا" يقول: ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم، (1) بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله. 7982- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا"، يقول: ما عجزوا وما ضعفوا لقتل نبيهم ="وما استكانوا"، يقول: وما ارتدوا عن بصيرتهم، (2) قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالله. 7983- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما وهنوا"، فما وهن الربيون ="لما أصابهم في سبيل الله" من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ="وما ضعفوا"، يقول: ما ضعفوا في سبيل الله لقتل النبي ="وما استكانوا"، يقول: ما ذلُّوا حين قال رسول الله صلى الله عليه   (1) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع"عن نصرتهم"، وهو خطأ لا معنى له. و"البصيرة": عقيدة القلب، والمعرفة على تثبت ويقين واستبانة. يريد ما اعتقدوا في قلوبهم من الدين عن بصر ويقين. وقد سلف منذ أسطر": ولكن مضوا قدمًا على بصائرهم"، وانظر ما سيأتي في الأثر التالي، والتعليق عليه. (2) في المطبوعة: "عن نصرتهم" كما في الأثر السالف، وهو خطأ، وفي المخطوطة"عن نصرتهم" غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. انظر التعليق السالف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 وسلم:"اللهم ليس لهم أن يعلونا" - و (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1) . 7984- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فما وهنوا" لفقد نبيهم ="وما ضعفوا"، عن عدوهم ="وما استكانوا"، لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر ="والله يحب الصابرين". (2) 7985- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وما استكانوا"، قال: تخشَّعوا. 7986- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وما استكانوا"، قال: ما استكانوا لعدوهم ="والله يحب الصابرين". * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وما كان قولهم"، وما كان قول الرِّبِّيين - و"الهاء والميم" من ذكر أسماء الربيين -"إلا أن قالوا"، يعني: ما كان لهم قولٌ سوى هذا القول، إذ قتل نبيهم = وقوله:"ربنا اغفر لنا ذنوبنا"، يقول: لم يعتصموا، إذ قتل نبيهم، إلا بالصبر على ما أصابهم، ومجاهدة عدوهم، وبمسألة   (1) في المطبوعة: "ليس لهم أن يعلونا ولا تهنوا. . ."، وفي المخطوطة: "ليس لهم أن يعلونا لا تهنوا. . ."، والصواب ما أثبت، مع الفصل، يعني: ما ذلوا حين قال لهم رسول الله ما قال، وحين نزل الله على رسوله الآية. وانظر تفسير الآية فيما سلف ص: 234، والأثر: 7892. (2) الأثر: 7984- سيرة ابن هشام 3: 118، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7978. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 ربهم المغفرة والنصر على عدوهم. ومعنى الكلام: وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا. (1) . * * * وأما"الإسراف"، فإنه الإفراط في الشيء: يقال منه:"أسرف فلانٌ في هذا الأمر"، إذا تجاوز مقداره فأفرط. * * * ومعناه هاهنا: اغفر لنا ذنوبنا: الصغارَ منها، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبائر. كما:- 7987- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله:"وإسرافنا في أمرنا"، قال: خطايانا. 7988- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإسرافنا في أمرنا"، خطايانا وظلمَنا أنفسنا. 7989- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"وإسرافنا في أمرنا"، يعني: الخطايا الكِبار. 7990- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قال، الكبائر. 7991- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وإسرافنا في أمرنا"، قال: خطايانا. 7992- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإسرافنا في أمرنا"، يقول: خطايانا. * * *   (1) هذا نص الآية؛ وكأن الصواب: "وما كان قولا لهم إلا أن قالوا"؛ ليبين عن أن"قولهم" خبر"كان" و"أن قالوا" اسمها. وانظر ص: 273، 274. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 وأما قوله:"وثبت أقدامنا"، فإنه يقول: اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوّك وقتالهم، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفرَّ منهم ولا يثبتُ قدمه في مكان واحد لحربهم ="وانصرنا على القوم الكافرين"، يقول: وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك. (1) . * * * قال أبو جعفر: وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عبادَه الذين فرُّوا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم، وتأديبٌ لهم. يقول: الله عز وجل: هلا فعلتم إذ قيل لكم:"قُتل نبيكم" - كما فعل هؤلاء الرِّبِّيون، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء إذ قتلت أنبياؤهم. فصبرتم لعدوكم صبرَهم، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم، كما لم يضعف هؤلاء الرِّبِّيون ولم يستكينوا لعدوهم، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا، فينصركم الله عليهم كما نصروا، فإن الله يحب من صَبر لأمره وعلى جهاد عدوه، فيعطيه النصر والظفر على عدوه؟. كما:- 7993- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"، أي: فقولوا كما قالوا، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم، واستغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم، ولا ترتدُّوا على أعقابكم راجعين، واسألوه كما سألوه أن يثبِّت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قُتل نبيهم، فلم يفعلوا كما فعلتم. (2) * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة في قوله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ) النصب لإجماع قرأة الأمصار على ذلك نقلا مستفيضًا وراثة عن الحجة. (3)   (1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 5: 354. (2) الأثر: 7993- سيرة ابن هشام 3: 118، 119، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7984. (3) انظر استعمال"وراثة"، و"موروثة" فيما سلف 6: 127، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 وإنما اختير النصب في"القول"، لأن"أن" لا تكون إلا معرفة، (1) فكانت أولى بأن تكون هي الاسم، دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانًا ونكرة أحيانًا، (2) ولذلك اختير النصب في كل اسم وِلى"كان" إذا كان بعده"أن" الخفيفة: كقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) [سورة العنكبوت: 24] (3) وقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا) [سوة الأنعام: 23] (4) فأمّا إذا كان الذي يلي"كان" اسما معرفة، والذي بعده مثله، فسواء الرفعُ والنصبُ في الذي ولى"كان". فإن جعلت الذي ولى"كان" هو الاسم، رفعته ونصبت الذي بعده. وإن جعلت الذي ولى"كان" هو الخبر، نصبته ورفعت الذي بعده، وذلك كقوله جل ثناؤه: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) [سورة الروم: 10] إن جعلت"العاقبة" الاسم رفعتها، وجعلت"السوأى" هي الخبر منصوبةً. وإن جعلت"العاقبة" الخبر، نصبت فقلت:"ثم كان عاقبةَ الذين أساءوا السوأى"، وجعلت"السوأى" هي الاسم، فكانت مرفوعة، وكما قال الشاعر: (5) لَقَدْ عَلِمَ الأقْوَام مَا كَانَ دَاءَهَا ... بِثَهْلانَ إلا الخِزْيُ مِمَّنْ يَقُودُهَا (6) وروي أيضًا:"ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ"، نصبًا ورفعًا على ما قد   (1) في المطبوعة: "لأن إلا أن لا تكون إلا معرفة" بزيادة"إلا" الأولى، وهو فساد مستهجن، والصواب من المخطوطة، ولكن الناسخ كان قد أخطأ، فغير وضرب، فأخطأ الناشر الأول قراءة ما كتب. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 237. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "وما كان جواب ... " بالواو، وصحيح التلاوة ما أثبت. (4) أثبت قراءة النصب كما ذكر الطبري، والذي عليه مصحفنا وقراءتنا، رفع"فتنتهم". (5) لم أعرف قائله. (6) سيبويه 1: 24، ولم ينسبه، قال الشنتمري: "استشهد به على استواء اسم كان وخبرها في الرفع والنصب، لاستوائهما في المعرفة. وصف كتيبة انهزمت، فيقول: لم يكن داؤها وسبب انهزامها إلا جبن من يقودها وانهزامه. وجعل الفعل للخزي مجازًا واتساعًا، والمعنى: إلا قائدها المنهزم الخزيان، وثهلان: اسم جبل". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 بينت. ولو فُعل مثل ذلك مع"أن" كان جائزًا، غير أن أفصحَ الكلام ما وصفت عند العرب. * * * القول في تأويل قوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: فأعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم، من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم، وعلى جهاد عدوهم، والاستعانة بالله في أمورهم، واقتفائهم مناهج إمامهم على ما أبلوا في الله -"ثوابَ الدنيا"، يعني: جزاء في الدنيا، وذلك: النصرُ على عدوهم وعدو الله، والظفرُ، والفتح عليهم، والتمكين لهم في البلاد ="وحسن ثواب الآخرة"، يعني: وخير جزاء الآخرة على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة، وذلك: الجنةُُ ونعيمُها، كما:- 7994- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا"، فقرأ حتى بلغ:"والله يحب المحسنين"، أي والله، لآتاهم الله الفتح والظهورَ والتمكينَ والنصر على عدوهم في الدنيا ="وحسنَ ثواب الآخرة"، يقول: حسن الثواب في الآخرة، هي الجنة. 7995- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما كان قولهم"، ثم ذكر نحوه. 7996- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله:"فآتاهم الله ثواب الدنيا"، قال: النصر والغنيمة ="وحسن ثواب الآخرة"، قال: رضوانَ الله ورحمته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 7997- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فآتاهم الله ثوابَ الدنيا"، الظهورَ على عدوهم = (1) "وحسن ثواب الآخرة"، الجنةَ وما أعدَّ فيها = وقوله:"والله يحب المحسنين"، يقول تعالى ذكره: فعل الله ذلك بهم بإحسانهم، فإنه يحب المحسنين، وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبيُّهم. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "حسن الظهور على عدوهم"، وفي المخطوطة كتب"وحسن الظهور" ثم ضرب على"وحسن". وفي ابن هشام: "بالظهور" بالباء. (2) الأثر: 7997- سيرة ابن هشام 3: 119، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7993، مع اختلاف في اللفظ، ومع اختصاره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه ="إن تطيعوا الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى - فيما يأمرونكم به وفيما ينهونكم عنه - فتقبلوا رأيهم في ذلك وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون ="يردوكم على أعقابكم"، يقول: يحملوكم على الرِّدة بعد الإيمان، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الإسلام (1) ="فتنقلبوا خاسرين"، يقول: فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له ="خاسرين"، يعني: هالكين، قد خسرتم أنفسكم، وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم. (2) .   (1) انظر تفسير"ارتد على عقبه" فيما سلف قريبًا: 251، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"خسر" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572 / 6: 570. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 ينهى بذلك أهل الإيمان بالله أن يطيعوا أهل الكفر في آرائهم، وينتصحوهم في أديانهم. كما:- 7998- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين"، أي: عن دينكم: فتذهب دنياكم وآخرتكم. (1) 7999- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا"، قال ابن جريج: يقول: لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم، ولا تصدِّقوهم بشيء في دينكم. 8000- حدثنا محمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين"، يقول: إن تطيعوا أبا سفيان، يردَّكم كفارًا. (2) * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن الله مسدِّدكم، أيها المؤمنون، فمنقذكم من طاعة الذين كفروا. * * *   (1) الأثر: 7998- سيرة ابن هشام 3: 119، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7997. وفي سيرة ابن هشام: "أي: عن عدوكم، فتذهب دنياكم وآخرتكم"، وهو فاسد المعنى، تصحيحه من هذا الموضع من الطبري. (2) في المطبوعة: "يردوكم كفارًا" بالجمع، وهو غير مستقيم، والصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 وإنما قيل:"بل الله مولاكم"، لأن في قوله:"إن تطيعوا الذين كفروا يردُّوكم على أعقابكم"، نهيًا لهم عن طاعتهم، فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لا تُطيعوا الذين كفروا فيردُّوكم على أعقابكم، ثم ابتدأ الخبر فقال:"بل الله مولاكم"، فأطيعوه، دون الذين كفروا، فهو خيرُ من نَصَر. ولذلك رفع اسم"الله"، ولو كان منصوبًا على معنى: بل أطيعوا الله مولاكم، دون الذين كفروا = كان وجهًا صحيحًا. * * * ويعني بقوله:"بل الله مولاكم"، وليّكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا، (1) "وهو خير الناصرين"، لا من فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله. فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم فاعتصموا، وإياه فاستنصروا، دون غيره ممن يبغيكم الغوائل، ويرصدكم بالمكاره، كما:- 8001- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"بل الله مولاكم"، إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقًا في قلوبكم ="وهو خير الناصرين"، أي: فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدِّين عن دينكم. (2) * * *   (1) انظر تفسير"المولى" فيما سلف 6: 141. (2) الأثر: 8001- سيرة ابن هشام 3: 119، 120، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7998، مع اختلاف يسير في اللفظ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 القول في تأويل قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سيلقى الله، أيها المؤمنون ="في قلوب الذين كفروا" بربهم، وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن حاربكم بأحد ="الرعب"، وهو الجزع والهلع ="بما أشركوا بالله"، يعني: بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة = وهي"السلطان" = التي أخبر عز وجل أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم. وهذا وعدٌ من الله جل ثناؤه أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائهم، والفلج عليهم، ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته. ثم أخبرهم ما هو فاعلٌ بأعدائهم بعد مصيرهم إليه، فقال جل ثناؤه:"ومأواهم النار"، يعني: ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة، النارُ ="وبئس مثوى الظالمين"، يقول: وبئس مقام الظالمين - الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقابَ الله - النارُ، كما:- 8002- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين"، إني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة، أي: فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهور عليكم، ما اعتصمتم واتبعتم أمري، للمصيبة التي أصابتكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم، خالفتم بها أمري، وعصيتم فيها نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم. (1) 8003- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجِّهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! (2) ارجعوا فاستأصلوهم! فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فانهزموا. فلقوا أعرابيًّا، فجعلوا له جُعْلا وقالوا له: إن لقيت محمدًا فأخبره بما قد جمعنا لهم. فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله عز وجل في ذلك، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما قُذف في قلبه من الرعب فقال:"سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله". (3) * * *   (1) الأثر: 8002- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8001. (2) "الشريد"، هكذا في المطبوعة والدر المنثور 2: 82، وأما المخطوطة، فاللفظ فيها مضطرب لا يستبين. وانظر أيضًا رقم: 8237. (3) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القول في تأويل قوله: "ولقد صدقكم الله وعده" وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم" ثم يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسرِّ". أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في ص6: 495، 496 التعليق رقم: 5 / ثم 7: 21، تعليق 1 / ثم 7: 154، تعليق: 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولقد صدقكم الله"، أيها المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأحُد وعدَه الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. و"الوعد" الذي كان وعدَهم على لسانه بأحد، قوله للرماة:"اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم". وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره، كالذي:- 8004- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد، أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال:"لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم،" وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوّات بن جبير. ثم إنّ طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين، قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجِّله الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجِّلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: والذي نفسي بيده، لا أفارقك حتى يعجِّلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجِّلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي فقطع رجلَه، فسقط، فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم، ابنَ عم! فتركه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لعليّ أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إنّ ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه. = ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل، (1) فرمته الرماة، فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم!. فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل، تنادوا فشَدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (2) . 8005- حدثنا هارون بن إسحاق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: لما كان يوم أحُد ولقينا المشركين، أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا بإزاء الرماة، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوات بن جبير، وقال لهم:"لا تبرحوا مكانكم، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تُعينونا". فلما التقى القوم، هُزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخلهنّ، فجعلوا يقولون:"الغنيمة، الغنيمة"! قال عبد الله: مهلا! أما علمتم ما عهدَ إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلا.   (1) في التعليق على الأثر السالف: 7943، ذكرت أن المخطوطة هناك، كان فيها"لر" غير منقوطة، واستظهرت مرجحًا أنها"كر"، ولكنه عاد هنا في المخطوطة، فكتبها"حمل" واضحة، فأخشى أن يكون هذا هو الصواب الراجح. (2) الأثر: 8004- الأثر السالف رقم: 7943، والتاريخ 3: 14، 15. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 8006- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه. (1) 8007- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه"، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوّال حتى نزل أحدًا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذَّن في الناس، فاجتمعوا، وأمَّر على الخيل الزبير بن العوام، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلا من قريش يقال له: مصعب بن عمير. وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسَّر، (2) وبعث حمزة بين يديه. وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وقال:"استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك". وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال:"لا تبرحوا حتى أوذنكم". وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه، كما قال:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبُّون"، وإنّ الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم. (3) 8008- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني   (1) الأثران: 8005، 8006 - تاريخ الطبري 3: 13، 14 وانظر مسند أحمد 4: 293، 294. (2) في المطبوعة: "بالجسر"، وهو خطأ، "والحسر" جمع حاسر، وهم الرجالة الذين لا خيل لهم، يقال: سموا بذلك لأنهم يحسرون عن أيديهم وأرجلهم. ويقال إنه يقال لهم"حسر"، لأنه لا بيض لهم ولا دروع يلبسونها. (3) الأثر: 8007- تاريخ الطبري 3: 14. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، (1) وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا -في قصة ذكرها عن أحد- ذكر أن كلهم قد حدَّث ببعضها، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث، فكان فيما ذكر في ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحُد في عُدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحُد، وقال:"لا يقاتلنَّ أحدٌ، حتى نأمره بالقتال". (2) وقد سرَّحت قريش الظهر والكُراع، (3) في زروع كانت بالصَّمغة من قناة للمسلمين، (4) فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نُضارِب! (5) وتعبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمئة رجل، (6) وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، (7) ومعهم مائتا فرس قد جَنَبوها، (8) فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وأمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ مُعلم بثياب بيض، والرماةُ خمسون رجلا وقال:"انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك، لا نؤتيَنَّ من قبلك". (9) فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض. (10) واقتتلوا، حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبى طالب، في رجال من المسلمين. فأنزل الله عز وجل نصره وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمةَ لا شك فيها. (11) 8009- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده قال، قال الزبير: والله لقد رأيتُني أنظر إلى خَدَم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمِّرات هوارب، (12) ما دون إحداهن قليلٌ ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القومَ عنه   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أن محمد بن يحيى. . ."، والصواب من سيرة ابن هشام 3: 64 وتاريخ الطبري 3: 9. (2) في المطبوعة: "لا تقاتلوا حتى نأمر بالقتال"، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب: "نأمره" والصواب من سيرة ابن هشام، ومن تاريخ الطبري. (3) الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب. والكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح، ويعني هنا الخيل. (4) "الصمغة": أرض في ناحية أحد. و"قناة" واد يأتي من الطائف، حتى ينتهي إلى أصل قبور الشهداء بأحد. (5) بنو قيلة: هم الأوس والخزرج، الأنصار. وقيلة: أم قديمة لهم ينسبون إليها. (6) في المطبوعة: "وصفنا رسول الله. . ."، وهو خطأ محض، والصواب من سيرة ابن هشام، والتاريخ، والمخطوطة، وهي فيها غير منقوطة. (7) في المطبوعة: "وتصاف قريش. . ."، وهو خطأ صرف، والصواب من التاريخ، ومن المخطوطة وهي فيها غير منقوطة. (8) جنب الفرس والأسير يجنبه (بضم النون) جنبًا (بالتحريك) فهو مجنوب وجنيب، وخيل جنائب: إذا قادهما إلى جنبه. ويقال: "خيل مجنبة" بتشديد النون مثلها. (9) نضح عنه: ذب عنه، ورد عنه ونافح. (10) هذا اختصار مخل جدًا، فإن أبا جعفر لفق كلام ابن إسحاق، والذي رواه ابن هشام مخالف في ترتيبه لما جاء في خبر الطبري هنا. وذلك أنه من أول قوله: "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة. . ." مقدم على قوله: "وتعبأت قريش"، وذلك في السيرة 3: 69، 71. أما قوله: "فلما التقى الناس" فإنه يأتي في السيرة في ص 72، وسياق الجملة: "فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم"، وساق ما كان من أمرهن، ثم قال: "قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس"، أما قوله بعد ذلك: "وحمزة بن عبد المطلب. . ."، فهو عطف علي"وقاتل أبو دجانة"، استخرجه الطبري من سياق سيرة ابن إسحاق 3: 77، لا من نصه. وقد تركت ما في التفسير على حاله، لأنه خطأ من أبي جعفر نفسه ولا شك. وأما قوله: "ثم أنزل الله نصره. . ." إلى آخر الأثر فهو في السيرة 3: 82. (11) الأثر: 8008- هذا أثر ملفق من نص ابن إسحاق، وهو فيما رواه ابن هشام في سيرته من مواضع متفرقة كما سترى 3: 69، 70 / ثم ص: 72 / ثم ص: 77 / ثم ص 82، وانظر التعليق السالف. ثم انظر تاريخ الطبري 3: 13 / ثم ص16. وقوله: "حسوهم" أي قتلوهم واستأصلوهم، كما سيأتي في تفسير الآية بعد. (12) في المخطوطة: "مسموات هوادن" وضبط الكلمة الأولى بالقلم بفتح الميم وضم السين وميم مشددة مفتوحة!! وهذا أعجب ما رأيت من السهو والغفلة! والكلمتان خطأ محض، وفي المطبوعة: "هوازم"، والصواب من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. و"الخدم" جمع خدمة: وهي الخلخال، ويجمع أيضًا"خدام" بكسر الخاء."شمر تشميرًا فهو مشمر": جد في السير أو العمل وأسرع ومضى مضيًا، وأصله من فعل العادي إذا جد في عدوه وشمر عن ساقه وجمع ثوبه في يده، ليكون أسرع له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 يريدون النهب، وخلَّوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا. وصرخ صارخٌ:"ألا إنّ محمدًا قد قُتل"! فانكفأنا، وأنكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، (1) حتى ما يدنو منه أحدٌ من القوم. (2) 8010- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، أي: لقد وفَيتُ لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم. (3) 8011- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، وذلك يوم أحد، قال لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرِفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا، (4) حتى تفرُغوا"! فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عَهْده الذي عَهِده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به. (5) * * *   (1) في المخطوطة: "بعد أن رأينا أصحابناب" وضرب على"بنا" من"أصحابنا"، فاجتهد الناشر قراءة هذا الكلام الفاسد فجعل مكان"أصبنا""هزمنا" ولكني رددته إلى نص ابن إسحاق من رواية ابن هشام في السيرة، والطبري في التاريخ."انكفأ": مال ورجع وانقلب، وهو صورة حركة الراجع، من انكفاء الإناء إذا أملته ناحية، و"انكفأوا علينا"، أي مالوا راجعين عليهم. (2) الأثر: 8009- سيرة ابن هشام 3: 82، وهو تابع آخر الأثر السالف رقم: 8008، وفي تاريخ الطبري 3: 16، 17. (3) الأثر: 8010- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8002. (4) في المخطوطة: "فلا عرض ما أصبتم"، وفي المطبوعة: "فلا تأخذوا ما أصبتم"، تصرف في طلب المعنى، وهو خطأ، وستأتي على الصواب في الأثر رقم: 8025، في المطبوعة والمخطوطة معًا، كما كتبتها هنا. وقوله: "فلا أعرفن ما أصبتم. . ."، يعني: لا يبلغني أنكم أصبتم من غنائمهم شيئًا. وقولهم: "لا أعرفن كذا" و"ولأعرفن كذا" كلمة تقال عند الوعيد والتهديد والزجر الشديد. وانظر مجيئها في الأثرين رقم: 8158، 8160 والتعليق عليهما. وانظر الدر المنثور 2: 85. (5) انظر الأثر الآتي رقم: 8025. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 القول في تأويل قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولقد وَفَى الله لكم، أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما وعدكم من النصر على عدوكم بأحُد، حين"تحُسُّونهم"، يعني: حين تقتلونهم. * * * يقال منه:"حسَّه يَحُسُّه حسًا"، إذا قتله، (1) كما:- 8012- حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب بن عيسى قال، حدثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله:"إذ تحُسُّونهم بإذنه"، قال: الحسُّ: القتل. (2) 8013- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عز وجل:"إذ تحسُّونهم"، قال: القتل. 8014- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"الحس" فيما سلف 6: 443. (2) الأثر: 8012-"محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطى"، مضى القول فيه برقم: 2867، 2868، 2888، وفي 2868"محمد بن عبيد الله بن سعيد". و"يعقوب بن عيسى" هو: "يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري"، سلف في رقم: 2867. و"عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز. . . الزهري"، هو الأعرج، المعروف بابن أبي ثابت، قيل: "ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر"، وقال يحيى: "رأيته ببغداد، كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم. ليس حديثه بشيء". مترجم في التهذيب. و"محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف" قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "هم ثلاثة إخوة: محمد بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وعمران بن عبد العزيز، وهم ضعفاء الحديث، ليس لهم حديث مستقيم، وليس لمحمد عن أبي الزناد، والزهري، وهشام بن عروة، حديث صحيح". مترجم في الكبير 1 / 1 / 167، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 7. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذ تحسونهم بإذنه"، قال: تقتلونهم. * * * 8015- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم"، أي: قتلا بإذنه. 8016- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إذ تحسونهم"، يقول: إذ تقتلونهم. 8017- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذ تحسونهم بإذنه"، والحس القتل. 8018- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه"، يقول: تقتلونهم. 8019- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذ تحسونهم" بالسيوف: أي القتل. (1) 8020- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن:"إذ تحسونهم بإذنه"، يعني: القتل. 8021- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله:"إذ تحسونهم بإذنه"، يقول: تقتلونهم. * * * وأما قوله:"بإذنه"، فإنه يعني: بحكمي وقضائي لكم بذلك، وتسليطي إياكم عليهم، (2) كما:-   (1) الأثر: 8019- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8010، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أي: بالقتل"، والباء زيادة لا خير فيها، والصواب من سيرة ابن هشام. (2) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450 / 4: 286، 371 / 5: 352، 355، 395. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 8022- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: إذ تحسونهم بإذني، وتسليطي أيديكم عليهم، وكفِّي أيديهم عنكم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"حتى إذا فشلتم"، حتى إذا جبنتم وضعفتم (2) ="وتنازعتم في الأمر"، يقول: واختلفتم في أمر الله، يقول: وعصيتم وخالفتم نبيكم، فتركتم أمره وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرَهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشِّعب بأحُد بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين، الذين ذكرنا قبلُ أمرَهم. = وأما قوله:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، فإنه يعني بذلك: من بعد الذي أراكم الله، أيها المؤمنون بمحمد، من النصر والظفر بالمشركين، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فيها، وقبل خروج خيل المشركين على المومنين من ورائهم. * * * وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.   (1) الأثر: 8022- سيرة ابن هشام 3: 120، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8019. (2) انظر تفسير"فشل" فيما سلف 7: 168. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 وقد مضى ذكر بعض من قال، وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى. *ذكر من قال ذلك: 8023- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر"، أي اختلفتم في الأمر ="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذاكم يوم أحد، عهد إليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وأمرَهم بأمر فنسوا العهد، وجاوزوا، (1) وخالفوا ما أمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقذف عليهم عدوَّهم، (2) بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون. 8024- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسًا من الناس -يعني: يوم أحُد- فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كونوا هاهنا، فردّوا وجه من فرَّ منا، (3) وكونوا حرسًا لنا من قِبل ظهورنا". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين كانوا جُعلوا من ورائهم، بعضهم لبعض، (4) لما رأوا النساء مُصْعِدات في الجبل ورأوا الغنائم،   (1) في المطبوعة: "وجاوزوا"، وهي ضعيفة المعنى هنا. ولم تذكر كتب اللغة"حاوز" لكنهم قالوا: "انحاز القوم وتحوزوا وتحيزوا: تركوا مركزهم ومعركة قتالهم وتنحوا عنه، ومالوا إلى موضع آخر". وانظر ما سلف في التعليق على رقم: 7524، من قوله: "تحاوز الناس". (2) في المطبوعة: "فانصرف عليهم"، ولا معنى لها، ولكنه أخذها من الأثر التالي 8025، من رسم المخطوطة هناك. وفي الدر المنثور 2: 85"فانصر عليهم"، ولا معنى لها أيضًا. وهي في المخطوطة هنا"فصرف"، فرجحت أن يكون هذا تصحيف"فقذف"، فأثبتها، وهي سياق المعنى حين انحطت عليهم خيل المشركين من ورائهم. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "من قدمنا"، والصواب من تاريخ الطبري. وفي الدر المنثور 2: 84"من ند منا"، يقال"ند البعير"، إذا نفر وشرد وذهب على وجهه، ولا بأس بمعناها هنا. (4) في المطبوعة: "اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم فقال بعضهم لبعض"، زاد الناشر الأول"اختلف"، أما المخطوطة، والدر المنثور 2: 84، فليس فيها"اختلف"، والكلام بعد كما هو، وهو مضطرب، ورددته إلى الصواب من تاريخ الطبري، حذفت"فقال" من وسط الكلام، ووضعت"قال" في أوله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 قالوا:"انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها"! وقالت طائفة أخرى:"بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا"! فذلك قوله:"منكم من يريد الدنيا"، للذين أرادوا الغنيمة ="ومنكم من يريد الآخرة"، للذين قالوا:"نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا". فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم يقول:"وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة. 8025- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"حتى إذا فشلتم"، يقول: جبنتم عن عدوكم ="وتنازعتم في الأمر"، يقول: اختلفتم ="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذلك يوم أحد قال لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا حتى تفرغوا"، (1) فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به، فانقذف عليهم عدوهم، (2) من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون. (3) 8026- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"حتى إذا فشلتم"، قال ابن جريج، قال ابن عباس: الفشَل: الجبن. 8027- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، من الفتح.   (1) انظر التعليق على الأثر: 8011، ص: 286، تعليق: 4. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "فانصرف عليهم عدوهم"، ولا معنى لها، وفي الدر المنثور 2: 85"فانصر عليهم"، ولا معنى لها، وانظر التعليق السالف ص: 290 تعليق: 2. (3) الأثر: 8025- مضى برقم: 8011 مختصرًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 8028- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"حتى إذا فشلتم"، أي تخاذلتم (1) ="وتنازعتم في الأمر"، أي: اختلفتم في أمري ="وعصيتم"، أي: تركتم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ وما عهد إليكم، يعني الرماة="من بعد ما أراكم ما تحبون"، أي: الفتح لا شك فيه، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم. (2) 8029- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، يعني: من الفتح. * * * قال أبو جعفر: وقيل معنى قوله:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون" = حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون = وأنه من المقدم الذي معناه التأخير، (3) وإن"الواو" دخلت في ذلك، ومعناها السقوط، كما يقال، (4) (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ) [سورة الصافات: 103-104] معناه: ناديناه. وهذا مقول في: (حَتَّى إِذَا) وفي (فَلَمَّا أَنْ) . [لم يأت في غير هذين] . (5) ومنه قول الله عز وجل: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ثُمَّ قَالَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) [سورة الأنبياء: 96-97] .   (1) في المطبوعة: "تجادلتم"، وهو خطأ صرف، والصواب من سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 8028- سيرة ابن هشام 3: 121. (3) في المطبوعة: "أنه من المقدم. . ." بإسقاط الواو، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. (4) في المطبوعة"كما قلنا في فلما أسلما. . ." بزيادة"في" وفي المخطوطة: "كما قلنا فلما أسلما"، بإسقاط"في"، وأثبت ما في معاني القرآن للفراء 1: 238، فهذا نص كلامه. (5) في المطبوعة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (لما) ومنه قول الله. . ."، وفي المخطوطة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (فلما أن) ، وفلما، ومنه قول الله عز وجل". والذي في المطبوعة تغيير لا خير فيه، والذي في المخطوطة خطأ لا شك فيه، فآثرت إثبات ما في معاني القرآن للفراء 1: 238، فإنه نص مقالته، وزدت منه ما بين القوسين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 ومعناه: اقترب، (1) كما قال الشاعر: (2) حَتَّى إذَا قَمِلَتْ بُطُونكُمُ ... وَرَأَيْتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا (3) وَقَلَبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا ... إنَّ اللَّئِيمَ العَاجِزَ الخَبُّ (4) * * * القول في تأويل قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"منكم من يريد الدنيا، الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب من أحُد لخيل المشركين، ولحقوا بعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين ="ومنكم من يريد الآخرة"، يعني بذلك: الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 238. (2) هو الأسود بن يعفر النهشلي، وهو في أكثر الكتب غير منسوب. (3) معاني القرآن للفراء 1: 107، 238 / اللسان (قمل) والجزء: 20: 381 / تأويل مشكل القرآن: 197، 198 / المعاني الكبير: 533 / مجالس ثعلب: 74 / أمالي الشجري 1: 357، 358 / الإنصاف لابن الأنباري: 189 / الخزانة 4: 414 / وهو في جميعها غير منسوب، وهو من شعر لم أجده تامًا، ذكر أبياتًا منه البكري في معجم ما استعجم: 379، فيها البيت الأول وحده، وبيتان آخران منها في اللسان (وقب) وتهذيب الألفاظ: 196. وهو من شعر يهجو فيه بني نجيح، من بني عبد الله بن مجاشع بن دارم يقول في هجائهم: أَبَنِي نَجِيحٍ، إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ، وإنَّ أَبَاكُمُ وَقْبُ أَكَلَتْ خَبِيثَ الزَّادِ فَاتَّخَمَتْ ... عَنْهُ، وَشَمَّ خِمَارَهَا الكَلْبُ وقوله: "قملت بطونكم"، كثرت قبائلكم. والبطون بطون القبائل. (4) يقال: "قلبت له ظهر المجن" - والمجن: الترس، لأنه يوارى صاحبه - كلمة تضرب مثلا لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية، ثم حال عن ذلك فعاداه. والخب (بفتح الخاء، وكسرها) الخداع الخبيث المنكر: وفي الحديث: "المؤمن غر كريم، والكافر خب لئيم". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعوا أمره، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم والدار الآخرة. كما:- 8030- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"منكم من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة"، فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة هم أصحاب الدنيا، والذين بقوا وقالوا:"لا نخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أرادوا الآخرة. 8031- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله. 8032 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أحد طائفة من المسلمين، فقال:"كونوا مَسْلحة للناس"، (1) بمنزلةٍ أمرَهم أن يثبتوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم. فلما لقي نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين، هزمهم نبي الله صلى الله عليه وسلم! فلما رأى المسلحةُ أن الله عز وجل هزم المشركين، انطلق بعضهم وهم يتنادون:"الغنيمة! الغنيمة! لا تفتكم"! وثبت بعضهم مكانهم، وقالوا: لا نَريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله صلى الله عليه وسلم!. ففي ذلك نزل:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضَها، (2) حتى كان يوم أحد.   (1) المسلحة: القوم ذوو السلاح يوكلون بثغر من الثغور يحفظونه مخافة أن يأتي منه العدو. وسميت الثغور"مسالح" من ذلك، وهي مواضع المخافة. (2) "ما شعرت"، أي: ما علمت، يأتي كذلك في الأثر التالي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 8033- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة:"أدركوا الناس ونبيَّ الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم"! وقال بعضهم:"لا نَريم حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم". فنزلت:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، قال: ابن جريج، قال ابن مسعود: ما علمنا أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضَها، حتى كان يومئذ. 8034 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن:"منكم من يريد الدنيا"، هؤلاء الذين يجترون الغنائم (1) ="ومنكم من يريد الآخرة"، الذين يتبعونهم يقتلونهم. 8035- حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي عن عبد خير قال: قال عبد الله: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة". (2) 8036- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عبد خير قال، قال ابن مسعود: ما كنت أظن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أحدًا يريد الدنيا، حتى قال الله ما قال. 8037- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع   (1) في المطبوعة: "يحيزون الغنائم"، وهو خطأ، والكلمة في المخطوطة غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. واجتر الشيء: جره، يعني يطلبونها إلى أنفسهم. (2) الأثر 8035-"الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي"، مضى مرارًا، وسلف ترجمته في رقم: 1625، وكان في المطبوعة: "العبقري"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. وأما "عبد خير"، فهو"عبد خير بن يزيد الهمداني". أدرك الجاهلية، وروي عن أبي بكر، وابن مسعود وعلي، وزيد بن أرقم، وعائشة. وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 قال، قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا في الغنائم: ما كنت أحسب أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان اليوم. 8038- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان ابن مسعود يقول: ما شعرتُ أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرَضها، حتى كان يومئذ. (1) 8039- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق"منكم من يريد الدنيا"، أي: الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وتركَ ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة ="ومنكم من يريد الآخرة"، أي: الذي جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة فيها، (2) رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة. (3) * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ثم صرفكم، أيها المؤمنون، عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم وفي أنفسكم، من هزيمتكم إياهم وظهوركم عليهم، فردَّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي، ومخالفتكم طاعته، وإيثاركم الدنيا على الآخرة،   (1) الأثر: 8038- هو من بقية الأثر السالف: 8024، ورواه في تاريخه 3: 14. (2) في المطبوعة: "لم يخالفوا" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة وابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة: "لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله"، وهو كلام يتلجلج، والصواب ما في سيرة ابن هشام، وهو الذي أثبت. (3) الأثر: 8039- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8028. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 - عقوبةً لكم على ما فعلتم،"ليبتليكم"، يقول: ليختبركم، (1) فيتميز المنافق منكم من المخلص الصادق في إيمانه منكم. كما:- 8040- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم". 8041- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن في قوله:"ثم صرفكم عنهم"، قال: صرف القوم عنهم، فقتل من المسلمين بعدَّة من أسروا يوم بدر، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشُجّ في وجهه، وكان يمسح الدم عن وجهه ويقول:"كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيِّهم وهو يدعوهم إلى ربهم"؟ فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) [سورة آل عمران: 128] ، الآية. فقالوا: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر؟ فأنزل الله عز وجل:"ولقد صدقكم الله وعده" إلى قوله:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم". 8042- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم"، أي: صرفكم عنهم ليختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم. (2) * * *   (1) انظر تفسير"ابتلى" فيما سلف 2: 49 / 3: 7، 220 / 5: 339. (2) الأثر: 8042- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8039. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة، سقط بعض الكلام، فاضطرب لفظه، ويستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولقد عفا عنكم"، ولقد عفا الله = أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتاركون طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه = عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه، عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرفِ وجوهكم عنهم، (1) إذ لم يستأصل جمعكم، كما:- 8043- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن، في قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: قال الحسن، وصفَّق بيديه: وكيف عفا عنهم، وقد قتل منهم سبعون، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه؟ قال: ثم يقول: قال الله عز وجل:"قد عفوت عنكم إذ عصيتموني، أن لا أكون استأصلتكم". قال: ثم يقول الحسن: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله غضابٌ لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غُمُّوا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يَتَجَرْثَمُ كل كبيرة، (2) ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه!! فسوف يعلم. 8044- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: لم يستأصلكم.   (1) في المخطوطة: "وصرف وجوهكم عنه"، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المطبوعة: "يتجرأ على كل كبيرة"، تصرف في نص المخطوطة، وتجرثم الشيء: أخذ معظمه، وجرثومة كل شيء: أصله ومجتمعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 8045- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد عفا عنكم"، ولقد عفا الله عن عظيم ذلك، لم يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم، ولكن عُدْت بفضلي عليكم. (1) * * * وأما قوله:"والله ذو فضل على المؤمنين"، فإنه يعني: والله ذو طَوْل على أهل الإيمان به وبرسوله، (2) بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم، فإن عاقبهم على بعض ذلك، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم. كما:- 8046- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين"، يقول: وكذلك منَّ الله على المؤمنين، أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبًا وموعظة، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم، لما أصابوا من معصيته، رحمةً لهم وعائدة عليهم، لما فيهم من الإيمان. (3) * * * القول في تأويل قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد عفا عنكم، أيها المؤمنون، إذ لم يستأصلكم، إهلاكًا منه جمعكم بذنوبكم وهربكم ="إذ تصعدون ولا تلوون على أحد". * * *   (1) الأثر: 8045- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8042. (2) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6: 156. (3) الأثر: 8046- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8045. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة فساد قبيح. يستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري: (إِذْ تُصْعِدُونَ) بضم"التاء" وكسر"العين". وبه القراءة عندنا، لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به، واستنكارهم ما خالفه. * * * وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه: (إِذْ تَصْعَدُونَ) ، بفتح"التاء" و"العين". 8047- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هرون، عن يونس بن عبيد، عن الحسن. * * * فأما الذين قرأوا: (تُصْعِدُون) بضم"التاء" وكسر"العين"، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أنّ القوم حين انهزموا عن عدوِّهم، أخذوا في الوادي هاربين. وذكروا أنّ ذلك في قراءة أبي: (" إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي ") . 8048- حدثنا [بذلك] أحمد بن يوسف قال، حدثنا أبو عبيد قال، حدثنا حجاج، عن هرون. * * * =قالوا: فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب:"إصعاد"، لا صعود. (1) قالوا وإنما يكون"الصعود" على الجبال والسلاليم والدَّرج، لأن معنى"الصعود"، الارتقاء والارتفاع على الشيء عُلوًا. (2) قالوا: فأما الأخذ في مستوى الأرض والهبوط، فإنما هو"إصعاد"، كما يقال:"أصعَدْنا من مكة"، إذا بتدأت في السفر منها والخروج ="وأصعدنا   (1) في المطبوعة: "قالوا: الهرب في مستوى الأرض". وفي المخطوطة: "بالهرب"، والصواب ما أثبت. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 105، ومعاني القرآن للفراء 1: 239. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 من الكوفة إلى خراسان"، بمعنى: خرجنا منها سفرًا إليها، وابتدأنا منها الخروج إليها. قالوا: وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل، بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي. *ذكر من قال ذلك: 8049- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تلوون على أحد"، ذاكم يوم أحد، أصعدوا في الوادي فرارًا، (1) ونبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في أخراهم:"إلىَّ عباد الله، إلى عباد الله"!. (2) * * * قال أبو جعفر: وأما الحسن، فإني أراه ذهب في قراءته:"إذ تَصْعَدون" بفتح"التاء" و"العين"، إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صعدوا الجبل. وقد قال ذلك عددٌ من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 8050- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما شدَّ المشركون على المسلمين بأحُد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس:"إليّ عباد الله، إليّ عباد الله"! فذكر الله صعودهم على الجبل، ثم ذكر دعاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إياهم، فقال:"إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم". (3)   (1) في المخطوطة: "في الوادي نبي الله" وما بينهما بياض، وما ثبت في المطبوعة، صواب موافق لما في الدر المنثور 2: 87، على خطأ ظاهر في الدر. (2) في المخطوطة: "قال عباد الله قال عباد الله"، والذي في المطبوعة هو الصواب الموافق لما في الدر المنثور 2: 87، إلا أن ناشر المطبوعة زاد"قال" قبل: "إلى عباد الله"، وهو فاسد فخذفتها، فإن الذي في المخطوطة تصحيف"إلى. . . إلى". وانظر الأثر التالي: 8050. (3) الأثر: 8050- هو بعض الأثر السالف: 7943، مع زيادة فيه، وفي تاريخ الطبري أيضًا 3: 20، مع زيادة هنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 8051- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يصعدون في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم. 8052- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 8053- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس، قوله:"إذ تصعدون ولا تلووْن على أحد"، قال صعدوا في أحُدٍ فرارًا. * * * قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ:"إذ تُصعِدون"، بضم"التاء" وكسر"العين"، بمعنى: السبق والهرب في مستوى الأرض، أو في المهابط، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففي إجماعها على ذلك، الدليلُ الواضح على أنّ أولى التأويلين بالآية، تأويل من قال:"اصْعدوا في الوادي ومضوْا فيه"، دون قول من قال:"صعدوا على الجبل". * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"ولا تلوون على أحد"، فإنه يعني: ولا تعطفون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض، هربًا من عدوّكم مُصْعدين في الوادي. (1) * * * ويعني بقوله:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه ="في أخراكم"، يعني: أنه يناديكم من خلفكم:"إليّ عباد الله، إليّ عباد الله"!. (2) كما:-   (1) انظر تفسير"لوى" فيما سلف: 6: 536، 537. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 105، ومعاني القرآن للفراء: 1: 239. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 8054- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، إليّ عباد الله ارجعوا، إليّ عباد الله ارجعوا!. 8055- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، رأوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم:"إليّ عباد الله"! 8056- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي مثله. 8057- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، أنَّبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم، فقال:"إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم". (1) 8058- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والرسول يدعوكم في أخراكم"، هذا يوم أحد حين انكشف الناسُ عنه. * * * القول في تأويل قوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأثابكم غمًّا بغم"، يعني: فجازاكم بفراركم عن نبيكم، وفشلكم عن عدوكم، ومعصيتكم ربكم ="غمًّا بغم"، يقول: غما على غم. * * *   (1) الأثر: 8057- سيرة ابن هشام 3: 121، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8046. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 وسمى العقوبة التي عاقبهم بها = من تسليط عدوهم عليهم حتى نال منهم ما نال"ثوابًا"، إذ كان عوضًا من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم، (1) فدلّ بذلك جل ثناؤه أنّ كل عوض كان لمعوَّض من شيء من العمل، خيرًا كان أو شرًّا = أو العوض الذي بذله رجل لرجل، أو يد سلفت له إليه، فإنه مستحق اسم"ثواب"، كان ذلك العوض تكرمةً أو عقوبة، ونظير ذلك قول الشاعر: (2) أخَافُ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُه ... أدَاهِمَ سُودًا أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا (3) فجعل"العطاء" القيود. (4) وذلك كقول القائل لآخر سلف إليه منه مكروه:"لأجازينَّك على فعلك، ولأثيبنك ثوابك". (5) * * * وأما قوله:"غمًّا بغم"، فإنه قيل:"غمًّا بغم"، معناه: غمًّا على غم، كما قيل: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [سورة طه: 71] ، بمعنى: ولأصلبنكم على جذوع النخل. وإنما جاز ذلك، لأن معنى قول القائل:"أثابك الله غمًّا على غم"، جزاك الله   (1) في المطبوعة: "إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه"، وكان في المخطوطة مكان"ذلك" بياض، والصواب ما أثبت، استظهارًا من كلام أبي جعفر التالي. (2) هو الفرزدق. (3) ديوانه: 227، النقائض: 618، طبقات فحول الشعراء: 256، وتاريخ الطبري 6: 139، معاني القرآن للفراء 1: 239، وغيرها. من شعره في زياد بن أبي سفيان، وهو يلي الأبيات التي ذكرتها في التفسير آنفًا 2: 195، تعليق: 1، والرواية التي ذكرها الطبري هنا، متابعة للفراء، وهي لا تستقيم مع الشعر، وأجمع الرواة على أنه: فلمَّا خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نَمَيْتُ إلَى حَرْفٍ أَضَرَّ بِنَيِّها ... سُرَى البِيدِ وَاسْتِعْراضُهَا البَلَدَ القَفْرَا والأداهم جمع أدهم: وهو القيد، سمي بذلك لسواده. والمحدرجة: السياط. حدرج السوط: فتله فتلاً محكمًا حتى استوى. وجعلها"سمرًا"، لأدمة جلدها الذي تصنع منه. (4) في المطبوعة: "فجعل العطاء العقوبة"، والصواب من المخطوطة، ولا أدري لم غيره الناشر الأول. (5) انظر لما سلف، معاني القرآن للفراء 1: 239، وانظر معنى"الثواب" فيما سلف قريبًا: 2: 458 / 7: 272، وقد نسيت أن أذكر مرجعه هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 غمًّا بعد غم تقدَّمه، (1) فكان كذلك معنى:"فأثابكم غمًّا بغم"، لأن معناه: فجزاكم الله غمًّا بعقب غمّ تقدمه، (2) وهو نظير قول القائل:"نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان"،"وضربته بالسيف وعلى السيف". (3) * * * واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم، وما كان غمُّهم الأول والثاني؟ فقال بعضهم:"أما الغم الأول، فكان ما تحدَّث به القوم أنّ نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قتل. وأما الغمّ الآخر، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح". *ذكر من قال ذلك: 8059- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأثابكم غمًّا بغم"، كانوا تحدَّثوا يومئذ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أصيب، وكان الغم الآخر قَتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم. قال: وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستة وستون رجلا من الأنصار، وأربعة من المهاجرين = وقوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، يقول: ما فاتكم من غنيمة القوم ="ولا ما أصابكم"، في أنفسكم من القتل والجراحات. 8060- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال: فرّة بعد فرّة: الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدًا قد قتل، والثانية حين رجع الكفار، فضربوهم مدبرين، حتى قتلوا منهم سبعين رجلا ثم انحازوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا يصعدون في الجبل والرسول يدعوهم في أخراهم.   (1) في المطبوعة: "يقدمه" في الموضعين، وهو خطأ لا شك فيه. (2) في المطبوعة: "يقدمه" في الموضعين، وهو خطأ لا شك فيه. (3) انظر ما سلف 1: 299، 313 / 2: 411، 412. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 8061- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. * * * وقال آخرون:"بل غمهم الأول كان قتْل من قتل منهم وجرح من جرح منهم. والغم الثاني كان من سماعهم صوت القائل:"قُتل محمد"، صلى الله عليه وسلم. *ذكر من قال ذلك: 8062- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"غمًّا بغم"، قال: الغم الأول: الجراحُ والقتل، والغم الثاني حين سمعوا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم". * * * 8063- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال: الغم الأول الجراح والقتل، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول الله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم". وقال آخرون:"بل الغم الأول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة، والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشِّعب. وذلك أن أبا سفيان -فيما زعم بعض أهل السير- لما أصاب من المسلمين ما أصاب، وهرب المسلمون، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أحد، الذي كانوا ولَّوا إليه عند الهزيمة، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه. (1)   (1) إذا أبيد القوم من أصلهم واستأصلهم عدوهم قيل: "اصطلموا" بالبناء للمجهول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 *ذكر الخبر بذلك: 8064- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه، وضع رجل سهمًا في قوسه، فأراد أن يرميَه، فقال:"أنا رسول الله! "، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. (1) فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. =فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه، نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وهمَّهم أبو سفيان، (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تُعبَد"! ثم ندَب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال أبو سفيان يومئذ:"اعْلُ هُبَل! حنظلة بحنظلة، ويوم بيوم بدر"! = وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب، وكان جُنُبًا فغسَّلته الملائكة، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر = وقال أبو سفيان:"لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم"! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر:"قل الله مولانا ولا مولى لكم"! فقال أبو سفيان: فيكم محمد؟ (3) قالوا: نعم! قال:"أما إنها قد كانت فيكم مُثْلة، ما أمرتُ بها، ولا نهيتُ عنها، ولا سرَّتني، ولا ساءتني"! فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم فقال:"فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، الغم الأول: ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني:   (1) انظر ما سلف: 256 تعليق: 1، فإني زدت"به" من التاريخ، ولكنه عاد هنا في المخطوطة فأسقطها، فاتفقت المخطوطة في الموضعين، فتركت هذه على حالها، وإن كنت لا أرتضيها. (2) في التاريخ"وأهمهم"، وهمه الأمر وأهمه، سواء في المعنى. (3) في التاريخ: "أفيكم محمد" بالألف، وهما سواء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 إشراف العدوّ عليهم ="لكيلا يحزنوا على ما فاتكم"، من الغنيمة ="ولا ما أصابكم" من القتل حين تذكرون. فشغلهم أبو سفيان. (1) 8065- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، فيما ذكَروا من حديث أحُد، قالوا: كان المسلمون في ذلك اليوم -لما أصابهم فيه من شدة البلاء- أثلاثًا، ثلثٌ قتيل، وثلثٌ جريح، وثلثٌ منهزم، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع = (2) وحتى خلص العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشِقِّه، وأصيبتْ رَباعيته، وشجَّ في وجهه، وكُلِمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. (3) = (4) وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال:"قتلت محمدًا". (5) 8066- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس:"قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم" = كما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن   (1) الأثر 8064- تاريخ الطبري 3: 20، 21، وبعضه في الأثرين السالفين: 7943، 8050، وكلها سياق واحد في التاريخ. (2) هذه الفقرة من الأثر، لم أجدها في سيرة ابن هشام. (3) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 84، وانظر التخريج في آخره. ودثه بالعصا وبالحجر رماه رميًا متتابعًا، أو ضربه بالعصا ضربًا متقاربًا من وراء الثياب حتى يأخذه الألم. والشق: الجنب. والكلم: الجرح. (4) الفقرة التالية من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 77، قبل السالفة. (5) الأثر: 8065- هذا أثر ملفق من سيرة ابن إسحاق، كما رأيت في التعليقين السالفين، وهو فيها من 3: 84 / 3: 77 / والقسم الأول لم أعثر عليه فيها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري = كعبُ بن مالك أخو بني سلِمة قال: عرفتُ عينيه تَزْهَران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي:"يا معشر المسلمين: أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم"! فأشار إليَّ رسو ل الله أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه عليّ بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، والحارث بن الصِّمة، (1) في رهط من المسلمين. (2) . =قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا"! فقاتل عمرُ بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين، حتى أهبطوهم عن الجبل. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُدِّن، فظاهرَ بين درعين، (3) فلما ذهب لينهض، فلم يستطع، جلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها. (4) . = ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى   (1) في المطبوعة: "والحارث بن الصامت"، والصواب من المخطوطة والمراجع، ولا أدري فيم غيره الناشر الأول!! (2) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 88، 89. (3) بدن الرجل تبدينا: ألبسه البدن، أي الدرع. وقد مضى شراح السيرة، فزعموا أن"بدن" (بالبناء للمعلوم) هنا، معناها: أسن. قال أبو ذر الخشني في تفسير غريب سيرة ابن هشام: 228"بدن الرجل، إذا أسن. وبدن، إذا عظم بدنه من كثرة اللحم". وكلا التفسيرين خطأ هنا، وإن كان صحيحًا في اللغة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يوم قاتل في أحد مسنًا ولا بلغ في السن ما يضعفه. وأيضًا فإنه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لم يوصف قط بالبدانة والسمن. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصلاة: "إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود"، فإنه لم يعن البدانة، وإنما أراد أن الحركة قد ثقلت عليه، كما تثقل على الرجل البادن. ولو قرئت في"بدن" بالبناء للمعلوم لكان عربية صحيحة. وأما قوله: "ظاهر بين درعين"، أي ليس إحداهما على الأخرى، وكذلك"ظاهر بين ثوبين، أو نعلين"، لبس أحدهما على الآخر. (4) هذه الفقرة من الأثر في سيرة ابن هشام 3: 91، وتاريخ الطبري 3: 21. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 صوته:"أنعمْتَ فعالِ! إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعْلُ هُبَل"، أي: أظهر دينك، (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر:"قم فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل! لا سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار"! فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان، قال له أبو سفيان:"هلم إليَّ يا عمر"! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ائته فانظر ما شأنُه"؟ فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدًا؟ فقال عمر: اللهمّ لا وإنه ليسمع كلامك الآن!. فقال: أنت أصدقُ عندي من ابن قميئة وأبرُّ! = (2) لقول ابن قميئة لهم: إنّي قتلت محمدًا = ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاكم. مُثْلة، والله ما رضيتُ ولا سخطتُ، ولا نهيت ولا أمرتُ. (3) 8067- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:"فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، أي: كربًا بعد كرب، قتلُ من قتل من إخوانكم، وعلوّ عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال:"قُتل نبيكم"، فكان ذلك مما تتابع عليكم غمًّا بغم ="لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ="ولا ما أصابكم" من قتل إخوانكم، حتى فرجت بذلك الكرب عنكم ="والله خبير بما تعملون"، وكان الذي فرَّج به عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم، (4) أن الله عز وجل ردّ عنهم كِذبة الشيطان بقتل نبيهم. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا بين أظهرهم، هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم، والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم، (5) حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. (6) 8068- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فأثابكم غمًّا بغم"، قال ابن جريج، قال مجاهد: أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قُتلوا. فلما تولَّجُوا في الشعب وهم مصابون، (7) وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم   (1) قوله: "أنعمت"، أي جئت بالسهم الذي فيه"نعم"، و"عال"، أي: تجاف عنها -عن الأصنام- ولا تذكرها بسوء. يقال: "عال عني، وأعل عني"، أي تنح. وذلك أن الرجل من قريش من أهل الجاهلية، كان إذا أراد ابتداء أمر، عمد إلى سهمين فكتب على أحدهما"نعم" وعلى الآخر"لا"، ثم يتقدم إلى الصنم ويجيل سهامه، فإن خرج سهم"نعم" أقدم، وإن خرج سهم"لا" امتنع. وكان أبو سفيان لما أراد الخروج إلى أحد، استفتى هبل، فخرج له سهم الإنعام. فذلك تفسير كلمته. ومن لطيف أخبار الاستقسام بالأزلام. ما فعل امرؤ القيس، حين قتل أبوه، فاستقسم عند ذي الخلصة، فأجال سهامه فخرج له السهم الناهي"لا" ثلاث مرات، فجمع قداحه وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال له: "مصصت ببظر أمك! لو أبوك قتل ما عقتني!! "، ثم خرج فقاتل، فظفر. فيقال إنه لم يستقسم بعد ذلك بقدح عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام، وهدمه جرير بن عبد الله البجلي، وأبطل الله أمر الجاهلية كله. وقد قيل لأبي سفيان يوم الفتح: "أين قولك، أنعمت فعال"؟ فقال: "قد صنع الله خيرًا، وذهب أمر الجاهلية". هذا وقد كان في المطبوعة: "أنعمت فقال إن الحرب سجال"، وهو خطأ صرف. والحرب سجال: أي مرة لهذا، ومرة لهذا. وقوله: "اعل هبل" قد شرحه ابن إسحاق، فيظن بعض من يضبط السيرة أنه"أعل" (بهمز الألف وسكون العين وكسر اللام) وهو خطأ، والصواب أنه أمر من"علا"، يريد: زد علوًا. (2) في المطبوعة: "وأشار لقول ابن قميئة"، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام. وقوله: "وأبر"، من"البر"، وهو الصدق والخير كله. (3) الأثر 8066- هذا الأثر مجموع من مواضع في السيرة كما أشرت إليه، وهي في: سيرة ابن هشام 3: 88، 89 / 3: 91، وتاريخ الطبري 3: 21 / والسيرة 3: 99. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "وكان الذي خرج عنهم" بإسقاط"به" والسياق يقتضى إثباتها، فأثبتها من سيرة ابن هشام. (5) في المطبوعة: "فهان الظهور عليهم"، وفي المخطوطة: "فهذا الظهور عليهم" كتب"فهذا" في آخر"السطر" و"الظهور" في أول السطر التالي، فلم يحسن الناشر قراءتها، والصواب من سيرة ابن هشام. (6) الأثر: 8067- سيرة ابن هشام 3: 121، 122، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8057. (7) في المطبوعة: "فلما تولجوا في الشعب يتصافون"، وهو لا معنى له، والصواب من المخطوطة إلا أن كاتبها كان قد سقط من كتابته من أول"وهم مصابون" إلى"باب الشعب"، فكتبها في الهامش. فاستعجمت على الناشر الأول قراءتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 فيقتلونهم أيضًا، فأصابهم حزن في ذلك أيضًا أنساهم حُزنهم في أصحابهم، فذلك قوله:"فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم" = قال ابن جريج، قوله:"على ما فاتكم"، يقول: على ما فاتكم من غنائم القوم ="ولا ما أصابكم"، في أنفسكم. 8069- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج. قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد بن عمير قال: جاء أبو سفيان بن حرب ومن معه، حتى وقف بالشعب، ثم نادى: أفي القوم ابن أبي كبشة؟ (1) فسكتوا، فقال أبو سفيان: قُتل ورب الكعبة! ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فسكتوا، فقال: قُتل ورب الكعبة! ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فسكتوا، فقال: قُتل ورب الكعبة! ثم قال أبو سفيان: اعل هُبل، يوم بيوم بدر، وحنظلة بحنظلة، وأنتم واجدون في القوم مَثْلا (2) لم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا، ولم نكرهه حين رأيناه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: قم فناد فقل: الله أعلى وأجل! نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا! لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!. * * * وقال آخرون في ذلك بما:-   (1) "ابن أبي كبشة"، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان المشركون يذكرون رسول الله. فقيل إن"أبا كبشة"، رجل من خزاعة، خالف قريشًا في عبادة الأوثان وعبد الشعري العبور، فذكروه بذلك لمخالفته إياهم إلى عبادة الله تعالى، كما خالفهم أبو كبشة إلى عبادة الشعري. ويقال: إنها كنية وهب بن عبد مناف، جد رسول الله من قبل أمه، فنسب إليه، لأنه نزع إليه في الشبه. ويقال: هي كنية زوج حليمة السعدية التي أرضعته صلى الله عليه وسلم. (2) في المخطوطة: "وأنتم واحد ورقى القوم سلا"، وهو كلام"فاسد" صوابه في المطبوعة. والمثل (بفتح الميم وسكون الثاء) مصدر"مثل بالقتيل" إذا جدع أنفه، أو أذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه وجسده، طلب التشويه لجثته. والاسم"المثلة" (بضم الميم وسكون الثاء) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 8070- حدثني به محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"، فرجعوا فقالوا: والله لنأتينهم، ثم لنقتلنهم! قد جرحوا منا! (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا؛ فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجل أنكم عصيتموني! فبينما هم كذلك إذ أتاهم القوم قد ائتشبوا وقد اخترطوا سيوفهم، (2) فكان غمَّ الهزيمة وغمهم حين أتوهم ="لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، من القتل ="ولا ما أصابكم"، من الجراحة ="فأثابكم غمًّا بغم لكيلا تحزنوا" الآية، وهو يوم أحد. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال:"معنى قوله:"فأثابكم غمًّا بغم،" أيها المؤمنون، بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم، والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ -بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون- بمعصيتكم ربَّكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم، غمَّ ظنَّكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل، وميل العدوّ عليكم بعد فلولكم منهم. (3) . والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه، قوله:"لكيلا تحزنوا   (1) في المطبوعة: "قد خرجوا منا"، وأسقطها السيوطى في الدر المنثور 2: 87، فاستظهر ناشر الطبعة السالفة إسقاطها كما فعل السيوطي، وهي في المخطوطة: "قد حرحوا منا"، غير منقوطة، كما أثبتها وصواب قراءتها ما أثبت. ومعنى: "جرحوا منا"، أي أصابوا بعضنا بالجراحات والقتل، وبلغوا في ذلك مبلغًا. ولم تثبت كتب اللغة ذلك، ولكنه عربي معرق عتيق، وما كل اللغة تثبته كتب اللغة، وخاصة مجاز العبارات. (2) في المطبوعة: "قد أنسوا وقد اخترطوا سيوفهم"، وفي الدر المنثور 2: 87" قد ايسوا" وفي المخطوطة: "قد انسوا" غير منقوطة، والذي في المطبوعة والدر لا معنى له، وقد رجحت قراءتها. تأشب القوم وائتشبوا: انضم بعضهم لبعض واجتمعوا والتفوا، وفي الحديث"فتأشب أصحابه إليه"، أي اجتمعوا إليه وطافوا به. وأصله من"أشب الشجر"، إذا التف وكثر حتى ضاقت فرجه، وحتى لا مجاز فيه لمجتاز. (3) قوله: "بعد فلولكم منهم" يعني: بعد هزيمتكم وفراركم منهم، ولم تصرح كتب اللغة بفعل ثلاثي لازم مصدره"فلول"، بل قالوا: "فله يفله، فانفل"، ولكن يرجح صواب ما في نص الطبري أنه جاء في أمثالهم: "من فل ذل"، أي من فر عن عدوه ذل. وأما ابن كثير فقد نقل في تفسيره 2: 270 نص الطبري هذا، وفيه"ونبوكم منهم"، وليست بشيء، وكأن الصواب ما في التفسير، فهو جيد في العربية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، والفائت، لا شك أنه هو ما كانوا رجَوْا الوصول إليه من غيرهم، إما من ظهور عليهم بغلَبهم، وإما من غنيمة يحتازونها = وأنّ قوله:"ولا ما أصابكم"، هو ما أصابهم: إما في أبدانهم، وإما في إخوانهم. فإن كان ذلك كذلك، فمعلوم أن"الغم" الثاني هو معنًى غير هذين. لأن الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أثابهم غمًّا بغم لئلا يحزنهم ما نالهم من الغم الناشئ عما فاتهم من غيرهم، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم، وهو الغم الأول، على ما قد بيناه قبل. * * * وأما قوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، فإن تأويله على ما قد بيَّنت، من أنه:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم والظهور، وحيازة غنائمهم ="ولا ما أصابكم"، في أنفسكم. من جرح من جرح وقتل من قتل من إخوانكم. * * * وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبلُ على السبيل التي اختلفوا فيه، كما:- 8071- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، قال: على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون ="ولا تحزنوا على ما أصابكم"، من الهزيمة. * * * وأما قوله:"والله خبير بما تعملون"، فإنه يعني جل ثناؤه: والله بالذي تعملون، أيها المؤمنون - من إصعادكم في الوادي هربًا من عدوكم، وانهزامكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 منهم، وترككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم، وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم وما أصابكم في أنفسكم = ذو خبرة وعلم، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم به: المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، أو يعفو عنه. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل الله، أيها المؤمنون من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله ="أمنة"، وهي الأمان، (1) على أهل الإخلاص منكم واليقين، دون أهل النفاق والشك. * * * ثم بين جل ثناؤه، عن"الأمنة" التي أنزلها عليهم، ما هي؟ فقال ="نعاسًا"، بنصب"النعاس" على الإبدال من"الأمنة". * * * ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"يغشى". فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء: (يَغْشَى) . * * * وقرأ جماعة من قرأة الكوفيين بالتأنيث: (تَغْشَى) بالتاء. * * * وذهب الذين قرأوا ذلك بالتذكير، إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من   (1) انظر تفسير"الأمن" فيما سلف 3: 29 / 4: 87. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 المؤمنين دون الأمَنة، فذكَّره بتذكير"النعاس". وذهب الذين قرأوا ذلك بالتأنيث، إلى أنّ الأمَنة هي التي تغشاهم فأنثوه لتأنيث"الأمنة". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، غير مختلفتين في معنى ولا غيره. لأن"الأمنة" في هذا الموضع هي النعاس، والنعاس هو الأمنة. فسواء ذلك، (1) وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته. وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ) [سورة الدخان: 43-45] و (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى) [سورة القيامة: 37] ، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ) [سورة مريم: 25] . (2) . * * * فإن قال قائل: وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عز وجل فيما افترقتا فيه من صفتهما، فأمِنت إحداهما بنفسها حتى نعست، وأهمَّت الأخرى أنفسها حتى ظنت بالله غير الحق ظن الجاهلية؟ قيل: كان سبب ذلك فيما ذكر لنا، كما:- 8072- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين، فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا من قابلٍ، فقال نعم! نعم! فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال:   (1) في المطبوعة: "وسواء ذلك" بالواو، والصواب من المخطوطة. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 240. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 "انظر، فإن رأيتهم قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم، (1) فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم، (2) فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله واصبروا" ووطَّنهم على القتال. فلما أبصرهم الرسولُ قعدوا على الأثقال سراعًا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم. فلما رأى المؤمنون ذلك صدَّقوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فناموا، وبقى أناس من المنافقين يظنون أنّ القوم يأتونهم. فقال الله جل وعز، يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ويظنون بالله غير الحقّ ظن الجاهلية". 8073- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: أمَّنهم يومئذ بنعاس غشَّاهم. وإنما ينعُسُ من يأمن ="يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية". 8074- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أحد أمنة، حتى سقط من يدي مرارًا = قال أبو جعفر: يعني سوطه، أو سيفه. 8075- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحُد، فجعلت ما أرى أحدًا من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس. (3) .   (1) الأثقال جمع ثقل (بفتحتين) : وهو متاع المسافر، وعنى به الإبل التي تحمل المتاع. وجنب الفرس والأسير وغيره: قاده إلى جنبه. (2) في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2: 87: "وجنبوا على أثقالهم"، والصواب الذي لا شك فيه حذف"على". (3) "الحجفة": ضرب من الترسة، تتخذ من جلود الإبل مقورة، يطارق بعضها على بعض، ليس فيه خشب، وهي الحجفة والدرقة."ماد يميد": مال وتحرك واضطرب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 8076- حدثنا ابن بشار وابن المثني قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن صبَّ عليه النعاس يوم أحد. 8077- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: عن أبي طلحة: أنه كان يومئذ ممن غشِيه النعاس، قال: كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه، من النعاس. 8078- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، عن أنس: أن أبا طلحة حدثهم: أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، ويسقط = والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم همَّة إلا أنفسهم،"يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"، الآية كلها. 8079- حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا ضرار بن صُرد قال، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال: سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عز وجل:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمَنةً نعاسًا". قال: ألقي علينا النوم يوم أحد. 8080- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا"، الآية، وذاكم يوم أحد، كانوا يومئذ فريقين، فأما المؤمنون فغشّاهم الله النعاس أمنةً منه ورحمة. 8081- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، نحوه. 8082- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"أمنة نعاسًا"، قال: ألقي عليهم النعاس، فكان ذلك أمنةً لهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 8083- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال، قال عبد الله: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان. 8084- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا"، قال: أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به، فهم نيامٌ لا يخافون. (1) 8085- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أمنة نعاسًا"، قال: ألقى الله عليهم النعاس، فكان"أمنة لهم". وذكر أن أبا طلحة قال: ألقي عليًّ النعاس يومئذ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي. 8086- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن إدريس قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة = وهشام بن عروة، عن عروة، عن الزبير، أنهما قالا لقد رفعنا رءوسنا يوم أحد، فجعلنا ننظر، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته. قال: وتلا هذه الآية:"ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاسًا". * * *   (1) الأثر: 8084- سيرة ابن هشام 3: 122، وهو من تتمة الأثار التي آخرها: 8067. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 القول في تأويل قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وطائفة منكم"، أيها المؤمنون ="قد أهمتهم أنفسهم"، يقول: هم المنافقون لا هم لهم غير أنفسهم، فهم من حذر القتل على أنفسهم، وخوف المنية عليها في شغل، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بالله الظنون الكاذبة، ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله، شكًا في أمر الله، وتكذيبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وَمحْسَبة منهم أن الله خاذل نبيه ومُعْلٍ عليه أهل الكفر به، (1) يقولون: هل لنا من الأمر من شيء. كالذي:- 8087- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: والطائفة الأخرى: المنافقون، ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبُه وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظنونًا كاذبة، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) . 8088- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم همة إلا أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا) قال الله عز وجل: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) الآية. 8089- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وطائفة   (1) حسب الشيء يحسبه (بكسر السين) حسبانًا (بكسر الحاء) ومحسبة ومحسبة (بكسر السين وفتحها) ، ظنه طنًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 قد أهمتهم أنفسهم"، قال: أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوُّف القتل، وذلك أنهم لا يرجون عاقبةٌ. (1) 8090- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافقون. * * * وأما قوله:"ظنّ الجاهلية"، فإنه يعني أهل الشرك. كالذي:- 8091- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ظنّ الجاهلية"، قال: ظن أهل الشرك. 8092- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"ظن الجاهلية"، قال: ظن أهل الشرك. * * * قال أبو جعفر: وفي رفع قوله:"وطائفة"، وجهان. أحدهما، أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله:"قد أهمتهم". والآخر: بقوله:"يظنون بالله غير الحق"، ولو كانت منصوبة كان جائزًا، وكانت"الواو"، في قوله:"وطائفة"، ظرفًا للفعل، بمعنى: وأهمت طائفة أنفسهم، كما قال (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) [سورة الذاريات: 47] . (2) * * *   (1) الأثر: 8089- سيرة ابن هشام 3: 122، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8084. (2) قد استقصى هذا الباب من العربية، الفراء في معاني القرآن 1: 240 - 242. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 القول في تأويل قوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} قال أبو جعفر: يعني بذلك الطائفة المنافقةَ التي قد أهمَّتهم أنفسهم، يقولون: ليس لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا. كما:- 8093- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قيل لعبد الله بن أبيّ: قُتل بنو الخزرج اليوم! قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ قيل إنّ الأمر كله لله!. (1) * * * وهذا أمر مبتدأ من الله عز وجل، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المنافقين:"إن الأمر كله لله"، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ. ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين، فقال:"يُخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك" يقول: يخفي، يا محمد، هؤلاء المنافقون الذين وصفتُ لك صفتهم، في أنفسهم من الكفر والشك في الله، ما لا يبدون لك. ثم أظهر نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد، فقال مخبرًا عن قيلهم الكفرَ وإعلانهم النفاقَ بينهم:"يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا"، يعني بذلك، أنّ هؤلاء المنافقين يقولون: لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا، ما خرجنا   (1) في المطبوعة: "قل إن الأمر كله لله" كنص الآية، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 إليهم، ولا قُتل منا أحد في الموضع الذي قتلوا فيه بأحد. * * * وذكر أن ممن قال هذا القول، معتّب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف. *ذكر الخبر بذلك: 8094- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، قال، قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: والله إنّي لأسمع قول معتِّب بن قشير، أخي بني عمرو بن عوف، والنعاسُ يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لوْ كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا! (1) 8095- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، بمثله. * * * قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ) ، بنصب"الكل" على وجه النعت لـ"الأمر" والصفة له. * * * وقرأه بعض قرأة أهل البصرة: (قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) برفع"الكل"، على توجيه"الكل" إلى أنه اسم، وقوله"لله" خبره، كقول القائل:"إن الأمر بعضه لعبد الله. (2) . * * * وقد يجوز أن يكون"الكل" في قراءة من قرأه بالنصب، منصوبًا على البدل. * * *   (1) لم أجد نص الخبر في سيرة ابن هشام، في خبر أحد، ولكني وجدت معناه والإشارة إليه قبل أحد في ذكر من اجتمع إلى يهود من منافقي الأنصار 2: 169. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 243. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة عندنا، النصبُ في"الكل" لإجماع أكثر القرأة عليه، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية. ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القرأة، لكانت سواءً عندي القراءةُ بأيِّ ذلك قرئ، لاتفاق معاني ذلك بأيَ وجهيه قرئ. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (154) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين: لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين، فيظهرَ للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم، وتكتمونه من شككم في دينكم (1) ="لبرز الذين كُتب عليهم القتل"، يقول: لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه، من قد كتب عليه القتل منهم، (2) ولخرج من بيته إليه حتى يصرع في الموضع الذي كُتب عليه أن يصرع فيه. (3) . * * * وأما قوله:"وليبتلي الله ما في صدوركم"، فإنه يعني به: وليبتلي الله ما في صدوركم، أيها المنافقون، كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم. * * *   (1) في المطبوعة: "من شرككم في دينكم"، والصواب من المخطوطة. (2) انظر تفسير"برز" فيما سلف 5: 354. (3) في المطبوعة: "ويخرج من بيته"، لم يحسن قراءة المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 ويعني بقوله:"وليبتلي الله ما في صدوركم"، وليختبر الله الذي في صدوركم من الشك، فيميِّزكم = بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم = من المؤمنين. (1) * * * وقد دللنا فيما مضى على أنّ معاني نظائر قوله:"ليبتلي الله" و"وليعلم الله" وما أشبه ذلك، وإن كان في ظاهر الكلام مضافًا إلى الله الوصف به، فمرادٌ به أولياؤه وأهل طاعته = (2) وأنّ معنى ذلك: وليختبر أولياءُ الله، وأهل طاعته الذي في صدوركم من الشك والمرض، فيعرفوكم، [فيميّزوكم] من أهل الإخلاص واليقين ="وليمحص ما في قلوبكم"، يقول وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة أو الولاية. (3) * * * "والله عليم بذات الصدور"، يقول: والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشر، وإيمان وكفر، لا يخفى عليه شيء من أمورهم، سرائرها علانيتها، وهو لجميع ذلك حافظ، حتى يجازي جميعهم جزاءهم على قدر استحقاقهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول: 8096- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ذكر الله تلاومَهم -يعني: تلاوم المنافقين - وحسرتهم على ما أصابهم، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم قل:"لو كنتم في بيوتكم"، لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم، لأخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه، حتى يبتلي به ما في صدوركم ="وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور"، أي لا يخفى عليه ما في صدورهم، (4)   (1) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 7: 297 تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر ما سلف قريبًا ص: 246، تعليق 2، / ثم انظر 3: 160 - 162. (3) انظر تفسير"محص" فيما سلف ص: 244. (4) في المطبوعة"لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم"، وفي المخطوطة"لا يخفى عليه شيء ما في صدورهم"، وضرب بالقلم على"شيء"، ولكن الناشر آثر إثباتها، وجعل"ما""مما"، والصواب المطابق لنص السيرة هو ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 مما اسْتَخْفَوْا به منكم. (1) 8097- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الحارث بن مسلم، عن بحر السقاء، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: سئل عن قوله:"قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم"، قال: كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله، وليس كل من يقاتل يُقتل، ولكن يُقتل من كَتب الله عليه القتل. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين ولَّوا عن المشركين، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانهزموا عنهم. * * * وقوله:"تولَّوا"،"تفعَّلوا"، من قولهم:"ولَّى فلان ظهره". (3) * * *   (1) الأثر: 8096- سيرة ابن هشام 3: 122، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8089. (2) الأثر: 8097-"الحارث بن مسلم الرازي المقرئ"، روى عن الثوري، والربيع بن صبيح وغيرهما. قال أبو حاتم: "الحارث بن مسلم، عابد، شيخ ثقة صدوق. رأيته وصليت خلفه". مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 2 / 88. و"بحر السقاء"، هو"بحر بن كنيز الباهلي السقاء أبو الفضل" روي عن الحسن، والزهري وقتادة. وهو جد"عمرو بن علي الفلاس". وروى عنه الثوري وكناه ولم يسمه، قال يحيى بن سعيد القطان: "كان سفيان الثوري يحدثني، فإذا حدثني عن رجل يعلم أني لا أرضاه كناه لي، فحدثني يوما قال حدثني أبو الفضل، يعني بحرًا السقاء". وقال يحيى بن معين: "بحر السقاء، لا يكتب حديثه". وهو متروك. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 418. (3) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162، 299 / 3: 115، 131 / 4: 237 / 6: 283، 291، 477، 483. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 وقوله:"يوم التقى الجمعان"، يعني: يوم التقى جمعُ المشركين والمسلمين بأحد ="إنما استزلهم الشيطان"، أي: إنما دعاهم إلى الزّلة الشيطانُ. * * * وقوله"استزل""استفعل" من"الزلة". و"الزلة"، هي الخطيئة. (1) * * * ="ببعض ما كسبوا"، يعني ببعض ما عملوا من الذنوب (2) . ="ولقد عفا الله عنهم"، يقول: ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه (3) ="إن الله غفور"، يعني به: مغطّ على ذنوب من آمن به واتبع رسوله، بعفوه عن عقوبته إياهم عليها ="حليم"، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة. (4) * * * ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عُنوا بهذه الآية. فقال بعضهم: عني بها كلُّ من ولَّى الدُّبُرَ عن المشركين بأحد. *ذكر من قال ذلك: 8098- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه قال: خطب عمر يوم الجمعة فقرأ"آل عمران"، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله:"إنّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، قال: لما كان يوم أحد هزمناهم، ففررتُ حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أرْوَى، (5) والناس يقولون:"قُتل محمد"! فقلت: لا أجد أحدًا يقول:"قتل محمد"، إلا قتلته!. حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية كلها. (6)   (1) انظر تفسير: "زل" فيما سلف 1: 524، 525 / 4: 259، 260. (2) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 2: 273، 274 / 3: 101، 128 / 4: 449 / 6: 131، 295. (3) انظر تفسير"عفا" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"غفور حليم" فيما سلف من فهارس اللغة. (5) "أنزو": أثبت، والنزو الوثب. والأروى: أنثى الوعول، وهي قوية على التصعيد في الجبال. (6) الأثر: 8098-"أبو هشام الرفاعي" هو"محمد بن يزيد بن محمد بن كثير"، مضى في رقم: 3286، 4557، 4888، وغيرها. و"أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط"، قيل اسمه"محمد"، وقيل: "عبد الله" وقيل وقيل، ولكن الحافظ قال: "والصحيح أن اسمه كنيته، كان حافظًا متقنًا، ولكنه لما كبر ساء حفظه، فكان يهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، كما قال ابن حبان". مترجم في التهذيب. و"عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي"، روى عن أبيه، وأبي بردة بن أبي موسى، ومحمد بن كب القرظي، وغيرهم. روى عنه ابن عون وشعبة وشريك والسفيانان وغيرهم. قال أحمد: "لا بأس بحديثه"، وقال النسائي وابن معين: "ثقة". وكان من العباد، ولم يكن كثير الحديث. مترجم في التهذيب. وأبوه: "كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي"، روى عن أبيه، وعن خاله الفلتان بن عاصم، وعمر، وعلي، وسعد، وأبي ذر، وأبي موسى، وأبي هريرة وغيرهم. قال ابن سعد: "كان ثقة، ورأيتهم يستحسنون حديثه ويحتجون به". مترجم في التهذيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 8099- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية، وذلك يوم أحد، ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبيّ الله يومئذ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون: أنه قد تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم. 8100- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية، فذكر نحو قول قتادة. * * * وقال آخرون: بل عني بذلك خاصٌّ ممن ولَّى الدبر يومئذ، قالوا: وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم. *ذكر من قال ذلك: 8101- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما انهزموا يومئذ، تفرّق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 أصحابه، فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، فذكر الله عز وجل الذين انهزموا فدخلوا المدينة فقال:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية. * * * وقال آخرون: بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين. *ذكر من قال ذلك: 8102- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، قال: نزلت في رافع بن المعلَّى وغيره من الأنصار، وأبي حُذيفة بن عتبة ورجل آخر = قال ابن جريج: وقوله:"إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم"، إذ لم يعاقبهم. 8103- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فرّ عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان، وسعد بن عثمان -رجلان من الأنصار- حتى بلغوا الجلْعَب = (1) جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص - فأقاموا به ثلاثًا، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضةً!! (2) 8104- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله:"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" الآية،   (1) "الجلعب" ضبطه البكري بفتح الجيم وسكون اللام وفتح العين، وضبطه ياقوت بفتح الجيم واللام وسكون العين، وقال: وقد تناء بعضهم في الشعر كعادتهم في أمثاله فقال (من أبيات صححتها، ففي مطبوعة معجم البلدان خطأ كثير) : فَمَا فَتِئَتْ ضُبْعُ الجَلَعْبَيْنِ تَعْتَرى ... مَصَارِعَ قَتْلَى فِي التُّرَابِ سِبَالُهَا (2) قوله: "لقد ذهبتم فيها عريضة"، أي واسعة. والضمير في قوله: "فيها" إلى"الأرض"، يقول: لقد اتسعت منادح الأرض في وجوهكم حين فررتم، فأبعدتم المذهب، يتعجب من فعلهم. هذا، ولم أجد الأثر في سيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 والذين استزلهم الشيطان: عثمان بن عفان، وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان، الأنصاريان، ثم الزّرَقَّيان (1) . * * * وأما قوله:"ولقد عفا الله عنهم"، فإن معناه: ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان، أن يعاقبهم بتوليهم عن عدوّهم. كما:- 8105- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"ولقد عفا الله عنهم"، يقول:"ولقد عفا الله عنهم"، إذ لم يعاقبهم. 8106- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله في تولِّيهم يوم أحد:"ولقد عفا الله عنهم"، فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة، أم عفوٌ عن المسلمين كلهم؟. * * * وقد بينا تأويل قوله:"إن الله غفور حليم"، فيما مضى. (2) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاء به محمد من عند الله، لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله، فجحد نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال لإخوانه من أهل الكفر ="إذا ضربوا في الأرض"   (1) الأثر: 8104- لم أجد هذا الأثر أيضًا في سيرة ابن هشام. (2) انظر ما سلف 5: 117، 521. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 فخرجوا من بلادهم سفرًا في تجارة ="أو كانوا غُزًّى"، يقول: أو كان خروجهم من بلادهم غزاةً فهلكوا فماتوا في سفرهم، أو قتلوا في غزوهم ="لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا"، يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار أنهم يقولون لمن غزا منهم فقتل، أو مات في سفر خرج فيه في طاعة الله، أو تجارة: لو لم يكونوا خرجوا من عندنا، وكانوا أقاموا في بلادهم ما ماتوا وما قتلوا ="ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم"، يعني: أنهم يقولون ذلك، كي يجعل الله قولهم ذلك حزنًا في قلوبهم وغمًّا، ويجهلون أن ذلك إلى الله جل ثناؤه وبيده. * * * وقد قيل: إن الذين نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتشبَّهوا بهم فيما نهاهم عنه من سوء اليقين بالله، هم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه. *ذكر من قال ذلك: 8107- حدثني محمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنو لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم" الآية، قال: هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي. 8108- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى"، قول المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول. 8109- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وقال آخرون في ذلك: هم جميع المنافقين. *ذكر من قال ذلك: 8110- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يا أيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم" الآية، أي: لا تكونوا كالمنافقين الذي ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله والضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتوا وما قُتلوا. (1) * * * وأما قوله:"إذا ضربوا في الأرض"، فإنه اختلف في تأويله. (2) فقال بعضهم: هو السفر في التجارة، والسير في الأرض لطلب المعيشة. *ذكر من قال ذلك: 8111- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذا ضربوا في الأرض"، وهي التجارة. * * * وقال آخرون: بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. *ذكر من قال ذلك: 8112- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذا ضربوا في الأرض"، الضربُ في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله. (3) * * * وأصل"الضرب في الأرض"، الإبعاد فيها سيرًا. (4) * * * وأما قوله:"أو كانوا غُزًّى"، فإنه يعني: أو كانوا غزاة في سبيل الله. * * * و"الغزَّى" جمع"غاز"، جمع على"فعَّل" كما يجمع"شاهد""شهَّد"، و"قائل""قول"،. وقد ينشد بيت رؤبة:   (1) الأثر: 8110- سيرة ابن هشام 3: 122، 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8096. (2) انظر تفسير"ضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 106. (3) الأثر: 8112- سيرة ابن هشام 3: 122، 123، وهو بعض الأثر السالف: 8110، وتتمته. (4) انظر تفسير"ضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 106. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 فاليوم قَدْ نَهْنَهِني تَنَهْنُهِي ... وَأوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالمُسَفَّهِ وَقُوَّلٌ: إلا دَهٍ فَلا دَهِ (1) وينشد أيضًا: وقَوْلُهُمْ: إلا دَهٍ فَلا دَهِ * * * * وإنما قيل:"لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى"، فأصحبَ ماضي الفعل، الحرفَ الذي لا يصحب مع الماضي منه إلا المستقبل، فقيل:"وقالوا لإخوانهم"، ثم قيل:"إذا ضربوا"، وإنما يقال في الكلام:"أكرمتك إذْ زرتني"، ولا يقال:"أكرمتك إذا زرتني". لأن"القول" الذي في قوله:"وقالوا لإخوانهم"، وإن كان في لفظ الماضي فإنه بمعنى   (1) ديوانه: 166، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 106، ومشكل القرآن: 438، وجمهرة الأمثال: 23، وأمثال الميداني 1: 38، والخزانة 3: 90، واللسان (قول) (دها) ، وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 24: 66 (بولاق) . وهو من قصيدته التي يذكر فيها نفسه وشبابه، وقد سلفت منها عدة أبيات في مواضع متفرقة. "نهنهت فلانًا عن الشيء فتنهنه"، أي: زجرته فانزجر، وكففته فانكف. و"الأول": الرجوع. يقول: قد كفني عن الصبا طولى عتابي لنفسي وملامتي إياها، ورجوع عقل لا يوصف بالسفه، بعد جنون الشباب، ثم قول الناس: "إلا ده، فلا ده". وقد اختلف في تفسير"إلا ده فلا ده"، اختلاف كثير، قال أبو عبيدة: "يقول إن لم يكن هذا فلا ذا. ومثل هذا قولهم: إن لم تتركه هذا اليوم فلا تتركه أبدًا، وإن لم يكن ذاك الآن، لم يكن أبدًا". وقال ابن قتيبة: "يريدون: إن لم يكن هذا الأمر لم يكن غيره. . . ويروى أهل العربية أن الدال فيه مبدلة من ذال، كأنهم أرادوا: إن لم تكن هذه، لم تكن أخرى". وقال أبو هلال: "قال بعضهم: يضرب مثلا للرجل يطلب شيئًا، فإذا منعه طلب غيره. وقال الأصمعي: لا أدري ما أصله! وقال غيره: أصله أن بعض الكهان تنافر إليه رجلان فامتحناه، فقالا له: في أي شيء جئناك؟ قال: في كذا، قالا: لا! فأعاد النظر وقال: إلا ده فلا ده - أي: إن لم يكن كذا فليس غيره، ثم أخبرهما. . . وكانت العرب تقول، إذا رأى الرجل ثأره: إلا ده فلا ده - أي: إن لم يثأر الآن، لم يثأر أبدًا". ومهما يكن من أصله، فإن رؤبة يريد: زجرني عن ذلك كف نفسي عن الغي، وأوبة حلم أطاره جنون الشباب، وقول ناصحين يقول: إن لم ترعو الآن عن غيك، فلن ترعوى ما عشت! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 المستقبل. وذلك أن العرب تذهب بـ"الذين" مذهب الجزاء، وتعاملها في ذلك معاملة"من" و"ما"، لتقارب معاني ذلك في كثير من الأشياء، وإن جميعهنّ أشياء (1) مجهولات غير موقتات توقيت"عمرو" و"زيد". (2) . فلما كان ذلك كذلك = وكان صحيحًا في الكلام فصيحًا أن يقال للرجل:"أكرمْ من أكرمك""وأكرم كل رجل أكرمك"، فيكون الكلام خارجًا بلفظ الماضي مع"من"، و"كلٍّ"، مجهولَيْنِ ومعناه الاستقبال، (3) إذ كان الموصوف بالفعل غير مؤقت، وكان"الذين" في قوله:"لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض"، غير موقَّتين، (4) = أجريت مجرى"من" و"ما" في ترجمتها التي تذهب مذهب الجزاء، (5) وإخراج صلاتها بألفاظ الماضي من الأفعال وهي بمعنى الاستقبال، كما قال الشاعر في"ما": (6) وإنّي لآتِيكُمْ تَشَكُّرَ مَا مَضَى ... مِنَ الأمْرِ واسْتِيجَابَ مَا كَانَ فِي غَدِ (7) فقال:"ما كان في غد"، وهو يريد: ما يكون في غد. ولو كان أراد الماضي لقال:"ما كان في أمس"، ولم يجز له أن يقول:"ما كان في غد". ولو كان"الذي" موقَّتًا، لم يجز أن يقال ذلك. خطأ أن يقال:"لتُكرِمن   (1) في المطبوعة: "وأن جمعهن أشياء. . ."، وهو خطأ صوابه من المطبوعة. (2) الموقت، والتوقيت: هو المعرفة المحددة، والتعريف المحدد، وهو الذي يعني سماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد، مثل"زيد"، فإنه يعين مسماه تعيينًا مطلقًا، أو محددًا. وانظر ما سلف 1: 181، تعليق: 1 / 2: 339. والمجهول: غير المعروف، وهو النكرة. (3) في المخطوطة والمطبوعة"مع من وكل مجهول"، والصواب ما أثبت، ويعني بقوله"مجهولين": نكرتين. (4) "موقتين" جمع"موقت" بالياء والنون، وهي المعرفة كما سلف. والسياق"وكان الذين.. .. .. غير موقتين"، لأن"الذين" جمع، فوصفها بالجمع. (5) في المخطوطة"التي تذهب الجزاء"، وفي معاني القرآن للفراء 1: 243: "لأن"الذين" يذهب بها إلى معنى الجزاء، من: من، وما". فالتصرف الذي ذهب إليه الناشر الأول صواب جيد جدًا."والترجمة" هنا: التفسير والبيان. (6) هو الطرماح بن حكيم. (7) مضى تخريج البيت وشرحه فيما سلف 2: 351، تعليق: 5. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 هذا الذي أكرمك إذا زرته"، (1) لأن"الذي" ههنا موقّت، فقد خرج من معنى الجزاء، ولو لم يكن في الكلام"هذا"، لكان جائزًا فصيحًا، لأن"الذي" يصير حينئذ مجهولا غير موقت. ومن ذلك قول الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة الحج: 25] فردّ"يصدون" على"كفروا"، لأن"الذين" غير موقتة. فقوله:"كفروا"، وإن كان في لفظ ماض، فمعناه الاستقبال، وكذلك قوله: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سورة مريم: 60] وقوله: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [سورة المائدة: 34] ، معناه: إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم = وإلا من يتوب ويؤمن. ونظائر ذلك في القرآن والكلام كثير، والعلة في كل ذلك واحدة. (2) . * * * وأما قوله:"ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم"، فإنه يعني بذلك: حزنًا في قلوبهم، (3) كما:- 8113- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"في قلوبهم"، قال: يحزنهم قولهم، لا ينفعهم شيئًا. 8114- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 8115- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم"، لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه. (4) * * *   (1) في المطبوعة"خطأ أن يقال لك من هذا الذي. . ." أخطأ قراءة المخطوطة فجعل"لتكرمن""لك من" وهو فاسد، والصواب ما أثبت، وهو الذي يدل عليه السياق. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 243، 244. (3) انظر تفسير"الحسرة" فيما سلف 3: 295 - 299. (4) الأثر: 8115- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8110، 8112. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله يحيي ويميت) والله المعجِّل الموتَ لمن يشاء من حيث يشاء، (1) والمميت من يشاء كلما شاء، دون غيره من سائر خلقه. وهذا من الله عز وجل ترغيبٌ لعباده المؤمنين على جهاد عدوه والصبر على قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله = وإعلامٌ منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده، وأنه لن يموت أحدٌ ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له = ونهيٌ منه لهم، إذ كان كذلك، أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين. * * * ثم قال جل ثناؤه:"والله بما تعملون بصيرٌ"، يقول: إن الله يرى ما تعملون من خير وشر، فاتقوه أيها المؤمنون، إنه محصٍ ذلك كله، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال ابن إسحاق. 8116- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله يحيي ويميت"، أي: يعجل ما يشاء، ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته. (2) * * *   (1) أخشى أن يكون سقط من الناسخ بعض تفسير الآية، وكأنه كان: "والله المؤخر أجل من يشاء من حيث شاء، وهو المعجل. . ."، وانظر الأثر الآتي رقم: 8116. (2) الأثر: 8116- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8115. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) } قال أبو جعفر: يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين، يقول لهم: (1) لا تكونوا، أيها المؤمنون، في شك من أن الأمور كلها بيد الله، وأن إليه الإحياء والإماتة، كما شك المنافقون في ذلك، ولكن جاهدوا في سبيل الله وقاتِلوا أعداء الله، على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمةَ، وأخبرهم أن موتًا في سبيل الله وقتلا في الله، (2) خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حُطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله، ويتأخرون عن لقاء العدو، كما:- 8117- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون"، أي: إن الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله أو قتل، خير = لو علموا فأيقنوا = مما يجمعون في الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد، تخوفًا من الموت والقتل لما جمعوا من زَهرة الدنيا، وزهادةً في الآخرة. (3) . * * * قال أبو جعفر: وإنما قال الله عز وجل:"لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون"، وابتدأ الكلام:"ولئن متم أو قتلتم" بحذف جواب"لئن"، (4) لأن في قوله:   (1) في المطبوعة: "فخاطب"، وأثبت صوابها من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "وقتلا" وأثبت ما في المخطوطة، وهو أجود. (3) الأثر: 8117- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8116. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "لما جمعوا من زهيد الدنيا" وهو تحريف، والصواب من سيرة ابن هشام. وزهرة الدنيا: حسنها وبهجتها وغضارتها، وكثرة خيرها، ورغيد عيشها. وفي سيرة ابن هشام: "زهادة في الآخرة"، بغير واو. (4) في المطبوعة والمخطوطة"بحذف جزاء لئن"، وهو خطأ بين وتصحيف من الناسخ، سقطت منه باء"جواب" فكتب"جزاء". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 "لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون" معنى جواب للجزاء، (1) وذلك أنه وَعدٌ خرج مخرج الخبر. * * * فتأويل الكلام: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم، ليغفرن الله لكم وليرحمنّكم = فدلّ على ذلك بقوله:"لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون"، وجمع مع الدلالة به عليه، الخبَرَ عن فضل ذلك على ما يؤثرونه من الدنيا وما يجمعون فيها. * * * وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة، أنه إن قيل: كيف يكون:"لمغفرة من الله ورحمة" جوابًا لقوله:"ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم"؟ فإن الوجه فيه أن يقال فيه كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم فذلك لكم رحمة من الله ومغفرة، إذ كان ذلك في سبيلي، (2) فقال:"لمغفرة من الله ورحمة،" يقول: لذلك خير مما تجمعون، يعني: لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون. * * * ودخلت اللام في قوله:"لمغفرة من الله"، لدخولها في قوله: و"لئن"، كما قيل: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ) [سورة الحشر: 12] * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "معنى جواز للجزاء"، وهو تصحيف لا معنى له، والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن [القول] فيه أن يقال فيه: كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم [فذكر لهم] رحمة من الله ومغفرة، إذا كان ذلك في [السبيل] "، وقد وضعت الكلمات التي استبدلت بها غيرها بين أقواس. وهذه الجملة التي في المطبوعة والمخطوطة لا يكاد يكون لها معنى. فالكلمة الأولى"القول" لا شك في خطئها، وصوابها ما أثبت. أما "فذكر لهم"، فإني أظن أن الناسخ قد أخطأ قراءة المخطوطة القديمة التي نقل عنها فقرأ"فذلك لكم""فذكر لهم" وأما "السبيل"، ففي المخطوطة ضرب خفيف على ألف"السبيل"، فرجحت قراءتها كما أثبت. وهو حق المعنى، فاستقامت هذه الجملة مع ما بعدها، والحمد لله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 القول في تأويل قوله: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولئن متم أو قتلتم، أيها المؤمنون، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم، فيجازيكم بأعمالكم، فآثروا ما يقرّبكم من الله ويوجب لكم رضاه، ويقربكم من الجنة، من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته، على الركون إلى الدنيا وما تجمعون فيها من حُطامها الذي هو غير باقٍ لكم، بل هو زائلٌ عنكم، وعلى ترك طاعة الله والجهاد، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم، ويوجب لكم سخطه، ويقرِّبكم من النار. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق: 8118- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولئن متم أو قتلتم"، أيُّ ذلك كان ="لإلى الله تحشرون"، أي: أن إلى الله المرجع، فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا تغتروا بها، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه، آثر عندكم منها. (1) * * * وأدخلت"اللام" في قوله:"لإلى الله تحشرون"، لدخولها في قوله:"ولئن". ولو كانت"اللام" مؤخرة إلى قوله:"تحشرون"، لأحدثت"النون" الثقيلة فيه، كما تقول في الكلام:"لئن أحسنتَ إليّ لأحسننَّ إليك" بنون مثقّلة. فكان كذلك قوله: ولئن متم أو قتلتم لتحشرن إلى الله، ولكن لما حِيل بين"اللام" وبين"تحشرون" بالصفة، (2) أدخلت في الصفة، وسلمت"تحشرون"،   (1) الأثر: 8118- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8117. (2) في المطبوعة: "لما حيز بين اللام. . ."، وفي المخطوطة: "ولما حين. . ."، وصواب قراءتها ما أثبت. و"الصفة" حرف الجر، انظر ما سلف 1: 299، تعليق: 1، وسائر فهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 فلم تدخلها"النون" الثقيلة، كما تقول في الكلام:"لئن أحسنتَ إليّ لإليك أحسن"، بغير"نون" مثقلة. * * * القول في تأويل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فبما رحمة من الله"، فبرحمة من الله، و"ما" صلة. (1) وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [سورة البقرة: 26] . (2) والعرب تجعل"ما" صلة في المعرفة والنكرة، كما قال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) [سورة النساء: 155\ سورة المائدة: 13] ، والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وهذا في المعرفة. وقال في النكرة: (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) [سورة المؤمنون: 40] ، والمعنى: عن قليل. وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة، فيرفع ما بعدها أحيانًا على وجه الصلة، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر: (3) فَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا ... حُبُّ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا (4) إذا جعلت غير صلة رفعتَ بإضمار"هو"، وإن خفضت أتبعت"من"، (5) فأعربته. فذلك حكمه على ما وصفنا مع النكرات.   (1) "الصلة"، الزيادة، انظر ما سلف 1: 190 / 405، تعليق: 4 / 406 / 548، ثم فهرس المصطلحات في سائر الأجزاء. (2) انظر ما سلف 1: 404، 405. (3) هو حسان بن ثابت، أو كعب بن مالك، أو غيرهما، انظر ما سلف 1: 404 تعليق: 5. (4) سلف تخريج البيت في 1: 404، تعليق: 5. (5) وذلك أن"من" و"ما" حكمهما في هذا واحد، كما سلف في 1: 404. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 فأما إذا كانت الصلة معرفة، كان الفصيح من الكلام الإتباع، كما قيل:"فبما نقضهم ميثاقهم"، والرفع جائز في العربية. (1) * * * وبنحو ما قلنا في قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم"، قال جماعة من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 8119- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم"، يقول: فبرحمة من الله لنت لهم. * * * وأما قوله:"ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، فإنه يعني بـ"الفظ" الجافي، وبـ"الغليظ القلب"، القاسي القلب، غير ذي رحمة ولا رأفة. وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله به: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: 128] . * * * فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك ="لنت لهم"، لتبَّاعك وأصحابك، فسُهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمَه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم. كما:- 8120- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، إي والله، لطهَّره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبًا رحيما بالمؤمنين رءوفًا = وذكر لنا أن نعت محمد صلى   (1) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 244، 245. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 الله عليه وسلم في التوراة:"ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح". 8121- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه. 8122- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، قال: ذكر لينه لهم وصبره عليهم = لضعفهم، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه = في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيِّهم. (1) * * * وأما قوله:"لانفضوا من حولك"، فإنه يعني: لتفرقوا عنك. كما:- 8123- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح قال، قال ابن عباس: قوله:"لا نفضوا من حولك"، قال: انصرفوا عنك. 8124- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"لانفضوا من حولك"، أي: لتركوك. (2) * * *   (1) الأثر: 8122- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: 8118، وهو في السيرة تال للأثر الآتي رقم: 24: 8. (2) الأثر: 8124- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8122، ولكنه سابق له في سيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 القول في تأويل قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فاعف عنهم"، فتجاوز، يا محمد، عن تُبَّاعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم ومكروهٍ في نفسك ="واستغفر لهم"، وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جُرْم، واستحقوا عليه عقوبة منه. كما:- 8125- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فاعف عنهم"، أي: فتجاوز عنهم ="واستغفر لهم"، ذنوبَ من قارف من أهل الإيمان منهم. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟ فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:"وشاورهم في الأمر"، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو، تطييبًا منه بذلك أنفسَهم، وتألّفًا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه = بتدبيره له أمورَه، وسياسته إيّاه وتقويمه أسبابه = عنهم. *ذكر من قال ذلك: 8126- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"،   (1) الأثر: 8125- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8124، ولكنه تال للأثر رقم: 8122 في سياق السيرة. وفي سيرة ابن هشام: "ذنوبهم من قارف"، ولكن طابع السيرة جعل"ذنوبهم" من الآية، فحصرها بين أقواس مع لفظ الآية!! وهو عجب! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم = وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضًا وأرادوا بذلك وجه الله، عزم لهم على أرشدِه. 8127- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وشاورهم في الأمر"، قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء، لأنه أطيب لأنفسهم. 8128- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وشاورهم في الأمر"، أي: لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم، وإن كنت عنهم غنيًّا، تؤلفهم بذلك على دينهم. (1) * * * وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك. ليبين له الرأي وأصوبَ الأمور في التدبير، (2) لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضْل. *ذكر من قال ذلك: 8129- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: ما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة، إلا لما علم فيها من الفضل. 8130- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن إياس بن دغفل، عن الحسن: ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم. (3) * * * وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمرَه بمشاورتهم فيه، مع   (1) الأثر: 8128- سيرة ابن هشام 3: 123، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8125. (2) في المطبوعة: "بل أمره بذلك في ذلك وإن كان له الرأي وأصوب الأمور. . ."، لم يستطع الناشر أن يحسن قراءة المخطوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. (3) الأثر: 8130-"إياس بن دغفل الحارثي، أبو دغفل"، روي عن الحسن، وأبي نضرة وعطاء وغيرهم، وروى عنه معتمر بن سليمان، وأبو داود الطيالسي، وأبو عامر العقدي. وهو ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنُّوا بسنَّته في ذلك، ويحتذوا المثالَ الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورتَه في أموره = مع المنزلة التي هو بها من الله = أصحابَهُ وتبَّاعَهُ في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم، (1) فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم. لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يُخْلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه. قالوا: وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الإيمان: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [سورة الشورى: 38] . *ذكر من قال ذلك: 8131- حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري قال، قال سفيان بن عيينة في قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: هي للمؤمنين، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان = وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها، (2) ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك، على تصادُقٍ وتأخٍّ للحق، (3) وإرادةِ   (1) قوله: "أصحابه وتباعه" منصوب مفعول لقوله: "من مشاورته في أموره. . ." (2) في المطبوعة: "ما في الأمور"، والصواب ما في المخطوطة، ولكن الناشر الأول لم يحسن قراءتها. يريد: الوجه الذي تؤتى منه الأمور وتطلب. (3) "توخى الأمر": تحراه وقصده ويممه، ثم تقلب واوه ألفًا فيقال"تأخيت الأمر"، والشافعي رضي الله عنه يكثر من استعمالها في كتبه كذلك. ثم انظر تعليق أخي السيد أحمد، على رسالة الشافعي ص: 504، تعليق: 2. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حَيْد عن هدى، فالله مسدِّدهم وموفِّقهم. * * * وأما قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، فإنه يعني: فإذا صحِّ عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك، أو خالفها ="وتوكل"، فيما تأتي من أمورك وتدع، وتحاول أو تزاول، على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم ="فإن الله يحب المتوكلين"، وهم الراضون بقضائه، والمستسلمون لحكمه فيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه. كما:- 8132- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فإذا عزمت فتوكل على الله إنّ الله يحب المتوكلين" ="فإذا عزمت"، أي: على أمر جاءك مني، أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك، فامض على ما أمرتَ به، على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك = و"توكل على الله"، (1) أي: ارضَ به من العباد ="إن الله يحب المتوكلين". (2) 8133- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيمَ على أمر الله، ويتوكل على الله. 8134- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله"، الآية، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه. * * *   (1) هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة وسيرة ابن هشام: "وتوكل" بالواو، وهو جائز، لأنه في سياق التفسير، وأما الآية فهي"فتوكل" بالفاء، فلذلك جعلت الواو خارج القوس. (2) الأثر: 8132- سيرة ابن هشام 3: 123، 124، وهو من تمام الآثار التي آخرها: 8128. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 القول في تأويل قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن ينصركم الله"، أيها المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه والكافرين به ="فلا غالب لكم" من الناس، يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم مَن بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر، دونهم ="وإن يخذُلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده"، يعني: إن يخذلكم ربكم بخلافكم أمره وترككم طاعته وطاعة رسوله، فيكلكم إلى أنفسكم ="فمن ذا الذي ينصركم من بعده"، يقول: فأيسوا من نصرة الناس، (1) فإنكم لا تجدون [ناصرًا] من بعد خذلان الله إياكم إن خذلكم، (2) يقول: فلا تتركوا أمري وطاعتي وطاعة رسولي فتهلكوا بخذلاني إياكم ="وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، يعني: ولكن على ربكم، أيها المؤمنون، فتوكلوا دون سائر خلقه، وبه فارضوا من جميع من دونه، ولقضائه فاستسلموا، وجاهدوا فيه أعداءه، يكفكم بعونه، ويمددكم بنصره. كما:- 8135- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن ينصركم   (1) أيست من الشيء آيس يأسًا، لغة في"يئست منه أيأس يأسًا"، وقد سلف مثل ذلك في موضع آخر لم أجده الآن. (2) في المطبوعة: "فإنكم لا تجدون امرءًا من بعد خذلان الله"، وفي المخطوطة: "لا تجدون أمرًا"، ولم أجد لهما معنى أرتضيه، فوضعت"ناصرًا" مكان"أمرًا" بين القوسين، استظهارًا من معنى الآية، وإن كنت أخشى أن يكون قد سقط من الناسخ شيء، أو كتبت شيئًا مصحفًا لم أهتد لأصله. وانظر سهو الناسخ في التعليق التالي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، أي: إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس = لن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس ="فمن الذي ينصركم من بعده"، أي: لا تترك أمري للناس، وارفض [أمر] الناس لأمري، وعلى الله، [لا على الناس] ، فليتوكل المؤمنون. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) ، بمعنى: أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم. واحتجَّ بعض قارئي هذه القراءة: أنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطيفة فُقدت من مغانم القوم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم:"لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها! "، ورووا في ذلك روايات، فمنها ما:- 8136- حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا مقسم قال، حدثني ابن عباس: أن هذه الآية:"وما كان لنبيّ أن يغل"، نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، قال: فقال بعض الناس: أخذها! قال: فأكثروا في ذلك، فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبي أن يغل ومن يغلُل يأت بما غل يوم القيامة". (2) 8137- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا   (1) الأثر: 8135- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8132، بيد أنه في سيرة ابن هشام مختصر. لم يرو ابن هشام صدر هذا الخبر، بل بدأ من قوله: "أي: لا تترك"، وقد أخطأ الناسخ فيما أرجح فسقط منه ما أثبت من سيرة ابن هشام بين الأقواس. (2) الأثر: 8136-"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب القرشي الأموي"، روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال النسائي: "لا بأس به"، وهو ثقة جليل صدوق. و"عبد الواحد بن زياد العبدي" أحد الأعلام سلفت ترجمته في: 2616. و"خصيف بن عبد الرحمن الجزري"، رأى أنسًا، وروي عن عطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومقسم وغيرهم. قال أحمد"ضعيف الحديث"، وقال: "شديد الاضطراب في المسند". وقال ابن عدي: "إذا حدث عن خصيف ثقة، فلا بأس بحديثه". وقال ابن حبان: "تركه جماعة من أئمتنا واحتج به آخرون، وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروى، وينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف فيه، قبول ما وافق الثقات، وترك ما لم يتابع عليه". مترجم في التهذيب. والحديث رواه الترمذي في باب تفسير القرآن، من طريق قتيبة، عن عبد الواحد بن زياد، بمثله وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وقد روى عبد السلام بن حرب عن خصيف نحو هذا، وروى بعضهم هذا الحديث عن خصيف عن مقسم، ولم يذكر فيه ابن عباس" - يعني مرسلا. ونسبه ابن كثير في تفسيره 2: 279، إلى أبي داود أيضًا، ونسبه السيوطى في الدر المنثور 2: 91 إلى أبي داود، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والترمذي، وابن جرير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 خصيف قال، سألت سعيد بن جبير: كيف تقرأ هذه الآية:"وما كان لنبي أن يغُل" أو:"يُغَل"؟ قال: لا بل"يَغُل"، فقد كان النبي والله يُغَل ويقتل. 8138- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس:"وما كان لنبي أن يغل"، قال: كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر، فقال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فلعل النبي أخذها"! فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبي أن يغُل" = [قال سعيد: بلى والله، إنّ النبي ليُغَلّ ويُقتل] . (1) 8139- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خلاد، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قطيفة فقدت يوم بدر، فقالوا:"أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم! ". فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبيّ أن يغُلّ".   (1) الأثر: 8138-"عتاب بن بشير الجزري". روي عن خصيف وغيره. قال أحمد: "أرجو أن لا يكون به بأس، روى بأخرة أحاديث منكرة، وما أرى إلا أنها من قبل خصيف". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "بل والله"، والصواب ما أثبت من المخطوطة، وأما قوله في آخر الأثر: "قال سعيد:. . ."، فإني تركته مكانه هنا، ولكني أرجح أنه من تمام الأثر التالي رقم: 8140، فوضعته بين القوسين. هذا، إذا لم يكن قد سقط من الناسخ أثر آخر من رواية سعيد بن جبير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 8140- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مالك بن إسماعيل قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة في قوله:"وما كان لنبي أن يغل"، قالا يغُل = قال قال عكرمة أو غيره، عن ابن عباس، قال = كانت قطيفة فقدت يوم بدر، فقالوا: أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم"! قال: فأنزل الله هذه الآية:"وما كان لنبي أن يغل". 8141- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا قزعة بن سويد الباهلي، عن حميد الأعرج، عن سعيد بن جبير قال: نزلت هذه الآية:"وما كان لنبي أن يغل"، في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنيمة. (1) 8142- حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن سليمان الأعمش قال: كان ابن مسعود يقرأ: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) ، فقال ابن عباس: بلى، ويُقْتَل = قال: فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَلَّها، يوم بدر. فأنزل الله:"وما كان لنبيّ أن يَغُل". * * * وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك، بفتح"الياء" وضم"الغين": إنما نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجَّههم في وجه، ثم غنم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز وجل هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ، وأنّ الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم، ويعرِّفه الواجبَ عليه من الحكم فيما   (1) الأثر: 8141-"قزعة بن سويد بن حجير الباهلي"، روى عن أبيه، وحميد بن قيس الأعرج، وابن أبي مليكة، وابن أبي نجيح وغيرهم. قال أحمد: "مضطرب الحديث، وهو شبه المتروك". وقال أبو حاتم: "ليس بذاك القوى"، وقال ابن حبان: "كان كثير الخطأ فاحش الوهم، فلما كثر ذلك في روايته سقط الاحتجاج بأخباره". وقال البزار: "لم يكن بالقوي، حدث عنه أهل العلم". مترجم في التهذيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 أفاء الله عليه من الغنائم، وأنه ليس له أن يخصّ بشيء منها أحدًا ممن شهد الوقعة - أو ممن كان رِدْءًا لهم في غزوهم - دون أحد. (1) *ذكر من قال ذلك: 8143- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة"، يقول: ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القَسْم، ولكن يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله، ويحكم فيه بما أنزل الله. يقول: ما كان الله ليجعل نبيًّا يغلُّ من أصحابه، فإذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استنُّوا به. (2) 8144- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: أنه كان يقرأ:"ما كان لنبي أن يغلَّ"، قال: أن يعطي بعضًا، ويترك بعضًا، إذا أصاب مغنمًا. 8145- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز وجل:"وما كان لنبيّ أن يغل". 8146- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"ما كان لنبي أن يغل"، يقول: ما كان لنبيّ أن يقسم لطائفة من أصحابه ويترك طائفة، ولكن يعدل ويأخذ في ذلك بأمر الله عز وجل، ويحكم فيه بما أنزل الله. 8147- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا   (1) الردء (بكسر فسكون) : الناصر والمعين. (2) الأثر: 8143- هذا إسناد دائر في التفسير، وانظر الكلام فيه برقم: 305. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 جويبر، عن الضحاك في قوله:"ما كان لنبي أن يغل"، قال: ما كان له إذا أصاب مغنمًا أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضًا، ولكن يقسم بينهم بالسوية. * * * وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح"الياء" وضم"الغين": إنما أنزل ذلك تعريفًا للناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يكتم من وحي الله شيئًا. *ذكر من قال ذلك: 8148- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان لنبيّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون"، أي: ما كان لنبيّ أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة. (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك: ما ينبغي لنبي أن يكون غالا - بمعنى أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم. * * * يقال منه:"غلّ الرجل فهو يغُلُّ"، إذا خان،"غُلولا". ويقال أيضًا منه:"أغلَّ الرجل فهو يُغِلُّ إغلالا"، كما قال شريح:"ليس على المستعير غير المغِلِّ ضمَان"، يعني: غير الخائن. ويقال منه:"أغلّ الجازر"، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. (2) * * * وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 8149- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا   (1) الأثر: 8148- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8135، وفي بعض لفظه اختلاف يسير. (2) يعني عند سلخ الذبيحة، يسلخها فيترك شيئًا من اللحم ملتزقًا بإهابها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 أسباط، عن السدي:"ما كان لنبي أن يغل"، يقول: ما كان ينبغي له أن يخون، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تخونوا. 8150- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ما كان لنبي أن يغل"، قال: أن يخون. * * * وقرأ ذلك آخرون: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) بضم"الياء" وفتح"الغين"، وهي قراءة عُظم قرأة أهل المدينة والكوفة. * * * واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم: معناه: ما كان لنبي أن يَغُلّه أصحابه، ثم أسقط"الأصحاب"، فبقي الفعل غير مسمًّى فاعله. وتأويله: وما كان لنبيّ أن يُخان. *ذكر من قال ذلك: 8151- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه كان يقرأ:"وما كان لنبيّ أن يُغَل" قال عوف، قال الحسن: أن يخان. 8152- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كان لنبي أن يغل"، يقول: وما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين - ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد غَلَّ طوائف من أصحابه. 8153- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"وما كان لنبي أن يُغَل"، قال: أن يغله أصحابه. 8154- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما كان لنبي أن يُغَلَّ"، قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 الربيع بن أنس، يقول: ما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه - قال: ذكر لنا، والله أعلم: أن هذه الآية أنزلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد غَلّ طوائف من أصحابه. * * * وقال آخرون منهم: معنى ذلك: وما كان لنبي أن يتهم بالغلول فيخوَّن ويسرَّق. وكأن متأولي ذلك كذلك، وجَّهوا قوله:"وما كان لنبي أن يغل" إلى أنه مراد به:"يغَلَّل"، ثم خففت"العين" من"يفعَّل"، فصارت"يفعل" كما قرأ من قرأ قوله: (فإنهم لا يكذبونك) [سورة الأنعام: 33] بتأوُّل: يُكَذِّبُونَك. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) بمعنى: ما الغلول من صفات الأنبياء، ولا يكون نبيًّا من غلَّ. وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أوعد عقيب قوله:"وما كان لنبي أن يغل" أهلَ الغلول فقال:"ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"، الآية والتي بعدها. فكان في وعيده عقيب ذلك أهلَ الغلول، الدليلُ الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله:"وما كان لنبيّ أن يغلّ". لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول، لعقَّب ذلك بالوعيد على التُّهَمة وسوء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بالوعيد على الغلول. وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول، بيانٌ بيِّنٌ، أنه إنما عرّف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتفٍ من صفة الأنبياء وأخلاقهم، لأنّ ذلك جرم عظيم، والأنبياء لا تأتي مثله. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك: فأولى منه (1) "وما كان لنبي أن يخونه أصحابه"، إن كان ذلك كما ذكرت، (2) ولم يعقّب الله قوله:"وما كان لنبي أن يغل" إلا بالوعيد على الغلول، ولكنه إنما وجب الحكمُ بالصحة لقراءة من قرأ:"يغل" بضم"الياء" وفتح"الغين"، لأن معنى ذلك: وما كان للنبي أن يغله أصحابه، فيخونوه في الغنائم؟ قيل له: أفكان لهم أن يغلوا غير النبي صلى الله عليه وسلم فيخونوه، حتى خُصوا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن قالوا:"نعم"، خرجوا من قول أهل الإسلام. لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط. وإن قال قائل: لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره. قيل: فما وجه خصوصهم إذًا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم، وغُلوله وغُلول بعض اليهود بمنزلةٍ فيما حرم الله على الغالِّ من أموالهما، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما؟ وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا، من أن الله عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه، ناهيًا بذلك عبادَه عن الغلول، وآمرًا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية، (3) ثم عقَّب تعالى ذكره نهيَهم عن الغلول بالوعيد عليه فقال:"ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"، الآيتين معًا. * * *   (1) قوله: "فأولى منه"، أي فأولى من المذهب الذي ذهبت إليه في قراءة الآية وتفسيرها = يقوله هذا القائل، ردًا على أبي جعفر. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "إن ذلك كما ذكرت" سقط من الناسخ"كان" فأثبتها، لأن هذا هو حق المعنى الذي أراده أبو جعفر في سياق قول من رد عليه قوله. (3) يعني الأثر: 8143، "وعطية" المذكور، هو"عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، الذي روى عن ابن عباس، وهو المذكور في الإسناد السالف"عن أبيه". وقد أشكل ذلك على بعض من علق على التفسير، فقال: لم يمض لعطية هذا ذكر!! ولكنه مذكور كما ترى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ومن يخُن من غنائم المسلمين شيئًا وفيئهم وغير ذلك، يأت به يوم القيامة في المحشر. كما:- 8155- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قام خطيبًا فوعظ وذكَّر ثم قال: ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، (1) يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ لها حمحمة، (2) يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ، (3) يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار (4) ، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك! ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقاع تخفِق   (1) "الثغاء": صوت الشاء والمعز والظباء وما شاكلها."ثغت الشاة تثغو": صاحت. يقال: "ماله ثاغية ولا راغية"، الثاغية: الشاء: والراغية: الإبل. (2) الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل، كالذي يكون منه إذا طلب العلف، أو رأى صاحبه الذي كان ألفه، فاستأنس إليه. (3) الصامت هو الذهب والفضة، أو ما لا روح فيه من أصناف المال. يقال: "ما له صامت ولا ناطق". فالناطق: الحيوان، كالإبل والغنم وغيرها. (4) "الخوار": صوت الثور، وما اشتد من صوت البقرة والعجل."خار الثور يخور". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 يقول: (1) يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك! (2) 8156- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبي حيّان، عن أبى زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل هذا = زاد فيه   (1) "الرقاع" جمع رقعة: وهو الخرقة، و"تخفق" تضطرب وتلمع إذا حركتها الرياح، أو إسراع حاملها. يريد الثياب التي يغلها الغال مما يختطفه من الغنائم. وقد فسره كثير من الشراح بأنه أراد الرقاع المكتوبة التي تكون فيها الحقوق والديون، وخفوقها حركتها، وأرجح القولين ما قدمت منهما. (2) الحديث: 8155- أبو حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء التحتية- يحيى بن سعيد ابن حيان التيمي: مضت ترجمته: 5382. ووقع في المطبوعة في الإسنادين التاليين لهذا"أبو حبان" بالباء الموحدة، وهو خطأ. ووقع هنا في المخطوطة: "عن يحيى بن سعيد، عن أبي حيان". وهو خطأ. فإن"أبا حيان": اسمه"يحيى بن سعيد" - كما ذكرنا. ومحمد بن فضيل بن غزوان سمع منه، ويروى عنه مباشرة، كما هو ثابت في ترجمتهما. نعم: إن"يحيى بن سعيد القطان" روى هذا الحديث عن"أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي"، كما سيأتي في التخريج - ولكن ليس في هذا الإسناد. أبو زرعة - بضم الزاي وسكون الراء: هو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي. وهو تابعي ثقة، من علماء التابعين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 243 - 244، فيمن اسمه"هرم"، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 265 - 266، فيمن اسمه"عبد الرحمن"، لاختلافهم في اسمه. والظاهر أن اسمه كنيته. ووقع في المطبوعة، في الرواية الآتية: 8157-"عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير"، وهو تحريف، صوابه"بن" بدل"عن". والحديث سيأتي عقب هذا بإسنادين: من طريق عبد الرحمن، عن أبي حيان، ومن طريق ابن علية، عن أبي حيان. ورواه أحمد في المسند: 9499 (ج2: ص: 426 حلبي) . عن إسماعيل -وهو ابن علية- عن أبي حيان. ورواه مسلم 2: 83، عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن علية، به. ورواه البخاري 6: 129 (فتح) ، عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان، عن أبي حيان وهو يحيى بن سعيد التيمي. ورواه مسلم أيضا بأسانيد. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 101 بأسانيد. وروى البخاري قطعة منه، ضمن حديث، من وجه آخر 3: 213 (فتح) . وذكره ابن كثير 2: 281، من رواية المسند، ثم قال: "أخرجاه من حديث أبي حيان، به" يريد الشيخين. وذكره السيوطى 2: 92، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والبيهقي في الشعب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 "لا ألفين أحدكم على رقبته نفسٌ لها صياح". (1) 8157- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيّان، عن أبي زرعة، بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا يومًا، فذكر الغُلول، فعظَّمه وعظَّم أمره فقال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني = (2) ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن عبد الرحمن. (3) 8158- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بشر، عن يعقوب القمي قال، حدثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أعرفَنّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد! يا محمد! (4) فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رُغاء يقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك! ولا أعرفنَّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسًا له حمحمة ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك! ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قِشْعًا من أَدَمٍ، (5)   (1) الحديث: 8156- هو تكرار للحديث السابق. ولكن"عبد الرحمن" - في هذا الإسناد: لم أستطع أن أجزم فيه بشيء. وأخشى أن يكون محرفًا عن"عبد الرحيم"، فيكون: "عبد الرحيم بن سليمان الأشل"، فهو الذي يروى عن أبي حيان، ويروى عنه"أبو كريب". وهو راوي هذا الحديث - رواه مسلم 2: 83، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سليمان. قوله: "نفس لها صياح"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وكأنه أراد بالنفس، ما يغله من الرقيق، من امرأة أو صبي". (2) "الرغاء": صوت ذوات الخف كالإبل، وقد يستعار لغيره: "رغا البعير يرغو". (3) الحديث: 8157- هو تكرار للحديثين قبله. وقوله في آخره"ثم ذكر نحو حديث أبي كريب عن عبد الرحمن" أخشى أن يكون محرفًا، وأن صوابه"عن عبد الرحيم"، كما بينا من قبل. (4) قوله: "لا أعرفن" قد سلف أن بينت في التعليق على الأثر: 8011، ص: 286 تعليق: 4، والأثر: 8025، أنها كلمة تقال عند التهديد والوعيد والزجر الشديد، وستأتي أيضًا في رقم: 8160 بعد. (5) "القشع": هو النطع الخلق من الجلد، وهو الفرو الخلق أيضًا. وقال ابن الأثير: أراد القربة البالية. و"الأدم" جمع أديم: وهو الجلد. وفي المطبوعة والمخطوطة وابن كثير"قسما"، خطأ محض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلغتك. (1) 8159- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط بن محمد قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن عبد الله بن ذكوان، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد قال، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا فجاء بسوادٍ كثير، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقبضه منه. فلما أتوه جعل يقول: هذا لي، وهذا لكم. قال فقالوا: من أين لك هذا؟ قال: أهدي إليّ! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، فخرج فخطب فقال:"أيها الناس، ما بالي أبعث قومًا إلى الصدقة، فيجيء أحدهم بالسواد الكثير، (2) فإذا بعثت من يقبضه قال:"هذا لي، وهذا لكم"! فإن كان صادقًا أفلا أهدي له وهو في بيت أبيه أو في بيت أمه؟ " ثم قال:"أيها الناس، من بعثناه على عمل فغَلَّ شيئًا، جاء به يوم القيامة على عنقه يحمله، فاتقوا الله أن يأتي أحدكم يوم القيامة على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة تخور، أو شاة تثغو". (3) 8160- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له"ابن الأتْبِيَّة" على صدقات   (1) الحديث: 8158- حفص بن بشر، ويعقوب بن عبد الله القمي، مضيا في: 4842. حفص بن حميد القمي أبو عبيد: مترجم في التهذيب، وعند ابن أبي حاتم 1 / 2 / 171. وهو ثقة، وثقه النسائي وغيره. وقال ابن معين: "صالح". وجهله ابن المديني، ولئن جهله لقد عرفه غيره. وهذا إسناد صحيح. والحديث ذكره ابن كثير 2: 280، عن هذا الموضع من الطبري. وقال: "لم يروه أحد من أهل الكتب الستة". ولم أجده في موضع آخر مما بين يدي من المراجع، حتى السيوطي لم يذكره في الدر المنثور. (2) "السواد" العدد الكثير من المال، سمى بذلك لأن الإبل والغنم وغيرها إذا جاءت كثيرة مجتمعة، ترى كأنها سواد في خافق الأرض. يقال: "لفلان سواد كثير"، أي مال كثير من إبل وغنم وغيرها. ويقال للشخص الذي يرى من بعيد"سواد"، وفي الحديث: "إذا رأى أحدكم سوادًا بليل، فلا يكن أجبن السوادين، فإنه يخافك كما تخافه"، يعني بالسواد الشخص. (3) انظر التعليق على رقم: 8161. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 بني سليم، فلما جاء قال:"هذا لكم، وهذا هدية أهديت لي". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا يجلس أحدكم في بيته فتأتيه هديته! ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال:"أما بعد، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيقول أحدهم: هذا الذي لكم، وهذا هدية أهديت إليّ! أفلا يجلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فتأتيه هديته؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدكم من ذلك شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، فلا أعرفنَّ ما جاء رجل يحمل بعيرًا له رغاء، (1) أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر! (2) ثم رفع يده فقال:"ألا هل بلغت"؟ 8161- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد، حدثه بمثل هذا الحديث = قال: أفلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك؟ ثم رفع يده حتى إني لأنظر إلى بياض إبطيه، ثم قال:"اللهم هل بلغت؟ "= قال أبو حميد: بَصَرُ عيني وسَمْعُ أذني. (3) 8162- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن موسى بن جبير حدثه: أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه: أن عبد الله بن أنيس حدثه: أنه تذاكر هو وعمر يومًا الصدقة فقال: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر   (1) قوله: "فلا أعرفن"، انظر التعليق السالف ص: 358 تعليق: 4. (2) يعرت العنز تيعر (مثل فتح يفتح) يعارًا (بضم الياء) : صوتت صوتًا شديدًا. وكان في المطبوعة: "تثغو"، وهو وإن كان صوابًا في المعنى، فهو خطأ في الرواية، صوابه من المخطوطة، ومن رواية الحديث كما ترى في التخريج. (3) الأحاديث: 8159 - 8161، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. وعبد الرحيم - في ثالثها هو ابن سليمان الأشل. والحديث رواه أحمد في المسند 5: 423 - 424 (حلبي) ، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعدي، بنحوه. وكذلك رواه البخاري 13: 144 - 146، ومسلم 2: 83 - 84، من طريق سفيان بن عيينة. ورواه البخاري أيضًا في مواضع أخر. ورواه مسلم -عقب تلك الرواية- من أوجه أخر، منها من طريق عبد الرحيم بن سليمان. وذكره ابن كثير: 2: 280 - 281، من رواية المسند، ثم قال: "أخرجاه (يعني الشيخين) ، من حديث سفيان بن عيينة. . . ومن غير وجه عن الزهري، ومن طرق عن هشام بن عروة - كلاهما عن عروة، به". قوله: "بصر عيني، وسمع أذني" اختلفوا في ضبطه، فروى على أنه فعل"بصر" (بفتح الباء وضم الصاد""وسمع" فعل. وروى"بصر، وسمع" اسمان. يراد به: "أعلم هذا الكلام يقينًا، أبصرت عيني النبي صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، وسمعته أذني فلا شك في علمي به"، كما قال النووي في شرح مسلم 12: 220، 221. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 غلول الصدقة:"من غل منها بعيرًا أو شاة، فإنه يحمله يوم القيامة"؟ قال عبد الله بن أنيس: بلى. (1) 8163- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدِّقًا، فقال: إياك، يا سعد، أنْ تجيء يوم القيامة ببعير تحمله رغاء! قال: لا آخذه ولا أجئ به! فأعفاه. (2)   (1) الحديث: 8162- موسى بن جبير الأنصاري المدني: مضت ترجمته وتوثيقه في: 2941. عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري المدني: تابعي ثقة. ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 96. ونقل الحافظ في التهذيب أن البخاري صرح بأنه"سمع عبد الله بن أنيس". عبد الله بن أنيس -بالتصغير- الجهني المدني، حليف الأنصار: صحابي معروف، مترجم في التهذيب، والإصابة. وهذا الحديث من مسند عمر، ومن مسند عبد الله بن أنيس، لتصريح كل منهما بأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن الإمام أحمد لم يذكره في مسند عمر، وذكره في مسند عبد الله بن أنيس فقط. فرواه أحمد: 16131 (ج 3 ص 498 حلبي) ، عن هارون بن معروف، عن عمرو بن الحارث - بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابنه عبد الله بن أحمد، عن هارون بن معروف. ورواه ابن ماجه: 1810، من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، به. وقال البوصيري في زوائده: "في إسناده مقال، لأن موسى بن جبير ذكره ابن حبان في الثقات وقال: إنه يخطئ. وقال الذهبي في الكاشف: ثقة، ولم أر لغيرهما فيه كلامًا وعبد الله بن عبد الرحمن: ذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجاله ثقات". ونقله ابن كثير 2: 283، عن هذا الموضع من تفسير الطبري، ثم نسبه أيضًا لابن ماجه، ولم يزد! ففاته أن ينسبه للمسند، وهو أهم. وذكره السيوطي في الجامع الصغير: 8882، ونسبه لأحمد، والضياء المقدسي، عن عبد الله بن أنيس فقط. وهو عنه وعن عمر، كما بينا. (2) الحديث: 8163- سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مضيا في: 2255 يحيى بن سعيد الأنصاري النجاري: مضى مرارًا، آخرها: 4809. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح. وسيأتي تخريج الحديث في الذي بعده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 8164- حدثنا أحمد بن المغيرة الحمصي أبو حميد قال، حدثنا الربيع بن روح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثني عبيد الله بن عمر بن حفص، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه استعمل سعد بن عبادة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إياك، يا سعد، أن تجيء يوم القيامة تحمل على عنقك بعيرًا له رغاء! فقال سعد: فإن فعلتُ يا رسول الله، إن ذلك لكائن! قال: نعم! قال سعد: قد علمت يا رسول الله أني أُسأَل فأعْطِى! فأعفنى. فأعفاه. (1) 8165- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حبان قال، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث قال، حدثني جدي عبيد بن أبي عبيد - وكان أول مولود   (1) الحديث: 8164- أحمد بن المغيرة، شيخ الطبري: مضى في: 3473 أني لم أعرفه. وقد زادنا أبو جعفر هنا تعريفًا به، فنسبه"الحمصي"، وأن كنيته"أبو حميد". ولا يزال مع هذا غير معروف لنا. الربيع بن روح الحمصي، أبو روح الحضرمي. ثقة، روى عنه أيضًا أبو حاتم، وقال: "وكان ثقة خيارًا". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 255، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 461. ابن عياش: هو إسماعيل بن عياش الحمصي، مضى توثيقه في: 5445. وهذا إسناد صحيح أيضًا، لكن إسماعيل بن عياش لم يخرج له شيء في الصحيحين. والحديث في معنى الذي قبله، أطول في اللفظ قليلا. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 86، من حديث ابن عمر، بنحو اللفظ السابق. وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح". وذكره ابن كثير 2: 283، عن الرواية الماضية من الطبري. ثم قال: "ثم رواه من طريق عبيد الله، عن نافع، به. نحوه". ولم يروه أحمد في المسند في مسند عبد الله بن عمر، ولكن رواه في مسند"سعد بن عبادة"، من حديثه 5: 285 (حلبي) ، بنحوه -بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، عن سعد بن عبادة. وهو إسناد منقطع بين ابن المسيب وابن عبادة. فإن سعد بن عبادة توفي سنة 15، وقيل: سنة 11. وسعيد بن المسيب ولد سنة 15، فلم يدركه يقينًا. وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 85، من حديث سعد بن عبادة. وقال: "رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، إلا أن سعيد بن المسيب لم ير سعد بن عبادة". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 بالمدينة - قال: استعملت على صدقة دَوْس، فجاءني أبو هريرة في اليوم الذي خرجت فيه، فسلَّم، فخرجت إليه فسلمت عليه فقال: كيف أنت والبعير؟ كيف أنت والبقر؟ كيف أنت والغنم؟ ثم قال: سمعت حبِيِّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أخذ بعيرًا بغير حقه جاء به يوم القيامة له رغاء، ومن أخذ بقرة بغير حقها جاء بها يوم القيامة لها خوار، ومن أخذ شاة بغير حقها جاء بها يوم القيامة على عنقه لها يعار"، (1) فإياك والبقر فإنها أحدُّ قرونًا وأشدُّ أظلافًا. (2) 8166- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثني محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن جده عبيد بن أبي عبيد قال: استعملت على صدقة دوس، فلما قضيت العمل قدمت، فجاءني أبو هريرة فسلم علي فقال: أخبرني كيف أنت والإبل = ثم ذكر نحو حديثه عن زيد، إلا أنه قال: جاء به يوم القيامة على عنقه له رُغاء. (3) 8167- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم   (1) في المطبوعة: "لها ثغاء"، وأثبت ما في المخطوطة. قد سلف"اليعار" ص: 360، تعليق: 2. (2) الحديث: 8165- أبو كريب: هو محمد بن العلاء، الحافظ الثقة. زيد بن حبان: هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم بأنه محرف. فليس في الرواة -فيما نعلم- إلا زيد بن حبان الرقى، وهو قديم، مات سنة 158. فلم يدركه أبو كريب المتوفي سنة 248. والراجح عندي أنه محرف عن"زيد بن الحباب العكلي"، الذي يروي عنه كريب كثيرًا. وهو ثقة، مضت ترجمته: 2185. عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد بن أبي عبيد: ثقة. قال أبو زرعة: "لا بأس به". وهو مترجم عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 224، باسم"عبد الرحمن بن الحارث بن أبي عبيد". فقصر في نسبه، إذ حذف اسم جده الأدنى. وقد ثبت نسبه على الصواب في ترجمة جده في التهذيب. ولم أجد لعبد الرحمن هذا ترجمة غيرها. عبيد بن أبي عبيد الغفاري، مولى بني رهم: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 411، وثقات ابن حبان، ص: 269 (مخطوط مصور) . وقد خلط ابن أبي حاتم في اسم حفيده"عبد الرحمن بن الحارث" فذكره في ترجمة جده، في الرواة عنه، باسم"عبد الرحمن بن عبيد بن الحارث". والحديث سيأتي عقبه بإسناد آخر. (3) الحديث: 8166- خالد بن مخلد: هو القطواني البجلي. مضت ترجمته في: 2206. وقوله"حدثني محمد" - هكذا ثبت في الطبري. وأكاد أجزم أنه خطأ، زيادة من الناسخين. فإن"خالد بن مخلد" يروي عن"عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد" مباشرة، كما ثبت في ترجمة"عبد الرحمن" عند ابن أبي حاتم. وفيه: "سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن بن الحارث الذي يحدث عنه خالد بن مخلد القطواني". ولو كان هذا الراوي"محمد" ثابتا في الإسناد، لبين نسبه أو نحو ذلك، فإن اسم"محمد" أكثر الأسماء دورانًا، فلا يذكر هكذا مجهلا، دون قرينة ترشد عن شخصه. والحديث مكرر ما قبله. وقد مضى معناه من حديث أبي هريرة، من رواية أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عنه: 8155 - 8157. وأما من هذا الوجه، من رواية عبيد بن أبي عبيد، عنه -: فإني لم أجده في موضع آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 القيامة"، قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم مغنمًا بعث مناديًا:"ألا لا يغلَّن رجلٍ مخْيَطًا فما دونه، (1) ألا لا يغلّنّ رجل بعيرًا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء، ألا لا يغلنّ رجل فرسًا، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حَمْحمة". * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه (2) : "ثم توفى كل نفس"، ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها، وافيًا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك (3) ="وهم لا يظلمون"، يقول: لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم، من غير أن يعتدي عليهم فينقصوا عما استحقوه. كما:-   (1) "المخيط" (بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء) : ما يخاط به، كالإبرة ونحوها. (2) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك جل ثناؤه"، والصواب يقتضي ما أثبت. (3) انظر تفسير"وفي" فيما سلف 6: 465 - وتفسير"كسب" فيما سلف ص: 327، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 8168- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون"، ثم يُجزى بكسبه غير مظلوم ولا متعدًّى عليه. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم: معنى ذلك: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول، كمن باء بسخَط من الله بغلوله ما غلّ؟ *ذكر من قال ذلك: 8169- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن مطرف، عن الضحاك في قوله:"أفمن اتبع رضوان الله"، قال: من لم يغلّ ="كمن باء بسخط من الله"، كمن غل. 8170- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني سفيان بن عيينة، عن مطرف بن طريف، عن الضحاك قوله:"أفمن اتبع رضوان الله"، قال: من أدَّى الخمُس ="كمن باء بسخط من الله"، فاستوجب سخطًا من الله. * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 8171- حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"أفمن   (1) الأثر: 8168- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8148، وفي المطبوعة: "معتدى عليه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما في السيرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 اتبع رضوان الله"، على ما أحب الناس وسخطوا ="كمن باء بسخط من الله"، لرضى الناس وسخطهم؟ يقول: أفمن كان على طاعتي فثوابه الجنة ورضوانٌ من ربه، كمن باء بسخط من الله، فاستوجب غضبه، وكان مأواه جهنم وبئس المصير؟ أسَواءٌ المثلان؟ أي: فاعرفوا (1) . * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية عندي، قولُ الضحاك بن مزاحم. لأن ذلك عَقيب وعيد الله على الغلول، ونهيه عباده عنه. ثم قال لهم بعد نهيه عن ذلك ووعيده: أسواءٌ المطيع لله فيما أمره ونهاه، والعاصي له في ذلك؟ أي: إنهما لا يستويان، ولا تستوي حالتاهما عنده. لأن لمن أطاع الله فيما أمره ونهاه، الجنةُ، ولمن عصاه فيما أمره ونهاه النار. * * * فمعنى قوله:"أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله" إذًا: أفمن ترك الغلول وما نهاه الله عنه عن معاصيه، وعمل بطاعة الله في تركه ذلك، وفي غيره مما أمره به ونهاه من فرائضه، متبعًا في كل ذلك رضا الله، ومجتنبًا سخطه ="كمن باء بسخط من الله"، يعني: كمن انصرف متحمِّلا سخط الله وغضبه، فاستحق بذلك سكنى جهنم" يقول: ليسا سواءً. (2) * * * وأما قوله:"وبئس المصير"، فإنه يعني: وبئس المصير = الذي يصير إليه ويئوب إليه من باء بسخط من الله = جهنم. (3) * * *   (1) الأثر: 8171- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8168، وفي بعض لفظه اختلاف يسير. (2) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138، 345 / ثم 7: 116. (3) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128، 317. وسياق الجملة: "وبئس المصير. . . جهنم" وما بينهما تفسير"المصير". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 القول في تأويل قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من اتبع رضوان الله ومن باء بسخَط من الله، مختلفو المنازل عند الله. فلمن اتبع رضوان الله، الكرامةُ والثواب الجزيل، ولمن باء بسخط من الله، المهانةُ والعقاب الأليم، كما:- 8172- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون، أي: لكلٍّ درجات مما عملوا في الجنة والنار، إنّ الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. (1) . 8173- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"هم درجات عند الله"، يقول: بأعمالهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لهم درجات عند الله، يعني: لمن اتبع رضوان الله منازلُ عند الله كريمة. *ذكر من قال ذلك: 8174- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"هم درجات عند الله"، قال: هي كقوله: (" لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ") . 8175- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هم درجات عند الله"، يقول: لهم درجاتٌ عند الله. * * *   (1) الأثر: 8172- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8171. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 وقيل: قوله"هم درجات" كقول القائل:"هم طبقات"، (1) كما قال ابن هَرْمة: أرَجْمًا لِلْمَنُونِ يَكُونُ قَوْمي ... لِرَيْبِ الدَّهْرِ أَمْ دَرَجُ السّيولِ (2) * * * وأما قوله:"والله بصير بما يعملون"، فإنه يعني: والله ذو علم بما يعمل أهل طاعته ومعصيته، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، يحصى على الفريقين جميعًا أعمالهم، حتى توفى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشر، كما:- 8176- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله بصير بما يعملون"، يقول: إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. (3) . * * *   (1) انظر تفسير درجة فيما سلف 4: 533 - 536. (2) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف 2:547، 548، والاستشهاد بهذا البيت لمعنى الدفع، غريب من مثل أبي جعفر، فراجع شرح البيت هناك. (3) الأثر: 8176- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8172، وجزء منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 القول في تأويل قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: لقد تطوّل الله على المؤمنين ="إذ بعث فيهم رسولا"، حين أرسل فيهم رسولا ="من أنفسهم"، نبيًّا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول ="يتلو عليهم آياته"، يقول: يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله (1) ="ويزكيهم"، يعني: يطهّرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم (2) ="ويعلمهم الكتاب والحكمة"، يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزله عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه ="والحكمة"، ويعني بالحكمة، السُّنةَ التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيانَه لهم (3) ="وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، يعني: وإن كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته ="لفي ضلال مبين"، يقول: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقًّا، ولا يبطلون باطلا. * * * وقد بينا أصل"الضلالة" فيما مضى، وأنه الأخذ على غير هدى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) . * * *   (1) انظر تفسير"يتلو" فيما سلف 2: 411، 569 / 6: 466، تعليق: 3، وفهارس اللغة"تلا". (2) انظر تفسير"يزكي" فيما سلف 1: 573، 574 / 3: 88 / 5: 29 / 6: 528. (3) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88 / 5: 15، 371، 576 - 579. (4) انظر تفسير"الضلالة" فيما سلف 1: 195 / 2: 495، 496. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 = و"المبين"، الذي يبَين لمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه، أنه على غير استقامة ولا هدى (1) . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 8177- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم"، منّ الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة، جعله الله رحمة لهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم = قوله:"ويعلمهم الكتاب والحكمة"، الحكمة، السنة ="وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، ليس والله كما تقول أهل حروراء:"محنة غالبة، من أخطأها أهَريق دمه"، (2) ولكن الله بعث نييه صلى الله عليه وسلم إلى قوم لا يعلمون فعلَّمهم، وإلى قوم لا أدب لهم فأدَّبهم. 8178- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،"لقد منّ الله على المؤمنين"، إلى قوله:"لفي ضلال مبين"، أي: لقد منّ الله عليكم، يا أهل الإيمان، إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم فيما أحدثتم وفيما عملتم، (3) ويعلمكم الخير والشر، لتعرفوا الخير فتعملوا به، والشر فتتقوه، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه، لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته، فتتخلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته ="وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين"، أي: في عمياء من الجاهلية،   (1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 3: 300 / 4: 258. (2) أهل حروراء: هم الخوارج، وهذا مذهبهم. (3) في المطبوعة: "فيما أخذتم وفيما عملتم" لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب منها ومن سيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 لا تعرفون حسنة ولا تستغفرون من سيئة، (1) صُمٌّ عن الحق، عُمْيٌ عن الهدى. (2) * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أوَ حين أصابتكم، أيها المؤمنون، ="مصيبة"، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد، والجرحى الذين جرحوا منهم بأحد، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرًا ="قد أصبتم مثليها"، يقول: قد أصبتم، أنتم أيها المؤمنون، من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ="قلتم أنى هذا"، يعني: قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد ="أنى هذا"، من أيِّ وجه هذا؟ (3) ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون وهم مشركون، وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء، وعدوُّنا أهل كفر بالله وشرك؟ ="قل" يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك ="هو من عند أنفسكم"، يقول: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي، لا من عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم ="إن الله على كل شيء قدير"، يقول: إن الله على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة، وتفضل   (1) في المطبوعة: "تستغيثون من سيئة"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة "يستغيثون" غير منقوطة، والأرجح أنه خطأ، صوابه ما في سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 8178- سيرة ابن هشام 3: 124، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8172، 8176. والجملة الأخيرة في ابن هشام: "صم عن الخير، بكم عن الحق، عمى عن الهدى". (3) انظر تفسير"أني" فيما سلف 4: 398 - 416 / 5: 12، 447 / 6: 358، 420. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 وانتقام ="قدير"، يعني: ذو قدرة. (1) . * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"قل هو من عند أنفسكم"، بعد إجماع جميعهم على أن تأويل سائر الآية على ما قلنا في ذلك من التأويل. فقال بعضهم: تأويل ذلك:"قل هو من عند أنفسكم"، بخلافكم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، إذْ أَشار عليكم بترك الخروج إلى عدوكم والإصحار لهم حتى يدخلوا عليكم مدينتكم، ويصيروا بين آطامكم، (2) فأبيتم ذلك عليه، وقلتم:"اخرج بنا إليهم حتى نصْحر لهم فنقاتلهم خارج المدينة". *ذكر من قال ذلك: 8179- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا" أصيبوا يوم أحد، قُتل منهم سبعون يومئذ، وأصابوا مثليها يوم بدر، قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين ="قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد، حين قدم أبو سفيان والمشركون، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أنا في جُنَّة حصينة"، يعني بذلك المدينة،"فدعوا القوم أن يدخلوا علينا نقاتلهم" (3) فقال له ناس من أصحابه من الأنصار: يا نبي الله، إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه! (4) فابرز بنا إلى القوم. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) انظر تفسير"قدير" في فهارس اللغة فيما سلف من الأجزاء. (2) "أصحر القوم": برزوا إلى الصحراء. و"أصحروا لأعدائهم": برزوا إلى فضاء لا يواريهم، لكي يقاتلوهم في الصحراء. و"الآطام" جمع أطم (بضم الهمزة والطاء) : وهو حصن مبني بالحجارة، كان أهل المدينة يتخذونها ويسكنونها يحتمون بها. (3) "الجنة" (بضم الجيم وتشديد النون) : هو ما وراك من السلاح واستترت به، كالدروع والبيضة، وكل وقاية من شيء فهو جنة. (4) في المطبوعة: "وقد كنا نمتنع في الغزو. . . أن نمتنع فيه"، وفي المخطوطة: "قد كنا نمتنع من الغزو. . . أن نمتنع فيه"، والصواب فيها ما أثبت، كما في الدر المنثور 2: 94. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 فلبس لأمته، فتلاوم القوم فقالوا: عرَّض نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرَّضتم بغيره! اذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم:"أمرُنا لأمرك تبعٌ". فأتى حمزة فقال له: يا نبي الله، إن القوم قد تلاوموا وقالوا:"أمرنا لأمرك تبع". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز، (1) وإنه ستكون فيكم مصيبه. قالوا: يا نبي الله، خاصة أو عامةً؟ قال: سترونها = ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بقرًا تُنحر، فتأولها قتلا في أصحابه = ورأى أن سيفه ذا الفقار انقصم، فكان قتل عمه حمزة، قتل يومئذ، وكان يقال له: أسد الله = ورأى أن كبشًا عُتِر، (2) . فتأوّله كبش الكتيبة، عثمان بن أبي طلحة، أصيب يومئذ، وكان معه لواء المشركين. 8180- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه = غير أنه قال:"قد أصبتم مثليها"، يقول: مثليْ ما أصيب منكم ="قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، يقول: بما عصيتم. 8181- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة، وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر ممن قَتلوا وأسروا، فقال الله عز وجل:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها". 8182- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) "اللأمة": الدرع الحصينة، وسائر أداة الحرب. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن كبشًا أغبر"، ولا معنى له، ولا هو يستقيم. واستظهرت صوابها كما ترى، وأن الناسخ صحفها. يقال: "عتر الشاة والظبية يعترها عترًا، وهي عتيرة"، ذبحها. ومنه"العتيرة"، وهي أول نتاج أنعامهم، كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية. هذا على أنى لم أجد هذا الخبر بلفظه في مكان آخر، ولكن المروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أنه مردف كبشًا، فقال: أما الكبش، فإني أقتل كبش القوم، أي حاميهم وحامل لوائهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة قال: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين، فذلك قوله:"قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا" إذ نحن مسلمون، نقاتل غضبًا لله وهؤلاء مشركون ="قل هو من عند أنفسكم"، عقوبة لكم بمعصيتكم النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين قال ما قال. 8183- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن مبارك، عن الحسن:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، قالوا: فإنما أصابنا هذا لأنا قبلنا الفداء يوم بدر من الأسارى، وعصينا النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فمن قتل منا كان شهيدًا، ومن بقي منا كان مطهَّرًا، رضينا ربَّنا!. (1) 8184- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن وابن جريج قالا معصيتهم أنه قال لهم:"لا تتبعوهم"، يوم أحد، فاتبعوهم. 8185- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، ثم ذكر ما أصيب من المؤمنين -يعني بأحد- وقتل منهم سبعون إنسانًا ="أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها"، كانوا يوم بدر أسروا سبعين رجلا وقتلوا سبعين ="قلتم أنى هذا"، أن: من أين هذا ="قل هو من عند أنفسكم"، أنكم عصيتم. 8186- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها" يقول: إنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثليْ ما أصابوا منكم يوم أحد.   (1) في المطبوعة: "رضينا بالله ربا"، غير ما في المخطوطة، كأنه لم يفهمه!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 8187- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ثم ذكر المصيبة التي أصابتهم فقال:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، أي: إن تك قد أصابتكم مصيبة في إخوانكم، فبذنوبكم قد أصبتم مثليها قبلُ من عدوكم، (1) في اليوم الذي كان قبله ببدر، قتلى وأسرى، ونسيتم معصيتكم وخلافكم ما أمركم به نبيّكم صلى الله عليه وسلم. أنتم أحللتم ذلك بأنفسكم. (2) ="إن الله على كل شيء قدير"، أي: إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو، قدير. (3) . 8188- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها"، الآية، يعني بذلك: أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد. * * * وقال بعضهم: بل تأويل ذلك:"قل هو من عند أنفسكم"، بإساركم المشركين يوم بدر، (4) وأخذكم منهم الفداء، وترككم قتلهم. *ذكر من قال ذلك: 8189- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال، أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتتقوَّوْا به على   (1) في المطبوعة: "قتلا من عدوكم" وقبلها رقم (3) لشك المصحح في صحتها. وفي المخطوطة مثل ذلك غير منقوط، والصواب من سيرة ابن هشام. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "إنكم أحللتم. . ."، ورجحت رواية ابن هشام، فهي أجود في السياق. (3) الأثر: 8187- سيرة ابن هشام 3: 125، هو تتمة الآثار التي آخرها: 8178. (4) في المطبوعة: "بإسارتكم" وهو خطأ، أوقعه فيه ناسخ المخطوطة، لأن كتب (تكم) ، ولكنه أدخل الراء على التاء، فاختلطت كتابته. والصواب ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون = أو تقتلوهم. فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم ويُقتل منا سبعون. قال: فأخذوا الفدية منهم، وقتلوا منهم سبعين = قال عبيدة: وطلبوا الخيرتين كلتيهما. 8190- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم. قالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعدتهم. 8191- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني إسماعيل، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة السلماني = وحدثني حجاج، عن جرير، عن محمد، عن عبيدة السلماني = عن علي قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أمرين: أن يقدَّموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدتهم. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا!! لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عِدَّتهم، فليس في ذلك ما نكره! قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 القول في تأويل قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي أصابكم"يوم التقى الجمعان"، وهو يوم أحد، حين التقى جمع المسلمين والمشركين. ويعني بـ"الذي أصابهم"، ما نال من القتل مَنْ قُتِل منهم، ومن الجراح من جرح منهم ="فبإذن الله،" يقول: فهو بإذن الله كان = يعني: بقضائه وقدَره فيكم. (1) . * * * وأجاب"ما" بالفاء، لأن"ما" حرف جزاء، وقد بينت نظير ذلك فيما مضى قبل (2) . * * * ="وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا"، بمعنى: وليعلم الله المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأحد، ليميِّز أهلُ الإيمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين فيعرفونهم، لا يخفى عليهم أمر الفريقين. وقد بينا تأويل قوله:"وليعلم المؤمنين" فيما مضى، وما وجه ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) . * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال ابن إسحاق. 8192- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين"، أي: ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوّكم، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم، بعد أن جاءكم   (1) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450 / 4: 286 / 5: 355، 395 / 7: 289. (2) انظر ما سلف 5: 585. (3) انظر ما سلف 3: 160 / 7: 246، 325. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 نصري، وصدقتكم وعدي، (1) ليميز بين المنافقين والمؤمنين، وليعلم الذين نافقوا منكم، أي: ليظهروا ما فيهم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابَه، الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتالٌ! فأبدوْا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم:"لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به، كما:- 8193- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدَّث قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين   (1) في المطبوعة: "وصدقتم وعدي"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام. (2) الأثر: 8192- سيرة ابن هشام 3: 125، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8187. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 أحد والمدينة، انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول بثلث الناس وقال: (1) أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم، أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدَكم الله أعداء الله! فسيُغني الله عنكم! ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) 8194- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"، يعني: عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوّه من المشركين بأحد = وقوله:"لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، يقول: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدفعنا عنكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال. فظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم = يقول الله عز وجل:"هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم"، يظهرون لك الإيمان، وليس في قلوبهم، (3) ="والله أعلم بما يكتمون"، أي: يخفون. (4) 8195- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني يوم أحد- في ألف رجل، وقد وعدهم الفتحَ إن صبرُوا. فلما خرجوا، رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا   (1) في المطبوعة: "فقال"، والصواب من المخطوطة، وسيرة ابن هشام. (2) الأثر: 8193- سيرة ابن هشام 3: 68، وهو تابع الأثر الماضي رقم: 7715، وبين رواية الطبري، ورواية ابن هشام خلاف في بعض اللفظ. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، وليس في قلوبهم"، وقد اختل الكلام، وأظنه سقط من سهو الناسخ، فأتممته من السيرة، وأتممت الآية وتفسيرها بعدها. (4) الأثر: 8194- سيرة ابن هشام 3: 125، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8192. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 لترجعن معنا! = (1) قال: فذكر الله أصحاب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وقول عبد الله بن جابر بن عبد الله الأنصاري حين دعاهم فقالوا:"ما نعلم قتالا ولئن أطعتمونا لترجعُنّ معنا"، فقال: (الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) . (2) . 8196- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عكرمة:"قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول = قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد"لو نعلم قتالا"، قال: لو نعلم أنَّا واجدون معكم قتالا لو نعلم مكان قتال، لاتبعناكم. * * * واختلفوا في تأويل قوله"أو ادفعوا". فقال بعضهم: معناه: أو كثِّروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم. *ذكر من قال ذلك: 8197- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو ادفعوا"، يقول: أو كثِّروا. 8198- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أو ادفعوا"، قال: بكثرتكم العدو، وإن لم يكن قتال. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابِطوا إن لم تقاتلوا. *ذكر من قال ذلك: 8198م- حدثنا إسماعيل بن حفص الآيلي وعلي بن سهل الرملي قالا حدثنا   (1) في هذا الأثر اختصار مخل، وقد مضى تمامه برقم 7723، وجواب"فلما غلبوه"، في بقية الأثر وهو: "هموا بالرجوع"، يعني بني سلمة رهط أبي جابر السلمي. وانظر التخريج بعد. (2) الأثر: 8195- مضى بعضه برقم: 7723، والتاريخ 3: 12. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 الوليد بن مسلم قال، حدثنا عتبة بن ضمرة قال: سمعت أبا عون الأنصاري في قوله:"قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"، قال: رابطوا. (1) * * * وأما قوله:"والله أعلم بما يكتمون"، فإنه يعني به: والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين:"لو نعلم قتالا لاتبعناكم"، بما يضمرون في أنفسهم للمؤمنين ويكتمونه فيسترونه من العداوة والشنآن، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم ولا دافعوا عنهم، وهو تعالى ذكره محيط بما هم مخفوه من ذلك، (2) مطلع عليه، ومحصيه عليهم، حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا فيفضحهم به، ويُصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه {الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وليعلم الله الذين نافقوا" ="الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا". * * * فموضع"الذين" نصب على الإبدال من"الذين نافقوا". وقد يجوز أن   (1) الأثر: 8198م-"إسماعيل بن حفص الأيلي"، سلفت ترجمته برقم: 7581، وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الآملي" مكان"الأيلي"، وهو خطأ، وفي المخطوطة"الأيلي" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. و"الوليد بن مسلم القرشي"، سلفت ترجمته برقم: 6410. و"عتبة بن ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الحمصي"، روى عن أبيه، وعمه المهاجر، ومحمد بن زياد الألهاني، وأبي عون الشامي. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، و"أبو عون الأنصاري الشامي الأعور" روى عن أبي إدريس الخولاني، ثقة. مترجم في التهذيب. (2) في المطبوعة: "بما يخفونه من ذلك"، غير ما في المخطوطة لغير شيء!! ، إلا أن يريدوا أن يدرجوا به على ما ألفوا من الكلام!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 يكون رفعًا على الترجمة عما في قوله:"يكتمون" من ذكر"الذين نافقوا". * * * فمعنى الآية: وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأحد يوم أحد فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم ="وقعدوا"، يعني: وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا - مما أخبر الله عز وجل عنهم من قيلهم - عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله ="لو أطاعونا"، يعني: لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا ="ما قتلوا" يعني: ما قتلوا هنالك = قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين ="فادرأوا"، يعني: فادفعوا. * * * من قول القائل:"درأت عن فلان القتل"، بمعنى دفعت عنه،"أدرؤه دَرْءًا"، (1) ومنه قول الشاعر: (2) تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ... أهذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِيني (3) * * * يقول تعالى ذكره: قل لهم: فادفعوا = إن كنتم، أيها المنافقون، صادقين في قيلكم: لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريشْ، ما قُتلوا هنالك بالسيف، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم، وتخلّفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه = [عن أنفسكم] الموت، (4) فإنكم قد قعدتم عن حربهم وقد تخلفتم عن جهادهم، وأنتم لا محالة ميتون. كما:-   (1) انظر تفسير"الدرء" فيما سلف 2: 222 - 228. (2) هو المثقب العبدي. (3) مضى تخريجه وشرحه فيما سلف 2:547، 548، والاستشهاد بهذا البيت لمعنى الدفع، غريب من مثل أبي جعفر، فراجع شرح البيت هناك. (4) السياق: "قل لهم: فادفعوا. . . عن أنفسكم الموت"، والزيادة التي بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق، وعن نص الآية، فلذلك أثبتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 8199- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"الذين قالوا لإخوانهم"، الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم ="لو أطاعونا ما قتلوا" الآية، أي: أنه لا بد من الموت، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا. وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله، حرصًا على البقاء في الدنيا، وفرارًا من الموت. (1) * * * *ذكر من قال: الذين قالوا لإخوانهم هذا القول، هم الذين قال الله فيهم:"وليعلم الذين نافقوا". 8200- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا" الآية، ذكر لنا أنها نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ. 8201- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. 8202- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: هو عبد الله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد:"لو أطاعونا ما قتلوا"، الآية = قال ابن جريج، عن مجاهد قال، قال جابر بن عبد الله: هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول. 8203- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا" الآية، قال: نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ. (2) * * *   (1) الأثر: 8199- سيرة ابن هشام 3: 125، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8194. (2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفي المخطوطة ما نصه: "يتلوهُ إِن شاء الله: القول في تأويل قوله جل ثناؤه ولا تحسبَنَّ الذينَ قتلوا في سبيلِ الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون. والحمد لله على إحسانه ونعمته، وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين، وسلَّمَ كثيرًا". ثم يتلوه أول الجزء، وفيها ما نصه: " بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر يا كريم أخبرنا أبو بكر محمد بن داود قال، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير". وانظر التعليق على هذا الإسناد فيما سلف 6: 496، 497 / 7: 23، 154، 280، 281. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ولا تحسبن"، ولا تظنن. كما:- 8204- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولا تحسبن"، ولا تظنن. (1) * * * وقوله:"الذين قتلوا في سبيل الله"، يعني: الذين قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ="أمواتًا"، يقول: ولا تحسبنهم، يا محمد، أمواتًا، لا يحسُّون شيئًا، ولا يلتذُّون ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبَوْتهم به من جزيل ثوابي وعطائي، كما:- 8205- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق = وحدثني   (1) الأثر: 8204- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8199. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن إسحاق = عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تردُ أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحُسن مَقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا! لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب! (1) فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات. (2) 8206- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير بن عبد الحميد = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة = قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق بن الأجدع قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآيات:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله" الآية، قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فيطَّلع الله إليهم اطِّلاعةً فيقول: يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! (3) ثلاث مرات - ثم يطلع فيقول: يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: رّبنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! إلا أنا نختار أن تُردّ أرواحنا في أجسادنا، (4) ثم تردَّنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى". (5) . 8207- حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: سألنا   (1) نكل عن عدوه: جبن فنكص على عقبيه، وانصرف عنه هيبة له وخوفًا. (2) الحديث: 8205- أبو الزبير: هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو تابعي ثقة، مضى مرارًا. وقيل إنه لم يسمع من ابن عباس، ففي المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 71، عن ابن عيينة: "يقولون: ابن المكي لم يسمع من ابن عباس". وفيه أيضًا: "سمعت أبي يقول: رأى ابن عباس رؤية". والحديث رواه أحمد في المسند: 2388، عن يعقوب، وهو ابن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. ثم رواه عقبة: 2389، "نحوه"، عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، به. وزاد في الإسناد"عن سعيد بن جبير"، بين أبي الزبير وابن عباس. وكذلك رواه أبو داود في السنن: 2520، عن عثمان بن أبي شيبة، به. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 297 - 298، من طريق عثمان بن أبي شيبة. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 2: 290 - 291، من رواية المسند الأولى، وأشار إلى رواية الطبري هذه، ثم إلى زيادة سعيد بن جبير في الإسناد، عند أبي داود والحاكم، ثم قال: "وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس". وذكره السيوطي 2: 95، وزاد نسبته إلى هناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل. وقوله: "وحسن مقيلهم" - في المسند: "منقلبهم". ومعناها صحيح أيضًا. ولكن وجدت بعد ذلك في مخطوطة الرياض من المسند (المصور عندي) نسخة أخرى بهامشها"مقيلهم". وهي أصح وأجود. وهي الموافقة لما في ابن كثير نقلا عن المسند، والموافقة لروايتي أبي داود والحاكم. ويؤيد صحتها أنها الموافقة لألفاظ الكتاب العزيز. قال الله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلا) [سورة الفرقان: 24] . وانظر ما يأتي من حديث ابن مسعود: 8206 - 8208، 8218، 8219. وما يأتي من حديث ابن عباس: 8209 - 8213. (3) قوله: "لا فوق ما أعطيتنا"، أي لا شيء فوق ذلك. و"الجنة" قال أبو ذر الخشني: "يروى هنا بالخفض والرفع، بخفض الجنة، على البدل من"ما" في قوله: ما أعطيتنا - ورفعها على خبر مبتدأ مضمر، تقديرها هو الجنة". وجائز أن تكون على النصب أيضًا، على تقدير"أعطيتنا الجنة". (4) في المطبوعة: إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا. . ."، وفي المخطوطة: "إلا أنا نختار ترد أرواحنا"، وهو تصحيف ما في سيرة ابن هشام"نحب أن ترد"، فأثبت ما في السيرة، وفي رواية مسلم"إلا أنا نريد أن ترد"، وهما سواء. (5) الحديث: 8206- أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح -بالتصغير- الهمداني. مضى الكلام عليه مرارًا، آخرها: 7217. والحديث سيأتي عقب هذا، من رواية الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق. ويأتي بعده: 8208، من رواية سليمان -وهو الأعمش- عن عبد الله بن مرة، عن مسروق. فللأعمش فيه شيخان. سمعه منهما عن مسروق. وسيأتي تخريجه في الأخير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 عبد الله عن هذه الآية = ثم ذكر نحوه وزاد فيه: إني قد قضيت أن لا ترجعوا. (1) . 8208- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء، ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحدٌ! قال: أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش، تسرحُ في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطَّلع إليها ربُّها، فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى. (2) 8209- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن   (1) الحديث: 8207- الحسن بن أبي يحيى المقدسي، شيخ الطبري: لم أصل إلى الآن إلى معرفته. وقد مضى كذلك من قبل في: 7216. ووقع اسمه في المطبوعة هنا: "الحسن بن يحيى العبدي". والتصويب من المخطوطة. ومن السهل جدًا على الناسخ أو الطابع سقوط كلمة"أبي"، وتحريف كلمة"المقدسي" إلى"العبدي" إذا كانت غير واضحة الرسم. وهذا الحديث تكرار للذي قبله من هذا الوجه، كما قلنا. (2) الحديث: 8208- سليمان: هو ابن مهران الأعمش. والحديث مكرر ما قبله باختصار، من وجه آخر، من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق. وعبد الله بن مرة الهمداني الخارفي: تابعي ثقة، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 203، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 165. والحديث رواه مسلم 2: 98، بأسانيد، من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرة، به نحوه - أطول مما هنا. وكذلك رواه الترمذي 4: 84 - 85، من رواية الأعمش، عن عبد الله بن مرة. ونقله ابن كثير 2: 289، عن صحيح مسلم. وذكره السيوطي 2: 96، وزاد نسبته لعبد الرزاق في المصنف، والفريابي، وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الدلائل. ولم يروه أحمد في المسند، فيما تحقق لدي، إلا أن يكون أثناء مسند صحابي آخر فيما بعد المسانيد التي حققتها. فالله أعلم. وسيأتي مرة رابعة: 8218، من رواية عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله - وهو ابن مسعود ويأتي مرة خامسة: 8219، من رواية أبي عبيد بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء على بارق = على نهر بباب الجنة = في قبة خضراء = وقال عبدة:"في روضة خضراء = يخرج عليهم رزقهم من الجنةُ بكرة وعشيًّا". (1) 8210- حدثنا أبو كريب، وأنبأنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله = إلا أنه قال: في قبة خضراء = وقال: يخرج عليهم فيها. 8211- حدثنا ابن وكيع، وأنبأنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. 8212- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق، وحدثني الحارث بن الفضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء على بارق = نهر بباب الجنة = في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا. 8213- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني أيضًا = يعني إسماعيل بن عياش = عن ابن إسحاق، عن الحارث بن الفضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2) 8214- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق، وحدثني بعض أصحابي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أبشرك يا جابر؟   (1) الحديث: 8209- سبق هذا الحديث، بهذا إسناد: 2323. وفصلنا القول فيه هناك. وسيأتي عقبه - هنا - بأربعة أسانيد. (2) الأحاديث: 8210 - 8213، هي أربعة أسانيد، تكرارًا للحديث قلبها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 قال قلت: بلى، يا رسول الله! قال: إن أباك حيث أصيب بأحد، أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب، أحب أن تردَّني إلى الدنيا، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى". (1) . 8215- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل   (1) الحديث: 8214- هكذا روى ابن إسحاق هذا الحديث مجهلا شيخه الذي حدثه، فأضعف الإسناد بذلك. وهو في سيرة ابن هشام 3: 127. وقد ورد معناه عن جابر، بإسناد آخر صحيح: فروى أحمد في المسند: 14938 (ج3 ص 361 حلبي) ، عن علي بن المديني، عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن محمد بن علي بن رُبَيِّعة -بالتصغير- السُّلَمي، عن عبد الله بن محمد بن عُقيل، عن جابر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر، أمَا علمتَ أن الله عز وجل أحيا أباك، فقال له: تَمَنَّ عليَّ. فقال: أُرَدُّ إلى الدنيا، فأُقتَل مرة أخرى. فقال: إني قَضَيْتُ الحكمَ، أنهم إليها لا يُرْجَعون". وهذا إسناد صحيح. محمد بن علي بن ربيعة السلمي: ثقة، وثقه ابن معين، وغيره، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 26 - 27. وترجمه البخاري في الكبير 1 / 1 / 183 - 184 باسم"محمد بن علي السلمي". وكذلك ابن سعد في الطبقات 6: 257 - فلم يذكروا فيه جرحًا. والحديث ذكره ابن كثير 2: 289 من رواية المسند. ثم قال: "تفرد به أحمد من هذا الوجه". يشير بهذا إلى أن الترمذي روى معناه مطولا 4: 84، من وجه آخر، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". ثم قال: "وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر - شيئًا من هذا". وهو إشارة إلى حديث المسند. وقد ذكر السيوطي الرواية المطولة 2: 95، ونسبها أيضًا لابن ماجه، وابن أبي عاصم في السنة، وابن خزيمة والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وانظر المستدرك 3: 203 - 204 ووالد جابر: هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، الخزرجي، السلمي، صحابي جليل مشهور، من أهل العقبة، وممن شهد بدرًا، وكان من النقباء. استشهد يوم أحد، رضي الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 إخواننا الذين قتلوا يوم أحد! فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون" = كنا نحدَّث أن أرواح الشهداء تَعارَف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة، وأنّ مساكنهم السِّدرة. (1) . 8216- حدثت عن عمار، وأنبأنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه = إلا أنه قال: تعارف في طير خضر وبيض = وزاد فيه أيضًا: وذكر لنا عن بعضهم في قوله:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء"، قال: هم قتلى بدر وأحد. 8217- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: قالوا: يا رب، ألا رسول لنا يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الآية:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله"، الآيتين. 8218- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآيات:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، قال: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت. قال: فاطلع إليهم ربك اطِّلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح في الجنة في أيِّها شئنا! ثم اطَّلع عليهم الثالثة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى! فسكت عنهم. (2)   (1) الأثر: 8215- مضى مطولا برقم: 2319. (2) الحديث: 8218- هذا هو الإسناد الرابع لحديث عبد الله بن مسعود، الذي مضى بثلاثة أسانيد: 8206 - 8208. رواه هنا من طريق عبد الرزاق. وهو في مصنف عبد الرزاق 3: 115 (مخطوط مصور) . بهذا الإسناد وهذا اللفظ. ولكن ليس في نسخة المصنف كلمة"خضر" في وصف الطير. وقوله: "ثم اطلع عليهم الثالثة" - هكذا ثبت أيضا في المصنف، بحذف الاطلاعة الثانية. فليس ما هنا سقطًا من الناسخين، بل هو اختصار في الرواية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 8219- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة، عن عبد الله: أنهم قالوا في الثالثة = حين قال لهم: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ = قالوا: تقرئ نبينا عنا السلام، وتخبره أن قد رضينا ورُضيَ عنا. (1) 8220- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يرغِّب المؤمنين في ثواب الجنة ويهوِّن عليهم القتل:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، أي: قد أحييتهم، فهم عندي يرزقون في رَوْح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه. (2)   (1) الحديث: 8219- هذا هو الإسناد الخامس لحديث عبد الله بن مسعود. وهو من رواية ابنه أبي عبيدة عنه. وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: تابعي ثقة. الراجح أن اسمه كنيته. وقيل إن اسمه"عامر". وبه ترجم في التهذيب، وترجمه ابن سعد 6: 149 بالكنية. وكذلك ترجمه البخاري في الكنى، رقم: 447، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 403. وروايته عن أبيه منقطعة، مات أبوه وهو صغير. وجزم أبو حاتم وغيره بأنه لم يسمع منه، انظر المراسيل، ص: 91 - 92. وروى الترمذي (1: 26 بشرحنا) ، بإسناد صحيح، عن عمرو بن مرة، قال، "سألت أبا عبيدة بن عبد الله: هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: "لا". والحديث -من هذا الوجه- رواه الترمذي، عن ابن أبي عمر، عن سفيان، وهو ابن عيينة - بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، بل جعله تابعًا لرواية الأعمش، عن عبد الله بن مرة، كمثل صنيع الطبري هنا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". وقوله: "ورضي عنا": هو بالبناء لما لم يسم فاعله. أي: ورضى الله عنا. كما هو ظاهر من السياق، وكما نص عليه شارح الترمذي. (2) الأثر: 8220- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تمام الآثار التي آخرها: 8204. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 8221- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يومًا كيوم بدر، يبلون فيه خيرًا، يرزقون فيه الشهادة، ويرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله فقال:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا" الآية. 8222- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر الشهداء فقال:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم" إلى قوله:"ولا هم يحزنون"، زَعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، (1) في قناديل من ذهب معلقة بالعرش، فهي ترعى بُكرة وعشية في الجنة، تبيت في القناديل، فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون؟ ماذا تشتهون؟ فيقولون: ربنا، نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألهم ربهم أيضًا: ماذا تشتهون؟ وماذا تريدون؟ فيقولون: نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألون الثالثة، فيقولون ما قالوا: ولكنا نحب أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا! لما يرون من فضل الثواب. (2) 8223- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عباد قال، حدثنا إبراهيم بن معمر، عن الحسن قال:، ما زال ابن آدم يتحمَّد (3) حتى صار حيًّا ما يموت. ثم تلا هذه الآية:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون". 8224- حدثنا محمد بن مرزوق قال، حدثنا عمر بن يونس، عن عكرمة قال،   (1) قوله: "زعم"، لا يراد به القول الباطل، بل يراد به القول الحق، والزعم: هو القول، يكون تاره حقًا، وتارة باطلا، وفي شعر أمية بن أبي الصلت: وَإنِّي أَذِينٌ لَكُمْ أَنَهُ ... سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ ما زَعَمْ أي: ما قال وما وعد. (2) في المطبوعة: "لما يرون من فضل للثواب"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) "تحمد الرجل يتحمد"، إذا طلب بفعله الحمد، و"فلان يتحمد إلى الناس بفعله"، أي يلتمس بذلك حمدهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 حدثنا إسحاق بن أبي طلحة قال، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين أو سبعين. قال: وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارًا مشرفًا على الماء قعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلِّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال -أُراه أبو ملحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج حتى أتى حيًّا منهم، فاحتبى أمام البيوت ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، (1) فقال: الله أكبر، فزتُ ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل (2) = قال: قال إسحاق: حدثني أنس بن مالك: إنّ الله تعالى أنزل فيهم قرآنًا، رُفع بعد ما قرأناه زمانًا. (3) وأنزل الله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون". (4) . 8225- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر،   (1) البيت: يعني الخيمة. وكسر البيت (بكسر الكاف وسكون السين) : أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر جانباه من عن يمين ويسار. (2) في المخطوطة: "فقتلوهم أجمعين"، والصواب من التاريخ وسائر المراجع. (3) نص ما في التاريخ: "أَنزَل فيهم قرآنًا: {" بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ "} ، ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زمانا ". (4) الحديث: 8224- محمد بن مرزوق - شيخ الطبري - هو محمد بن محمد بن مرزوق، نسب إلى جده. وقد مضت له عنه رواية، برقم: 28. مترجم في التهذيب. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 3: 199 - 200، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 1 / 89 - 90 باسم"محمد بن مرزوق". عمر بن يونس اليمامي: مضى في: 4435. ووقع في الأصول هنا باسم"عمرو بن يونس"، وكذلك في تاريخ الطبري في هذا الحديث، وكذلك في تفسير ابن كثير، في نقله الحديث عن هذا الموضع. ولعل الخطأ في هذا يكون من الطبري نفسه، إذ يبعد أن يخطئ الناسخون في هذه المصادر الثلاثة خطأ واحدًا. وليس في الرواة - فيما أعلم - من يسمى"عمرو بن يونس". ووقع في الإسناد هنا - في التفسير - خطأ آخر. في المخطوطة والمطبوعة، إذ سقط من الإسناد [عن عكرمة] بين عمر بن يونس وإسحاق بن أبي طلحة. وهو ثابت في التاريخ وتفسير ابن كثير. وعكرمة هذا: هو عكرمة بن عمار اليمامي، مضت ترجمته في: 2185. وعمر بن يونس معروف بالرواية عنه. ولم يدرك أن يروى عن"عكرمة مولى ابن عباس". إسحاق بن أبي طلحة: هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري البخاري. نسب إلى جده. وهو تابعي ثقة حجة، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 1 / 393 - 394، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 226. وأبوه"أبو طلحة": هو"زيد بن سهل"، وهو أخو أنس بن مالك لأمه. وهذا الحديث رواه الطبري أيضًا في التاريخ 3: 36، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير في التفسير 2: 288، عن هذا الموضع من التفسير. وأشار إليه الحافظ في الفتح 7: 298، حيث قال: "في رواية الطبري من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة. . ." ولكن وقع فيه"عكرمة عن عمار" - وهو خطأ مطبعي واضح. ووقع في أصل الطبري هنا -المخطوط والمطبوع-: "فقال أراه أبو ملحان". وكذلك في نقل ابن كثير عن هذا الموضع. وهو خطأ قديم من الناسخين، صوابه: "ابن ملحان". وثبت على الصواب في التاريخ، ومنه صححناه. وهو"حرام بن ملحان الأنصاري"، وهو خال أنس بن مالك، أخو أمه"أم سليم بنت ملحان". ولا نعلم أن كنيته"أبو ملحان" - حتى نظن أنه ذكر هنا بكنيته. وهو مترجم في ابن سعد 3 / 2 / 71 - 72، والإصابة. وهذا الحديث - في قصة بئر معونة - ثابت عن أنس بن مالك من أوجه، مختصرًا ومطولا. وقد رواه أحمد في المسند: 13228، عن عبد الصمد، و: 14119، عن عفان - كلاهما عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس (المسند ج3 ص 210، 288 - 289 حلبي) . ورواه أيضا: 12429 (3: 137 حلبي) ، من رواية ثابت، عن أنس. ورواه البخاري 7: 297 - 299، عن موسى بن إسماعيل، عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" ورواه قبله وبعده من أوجه أخر. ورواه ابن سعد في الطبقات 3 / 2 / 71 - 72، عن عفان، كرواية المسند: 14119. وقد مضى بعض معناه مختصرًا، في تفسير الطبري: 1769، من رواية قتادة، عن أنس. وتفصيل القصة في تاريخ ابن كثير 4: 71 - 74. وانظر أيضًا جوامع السيرة لابن حزم، ص: 178- 180، وما أشير إليه من المراجع في التعليق عليه هناك. وروى أحمد في المسند، بعض هذا المعنى، من حديث ابن مسعود: 3952. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 عن الضحاك قال: لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لقوا ربَّهم، فأكرمهم، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب، قالوا: يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا! فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون" إلى قوله:"ولا هم يحزنون". فهذا النبأ الذي بلَّغ الله رسوله والمؤمنين ما قال الشهداء. * * * وفي نصب قوله:"فرحين" وجهان. أحدهما: أن يكون منصوبًا على الخروج من قوله:"عند ربهم". (1) والآخر من قوله:"يرزقون". ولو كان رفعًا بالردّ على قوله:"بل أحياء فرحون"، كان جائزًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من جهاد أعداء الله مع رسوله، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك   (1) "الخروج"، نصبها على الخروج، يعني على خروجها منه على الحال. انظر ما سلف 5: 253 / ثم 6: 586 / 7: 25، تعليق: 3. ثم انظر معاني القرآن للفراء 1: 247. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 ="لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، يعني بذلك: (1) لا خوف عليهم، لأنهم قد أمنوا عقاب الله، وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها، للخفض الذي صارُوا إليه والدعة والزُّلْفة. (2) . * * * ونصب"أن لا" بمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (3) . وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 8226- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الآية، يقول: لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم، لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم. 8227- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الآية، قال، يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، يلحقونا فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا. 8228- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا عن بعضهم في قوله:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، قال: هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة، (4) جُعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في   (1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 1: 551 / 2: 150، 512، 513 / 5: 519. (2) "الخفض": لين العيش وسعته وخصبه، يقال: "عيش خفض، وخافض، وخفيض، ومخفوض": خصيب في دعة ولين. و"الزلفة": القربة والدرجة والمنزلة، عند الله رب العالمين. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 247. (4) انظر تفسير"زعم" فيما سلف قريبًا ص 392 تعليق: 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 الجنة، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش. فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة، قالوا: ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه! فإذا شهدوا قتالا تعجَّلوا إلى ما نحن فيه! فقال الله تعالى: إنيّ منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه. ففرحوا به واستبشروا، وقالوا: يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه، فإذا شهدوا قتالا أتوكم! قال: فذلك قوله:"فرحين بما آتاهم الله من فضله" إلى قوله:"أجر المؤمنين". 8229- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، أي: ويسرون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن. (1) . 8230- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، قال: هم إخوانهم من الشهداء ممَّن يُستشهد من بعدهم ="لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" حتى بلغ:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين". 8231- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم"، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله، فيقال:"يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا"، فيستبشر حين يقدم عليه، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. * * *   (1) الأثر: 8229- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8220 ونص ابن هشام: "قد أذهب الله. . ."، وهو أجود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 القول في تأويل قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"يستبشرون"، يفرحون ="بنعمة من الله"، يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه ="وفضل" يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه ="وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"، كما:- 8232- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق:"يستبشرون بنعمة من الله وفضل" الآية، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم الثواب. (1) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين". فقرأ ذلك بعضهم بفتح"الألف" من"أنّ" بمعنى: يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وبأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين. * * * = وبكسر"الألف"، على الاستئناف. واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبد الله: (" وَفَضْلٍ وَاللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ") . قالوا: فذلك دليل على أن قوله:"وإن الله" مستأنف غير متصل بالأول. (2) . * * * ومعنى قوله:"لا يضيع أجر المؤمنين"، لا يبطل جزاء أعمال من صدّق رسوله واتبعه، وعمل بما جاءه من عند الله. * * *   (1) الأثر: 8232- سيرة ابن هشام 3: 126، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8229. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 247. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءه من قرأ ذلك:"وأن الله" بفتح"الألف"، لإجماع الحجة من القرأة على ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"، المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجرح والكلوم. (1) . * * * وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حَمْراء الأسد في طلب العدّو -أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش- مُنصَرَفهم عن أحد. وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، ليرى الناسُ أنّ به وأصحابِه قوةً على عدوهم. كالذي:- 8233- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني حسين بن عبد الله، (2) عن عكرمة قال: كان يوم أحد [يوم] السبت للنصف من شوال، (3) فلما كان الغد من يوم أحد، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذَّن مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب   (1) انظر تفسير"القرح" فيما سلف 7: 237. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "حسان بن عبد الله"، وهو خطأ، والصواب من تاريخ الطبري. وهو"حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب". روي عن عكرمة، وروي عنه هشام ابن عروة، وابن جريج، وابن المبارك، وابن إسحاق. وهو ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب. (3) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام ومن تاريخ الطبري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 العدو، وأذَّن مؤذِّنه أن:"لا يخرجنَّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس". فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: يا رسول الله، إنّ أبي كان خلَّفني على أخوات لي سبع، وقال لي:"يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولستُ بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي! فتخلَّف على أخواتك"، فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبًا للعدوّ، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. (1) . 8234- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدًا قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين: فلما أذَّن [مؤذِّن] رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ، (2) قلت لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحًا منه، فكنتُ إذا غُلب حملته عُقبة ومشى عقبة، (3) حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا، الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. (4)   (1) الأثر: 8233- سيرة ابن هشام 3: 106، 107، وتاريخ الطبري 3: 29. (2) ما بين القوسين زيادة من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. (3) "العقبة": قدر ما يسره الماشي ما استطاع المشي، يريد: حملته شوطًا، وسار شوطًا. (4) الأثر: 8234- سيرة ابن هشام 3: 107 - 108، وتاريخ الطبري 3: 29. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 8235- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فقال الله تبارك وتعالى:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرحُ"، أي: الجراح، وهم الذين سارُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم أحد إلى حمراء الأسد، على ما بهم من ألم الجراح ="للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم". (1) 8236- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" الآية، وذلك يوم أحد، بعد القتل والجراح، وبعد ما انصرف المشركون -أبو سفيان وأصحابه- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"ألا عِصابة تنتدبُ لأمر الله، (2) تطلب عدوّها؟ فإنه أنكى للعدو، وأبعد للسَّمع! فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجَهد. 8237- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: انطلق أبو سفيان منصرفًا من أحد، حتى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئسما صنعتم! (3) إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا واستأصلوهم. فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا، فأخبر الله رسوله، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح". (4) 8238- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،   (1) الأثر: 8235- سيرة ابن هشام 3: 128. (2) في المطبوعة: "ألا عصابة تشد لأمر الله"، ولا معنى له، وفي المخطوطة: ألا عصابة تشدد لأمر الله"، وهو بلا ريب تصحيف ما أثبت."ندب القوم إلى الأمر فانتدبوا": دعاهم إليه وحثهم، فأسرعوا إليه واستجابوا. وفضلا عن ذلك، فهذا هو اللفظ الذي كثر وروده في أخبار حمراء الأسد. (3) في المخطوطة: "بئس ما صنعنا صنعتم"، وهو سهو، والصواب ما في المطبوعة. وانظر ما سلف رقم: 8003. (4) الأثر: 8237- مضى برقم: 8003، وانظر التعليق هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن الله جل وعز قذف في قلب أبي سفيان الرعب -يعني يوم أحد- بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرّفًا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب"! وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدَمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإنّ رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه، ويتَّبعوا ما كانوا متَّبعين، وقال: إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل، فجاء الشيطان فخوَّف أولياءه، فقال:"إن الناس قد جمعوا لكم"! فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال:"إني ذاهبٌ وإن لم يتبعني أحد"، لأحضِّضَ الناس. (1) فانتدب معه أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله تعالى:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم". 8239- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا أبو سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي، أما والله إن أباك وجدك -تعني أبا بكر والزبير- لممن قال الله تعالى فيهم:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح". (2) .   (1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة"وتفسير ابن كثير 2: 298. أما الدر المنثور 2: 101، فقد أسقط"لأحضض الناس"، وأنا أرجح أن صوابه هو: "ليحضض الناس"، ولا أشك أن هذه الكلمة ليس من لفظه صلى الله عليه وسلم. (2) الحديث: 8239- هاشم بن القاسم: هو أبو النضر الإمام الحافظ، شيخ الإمام أحمد، وإسحاق، وابن المديني. وهو ثقة ثبت حجة. كان أهل بغداد يفخرون به. أبو سعيد: هو المؤدب، واسمه"محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي". وهو ثقة مأمون. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 298، من طريق العباس بن محمد الدوري، عن هاشم بن القاسم، بهذا الإسناد. ووقع في مطبوعة المستدرك"هشام بن القاسم"، وهو خطأ مطبعي لا شك فيه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. والحديث في الصحيحين، كما سيأتي في الرواية الآتية: 8241. ولعلهما اعتبراه من المستدرك لقوله في هذه الرواية"أنها قالت لعبد الله بن الزبير". والذي في الرواية الآتية أنها قالت لعروة بن الزبير. وهما أخوان، والكلام لهما واحد. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى، كرواية مسلم، كما سيأتي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 8240- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرتُ أن أبا سفيان بن حرب لما راح هو وأصحابه يوم أحد، قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم عامدون إلى المدينة! فقال: إن ركبوا الخيل وتركوا الأثقال، فإنهم عامدون إلى المدينة، وإن جلسوا على الأثقال وتركوا الخيل، فقد رَعَبهم الله، (1) وليسوا بعامديها". فركبوا الأثقال، فرعبهم الله. ثم ندب ناسًا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثًا، فنزلت:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح". 8241- حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت لي عائشة: إنْ كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - تعني أبا بكر والزبير. (2) .   (1) في المطبوعة: "قد أرعبهم الله"، وفي المخطوطة"فقد رعبهم" كما أثبته وهو الصواب. يقال"رعبه يرعبه" (على وزن فتح) ، و"رعبه" (مشدد العين) ، وقد نص أهل اللغة أنه لا يقال: "أرعبه". وستأتي على الصواب في السطر التالي. (2) الحديث: 8241- سعيد بن الربيع الرازي - شيخ الطبري: مضت له رواية عنه في: 3791، ولم نجد له ترجمة. والحديث تكرار للحديث السابق: 8239. ولكن في هذا أن خطاب عائشة لعروة بن الزبير، وهناك خطابها لأخيه عبد الله، وهما ابنا أختها أسماء بنت أبي بكر. ورواه مسلم 2: 241، بأسانيد، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، ومن رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي - وهو: عبد الله البهي مولى مصعب بن الزبير - عن عروة، به، نحوه. ورواه البخاري 7: 287، مطولا، من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة. ومع ذلك فإن الحاكم رواه مرة أخرى 3: 363، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي، عن عروة - كرواية مسلم. ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"! وسقطت هذه الرواية من تلخيص الذهبي، مخطوطًا ومطبوعًا. وذكره ابن كثير 2: 297 - 298 رواية البخاري، ثم أشار إلى رواية الحاكم الأولى، وتعقبه في دعواه أن الشيخين لم يخرجاه، بقوله: "كذا قال". ثم أشار إلى أنه رواه ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وأبو بكر الحميدي في مسنده. ثم أشار إلى رواية الحاكم الثانية. وذكره السيوطي 2: 102، مطولا. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 8242- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان عبد الله من الذين استجابوا لله والرسول. * * * قال أبو جعفر: فوعد تعالى ذكره، مُحسنَ من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، إذا اتقى الله فخافه، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره ="أجرًا عظيما"، وذلك الثواب الجزيل، والجزاء العظيم على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"،"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم". * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 و"الذين" في موضع خفض مردود على"المؤمنين"، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول. * * * و"الناس" الأوّل، هم قوم -فيما ذكر لنا- كان أبو سفيان سألهم أن يثبِّطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد. و"الناس" الثاني، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش، الذين كانوا معه بأحد. * * * ويعني بقوله:"قد جمعوا لكم"، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرّة إليكم لحربكم ="فاخشوهم"، يقول: فاحذروهم، واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم ="فزادهم إيمانًا"، يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوَّفهم أمرَ أبي سفيان وأصحابه من المشركين، يقينًا إلى يقينهم، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا = ثقة بالله وتوكلا عليه، إذ خوَّفهم من خوفَّهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين ="حسبنا الله ونعم الوكيل"، يعني بقوله:"حسبنا الله"، كفانا الله، يعني: يكفينا الله = (1) "ونعم الوكيل"، يقول: ونعم المولى لمن وليَه وكفَله. * * * وإنما وصف تعالى نفسه بذلك، لأن"الوكيل"، في كلام العرب، هو المسنَد إليه القيام بأمر من أسنِد إليه القيام بأمره. فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات، قد كانوا فوَّضوا أمرهم إلى الله، ووثِقوا به، وأسندوا ذلك إليه، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضِهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم. * * *   (1) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 4: 244. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الناس قد جمعوا لكم". فقال بعضهم: قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد إلى حمراء الأسد، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين. ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك، ومن قائله: 8243- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: مرَّ به -يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم- معبدٌ الخزاعيّ بحمراء الأسد= وكانت خزاعة، مسلمُهم ومشركهم، عَيْبةَ نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، (1) صفقتهم معه، (2) لا يخفون عليه شيئًا كان بها، =ومعبد يومئذ مشرك= فقال: والله يا محمد، أما والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! (3) ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، (4) حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا! حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟! (5) لنَكرَّن على بقيَّتهم، فلنفرغنَّ منهم". فلما رأى أبو سفيان معبدًا   (1) العيبة: وعاء من أدم يكون في المتاع. ثم أخذوا منه على المثل قولهم: "عيبة الرجل"، أي موضع سره، وفي الحديث: "الأنصار كرشى وعيبتي" أي: خاصتي وموضع سرى. ويقال لأهل الرجل"هم عيبته"، من ذلك. (2) الصفقة: البيعة، ثم استعملت في العهد والميثاق، وفي الحديث: "إن أكبر الكبائر أن تقاتل أهل صفقتك"، وذلك إذا أعطى الرجل عهده وميثاقه ثم يقاتله، وأصل ذلك كله من الصفق باليد. لأن المتعاهدين والمتبايعين، يضع أحدهما يده في يد الآخر. ومنه حديث ابن عمر: "أعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه". فالصفقة المرة من التصفيق باليد. (3) عافاه الله وأعفاه: وهب له العافية من العلل والبلايا. وفي سيرة ابن هشام"عافاك فيهم"، وهما سواء. وقوله: "عافاك فيهم"، أي: صانك مما نزل بأصحابك. (4) في المطبوعة: "من حمراء الأسد"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري. (5) في المطبوعة: "أصبنا في أحد أصحابه. . ."، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام والتاريخ. وحد كل شيء: طرف شباته، كحد السكين والسيف والسنان. ومنه يقال: "حد الرجل" وهو بأسه ونفاذه في نجدته. و"رجل ذو حد": أي بأس ماض. وقوله: "أصبنا حد أصحابه"، أي: كسرنا حدهم وثلمناه كما يثلم السيف، فصاروا أضعف مما كانوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرَّقون عليكم تحرُّقا، (1) قد اجتمع معه من كان تخلَّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنَق عليكم شيء لم أر مثله قط! (2) . قال: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل! قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم! قال: فإنّي أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتًا من شعر! قال: وما قلت؟ قال: قلت: كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتي ... إِذْ سَالَتِ الأرَضُ بِالجُرْدِ الأبَابيِل (3) تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةٍ ... عِنْد اللِّقَاء وَلا خُرْقٍ مَعَازِيِل (4)   (1) يتحرق: يتلهب من الغيظ كمثل حريق النار. (2) في المطبوعة: "فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط"، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري. (3) هد البناء: ضعضعه وهدمه. ومنه"هده الأمر" إذا بلغ منه فضعضعه وكسره وأوهنه. يقول: كادت تنهار راحلته من الفزع. و"الجرد" جمع أجرد: وهو القصير الشعر من الخيل، وهو من علامات عتقها وكرمها. و"الأبابيل" الجماعات المتفرقة، واحدها"إبيل" (بكسر الهمزة وتشديد الباء المكسورة) ، وقيل غير ذلك، وقيل: هو جمع لا واحد له. وزعم معبد كثرة خيل المسلمين في مخرجهم إلى حمراء الأسد، والذي في السير أن المسلمين كانوا في أحد ألفًا، فيهم مئة دارع. وفرسان: أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر لأبي بردة بن نيار. (4) ردت الخيل تردى (على وزن جرى يجري) : رجمت الأرض بحوافرها في سيرها أو عدوها. و"التنابل" جمع تنبال وتنبالة (بكسر التاء) ، وهو القصير، والقصر معيب، لأن المقاتل القصير لا يطول باعه إذا قاتل بسيف أو رمح. وفي المطبوعة"ولا ميل معازيل"، كما في سيرة ابن هشام، ولكن الذي أثبته هو رواية الطبري في التفسير، وفي التاريخ. و"الخرق" جمع. خرق: وهو الأحمق الذي لا رفق له في عمل. وأنا أرجح أنه أراد الصفة من قولهم: "خرق الظبي وغيره": إذا دهش وفزع، فلصق بالأرض ولم يقدر على النهوض، والصفة من ذلك"خرق" على وزن"فرح"، ولكنه جمعه على باب"أفعل". وأما"الميل" فهو جمع أميل: وهو الذي يميل على السرج في جانب ولا يستوي عليه، لأنه لا يحسن الركوب ولا الفروسية. و"المعازيل" جمع معزال: وهو الذي لا سلاح معه. وأنا أرى أن"الأميل"، هو الذي يميل عن عدوه من الخوف و"المعزال"، الذي يعتزل المعركة من الفرق، فلا يكاد يقاتل، ولا ينجد من استغاث به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 فَظَلْتُ عَدْوًا، أَظُنُّ الأرْضَ مَائِلَةً ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ (1) فَقُلْتُ: وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ منْ لِقَائِكُمُ ... إِذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحَاءُ بِالخِيِل (2) إنِّي نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكَلِّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ (3) مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالقِيلِ (4) قال: فثنَى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرَّ به ركب من عبد القيس. فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل   (1) قوله: "فظلت عدوا"، أي: فظللت أعدو عدوًا. و"سما الرجل لعدوه": إذ أشرف له وقصد نحوه، عاليًا عليه. (2) "تغطمطت القدر": اشتد غليانها، وبان صوتها كصوت اضطراب الأمواج. و"البطحاء": مسيل الوادي، فيه دقاق الحصى. و"الخيل"، ضبطه السهيلي في الروض الأنف (2: 144) بفتح الخاء وسكون الباء، وقال: "قوله: بالخيل، جعل الردف حرف لين، والأبيات كلها مردفة الروى بحرف مد ولين. وهذا هو السناد.. ونظيره قول ابن كلثوم: "ألا هبى بصحنك فاصبحينا" ثم قال: "تصفقها الرياح إذا جرينا". وهو وجه صحيح مقارب. وأما أبو ذر الخشني فقد ضبطه"الجيل" بكسر الجيم، وقال: "الجيل: الصنف من الناس". وهذا لا معنى له. وهو في مطبوعة سيرة ابن هشام"الجيل" بالجيم، وكذلك هو في تاريخ الطبري. فلو صح أنها بالجيم، فأنا أرى أنها جماعة الخيل، وذلك أنهم قالوا: "الجول" (بضم الجيم) و"الجول" بفتحها: هي جماعة الخيل أو الإبل، وقالوا أيضا: "الجول" بضم الجيم و"الجال" و"الجيل" ناحية البئر وجانبها. فكأنه قاس هذا على هذا. أو كأنه جمع جائل من قولهم: "جالت الخيل بفرسانها" إذا طافت وذهبت وجاءت، جمعه كجمع: هائم وهيم، على شذوذه. فأما إذا كانت الرواية"الخيل" بكسر الخاء، فهو جمع خائل أيضا كالذي سلف، والخائل هو الحافظ للشيء الراعي له، من خال المال يخوله: إذا ساسه وأحسن القيام عليه، فهو خائل وخال. يقال: "من خال هذا الفرس"، أي صاحبها القائم بأمرها. (3) قال أبو ذر الخشني: "البسل: الحرام. وأراد بأهل البسل قريشًا، لأنهم أهل مكة، ومكة حرام". وقوله: "ضاحية" أي علانية من"ضحا" أي برز، والضاحية من كل شيء ما برز منه. فهو إما مصدر على وزن"عافية"، أو اسم فاعل قام مقامه. و"الإربة" البصر بالأمور. و"المعقول" مصدر كالمصادر التي جاءت على وزنه، وهو العقل. (4) "الوخش": رذالة الناس وسقاطهم وصغارهم. و"القنابل" جمع قنبلة (بفتح القاف) وهي الطائفة من الناس والخيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 أنتم مبلَّغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها، وأحمِّل لكم إبلكم هذه غدًا زبيبًا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (1) "حسبنا الله ونعم الوكيل". (2) 8244 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فقال الله:"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"، و"الناس" الذين قالوا لهم ما قالوا= النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال=: إنّ أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم! يقول الله تبارك وتعالى:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" الآية. (3) 8245- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ندموا= يعني أبا سفيان وأصحابه= على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا:"ارجعوا فاستأصلوهم"، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا، فلقوا أعرابيًّا فجعلوا له جُعْلا فقالوا له: إن لقيت محمدًا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم! فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا الأعرابيَّ في الطريق، فأخبرهم الخبر، فقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل"! ثم رجعوا من حمراء الأسد. فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".   (1) أسقطت المطبوعة: "وأصحابه"، وهي ثابتة في التاريخ وفي المخطوطة، وفعل الناشر ذلك ليوافق ما في سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 8243 - سيرة ابن هشام 3: 108- 110، وهو بقية الأثر السالف: 8233، وتاريخ الطبري 3: 28- 29. (3) الأثر: 8244 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8235. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 8246 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عِيرًا واردةَ المدينة ببضاعة لهم، (1) وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حِبال، (2) فقال: إنّ لكم عليَّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدًا ومن معه، إن أنتم وجدتموه في طلبي، وأخبرتموه أنّي قد جمعت له جموعًا كثيرة. فاستقبلت العيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: (3) يا محمد إنا نخبرك أنّ أبا سفيان قد جمع لك جموعًا كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل! فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينًا، وقالوا: (4) "حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزل الله تبارك وتعالى:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم" الآية. 8247 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابةٌ من أصحابه بعد ما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناسُ يأتون عليهم فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائلٌ عليكم بالناس! فقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزل الله تعالى فيهم:"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". * * * وقال آخرون: بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له، في غزوة بدر الصغرى، وذلك في مسير النبي صلى الله عليه وسلم عامَ قابلٍ من وقعة أحد للقاء عدوِّه أبي سفيان وأصحابه، للموعد الذي كان واعده الالتقاءَ بها. * ذكر من قال ذلك:   (1) "العير" (بكسر العين) : القافلة من الإبل أو الحمير أو البغال، تحمل عليها الميرة. (2) "الحبال" جمع حبل: وهو العهد. (3) في المطبوعة: "قالوا له"، بحذف الفاء، والصواب من المخطوطة. (4) في المطبوعة: "ولم يزده ذلك" بالواو، والصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 8248 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم"، قال: هذا أبو سفيان قال لمحمد:"موعدكم بدرٌ حيث قتلتم أصحابنا"، فقال محمد صلى الله عليه وسلم:"عسى"! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا، فذلك قوله تبارك وتعالى:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء"، وهي غزوة بدر الصغرى. 8249 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= وزاد فيه: وهي بدر الصغرى= قال ابن جريج: لما عبَّى النبي صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان، (1) فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش، فيقولون:"قد جمعوا لكم"! يكيدونهم بذلك، يريدون أن يَرْعَبوهم، فيقول المؤمنون:"حسبنا الله ونعم الوكيل"، حتى قدموا بدرًا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد. (2) قال: وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام، وقال في ذلك: (3) نَفَرَتْ قَلُوصيِ عَنْ خُيولِ مُحَمَّدِ ... وَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كَالعُنْجُدِ وَاتَّخَذَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي * * * قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنما هو:   (1) في المطبوعة: "لما عمد النبي. . ."، وفي المخطوطة"لما عبد"، ورجحت أن صحة قراءتها ما أثبت."عبى الجيش تعبئة": هيأه وأصلح أمره وجمعه، مثل"عبأه". ورجحت ذلك، لأن معناه وارد في الآثار الأخرى. (2) قوله: "أسواقهم عافية"، أي وافرة، من قولهم: "أرض عافية": لم يرع أحد نبتها، فوفر نبتها وكثر. يعني أن الأسواق لم يحضرها أحد يزاحمهم في تجارتها. وانظر الأثر الآتي رقم: 8252. (3) هو معبد بن أبي معبد الخزاعي، كما روى ابن هشام في سيرته 3: 220، 221، والطبري في تاريخه 3: 41. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمَّدِ ... وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثْرِبٍ كَالعُنْجُدِ (1) تَهْوِي عَلَى دِينِ أَبيهَا الأتْلَدِ ... قَدْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي (2) وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ (3) * * * 8250 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: كانت بدر متجرًا في الجاهلية، فخرج ناس من المسلمين يريدونه، ولقيهم ناسٌ من المشركين فقالوا لهم:"إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"! فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة، وقالوا:"حسبنا الله ونعم الوكيل"! فأتوهم فلم يلقوا أحدًا، فأنزل الله عز وجل فيهم:"إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"= قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، ابن عيينة: وأخبرني زكريا، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، فقال:"حسبنا الله ونعم الوكيل". * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال:"إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش، مُنْصَرَفهم عن أحد إلى حمراء الأسد".   (1) سيرة ابن هشام 2: 220، 221، وتاريخ الطبري 3: 41، ومعجم ما استعجم: 856، 857. وقوله: "رفقتي محمد" بالتثنية، يعنى المهاجرين والأنصار. و"العجوة" ضرب من أجود التمر بالمدينة، ونخلته هي"اللينة" المذكورة في قوله تعالى: "ما قطعتم من لينة"، في سورة الحشر. و"يثرب" مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و"العنجد": الزبيب الأسود. (2) تهوي: تسرع، هوت الناقة تهوى: أسرعت إسراعًا. والدين: الدأب والعادة. و"الأتلد" الأقدم، من التليد، وهو القديم. و"قديد": موضع ماء بين مكة والمدينة. (3) و"ضجنان" (بفتح أوله وسكون الجيم) : وهو جبل على طريق المدينة من مكة، بينه وبين قديد ليلة، كما بينه هذا الشعر. قاله أبو عبيد البكرى في معجم ما استعجم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم:"حسبنا الله ونعم الوكيل"، لما قيل لهم:"إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله:"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح"، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد. وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى، (1) فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمُه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها، بعد سنة من غزوة أحد، في شعبان سنة أربع من الهجرة. وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه، ولكن قد كان قتل في وقعة الرَّجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى. وكانت وقعة الرَّجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا الصغرى. * * *   (1) في المطبوعة: "وأما قول الذين خرجوا معه"، وهي زيادة فاسدة، وليست في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 القول في تأويل قوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فانقلبوا بنعمة من الله"، فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، (1) من وجههم الذي توجَّهوا فيه -وهو سيرهم في أثر عدوهم- إلى حمراء الأسد="بنعمة من الله"، يعني: بعافية من ربهم، لم يلقوا بها عدوًّا. (2) "وفضل"، يعني: أصابوا فيها من الأرباح بتجارتهم التي تَجَروا بها، (3) الأجر الذي اكتسبوه (4) =:"لم يمسسهم سوء" يعني: لم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى (5) ="واتبعوا رضوان الله"، يعني بذلك: أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك، واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدوّ، وطاعتهم="والله ذو فضل عظيم"، يعني: والله ذو إحسان وطَوْل عليهم -بصرف عدوهم الذي كانوا قد همُّوا بالكرة إليهم، وغير ذلك من أياديه عندهم وعلى غيرهم- بنعمه (6) ="عظيم" عند من أنعم به عليه من خلقه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 8251 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) انظر تفسير"انقلب" فيما سلف 3: 163. (2) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف 4: 272. (3) في المطبوعة: "اتجروا بها"، وأثبت ما في المخطوطة."تجر يتجر تجرًا وتجارة": باع واشترى، ومثله: "اتجر" على وزن (افتعل) . والثلاثي على وزن (نصر وينصر) . (4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف ص299 تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير"المس" فيما سلف 5: 118 / 7: 155، 238. (6) السياق: "والله ذو إحسان وطول. . . بنعمه". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل"، قال: والفضل ما أصابوا من التجارة والأجر. 8252 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال، وافقوا السوق فابتاعوا، وذلك قوله:"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل". قال: الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر= قال ابن جريج: ما أصابوا من البيع نعمة من الله وفضل، أصابوا عَفْوه وغِرَّته (1) لا ينازعهم فيه أحد= قال: وقوله:"لم يمسسهم سوء"، قال: قتل="واتبعوا رضوان الله"، قال: طاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم. 8253 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله ذو فضل عظيم"، لما صرف عنهم من لقاء عدوهم. (2) 8254 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أطاعوا الله وابتغوا حاجتهم، ولم يؤذهم أحد،"فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم". 8255 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى- ببدر دراهم، (3) ابتاعوا بها من موسم بدر فأصابوا تجارة، فذلك قول الله:"فانقلبوا بنعمة من لله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله". أما"النعمة" فهي العافية، وأما"الفضل" فالتجارة، و"السوء" القتل. * * *   (1) في المطبوعة: "وعزته"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة غير منقوطة. و"الغرة" (بكسر الغين) الغفلة، يريد خلو السوق ممن يزاحمهم فيها، كأنهم أتوها والناس في غفلة عنها. وهو مجاز، ومثله عيش غرير: أي ناعم، لا يفزع أهله. (2) الأثر: 8253 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8244. (3) في المطبوعة والدر المنثور"ببدر دراهم"، وفي المخطوطة "بردراهم" غير منقوطة، وأخشى أن تكون كلمة مصحفة لم أهتد إليها، وإن قرأتها"نثر دراهم"، فلعلها! وشيء نثر (بفتحتين) متناثر. ولا أدري أيصح ذلك أو لا يصح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: إنما الذي قال لكم، أيها المؤمنون:"إن الناس قد جمعوا لكم"، فخوفوكم بجموع عدوّكم ومسيرهم إليكم، من فعل الشيطان ألقاه على أفواه من قال ذلك لكم، يخوفكم بأوليائه من المشركين -أبي سفيان وأصحابه من قريش- لترهبوهم، وتجبنوا عنهم، كما:- 8256 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، يخوف والله المؤمنَ بالكافر، ويُرهب المؤمن بالكافر. 8257 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، قال: يخوّف المؤمنين بالكفار. 8258 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، يقول: الشيطان يخوّف المؤمنين بأوليائه. 8259 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه"، أي: أولئك الرهط، يعني النفر من عبد القيس، الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا، وما ألقى الشيطان على أفواههم="يخوّف أولياءه"، أي: يرهبكم بأوليائه. (1) 8260 - حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن معبد، عن عتاب بن بشير مولى قريش، عن سالم الأفطس في قوله:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، قال: يخوفكم بأوليائه. * * *   (1) الأثر: 8259 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8253. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 وقال آخرون: معنى ذلك، إنما ذلكم الشيطان يعظِّم أمر المشركين، أيها المنافقون، في أنفسكم فتخافونه. * ذكر من قال ذلك: 8261 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر أمر المشركين وعِظمهم في أعين المنافقين فقال:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونه. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"يخوف أولياءه"؟ وهل يخوف الشيطان أولياءه؟ [وكيف] قيل= إن كان معناه يخوّفكم بأوليائه="يخوف أولياءه"؟ (1) قيل: ذلك نظير قوله: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) [سورة الكهف: 2] بمعنى: لينذركم بأسه الشديد، وذلك أن البأس لا يُنذر، وإنما ينذر به. (2) * * * وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى ذلك: يخوف الناسَ أولياءه، كقول القائل:"هو يُعطي الدراهم، ويكسو الثياب"، بمعنى: هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب، فحذف ذلك للاستغناء عنه. * * * قال أبو جعفر: وليس الذي شبه [من] ذلك بمشتبه، (3) لأن"الدراهم" في قول القائل:"هو يعطي الدراهم"، معلوم أن المعطَى هي"الدراهم"، وليس كذلك"الأولياء" -في قوله:"يخوف أولياءه"- مخوَّفين، (4) بل التخويف من الأولياء لغيرهم، فلذلك افترقا. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهل يخوف الشيطان أولياءه؟ قيل إن كان معناه يخوفكم بأوليائه" وهو كلام لا يستقيم، ورجحت أن الناسخ أسقط ما زدته بين القوسين. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 248. (3) في المطبوعة: "الذي شبه ذلك بمشبه"، والذي في المخطوطة مثله إلا أنه كتب"بمشتبه" ورجحت أن الناسخ أسقط"من" فوضعها بين القوسين، مع إثبات نص المخطوطة، وهو الصواب. (4) السياق: "وليس كذلك الأولياء. . . مخوفين". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 القول في تأويل قوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) } قال أبو جعفر: يقول: فلا تخافوا، أيها المؤمنون، المشركين، ولا يعظُمَن عليكم أمرهم، ولا ترهبوا جمعهم، مع طاعتكم إياي، ما أطعتموني واتبعتم أمري، وإني متكفِّل لكم بالنصر والظفر، (1) ولكن خافون واتقوا أن تعصوني وتخالفوا أمري، فتهلكوا="إن كنتم مؤمنين"، يقول: ولكن خافونِ دون المشركين ودون جميع خلقي، أنْ تخالفوا أمري، إن كنتم مصدِّقي رسولي وما جاءكم به من عندي. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ولا يحزنك، يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر مرتدِّين على أعقابهم من أهل النفاق، (2) فإنهم لن يضروا الله بمسارعتهم في الكفر شيئًا، وكما أنّ مسارعتهم لو سارعوا إلى الإيمان لم تكن بنافعته، (3) كذلك مسارعتهم إلى الكفر غير ضارَّته. كما:- 8262 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، يعني: أنهم المنافقون. (4)   (1) في المخطوطة: "وإني متكلف لكم بالنصر"، وهو خطأ فاحش، تعالى ربنا عن أن يتكلف شيئًا، وهو القادر الذي لا يؤوده شيء. وقد أصاب ناشر الطبعة السالفة فيما فعل. (2) انظر تفسير"سارع" فيما سلف 7: 130، 207. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "كما أن مسارعتهم" بغير واو، والصواب إثبات الواو. (4) في المطبوعة: "هم المنافقون"، وأثبت ما في المخطوطة، ولو قرئت المخطوطة: "فهم المنافقون"، لكان أجود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 8263 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، أي: المنافقون. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر، نصيبًا في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم فسارعوا فيه. ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الآخرة، لهم عذاب عظيم في الآخرة، وذلك عذابُ النار. وقال ابن إسحاق في ذلك بما:- 8264 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"يريد الله أن لا يجعل لهم حظًّا في الآخرة"، أن يُحبط أعمالهم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه المنافقين الذين تقدَّم إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم: أن لا يحزنه مسارعتهم إلى الكفر، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:   (1) الأثر: 8263 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8259. (2) الأثر: 8264 - ليس في سيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيمانهم فارتدوا عن إيمانهم بعد دخولهم فيه، (1) ورضوا بالكفر بالله وبرسوله، عوضًا من الإيمان، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم عن إيمانهم شيئًا، بل إنما يضرون بذلك أنفسهم، بإيجابهم بذلك لها من عقاب الله ما لا قِبل لها به. * * * وإنما حث الله جل ثناؤه بهذه الآيات من قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) إلى هذه الآية، عبادَه المؤمنين على إخلاص اليقين، ولانقطاع إليه في أمورهم، والرضى به ناصرًا وحدَه دون غيره من سائر خلقه= ورغَّب بها في جهاد أعدائه وأعداء دينه، وشجَّع بها قلوبهم، وأعلمهم أن من وليه بنصره فلن يخذل ولو اجتمع عليه جميعُ من خالفه وحادَّه، وأن من خذله فلن ينصره ناصرٌ ينفعُه نصرُه، ولو كثرت أعوانه ونصراؤه، (2) كما:- 8265 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان"، أي: المنافقين="لن يضروا الله شيئًا ولهم عذاب أليم"، أي: موجع. (3) 8266 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هم المنافقون. * * *   (1) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف 1: 312 - 315 / 2: 341، 342 / 3: 228. (2) في المطبوعة: "أو نصراؤه"، والصواب ما في المخطوطة. (3) الأثر: 8265 - سيرة ابن هشام: 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8263. وليس في سيرة ابن هشام تفسير"أليم". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله (1) ، أن إملاءنا لهم خيرٌ لأنفسهم. * * * ويعني بـ"الإملاء"، الإطالة في العمر، والإنساء في الأجل، ومنه قوله جل ثناؤه: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [سورة مريم: 46] أي: حينًا طويلا ومنه قيل:"عشتَ طويلا وتملَّيت حبيبًا" (2) . "والملا" نفسه الدهر،"والملوان"، الليل والنهار، ومنه قول تميم بن مقبل: (3) أَلا يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوَانِ (4)   (1) انظر تفسير"حسب" فيما سلف قريبا ص: 384. (2) في المطبوعة: "وتمليت حينًا"، وهو خطأ، وفي المخطوطة: "وتمليت حنينًا"، وهو تصحيف، والصواب ما أثبت. وهو قول يقال في الدعاء، ومثله في الدعاء لمن لبس ثوبًا جديدًا: "أبليت جديدًا، وتمليت حبيبًا"، أي: عشت معه ملاوة من دهرك وتمتعت به. (3) وينسب البيت لابن أحمر، وإلى أعرابي من بني عقيل. (4) سيبويه 2: 322، ومجاز القرآن 1: 109، والأمالي 1: 233، والسمط: 533، والخزانة 3: 275، واللسان (ملل) ، وغيرها، وسيأتي في التفسير 13: 106 (بولاق) . وقد بين صاحب الخزانة نسبة هذه الأبيات وذكر الشعر المختلف فيه، وقال إن أبيات ابن مقبل بعد هذا البيت: نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَالِ النَّاسِ يَخْتَلِفَانِ ألا يا دَيارَ الحَيِّ لا هَجْرَ بَيْننَا ... وَلكنَّ رَوْعَاتٍ مِنَ الحَدَثَانِ لِدَهْمَاءَ إِذْ لِلنَّاس والعَيْشِ غِرَّةٌ ... وَإِذْ خُلُقَانَا بِالصِّبَا عَسِرَانِ قال أبو عبيد البكري: "أمل عليها": دأب ولازم، وقال أبو عبيدة: أي رجع عليها حتى أبلاها، أي: طال عليها. وعندي أن أصله من"الملل"، يقول: حتى بلغ أقصى الملل والسآمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 يعني: بـ"الملوان"، الليل والنهار. * * * وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم". فقرأ ذلك جماعة منهم: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء، وبفتح"الألف" من قوله:"أَنَّمَا"، على المعنى الذي وصفتُ من تأويله. * * * وقرأه آخرون: (وَلا تَحْسَبَنَّ) بالتاء و"أَنَّمَا" أيضا بفتح"الألف" من"أنما"، بمعنى: ولا تحسبنّ، يا محمد، الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم. * * * فإن قال قائل: فما الذي من أجله فتحت"الألف" من قوله:"أنما" في قراءة من قرأ بالتاء، وقد علمت أن ذلك إذا قرئ بالتاء فقد أعملت"تحسبن"، في"الذين كفروا"، وإذا أعملتها في ذلك، لم يجز لها أن تقع على"أنما" لأن"أنما" إنما يعمل فيها عاملٌ يعمل في شيئين نصبًا؟ قيل: أما الصواب في العربية ووجهُ الكلام المعروف من كلام العرب، كسر"إن" إذا قرئت"تحسبن" بالتاء، لأن"تحسبن" إذا قرئت بالتاء فإنها قد نصبت"الذين كفروا"، فلا يجوز أن تعمل، وقد نصبت اسمًا، في"أن". ولكني أظن أنّ من قرأ ذلك بالتاء في"تحسبن" وفتح الألف من"أنما"، إنما أراد تكرير تحسبن على"أنما"، كأنه قصد إلى أنّ معنى الكلام: ولا تحسبن، يا محمد أنت، الذين كفروا، لا تحسبن أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم، كما قال جل ثناؤه: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) [سورة محمد: 18] بتأويل: هل ينظرون إلا الساعة، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة. (1) وذلك وإن كان وجهًا   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 248، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 108، 109. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 جائزًا في العربية، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالياء من"يحسبن"، وبفتح الألف من"أنما"، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم، ثم يعمل في"أنما" نصبًا لأن"يحسبن" حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه، وهي تطلب منصوبين. وإنما اخترنا ذلك لإجماع القرأة على فتح"الألف" من"أنما" الأولى، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة فى"يحسبن" بالياء لما وصفنا. وأما ألف"إنما" الثانية، فالكسر على الابتداء، بإجماع من القرأة عليه: * * * وتأويل قوله:"إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا"، إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثمًا، يقول: يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر="ولهم عذاب مهين"، يقول: ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر. 8267 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود قال، قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. وقرأ:"ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا"، وقرأ: (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ) [سورة آل عمران: 198] . (2) * * *   (1) انظر تفسير"مهين" فيما سلف 2: 347، 348. (2) الحديث: 8267 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي. وسفيان: هو الثوري. خيثمة: هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي. وهو تابعي ثقة، أخرج له الجماعة كلهم. الأسود: هو ابن يزيد النخعي. وهذا الحديث، وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنه - عندنا - مرفوع حكمًا، لأنه مما لا يدرك بالرأي. وسيأتي مرة أخرى: 8374، من طريق عبد الرزاق، عن الثوري، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 298، من رواية جرير، عن الأعمش، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 2: 328، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، به، نحوه. ثم قال: "وكذا رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، به". وذكره السيوطي 2: 104، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي بكر المروزى في الجنائز، وابن المنذر، والطبراني. وسيأتي نحو معناه، من حديث أبي الدرداء: 8375. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"ما كان الله ليذر المؤمنين"، ما كان الله ليدع المؤمنين (1) ="على ما أنتم عليه" من التباس المؤمن منكم بالمنافق، فلا يعرف هذا من هذا="حتى يميز الخبيث من الطيب"، يعنى بذلك:"حتى يميز الخبيث" وهو المنافق المستسرُّ للكفر (2) ="من الطيب"، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان، (3) بالمحن والاختبار، كما ميَّز بينهم يوم أحد عند لقاء العدوّ عند خروجهم إليهم. * * * واختلف أهل التأويل في"الخبيث" الذي عنى الله بهذه الآية. فقال بعضهم فيه، مثل قولنا. * ذكر من قال ذلك: 8268 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثني أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على   (1) انظر تفسير"يذر" فيما سلف 6: 22. (2) انظر تفسير"الخبيث" فيما سلف 5: 559. (3) انظر تفسير"الطيب" فيما سلف 3: 301 / 5: 555، 556 / 6: 361. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: ميز بينهم يوم أحد، المنافقَ من المؤمن. 8269 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: ابن جريج، يقول: ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب= قال ابن جريج، قال مجاهد: يوم أحد، ميز بعضهم عن بعض، المنافق عن المؤمن. 8270 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، أي: المنافقين. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد. * ذكر من قال ذلك: 8271 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه"، يعني الكفار. يقول: لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة:"حتى يميز الخبيث من الطيب"، يميز بينهم في الجهاد والهجرة. 8272 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال: حتى يميز الفاجر من المؤمن. 8273 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي،"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من   (1) الأثر: 8270 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو جزء من الأثر السالف رقم: 8265، وتتمة الآثار التي قبله من تفسير ابن إسحاق. وكان في المطبوعة هنا"المنافق"، والصواب من المخطوطة، والأثر السالف، وسيرة ابن هشام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 الطيب" قالوا:"إن كان محمدٌ صادقًا، فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر"!! فأنزل الله:"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، حتى يخرج المؤمن من الكافر. * * * قال أبو جعفر: والتأويل الأول أولى بتأويل الآية، لأن الآيات قبلها في ذكر المنافقين، وهذه في سياقتها. فكونها بأن تكون فيهم، أشبه منها بأن تكون في غيرهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:- 8274 - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، وما كان الله ليطلع محمدًا على الغيب، ولكن الله اجتباه فجعله رسولا. * * * وقال آخرون بما:- 8275 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، أي: فيما يريد أن يبتليكم به، لتحذروا ما يدخل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 عليكم فيه="ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء"، يعلمه. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بتأويله: وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء= كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد= وجهاد عدوه، وما أشبه ذلك من صنوف المحن، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء فيصطفيه، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم، بوحيه ذلك إليه ورسالته، كما:- 8276 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء"، قال: يخلصهم لنفسه. * * * وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لأنّ ابتداءها خبرٌ من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده (2) -يعني بغير محن- حتى يفرق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم. ثم عقب ذلك بقوله:"وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر، دلالةٌ واضحةٌ على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم، إلا بالذي ذكر أنه مميِّزٌ به نعتَهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه. * * *   (1) الأثر: 8275 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8270، وكان في المطبوعة: "بعلمه" بالباء في أوله، والصواب من سيرة ابن هشام، ونصه: "أي: يعلمه ذلك"، أما المخطوطة، فالكلمة فيها غير منقوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة"وابتداؤها خبر من الله"، وهو سياق لا يستقيم، والظاهر أن ناسخ المخطوطة لما نسخ، أشكل على بصره، "الآية" ثم"لأن" بعقبها. فأسقط"لأن"، وكتب"وابتداؤها"، ورسم الكلمة في المخطوطة"وابتداها"، فلذلك رجحت ما أثبته، وإن كان ضبط السياق وحده كافيًا في الترجيح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 القول في تأويل قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (1) "وإن تؤمنوا"، وإن تصدِّقوا من اجتبيته من رُسلي بعلمي وأطلعته على المنافقين منكم="وتتقوا" ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه="فلكم أجر عظيم"، يقول: فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم، ثوابٌ عظيم، كما:- 8277 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا"، أي: ترجعوا وتتوبوا="فلكم أجر عظيم". (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق: (" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُون ") بالتاء من"تحسبن". * * * وقرأته جماعة أخر: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء. (3) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه بقوله"، وإقحام"بذلك" مفسدة وهجنة في الكلام، فأسقطتها، وهي سبق قلم من الناسخ. (2) الأثر: 8277 - سيرة ابن هشام 3: 128، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 8275. (3) في المطبوعة والمخطوطة في ذكر هاتين القراءتين، كتب القراءة الأولى"ولا يحسبن" بالياء، والقراءة الثانية"ولا تحسبن" بالتاء. وهو خطأ بين جدًا، لأنه عقب على هذه القراءة الأخيرة بقوله: "ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك"، واختلافهم كما ترى في قراءة"الياء" لا"التاء"، فمن أجل ذلك صححت مكان القراءتين، كما أثبتها، وهو الصواب المحض إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي الكوفة: (1) معنى ذلك: لا يحسبن الباخلون البخلَ هو خيرًا لهم= فاكتفى بذكر"يبخلون" من"البخل"، كما تقول:"قدم فلان فسررت به"، وأنت تريد: فسررت بقدومه. و"هو"، عمادٌ. (2) * * * وقال بعض نحويي أهل البصرة: إنما أراد بقوله:"ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم" (3) ="لا يحسبن البخل هو خيرًا لهم"، (4) فألقى الاسم الذي أوقع عليه"الحسبان" به، هو البخل، لأنه قد ذكر"الحسبان" وذكر ما آتاهم الله من فضله"، فأضمرهما إذ ذكرهما. (5)   (1) هو الفراء. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 104، 248، 249، وهو نص كلامه، و"العماد" عند الكوفيين، هو ضمير الفصل عند البصريين، ويسمى أيضا"دعامة" و"صفة"، انظر ما سلف 2: 312، تعليق 2 / ثم ص313 / ثم ص: 374. (3) في المطبوعة: "ولا تحسبن" بالتاء، والصواب بالياء كما أثبتها. وانظر التعليق السالف. وهي في المخطوطة غير منقوطة. (4) وكان في المطبوعة أيضا: "ولا تحسبن البخل"، بالتاء، والصواب بالياء، وانظر التعليق السالف. (5) هكذا جاءت هذه الجملة من أولها، وهي مضطربة أشد الاضطراب، وكان في المطبوعة: "به وهو البخل" بزياد واو، ولكني أثبت ما في المخطوطة كما هو على اضطراب الكلام. وقد جهدت أن أجد إشارة في كتب التفسير وإعراب القرآن، إلى هذا الذي قاله البصري فيما رواه أبو جعفر، فلم أجد شيئًا، وأرجح أن الناسخ قد أسقط من الكلام سطرًا أو بعضه، وأرجح أن سياق الجملة من أولها، كان هكذا: "وقال بعض نحوِّيى أهل البصرة: إِنّما أراد بقوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الذين يبخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فَضْله هو خيرًا لهم بل هو شَرٌّ لهم) =: ولا يحسبَنَّ الذين يبخلونَ بما آتاهم الله من فضله، لا يَحْسَبُنَّ البُخْلَ هو خيرًا لهم= فألقى"الحسبان" الثاني، وألقى الاسمَ الذي أوقعَ عليه"الحسبان". وما وقع"الحسبان" به هو البخل= لأنه قد ذكر"الحسبان"، وذكر"ما آتاهم الله من فضله"، فأضمرهما إذ ذكرهما". ويكون القائل هذا من أهل البصرة، قد عنى أن هذه الآية شبيهة بأختها الآتية في سورة آل عمران: 188 (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمفَازَةِ مِنَ العَذَابِ) إذ كرر"لا تحسبن" تأكيدًا لما طال الكلام، وهو صحيح كلام العرب وصريحه. فكذلك هو في هذه الآية، على ما أرجح أن البصري قال، كرر"الحسبان"، ولكنه حذف"الحسبان" الذي كرره، وأبقى الأول الذي ألجأ إلى التكرار والتوكيد. ويعني بقوله: "أضمرهما"، "الحسبان" الثاني في تأويله، و"البخل"، ولم أجد وجهًا يستقيم به الكلام غير هذا الوجه، فإن أصبت فبحمد الله وتوفيقه، وإن أخطأت، فأسأل الله المغفرة بفضله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 قال: وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا، قال: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) ولم يقل:"ومن أنفق من بعد الفتح"، لأنه لما قال: (أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) [سورة الحديد: 10] ، كان فيه دليل على أنه قد عناهم. * * * وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة: إنّ"مَنْ" في قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) في معنى جمع. ومعنى الكلام: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم، فكيف من أنفق من بعد الفتح؟ فالأول مكتفٍ. وقال: في قوله:"لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم" محذوف، غير أنه لم يُحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف، لأن"هو" عائد البخل، و"خيرا لهم" عائد الأسماء، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين، واكتفى بقوله:"يبخلون" من"البخل". * * * قال: وهذا إذا قرئ بـ"التاء"، فـ"البخل" قبل"الذين"، وإذا قرئ بـ"الياء"، فـ"البخل" بعد"الذين"، وقد اكتفى بـ"الذين يبخلون"، من البخل، كما قال الشاعر: (1)   (1) لم يعرف قائله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلى خِلافِ (1) كأنه قال: جرى إلى السفه، فاكتفى عن"السفه" بـ"السفيه"، كذلك اكتفى بـ"الذين يبخلون"، من"البخل". قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ") بالتاء، بتأويل: ولا تحسبن، أنت يا محمد، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم= ثم ترك ذكر"البخل"، إذ كان في قوله:"هو خيرًا لهم" دلالة على أنه مراد في الكلام، إذ كان قد تقدمه قوله:"الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله". وإنما قلنا: قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء، لأن"المحسبة" من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرئ قوله:"ولا يحسبن الذين يبخلون" بالياء: لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله:"هو خيرًا لهم" خبرًا عنه. وإذا قرئ ذلك بالتاء، كان قوله:"الذين يبخلون" اسمًا له قد أدّى عن معنى"البخل" الذي هو اسم المحسبة المتروك، وكان قوله:"هو خيرًا لهم" خبرًا لها، فكان جاريًا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بـ"التاء" في ذلك على ما بيناه، وإن كانت القراءة بـ"الياء" غير خطأ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب. * * * قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك: ولا تحسبن، يا محمد، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات، هو خيرًا   (1) معاني القرآن للفراء 1: 104، 249، أمالي الشجري 1: 68، 113، 305 / 2: 132، 209، والإنصاف: 63، والخزانة 2: 383، وسائر كتب النحاة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 لهم عند الله يوم القيامة، بل هو شر لهم عنده في الآخرة، كما:- 8278 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم"، هم الذين آتاهم الله من فضله، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله، ولم يؤدُّوا زكاتها. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته. ذكر من قال ذلك: 8279 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" إلى"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، يعني بذلك أهل الكتاب، أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس. 8280 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله"، قال: هم يهود، إلى قوله: (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) [سورة آل عمران: 184] . (1) * * * وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية، التأويل الأوَل، وهو أنه معني بـ"البخل" في هذا الموضع، منع الزكاة، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأوَّل قوله: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: البخيل الذي منع حق الله منه، أنه يصير ثعبانًا في عنقه= ولقول الله عقيب هذه الآية: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، فوصف جل ثناؤه قول المشركين من   (1) تركت الآية في هذه الآثار على قراءة أبي جعفر"ولا تحسبن" بالتاء، وقراءة مصحفنا اليوم"ولا يحسبن" بالياء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقيرٌ. * * * القول في تأويل قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيطوَّقون"، سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاةَ، طوقًا في أعناقهم كهيئة الأطواق المعروفة، كالذي:- 8281 - حدثني الحسن بن قزعة قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود، عن أبي قزعة، عن أبي مالك العبدي قال: ما من عبد يأتيه ذُو رَحمٍ له، يسأله من فضلٍ عنده فيبخل عليه، إلا أخرِج له الذي بَخِل به عليه شجاعًا أقْرَع. (1) قال: وقرأ:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة" إلى آخر الآية. (2)   (1) "الشجاع": الحية الذكر، وهو ضرب من الحيات خبيث مارد. و"أقرع" صفة من صفات الحيات الخبيثة، يزعمون أنه إذا طال عمر الحية، وكثر سمه، جمعه في رأسه حتى تتمعط منه فروة رأسه. (2) الحديث: 8281 - الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي، شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 34. و"قزعة": بفتح القاف والزاي، وقيل: بسكون الزاي. انظر المشتبه، ص425. واقتصر الحافظ في تحريره على الفتح. مسلمة - بفتح الميم - بن علقمة المازني: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وضعفه أحمد. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 388، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 367 - 368. ولم يذكر فيه البخاري جرحًا. فهو ثقة عنده. داود: هو ابن أبي هند. أبو قزعة: هو سويد بن حجير - بالتصغير فيهما - بن بيان، الباهلي البصري. وهو تابعي ثقة، وثقه أحمد، وابن المديني، وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 148، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 235- 236. وسها الحافظ في الإصابة 1: 331، في ترجمة أبيه، فذكر أنه"ذهلي"، والمصادر كلها على أنه"باهلي". وسيأتي في: 8283"عن أبي قزعة حجر بن بيان"؛ وهو خطأ صرف، كما سنبينه هناك، إن شاء الله. أبو مالك العبدي: لا ندري من هو؟ ولا ندري: أهو صحابي أم تابعي؟ فما علمت أحدًا ترجمه، إلا الحافظ في الإصابة 7: 169، بنى ترجمته على هذا الحديث عند الطبري وحده: فأشار إلى هذه الرواية، وإلى الرواية التالية"عن أبي قزعة، عن رجل"، وذكر أن الثعلبى رواها: "عن رجل من قيس". وإلى الرواية الثالثة: "عن أبي قزعة، مرسلا". ثم قال: "وأبو قزعة: تابعي بصري مشهور، لكنه كان يرسل عن الصحابة. فهو على الاحتمال". يعني الحافظ: أنه من المحتمل أن يكون"أبو مالك العبدي" هذا صحابيًا، لأن أبا قزعة يروي عن الصحابة ويرسل الرواية عنهم! وما بمثل هذا تثبت الصحبة، ولا بمثله يثبت وجود الشخص والصفة معًا!! خصوصًا وأنه في الرواية التالية"عن رجل" - لم يزعم أنه من الصحابة، ولم يقل ما يشير لذلك. فلا يزال - بعد هذا - الحديث ضعيفًا، لأنه لم يعرف أن راويه عن رسول الله صحابي. وقد أشار ابن كثير 2: 307 إلى هذه الروايات الثلاث عند الطبري، ولم ينسبها لغيره. ولا نعلم أحدًا رواها غير الطبري، إلا إشارة الحافظ في الإصابة لرواية الثعلبي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 8282 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبى قزعة، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا أخرج له من جهنم شُجاع يتلمَّظ حتى يطوِّقه". (1) 8283 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم قال، حدثنا داود، عن أبي قزعة حجر بن بيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمِه فيسأله من فضل أعطاه الله إياه، فيبخل به عليه، إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوِّقه". ثم قرأ:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" حتى انتهى إلى قوله:"سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة". (2)   (1) الحديث: 8282 - عبد الأعلى: هو ابن عبد الأعلى، القرشي السامي، من بني"سامة ابن لؤي". وهو ثقة، أخرج له الجماعة كلهم. والحديث مكرر ما قبله. "تلمظت الحية"، إذا أخرجت لسانها كتلمظ الآكل، وهو تحريك للسان في الفم، والتمطق بالشفتين. (2) الحديث: 8283 - هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة: "عن أبي قزعة حجر بن بيان"؛ وهو خطأ من وجهين: * فأولا: "حجر"، صوابه"حجير" بالتصغير، وقد وقع هذا الخطأ في الإصابة أيضا، في ترجمة"أبي مالك العبدي": "عن أبي قزعة سويد بن حجر". وهو خطأ ناسخ أو طابع، لا شك في ذلك لأن الحافظ ترجم لأبي قزعة في التهذيب وغيره على الصواب"سويد بن حجير". * وثانيا: سقط هنا بين الكنية والاسم كلمة"بن". لأن"حجير بن بيان" - هو والد أبي قزعة، وليس اسمه. * وأبوه"حجير بن بيان": مذكور في الصحابة. مترجم في الاستيعاب، رقم: 543، وأسد الغابة 1: 387؛ والإصابة 1: 330 - 331، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 290. وهو عندهم جميعًا بالتصغير نصا. * وسها الحافظ ابن كثير، ولم يراجع المصادر! فاغتر بهذه الرواية المغلوطة من وجهين - فذكر في هذه الروايات: "عن أبي قزعة، واسمه حجر بن بيان"!! فزاد على الخطأ الذي في أصول الطبري بحذف"بن" - فصرح بأن هذا اسم أبي قزعة! وما كان ذلك في رواية ولا قول قط. * والسيوطي تبع الحافظ ابن كثير، ثم زاد خطأ على خطأ، فذكر الحديث 2: 105، ونسبه لابن أبي شيبة في مسنده، وابن جرير"عن حجر بن بيان"!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 8284 - حدثني زياد بن عبيد الله المرّي قال، حدثنا مروان بن معاوية= وحدثني عبد الله بن عبد الله الكلابي قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد، واللفظ ليعقوب= جميعًا، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه. عن جده قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده، فيمنعه إياه، إلا دُعِيَ له يوم القيامة شجاعٌ يتلمَّظ فضله الذي منع. (1)   (1) الحديث: 8284 - هذا الحديث رواه الطبري عن ثلاثة شيوخ: زياد بن عبيد الله المرى، وعبد الله بن عبد الله الكلابي - وهذان لم أعرفهما، ولم أجد لواحد منهما ترجمة ولا ذكرًا في غير هذا الموضع. ثم إن في المطبوعة بدل"عبد الله بن عبد الله الكلابي": "محمد بن عبد الله"! وهو أشد جهالة من ذاك. وفي لسان الميزان 2: 495، ترجمة: "زياد بن عبد الله بن خزاعى، عن مروان بن معاوية. قال ابن حبان في الثقات: حدثنا عنه شيوخنا، ربما أغرب". فمن المحتمل أن يكون هذا الشيخ هو شيخ الطبري"زياد بن عبيد الله الكلابي"، وأن يكون"عبيد الله" محرفًا في طبعة اللسان إلى"عبد الله". والشيخ الثالث: يعقوب بن إبراهيم، وهو الدورقي الحافظ، مضى مرارًا، آخرها: 3726. وأسانيده صحاح، على الرغم من جهالة شيخي الطبري الأولين، اكتفاء برواية الحافظ الدورقي. ولأن الحديث ثابت عن شيوخ آخرين عن بهز بن حكيم، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله. وقد بينا فيما مضى رقم: 873 صحة إسناد بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. والحديث رواه أحمد في المسند، عن عبد الرزاق عن معمر، وعن يزيد - وهو ابن هارون، وعن يحيى بن سعيد: ثلاثتهم عن بهز بن حكيم، بهذا الإسناد. ورواه النسائي 1: 358، عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن بهز. ومن عجب أنه -وهو في المسند وسنن النسائي- لا ينسبه الحافظ ابن كثير 2: 307، إلا لابن جرير وابن مردويه! وذكره السيوطي 2: 105، وزاد نسبته لأبي داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي في الشعب. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 33، ونسبه لأبي داود، والترمذي، والنسائي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 8285 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: ثعبان ينقر رأس أحدهم، يقول: أنا مالك الذي بخلت به! (1) . 8286 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت أبا وائل يحدّث: أنه سمع عبد الله قال في هذه الآية:"سيطوقون ما بخلوا له يوم القيامة"، قال: شجاع يلتوي برأس أحدهم. 8287 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة قال، حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن عبد الله بمثله - إلا أنهما قالا قال: شجاع أسود. 8288 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري،   (1) الحديث: 8285 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي. وسفيان: هو الثوري. وأبو إسحاق: هو السبيعي. وهذا الحديث لفظه هنا موقوف على ابن مسعود. وهو في معناه مرفوع. وهو أيضًا مختصر اللفظ. وقد رواه الطبري هكذا، مختصرًا موقوفًا، بأسانيد: 8285 - 8288، 8292. ثم رواه أثناء ذلك: 8289، مرفوعًا بلفظ أطول. ورواه أيضًا الحاكم في المستدرك 2: 298- 299، من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، ومن طريق الثوري، عن أبي إسحاق - موقوفًا، بنحوه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقد تساهل الحافظ ابن كثير 2: 306 فأشار إلى رواية الحاكم هذه، عقب رواية الحديث المرفوع من مسند أحمد - بصيغة توهم أن رواية الحاكم مثل رواية المسند مرفوعة. ثم زاد القارئ لبسًا، إذ قال عقب ذلك: "ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود - موقوفًا"! فهذا السياق عقب ذكر رواية الحاكم، يوقع في وهم الناظر أنها مرفوعة!! وليست كذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: يجيء ماله يوم القيامة ثعبانًا، فينقر رأسه فيقول: أنا مالك الذي بخلت به! فينطوي على عنقه. 8289 - حدثت عن سفيان بن عيينة قال، حدثنا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثَل له شجاع أقرع يطوقه. (1) ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم" الآية. (2)   (1) "مثل له": انتصب له ماثلا، قائمًا. (2) الحديث: 8289 - هكذا أبهم الطبري شيخه في هذا الإسناد. ولكن الحديث ثابت برواية الثقات عن ابن عيينة، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله. جامع بن أبي راشد الكاهلي الصيرفي: ثقة، وثقه أحمد وغيره، وأخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 240، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 530. ووقع هنا في نسخ الطبري: "جامع بن شداد". وهو خطأ، فليس لجامع بن شداد في هذا الحديث رواية، فيما أعلم - كما يتبين من التخريج. ثم إن جامع بن شداد قديم الوفاة، لم يدركه ابن عيينة ولا روى عنه. لأنه ولد سنة 107، وابن شداد مات سنة 107 وقيل سنة 108. وأما ما وقع في ترجمته في التهذيب 2: 56، في الأقوال في سني وفاته، بين: 128، 118، 127، فإنه غلط، بعضه من الحافظ المزي في التهذيب الكبير، وبعضه من نسخ تهذيب التهذيب. وقد ثبتت هذه الأرقام على الصواب بالكتابة بالحروف في الكبير للبخاري 1 / 2 / 239- 240، والصغير، ص: 132؛ وابن سعد 6: 222، 226. عبد الملك بن أعين الكوفي: تابعي ثقة. وقد تكلم فيه بأنه شيعي، ولكن لم يدفعه أحد عن الصدق. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 343. وذكره البخاري في الضعفاء، ص: 222، فقال: "عبد الملك بن أعين، وكان شيعيًا. روى عنه ابن عيينة وإسماعيل ابن سميع. يحتمل في الحديث". فلم يجرحه في صدقه وروايته، ولذلك أدخله في صحيحه. والحديث رواه أحمد في المسند: 3577، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن جامع، وهو ابن أبي راشد، عن أبي وائل، به، نحوه، مرفوعًا. وكذلك رواه الترمذي 4: 85، وابن ماجه: 1784، كلاهما عن ابن أبي عمر. والنسائي1: 333 - 334، عن مجاهد بن موسى - كلاهما عن سفيان بن عيينة، به. ولكن زاد الترمذي وابن ماجه في روايتهما: أنه عن جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين - كرواية الطبري هنا. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وذكره ابن كثير 2: 306، من رواية المسند، ثم ذكر أنه رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وذكره السيوطي 2: 105، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن المنذر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 8290 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"سيطوقون ما بخلوا به"، فإنه يُجعل ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع يطوِّقه، فيأخذ بعنقه، فيتبعه حتى يقذفه في النار. 8291 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي وائل قال: هو الرجل الذي يرزقه الله مالا فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله، فيُجْعل حية فيطوَّقها، فيقول: ما لي ولك! فيقول: أنا مالك! 8292 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن قوله:"سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: يطوقون شجاعًا أقرع ينهش رأسه. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، فيجعل في أعناقهم طوقًا من نار. ذكر من قال ذلك: 8293 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من النار.   (1) الحديث: 8292 - أبو غسان: هو مالك بن إسماعيل بن درهم النهدي الحافظ. مضت ترجمته في: 2989. إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. حكيم بن جبير الأسدي: ضعيف، بينا ضعفه في شرح المسند: 3675. وهو مترجم في التهذيب والكبير للبخاري 2 / 1 / 16، والصغير، ص: 150، 152؛ والضعفاء له ص: 10، وللنسائي ص: 9، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 201- 202. وهذا اللفظ موقوف على ابن مسعود. وضعف إسناده لا يضر، فقد مضى موقوفًا بأسانيد صحاح: 8285 - 8288، ومرفوعًا: 8289. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 8294 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية:"سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من نار. 8295 - حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:"سيطوقون"، قال: طوقًا من نار. 8296 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: طوقًا من نار. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: سيحمل الذين كتموا نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود، ما كتموا من ذلك. * ذكر من قال ذلك: 8297 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قوله:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، ألم تسمع أنه قال: (يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) [سورة النساء: 37\ سورة الحديد: 24] ، (2) يعني أهل الكتاب: يقول: يكتمون، ويأمرون الناس بالكتمان. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: سيكلَّفون يوم القيامة أن يأتوا بما بَخِلوا به في الدنيا من أموالهم. * ذكر من قال ذلك: 8298 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال: سيكلَّفون أن يأتوا بما بخلوا به، إلى قوله:"والكتاب المنير".   (1) في المطبوعة: "طوق"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) وإنما عنى آية سورة النساء، لأن تمامها"ويكتمون ما آتاهم الله من فضله". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 8299 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد"سيطوقون"، سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية، التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله:"سيطوقون ما بخلوا به"، للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدَ أعلم بما عَنى الله تبارك وتعالى بتنزيله، منه عليه السلام. * * * القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه الحي الذي لا يموت، والباقي بعد فَناء جميع خلقه. * * * فإن قال قائل: فما معنى قوله:"له ميراث السموات والأرض"، و"الميراث" المعروف، هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته، ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده؟ قيل: إن معنى ذلك ما وصفنا، من وصفه نفسه بالبقاء، وإعلام خلقه أنه كتِب عليهم الفناء. وذلك أنّ ملك المالك إنما يصير ميراثًا بعد وفاته، فإنما قال جل ثناؤه:"ولله ميراث السموات والأرض"، إعلامًا بذلك منه عبادَه أن أملاك جميع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 خلقه منتقلة عنهم بموتهم، وأنه لا أحد إلا وهو فانٍ سواه، فإنه الذي إذا أهلك جميع خلقه فزالت أملاكهم عنهم، لم يبق أحدٌ يكون له ما كانوا يملكونه غيره. وإنما معنى الآية:"لا تحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، بعد ما يهلكون وتزولُ عنهم أملاكهم، في الحين الذي لا يملكون شيئًا، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه. ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل وغيرهم من سائر خلقه، ذو خبرة وعلم، محيط بذلك كله، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه، المحسنَ بالإحسان، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 القول في تأويل قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الآثار بذلك: 8300 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المِدْراس، فوجد من يهودَ ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فِنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له أشيْع. فقال أبو بكر رضي الله عنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 لفنحاص: ويحك يا فِنحاص، اتق الله وأسلِم، فوالله إنك لتعلم أنّ محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحقّ من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيُّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! ينهاكم عن الربا ويعطيناه! ولو كان عنا غنيًّا ما أعطانا الربا! (1) فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عُنقك يا عدو الله! فأكذِبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ "فقال: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيمًا، زعم أنّ الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربتُ وجهه. فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك! فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص، ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر:"لقد سَمِع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتبُ ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق" = وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب: (لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) [سورة آل عمران: 186] . (2) 8301 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد   (1) كان في المخطوطة سقط بين، فيها: "وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر"، واستدركت المطبوعة هذا السقط من الدر المنثور فيما أرجح (2: 105) ، فتركته كما هو، لموافقته لما جاء في تفسير ابن كثير 2: 308، وإن خالف رواية ابن هشام في سيرته، في بعض ألفاظ. (2) الأثران: 8300، 8301 - سيرة ابن هشام 2: 207، 208، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7695، مما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: دخل أبو بكر = فذكر نحوه، غير أنه قال:"وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغنيٍّ، ولو كان غنيًّا"، ثم ذكر سائر الحديث نحوه. (1) 8302 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، قالها فنحاص اليهوديّ من بني مَرثد، لقيه أبو بكر فكلمه فقال له: يا فنحاص، اتق الله وآمن وصدِّق، وأقرض الله قرضًا حسنًا! فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا فقير يستقرِضنا أموالنا! وما يستقرض إلا الفقير من الغني! إن كان ما تقول حقًّا، فإن الله إذًا لفقير! فأنزل الله عز وجل هذا، فقال أبو بكر: فلولا هُدنة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني مَرثد لقتلته. 8303 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: صك أبو بكر رجلا منهم = الذين قالوا:"إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، لم يستقرضنا وهو غني؟! وهم يهود. 8304 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال:"الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، لم يستقرضنا وهو غني؟ = قال شبل: بلغني أنه فنحاص اليهودي، وهو الذي قال:"إنّ الله ثالث ثلاثة" و"يدُ الله مغلولة". 8305 - حدثنا ابن حميد قال، حدثني يحيى بن واضح قال، حدثت عن عطاء، عن الحسن قال، لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [سورة البقرة: 245\ سورة الحديد: 11] قالت اليهود: إنّ ربكم يستقرض منكم! فأنزل الله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء".   (1) انظر خبر فنحاص أيضًا في الأثر الآتي رقم: 8316. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 8306 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحسن البصري قال: لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال: عجبت اليهود فقالت: إن الله فقير يستقرض! فنزلت:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء". 8307 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، ذكر لنا أنها نزلت في حُيَيّ بن أخطب، لما أنزل الله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) قال: يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير الغنيَّ! 8308 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرضُ الله قرضًا حسنًا"، قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني!! قال: فأنزل الله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء". 8309 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، قال: هؤلاء يهود. (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود:"إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه"، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم، وقتلهم أنبياءهم بغير حق. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"سنكتب ما قالوا وقتلهم". فقرأ ذلك قرأة الحجاز وعامة قرأة العراق: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) بالنون،   (1) في المطبوعة: "هؤلاء اليهود"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 "وقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بغير حقٍّ" بنصب"القتل". * * * وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: (" سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ") بالياء من"سيكتب" وبضمها، ورفع"القتل"، على مذهب ما لم يسمّ فاعله، اعتبارًا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله:"ونقول ذوقوا"، يذكر أنها في قراءة عبد الله:"ويُقَالُ". (1) فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تُنسب إلى عبد الله، وخالف الحجة من قرأة الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ:"سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء" على وجه ما لم يسم فاعله، أن يقرأ:"ويقال"، لأن قوله:"ونقول" عطف على قوله:"سنكتب". فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعًا على مذهب ما لم يسم فاعله، أو على مذهب ما يسمى فاعله. فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله، والآخر على وجه ما قد سُمِّي فاعله، من غير معنى ألجأه على ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"سَنَكْتُب" بالنون"وقَتْلَهُمْ" بالنصب، لقوله:"وَنَقُول"، ولو كانت القراءة في"سيكتب"   (1) هذا كلام الفراء بلا شك، في معاني القرآن 1: 249، ولكن وقع في نسخ الفراء خرم لم يتنبه إليه مصححو المطبوعة، تمامه مما ذكره الطبري ورواه عنه كعادته. والنص الذي في المطبوعة من معاني القرآن: "وقرئ: سيكتب ما قالوا، قرأها حمزة اعتبارًا، لأنها في مصحف عبد الله"، وانقطع الكلام، فظاهر أن فيه سقطًا، وظاهر أن تمامه ما رواه الطبري من قراءة عبد الله التي اعتبر بها حمزة في قراءة"سيكتب". (2) المعروف في كلامهم"ألجأه إلى كذا"، واستعمل الطبري"ألجأه عليه" بمعنى حمله عليه، على إرادة التضمين، وهو كلام فصيح لا يعاب، وهو من النوادر التي لم أجدها في كتاب، وإن كنت أذكر أني قرأتها في بعض كتب الشافعي رحمه الله، وغاب اليوم عني مكانها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 بالياء وضمها، لقيل:"ويقال"، على ما قد بيّنا. * * * فإن قال قائل: كيف قيل:"وقتلهم الأنبياء بغير حق"، وقد ذكرت في الآثار التي رويتَ، أن الذين عنوا بقوله: (1) "لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ" بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من أولئك أحدٌ قتل نبيًا من الأنبياء، لأنهم لم يدركوا نبيًا من أنبياء الله فيقتلوه؟ قيل: إنّ معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه. وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية، كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء، وكانوا منهم وعلى منهاجهم، من استحلال ذلك واستجازته. فأضاف جلّ ثناؤه فعلَ ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته، إلى جميعهم، إذ كانوا أهل ملة واحدة ونحْلة واحدة، وبالرِّضى من جميعهم فَعل ما فعل فاعلُ ذلك منهم، على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ونقول" للقائلين بأن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، القاتلين أنبياء الله بغير حقّ يوم القيامة="ذوقوا عذاب الحريق"، يعني بذلك: عذاب نار محرقة ملتهبة. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "وقد ذكرت الآثار التي رويت"، أسقطت"في"، وهي ثابتة في المخطوطة. (2) انظر ما سلف 2: 23، 24، 38، 39، 164، 165 وفهارس المباحث في الجزء الثاني ص 611، "إضافة أفعال الأسلاف إلى الأبناء. . .". (3) تفسير"الحريق" كما فسره أبو جعفر، مما لا تكاد تظفر به في كتب اللغة، بل قالوا: الحريق: اضطرام النار وتلهبها. والحريق أيضًا اللهب". وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 110، ونصه: "النار اسم جامع، تكون نارًا وهي حريق وغير حريق، فإذا التهبت، فهي حريق". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 و"النار" اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، وإنما"الحريق" صفة لها يراد أنها محرقة، كما قيل:"عذابٌ أليم" يعني: مؤلم، و"وجيع" يعني: موجع. * * * وأما قوله:"ذلك بما قدمت أيديكم"، أي: قولنا لهم يوم القيامة،"ذوقوا عذاب الحريق"، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا، (1) وبأن الله عَدْل لا يجورُ فيعاقب عبدًا له بغير استحقاق منه العقوبةَ، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت، ويوفّي كل عامل جزاء ما عمل، فجازى الذين قال لهم [ذلك] يوم القيامة (2) = من اليهود الذين وصف صفتهم، فأخبر عنهم أنهم قالوا:"إنّ الله فقير ونحن أغنياء"، وقتلوا الأنبياء بغير حق = بما جازاهم به من عذاب الحريق، بما اكتسبوا من الآثام، واجترحوا من السيئات، وكذبوا على الله بعد الإعذار إليهم بالإنذار. فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالمًا، ولا واضعًا عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه، غيرُ ظلام أحدًا من خلقه، ولكنه العادل بينهم، والمتفضل على جميعهم بما أحبّ من فَوَاضله ونِعمه. * * *   (1) انظر تفسير"بما قدمت أيديهم" فيما سلف 2: 367، 368. (2) الزيادة بين القوسين لا بد منها لاستقامة الكلام، ويعني بقوله: "الذي قال لهم ذلك"، أي قال لهم: "ذوقوا عذاب الحريق". وسياق العبارة: "فجازى الذين قال لهم ذلك يوم القيامة. . . بما جازاهم به من عذاب الحريق". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لقد سمع الله قول الذين قالوا:"إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول". * * * وقوله:"الذين قالوا إن الله"، في موضع خفض ردًّا على قوله:"الذين قالوا إن الله فقيرٌ". * * * ويعني بقوله:"قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول"، أوصانا، وتقدم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه (1) ="أن لا نؤمن لرسول"، يقول: أن لا نصدِّق رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله من أمر ونهي وغير ذلك="حتى يأتينا بقربان تأكله النار"، يقول: حتى يجيئنا بقربان، وهو ما تقرَّب به العبد إلى ربه من صدقة. * * * وهو مصدر مثل"العدوان" و"الخسران" من قولك:"قرَّبتُ قربانًا". وإنما قال:"تأكله النار"، لأن أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان، كان دليلا على قبول الله منه ما قرِّب له، ودلالة على صدق المقرِّب فيما ادعى أنه محق فيما نازع أو قال، كما:- 8310 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حتى يأتينا بقربان تأكله النار"،   (1) انظر تفسير"عهد إليه" فيما سلف 3: 38، وتفسير"العهد" في فهارس اللغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 كان الرجل يتصدق، فإذا تُقُبِّل منه، أنزلت عليه نارٌ من السماء فأكلته. 8311 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بقربان تأكله النار"، كان الرجل إذا تصدق بصدقة فتُقُبِّلت منه، بعث الله نارًا من السماء فنزلت على القربان فأكلته. * * * = فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: [قل، يا محمد، للقائلين: إنّ الله عهد إلينا] أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار: [قد جاءكم] رسل من قبلي بالبينات"، (1) يعني: بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم="وبالذي قلتم"، يعني: وبالذي ادَّعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه والإقرار بنبوته، من أكل النار قُربانه إذا قرَّب لله دلالة على صدقه، (2) ="فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين"، يقول له: قل لهم: قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم، فقتلتموهم، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم="إن كنتم صادقين" في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقُربان تأكله النار حجة له على نبوته؟ * * * قال أبو جعفر: وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية: أنّ الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن يَعْدوا أن يكونوا   (1) في المخطوطة: "فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار رسل من قبلي بالبينات. . ."، وقد وضع ناسخ المخطوطة أمام السطرين في الهامش (ط ط كذا) ، يعني أنه خطأ كان في النسخة التي نقل عنها، فنقله هكذا كما وجده، فجاء ناشر المطبوعة -أو ناسخ قبله- فأراد أن يصححها، فزاد صدر الآية: "قل قد جاءكم" بعد قوله: "بقربان تأكله النار"، ولكن يبقى السياق غير حسن، فزدت ما بين القوسين، استظهارًا من نهج أبي جعفر في بيانه عن معاني آي كتاب الله، والله الموفق للصواب. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذ قرب لله"، والسياق يقتضي"إذا". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 في كذبهم على الله وافترائهم على ربهم وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمونه صادقًا محقًّا، وجحودهم نبوَّته وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه، مفروضة طاعته (1) إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيدهم الله بها، والأدلة التي أبان صدقهم بها، افتراء على الله، واستخفافًا بحقوقه. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) } قال أبو جعفر: وهذا تعزية من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على الأذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل. يقول الله تعالى له: لا يحزنك، يا محمد، كذب هؤلاء الذين قالوا:"إن الله فقير"، وقالوا:"إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار"، وافتراؤهم على ربهم اغترارًا بإمهال الله إياهم، ولا يَعظمن عليك تكذيبهم إياك، وادعاؤهم الأباطيل من عهود الله إليهم، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذبوك وكذبوا على الله، فقد كذَّبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذرَ، والأدلة الباهرة العقلَ، والآيات المعجزة الخلقَ، وذلك هو البينات. (2) * * * وأما"الزبر" فإنه جمع"زبور"، وهو الكتاب، وكل كتاب فهو:"زبور"، ومنه قول امرئ القيس:   (1) في المطبوعة: "لن يفروا أن يكونوا في كذبهم على الله"، وفي المخطوطة: "لن يقروا" ولا معنى لهما، وصوابهما ما أثبت. وسياق العبارة: "لن يعدوا أن يكونوا في كذبهم. . . إلا كمن مضى من أسلافهم". (2) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 2: 318، 355 / 3: 249 / 4: 259 / 5: 379، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 لِمنْ طَللٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي? ... كخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِي (1) * * * ويعني: بـ"الكتاب"، التوراة والإنجيل. وذلك أن اليهود كذَّبت عيسى وما جاء به، وحرَّفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وبدلت عهده إليهم فيه، وأن النصارى جحدت ما في الإنجيل من نعته، وغيرت ما أمرهم به في أمره. * * * وأما قوله:"المنير"، فإنه يعني: الذي يُنير فيبين الحق لمن التبس عليه ويوضحه. * * * وإنما هو من"النور" والإضاءة، يقال:"قد أنار لك هذا الأمر"، بمعنى: أضاء لك وتبين،"فهو ينير إنارة، والشيء منيرٌ"، (2) وقد:- 8312 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن كذبوك فقد كُذِّب رسل من قبلك"، قال: يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم. * * * 8313 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك"، قال: يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم. * * * وهذا الحرف في مصاحف أهل الحجاز والعراق:"وَالزُّبُرِ" بغير"باء"، وهو في مصاحف أهل الشام:"وبالزُّبُرِ" بالباء، مثل الذي في"سورة فاطر". [25] . * * *   (1) ديوانه: 186، وهو مطلع قصيدته. قال الشنتمرى في شرح البيت: "يقول: نظرت إلى هذا الطلل فشجاني، أي: أحزنني. وقوله: "كخط زبور"، أي قد درس وخفيت آثاره، فلا يرى منه إلا مثل الكتاب في الخفاء والدقة. والزبور: الكتاب. وقوله: "في عسيب يمان"، كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة عهودهم وصكاكهم. ويروى: "عسيب يماني"، على الإضافة، أراد: في عسيب رجل يمان. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "والشيء المنير"، وعبارة بيان اللغة تقتضي ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 القول في تأويل قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود، المكذبين برسوله، الذين وصف صفتهم، وأخبر عن جراءتهم على ربهم= ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره، ومرجع جميعهم، إليه. لأنه قد حَتم الموت على جميعهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك تكذيبُ من كذبك، يا محمد، من هؤلاء اليهود وغيرهم، وافتراء من افترى عليَّ، فقد كُذِّب قبلك رسلٌ جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه، بمثل الذي جئتَ من أرسلت إليه، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم، ومصيرُ من كذَّبك وافترى عليّ وغيرهم ومرجعهم إليّ، فأوفّي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة، كما قال جل ثناؤه:"وإنما توفَّون أجوركم يوم القيامة"، يعني: أجور أعمالكم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر="فمن زحزح عن النار"، يقول: فمن نُحِّي عن النار وأبعد منها (1) ="فقد فاز"، يقول: فقد نجا وظفر بحاجته. * * * يقال منه:"فاز فلان بطلبته، يفوز فوزًا ومفازًا ومفازة"، إذا ظفر بها. * * * وإنما معنى ذلك: فمن نُحِّي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة="وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، يقول: وما لذّات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها="إلا متاع الغرور"، يقول: إلا متعة   (1) انظر تفسير"زحزح" فيما سلف 2: 375. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 يمتعكموها الغرور والخداع المضمحلّ الذي لا حقيقة له عند الامتحان، ولا صحة له عند الاختبار. فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره. يقول تعالى ذكره: ولا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها، فإنما أنتم منها في غرور تمتَّعون، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون. (1) * * * وقد روي في تأويل ذلك ما:- 8314 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله:"وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، قال: كزاد الراعي، تزوِّده الكفّ من التمر، أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشرب عليه اللبن. * * * فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا، إلى أن معنى الآية: وما الحياة الدنيا إلا متاعٌ قليلٌ، لا يُبلِّغ مَنْ تمتعه ولا يكفيه لسفره. وهذا التأويل، وإن كان وجهًا من وجوه التأويل، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا. لأن"الغرور" إنما هو الخداع في كلام العرب. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة، لأن الشيء قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور. وأما الذي هو في غرور، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور. * * * و"الغرور" مصدر من قول القائل:"غرني فلان فهو يغرُّني غرورًا" بضم"الغين". وأما إذا فتحت"الغين" من"الغرور"، فهو صفة للشيطان الغَرور، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته. * * * وقد: 8315 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا حدثنا   (1) انظر تفسير: "المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / 3: 55. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، واقرءوا إن شئتم"وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور". (1) * * * القول في تأويل قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (186) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: تعالى ذكره: (2) "لتبلون في أموالكم"، لتختبرن بالمصائب في أموالكم (3) ="وأنفسكم، يعني: وبهلاك الأقرباء والعشائر من   (1) الحديث: 8315 - عبدة: هو ابن سليمان الكلابي الكوفي. وعبد الرحيم: هو ابن سليمان المروزي الأشل. والحديث رواه أحمد في المسند: 9649 (ج2 ص438 حلبي) ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن عمرو - بهذا الإسناد. وكذلك رواه الترمذي 4: 85، عن عبد بن حميد وغيره، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 299، من طريق شجاع بن الوليد، عن محمد بن عمرو. وقال: "هذا حديث على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 2: 311، من رواية ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو. ثم قال ابن كثير: "هذا حديث ثابت في الصحيحين، من غير هذا الوجه، بدون هذه الزيادة [يعني ذكر الآية في الحديث] . وقد رواه بهذه الزيادة أبو حاتم بن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن عمرو". وذكره السيوطي 2: 107، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 4: 277، من رواية الترمذي - ضمن ألفاظ للحديث بمعناه، عند أحمد، والبخاري، والطبراني في الأوسط"بأسناد رواته رواة الصحيح"، وابن حبان في صحيحه. (2) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك تعالى ذكره"، وسياق التفسير هنا يقتضي ما أثبت. (3) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 2: 49 / 3: 7، 220 / 5: 339 / 7: 297، 235. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 أهل نصرتكم وملتكم (1) ="ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: من اليهود وقولهم:"إن الله فقير ونحن أغنياء"، وقولهم:"يد الله مغلولة"، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله="ومن الذين أشركوا"، يعني النصارى="أذى كثيرًا"، (2) والأذى من اليهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم:"المسيح ابن الله"، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله="وإن تصبروا وتتقوا"، يقول: وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته="وتتقوا"، يقول: وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم، فتعملوا في ذلك بطاعته="فإن ذلك من عزم الأمور"، يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به. * * * وقيل: إن ذلك كله نزل في فنخاص اليهودي، سيد بني قَيْنُقَاع، كالذي:- 8316 - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال عكرمة في قوله:"لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا"، قال: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي بكر رضوان الله عليه، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينُقاع قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدُّه، وكتب إليه بكتاب، وقال لأبي بكر:"لا تَفتاتنَّ عليّ بشيء حتى ترجع". (3) فجاء أبو بكر وهو متوشِّح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال:"قد احتاج ربكم أن نمده"! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع"،   (1) انظر تفسير"أنفسهم" فيما سلف 6: 501. (2) انظر تفسير"الأذى" فيما سلف 4: 374. (3) كل من أحدث دونك شيئا، ومضى عليه ولم يستشرك، واستبد به دونك، فقد فاتك بالشيء وافتات عليك به أوفيه. هو"افتعال" من"الفوت"، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار أو مشورة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 فكف، ونزلت: (" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ") . (1) وما بين الآيتين إلى قوله:"لتبلون في أموالكم وأنفسكم"، نزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله:"فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك" = قال ابن جريج: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم قال:"لتبلون في أموالكم وأنفسكم"، قال: أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم، فينظر كيف صبرهم على دينهم. ثم قال:"ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: اليهود والنصارى="ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا) فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم:"عزير ابن الله"، ومن النصارى:"المسيح ابن الله"، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم، (2) فقال الله:"وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"، يقول: من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به. * * * وقال آخرون: بل نزلت في كعب بن الأشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشبّب بنساء المسلمين. * ذكر من قال ذلك: 8317 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا"، قال: هو كعب بن الأشرف، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار، فيهم محمد بن مسلمة، ورجل   (1) انظر أخبار فنخاص اليهودي في الآثار السالفة: 8300 - 8302. (2) في المطبوعة: "ويسمعون إشراكهم" بالواو، وفي المخطوطة، هذه الواو كأنها (د) ، فآثرت أن أجعلها"إذ"، لأنها حق المعنى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 يقال له أبو عبس. فأتوه وهو في مجلس قومه بالعَوَالي، (1) فلما رآهم ذعر منهم، فأنكر شأنهم، وقالوا: جئناك لحاجة! قال: فليدن إليّ بعضكم فليحدثني بحاجته. فجاءه رجل منهم فقال: جئناك لنبيعك أدراعًا عندنا لنستنفق بها. (2) فقال: والله لئن فعلتم لقد جُهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاءً حين هدأ عنهم الناس، (3) فأتوه فنادوه، فقالت امرأته: ما طَرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! قال: إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم. (4) قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة: أنه أشرف عليهم فكلمهم، فقال: أترهَنُوني أبناءكم؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرًا. قال، فقالوا: إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال:"هذا رهينة وَسْق، وهذا رهينة وسقين"! (5) فقال: أترهنوني نسائكم؟ قالوا: أنت أجملُ الناس، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال: ائتوني بسلاحكم، واحتملوا ما شئتم. قالوا: فأنزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا. فذهب ينزل، (6)   (1) "العوالي"، جمع عالية. و"العالية": اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها وعمائرها إلى تهامة، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهو"السافلة". وعوالي المدينة، بينها وبين المدينة أربعة أميال، وقيل ثلاثة، وذلك أدناها، وأبعدها ثمانية. (2) استنفق بالمال: جعله نفقة يقضى بها حاجته وحاجة عياله. (3) هدأ عنهم الناس: سكن عنهم الناس وقلت حركتهم وناموا. وفي المخطوطة: "حين هدى عنهم الناس" بطرح الهمزة، وهو صواب جيد، جاء في شعر ابن هرمة، من أبياته الأليمة الموجعة: لَيْتَ السَّبَاعَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً ... وَأَنَّنَا لا نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَدَا إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا عَنْ فَرائِسِهَا ... وَالنَّاسُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدَا يريد: "لتهدأ" و"بهادئ شرهم". (4) هذا بدأ سياق آخر للخبر، منقطع عما قبله من خبر الزهري، ولم يتم خبر الزهري، بل أتم خبر عكرمة الذي أدخله على سياقه. (5) "الوسق" كيل معلوم، قيل: هو حمل بعير، وقيل: ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. (6) قوله: "ذهب ينزل"، أي تحرك لينزل، و"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام لتصوير حركة، أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه"، أو "قعد لا يسأله سائل إلا حرمه"، لا يراد به حقيقة القعود، بل استمرار ذلك منه واتصاله، وحاله عند رؤية الناس، أو طروق السائل. واستعمال"ذهب" بهذا المعنى كثير الورود في كلامهم، وإن لم تذكره كتب اللغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 فتعلقت به امرأته وقالت: أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك. قال: لو وجدني هؤلاء نائمًا ما أيقظوني! قالت: فكلِّمهم من فوق البيت، فأبى عليها، فنزل إليهم يفوحُ ريحه. قالوا: ما هذه الريح يا فلان؟ قال: هذا عطرُ أم فلان! امرأته. فدنا إليه بعضهم يشم رائحته، ثم اعتنقه، ثم قال: اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عَبس في خاصرته، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف، فقتلوه ثم رجعوا. فأصبحت اليهود مذعورين، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة! فذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم صَنيعه، وما كان يحضّ عليهم، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحًا، قال: فكان ذلك الكتابُ مع عليّ رضوان الله عليه. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضا من [أمر] هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم، يا محمد، (1) إذ أخذ الله ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة والإنجيل، وأنك لله رسول مرسل بالحق، ولا يكتمونه="فنبذوه وراء ظهورهم"، يقول:   (1) الزيادة بين القوسين مما لا يستقيم الكلام إلا بها أو بشبهها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 فتركوا أمر الله وضيعوه. (1) ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك، فكتموا أمرك، وكذبوا بك="واشتروا به ثمنًا قليلا"، يقول: وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوتك، عوضًا منه خسيسًا قليلا من عرض الدنيا (2) = ثم ذم جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك فقال:"فبئس ما يشترون". (3) * * * واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية. فقال بعضهم: عني بها اليهود خاصّة. * ذكر من قال ذلك: 8318 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه، عن ابن عباس:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" إلى قوله:"عذاب أليم"، يعني: فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار. 8319 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس مثله. (4)   (1) انظر تفسير"نبد" فيما سلف 2: 401 = وتفسير"وراء ظهورهم" فيما سلف 2: 404. (2) انظر تفسير"اشترى" فيما سلف 1: 312 - 315 / 2: 340 - 342، 455 / 3: 330 / 4: 246: 6: 527 / 7: 420. وانظر تفسير"الثمن" فيما سلف 1: 565 / 3: 328 / 6: 527 بولاق. (3) انظر بيان معنى"بئس" فيما سلف 2: 338 - 340 / 3: 56. (4) الأثران: 8318، 8319 - سيرة ابن هشام 2: 208، وهو تابع الأثر السالف رقم: 8300، 8301. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 8320 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم"، كان أمرهم أن يتبعوا النبيّ الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته، وقال: (اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [سورة الأعراف: 158] فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [سورة البقرة: 40] عاهدهم على ذلك، فقال حين بعث محمدًا: صدِّقوه، وتلقون الذي أحببتم عندي. 8321 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس" الآية، قال: إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبيننه للناس، محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه، ="فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا". 8322 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي الجحّاف، عن مسلم البطين قال: سأل الحجاج بن يوسف جُلساءه عن هذه الآية:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق أهل الكتاب" يهود،"ليبيننه للناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم،"ولا يكتمونه فنبذوه". 8323 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، قال: وكان فيه إن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمدًا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. * * * وقال آخرون: عني بذلك كل من أوتي علمًا بأمر الدين. ذكر من قال ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 8324 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم" الآية، هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلِّمه، وإياكم وكتمانَ العلم، فإن كتمان العلم هَلَكة، ولا يتكلَّفن رجلٌ ما لا علم له به، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلِّفين، كان يقال:"مثلُ علم لا يقال به، كمثل كنز لا ينفق منه! ومثل حكمة لا تخرج، كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب". وكان يقال:"طوبي لعالم ناطق، وطوبي لمستمع واعٍ". هذا رجلٌ علم علمًا فعلّمه وبذله ودعا إليه، ورجلٌ سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به. 8325 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيه عبد الله بن مسعود فقال: إنّ أخاكم كعبًا يقرئكم السلام، ويبشركم أن هذه الآية ليست فيكم:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه". فقال له عبد الله: وأنت فأقره السلام وأخبرهُ أنها نزلت وهو يهوديّ. 8326 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بنحوه، عن عبد الله وكعب. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. ذكر من قال ذلك: 8327 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال، حدثني يحيى بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرأون: (" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِيثَاقَهَمْ ") ، قال: من النبيين على قومهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 8328 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد قال، قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرأون:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) ، قال فقال: أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. * * * وأما قوله:"لتبيننه للناس"، فإنه كما:- 8329 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبي قال، حدثنا محمد بن ذكوان قال، حدثنا أبو نعامة السعدي قال: كان الحسن يفسر قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، لتتكلمن بالحق، ولتصدِّقنه بالعمل. (1) * * * قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة ذلك: فقرأه بعضهم: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) بالتاء. وهي قراءة عُظْم قرأة أهل المدينة والكوفة، (2) على وجه المخاطب، بمعنى: قال الله لهم: لتُبيننّه للناس ولا تكتمونه. * * * وقرأ ذلك آخرون: (" لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ ") بالياء جميعًا، على وجه الخبر عن الغائب، لأنهم في وقت إخبار الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك عنهم، كانوا غير موجودين، فصار الخبر عنهم كالخبر عن الغائب. * * *   (1) كانت الآية في المطبوعة: "ليبيننه للناس ولا يكتمونه" بالياء، في جميع الآثار السالفة، فجعلتها على قراءة مصحفنا بالتاء في الكلمتين. (2) في المطبوعة: "وهي قراءة أعظم قراء أهل المدينة. . ." وهو خطأ، صوابه من المخطوطة كما سلف عشرات من المرات. وعظم القوم: أكثرهم ومعظمهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان، صحيحةٌ وجوههما، مستفيضتان في قرأة الإسلام، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فقد أصاب الحق والصواب في ذلك. غير أن الأمر في ذلك وإن كان كذلك، فإن أحب القراءتين إليّ أن أقرأ بها: (" لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ ") ، بالياء جميعًا، استدلالا بقوله:"فنبذوه"، (1) إذ كان قد خرج مخرج الخبر عن الغائب على سبيل قوله:"فنبذوه"= حتى يكون متَّسقًا كله على معنى واحد ومثال واحد. ولو كان الأول بمعنى الخطاب، لكان أن يقال:"فنبذتموه وراء ظهوركم" أولى، من أن يقال:"فنبذوه وراء ظهورهم". * * * وأما قوله:"فنبذوه وراء ظهورهم"، فإنه مثل لتضييعهم القيام بالميثاق وتركهم العمل به. وقد بينا المعنى الذي من أجله قيل ذلك كذلك، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 8330 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يحيى بن أيوب البَجَلي، عن الشعبي في قوله:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: إنهم قد كانوا يقرأونه، إنما نبذوا العمل به. 8331 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "استدلالا بقوله فنبذوه، أنه إذ كان قد خرج مخرج الخبر. . ." وهو كلام لا يستقيم، فحذفت: "أنه"، ويكون السياق: "فإن أحب القراءتين إلى أن أقرأ بها. . . حتى يكون متسقا كله على معنى واحد". وما بينهما فصل، علل به اختيار قراءته. (2) انظر ما سلف 2: 404، وما سلف ص: 459، تعليق: 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 ابن جريج:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: نبذوا الميثاق. 8332 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا مالك بن مغول: قال، نبئت عن الشعبي في هذه الآية:"فنبذوه وراء ظهورهم"، قال: قذفوه بين أيديهم، وتركوا العمل به. * * * وأما قوله:"واشتروا به ثمنًا قليلا"، فإن معناه ما قلنا، من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب، (1) كما:- 8333 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واشتروا به ثمنًا قليلا"، أخذوا طمعًا، وكتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وقوله:"فبئس ما يشترون"، يقول: فبئس الشراء يشترون في تضييعهم الميثاق وتبديلهم الكتاب، كما:- 8334 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فبئس ما يشترون"، قال: تبديل اليهود التوراة. * * *   (1) انظر ما سلف ص: 459، تعليق: 2. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 القول في تأويل قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عني بذلك قومٌ من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. * ذكر من قال ذلك: 8335 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي قالا حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو، تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله. وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فأنزل الله تعالى فيهم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية. (1) 8336 - حدثني يونس قال، أخبرنا بن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: هؤلاء المنافقون، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: لو قد خرجت لخرجنا معك! فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلَّفوا وكذبوا، ويفرحون بذلك، ويرون أنها حيلة احتالوا بها. * * *   (1) الحديث: 8335 - رواه البخاري من طريق شيخه سعيد بن أبي مريم، كرواية الطبري (الفتح: 8: 175) . وقال ابن كثير 2: 317: "رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 وقال آخرون: عني بذلك قوم من أحبار اليهود، كانوا يفرحون بإضلالهم الناس، ونسبة الناس إياهم إلى العلم. * ذكر من قال ذلك: 8337 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"ولهم عذاب أليم"، يعني فنحاصا وأشيع وأشباههما من الأحبار، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زيَّنوا للناس من الضلالة="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، أن يقول لهم الناس علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا خير، (1) ويحبون أن يقول لهم الناس: قد فعلوا. (2) 8338 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك= إلا أنه قال: وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى. (3) * * * وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم: أهل صلاة وصيام. * ذكر من قال ذلك:   (1) سيرة ابن هشام"هدى ولا حق". وفي المطبوعة: "لم يحملوهم على هدى" غير ما في المخطوطة، ولكنها الصواب، ويدل على ذلك الأثر التالي، فإنه ذكر وجه الخلاف بين الروايتين. (2) الأثر: 8337، 8338 - سيرة ابن هشام 2: 208، وهو تتمة الأثر السالف رقم: 8318، والإسناد متصل إلى ابن عباس، كما مضى مرارًا. (3) في المطبوعة: "ابن كريب"، وهو خطأ، قد مضى على صحته في مئات من المواضع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 8339 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا:"قد جمع الله كلمتنا، ولم يخالف أحد منا أحدًا [أن محمدًا ليس بنبي] . (1) وقالوا:"نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أهل الصلاة والصيام"، وكذبوا، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله، قال الله:"يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا". 8340 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: كانت اليهود أمر بعضهم بعضًا، (2) فكتب بعضهم إلى بعض:"أنّ محمدًا ليس بنبي، فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم"، ففعلوا وفرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. 8341 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي   (1) هذه الجملة بين القوسين، كان مكانها في المطبوعة: "أنه نبي"، وفي المخطوطة"أن بنبي"، والذي في المطبوعة مخالف لما تمالأ عليه اليهود، والذي في المخطوطة بين الفساد والخرم، واستظهرت ما بين القوسين من الأثر الذي رواه السيوطي في الدر المنثور 2: 109 ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك، والذي سيأتي في الأثر التالي، ونصه: "إن اليهود كتب بعضهم إلى بعض أن محمدًا ليس بنبي، فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم". فمن هذا استظهرت صواب العبارة التي أثبتها. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "قال: قالت اليهود أمر بعضهم بعضًا"، وهو كلام غير مستقيم، صحفت"كانت" إلى"قالت" فأثبتها على الصواب إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. 8342 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون:"نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم"، فأنزل الله فيهم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، أحبوا أن تحمدهم العرب، بما يزكون به أنفسهم، وليسوا كذلك. 8343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين قال: سأل الحجاج جلساءه عن هذه الآية:"لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا"، قال سعيد بن جبير: بكتمانهم محمدًا="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: هو قولهم:"نحن على دين إبراهيم عليه السلام". (1) 8344 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، هم أهل الكتاب، أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله، ويصومون ويصلون، ويطيعون الله. فقال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، كفرًا بالله وكفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم (2) ="ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، من الصلاة والصوم، فقال الله جل وعز لمحمد صلى الله عليه وسلم:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم". * * *   (1) الأثر: 8343 - انظر الأثر السالف رقم: 8322. (2) في المطبوعة: "كفروا بالله، وكفروا بمحمد"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 وقال آخرون: بل معنى ذلك:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، من تبديلهم كتاب الله، ويحبون أن يحمَدهم الناس على ذلك. * ذكر من قال ذلك: 8345 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا"، قال: يهودُ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه، ولا تملك يهود ذلك. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام. * ذكر من قال ذلك: 8346 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية:"ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: اليهود، يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام. * * * 8347 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة عن أبي المعلى العطّار، عن سعيد بن جبير قال: هم اليهود، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام. وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه. ذكر من قال ذلك:   (1) قوله: "ولا تملك يهود ذلك" كأنه يعني: ولا تملك يهود النجاة من عذاب الله، كما أنذرهم في الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 8348 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني ابن أبي مليكة: أن علقمة بن أبي وقاص أخبره: أن مروان قال لرافع: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له:"لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا، ليعذبنا الله أجمعين"! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه. ثم قال:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، الآية. 8349 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره: أن مروان بن الحكم قال لبوابه: يا رافع، اذهب إلى ابن عباس فقل له:"لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا، لنعذبن جميعًا"! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب! ثم تلا ابن عباس:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس" إلى قوله:"أن يحمدوا بما لم يفعلوا". قال ابن عباس: سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. (1) * * *   (1) الأثران: 8348، 8349 - أخرجهما البخاري في كتاب التفسير، الأول من طريق: "إبراهيم بن موسى عن هشام، أن ابن جريج أخبرهم ... " والآخر من طريق: "ابن مقاتل، أخبرنا الحجاج، عن ابن جريج"، وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير. وقد استوفى الحافظ ابن حجر في الفتح 8: 175، 176، في هذين الأثرين، ذكر رافع، الذي لم يروا له ذكرًا في كتب الرواة، وفي اختلافهم على ابن جريج في شيخ شيخه مرة"علقمة بن أبي وقاص"، وأخرى"حميد بن عبد الرحمن بن عوف". وانظر أسباب النزول الواحدي: 101، 102. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 وقال آخرون: بل عني بذلك قومٌ من يهود، أظهروا النفاق للنبي صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد، والله عالم منهم خلاف ذلك. * ذكر من قال ذلك: 8350 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ أعداء الله اليهود، يهود خيبر، أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به، وأنهم متابعوه، وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمَدهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا، فأنزل الله تعالى:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، الآية. 8351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: إن أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا:"إنا على رأيكم وسنتكم، (1) وإنا لكم رِدْء". (2) فأكذبهم الله فقال:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآيتين. 8352 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إن كعبًا يقرأ عليك السلام ويقول: إن هذه الآية لم تنزل فيكم:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا"، قال: أخبروه أنها نزلت وهو يهودي. (3) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية، قول من قال:"عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر   (1) في المطبوعة: "على رأيكم وهيئتكم"، والذي في المخطوطة"على رأيكم وسكم" غير منقوطة، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت. وأكثر من روى هذا الخبر حذف منه هذه الكلمة. و"السنة": الطريقة والنهج. (2) "الردء": العون والناصر، ينصره ويشد ظهره. (3) الأثر: 8352 - انظر الأثر السالف رقم: 8325، "وكعب" هو"كعب الأحبار". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم، ليبين للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه، لأن قوله:"لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية، في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: لا تحسبن، يا محمد، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناسَ أمرك، وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبًا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك، ومخالفتهم أمري، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم، واتباع لوحيه وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه، وهم من ذلك أبرياء أخلياء، لتكذيبهم رسوله، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم، لم يفعلوا شيئًا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه="فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم". * * * وقوله:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب"، فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا، (1) من الخسف والمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب الله، ولا هم ببعيد منه، (2) كما:- 8353 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب"، قال: بمنجاة من العذاب. * * * قال أبو جعفر:"ولهم عذاب أليم"، يقول: ولهم عذابٌ في الآخرة أيضًا مؤلم، مع الذي لهم في الدنيا معجل. (3) * * *   (1) انظر تفسير"فاز" فيما سلف قريبا ص: 452. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 250. (3) أخشى أن يكون صواب العبارة: "ولهم عذاب مؤلم في الآخرة أيضا مؤجل، مع الذي لهم في الدنيا معجل". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) } قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا:"إن الله فقير ونحن أغنياء". يقول تعالى ذكره، مكذبا لهم: لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض. فكيف يكون أيها المفترون على الله، من كان ملك ذلك له فقيرًا؟ ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك، ولكل مكذب به ومفتر عليه، وعلى غير ذلك مما أراد وأحب، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه= فقال:"والله على كل شيء قدير"، يعني: من إهلاك قائلي ذلك، وتعجيل عقوبته لهم، وغير ذلك من الأمور. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (190) } قال أبو جعفر: وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك، وعلى سائر خلقه، بأنه المدبر المصرّف الأشياء والمسخِّر ما أحب، وأن الإغناء والإفقار إليه وبيده، فقال جل ثناؤه: تدبروا أيها الناس واعتبروا، ففيما أنشأته فخلقته من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقَّبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، (1) تتصرفون في هذا لمعاشكم، وتسكنون في   (1) عاقب بين الشيئين: راوح بينهما، لهذا مرة ولذاك مرة. واستعمل الطبري"عقب" مشددة القاف، بنفس المعنى، كما يقال: "ضاعف وضعف"، و"عاقد وعقد". و"اعتقب الليل والنهار" جاء هذا بعد هذا، دواليك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 هذا راحة لأجسادكم= معتبر ومدَّكر، وآيات وعظات. فمن كان منكم ذا لُبٍّ وعقل، يعلم أن من نسبني إلى أنّي فقير وهو غني كاذب مفتر، (1) فإنّ ذلك كله بيدي أقلّبه وأصرّفه، ولو أبطلت ذلك لهلكتم، فكيف ينسب إلى فقر من كان كل ما به عيش ما في السموات والأرض بيده وإليه؟ (2) أم كيف يكون غنيًّا من كان رزقه بيد غيره، إذا شاء رزقه، وإذا شاء حَرَمه؟ فاعتبروا يا أولي الألباب. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} قال أبو جعفر: وقوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا" من نعت"أولي الألباب"، و"الذين" في موضع خفض ردًّا على قوله:"لأولي الألباب". * * * ومعنى الآية: إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذاكرين الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم= يعني بذلك: قيامًا في صلاتهم، وقعودًا في تشهدهم وفي غير صلاتهم، وعلى جنوبهم نيامًا. كما:- 8354 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) في المخطوطة: "يعلم أنه أن من نسبي إلى أني فقير وهو غني، دادب معى"، وهو كلام مصحف مضطرب، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب إن شاء الله. (2) في المطبوعة: "فكيف ينسب فقر إلى من كان ... "، أخر"إلى"، والصواب الجيد تقديمها كما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 ابن جريج، قوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا" الآية، قال: هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة، وقراءة القرآن. 8355 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم"، وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم، فاذكره وأنت على جنبك، يُسرًا من الله وتخفيفًا. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"وعلى جنوبهم": فعطف بـ"على"، وهي صفة، (1) على"القيام والقعود" وهما اسمان؟ قيل: لأن قوله:"وعلى جنوبهم" في معنى الاسم، ومعناه: ونيامًا، أو:"مضطجعين على جنوبهم"، فحسن عطف ذلك على"القيام" و"القعود" لذلك المعنى، كما قيل: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) [سورة يونس: 12] فعطف بقوله:"أو قاعدا أو قائما" على قوله:"لجنبه"، لأن معنى قوله:"لجنبه"، مضطجعا، (2) فعطف بـ"القاعد" و"القائم" على معناه، فكذلك ذلك في قوله:"وعلى جنوبهم". (3) * * * وأما قوله:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض"، فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا مَن ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة. * * *   (1) "الصفة": حرف الجر، كما سلف في مواضع كثيرة، وانظر 1: 299، تعليق: 1، وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. (2) انظر ما سلف 3: 475. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 250. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"ويتفكرون في خلق السموات والأرض" قائلين:"ربنا ما خلقت هذا باطلا"، فترك ذكر"قائلين"، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه. * * * وقوله:"ما خلقت هذا باطلا" يقول: لم تخلق هذا الخلق عبثًا ولا لعبًا، ولم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة، وإنما قال:"ما خلقت هذا باطلا" ولم يقل:"ما خلقت هذه، ولا هؤلاء"، لأنه أراد بـ"هذا"، الخلقَ الذي في السموات والأرض. يدل على ذلك قوله:"سبحانك فقنا عذاب النار"، ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم. ولو كان المعنيّ بقوله:"ما خلقت هذا باطلا"، السموات والأرض، لما كان لقوله عقيب ذلك:"فقنا عذاب النار"، معنى مفهوم. لأن"السموات والأرض" أدلة على بارئها، لا على الثواب والعقاب، وإنما الدليل على الثواب والعقاب، الأمر والنهي. وإنما وصف جل ثناؤه:"أولي الألباب" الذين ذكرهم في هذه الآية: أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيّين قالوا:"يا ربنا لم تخلُق هؤلاء باطلا عبثًا سبحانك"، يعني: تنزيهًا لك من أن تفعل شيئًا عبثًا، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر، لجنة أو نار. ثم فَزِعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره، فيكونوا من أهل جهنم. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها، فقد أخزيته. قال: ولا يخزي مؤمن مصيرُه إلى الجنة، وإن عذِّب بالنار بعض العذاب. * ذكر من قال ذلك: 8356 - حدثني أبو حفص الجبيري ومحمد بن بشار قالا أخبرنا المؤمل، أخبرنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس في قوله:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: من تُخلد. (1) 8357 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن ابن المسيب:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: هي خاصة لمن لا يخرج منها. 8358 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا قبيصة بن مروان، عن الأشعث الحمْليّ قال، قلت للحسن: يا أبا سعيد، أرأيت ما تذكر من الشفاعة، حق هو؟ قال: نعم حق. قال، قلت: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله تعالى:"ربنا إنك من تدخل النار فقد   (1) الأثر: 8356 -"أبو حفص الجبيري"، لم أجده، والذي يروى عنه أبو جعفر هو عمرو بن علي الفلاس، "أبو حفص الصيرفي"، وهو في المخطوطة"الحبرى" غير منقوطة، ولا أدري أيقرأ"الجبيري" أو "الخيبري"، ولم أجد هذه النسبة في ترجمة"عمرو بن علي الفلاس"،. وعمرو بن علي الفلاس يروي عن مؤمل بن إسماعيل كما مضى في مواضع كثيرة منها رقم: 1885، 1891، 1898، وغيرها كثير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 أخزيته" و (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) (1) [سورة المائدة: 37] ؟ قال فقال لي: إنك والله لا تسطو على بشيء، (2) إنّ للنار أهلا لا يخرجون منها، كما قال الله. قال قلت: يا أبا سعيد، فيمن دخلوا ثم خرجوا؟ قال: كانوا أصابوا ذنوبًا في الدنيا فأخذهم الله بها، فأدخلهم بها ثم أخرجهم، بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به. (3) 8359 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إنك من تدخل النار فقد أخزيته"، قال: هو من يخلد فيها. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار، من مخلد فيها وغير مخلد فيها، فقد أخزي بالعذاب. * ذكر من قال ذلك: 8360 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الحارث بن مسلم، عن بحر، عن عمرو بن دينار قال: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت:"ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته"؟ قال:   (1) في المطبوعة والمخطوطة، أسقط"الواو" بين الآيتين، والصواب إثباتها كما يدل عليه سياق سؤاله، وجواب الحسن له. (2) في المطبوعة: "إنك والله لا تستطيع على شيء"، وهو كلام لا خير فيه، والصواب ما أثبته من المخطوطة، غيره الناشرون إذ لم يفهموه. وقوله: "لا تسطو علي بشيء"، أي: إنك لا تحتج علي بحجة تقهرني بها وتغلبني. وأصله من"السطو"، وهو البطش والقهر. و"فلان يسطو على فلان"، أي يتطاول عليه. (3) الأثر: 8358 -"قبيصة بن مروان بن المهلب" روى عن والان، وروى عنه حماد بن زيد. مترجم في الكبير 4 / 1 / 177، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 125. والأشعث الحملي" منسوب إلى جده، وهو: "الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني الأعمى" ويقال: "الأزدي"، و"حدان" بطن من الأزد. روى عن أنس، والحسن، وابن سيرين. وروى عنه شعبة، وحماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد القطان، مترجم في التهذيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 وما أخزاه حين أحرقه بالنار! وإن دون ذلك لخزيًا. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، قول جابر:"إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها، وإن أخرج منها". وذلك أن"الخزي" إنما هو هتك ستر المخزيّ وفضيحته، (2) ومن عاقبه ربه في الآخرة على ذنوبه، فقد فضحه بعقابه إياه، وذلك هو"الخزي". * * * وأما قوله:"وما للظالمين من أنصار"، يقول: وما لمن خالف أمر الله فعصاه، من ذي نُصرة له ينصره من الله، فيدفع عنه عقابه، أو ينقذه من عذابه. * * *   (1) الأثر: 8360 -"الحارث بن مسلم الرازي" مضى برقم: 8097، و"بحر السقاء"، هو"بحر بن كنيز الباهلي السقاء" مضى أيضًا برقم: 8097، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الحارث بن مسلم، عن يحيى بن عمرو بن دينار"، وهو خطأ صرف. وهذا الأثر قد أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 300، ولم يقل فيه شيئًا، وقال الذهبي في تعليقه: "قلت: بحر هالك"، ورواه بأتم مما هنا، بيد أن السيوطي في الدر المنثور 2: 111، خرجه، ونسبه للحاكم وابن جرير، وساق لفظ الأثر بأتم من لفظ أبي جعفر، ومخالفًا لفظ الحاكم، ولفظه: "قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهت إليه أنا وعطاء، فقلت: "وما هم بخارجين من النار"؟ قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الكفار. قلت لجابر: فقوله: إنك من تدخل النار فقد أخزيته ... "، وسائر لفظه مطابق لما في الطبري. وفي المخطوطة: "حين أحروه بالنار"، والصواب ما في المطبوعة، موافقًا لفظ الحاكم والسيوطي. وفي المخطوطة والمطبوعة: "وما إخزاؤه" وهو لا يستقيم، والصواب ما في الدر المنثور. وقوله: "ما أخزاه" تعجب. والذي في الحاكم"قد أخزاه حين أحرقه بالنار". فهما روايتان تصحح إحداهما معنى الأخرى. ويدل على صواب ذلك ترجيح الطبري لقول جابر في الفقرة التالية. (2) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف 2: 314، 525. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل"المنادي" الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية. فقال بعضهم: ا"لمنادي" في هذا الموضع، القرآن. * ذكر من قال ذلك: 8361 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: هو الكتاب، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم. (1) 8362 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا منصور بن حكيم، عن خارجة، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: ليس كل الناس سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن المنادي القرآن. (2) * * * وقال آخرون: بل هو محمد صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 8361 -"قبيصة بن عقبة بن محمد السوائي" مضى برقم: 489، 2792، وهو ثقة معروف، أخرج له الستة، وتكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري: بأنه يخطئ في بعض روايته، بأنه سمع من الثوري صغيرًا. و"موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، ضعيف جدا، مضى برقم: 1875، 1876، 3291. (2) الأثر: 8362 -"منصور بن حكيم"، لم أعرفه ولم أجد له ترجمة، وكذلك"خارجة" لم أعرف من يكون فيمن اسمه"خارجة"، وأخشى أن يكون فيهما تصحيف أو تحريف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 8363 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان": قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم. 8364 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، قال: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول محمد بن كعب، وهو أن يكون"المنادي" القرآن. لأن كثيرًا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات، ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عاينه فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه، ولكنه القرآن، وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرًا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [سورة الجن: 1، 2] وبنحو ذلك:- 8365 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان" إلى قوله:"وتوفَّنَا مع الأبرار"، سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها، وصبروا عليها. ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال، وعن مؤمن الجنّ كيف قال. فأما مؤمن الجن فقال: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) وأما مؤمن الإنس فقال:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا"، الآية. * * * وقيل:"إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان"، يعني: ينادي إلى الإيمان، كما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 قال تعالى ذكره: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) [سورة الأعراف: 43] بمعنى: هدانا إلى هذا، (1) وكما قال الراجز: (2) أَوْحَى لَها القَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ ... وَشَدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ (3) بمعنى: أوحى إليها، ومنه قوله: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [سورة الزلزلة: 5] * * * وقيل: يحتمل أن يكون معناه: إننا سمعنا مناديًا للإيمان، ينادي أن آمنوا بربكم. (4) * * * فتأويل الآية إذًا: ربنا سمعنا داعيًا يدعو إلى الإيمان= يقول: إلى التصديق بك، والإقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك، وطاعته فيما أمرنا به ونهانا عنه مما جاء به من عندك="فآمنا ربنا"، يقول: فصدقنا بذلك يا ربنا. ="فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول: فاستر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا عليها، ولكن كفّرها عنا، وسيئات أعمالنا، فامحها بفضلك ورحمتك إيانا="وتوفنا مع الأبرار"، (5) يعني بذلك: واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك، في عداد الأبرار، واحشرنا محشرهم ومعهم. * * * و"الأبرار" جمع"بَرَ"، وهم الذين برُّوا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له، حتى أرضوه فرضي عنهم. (6) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 169. (2) هو العجاج. (3) سلف تخريجهما في 6: 405، تعليق: 3. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 250، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 111. (5) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 111. (6) وانظر تفسير"البر" فيما سلف 2: 8 / 3: 336 - 338، 556 / 4: 425 / 6: 587. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) } قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربَّهم أن يؤتيهم ما وعدهم، وقد علموا أن الله منجز وعده، وغيرُ جائز أن يكون منه إخلاف موعد؟ قيل: اختلف في ذلك أهل البحث. (1) فقال بعضهم: ذلك قول خرج مخرج المسألة، ومعناه الخبر. قالوا: وإنما تأويل الكلام:"ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار" لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. قالوا: وليس ذلك على أنهم قالوا:"إن توفيتنا مع الأبرار، فأنجز لنا ما وعدتنا"، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء، (2) ولكنه تفضل بابتدائه، ثم ينجزه. (3) * * * وقال آخرون: بل ذلك قول من قائليه على معنى المسألة والدعاء لله بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله، (4) لا أنهم كانوا قد   (1) "أهل البحث"، أهل النظر من المتكلمين، وانظر ما سلف 5: 387، تعليق 2، وأيضا: 406، تعليق: 1. (2) في المخطوطة: "بعطية"، وعلى الياء شدة، وكأن الصواب ما في المطبوعة على الأرجح. (3) في المطبوعة: "تفضل بإيتائه"، والصواب ما في المخطوطة، يعني أن الله ابتدأه متفضلا به من غير سؤال ولا دعاء. (4) في المطبوعة: "بل ذلك قول من قائله" على الإفراد، وصواب السياق الجمع، كما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يُخلف وعده. قالوا: ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الأبرار، لكانوا قد زكَّوْا أنفسهم، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه. قالوا. وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين. * * * وقال آخرون: بل قالوا هذا القول على وجه المسألة، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر، والظفر بهم، وإعلاء كلمة الحق على الباطل، فيعجل ذلك لهم. قالوا: ومحال أن يكون القوم= مع وصف الله إياهم بما وصفهم به، كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك، ولكنهم كانوا وُعدوا النصرَ، ولم يوقَّت لهم في تعجيل ذلك لهم، لما في تعجَله من سرور الظفر ورَاحة الجسد. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي، أن هذه الصفة، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وداره، مفارقًا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله، وغيرهم من تُبّاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم، فقالوا: ربنا آتنا ما وعدتنا من نُصرتك عليهم عاجلا فإنك لا تخلف الميعاد، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم، فعجل [لهم] خزيهم، ولنا الظفر عليهم. (1) يدل على صحة ذلك آخر الآية الأخرى، وهو قوله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ   (1) في المطبوعة: "فعجل حربهم"، وفي المخطوطة، غير منقوطة، إلا نقطة على الخاء، وصواب قراءتها ما أثبت. وزدت"لهم" بين القوسين، استظهارًا من قوله"ولنا الظفر عليهم". ولو كان قوله"ولنا" تصحيف"وآتنا"، لكان جيدًا أيضًا، ولما احتاج الكلام إلى زيادة"لهم". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) الآيات بعدها. وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شيء. وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال:"افعل بنا يا رب كذا وكذا"، بمعنى:"لتفعل بنا كذا وكذا". (1) ولو جاز ذلك، لجاز أن يقول القائل لآخر (2) : "أقبل إليّ وكلمني"، بمعنى:"أقبل إليّ لتكلمني"، وذلك غير موجود في الكلام ولا معروف جوازه. وكذلك أيضًا غير معروف في الكلام:"آتنا ما وعدتنا"، بمعنى:"اجعلنا ممن آتيته ذلك". وإن كان كل من أعطى شيئًا سنيًّا، فقد صُيِّر نظيرًا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه. ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك، وإن كان قد يؤول معناه إليه. (3) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك: أنك تُعلي كلمتك كلمةَ الحق، بتأييدنا على من كفر بك وحادَّك وعبد غيرك (4) = وعجَل لنا ذلك، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك- ولا تخزنا يوم القيامة فتفضحنا بذنوبنا التي سلفت منا، ولكن كفِّرها عنا واغفرها لنا. وقد:- 8366 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك"، قال: يستنجز موعود الله على رُسله. * * *   (1) في المطبوعة: "بمعنى أفعل بنا لكذا الذي. ولو جاز ذلك ... "، وهذا خلط ليس له معنى مفهوم. وفي المخطوطة: "بمعنى: افعل بنا كذى الذي. ولو جاز ذلك"، وهذا خلط أشد فسادًا من الأول. والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته، لأن هذا رد من أبي جعفر على أصحاب القول الأول الذين قالوا إنها بمعنى: "لتؤتينا ما وعدتنا" في تفسير"وآتنا ما وعدتنا"، ولأنه مثل بعد بقوله: "أقبل إلي وكلمني"، أنه غير موجود بمعنى"أقبل إلي لتكلمني". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقول القائل الآخر" وهو خطأ لا شك فيه. (3) وهذا رد على أصحاب القول الثاني من الأقوال الثلاثة التي ذكرها قبل. وهم الذين قالوا إن قوله: "وآتنا ما وعدتنا"، على معنى المسألة والدعاء لله بإن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم. (4) في المخطوطة: "بأيدينا على من كفر بك"، وأرجح ما جاء في المطبوعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 القول في تأويل قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين= بما وصف من أدعيتهم أنهم دعوا به (1) = ربُّهم، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرًا، ذكرًا كان العامل أو أنثى. * * * وذكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما بال الرجال يُذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة"؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية. 8367 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، تُذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر؟ فنزلت:"أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى"، الآية. (2)   (1) في المطبوعة"فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوا به ربهم ... " وهو كلام لا يستقيم. وفي المخطوطة: "فأجاب الله هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوه به ربهم.." وهو أيضًا غير مستقيم، والصواب الراجح ما أثبت. لأن الله عدد أدعيتهم التي دعوه بها قبل في الآيات السالفة، فكان صوابًا أن يذكرها إجمالا في بيان تفسير الآية. وغير مستقيم في العربية أن يقال: "وصف عن فلان كذا"، فلذلك رجحت قراءتها كما أثبت. والناسخ كما ترى كثير السهو والغلط. وسياق الكلام"فأجاب هؤلاء الداعين ... ربهم" برفع"ربهم"، وما بينهما فصل في السياق، وهو تأويل قوله: "فاستجاب لهم ربهم". (2) الحديث: 8367 - هذا إسناد صحيح. ومؤمل: هو ابن إسماعيل، وهو ثقة، كما ذكرنا في: 2057. سفيان - هنا -: هو الثوري، وإن كان مؤمل يروى أيضا عن ابن عيينة. ولكن بين أنه الثوري في رواية الحاكم، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله. والحديث رواه الطبري أيضا، فيما يأتي في تفسير الآية: 25 من سورة الأحزاب (ج22 ص8 بولاق) ، عن ابن حميد، عن مؤمل، بهذا الإسناد. وذكره سببًا لنزول تلك الآية. والحديث مروي على أنه سبب في نزول هذه الآية وتلك. فرواه الحاكم في المستدرك 2: 416، من طريق الحسين بن حفص، عن سفيان بن سعيد [وهو الثوري] ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة، قالت: "قلت: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟ فأنزل الله عز وجل: "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات" الآية، وأنزل: "أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. والحسين بن حفص الهمداني الإصبهاني: ثقة، كما ذكرنا في شرح: 2435. وقد ذكر ابن كثير رواية الطبري الأخرى، في سورة الأحزاب 6: 533، غير منسوب. ورواه أحمد في المسند 6: 301 (حلبى) ، سببًا لنزول آية الأحزاب. رواه من وجهين، جمعهما في إسناد واحد: من رواية عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، ومن رواية عبد الرحمن بن شيبة المكي الحجبي = كلاهما عن أم سلمة. ثم أعاده مرة أخرى، ص: 305 من الوجهين، فرقهما إسنادين. ورواه المزي في تهذيب الكمال، في ترجمة"عبد الرحمن بن شيبة"، بإسناده إليه. وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب أن النسائي رواه في التفسير من طريق عبد الرحمن. فهو في السنن الكبرى. ورواه الطبري، فيما سيأتي (ج22 ص8 بولاق) ، من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أم سلمة - سببًا لنزول آية الأحزاب. ويحيى بن عبد الرحمن: تابعي ثقة جليل رفيع القدر. وذكر ابن كثير 6: 533 أنه رواه النسائي من طريقه ثم أشار إلى رواية الطبري إياه. وانظر أيضا الدر المنثور 5: 200. فالحديث في الموضعين في الطبري، من طريق مجاهد = مختصر. وانظر الروايتين التاليتين لهذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 8368 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلا من ولد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تبارك وتعالى:"فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى". 8369 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى:"فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عملٍ عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض". (1) * * * وقيل:"فاستجاب لهم" بمعنى: فأجابهم، كما قال الشاعر: (2) وَدَاٍع دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى? ... فَلَم يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (3) بمعنى: فلم يجبه عند ذاك مجيب. * * *   (1) الحديثان: 8368، 8369 - الرجل من ولد أم سلمة: أبهم هنا، ولكنه عرف من إسناد آخر. وكذلك ذكره الترمذي في روايته مبهمًا. فرواه 4: 88، عن ابن أبي عمر، عن سفيان -وهو ابن عيينة- بهذا الإسناد. وكذلك أبهمه سعيد بن منصور: فرواه عن سفيان، به. فيما نقله عنه ابن كثير في التفسير 2: 326. وبينه الحاكم في المستدرك. فرواه 2: 300، من طريق يعقوب بن حميد: "حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سلمة بن أبي سلمة: رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. سمعت أبا أحمد الحافظ - وذكر في بحثين في كتاب البخاري: يعقوب عن سفيان، ويعقوب عن الدراوردي = فقال أبو أحمد: هو يعقوب بن حميد". والذهبي وافق الحاكم على أنه على شرط البخاري. ويعقوب بن حميد بن كاسب: مضى توثيقه في: 4779، 4880، ومضى اعتراض الذهبي على الحاكم في تصحيح حديثه هناك. فالعجب أن يوافقه هنا! و"سلمة بن أبي سلمة" هذا: هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة"، نسب إلى جده الأعلى. وبعضهم يذكر نسبه كاملا، وبعضهم ينسبه لجده، يقول: "سلمة بن عمر بن أبي سلمة". وأم سلمة أم المؤمنين: هي أم جده"عمر بن أبي سلمة". و"سلمة" هذا: مترجم في تهذيب التهذيب، ولم يترجم في أصله"تهذيب الكمال". وله ترجمة في الكبير للبخاري 2 / 2 / 81، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 166. والحديث ذكره السيوطي 2: 112، دون التقيد بتابعي معين عن أم سلمة، وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني. (2) كعب بن سعد الغنوي. (3) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 1: 320، تعليق: 1 / 3: 483، تعليق: 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 وأدخلت"من" في قوله:"من ذكر أو أنثى" على الترجمة والتفسير عن قوله: (1) "منكم"، بمعنى:"لا أضيع عمل عامل منكم"، من الذكور والإناث. وليست"من" هذه بالتي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام في الجحد، (2) لأنها دخلت بمعنى لا يصلح الكلام إلا به. * * * وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع كما تدخل في قولهم:"قد كان من حديث"، قال: و"من" ههنا أحسن، لأن النهي قد دخل في قوله:"لا أضيع". * * * وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال: = لا تدخل"من" وتخرج إلا في موضع الجَحد. (3) وقال: قوله:"لا أضيع عمل عامل منكم"، لم يدركه الجحد، لأنك لا تقول:"لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت"، فتدخل،"ولا"، (4) لأنه لم ينله الجحد، ولكن"مِنْ" مفسرة. (5) * * * وأما قوله:"بعضكم من بعض"، فإنه يعني: بعضكم= أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم= من بعض، في النصرة والملة والدين، (6) وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل، على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكرٍ منكم ولا أنثى. * * *   (1) "الترجمة": البدل، كما سلف في 2: 340، تعليق: 1، ص: 374، 420، 424 - 426. أما "التفسير"، فكأنه عنى به"التبيين"، ولم يرد التمييز، وانظر فهرس المصطلحات في سائر الأجزاء السالفة. (2) انظر زيادة"من" في الجحد فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586. (3) انظر ما سلف 2: 127. (4) في المطبوعة"فيدخل" بالياء، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. (5) يعني بقوله"مفسرة" مبينة، وانظر التعليق السالف رقم: 1. (6) في المطبوعة: "والمسألة والدين"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 القول في تأويل قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فالذين هاجروا" قومَهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله، والتصديق برسوله، (1) "وأخرجوا من ديارهم"، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة="وأوذوا في سبيلي"، يعني: وأوذوا في طاعتهم ربَّهم، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين، وذلك هو"سبيل الله" التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها (2) ="وقاتلوا" يعني: وقاتلوا في سبيل الله ="وقتلوا" فيها (3) ="لأكفرن عنهم سيئاتهم"، يعني: لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي، ولأغفرنها لهم (4) ="ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا"، يعني: جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله (5) ="من عند الله"، يعني: من قبل الله لهم (6) ="والله عنده حسن الثواب"، يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه،   (1) انظر تفسير"هاجر" فيما سلف 4: 317، 318. (2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 3: 563، 583، 592 / 4: 318 / 5: 280 / 6: 230. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقتلوا: يعني، وقتلوا في سبيل الله، وقاتلوا فيها" قدم وأخر في سياق الآية، وفي سياقة المعنى، والصواب ما أثبت، وإن كانت إحدى القراءات تجيز ما كان في المخطوطة، وانظر القراآت في الآية بعد. (4) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف قريبًا ص: 482. (5) انظر تفسير"الثواب" فيما سلف 2: 458 / 7: 262، 304. (6) انظر تفسير"عند" فيما سلف 2: 501. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 وذلك ما لا يبلغه وصف واصفٍ، لأنه مما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر، كما:- 8370 - حدثنا عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث: أن أبا عشانة المعافري حدثه: أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان، لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وأن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول:"أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة"، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون:"ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك، مَنْ هؤلاء الذين آثرتهم علينا" فيقول الرب جل ثناؤه:"هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي". فتدخل الملائكة عليهم من كل باب: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) . (1) [سورة الرعد: 24] * * *   (1) الحديث: 8370 - أبو عشانة، بضم العين المهملة وتشديد الشين المعجمة، المعافري، بفتح الميم: هو حي بن يؤمن بن عجيل المصري. تابعي ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 110، وابن سعد 7 / 2 / 201، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 276. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 71- 72، من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب -وهو عبد الله- بهذا الإسناد، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ورواه أيضا الطبراني، من طريق أحمد بن صالح، عن ابن وهب - فيما نقل عنه ابن كثير 4: 519 ورواه أحمد في المسند، بنحوه: 6570، من طريق معروف بن سويد الجذامي، عن أبي عشانة المعافري. ثم رواه - بنحوه أيضًا: 6571، من طريق ابن لهيعة، عن أبي عشانة. ورواه أبو نعيم في الحلية - مختصرًا - من طريق معروف بن سويد 1: 347. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 259، من روايتي المسند، وذكر في الأولى أنه رواه أيضًا البزار، والطبراني، "ورجالهم ثقات". وذكر في الثانية أنه رواه أيضًا الطبراني، "ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير أبي عشانة، وهو ثقة". وذكره السيوطي 2: 112، ونسبه لابن جرير، وأبي الشيخ، والطبراني والحاكم"وصححه"، والبيهقي في الشعب. ثم ذكره مرة أخرى 4: 57- 58، ونسبه لأحمد، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، والحاكم"وصححه"، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان. ولم يذكره ابن كثير في هذا الموضع، بل ذكره في ذاك الموضع، في تفسير سورة الرعد، كما أشرنا إليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وقاتلوا وقتلوا". * * * فقرأه بعضهم: (" وَقَتَلُوا وَقُتِّلُوا ") بالتخفيف، بمعنى: أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين. * * * وقرأ ذلك آخرون: (وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا) بتشديد"قتَلوا"، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقتَّلهم المشركون، بعضًا بعد بعض، وقتلا بعد قتل. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين: (وَقَاتَلُوا وَقَتَلُوا) بالتخفيف، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقَتَلوا. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين:"وَقُتِلُوا" بالتخفيف."وقاتلوا"، بمعنى: أن بعضهم قُتِل، وقاتل من بقي منهم. * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن أعدوها، إحدى هاتين القراءتين، وهي:"وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا" بالتخفيف، أو"وَقَتَلُوا" بالتخفيف"وَقَاتَلُوا" لأنها القراءة المنقولة نقل وراثةٍ، وما عداهما فشاذ. وبأيّ هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوَهما، قرأ قارئ فمصيب في ذلك الصوابَ من القراءة، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام، مع اتفاق معنييهما. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 القول في تأويل قوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولا يغرنك" يا محمد="تقلب الذين كفروا في البلاد"، يعني: تصرفهم في الأرض وضربهم فيها، (1) كما:- 8371 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، يقول: ضربهم في البلاد. * * * = فنهى الله تعالى ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بضربهم في البلاد، وإمهال الله إياهم، مع شركهم، وجحودهم نعمه، وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به غيره من أتباعه وأصحابه، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله= ولكن كان بأمر الله صادعًا، وإلى الحق داعيًا. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة. 8372 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يغرَّنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، والله ما غرُّوا نبيَّ الله، ولا وكل إليهم شيئًا من أمر الله، حتى قبضه الله على ذلك. * * * وأما قوله:"متاع قليل"، فإنه يعني: أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها،   (1) انظر تفسير"التقلب" فيما سلف 3: 172. (2) أخشى أن يكون سقط من هذه العبارة شيء، وإن كان الكلام مفهوم المعنى، وكأن أصل العبارة"كما قد بينا فيما مضى قبل - ولم يكل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشرك والكفر شيئًا من أمر الله، ولكن كان بأمر الله صادعًا، وإلى الحق داعيًا". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 متعة يمتَّعون بها قليلا حتى يبلغوا آجالهم، فتخترمهم منياتهم="ثم مأواهم جهنم"، بعد مماتهم. * * * و"المأوى": المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة، فيصيرون فيه. (1) * * * ويعني بقوله:"وبئس المهاد". وبئس الفراش والمضجع جهنم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (3) "لكن الذين اتقوا ربهم"، لكن الذين اتقوا الله بطاعته واتّباع مرضاته، في العمل بما أمرهم به، واجتناب ما نهاهم عنه="لهم جنات" يعني: بساتين، (4) ="تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها"، يقول: باقين فيها أبدًا. (5) ="نزلا من عند الله"، يعني: إنزالا من الله إياهم فيها، أنزلوها. ونصب"نزلا" على التفسير من قوله:"لهم جنات تجري من تحتها الأنهار"،   (1) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف ص: 279. (2) انظر تفسير"المهاد" فيما سلف 4: 246 / 6: 229. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت. (4) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف 1: 384 / 5: 535، 542 / 6: 261، 262 / 7: 227. (5) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف 6: 261: 262 تعليق: 1، والمراجع هناك، وفهارس اللغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 كما يقال:"لك عند الله جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا"، وكما يقال:"هو لك صدقة": و"هو لك هبة". (1) * * * = وقوله:"من عند الله" يعني: من قبل الله، (2) ومن كرامة الله إياهم، وعطاياه لهم. * * * وقوله:"وما عند الله خير للأبرار"، يقول: وما عند الله من الحياة والكرامة، وحسن المآب"،"خير للأبرار"، مما يتقلب فيه الذين كفروا، فإن الذي يتقلبون فيه زائل فانٍ، وهو قليلٌ من المتاع خسيس، وما عند الله من كرامته للأبرار - (3) وهم أهل طاعته (4) باقٍ، غيرُ فانٍ ولا زائل. * * * 8373 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"وما عند الله خير للأبرار"، قال: لمن يطيع الله. 8374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود، عن عبد الله قال: ما من نَفْس بَرَّة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. ثم قرأ عبد الله:"وما عند الله خير للأبرار"، وقرأ هذه الآية: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ) . (5) [سورة آل عمران: 178]   (1) "التفسير"، عند الكوفيين، هو التمييز عند البصريين، وانظر ما سلف 2: 338، تعليق: 1 / 3: 90، تعليق: 2 / 5: 91، تعليق: 4 وانظر معاني القرآن للفراء 1: 251. (2) انظر تفسير"عند" فيما سلف قريبًا ص: 490، تعليق 6، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "وما عند الله خير من كرامته للأبرار"، وهو فاسد المعنى، وكان مثله في المخطوطة، إلا أنه ضرب على"خير" بإشارة الحذف، ولكن الناشر لم يدرك معنى الإشارة فأبقاها. فأفسدت الكلام. (4) انظر تفسير"الأبرار" فيما سلف قريبًا ص: 482، تعليق: 6، والمراجع هناك. (5) الحديث: 8374 - مضى برقم: 8267، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن سفيان. ورواه ابن أبي حاتم، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش كما نقله ابن كثير عنه 2: 328. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 8375 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن فرج بن فضالة، عن لقمان، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول:"وما عند الله خير للأبرار"، ويقول: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) . (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النجاشي، وفيه أنزلت. * ذكر من قال ذلك: 8376 - حدثنا عصَام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذليّ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله: أن   (1) الحديث-: 8375 - فرج بن فضالة: ضعيف، كما بينا في: 1688. لقمان: هو ابن عامر الوصابي الحمصي. وهو ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 251، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 182- 183. ولم يذكرا فيه جرحا. و"الوصابي": بفتح الواو وتشديد الصاد المهملة، كما ضبطه ابن الأثير في اللباب، والذهبي في المشتبه، ووهم الحافظ ابن حجر، فضبطه في التقريب بتخفيفها. والحديث ذكره ابن كثير 2: 328 - 329، عن هذا الموضع من الطبري. ووقع في طبعته"نوح ابن فضالة" بدل"فرج بن فضالة"، وهو خطأ مطبعي سخيف. وذكره السيوطي 2: 104، عند الآية السابقة: 178، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اخرجوا فصلوا على أخ لكم". فصلى بنا، فكبر أربع تكبيرات، فقال:"هذا النجاشي أصحمة"، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على عِلْجٍ نصرَاني لم يره قط! (1) فأنزل الله:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله". (2) 8377 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: يصلَّى على رجل ليس بمسلم! قال: فنزلت:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله". قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة! فأنزل الله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [سورة البقرة: 115] 8378 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، ذكر   (1) "العلج": الرجل من كفار العجم، غير العرب، والجمع"علوج" و"أعلاج". (2) الحديث: 8376 - عصام بن رواد بن الجراح: مضت ترجمته وتوثيقه: 2183. وقع هنا في المطبوعة"عصام بن زياد بن رواد بن الجراح"؛ فزيادة اسم"زياد" في نسبه لا أصل لها. وثبت في المخطوطة بحذفها، على الصواب. أبوه"رواد بن الجراح": مضت ترجمته وتضعيفه: 126، 2183. أبو بكر الهذلي: سبق بيان ضعفه جدًا، في: 597، وشرح: 2526. وهذا الحديث ذكره السيوطي 2: 113، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكره ابن كثير 2: 330، عن الطبري، ولكن في روايته خلاف في بعض لفظه لما هنا، ولم يذكر أول إسناده. فلعله نقله عن موضع آخر من الطبري. وهذا الحديث ضعيف كما ترى، وسيأتي قول الطبري، ص: 499 س: 15"قيل: ذلك خبر في إسناده نظر". والضعف إنما هو في هذا الإسناد لحديث جابر، أما أصل المعنى، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي صلاة الجنازة الغائبة، فإنه ثابت صحيح لا شك في صحته. رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر، ومن حديث أبي هريرة. انظر المنتقى: 1821 - 1824. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 لنا أن هذه الآية نزلت في النَّجاشي، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقوا به. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته، قال لأصحابه:"صلّوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم"! فقال أناس من أهل النفاق:"يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه"؟ فأنزل الله هذه الآية:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب". 8379 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، قال: نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم = واسم النجاشي، أصحْمة. 8380 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال عبد الرزاق، وقال ابن عيينة: اسم النجاشي بالعربية: عطية. 8381 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي، طعن في ذلك المنافقون، فنزلت هذه الآية:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله"، إلى آخر الآية. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد الله بن سَلامٍ ومن معه. * ذكر من قال ذلك: 8382 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: نزلت -يعني هذه الآية- في عبد الله بن سلام ومن معه. 8383 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 قوله:"وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم"، الآية كلها= قال: هؤلاء يهود. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك مُسْلِمة أهل الكتاب. * ذكر من قال ذلك: 8384 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم"، من اليهود والنصارى، وهم مسلمة أهل الكتاب. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد. وذلك أنّ الله جل ثناؤه عَمّ بقوله:"وإنّ من أهل الكتاب" أهلَ الكتاب جميعًا، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى. وإنما أخبر أن من"أهل الكتاب" من يؤمن بالله. وكلا الفريقين =أعني اليهود والنصارى= من أهل الكتاب. * * * فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في الخبر الذي رويتَ عن جابر وغيره: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟ قيل: ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحًا لا شك فيه، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف. (1) وذلك أنّ جابرًا ومن قال بقوله، إنما قالوا:"نزلت في النجاشيّ"، وقد تنزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشيّ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشيّ، حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشيّ في اتباعهم   (1) في المطبوعة: "خلاف"، والصواب ما في المخطوطة. وقوله: "بخلاف"، أي بمخالف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين، التوراة والإنجيل. * * * فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:"وإن من أهل الكتاب" التوراة والإنجيل="لمن يؤمن بالله" فيقرّ بوحدانيته="وما أنزل إليكم"، أيها المؤمنون، يقول: وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم="وما أنزل إليهم"، يعني: وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والإنجيل والزبور="خاشعين لله"، يعني: خاضعين لله بالطاعة، مستكينين له بها متذلِّلين، (1) كما:- 8385 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في قوله:"خاشعين لله"، قال: الخاشع، المتذلل لله الخائف. * * * ونصب قوله:"خاشعين لله"، على الحال من قوله:"لمن يؤمن بالله"، وهو حال مما في"يؤمن" من ذكر"من". (2) * * * ="لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا"، يقول: لا يحرِّفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدِّلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه، لعَرَضٍ من الدنيا خسيس يُعطوْنه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، (3) ولكن ينقادون للحق، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنزل إليهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فيها، ويؤثرون أمرَ الله تعالى على هَوَى أنفسهم. * * *   (1) انظر تفسير"الخشوع" فيما سلف 2: 16، 17. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 251. (3) انظر تفسير"الاشتراء" وتفسير"الثمن" فيما سلف قريبًا: 459، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه (1) "أولئك لهم أجرهم"، هؤلاء الذين يؤمنون بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم="لهم أجرهم عند ربهم"، يعني: لهم عوض أعمالهم التي عملوها، وثواب طاعتهم ربَّهم فيما أطاعوه فيه (2) ="عند ربهم" يعني: مذخور ذلك لهم لديه، حتى يصيروا إليه في القيامة، فيوفِّيهم ذلك ="إنّ الله سريع الحساب"، وسرعة حسابه تعالى ذكره: أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك، فيقع في الإحصاء إبطاء، فلذلك قال:"إن الله سريع الحساب". (3) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك:"اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورَابطوهم". ذكر من قال ذلك: 8386 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك،   (1) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 2: 148، 512 / 5: 519. (3) انظر تفسير"سريع الحساب" فيما سلف 4: 207 / 6: 279. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 عن المبارك بن فضالة، عن الحسن: أنه سمعه يقول في قول الله:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سَرَّاء ولا ضراء، وأمرهم أن يُصابروا الكفار، وأن يُرابطوا المشركين. 8387 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"، أي: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله="واتقوا الله لعلكم تفلحون". 8388 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول: صابروا المشركين، ورابطوا في سبيل الله. 8389 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: اصبروا على الطاعة، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله. 8390 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: اصبروا على ما أمرتم به، وصابروا العدو ورابطوهم. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا وَعدي إياكم على طاعتكم لي، ورَابطوا أعداءكم. * ذكر من قال ذلك: 8391 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوِّي وعدوَّكم، حتى يترك دينه لدينكم. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ورابطوهم. * ذكر من قال ذلك: 8392 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون قال، أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله:"اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوَّكم، ورابطوا على عدوكم. 8393 - حدثني المثنى قال، حدثنا مطرف بن عبد الله المدنّي قال، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، فذكر له جموعًا من الروم وما يتخوَّف منهم، فكتب إليه عمر:"أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عُسر يسرين، وإن الله يقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورَابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون". (2) * * *   (1) الأثر: 8391 -"أبو صخر" هو: حميد بن زياد بن أبي المخارق، أبو صخر الخراط، صاحب العباء، سكن مصر. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 8393 -"مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان الهلالي، المدني، مولى ميمونة أم المؤمنين، وأمه أخت مالك بن أنس، روى عن خاله مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعبد الله بن عمر العمري، وغيرهم. روى عنه البخاري والترمذي، عن محمد بن أبي الحسن عنه وابن ماجه، عن الذهلي عنه، والربيع المرادي، وأبو حاتم، وأبو زرعة وآخرون. قال أبو حاتم: "مضطرب الحديث صدوق". وقال= ابن سعد"كان ثقة، وبه صمم". مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 397، والجرح 4 / 1 / 315. وكان في المطبوعة: "المرى"، وفي المخطوطة مثلها، وتقرأ"المزني" والصواب"المدني" أو "المديني" في نسبه كما جاء في المراجع، وابن كثير 2: 337. وفي ابن كثير 2: 337: "مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة"، وفي الدر المنثور 2: 114"مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة"، وفي المطبوعة والمخطوطة: "مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة"، بحذف"من" والصواب إثباتها. ومن الأخطاء الشائعة أن يقال إن"مهما" لا تدخل على الماضي، وقد وردت في الآثار والأخبار والأشعار، من ذلك قول أبي هريرة للفرزدق: "مهما فعلت فقنطك الناس فلا تقنط من رحمة الله" (الكامل 1: 70) وقول الأسود بن يعفر (نوادر أبي زيد: 159) : أَلا هَلْ لِهَذَا الدَّهْرِ مِنْ مُتَعَلَّلِ ... سِوَى النَّاسِ، مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ وهذا الأثر رواه الحاكم مطولا في المستدرك 2: 300 بإسناده قال: "أخبرنا أبو العباس السباريّ، حدثنا عبد الله بن علي، حدثنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه بلغه أن أبا عبيدة حُصِر بالشأم، وقد تألّبَ عليه القوم، فكتب إليه عمر: "سلام الله عليك، أمّا بعد، فإنه ما ينزلْ بعبد مؤمن من منزلة شدة، إلا يجعل الله له بعدها فرجًا، ولن يغلب عُسْرٌ يُسْرين، (يَأَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . فكتب إليه أبو عبيدة: "سلامٌ عليك، أما بعد، فإن الله يقول في كتابه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأوْلادِ) - إلى آخرها". قال: فخرج عمر بكتابه، فقعد على المنبر، فقرأ على أهل المدينة ثم قال: يا أهْل المدينة، إِنما يعرّضُ بكم أبو عبيدة: أَنِ ارغبوا في الجهادِ". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 وقال آخرون: معنى:"ورابطوا"، أي: رابطوا على الصلوات، أي: انتظروها واحدة بعد واحدة. ذكر من قال ذلك: 8394 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال، حدثني داود بن صالح قال، قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية:"اصبروا وصابروا ورابطوا"؟ قال قلت: لا! قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يُرَابَطُ فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة. (1)   (1) الأثر: 8394 -"مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير"، مضت ترجمته برقم: 6456. و"داود بن صالح التمار المدني"،. روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة. قال أحمد: "لا أعلم به بأسًا"، وذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب. و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" من التابعين، روى عن خلق من الصحابة والتابعين. كان ثقة فقيها كثير الحديث. والأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 332، وذكر سياق ابن مردويه له (2: 331) من طريق"محمد بن أحمد، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي، أنبأنا ابن أبي كريمة، عن محمد بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل على أبو هريرة يومًا فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية"، وساق الخبر بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 301 من طريق سعيد بن منصور، عن ابن المبارك، بمثل رواية الطبري، إلا أنه قال في جواب السؤال: "قال: قلت: لا. قال: يا ابن أخي إني سمعت أبا هريرة يقول: لم يكن في زمان النبي ... " بلفظه. وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 113، ونسبه لابن المبارك وابن المنذر، والحاكم، وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان. وفي جميع هذه المواضع: "انتظار الصلاة بعد الصلاة"، والثابت في المخطوطة"خلف الصلاة"، وكان الكاتب قد كتب فيها"بعد" ثم جعل الباء والعين خاء، ومد الدال وعقد عليها فاء، فالظاهر أنه كتبها كما كان يحفظها، ثم استدرك، لأنه رأى في النسخة التي كتب عنها"خلف". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 8395 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن شرحبيل، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط". (1) 8396 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن مهاجر قال، حدثني يحيى بن يزيد، عن زيد بن أبي أنيسة،   (1) الحديث: 8395 - أبو السائب: هو سلم بن جنادة. وابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان. عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري: ضعيف جدا، رمي بالكذب. وقد مضى في: 7855. شرحبيل: لست أدري من هو؟ والإسناد ضعيف من أجل عبد الله بن سعيد، كما ترى. ولو صح هذا الإسناد لظننت أنه"شرحبيل بن السمط الكندى"، من كبار التابعين، مختلف في صحبته. وهو معاصر لعلي. ومن المحتمل أن يروي عنه أبو سعيد المقبري، الذي يروي عن علي مباشرة. والحديث نقله ابن كثير 2: 332، عن هذا الموضع. ولم ينسبه لغير الطبري. وأشار إليه السيوطي 2: 114، بعد حديث جابر، الآتي بعد هذا، فقال: "وأخرج ابن جرير عن علي مثله". ومعنى الحديث ثابت عن علي، من وجه آخر صحيح. ولكن ليس فيه قوله: "فذلك الرباط" - ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 36، وقال: "رواه أبو يعلى، والبزار، ورجاله رجال الصحيح". وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1: 97، وقال: "رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 عن شرحبيل، عن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفِّر به الذنوب؟ " قال: قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء في أماكنها، وكثرة الخطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط. (1) 8397 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يحطُّ الله به الخطايا ويَرفع به   (1) الحديث: 8396 - محمد بن مهاجر بن أبي مسلم، الأنصاري الشامي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 1 / 1 / 229، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 91. يحيى بن يزيد الجزري، أبو شيبة الرهاوي: قال البخاري في الكبير 4 / 2 / 310: "لم يصح حديثه" وذكره في الضعفاء أيضا، ص: 37، وقال مثل ذلك. وقال ابن أبي حاتم 4 / 2 / 198، عن أبيه: "ليس به بأس، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، يحول من هناك". فمثل هذا حديثه حسن. ثم هو لم ينفرد براوية هذا الحديث، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله. زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. قال ابن سعد 7 / 2 / 180: "كان ثقة كثير الحديث، فقيها راوية للعلم". أخرج له الجماعة كلهم. شرحبيل -هنا-: هو ابن سعد الخطمي المدني مولى الأنصار. مختلف فيه، والحق أنه ثقة. إلا أنه اختلط في آخر عمره، إذ جاوز المئة. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: 2104، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 252، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن سعد 5: 228، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 338- 339. وقد بين ابن حبان في صحيحه، في رواية هذا الحديث، أنه شرحبيل بن سعد. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه (2: 330 من مخطوطة الإحسان) ، من طريق أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر، به. وأبو عبد الرحيم: هو خالد بن أبي يزيد الحراني، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. فروايته متابعة صحيحة، توثق رواية يحيى بن يزيد، التي هنا، وتؤيدها. والحديث نقله ابن كثير 2: 332، عن رواية الطبري هذه. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1: 160- 161، عن رواية ابن حبان في صحيحه، وأشار إليه أيضا قبل ذلك، ص: 128. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 37، ونسبه للبزار، وذكر أن"في إسناده شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف عند الجمهور، وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له في صحيحه هذا الحديث". وذكره السيوطي 2: 114، ونسبه لابن جرير، وابن حبان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط". (1) 8398 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (2) * * *   (1) الحديث: 8397 - خالد بن مخلد: هو القطواني. ومحمد بن جعفر: هو ابن أبي كثير. وقد مضى مثل هذا الإسناد في حديث آخر: 2206. والحديث رواه أحمد في المسند: 7208، من طريق شعبة، عن العلاء، عن أبيه، دون كلمة"فذلك" الرباط". ورواه أحمد أيضا: 7751، مع هذه الكلمة - من طريق مالك عن العلاء. ثم رواه ثالثًا: 8008، (ج2 ص303 حلبي) ، من طريق مالك أيضًا. وفي آخره: "فذلكم الرباط" - ثلاث مرات. وهو بهذا اللفظ، في الموطأ، ص: 161. وكذلك رواه النسائي 1: 34، من طريق مالك. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه (2: 329- 330 من مخطوطة الإحسان) ، من طريق مالك. ونقله ابن كثير 2: 331، من رواية ابن أبي حاتم، من حديث مالك، كرواية الموطأ. ورواه مسلم 1: 86، من طريق مالك، ومن طريق شعبة. وذكر أن رواية مالك -عنده-"فذلكم الرباط" مرتين. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1: 97، 128، ونسبه لمالك، ومسلم، والترمذي، والنسائي. وذكره السيوطي 2: 114، وزاد نسبته للشافعي، وعبد الرزاق. وانظر الإسناد التالي لهذا. (2) الحديث: 8398 - القاسم: هو ابن الحسن، والحسين: هو ابن داود المصيصي، ولقبه"سنيد". وهذا الإسناد"القاسم، عن الحسين" يدور عند الطبري كثيرًا، في التفسير والتاريخ، فما مضى منه في التفسير: 144، 165، 1688. وفي التاريخ -مثلا- 1: 21، 41. أما "سنيد" فقد ترجمنا له في: 144، 1688. وأما "القاسم بن الحسن" - شيخ الطبري: فلم أجد له ترجمة. ولكن في تاريخ بغداد 12: 432- 433 ترجمة"القاسم بن الحسن بن يزيد، أبو محمد الهمذاني الصائغ"، المتوفى سنة 272. فهذا يصلح أن يكون هو المراد، ولكن لا أطمئن إلى ذلك، ولا أستطيع الجزم به، بل لا أستطيع ترجيحه. وعسى أن نجد ما يدل على حقيقة هذا الشيخ، في فرصة أخرى، إن شاء الله. إسماعيل: هو ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري القارئ، وهو ثقة مأمون. مضت الإشارة إليه في شرح: 6884. وهذا الحديث تكرار لما قبله. وكذلك رواه مسلم 1: 86، والترمذي. (رقم: 51 بشرحنا) = كلاهما من طريق إسماعيل بن جعفر. ورواه الترمذي أيضا: 52، من طريق الدراوردي، عن العلاء. وقال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله،="اصبروا" على دينكم وطاعة ربكم. وذلك أنّ الله لم يخصص من معاني"الصبر" على الدين والطاعة شيئًا، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل. فلذلك قلنا إنه عني بقوله:"اصبروا"، الأمرَ بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها. (1) ="وصابروا"، يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين. * * * وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المعروف من كلام العرب في"المفاعلة" أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدًا، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة. فإذْ كان ذلك كذلك، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم. (2) * * * وكذلك قوله:"ورابطوا"، معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك، في سبيل الله. * * * قال أبو جعفر: ورأى أن أصل"الرباط"، ارتباط الخيل للعدوّ، كما   (1) انظر تفسير"الصبر" فيما سلف 2: 11، 124 / 3: 214، 349 / 5: 352 / 6: 264 / 7: 181. (2) في المطبوعة: "وإلا يكن عددهم"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 ارتبط عدوهم لهم خيلهم، (1) ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر، كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رَجْلة لا مركب له. (2) * * * وإنما قلنا معنى:"ورابطوا"، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني"الرباط". وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه= حجة يجب التسليم لها من كتاب، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"واتقوا الله"، أيها المؤمنون، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه (4) ="لعلكم تفلحون"، يقول: لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد، وتنجحوا في طلباتكم عنده، (5) كما:-   (1) في المخطوطة: "كما ارتبط عددهم لهم حملهم"، ولعل صواب قراءتها"جيادهم"، ولكني تركت ما في المطبوعة على حاله، فهو صواب حسن. (2) "الرجلة" (بضم الراء وسكون الجيم) : المشي راجلا غير راكب. (3) قوله: "حجة"، فاعل قوله: "حتى تأتي بخلاف ذلك..". وكان في المطبوعة والمخطوطة: "حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه ... "، والصواب"مما يوجب" كما أثبتها، وفي المطبوعة أيضا: "إلى الخفي من معاينة"، وهو خطأ ظاهر. (4) في المطبوعة: "وتتقدموا" بالواو، والصواب من المخطوطة. وقوله: "تتقدموا نهيه" هكذا جاء متعديا، وكأنه أراد: أو تسبقوا نهيه، وسبقهم نهيه. أن يخاطروا بالإسراع إلى المحارم بشهواتهم، قبل أن يردهم نهي الله عن إتيانها. (5) انظر تفسير"لعل" فيما سلف 1: 364، 365، ومواضع أخرى كثيرة. وانظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 1: 249، 250 / 3: 561 / 7: 91. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 8399 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في قوله:"واتقوا الله لعلكم تفلحون"، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. * * * آخر تفسير سورة آل عمران. (1) * * *   (1) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء. وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا" ثم يتلوه ما أثبتناه في أول تفسير سورة النساء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 تفسير سورة النساء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 {القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء } بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يسِّرْ * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة"، احذروا، أيها الناس، ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم وفيما نهاكم، فيحلّ بكم من عقوبته ما لا قِبَل لكم به. ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحِّد بخلق جميع الأنام من شخص واحد، مُعَرِّفًا عباده كيف كان مُبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، (1) ومنبِّهَهم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة= وأن بعضهم من بعض، وأن حق بعضهم على بعض واجبٌ وجوبَ حق الأخ على أخيه، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة= وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض، وإن بَعُدَ التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب   (1) في المطبوعة والمخطوطة وعرف عباده ... "، واستظهرت من نهج أبي جعفر في بيانه، ومن قوله بعد: "ومنبههم" ثم قوله: "وعاطفًا"، على أن الصواب"ومعرفًا"، وهو مقتضى سياق الكلام بعد ذلك كله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 الأدنى= (1) وعاطفًا بذلك بعضهم على بعض، ليتناصفوا ولا يتظالموا، وليبذُل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله له، فقال:"الذي خلقكم من نفس واحدة"، يعني: من آدم، كما:- 8400 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"خلقكم من نفس واحدة"، فمن آدم عليه السلام. (2) 8401 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة"، يعني آدم صلى الله عليه. (3) 8402 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:"خلقكم من نفس واحدة"، قال: آدم. * * * ونظير قوله:"من نفس واحدة"، والمعنيُّ به رجل، قول الشاعر. أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ، ذَاكَ الكَمَالُ (4) فقال،"ولدته أخرى"، وهو يريد"الرجل"، فأنّث للفظ"الخليفة". وقال تعالى ذكره:"من نفس واحدة" لتأنيث"النفس"، والمعنى: من رجل واحد. ولو قيل:"من نفس واحد"، وأخرج اللفظ على التذكير للمعنى، كان صوابًا. (5) * * *   (1) قوله: "وعاطفًا"، عطف على قوله: "معرفًا عباده ... ومنبههم ... ". (2) في المطبوعة: "صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما فيه المخطوطة. (3) في المطبوعة: "صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) سلف البيت وتخريجه في 6: 362. (5) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 252. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وخلق منها زوجها"، وخلق من النفس الواحدة زوجها= يعني بـ"الزوج"، الثاني لها. (1) وهو فيما قال أهل التأويل، امرأتها حواء. * ذكر من قال ذلك: 8403 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وخلق منها زوجها"، قال: حواء، من قُصَيري آدم وهو نائم، (2) فاستيقظ فقال:"أثا"= بالنبطية، امرأة. 8404 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8405 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وخلق منها زوجها"، يعني حواء، خلقت من آدم، من ضِلَع من أضلاعه. 8406 - حدثني موسى بن هارون قال، أخبرنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أسكن آدمَ الجنة، فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها. (3) فنام نومةً، فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة، خلقها   (1) انظر تفسير"الزوج" فيما سلف 1: 514 / 2: 446، وأراد بقوله في تفسير"الزوج""الثاني لها"، أن"الزوج" هو"الفرد الذي له قرين"، فكل واحد من القرينين، يقال له: "زوج"، ثم قيل لامرأة الرجل، وللرجل صاحب المرأة: "زوج". (2) القصرى (بضم القاف وسكون الصاد وفتح الراء) والقصيري (بضم القاف وفتح الصاد، على التصغير) : أسفل الأضلاع، أو هي الضلع التي تلي الشاكلة، بين الجنب والبطن. (3) قوله: "وحشا"، أي وحده ليس معه غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 الله من ضلعه، فسألها ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ. (1) 8407 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السَّنة -فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن العباس وغيره- ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه، من شِقٍّه الأيسر، ولأم مكانه، (2) وآدم نائمٌ لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضِلَعه تلك زوجته حواء، فسوَّاها امرأة ليسكن إليها، فلما كُشِفت عنه السِّنة وهبَّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون، والله أعلم-: لحمي ودمي وزوجتي! فسكن إليها. (3) 8408 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وخلق منها زوجها". جعل من آدم حواء. * * * وأما قوله:"وبثَّ منهما رجالا كثيرًا ونساء"، فإنه يعني: ونشر منهما، يعني من آدم وحواء="رجالا كثيرًا ونساء"، قد رآهم، كما قال جل ثناؤه: (كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) [سورة القارعة: 4] . (4) * * * يقال منه:"بثَّ الله الخلق، وأبثهم". (5) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) الأثر: 4806- مضى هذا الأثر مطولا برقم: 710، وكان في المطبوعة هنا: "لتسكن إلي" باللام في أولها، وأثبت نص المخطوطة، وما سلف في الأثر: 710. (2) لأم الشيء لأمًا، ولاءمه، فالتأم: أصلحه حتى اجتمع وذهب ما كان فيه من الصدع. وفي روايته في الأثر رقم: 711: "ولأم مكانه لحما". (3) الأثر: 8407- مضى هذا الأثر برقم: 711، وتخريجه هناك. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 252. (5) انظر تفسير"بث" فيما سلف 3: 275. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 * ذكر من قال ذلك: 8409 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وبث منهما رجالا كثيرًا ونساء"، وبثَّ، خلق. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة:"تَسَّاءَلونَ" بالتشديد، بمعنى: تتساءلون، ثم أدغم إحدى"التاءين" في"السين"، فجعلهما"سينًا" مشددة. * * * وقرأه بعض قرأة الكوفة:"تَسَاءَلُونَ"، بالتخفيف، على مثال"تفاعلون"، * * * وهما قراءتان معروفتان، ولغتان فصيحتان= أعني التخفيف والتشديد في قوله:"تساءلون به"= وبأيِّ ذلك قرأ القارئ أصابَ الصواب فيه. لأن معنى ذلك، بأيّ وجهيه قرئ، غير مختلف. * * * وأما تأويله: واتقوا الله، أيها الناس، الذي إذا سأل بعضكم بعضًا سأل به، فقال السائل للمسئول:"أسألك بالله، وأنشدك بالله، وأعزِم عليك بالله"، وما أشبه ذلك. يقول تعالى ذكره: فكما تعظّمون، أيها الناس، رّبكم بألسنتكم حتى تروا أنّ من أعطاكم عهده فأخفركموه، (1) فقد أتى عظيمًا. فكذلك فعظّموه بطاعتكم إياه فيما أمركم،   (1) أخفر الذمة والعهد: نقضه وغدره وخاس به، ولم يف بعهده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 واجتنابكم ما نهاكم عنه، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه، كما:- 8410 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"واتقوا الله الذي تساءلون به"، قال يقول: اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به. 8411 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"واتقوا الله الذي تساءلون به"، يقول: اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون. 8412 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس مثله. 8413 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"تساءلون به"، قال: تعاطفون به. * * * وأما قوله:"والأرحام"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم قال السائل للمسئول:"أسألك به وبالرّحِم" ذكر من قال ذلك: 8414 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:"اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، يقول: اتقوا الله الذي تعاطفون به والأرحام. يقول: الرجل يسأل بالله وبالرَّحم. 8415 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: هو كقول الرجل:"أسألك بالله، أسألك بالرحم"، يعني قوله:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 8416 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول:"أسألك بالله وبالرحم". 8417 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: هو كقول الرجل:"أسألك بالرحم". 8418 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول:"أسألك بالله وبالرحم". 8419 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن منصور -أو مغيرة- عن إبراهيم في قوله:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال: هو قول الرجل:"أسألك بالله والرحم". 8420 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الحسن قال: هو قول الرجل:"أنشدك بالله والرحم". * * * قال محمد: (1) وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله:"وَالأرْحَامِ" بالخفض عطفًا بـ"الأرحام"، على"الهاء" التي في قوله:"به"، كأنه أراد: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام= فعطف بظاهر على مكنيّ مخفوض. وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب، لأنها لا تَنسُق بظاهر على مكني في الخفض، (2)   (1) قوله: "قال محمد"، يعني محمد بن جرير الطبري، أبا جعفر صاحب التفسير. وهذه أول مرة يكتب فيها الطبري، أو أحد تلامذته، أو بعض ناسخي تفسيره"قال محمد"، دون كنيته قال"أبو جعفر". وانظر ما سيأتي ص: 569، تعليق: 2. (2) قوله: "تنسق"، أي تعطف. و"النسق" العطف، انظر فهارس المصطلحات في هذه الأجزاء من التفسير، و"المكني" الضمير، انظر فهارس المصطلحات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 إلا في ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر. (1) وأما الكلام، فلا شيء يضطر المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق، والرديء في الإعراب منه. ومما جاء في الشعر من ردّ ظاهر على مكنيّ في حال الخفض، قول الشاعر: (2) نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا ... وَمَا بَيْنَهَا والكَعْبِ غُوطٌ نَفَانِفُ (3) فعطف بـ"الكعب" وهو ظاهر، على"الهاء والألف" في قوله:"بينها" وهي مكنية. * * * وقال آخرون: تأويل ذلك:"واتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها.   (1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 252، 253، وقد ذكر هذه القراءة بإسنادها إلى إبراهيم بن يزيد النخعي، وهي قراءة حمزة وغيره. (2) هو مسكين الدارمي. (3) معاني القرآن للفراء 1: 253، الحيوان 6: 493، 494، الإنصاف: 193، الخزانة، 2: 338، العيني (بهامش الخزانة) 4: 164، وهو من أبيات ذكرها الجاحظ، وأتمها العيني، يمجد نفسه وقومه، قال: لَقَدْ عَلِمَتْ قَيْسٌ وَخِنْدِفُ أنَّني ... بِثَغْرِهِمُ مِنْ عَارِمِ النَّاسِ وَاقِفُ وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَنْ يُبقَّى عَدُوُّهُمْ ... إِذَا قَذَفَتْه في يَدَيّ القَوَاذِفُ وأنَّ أبَانَا بِكرُ آدَمَ، فَاعْلَمُوا، ... وَحَوَّاءَ، قَرْمٌ ذُو عَثَانينَ شَارِفُ كَأَنَّ عَلَى خُرْطُومِهِ مُتَهافِتًا ... مِنَ القُطْنِ هَاجَتْهُ الأكُفُ النَّوَادِفُ وَللَصَّدَأُ المُسْوَدُّ أَطْيبُ عِنْدَنَا ... مِنَ المِسْكِ، دَافَتْهُ الأَكُفُّ الدَّوَائِفُ تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... وما بَيْنَها والكَعْبِ غُوطٌ نفانِفُ وَتَضْحَكُ عِرْفَانَ الدرُوع جُلُودُنَا ... إِذَا جَاء يَوْمٌ مُظْلِمُ اللَّوْن كاسِفُ في أبيات أخر، ورواية الحيوان: "والكعب منا تنائف"، وفي الطبري ومعاني القرآن والخزانة"نعلق" بالنون، وكلتاهما صواب. و"السواري" جمع سارية، وهي الأسطوانة. و"الغوط" جمع غائط، وهو المطمئن من الأرض. و"النفانف" جمع نفنف: وهو الهواء بين شيئين، وكل شيء بينه وبين الأرض مهوي بعيد فهو نفنف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 * ذكر من قال ذلك: 8421 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، يقول: اتقوا الله، واتقوا الأرحام لا تقطعوها. 8422 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اتقوا الله، وصلُوا الأرحام، فإنه أبقى لكم في الدنيا، وخير لكم في الآخرة. 8423 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، يقول: اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الله في الأرحام فصِلُوها. 8424 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن منصور، عن الحسن في قوله:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال: اتقوا الذي تساءلون به، واتقوه في الأرحام. 8425 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قول الله:"الذي تساءلون به والأرحام"، قال: اتقوا الأرحام أن تقطعوها. 8426 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال: هو قول الرجل:"أنشدك بالله والرَّحم". 8427 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الله، وصلوا الأرحام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 8428 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الذي تساءلون به والأرحام"، قال: اتقوا الأرحام أن تقطعوها. 8429 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول: اتقوا الله في الأرحام فصلوها. 8430 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول: واتقوا الله في الأرحام فصلوها. 8431 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي حماد، وأخبرنا أبو جعفر الخزاز، عن جويبر، عن الضحاك: أن ابن عباس كان يقرأ:"والأرحام"، يقول: اتقوا الله لا تقطعوها. 8432 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: اتقوا الأرحام. 8433 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال،"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، أن تقطعوها. 8434 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واتقوا الله الذي تساءلون به"، واتقوا الأرحام أن تقطعوها= وقرأ: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [سورة الرعد: 21] . * * * قال أبو جعفر: وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبًا بمعنى: واتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها= عطفًا بـ"الأرحام"، في إعرابها بالنصب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 على اسم الله تعالى ذكره. قال: والقراءة التي لا نستجيز لقارئٍ أن يقرأ غيرها في ذلك، (1) النصب: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ) ، بمعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهرٍ من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض، إلا في ضرورة شعر، على ما قد وصفت قبل. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: إنّ الله لم يزل عليكم رقيبًا. * * * ويعني بقوله:"عليكم"، على الناس الذين قال لهم جل ثناؤه:"يا أيها الناس اتقوا ربكم"، والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب، فتقول: إذا خاطبتْ رجلا واحدًا أو جماعة فعلتْ هي وآخرون غُيَّبٌ معهم فعلا"فعلتم كذا، وصنعتم كذا". ويعني بقوله:"رقيبًا"، حفيظًا، مُحصيًا عليكم أعمالكم، متفقدًا رعايتكم حرمةَ أرحامكم وصلتكم إياها، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها، كما:- 8435 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الله كان عليكم رقيبًا"، حفيظًا. 8435م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد في قوله:"إن الله كان عليكم رقيبًا"، على أعمالكم، يعلمها ويعرفها. ومنه قول أبي دُؤاد الإيادِيّ:   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "لا نستجيز القارئ أن يقرأ" بتعريف"القارئ"، وهو خطأ صوابه ما أثبت. (2) انظر ما سلف قريبا ص: 519، 520. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِ أَيْدِيهمْ نَوَاهِدْ (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره أوصياءَ اليتامى. يقول لهم: وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى: [اليتامى] أموالهم إذا هم بلغوا الحلم، (2) وأونس منهم الرشد (3)   (1) تهذيب الألفاظ: 475، المعاني الكبير: 1148، مجاز القرآن 1: 113، الميسر والقداح: 133، وغيرها، وهو من أبيات جياد في نعت الثور الأبيض، لم أجدها مجتمعة، منها: وَقَوَائِمٌ خُذُفٌ، لَهَا مِنْ ... خَلْفِهَا زَمَعٌ زَوَائِدْ كَمقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَ ... بَاءِ أَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ لَهَقٌ كَنَارِ الرَّأْسِ بِالـ ... عَلْيَاءِ تُذْكِيهَا الأَعَابِدْ وَيُصِيخُ أَحْيَانًا كَمَا اسْـ ... ـتَمَعَ المُضِلُّ لِصَوْتِ نَاشِدْ يصف قوائم هذا الثور، "خذف" جمع خذوف، وهي السريعة السير والعدو، تخذف الحصى بقوائمها. أي تقذفه. و"الزمع" جمع زمعة، وهي هنة زائدة ناتئة فوق ظلف الشاة والثور، مدلاة فيها شعر. ثم وصف هذه الزمع الناتئة خلف أظلاف الثور، وشبه إشرافها على الأظلاف بالرقباء المشرفين على الضرباء، وقد مدوا أيديهم. وهذا وصف في غاية البراعة والحسن. و"الرقباء" جمع رقيب، وهو أمين أصحاب الميسر، يحفظ ضربهم بالقداح ويرقبهم. و"الضرباء" جمع ضريب، وهو الضارب بالقداح. وزعم ابن قتيبة أن قوله: "أيديهم" أي: أيدي الضرباء، وأخطأ، إنما عنى أيدي الرقباء لا الضرباء. وقوله: "لهق" هو البياض، يعني بياض الثور، فشبه بياضه بياض النار على رأس رابية مشرقة، تذكي لهيبها العبيد. ثم وصف الثور عند الارتياع، فقال إنه يصيخ -أي ينصت مميلا رأسه ناحية من الفزع- و"المضل" الذي أضاع شيئًا فهو يترقب أن يجده."والناشد"، هو الذي ينشد ضالة، أي يعرفها ويصفها. فهو يصغي لصوت المنشد المعرف إصغاء من يرجو أن تكون هي ضالته. وهذا من جيد الشعر وبارعه. (2) في المخطوطة والمطبوعة، أسقط ما وضعته بين القوسين، ولكن السياق يقتضي إثباتها، وكأن الناسخ غره التكرار، فأسقط إحداهما، فأساء. (3) انظر تفسير"آتى" في فهارس اللغة، وتفسير"اليتامى" فيما سلف 2: 292 / 3: 345 / 4: 295. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 = "ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، يقول: ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم، كما:- 8436 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، قال: الحلال بالحرام. 8437 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8438 - حدثني سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، قال: الحرام مكان الحلال. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث كان بالطيب، الذي نهوا عنه، ومعناه. (1) فقال بعضهم: كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيِّد من ماله والرفيعَ منه، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه. * ذكر من قال ذلك: 8439 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:"ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، قال: لا تعط زيفًا وتأخذ جيِّدًا. 8440 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي= وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب= ومعمر عن الزهري، قالوا: يعطي مهزولا ويأخذ سمينًا. 8441 - وبه عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك قال: لا تعط فاسدًا، وتأخذ جيدًا.   (1) في المطبوعة: "في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب"، أسقط الناشر"كان" لأن عربيته أنكرت عربية أبي جعفر!! وهي الصواب المحض، فأثبتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 8442 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول:"شاة بشاة"! ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول:"درهم بدرهم"!! * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قُدِّر لك من الحلال. * ذكر من قال ذلك: 8443 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، قال: لا تعجِّل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدِّر لك. 8444 - وبه عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح مثله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك، كالذي:- 8445 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون النساءَ ولا يورِّثون الصغار، يأخذه الأكبر= وقرأ (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) قال: إذا لم يكن لهم شيء: (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) [سورة النساء: 127] ، لا يورثونهم. (1) قال: فنصيبه من الميراث طيِّب، وهذا الذي أخذه خبيث. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: تأويل ذلك: ولا تتبدلوا أموال أيتامكم -أيها الأوصياء- الحرامَ عليكم الخبيثَ لكم،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "لا يورثوهم"، والصواب ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 فتأخذوا رفائعها وخيارَها وجيادَها. بالطيب الحلال لكم من أموالكم= [أي لا تأخذوا] الرديء الخسيس بدلا منه. (1) وذلك أنّ"تبدل الشيء بالشيء" في كلام العرب: أخذ شيء مكان آخر غيره، يعطيه المأخوذ منه أو يجعله مكان الذي أخذ. (2) * * * فإذْ كان ذلك معنى"التبدل" و"الاستبدال"، (3) فمعلوم أنّ الذي قاله ابن زيد= من أن معنى ذلك: هو أخذ أكبرِ ولد الميت جميع مال ميِّته ووالده، دون صغارهم، إلى ماله- قولٌ لا معنى له. لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم، فلم يستبدل مما أخذ شيئًا. فما"التبدل" الذي قال جل ثناؤه:"ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب"، ولم يتبدَّل الآخذ مكان المأخوذ بدلا؟ * * * وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك: لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال= فإنهما أيضًا، إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال:"إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها"، ففساده نظير فساد قول ابن زيد. لأن من استعجل الحرام فأكله، ثم آتاه الله رزقه الحلال، فلم يبدِّل شيئًا مكان شيء. وإن كانا قد أرادا بذلك، (4) أن الله جل ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال، فيكون أكلُهم ذلك   (1) هذا الذي زدته بين القوسين، استظهار من تأويله الآتي. والجملة بغير هذه الزيادة لا تكاد تستقيم. ثم انظر تفسير"الخبيث" فيما سلف 5: 559 / 7: 424 = وتفسير"الطيب" فيما سلف 3: 301 / 5: 555 / 6: 361 / 7: 424. (2) انظر تفسير"تبدل" و"استبدل" فيما سلف 2: 112، 130، 494. (3) في المطبوعة: "التبديل"، وأثبت الصواب من المخطوطة. (4) في المطبوعة: "وإن كانا أراد بذلك" بحذف"قد" وفي المخطوطة: "وإن كان قال أراد بذلك" وهو فساد من عجلة الناسخ، ولكن صواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 سببًا لحرمان الطيِّب منه فذلك وجه معروف، ومذهب معقول. يحتمله التأويل. غير أن أشبه [القولين] في ذلك بتأويل الآية، ما قلنا؛ (1) لأن ذلك هو الأظهر من معانيه، لأن الله جل ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها، فلأن يكون ذلك من جنس حُكمِ أول الآية وآ خرها، [أولى] من أن يكون من غير جنسه. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولا تخلِطوا أموالهم -يعني: أموال اليتامى بأموالكم- فتأكلوها مع أموالكم، (3) كما:- 8446 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم"، يقول: لا تأكلوا أموالكم وأموالهم، تخلطوها فتأكلوها جميعًا. 8447 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن مبارك، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى، كرهوا أن يخالطوهم، وجعل وليُّ اليتيم يعزل مالَ اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم،   (1) في المطبوعة: "غير أن الأشبه في ذلك بتأويل الآية ما قلنا"، وهو غير جيد، وفي المخطوطة: "غير أن أشبه في ذلك بتأويل الآية ما قلنا"، وبين أن الناسخ عاد فسها، فأسقط"القولين" وهو ما أثبته ما بين القوسين. (2) في المطبوعة: "فلا يكون ذلك من جنس حكم أول الآية، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه" جعل"وآخرها"، "فأخرجها"، فأنزل الكلام منزلة من الفساد لا مخرج منها. وأما المخطوطة فكان سياقها: "فلا يكون ذلك من جنس حكم أول الآية وآخرها من أن يكون من غير جنسه"، وهو سهو من الناسخ وعجلته أفسد الجملة، صواب"فلا يكون""فلأن يكون"، والصواب أيضًا زيادة"أولى" التي وضعتها بين القوسين. (3) انظر تفسير"أكل الأموال" فيما سلف 3: 548، 549 = وتفسير"إلى" بمعنى"مع" فيما سلف 1: 299 / 6: 443، 444. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 فأنزل الله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) [سورة البقرة: 220] قال: فخالطوهم واتقوا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره [بقوله] : (2) "إنه كان حوبًا كبيرًا"، إن أكلكم أموال أيتامكم، حوبٌ كبير. * * * و"الهاء" في قوله:"إنه" دالة على اسم الفعل، أعني"الأكل". * * * وأما"الحوب"، فإنه الإثم، يقال منه:"حاب الرجل يَحُوب حَوبًا وحُوبًا وحِيَابة"، ويقال منه:"قد تحوَّب الرجل من كذا"، إذا تأثم منه، ومنه قول أمية بن الأسكر الليثي: (3) وَإنَّ مُهَاجِرَيْنِ تَكنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لقَدْ خَطَئَا وحَابَا (4) ومنه قيل:"نزلنا بحَوبة من الأرض، وبحِيبَةٍ من الأرض"، إذا نزلوا بموضع سَوْءٍ منها. * * * و"الكبير" العظيم. (5) * * *   (1) الأثر: 8447- هذا الأثر لم يروه أبو جعفر في تفسير آية سورة البقرة 4: 349- 355، وهو من الدلائل على اختصاره تفسيره هذا. (2) الذي بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام بغيرها. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "بن الأسكن"، وهو خطأ صرف. (4) مضى البيت وتخريجه في 2: 110، وسيأتي في 13: 37 (بولاق) ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 13، ولم أثبتت هناك، مواضع تكراره في التفسير، فليقيد هناك، وروايته هناك: "لعمر الله قد خطئا وخابا" بالخاء، وأرجح أن أجود الروايتين، روايته في هذا الموضع، بالحاء المهملة؛ وإن كانت أكثر الكتب قد أثبتها بالخاء المعجمة، وأرجح أيضًا أنه تصحيف قديم، ومعنى رواية أبي جعفر أشبه بسياق الشعر إن شاء الله. (5) انظر تفسير"كبير" فيما سلف 2: 15 / 3: 166 / 4: 300. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 فمعنى ذلك: إنّ أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم، إثم عند الله عظيم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 8448 - حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"حوبًا كبيرًا" قال: إثمًا. 8449 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8450 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنه كان حوبًا كبيرًا"، قال: إثمًا عظيما. 8451 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كان حوبًا" أما"حوبا" فإثمًا. 8452 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"حوبًا"، قال: إثمًا. 8453 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنه كان حوبًا كبيرًا" يقول: ظلمًا كبيرًا. 8454 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"إنه كان حوبًا كبيرًا" قال: ذنبا كبيرًا= وهي لأهل الإسلام. 8455 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا قرة بن خالد قال، سمعت الحسن يقول:"حوبًا كبيرًا"، قال: إثمًا والله عظيمًا. * * * الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: وإن خفتم، يا معشر أولياء اليتامى، أن لا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه، وتبلغوا بصداقهنَّ صدقات أمثالهنّ، فلا تنكحوهن، ولكن انكحوا غيرَهن من الغرائب اللواتي أحلّهن الله لكم وطيبهن، من واحدة إلى أربع، وإن خفتم أن تجوروا= إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة= فلا تعدلوا، فانكحوا منهن واحدة، أو ما ملكت أيمانكم. * ذكر من قال ذلك: 8456 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكم من النساء"، فقالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حِجر ولِّيها، فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بأدنى من سُنة صداقها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما سواهُنَّ من النساء. (1) 8457 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال، أخبرني عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة   (1) الحديث: 8456- روى الطبري هذا الحديث- مطولا ومختصرًا- بسبعة أسانيد: 8456- 8461، 8477. وهو ثابت صحيح، في الصحيحين وغيرهما. وهذا الإسناد: هو من رواية عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري. وسيأتي: 8460، من رواية عبد الرزاق، عن معمر، دون ذكر لفظه، إحالة على هذه الرواية. وقد رواه البخاري في صحيحه اثنتي عشرة مرة، سنشير إليها، إن شاء الله. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 141- 142، بأسانيد، من أوجه متعددة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكم من النساء"، قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة، تكون في حجر ولِّيها تُشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها. فيريد وليها أن يتزوَّجها بغير أن يُقسِط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنتَّهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن= قال يونس بن يزيد قال ربيعة في قول الله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، قال يقول: اتركوهنّ، فقد أحللت لكم أربعًا. (1) 8458 - حدثنا الحسن بن الجنيد وأخبرنا سعيد بن مسلمة قالا. أنبأنا إسماعيل بن أمية، عن ابن شهاب، عن عروة قال: سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: يا أم المؤمنين، أرأيت قول الله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء"؟ قالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة صداق نسائها، فنهوا عن ذلك: أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا فيكمِّلوا لهن الصداق، ثم أمروا أن ينكحوا سواهن من النساء إن لم يكملوا لهن الصداق. (2)   (1) الحديث: 8457- وهذا من رواية ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري. وسيأتي: 8459، من رواية الليث بن سعد، عن يونس، عن الزهري، دون ذكر لفظه، إحالة على هذه الرواية. ورواه البخاري 5: 94- 95 (فتح) ، من طريق الليث، عن يونس، عن الزهري. وقد رواه مسلم 2: 398- 399، من طريق ابن وهب، عن يونس- أطول مما هنا. لكن ليس فيه ما ذكر في آخره هنا، من كلام ربيعة الذي رواه عنه يونس. وليس هذا من صلب الحديث. ورواه البخاري 9: 91 (فتح) ، من رواية حسان بن إبراهيم، عن يونس، عن الزهري- بنحو مما هنا، مع اختصار قليل. وليس فيه كلمة ربيعة. وقوله: "أعلى سنتهن في الصداق"- هذا هو الثابت في صحيح مسلم أيضًا. وفي المخطوطة"سبيلهن" بدل"سنتهن". والظاهر أنه تصحيف من الناسخ. (2) الحديث: 8458- الحسن بن الجنيد بن أبي جعفر البزار البغدادي: ثقة. أخرج عنه ابن خزيمة في صحيحه. وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 4، فلم يذكر فيه جرحًا والخطيب 7: 292، كلاهما في ترجمة"الحسن". وترجمه الحافظ المزي في التهذيب الكبير باسم"الحسين". وتبعه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، تبعًا لترتيب الكتاب، ولكنه صرح بأنه"بفتح الحاء والسين"، يعني"الحسن"، وهو الصواب. سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان: ضعيف. قال البخاري في الكبير 2 / 1 / 473: "فيه نظر". وذكر أن عنده"مناكير". وقال في الضعفاء، ص15: "منكر". وقال ابن معين: "ليس بشيء". وقال أبو حاتم: "هو ضعيف الحديث، منكر الحديث"- ابن أبي حاتم 2 / 1 / 67. ووقع في المطبوعة هنا: "الحسن بن جنيد وأبو سعيد بن مسلمة"، وهو خطأ، كتب"وأبو" بدل"وأنا" اختصار"وأخبرنا". إسماعيل بن أمية الأموي: مضت ترجمته في: 2615. وضعف هذا الإسناد، من أجل سعيد بن مسلمة، لا يمنع صحة الحديث في ذاته من أوجه أخر، كما مضى، وكما سيأتي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 8459 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثل حديث يونس، عن ابن وهب. 8460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري عن عروة، عن عائشة، مثل حديث ابن حميد، عن ابن المبارك. (1) 8461 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: نزل= تعني قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، الآية= في اليتيمة تكون عند الرجل، وهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها، وهي لا تعجبه، ثم يضربها، ويسيء صحبتها، فوُعظ في ذلك. (2) * * *   (1) الحديثان: 8459، 8460- هما تكرار للحديثين: 8457، 8456. وقد أشرنا إلى كل منهما في موضعه. (2) الحديث: 8461- القاسم: هو ابن الحسن. و"الحسين": هو ابن داود الملقب"سنيد". انظر ما مضى في الإسناد: 8398. حجاج: هو ابن محمد المصيصي الأعور. مضت ترجمته في: 1691. وترجم له أخي السيد محمود، في ج6 ص548، تعليق: 3. والحديث -من هذا الوجه- رواه البخاري 8: 179 (فتح) . من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، به، نحوه. ولكن سياقه يوهم أنها نزلت في شخص معين. فقال الحافظ: "والمعروف عن هشام بن عروة التعميم. وكذلك أخرجه الإسماعيلي، من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج. ولفظه: أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة، إلخ". أقول: ورواية حجاج، هي هذه التي في الطبري أيضًا. ورواه البخاري أيضًا 8: 199 (فتح) ، من طريق أبي أسامة، عن هشام بن عروة، على الصواب. وكذلك رواه مسلم، بنحوه 2: 399، من طريق أبي أسامة، عن هشام. ورواه البخاري أيضًا، بنحوه 9: 119، من طريق عبدة، وهو ابن سليمان، عن هشام ابن عروة. وسيأتي: 8477، من رواية وكيع، عن هشام. ونخرجه هناك، إن شاء الله. ونحن ذاكرون هنا باقي طرقه في الصحيحين -عدا رواية وكيع تتمة للفائدة: فرواه البخاري 5: 94- 95 (فتح) ، ومسلم 2: 399 = كلاهما من طريق صالح، عن الزهري، عن عروة. ورواه البخاري 5: 292 (فتح) ، و 9: 169- 170 و 12: 298 = من طريق شعيب، عن الزهري. ورواه أيضًا 9: 117، 169- 170= من طريق عقيل، عن الزهري. ورواه أيضًا 9: 162، من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة، مختصرًا. وابن كثير ذكر حديث عائشة 2: 342- 343، من روايتين من روايات البخاري. ولم يزد في تخريجه شيئا. والسيوطي ذكره بثلاثة ألفاظ، مطولا ومختصرًا 2: 118. وزاد نسبته لعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل، جواب قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا"، قوله:"فانكحوا". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: النهي عن نكاح ما فوق الأربع، حِذارًا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم. (1) وذلك أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدمًا، مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به. فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها= فلا تعدلوا فيها، من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مُؤن نسائكم،   (1) في المطبوعة: "حذرًا على أموال اليتامى"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربعٍ= وإن خفتم أيضًا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم، فاقتصروا على الواحدة، أو على ما ملكت أيمانكم. ذكر من قال ذلك: 8462 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال، سمعت عكرمة يقول في هذه الآية:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، قال: كان الرجل من قريش يكون عنده النِّسوة، ويكون عنده الأيتام، فيذهب ماله، فيميل على مال الأيتام، قال: فنزلت هذه الآية:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء". 8463 - حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم"، قال: كان الرجل يتزوج الأربع والخمس والستَّ والعشر، فيقول الرجل:"ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان"؟ فيأخذ مال يتيمه فيتزوج به، فنهوا أن يتزوجوا فوق الأربع. 8464 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قصر الرجال على أربعٍ من أجل أموال اليتامى. 8465 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، فإن الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى، فنهى الله عن ذلك. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن القوم كانوا يتحوّبون في أموال اليتامى أن لا يعدلوا فيها، ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدِلوا فيهن، فقيل لهم: كما خفتم أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 لا تعدلوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا على ذلك. وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم. * ذكر من قال ذلك: 8466 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال، كان الناس على جاهليتهم، إلا أن يؤمروا بشيء أو يُنهوا عنه، قال: فذكروا اليتامى، فنزلت:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم"، قال: فكما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في النساء. 8467 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) إلى:"أيمانكم"، كانوا يشددون في اليتامى، ولا يشددون في النساء، ينكح أحدُهم النسوة، فلا يعدل بينهن، فقال الله تبارك وتعالى: كما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى، فخافوا في النساء، فانكحوا واحدة إلى الأربع. فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. 8468 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء" حتى بلغ"أدنى ألا تعولوا"، يقول: كما خفتم الجور في اليتامى وهمَّكم ذلك، فكذلك فخافوا في جمع النساء، (1) وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة   (1) في المخطوطة: "جميع النساء"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 فما دون ذلك، فأحل الله جل ثناؤه أربعًا، ثم صيَّرهن إلى أربع قوله: (1) "مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة"، يقول، إن خفت أن لا تعدل في أربع فثلاث، وإلا فثنتين، وإلا فواحدة. وإن خفت أن لا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك. 8469 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، يقول: ما أحل لكم من النساء="مثنى وثلاث ورباع"، فخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى: أن لا تقسطوا فيهنَّ. 8470 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال: جاء الإسلام والناس على جاهليتهم، إلا أن يؤمروا بشيء فيتّبعوه، أو ينهوا عن شيء فيجتنبوه، حتى سألوا عن اليتامى، فأنزل الله تبارك وتعالى:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع". 8471 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال، بعث الله تبارك وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه، وكانوا يسألونه عن اليتامى فأنزل الله تبارك وتعالى:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"، قال: فكما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى، فخافوا أن لا تقسطوا وتعدِلوا في النساء. 8472 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، قال: كانوا في الجاهلية ينكحون عشرًا من النساء الأيامى، وكانوا   (1) في المطبوعة: "ثم الذي صيرهن إلى أربع"، زاد"الذي"، وما في المخطوطة صواب جيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 يعظمون شأن اليتيم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية، فقال:"وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"، ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية. (1) 8473 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، كانوا في جاهليتهم لا يرزأون من مال اليتيم شيئا، وهم ينكحون عشرًا من النساء، وينكحون نساء آبائهم، فتفقدوا من دينهم شأن النساء، فوعظهم الله في اليتامى وفي النساء، فقال في اليتامى: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) إلى (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) ووعظهم في شأن النساء فقال:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء" الآية، وقال: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [سورة النساء: 22] . 8474 - حدثت عن عمار عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى" إلى"ما ملكت أيمانكم"، يقول: فإن خفتم الجور في اليتامى وغمَّكم ذلك، فكذلك فخافوا في جمع النساء، (2) قال:   (1) الحديث: 8472- عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد: مضت ترجمته وتوثيقه في: 186. معاوية بن صالح الحضرمي: سبق توثيقه في: 186. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 335، والصغير، ص: 193، وابن سعد 7 / 2 / 207، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 382- 383. وتاريخ قضاة قرطبة، ص: 30- 40، وقضاة الأندلس للنباهي، ص: 43. علي بن أبي طلحة: قد بينا في: 1833 أنه لم يسمع من ابن عباس. فيكون هذا الإسناد منقطعًا، ضعيف الإسناد لانقطاعه. والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 150، من طريق عثمان بن سعيد، عن عبد الله بن صالح، بهذا الإسناد. وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 179- 180؛ في شرح حديث عائشة؛ قال: "تأويل عائشة هذا؛ جاء عن ابن عباس مثله. أخرجه الطبري". وذكره السيوطي 2: 118، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، فقط. (2) في المخطوطة والمطبوعة هنا"في جميع النساء"، والصواب ما أثبت، وانظر التعليق السالف ص: 536، تعليق: 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 وكان الرجل يتزوج العشر في الجاهلية فما دون ذلك، وأحل الله أربعًا، وصيَّرهم إلى أربع، يقول:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، وإن خفت أن لا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فكما خفتم في اليتامى، فكذلك فتخوفوا في النساء أن تَزْنُوا بهن، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء. * ذكر من قال ذلك: 8475 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، يقول: إن تحرَّجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانًا وتصديقًا، فكذلك فتحرّجوا من الزّنا، وانكحوا النساء نكاحًا طيبًا="مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم". 8476 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللاتي أنتم وُلاتهن، فلا تنكحوهن، وانكحوا أنتم ما حل لكم منهن. * ذكر من قال ذلك: 8477 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، قال: نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل، هو وليها، ليس لها ولي غيره، وليس أحد ينازعه فيها، ولا ينكحها لمالها، فيضربها، ويسيء صحبَتها. (1)   (1) الحديث: 8477- هذا إسناد ضعيف، لضعف سفيان بن وكيع، وقد بينا ضعفه مرارًا، أولها في: 142، 143. ولكن الحديث في ذاته صحيح، كما مضى في: 8456- 8461، وفي الروايات التي خرجناها من الصحيحين. ثم هو ثابت صحيح من رواية وكيع، من غير رواية ابنه سفيان عنه. فرواه البخاري 9: 160 (فتح) ، بأطول مما هنا= عن يحيى، عن وكيع، بهذا الإسناد. ويحيى -شيخ البخاري في هذا الإسناد- قال الحافظ في الفتح: "هو ابن موسى، أو ابن جعفر. كما بينته في المقدمة". والذي في مقدمة الفتح، ص: 236، أن ابن السكن نسبه"يحيى بن موسى". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 8478 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن في هذه الآية:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم" أي: ما حَلّ لكم من يتاماكم من قراباتكم="مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم". * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: تأويلها:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجورُوا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع، فإن خفتم الجورَ في الواحدة أيضًا، فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن". وإنما قلنا إنّ ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخَلطها بغيرها من الأموال، فقال تعالى ذكره: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرّجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرّج في أمر النساء، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن، (1) كما عرّفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم، ما أبحت لكم منهن وحلّلته، مثنى وثُلاث ورباع، فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة، بأن لا تقدروا على إنصافها، فلا تنكحوها،   (1) لعل الأجود أن يقول: "وأعلمهم كيف المخلص لهم"، كالتي تليها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 ولكن تسرَّوا من المماليك، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن، لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور. ففي الكلام -إذ كان المعنى ما قلنا- متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم، فلا تتزوجوا منهنّ إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم أيضًا في ذلك فواحدة. وإن خفتم في الواحدة، فما ملكت أيمانكم= فترك ذكر قوله:"فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء"، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم". * * * فإن قال قائل: فأين جواب قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"؟ قيل: قوله"فانكحوا ما طاب لكم"، غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا قوله:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا". * * * وقد بينا فيما مضى قبلُ أن معنى"الإقساط" في كلام العرب: العدل والإنصاف= وأن"القسط": الجور والحيف، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وأما"اليتامى"، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم في هذا الموضع. (2) * * *   (1) انظر ما سلف 6: 77، 270. (2) انظر تفسير"اليتامى" فيما سلف قريبًا ص: 524، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 وأما قوله:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، فإنه يعني: فانكحوا ما حلَّ لكم منهن، دون ما حُرِّم عليكم منهنّ، كما:- 8479 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك قوله:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، ما حلّ لكم. 8480 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، يقول: ما حلَّ لكم. * * * فإن قال قائل: وكيف قيل:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، ولم يقل:"فانكحوا مَنْ طاب لكم"؟ وإنما يقال:"ما" في غير الناس. قيل: معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معناه: فانكحوا نكاحًا طيبًا، كما:- 8481 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، فانكحوا النساء نكاحًا طيبًا. 8481م - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * فالمعنيّ بقوله:"ما طاب لكم"، الفعل، دون أعيان النساء وأشخاصهنَّ، فلذلك قيل"ما" ولم يقل"من"، كما يقال:"خذ من رقيقي ما أردت"، إذا عنيت: خذ منهم إرادتك. ولو أردت: خذ الذي تريد منهم، لقلت:"خذ من رقيقي من أردت منهم". (1) وكذلك قوله:"أو ما ملكت أيمانكم"، بمعنى: أو ملك أيمانكم. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 253، 254. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 وإنما معنى قوله:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"، فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع، كما قيل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [سورة النور: 4] . * * * وأما قوله:"مثنى وثلاث ورباع"، فإنما تُرك إجراؤهن، لأنهن معدولات عن"اثنين" و"ثلاث" و"أربع"، كما عدل"عمر" عن"عامر"، و"زُفرَ" عن"زافِر" فترك إجراؤه، وكذلك،"أحاد" و"ثناء" و"مَوْحد" و"مثنى" و"مَثْلث" و"مَرْبع"، لا يجري ذلك كله للعلة التي ذكرت من العدول عن وجوهه. ومما يدلّ على أن ذلك كذلك، وأن الذكر والأنثى فيه سواء، ما قيل في هذه السورة و"سورة فاطر"، [1] :"مثنى وثلاث ورباع" يراد به"الجناح"، و"الجناح" ذكر= وأنه أيضًا لا يضاف إلى ما يضاف إليه"الثلاثة" و"الثلاث" وأن"الألف واللام" لا تدخله= فكان في ذلك دليل على أنه اسم للعدد معرفة، ولو كان نكرة لدخله"الألف واللام"، وأضيف كما يضاف"الثلاثة" و"الأربعة". (1) ومما يبين في ذلك قول تميم بن أبيّ بن مقبل: تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ... أُحَادَ وَمَثْنَى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ (2)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 254، 255. (2) من قصيدة له طويلة نقلتها قديمًا، ومعاني القرآن للفراء 1: 255، 345 والحيوان 7: 233. واللسان (نعر) (فرد) (صعق) (ثنى) ، وغيرها، وسيأتي في التفسير 7: 184 (بولاق) . يصف فرسه، وبعد البيت. فَرِيسًا ومَغْشِيًّا عَلَيْه، كأَنَّه ... خُيُوطَةُ مَارِيٍّ لَوَاهُنَّ فَاتِلُهْ ويروى البيت: "النعرات الخضر"، و"أحاد ومثنى" و"فراد ومثنى". والنعرات جمع نعرة (بضم النون وفتح العين والراء) : وهو ذباب ضخم، أزرق العين، أخضر، له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحافر فيؤذيها، وربما دخل أنف الحمار فيركب رأسه، فلا يرده شيء. و"اللبان": الصدر من ذي الحافر: و"أصعقتها": قتلتها. و"صواهله" جمع صاهلة، وهو مصدر على"فاعلة"، بمعنى"الصهيل"، كما يقال، "رواغي الإبل"، أي رغاءها. وقوله في البيت الثاني: "فريسًا"، أي قتيلا، قد افترسه ودقه وأهلكه، و"الخيوطة" جمع خيط، كالفحولة والبعولة، جمع فحل وبعل."والماري": الثوب الخلق. يصف الذباب المغشى عليه، كأنه من لينه في تهالكه، خيوط لواه لاو من ثوب خلق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 فرد"أحاد ومثنى"، على"النعرات" وهي معرفة. وقد تجعلها العرب نكرة فتجريها، كما قال الشاعر: (1) وَإنَّ الغُلامَ المُسْتَهَامَ بذِكْرِهِ ... قَتَلْنَا بِهِ مِنْ بين مَثْنًى وَمَوْحَدِ (2) بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ وَآخَرَ خَامِسٍ ... وَسَادٍ مَعَ الإظْلامِ فِي رُمْح مَعْبَدِ ومما يبين أن"ثناء" و"أحاد" غير جاريةٍ، قول الشاعر: (3) وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمُ ثُنَاءَ وَمَوْحَدًا ... وَتَرَكْتُ مُرَّةَ مِثْلَ أَمْسِ المُدْبِرِ (4)   (1) لم أعرف قائلهما. (2) معاني القرآن للفراء 1: 254، وقد كان البيت في المطبوعة والمخطوطة: قتلنا بِه مِنْ بين مَثْنًى وموْحَدٍ ... بأربعةٍ مِنْكُمْ وآخر خامِسِ وهو كما ترى ملفق من البيتين اللذين أثبتهما من معاني القرآن، والذي قاله الطبري هنا، هو نص مقالة الفراء في معاني القرآن. وقوله: "وساد" أي: سادس، يقولون: "جاء سادسًا وساديًا وساتًا". (3) هو صخر بن عمرو السلمي، أخو الخنساء. (4) مجاز القرآن 1: 115، والأغاني 13: 139، والمخصص 7: 124، وشرح أدب الكاتب للجواليقي: 394، والبطليوسي: 466، والخزانة 4: 474. وسيأتي في التفسير 22: 76 (بولاق) وغيرها، إلا أن ابن قتيبة في أدب الكاتب رواه"كأمس الدابر" وتابعه ناشر التفسير في هذا الموضع فكتب"كأمس الدابر"، ولكنه في المخطوطة، وفي الموضع الآخر من التفسير، قد جاء على الصواب. وهما بيتان قالهما في قتله دريد بن حرملة المري، في خبر مذكور، وبعده: وَلقَدْ دَفَعْتُ إلى دُرَيْدٍ طَعْنَةً ... نَجْلاءَ تُزْغُلُ مِثْلَ عَطَّ المَنْحَرِ والطعنة النجلاء: الواسعة. و"أزغلت" الطعنة بالدم: دفعته زغلة زغلة، أي دفعة دفعة. وعط الثوب عطًا: شقه. والمنحر: هو نحر البعير، أي أعلى صدره، حيث ينحر، أي: يطعن في نحره، فيتفجر منه الدم. وأما رواية"كأمس الدابر" فقد ذكر الجواليقي أبياتًا ليزيد بن عمرو الصعق الكلابي هي: أَعَقَرْتُمُ جَمَلِي برَحْلِيَ قائمًا ... ورَمَيْتُمُ جَارِي بِسَهْمٍ نَاقِرِ فإِذا ركبتُمْ فَالْبَسُوا أَدْرَاعَكُمْ ... إنَ الرِّمَاحَ بَصِيرَةٌ بالحَاسِرِ إِذْ تَظْلِمُون وتأكُلُونَ صَدِيقَكُمْ ... فالظُّلْمُ تَارِككُمْ بجَاثٍ عَاثِرِ إِنّي سَأقتلكُمُ ثُنَاءَ ومَوْحَدًا ... وَتَركتُ نَاصِرَكُمْ كَأمْسِ الدَّابِرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 وقول الشاعر: (1) مَنَتْ لَكَ أنْ تُلاقِيَني المَنَايَا ... أُحَادَ أُحَادَ فِي شَهْرٍ حَلالِ (2) ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز"الرُّبَّاع" و"المَرْبع" عن جهته. لم يسمع منها"خماس" ولا"المخْمس"، ولا"السباع" ولا"المسبع"، وكذلك ما فوق"الرباع" إلا في بيت للكميت. (3) فإنه يروي له في"العشرة"،"عشار" وهو قوله: فَلَمْ يَسْتَرِيثُوكَ حَتَّى رَمَيْ ... تَ فَوْقَ الرِّجَالِ خِصَالا عُشَارَا (4)   (1) هو عمرو ذي الكلب، أخو بني كاهل، وكان جارًا لهذيل. ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن لصخر الغي الهذلي، وهو خطأ. (2) ديوان الهذليين 3: 117، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 115، والمعاني الكبير: 2840 المخصص 17: 124، الأغاني 13: 139. ورواية الديوان"في الشهر الحلال"، وأخطأ صاحب الأغاني فنسب البيت لصخر بن عمرو، ورواه"في الشهر الحرام". قوله: "منت لك"، أي: قدرت لك منيتك أن تلقاني في شهر حلال، خلوين، وحدي ووحدك، فأصرعك لا محالة. وذلك أنه كان قد لقيه قبل ذلك في شهر حرام، فلم يستطع أن يرفع إليه سلاحًا. ويقول بعده: وَمَا لَبْثُ القِتَالِ إذَا الْتقَيْنَا ... سِوَى لَفْتِ اليَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ أي: لا يلبث القتال بيني وبينك إلا بمقدار ما ترد يمين إلى شمال. (3) في المطبوعة: "في بيت الكميت"، والصواب من المخطوطة. (4) مجازا القرآن لأبي عبيدة 1: 116، والأغاني 3: 139، واللسان (عشر) ، والمخصص 17: 125، والجواليقي 292، 293، والبطليوسي: 467، والخزانة 1: 82، 83، من قصيدة للكميت، يمدح بها أبان بن الوليد بن عبد الملك، وقبله: رَجَوْكَ وَلَم تتكامَلْ سِنُوكَ ... عَشْرًا، ولا نَبْتَ فِيكَ اتِّغَارَا لأَدْنَى خَسًا أَوْ زَكًا مِنْ سِنِيكَ ... ألى أَرْبَعٍ، فَبَقَوْكَ انْتظارَا وقوله: "ولا نبت فيك اتغارا" أي: لم تخلف سنًا بعد سن، فتنبت أسنانك: اتغر الصبي: سقطت أسنانه وأخلف غيرها. وقوله: "خسا أو زكا"، أي فردا، وزوجًا. قوله: "فبقوك" من قولهم: "بقيت فلانًا بقيًا" انتظرته ورصدته. و"استراثه": استبطأه. يقول: تبينوا فيك السؤود لسنة أو سنتين من مولدك، فرجوا أن تكون سيدًا مطاعًا رفيع الذكر، فلم تكد تبلغ العشر حتى جازت خصالك خصال السادة من الرجال. وأما قول أبي جعفر"يريد: عشرًا عشرًا"، فكأنه يعني كثرة الخصال التي فاق بها الرجال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 يريد:"عشرًا، عشرًا"، يقال: إنه لم يسمع غير ذلك. (1) * * * = وأما قوله:"فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة"، فإن نصب"واحدة"، بمعنى: فإن خفتم أن لا تعدلوا= فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح، (2) فيما أوجبه الله لهن عليكم= فانكحوا واحدة منهن. ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع، كان جائزًا، بمعنى: فواحدة كافية، أو: فواحدة مجزئة، كما قال جل ثناؤه: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) (3) [سورة البقرة: 282] . * * * وإن قال لنا قائل: قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر، نكاحُ أربع، فكيف قيل:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"، وذلك في العدد تسع؟ (4) قيل: إن تأويل ذلك: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم= وإما ثلاث، إن لم تخافوا ذلك= وإما أربع، إن أمنتم ذلك فيهن. يدل على صحة ذلك قوله:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، لأن المعنى:   (1) انظر هذا الفصل كله في معاني القرآن للفراء 1: 254، 255، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 114- 116. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة ... "، وهو لا يستقيم، صوابه"فيما زاد" كما أثبتها. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 255. (4) انظر الناسخ والمنسوخ، لأبي جعفر النحاس: 92. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة. ثم قال: وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الواحدة، فما ملكت أيمانكم. * * * فإن قال قائل: فإن أمر الله ونهيه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والإرشاد والإعلام، وقد قال تعالى ذكره:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، وذلك أمر، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب؟ قيل: نعم، والدليل على ذلك قوله:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". فكان معلومًا بذلك أن قوله:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، وإن كان مخرجه مخرج الأمر، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجورَ فيه من عدد النساء، لا بمعنى الأمر بالنكاح، فإن المعنيّ به: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى، فتحرجتم فيهن، فكذلك فتحرّجوا في النساء، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجورَ فيه منهن، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع. وقد بينا في غير هذا الموضع أن العرب تُخرِج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف: 29] ، وكما قال: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [سورة النحل: 55\ سورة الروم: 34] ، فخرج ذلك مخرج الأمر، والمقصود به التهديد والوعيدُ والزجر والنهي، (1) فكذلك قوله:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، بمعنى النهي: فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء. * * * وعلى النحو الذي قلنا في معنى قوله:"أو ما ملكت أيمانكم" قال أهل التأويل.   (1) انظر ما سلف 2: 293، 294. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 ذكر من قال ذلك: 8482 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم"، يقول: فإن خفت أن لا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك. 8483 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو ما ملكت أيمانكم"، السراري. 8484 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم"، فإن خفت أن لا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك. 8485 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك، قوله:"فإن خفتم ألا تعدلوا"، قال: في المجامعة والحب. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا (3) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره (1) وإن خفتم أن لا تعدلوا في مثنى أو ثلاث أو رباعَ فنكحتم واحدة، أو خفتم أن لا تعدلوا في الواحدة فتسررتم ملك أيمانكم، فهو"أدنى" يعني: أقرب، (2) ="ألا تعولوا"، يقول: أن لا تجوروا ولا تميلوا. * * * يقال منه:"عال الرجل فهو يعول عَوْلا وعيالة"، إذا مال وجار. ومنه:"عَوْل الفرائض"، لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بقوله تعالى ذكره"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر تفسير"أدنى" فيما سلف 6: 78. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 وأما من الحاجة، فإنما يقال:"عال الرجل عَيْلة"، وذلك إذا احتاج، كما قال الشاعر: (1) وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الغَنُّي مَتَى يَعِيل (2) بمعنى: يفتقر. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 8486 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، قال: العوْل الميل في النساء. 8487 - حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، يقول: لا تميلوا. 8488 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، أن لا تميلوا. 8489 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8490 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل   (1) هو أحيحة بن الجلاح. (2) جمهرة أشعار العرب: 125، ومعاني القرآن للفراء 1: 255، الجمهرة لابن دريد 2: 193، وتاريخ ابن الأثير 1: 278، اللسان (عيل) ، وسيأتي في التفسير 10: 75 / 30: 149 (بولاق) ، من قصيدته التي قالها في حرب بين قومه من الأوس وبني النجار من الخزرج، قتل فيها أخوه، وكانت عنده امرأته سلمى بنت عمرو بن زيد النجارية، فحذرت قومها مجيء أحيحة وقومه من الأوس، فضربها حتى كسر يدها وطلقها. وبعد البيت آخر قرين له: وَمَا تَدْرِي، إذَا أَجْمَعْتَ أَمْرًا ... بِأَيِّ الأَرْضِ يُدْرِكُكَ المَقِيلُ وكان في المخطوطة: "لما يدرى الفقير"، وهو خطأ من الناسخ، وكأن صوابها"فما يدري". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة:"ألا تعولوا" قال: أن لا تميلوا= ثم قال: أما سمعت إلى قول أبي طالب: بِمِيزان قِسْطٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ (1) 8491 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد بن زيد، عن الزبير، عن حريث، عن عكرمة في هذه الآية:"ألا تعولوا"، قال: أن لا تميلوا= قال: وأنشد بيتًا من شعر زعم أن أبا طالب قاله: بِميزَانِ قِسْطٍ لا يُخِسُّ شَعِيرَةً ... وَوَازِنِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ (2) * * * قال أبو جعفر ويروي هذا البيت على غير هذه الرواية: بِمِيزَانِ صِدْقٍ لا يُغلُّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ (3) * * * 8492 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"ألا تعولوا"، قال: أن لا تميلوا.   (1) سيرة ابن هشام 1: 296، وغيرها كثير. من القصيدة التي زعموا أن أبا طالب قالها وواجه بها قريشًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيها إنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه. يقول قبل البيت: جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ ويروى البيت بهذه الرواية التي ذكرها أبو جعفر، ويروى أيضًا: "لا يحص شعيرة" من حص الشعر إذا أذهبه، و"شعيرة" في هذه الرواية تصغير"شعرة"، وأما في سائر الروايات فهي"شعيرة" بفتح الشين، وكسر العين، وهي واحدة"الشعير"، وهو الحب المعروف، وهو أقل موازين الذهب والفضة، وهو حبة من شعير متوسطة لم تقشر، وقد قطع من طرفيها ما امتد، ويسمونه أيضًا"حبة"، وانظر ما سلف 4: 586، تعليق: 2، في تفسير"الحبة"، وهذا معنى لم تقيده كتب اللغة، فقيده هناك. وقوله: "لا تخس شعيرة"، أي لا تنقص مقدار شعيرة. وقوله: "تغل" من قولهم: "غل يغل غلولا"، إذا خان أو سرق. (2) سيرة ابن هشام 1: 296، وغيرها كثير. من القصيدة التي زعموا أن أبا طالب قالها وواجه بها قريشًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيها إنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه. يقول قبل البيت: جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ ويروى البيت بهذه الرواية التي ذكرها أبو جعفر، ويروى أيضًا: "لا يحص شعيرة" من حص الشعر إذا أذهبه، و"شعيرة" في هذه الرواية تصغير"شعرة"، وأما في سائر الروايات فهي"شعيرة" بفتح الشين، وكسر العين، وهي واحدة"الشعير"، وهو الحب المعروف، وهو أقل موازين الذهب والفضة، وهو حبة من شعير متوسطة لم تقشر، وقد قطع من طرفيها ما امتد، ويسمونه أيضًا"حبة"، وانظر ما سلف 4: 586، تعليق: 2، في تفسير"الحبة"، وهذا معنى لم تقيده كتب اللغة، فقيده هناك. وقوله: "لا تخس شعيرة"، أي لا تنقص مقدار شعيرة. وقوله: "تغل" من قولهم: "غل يغل غلولا"، إذا خان أو سرق. (3) سيرة ابن هشام 1: 296، وغيرها كثير. من القصيدة التي زعموا أن أبا طالب قالها وواجه بها قريشًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيها إنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه. يقول قبل البيت: جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ ويروى البيت بهذه الرواية التي ذكرها أبو جعفر، ويروى أيضًا: "لا يحص شعيرة" من حص الشعر إذا أذهبه، و"شعيرة" في هذه الرواية تصغير"شعرة"، وأما في سائر الروايات فهي"شعيرة" بفتح الشين، وكسر العين، وهي واحدة"الشعير"، وهو الحب المعروف، وهو أقل موازين الذهب والفضة، وهو حبة من شعير متوسطة لم تقشر، وقد قطع من طرفيها ما امتد، ويسمونه أيضًا"حبة"، وانظر ما سلف 4: 586، تعليق: 2، في تفسير"الحبة"، وهذا معنى لم تقيده كتب اللغة، فقيده هناك. وقوله: "لا تخس شعيرة"، أي لا تنقص مقدار شعيرة. وقوله: "تغل" من قولهم: "غل يغل غلولا"، إذا خان أو سرق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 8493 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم مثله. 8494 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي قال: كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه عليه فيه:"إنِّي لست بميزان لا أعول". 8495 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثّام بن علي قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك في قوله:"أدنى ألا تعولوا"، قال: لا تميلوا. (1) 8496 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، أدنى أن لا تميلوا. 8497 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ألا تعولوا"، قال: تميلوا. 8498 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، يقول: أن لا تميلوا. 8499 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، يقول: تميلوا. 8500 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أدنى ألا تعولوا"، يعني: أن لا تميلوا. 8501 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، يقول: ذلك أدنى أن لا تميلوا.   (1) الأثر: 8495- في المطبوعة: "عباد بن علي"، وكان كاتب المخطوطة قد كتب"عباد" ثم جعل الدال ميما، ولم ينقط الكلمة، فاشتبه الأمر على الناشر، والصواب"عثام" وهو"عثام بن علي العامري" شيخ أبي كريب، وقد مضى مئات من المرات، ومضت ترجمته في رقم: 337. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 8502 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، قال: أن لا تجوروا. 8503 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، وعارم أبو النعمان قالا حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك مثله. 8504 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن مجاهد:"ذلك أدنى ألا تعولوا" قال: تميلوا. (1) 8505 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ذلك أدنى ألا تعولوا"، ذلك أقل لنفقتك، الواحدة أقل من ثنتين= وثلاث وأربع، وجاريتُك أهون نفقة من حُرة="أن لا تعولوا"، أهون عليك في العيال. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: وأعطوا النساء مهورهن عطيّة واجبة، (3) وفريضة لازمة. * * * يقال منه:"نَحَل فلان فلانًا كذا فهو يَنْحَله نِحْلة ونُحْلا"، (4) كما:- 8506 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا   (1) الأثر: 8504- في المخطوطة والمطبوعة"عن ابن إسحاق، عن مجاهد"، وهو خطأ ظاهر، والصواب"عن أبي إسحاق"، وهو أبو إسحاق السبيعي، وقد مضت روايته عن مجاهد في هذا التفسير مئات من المرات. (2) في المخطوطة: "أهون عليك في القتال"، والصواب ما في المطبوعة. (3) في المخطوطة: "عليه واجبة"، ووضع على"عليه" حرف"ط"، دلالة على الخطأ. والصواب ما كان في المطبوعة. (4) "نحلة" (بكسر النون وسكون الحاء) مصدر مثل"حكمة". و"نحلا" (بضم النون وسكون الحاء) مصدر أيضًا مثل"حكم" (بضم الحاء) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 سعيد، عن قتادة قوله:"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة"، يقول: فريضة. 8507 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة"، يعني بـ"النحلة"، المهر. 8508 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة"، قال: فريضة مسماة. 8509 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة"، قال:"النحلة" في كلام العرب، الواجب= يقول: لا ينكحها إلا بشيء واجب لها، صدقة يسميها لها واجبة، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة، بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بصداقٍ واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبًا بغير حق. * * * وقال آخرون: بل عنى بقوله:"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة"، أولياء النساء، وذلك أنهم كانوا يأخذون صَدقاتهن. * ذكر من قال ذلك: 8510 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن سيار، عن أبي صالح قال، كان الرجل إذا زوج أيِّمه أخذ صداقها دونها، (1) فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك، ونزلت:"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة". * * * وقال آخرون: بل كان ذلك من أولياء النساء، بأن يعطى الرجل أخته لرجل، على أن يعطيه الآخر أخته، على أن لا كثير مهر بينهما، فنهوا عن ذلك. (2)   (1) في المطبوعة: "إذا زوج أيمة" بالتاء في آخره، وهو خطأ. يقال، "امرأة أيم، ورجل أيم: ". وهي من النساء التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا= ومن الرجال، الذي لا امرأة له. (2) وذلك هو"الشغار" شغار المتناكحين بغير مهر، إلا بضع وليته أو أيمه. وكان ذلك من نكاح الجاهلية، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 * ذكر من قال ذلك: 8511 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن أناسًا كانوا يعطي هذا الرجل أخته، ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر، فقال الله تبارك وتعالى:"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة". * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك، التأويل الذي قلناه. وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين النساءَ، ونهاهم عن ظلمهنّ والجور عليهن، وعرّفهم سبيلَ النجاة من ظلمهنّ. ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صُرِف عنهم إلى غيرهم. فإذْ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين قيل لهم:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"، هم الذين قيل لهم:"وآتوا النساء صدقاتهن"= وأن معناه: وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهن نحلة، لأنه قال في أوّل [الآية] : (1) "فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، ولم يقل:"فأنكحوا"، فيكون قوله:"وآتوا النساء صدقاتهن"، مصروفًا إلى أنه معنيّ به أولياء النساء دون أزواجهن. وهذا أمرٌ من الله أزواجَ النساء المدخول بهن والمسمَّى لهن الصداق، أن يؤتوهن صدُقاتهن، دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق. * * *   (1) في المخطوطة، أسقط ذكر"الآية" التي وضعتها بين القوسين، وفي المطبوعة جعلها"في الأول"، والسياق يقتضي الزيادة كما أثبتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن وهب لكم، أيها الرجال، نساؤكم شيئًا من صدقاتهن، طيبة بذلك أنفسهن، فكلوه هنيئًا مريئًا، كما:- 8512 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عمارة، عن عكرمة:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا"، قال: المهر. 8513 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني حَرَميّ بن عمارة قال، حدثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة، [عن عمارة] في قوله الله تبارك وتعالى:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا"، قال: الصدقات. (1) 8514 - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا" قال: الأزواج. 8515 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عبيدة قال، قال لي إبراهيم: أكلتَ من الهنيء المريء! قلت: ما ذاك؟ قال: امرأتك أعطتك من صَداقها. 8516 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره، فقال له علقمة: ادْنُ فكل من الهنيء المريء!   (1) الأثر: 8513-"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي". أبو روح، روى عن شعبة. قال أحمد: "صدوق، كانت فيه غفلة"، مترجم في التهذيب. و"عمارة" الراوي عن عكرمة، هو أبو"حرمي بن عمارة" هذا، وهو"عمارة بن أبي حفصة العتكي". ثقة. مترجم في التهذيب. أما قوله"عكرمة، عن عمارة" فلم أعرف فيمن روى عنه عكرمة من يسمى"عمارة" وظني أنه خطأ من الناسخ، إما أن يكون كرر"عمارة"، أو يكون صوابه"عن ابن عباس"، فسها وكتب"عن عمارة". ولذلك وضعتها بين قوسين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 8517 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا"، يقول: إذا كان غيرَ إضرار ولا خديعة، فهو هنيء مريء، كما قال الله جل ثناؤه. 8518 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا"، قال: الصداق،"فكلوه هنيئًا مريئًا". 8519 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا" بعد أن توجبوه لهنّ وتُحُّلوه، ="فكلوه هنيئًا مريئًا". (1) . 8520 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن أناسًا كانوا يتأثمون أن يُراجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته، (2) فقال الله تبارك وتعالى:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا". 8521 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا"، يقول: ما طابت به نفسًا في غير كَرْه أو هوان، (3) فقد أحلّ الله لك ذلك أن تأكله هنيئًا مريئًا. * * * وقال آخرون: بل عنى بهذا القول أولياء النساء، فقيل لهم: إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهن، بصدقاتهن نفسًا، فكلوه هنيئًا مريئًا. * ذكر من قال ذلك: 8522 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا سيار، عن أبي صالح في قوله:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا"، قال: كان الرجل   (1) في المطبوعة: "سمعت ابن زيد يقول في قوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا"، وهو كلام غير تام، لم يذكر إلا نص الآية، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان سقط من الناسخ"فكلوه"، فأثبتها. (2) في المطبوعة: "أن يرجع أحدهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة: "في غير ذكره أو هوان"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 إذا زوّج ابنته، عمد إلى صداقها فأخذه، قال: فنزلت هذه الآية في الأولياء:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا". * * * قال أبو جعفر وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويلُ الذي قلنا= وأن الآية مخاطب بها الأزواج. لأن افتتاح الآية مبتدأ بذكرهم، وقوله:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا" في سياقه. * * * وإن قال قائل: فكيف قيل:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا"، وقد علمت أنّ معنى الكلام: فإن طابت لكم أنفسهن بشيء؟ وكيف وُحِّدت"النفس"، والمعنى للجميع؟ وذلك أنه تعالى ذكره قال:"وآتوا النساء صَدُقاتهن نحلة". قيل: أما نقل فعل النفوس إلى أصحاب النفوس، فإن ذلك المستفيض في كلام العرب. من كلامها المعروف:"ضِقت بهذا الأمر ذراعًا وذرعًا"="وقررت بهذا الأمر عينًا"، والمعنى! ضاق به ذرعي، وقرّت به عيني، كما قال الشاعر: (1) إِذَا التَيَّازُ ذُو العَضَلاتِ قُلْنَا: ... إلَيْكَ إلَيْكَ"! ضَاقَ بِها ذِرَاعَا (2)   (1) هو القطامي. (2) ديوانه: 44، معاني القرآن للفراء 1: 256، واللسان (تيز) ، ثم ج 20: 319، وقد استشهدت به فيما سلف 1: 446، تعليق: 6، فانظره، من قصيدته التي مجد فيها زفر بن الحارث، وهذا البيت في صفة ناقته التي أحسن القيام عليها حتى اشتدت وسمنت وامتلأت نشاطًا، وقبله: فَلَمَّا أن جَرَى سِمَنٌ عَلَيْهَا ... كما بَطَّنْتَ بالفَدَن السَّيَاعَا أَمَرْتُ بِهَا الرِّجَالَ ليأخُذُوهَا ... وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنْ لَنْ تُسْتَطَاعَا "السياع" الطين، و"الفدن" القصر. وقلب الكلام، وأصله: كما بطنت الفدن بالسياع، فصار أملس. يصف سمنها حتى امتلأت واشتدت كأنها قصر مشيد. و"التياز": الكثير اللحم الغليظ الشديد. وقوله: "إليك، إليك"، أي خذها. يقول له: خذها واضبطها، ولكنه لم يقو عليها، وضاق بها ذراعًا. وقد رد ابن بري تفسير"إليك إليك" بمعنى: خذها لتركبها وتروضها، وقال، "هذا فيه إشكال، لأن سيبويه وجميع البصريين ذهبوا إلى أن"إليك" بمعنى: تنح، وأنها غير متعدية إلى مفعول، وعلى ما فسروه في البيت، يقتضي أنها متعدية، لأنهم جعلوها بمعنى: خذها. ورواه أبو عمرو الشيباني: "لديك لديك"، عوضًا من"إليك إليك". قال: وهذا أشبه بكلام العرب وقول النحويين، لأن"لديك" بمعنى"عندك" و"عندك" في الإغراء تكون متعدية". وعندي أن شرح الشراح في"إليك" صواب جيد، وقد استدرك ابن بري اجتهاده، ولم يصب فيما استدرك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 فنقل صفة"الذراع" إلى"رب الذراع"، ثم أخرج"الذراع" مفسِّرة لموقع الفعل. وكذلك وحد"النفس" في قوله:"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا" إذ كانت"النفس" مفسِّرة لموقع الخبر. (1) * * * وأما توحيد"النفس" من النفوس، لأنه إنما أراد"الهوى"، و"الهوى" يكون جماعة، كما قال الشاعر: (2) بهَا جِيَفُ الحَسْرَى، فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ، وأمّا جِلْدُهَا فَصَلِيب (3) وكما قال الآخر: (4) فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا (5) * * *   (1) "التفسير، والمفسر": التمييز والمميز، اصلاح الكوفيين، انظر ما سلف في فهرس المصطلحات. وانظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 256. (2) هو علقمة بن عبدة (علقمة الفحل) . (3) ديوانه: 27، وشرح المفضليات: 777، وسيبويه 1: 107 وسيأتي في التفسير 17: 10 (بولاق) ، من قصيدته في الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني، حين أسر أخاه شأسًا، فرحل إليه علقمة يطلب فكه. وقوله: "بها جيف الحسري"، الضمير عائد إلى"العلوب" في البيت السابق، وهي آثار الطريق في متان الأرض، و"الحسري" المعيية، يتركها أصحابها فتموت، و"الصليب": الودك الذي يسيل من جلودها إذا مضى على موتها زمن، وهي تحت الشمس ووقدتها. يقول: ماتت وتقادم بها العهد، فابيضت عظامها، وتفانى جلدها فلم يبق منه على أرض الطريق سوى آثار الودك الذي سال من جلودها. والسياق: وأما جلدها، فلا جلد، إنما هو الصليب وحده. والشاهد في البيت"جلدها" وقد أراد"جلودها". (4) هو المسيب بن زيد مناة الغنوي. (5) سيبويه 1: 107، وشرح المفضليات: 778، واللسان (شجا) ، وقبله: لا تُنْكِرُوا القَتْل وَقَدْ سُبِينَا يذكر قومًا سبوا من قومه، فجاء قومه فقتلوا منهم، فقال لهم: لا تنكروا قتلنا لكم، وقد وقع علينا السباء؛ فإن نكن قتلنا منكم حتى صار القتل في حلوقكم كالعظم اعترض في مجراها، ففي حلوقنا نحن أيضًا شجا قد اعترض، هو سباؤكم من سبيتم منا. يقول: هذه بهذه. والشاهد قوله: "في حلقكم"، وقد أراد"حلوقكم". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 558 وقال بعض نحويي الكوفة: جائز في"النفس" في هذا الموضع الجمع والتوحيد،"فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا" و"أنفسًا"، و"ضقت به ذراعًا" و"ذَرْعًا" و"أذْرُعًا"، لأنه منسوب إليك وإلى من تخبر عنه، فاكتفى بالواحد عن الجمع لذلك، ولم يذهب الوهم إلى أنه ليس بمعنى جمع، لأن قبله جمعًا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن"النفس" وقع موقع الأسماء التي تأتي بلفظ الواحد، مؤدِّيةً معناه إذا ذكر بلفظ الواحد، وأنه بمعنى الجمع عن الجميع. * * * وأما قوله:"هنيئًا"، فإنه مأخوذ من:"هنأت البعير بالقَطِران"، إذا جَرِب فعُولج به، كما قال الشاعر: (1) مُتَبَذِّلا تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الهِنَاء مَوَاضِعَ النُّقْبِ (2) * * *   (1) هو دريد بن الصمة. (2) الشعر والشعراء 302، والأغاني 10: 22، واللسان (نقب) ، وغيرها، من أبياته التي قالها حين مر بالخنساء بنت عمرو بن الشريد، وهي تهنأ بعيرًا لها، وقد تبذلت حتى فرغت منه، ثم نضت عنها ثيابها فاغتسلت، ودريد يراها وهي لا تشعر به، فأعجبته، فانصرف إلى رحله يقول: حَيُّوا تُمَاضِرَ وَارْبعُوا صَحْبى ... وَقِفُوا، فَإِنَّ وُقُوفَكُمْ حَسْبى أَخُنَاسَ، قَدْ هَامَ الفُؤَادُ بكُمْ ... وأصابَهُ تَبْلٌ مِنَ الحُبِّ مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلا سَمِعْتُ بِه ... كاليَوْمَ طَالِيَ أَيْنقٍ جُرْبِ مُتَبَذِّلا ... ... ... ... ... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . مُتَحَسِّرًا نَضَحَ الهِنَاءُ بِه ... نَضْحَ العَبِيرِ برَيْطَةِ العَصْبِ فَسَلِيهِمُ عَنِّي خُنَاسَ، إِذَا ... عَضَّ الجَمِيعَ الخَطْبُ: مَا خَطْبي? ثم خطبها إلى أبيها فردته، فهجاها، وزعم أنها ردته لأنه شيخ كبير، فقيل للخنساء: ألا تجيبينه؟ فقالت: لا أجمع عليه أن أرده وأهجوه. و"النقب": (بضم النون وسكون القاف) و"النقب" (بضم ففتح) جمع نقبة: أول الجرب حين يبدو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 559 فكأنّ معنى قوله:"فكلوه هنيئًا مريئًا"، فكلوه دواء شافيًا. * * * يقال منه:"هنأني الطعام ومرَأني"، أي صار لي دواء وعلاجًا شافيًا،"وهنِئني ومرِئني" بالكسر، وهي قليلة. والذين يقولون هذا القول، يقولون:"يهنَأني ويمرَأني"، والذين يقولون:"هَنَأني" يقولون:"يَهْنِيني وَيمْريني". فإذا أفردوا قالوا:"قد أمرأني هذا الطعام إمراء". ويقال:"هَنَأت القوم" إذا عُلتهم، سمع من العرب من يقول:"إنما سميت هانئًا لتهنأ"، بمعنى: لتعول وتكفي. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} (1) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"السفهاء" الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم. (2) فقال بعضهم: هم النساء والصبيان. * ذكر من قال ذلك: 8523 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير قال: اليتامى والنساء.   (1) كان في المطبوعة والمخطوطة سياق الآية إلى "قيامًا". ولكن تفسير أبي جعفر شمل بقية الآية"وارزقوهم فيها واكسوهم، " كما سيأتي في ص: 571، فأتممتها. (2) انظر تفسير"السفه" و"السفهاء" فيما سلف 1 / 293- 295 / 3: 90، 129 / 6 57- 60. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 560 8524 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: لا تعطوا الصغار والنساء. 8525 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن يونس، عن الحسن قال: المرأة والصبيّ. 8526 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن شريك، عن أبي حمزة، عن الحسن قال: النساء والصغار، والنساء أسفه السفهاء. 8527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال:"السفهاء" ابنك السفيه، وامرأتك السفيهة. وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اتقوا الله في الضعيفين، اليتيم والمرأة". 8528 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حميد، عن عبد الرحمن الرؤاسي، عن السدي= قال: يردّه إلى عبد الله= قال: النساء والصبيان. 8529 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، أما"السفهاء"، فالولد والمرأة. 8530 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، يعني بذلك: ولد الرجل وامرأته، وهي أسفه السفهاء. 8531 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال:"السفهاء" الولد، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 561 والنساء أسفه السفهاء، فيكونوا عليكم أربابًا. 8532 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، قال: أولادكم ونساؤكم. 8533 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك قال: النساء والصبيان. 8534 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: النساء والولدان. 8535 - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن أبي غَنِيّة، عن الحكم:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: النساء والولدان. (1) 8536 - حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا"، أمر الله بهذا المال أن يخزن فتُحسن خِزانته، ولا يملكه المرأة السفيهة والغلامُ السفيه. 8537 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل، عن أبي مالك قال: النساء والصبيان. 8538 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: امرأتك   (1) الأثر: 8535-"أبو نعيم"، هو"الفضل بن دكين". مضت ترجمته برقم: 2554، 3035. و"ابن أبي غنية" (بفتح الغين وكسر النون وياء مشددة مفتوحة) هو: "عبد الملك بن حميد بن أبي غنية، الخزاعي"، روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي إسحاق الشيباني، والحكم بن عتيبة. وروى عنه الثوري، وهو من أقرانه، ووكيع، ويحيى بن أبي زائدة، وعمارة بن بشر، وأبو نعيم وآخرون. وهو ثقة. وكان في المطبوعة: "ابن أبي عنبسة"، أما في المخطوطة، فإن الناسخ لم يحسن كتابة ما كتب فصارت كأنها"ابن أبي عنية"، والصواب ما أثبت. و"الحكم"، هو"الحكم بن عتيبة الكندي"، مضى مرارًا، في رقم: 3297. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 وبنيك= وقال:"السفهاء"، الولدان، والنساء أسفه السفهاء. * * * وقال آخرون: بل"السفهاء"، الصبيان خاصة. * ذكر من قال ذلك: 8539 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: هم اليتامى. 8540 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شريك، عن سالم، عن سعيد قال:"السفهاء"، اليتامى. 8541 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يونس، عن الحسن في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، يقول: لا تَنْحَلوا الصغار. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك: السفهاء من ولد الرجل. * ذكر من قال ذلك: 8542 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: لا تعط ولدك السفيه مالك فيفسده، الذي هو قوامك بعد الله تعالى. 8543 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، يقول: لا تسلط السفيه من ولدك= فكان ابن عباس يقول: نزل ذلك في السفهاء، وليس اليتامى من ذلك في شيء. (1)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وليسوا اليتامى"، وهي لغة رديئة، أخشى أن يكون ذلك من سهو الناسخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 563 8544 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري أنه قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلِّقْها، ورجل أعطى ماله سفيهًا وقد قال الله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشهد عليه. (1) 8545 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" الآية، قال: لا تعط السفيه من ولدك رأسًا ولا حائطًا، ولا شيئًا هو لك قيمًا من مالك. * * * وقال آخرون: بل"السفهاء" في هذا الموضع، النساء خاصة دون غيره. * ذكر من قال ذلك: 8546 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته، فوضعته في غير الحق، فقال الله تبارك وتعالى:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم". 8547 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حميد، عن مجاهد:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: النساء. 8548 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا سفيان، عن الثوري، عن حميد، عن قيس، عن مجاهد في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: هنّ النساء.   (1) الأثر: 8544- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 203 من طريق أبي المثنى معاذ بن معاذ العنبري. عن أبيه، عن شعبة، مرفوعا، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" وقد اتفقا جميعًا على إخراجه" وقال الذهبي: "ولم يخرجاه، لأن الجمهور رووه عن شعبة موقوفًا، ورفعه معاذ بن معاذ عنه". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 564 8549 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا"، قال: نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم، وهنّ سفهاء مَنْ كُنَّ أزواجًا أو أمهاتٍ أو بنات. 8550 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8551 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا هشام، عن الحسن قال: المرأة. 8552 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: النساء مِنْ أسفه السفهاء. 8553 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي عوانة، عن عاصم، عن مورّق قال: مرت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارَة وهيْئة، فقال لها ابن عمر:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا". * * * وقال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه عم بقوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، فلم يخصص سفيهًا دون سفيه. فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهًا ماله، صبيًا صغيرًا كان أو رجلا كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى. و"السفيه" الذي لا يجوز لوليه أن يؤتِّيه ماله، هو المستحقُّ الحجرَ بتضييعه مالَه وفسادِه وإفسادِه وسوء تدبيره ذلك. وإنما قلنا ما قلنا، من أن المعنيَّ بقوله:"ولا تؤتوا السفهاء" هو من وصفنا دون غيره، لأن الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها:"وابْتَلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم"، فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 565 بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد، وقد يدخل في"اليتامى" الذكور والإناث، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لَهُم من الأموال، الذكورَ دون الإناث، ولا الإناث دون الذكور. وإذْ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم، إليهم، وأجيز للمسلمين مبايعتهم ومعاملتهم، غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم، وحُظِر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم. فإذْ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن"السفهاء" الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم، هم المستحقون الحجرَ والمستوجبون أن يُولى عليهم أموالهم، وهم من وصفنا صفتهم قبل، وأن من عدا ذلك فغير سفيه، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ وأونس رشده. * * * وأما قول من قال:"عنى بالسفهاء النساء خاصة"، فإنه جعل اللغة على غير وجهها. وذلك أن العرب لا تكاد تجمع"فعيلا" على"فُعَلاء" إلا في جمع الذكور، أو الذكور والإناث. وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه على:"فعائل" و"فعيلات"، مثل:"غريبة"، تجمع"غرائب" و"غريبات"، فأما"الغُرَباء"، فجمع"غريب". (1) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارْزُقوهم فيها واكسوهم"، فقال بعضهم: عنى بذلك: لا تؤتوا السفهاء من النساء والصبيان= على   (1) هذه الحجة من حسن النظر في العربية ومعاني أبنيتها. والذي استنكره أبو جعفر من جعل اللغة على غير وجهها، وتحميل العربية ما لا سيبل إليه في بنائها وتركيبها، وتأويل كتاب الله خاصة بالانتزاع الشديد والجرأة على اللغة، كأنه قد أصبح في زماننا هذا، هو القاعدة التي يركب فسادها كل مبتدع في الدين برأيه، وكل متورك في طلب الصوت في الناس بما يقول في دين ربه الذي ائتمن عليه من أنزل إليهم كتابه، ليعلمهم ويهديهم، فخالفوا طريق العلم، وجاروا عن سنن الهداية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 566 ما ذكرنا من اختلاف من حكينا قوله قبل= أيها الرشداء، أموالكم التي تملكونها، فتسلِّطوهم عليها فيفسدوها ويضيعوها، ولكن ارزقوهم أنتم منها إن كانوا ممن تلزمكم نفقته، واكسوهم، وقولوا لهم قولا معروفًا. وقد ذكرنا الرواية عن جماعة ممن قال ذلك، منهم: أبو موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وحضرمي، وسنذكر قول الآخرين الذين لم يذكر قولهم فيما مضى قبل. 8554 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها"، يقول: لا تعط امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، وأطعمهم من مالك واكسُهم. 8555 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفًا"، يقول: لا تسلط السفيه من ولدك على مالك، وأمرَه أن يرزقه منه ويكسوه. 8556 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، قال: لا تعط السفيه من مالك شيئًا هو لك. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولا تؤتوا السفهاء أموالهم"، ولكنه أضيف إلى الولاة، لأنهم قُوَّامها ومدبِّروها. * * * * ذكر من قال ذلك: 8557 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 567 [هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤته إياه، وأنفقه عليه حتى يبلغ. وإنّما أضاف إلى الأولياء فقال:"أموالكم"، لأنهم قوّامها ومدبروها] . (1) * * * قال أبو جعفر: وقد يدخل في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، أموالُ المنهيِّين عن أن يؤتوهم ذلك، وأموال"السفهاء". لأن قوله:"أموالكم" غير مخصوص منها بعض الأموال دون بعض. ولا تمنع العرب أن تخاطب قومًا خِطابًا، فيخرج الكلام بعضه خبر عنهم، وبعضه عن غُيَّب، وذلك نحو أن يقولوا:"أكلتم يا فلان أموالكم بالباطل"، فيخاطب الواحد خطاب الجمع، بمعنى: أنك وأصحابك أو وقومك أكلتم أموالكم. فكذلك قوله:"ولا تؤتوا السفهاء"، معناه: لا تؤتوا أيها الناس، سفهاءكم أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم، فيضيعوها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد عم بالنهي عن إيتاء السفهاء الأموال كلَّها، ولم يخصص منها شيئا دون شيء، كان بيِّنًا بذلك أن معنى قوله:"التي جعل الله لكم قيامًا"، إنما هو التي جعل الله لكم ولهم قيامًا، ولكن السفهاء دخل ذكرهم في ذكر المخاطبين بقوله:"لكم". * * * وأما قوله:"التي جعل الله لكم قيامًا"، فإن"قيامًا" و"قِيَمًا" و"قِوَامًا" في   (1) الأثر: 8557- هذا الذي بين القوسين زيادة ليست في المطبوعة ولا المخطوطة، زدتها من تفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 349. وهي أشبه بنص الطبري في ترجمة هذا القول. وقد نسب البغوي هذا القول الذي نقلته، ورجحت أنها سقطت من ناسخ تفسير الطبري= إلى سعيد بن جبير وعكرمة. والظاهر أن السيوطي أيضًا وقف على نسخة من تفسير الطبري فيها هذا السقط، فأغفل مقالة سعيد بن جبير التي نقلها البغوي، ونقل عن ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ما نصه: "عن سعيد بن جبير في قوله: (وَلا تؤتوا السفهاء) ، قال: اليتامى- (أموالكم) قال: أموالهم، بمنزلة قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ) وبين أن نص البغوي، أقرب إلى ما ذكر أبو جعفر، من نص السيوطي في الدر المنثور 2: 120 فلذلك أثبته. وأرجو أن لا يكون سقط من كلام أبي جعفر الآتي شيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 معنى واحد. وإنما"القيام" أصله"القوام"، غير أن"القاف" التي قبل"الواو" لما كانت مكسورة، جعلت"الواو""ياء" لكسرة ما قبلها، كما يقال:"صُمْت صيامًا"،"وصُلْت صِيالا"، (1) ويقال منه:"فلان قوام أهل بيته" و"قيام أهل بيته". * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ بعضهم: (التي جعل الله لكم قِيَمًا) بكسر"القاف" وفتح"الياء" بغير"ألف". وقرأه آخرون:"قِيَامًا" بألف. * * * قال محمد: (2) والقراءة التي نختارها:"قِيَامًا" بالألف، لأنها القراءة المعروفة في قراءة أمصار الإسلام، وإن كانت الأخرى غير خطأ ولا فاسد. وإنما اخترنا ما اخترنا من ذلك، لأن القراآت إذا اختلفت في الألفاظ واتفقت في المعاني، فأعجبها إلينا ما كان أظهر وأشهر في قَرَأة أمصار الإسلام. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله:"قيامًا" قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 8558 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك:"أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا"، التي هي قوامك بعد الله. (3) 8559 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا"، فإن المال هو   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "حلت حيالا" بالحاء، وكأن الصواب ما أثبت. (2) هذه هي المرة الثانية التي كتب فيها"قال محمد"- يعني محمد بن جرير الطبري أبا جعفر- مكان: "قال أبو جعفر، وانظر 519 تعليق: 1، فيما سلف قريبًا. (3) الأثر: 8558- هو مختصر الأثر السالف رقم: 8542. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 569 قيام الناس، قِوَام معايشهم. يقول: كن أنت قيم أهلك، فلا تعط امرأتك [وولدك] مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك. (1) 8560 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا" يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خوَّلك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بَنيك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم. ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنتَ الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال: وقوله:"قيامًا"، بمعنى: قوامكم في معايشكم. 8561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن قوله:"قيامًا" قال: قيام عيشك. 8562 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شرود، عن مجاهد أنه قرأ:"التي جعل الله لكم قيامًا"، بالألف، يقول: قيام عيشك. (2) 8563 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:   (1) الأثر: 8559- هو مختصر الأثر السالف رقم: 8554، والزيادة بين القوسين منه وبغيرها لا تستقيم الضمائر. وفي المخطوطة والمطبوعة: "كنت أنت" والصواب"كن أنت" كما أثبتها. (2) الأثر: 8562-"إسحاق" في هذا الأثر، هو"إسحاق بن الضيف"، ويقال: "إسحاق ابن إبراهيم بن الضيف، الباهلي"، ثقة. مترجم في التهذيب. وأما "بكر بن شرود" فقد ترجم له البخاري في الكبير 2 / 1 / 90، وقال: "صنعاني، قال ابن معين: رأيته، ليس بثقة". أما ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 338، فقد ترجم له باسم: "بكر بن عبد الله بن شروس= ويقال: ابن شرود، الصنعاني"، قال، "روى عن معمر. روى عنه إسحاق بن إبراهيم بن الضيف. سمعت أبي يقول: هو ضعيف الحديث". أما الحافظ ابن حجر، فقد ترجم له في لسان الميزان 2: 52- 54، وروى عن ابن معين أنه قال: "كذاب، ليس بشيء"، واستوفى الكلام فيه. وأما "مجاهد" فهو"مجاهد" ابن جبر التابعي الإمام المشهور. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عن ابن مجاهد"، وزيادة"ابن" خطأ لا شك فيه. كأن الناسخ ظنه"ابن مجاهد" القارئ، شيخ الصنعة، أول من سبع القراءات السبعة، وهو متأخر الميلاد. ولد سنة 245، وهو"أبو بكر بن مجاهد" ="أحمد بن موسى بن العباس ابن مجاهد التميمي". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 570 "أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا"، قال: لا تعط السفيه من ولدك شيئًا، هو لك قيِّم من مالك. (1) * * * وأما قوله:"وارزقوهم فيها واكسوهم"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فأما الذين قالوا: إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، [أموالَ] أولياء السفهاء، لا أموال السفهاء، (2) = فإنهم قالوا:"معنى ذلك: وارزقوا، أيها الناس، سفهاءكم من نسائكم وأولادكم، من أموالكم طعامهم، وما لا بد لهم منه من مُؤَنهم وكسوتهم". وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى، وسنذكر من لم يُذكر من قائليه. 8564 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمروا أن يرزقوا سفهاءهم- من أزواجهم وأمهاتهم وبناتهم- من أموالهم. 8565 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8566 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"وارزقوهم"، قال، يقول: أنفقوا عليهم. 8567 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وارزقوهم فيها واكسوهم"، يقول: أطعمهم من مالك واكسهم. * * * وأما الذين قالوا:"إنما عنى بقوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، أموالَ السفهاء أن لا يؤتيهموها أولياؤهم"، فإنهم قالوا:"معنى قوله:"وارزقوهم فيها   (1) الأثر: 8563- انظر الأثر السالف رقم: 8545، اختلف لفظاهما مع اتفاق إسنادهما. (2) هذه الزيادة بين القوسين، استظهرتها من السياق، وأثبتها للبيان. وكأن ذلك هو الصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 571 واكسوهم"، وارزقوا، أيها الولاة ولاةَ أموال السفهاء، سفهاءكم من أموالهم، طعامهم وما لا بد لهم من مؤنهم وكسوتهم. وقد مضى ذكر ذلك. (1) * * * قال أبو جعفر: وأما الذي نراه صوابًا في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" من التأويل، فقد ذكرناه، ودللنا على صحة ما قلنا في ذلك بما أغنى عن إعادته. * * * فتأويل قوله:"وارزقوهم فيها واكسوهم"، على التأويل الذي قلنا في قوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"= وأنفقوا على سفهائكم من أولادكم ونسائكم الذين تجب عليكم نفقتهم من طعامهم وكسوتهم في أموالكم، ولا تسلِّطوهم على أموالكم فيهلكوها= وعلى سفهائكم منهم، ممن لا تجب عليكم نفقته، ومن غيرهم الذين تَلُون أنتم أمورهم، من أموالهم فيما لا بد لهم من مؤنهم في طعامهم وشرابهم وكسوتهم. (2) لأن ذلك هو الواجب من الحكم في قول جميع الحجة، لا خلاف بينهم في ذلك، مع دلالة ظاهر التنزيل على ما قلنا في ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (5) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم: معنى ذلك: عِدْهم عِدَة جميلة من البرِّ والصلة. * ذكر من قال ذلك: 8568 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) انظر الأثر: رقم: 8557. (2) انظر تفسير"الرزق" فيما سلف 4: 274 / 5: 44 / 6: 311 = وتفسير"الكسوة" فيما سلف 5: 44، 480. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 572 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقولوا لهم قولا معروفًا"، قال: أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفًا في البر والصلة= يعني النساء، وهن السفهاء عنده. 8569 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"وقولوا لهم قولا معروفًا"، قال: عِدَةً تَعِدُهم. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادعوا لهم. * ذكر من قال ذلك: 8570 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وقولوا لهم قولا معروفًا"، إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه، فقل لهم قولا معروفًا، قل لهم:"عافانا الله وإياك"،"وبارك الله فيك". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصحة، ما قاله ابن جريج. وهو أن معنى قوله:"وقولوا لهم قولا معروفًا"، أي: قولوا، يا معشر ولاة السفهاء، قولا معروفًا للسفهاء:"إن صَلحتم ورشدتم سلَّمنا إليكم أموالكم، وخلَّينا بينكم وبينها، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم"، وما أشبه ذلك من القول الذي فيه حث على طاعة الله، ونهي عن معصيته. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "تعدوهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371 / 4: 547 / 5: 7، 44، 76، 93 137 / 7: 91، 105، 130= وتفسير"قول معروف" فيما سلف 5: 520. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 573 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وابتلوا اليتامى"، واختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم، وصلاحهم في أديانهم، وإصلاحهم أموالهم، كما:- 8571 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله:"وابتلوا اليتامى"، قالا يقول: اختبروا اليتامى. 8572 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"ابتلوا اليتامى"، فجرِّبوا عقولهم. 8573 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وابتلوا اليتامى"، قال: عقولهم. 8574 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وابتلوا اليتامى"، قال: اختبروهم. 8575 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح"، قال: اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو. إذا عُرِف أنه قد أُنِس منه رُشد، دفع ليه ماله. قال: وذلك بعد الاحتلام. * * * قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"الابتلاء" الاختبار، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) * * * وأمّا قوله:"إذا بلغوا النكاح"، فإنه يعني: إذا بلغوا الحلم: كما:- 8576 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن   (1) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 2: 49 / 3: 7، 220 / 5: 339 / 7: 297، 325، 454. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 574 ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"حتى إذا بلغوا النكاح"، حتى إذا احتلموا. 8577 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"حتى إذا بلغوا النكاح"، قال: عند الحلم. 8578 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"حتى إذا بلغوا النكاح"، قال: الحلم. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} قال أبو جعفر: يعني قوله:"فإن آنستم منهم رُشدًا"، فإن وجدتم منهم وعرفتم، كما:- 8579 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن آنستم منهم رشدًا"، قال: عرفتم منهم. * * * يقال:"آنست من فلان خيرًا- وبِرًا"= (1) بمد الألف="إيناسًا"، و"أنست به آنَسُ أُنْسًا"، بقصر ألفها، إذا ألِفه. * * * وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله: (فإن أحسيتم منهم رشدا) ، (2) بمعنى: أحسستم، أي: وجدتم. * * *   (1) في المطبوعة: "آنست من فلان خيرًا وقرئ بمد الألف"، لم يحسن قراءة"وبرًا" في المخطوطة، فأفسد الكلام إفسادًا. (2) في معاني القرآن للفراء 1: 257: "فإن أحستم" بسين واحدة ساكنة، وفي بعض نسخه كما في تفسير الطبري، أما في المخطوطة فقد كتب في الموضعين: "أحسستم" بسينين، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة، وما في معاني القرآن للفراء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 575 واختلف أهل التأويل في معنى:"الرشد" الذي ذكره الله في هذه الآية. (1) فقال بعضهم: معنى"الرشد" في هذا الموضع، العقل والصلاح في الدين. * ذكر من قال ذلك: 8580 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن آنستم منهم رشدًا"، عقولا وصلاحًا. 8581 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن آنستم منهم رشدًا"، يقول: صلاحًا في عقله ودينه. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: صلاحًا في دينهم، وإصلاحًا لأموالهم. * ذكر من قال ذلك: 8582 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن مبارك، عن الحسن قال: رشدًا في الدين، وصلاحًا، وحفظًا للمال. 8583 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن آنستم منهم رشدًا"، في حالهم، والإصلاحَ في أموالهم. * * * وقال آخرون: بل ذلك العقلُ، خاصة. * ذكر من قال ذلك: 8584 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: لا ندفع إلى اليتيم ماله وإن أخذ بلحيته، (2) وإن كان شيخًا، حتى يؤنس منه رشده، العقل.   (1) انظر تفسير"الرشد" فيما سلف 3: 482 / 5: 416. (2) قوله: "أخذ بلحيته" يعني: الشيب أخذ بلحيته، وانظر الأثر التالي: 8586. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 576 8585 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"آنستم منهم رشدًا"، قال: العقل. 8586 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو شبرمة، عن الشعبي قال: سمعته يقول: إن الرجل ليأخُذُ بلحيته وما بلغ رُشده. (1) * * * وقال آخرون: بل هو الصلاح والعلم بما يصلحه. * ذكر من قال ذلك: 8587 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فإن آنستم منهم رشدًا"، قال: صلاحًا وعلمًا بما يصلحه. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى"الرشد" في هذا الموضع، العقل وإصلاح المال (2) = لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك، لم يكن ممن يستحق الحجرَ عليه في ماله، وحَوْزَ ما في يده عنه، وإن كان فاجرًا في دينه. وإذْ كان ذلك إجماعًا من الجميع، فكذلك حكمه إذا بلغ وله مال في يَدي وصيِّ أبيه، أو في يد حاكم قد وَلي ماله لطفولته= واجبٌ عليه تسليم ماله إليه، إذا كان عاقلا بالغًا، مصلحًا لماله= غير مفسد، لأن المعنى الذي به يستحق أن يولَّى على ماله الذي هو في يده، هو المعنى الذي به يستحق أن يمنع يده من ماله الذي هو في يد وليّ، (3) فإنه لا فرق بين ذلك. وفي إجماعهم على أنه غير جائز حيازة ما في يده في حال صحة عقله وإصلاح   (1) الأثر: 8586-"أبو شبرمة" كنية"ابن شبرمة"، وهو القاضي الفقيه المفتي"عبد الله بن شبرمة بن حسان الضبي". وكان عفيفًا حازمًا عاقلا فقيها، يشبه النساك، ثقة في الحديث، شاعرًا، حسن الخلق، جوادا.. هكذا وصفوه رحمه الله. (2) انظر التعليق السالف ص: 576، تعليق: 1، في مراجع تفسير"الرشد". (3) في المخطوطة والمطبوعة: "في يد ولي"، والصواب حذف هذه الهاء، فإنه مفسدة للكلام ولو قرئت: "في يد وليه" لكانت جيدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 577 ما في يده، الدليلُ الواضح على أنه غير جائز منْع يده مما هو له في مثل ذلك الحال، وإن كان قبل ذلك في يد غيره، لا فرْق بينهما. ومن فرَّق بين ذلك، عُكِس عليه القول في ذلك، وسئل الفرق بينهما من أصل أو نظير، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. فإذ كان ما وصفنا من الجميع إجماعًا، (1) فبيُّنٌ أن"الرشد" الذي به يستحق اليتيم، إذا بلغ فأونس منه، دَفْعَ ماله إليه، ما قلنا من صحة عقله وإصلاح ماله. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره ولاةَ أموال اليتامى. يقول الله لهم: فإذا بلغ أيتامكم الحلم، فآنستم منهم عقلا وإصلاحًا لأموالهم، فادفعوا إليهم أموالهم، ولا تحبسوها عنهم. * * * وأما قوله:"فلا تأكلوها إسرافًا"، يعني: بغير ما أباحه الله لك، (2) كما:- 8588 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن:"ولا تأكلوها إسرافًا"، يقول: لا تسرف فيها. 8589 - حدثنا محمد بن الحسين قال، (3) حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "فإن كان ما وصفنا"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "أباحه الله لكم" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر تفسير "أكل المال" فيما سلف 3: 548- 551 / 7: 528. (3) الأثر: 8589-"محمد بن الحسين بن موسى بن أبي حنين الكوفي"، مضت ترجمته برقم: 7120، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "محمد بن الحسن"، وهو خطأ، فهذا إسناد دائر في التفسير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 578 أسباط، عن السدي:"ولا تأكلوها إسرافًا"، قال: يسرف في الأكل. وأصل"الإسراف": تجاوز الحد المباح إلى ما لم يُبَحْ. وربما كان ذلك في الإفراط، وربما كان في التقصير. غير أنه إذا كان في الإفراط، فاللغة المستعملة فيه أن يقال:"أسْرف يُسرف إسرافًا"= وإذا كان كذلك في التقصير، فالكلام منه:"سَرِف يَسْرَفُ سَرَفًا"، يقال:"مررت بكم فسَرَفْتكم"، يراد منه: فسهوت عنكم وأخطأتكم، كما قال الشاعر: (1) أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ ... مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلا سَرَفُ (2) يعني بقوله:"ولا سرف"، لا خطأ فيه، يراد به: أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها. * * *   (1) هو جرير. (2) ديوانه: 389، وطبقات فحول الشعراء: 359، والاشتقاق: 241، واللسان (هند) (سرف) ، وغيرها، وسيأتي في التفسير 8: 46 / 30: 159 (بولاق) ، من قصيدته التي مدح بها يزيد بن عبد الملك، وهجا آل المهلب، يقول ليزيد، قبله: أرْجُو الفَوَاضِلَ إِنَّ الله فَضَّلَكُمْ ... يَا قَبْل نَفْسِكَ لاقَى نَفْسِيَ التَّلَفُ مَا مَنْ جَفَانَا إذَا حَاجَاتُنَا نَزَلَتْ ... كَمنْ لَنَا عِنْدَه التكْرِيمُ واللَّطَفُ كَمْ قَد نَزَلْتُ بِكُمْ ضَيْفًا، فَتُلْحِفُنِي ... فَضْلَ اللِّحَافِ، وَنِعْمَ الفَضْلُ يُلْتَحَفُ وقوله: "هنيدة" اسم لكل مئة من الإبل، لا تصرف، ولا تدخلها الألف واللام، ولا تجمع، ولا واحد لها من جنسها. و"هند" مثلها في المعنى، وبه سميت المرأة فيما أرجح، تساق في مهرها مئة من الإبل، من كرامتها وعزها ورغبة الأزواج فيها لشرفها. وقوله: "ثمانية" أي ثمانية من العبيد يقومون بأمرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 579 القول في تأويل قوله: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وبدارًا"، ومبادرة. وهو مصدر من قول القائل:"بادرت هذا الأمر مبادرة وبِدارًا". * * * وإنما يعني بذلك جل ثناؤه ولاةَ أموال اليتامى. يقول لهم: لا تأكلوا أموالهم إسرافًا -يعني ما أباح الله لكم أكله- ولا مبادرة منكم بلوغَهم وإيناسَ الرشد منهم، حذرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمه إليهم، كما:- 8590 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إسرافًا وبدارًا"، يعني: أكل مال اليتيم مبادرًا أن يبلغ، فيحول بينه وبين ماله. 8591 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن:"ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا"، يقول: لا تسرف فيها ولا تبادره. (1) 8592 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وبدارًا"، تبادرًا أن يكبروا فيأخذوا أموالهم. 8593 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إسرافًا وبدارًا"، قال: هذه لولي اليتيم يأكله، جعلوا له أن يأكل معه، إذا لم يجد شيئًا يضع يده معه، فيذهب يؤخره، يقول:"لا أدفع إليه ماله"، وجعلتَ تأكله تشتهي أكله، لأنك إذا لم تدفعه إليه لك فيه نصيب، وإذا دفعته إليه فليس لك فيه نصيب. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "ولا تبادر" بغير هاء في آخره، وأثبت ما في المخطوطة. (2) كانت هذه الجملة في المخطوطة هكذا فاسدة الكتابة غير منقوطة: "هذه لولى اليتيم يأكله جعلوا له أن يأكل معه إذا لم يجد سببا يضع معه يده، فذهب دوحره يقول لا أدفع إليه ماله وجعلت تأكله لسهى أكله، لأنك لم تدفعه إليه ... "، وهي فاسدة. أما المطبوعة فقد صححها وكتب: "هذه لولي اليتيم خاصة وجعل له"، وأساء فيما قرأ وفيما كتب. ثم كتب"فيذهب بوجهه" مكان"يؤخره"، وقد أساء. ثم زاد"إن" في قوله: "لأنك لم تدفعه إليه"فجعلها""لأنك إن لم تدفعه إليه"، وقد أصاب، ولكني آثرت"إذا". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 580 وموضع"أن" في قوله:"أن يكبروا" نصبٌ بـ"المبادرة"، لأن معنى الكلام: لا تأكلوها مبادرة كِبرهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ومن كان غنيًّا"، من ولاة أموال اليتامى على أموالهم، فليستعفف بماله عن أكلها -بغير الإسراف والبدار أن يكبروا- بما أباح الله له أكلها به، كما:- 8594 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش =وابن أبي ليلى، عن الحكم= عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"ومن كان غنيًّا فليستعفف"، قال: بغناه من ماله، (2) حتى يستغنى عن مال اليتيم. 8595 - وبه قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:"ومن كان غنيًّا فليستعفف" بغناه. 8596 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 257. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "لغناه عن ماله"، والصواب بالباء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 581 "ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: من مال نفسه، ومن كان فقيرًا منهم، إليها محتاجًا، فليأكل بالمعروف. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في"المعروف" الذي أذن الله جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به، إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها. (1) فقال بعضهم: ذلك هو القرضُ يستقرضه من ماله ثم يقضيه. * ذكر من قال ذلك: 8597 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنّي أنزلت مالَ الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. (2) 8598 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية، عن زهير، عن العلاء بن المسيب، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: وهو القرض. 8599 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت يونس، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، أنه قال في هذه الآية:"ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: الذي ينفق من مال اليتيم، يكون عليه قرضًا. 8600 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال، سألت عبيدة عن قوله:"ومن   (1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف ص: 573 تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) الأثر: 8597-"حارثة بن مضرب الكوفي"، روى عن عمر، وعلي، وروى عنه أبو إسحاق السبيعي. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 87، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 255. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "حارثة بن مصرف"، وهو خطأ وتصحيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 582 كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: إنما هو قرض، ألا ترى أنه قال:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"؟ قال: فظننت أنه قالها برأيه. 8601 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام، عن محمد، عن عبيدة في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، وهو عليه قرض. 8602 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: المعروف القرض، ألا ترى إلى قوله:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"؟ (1) 8603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة= مثل حديث هشام. (2) 8604 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، يعني القرض. 8605 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، يقول: إن كان غنيًّا، فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئًا، وإن كان فقيرًا فليستقرض منه، فإذا وجد مَيْسرة فليعطه ما استقرض منه، فذلك أكله بالمعروف.   (1) الأثر: 8602-"سلمة بن علقمة التميمي"، روى عن محمد بن سيرين. ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "سلمة عن علقمة"، وهو خطأ، وانظر الإسناد السالف رقم: 8600، جاء على الصواب. (2) يعني رقم: 8601. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 583 8606 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي يذكر، عن حماد، عن سعيد بن جبير قال: يأكل قرضًا بالمعروف. (1) 8607 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن سعيد بن جبير قال: هو القرض، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر= يعني قوله:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف". 8608 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا حماد قال، سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: إن أخذ من ماله قدر قوته قرضًا، فإن أيسر بعدُ قضاه، وإن حضره الموت ولم يوسر، تحلَّله من اليتيم. وإن كان صغيرًا تحلله من وليه. (2) 8609 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير: فليأكل قرضًا. (3) 8610 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: هو القرض. 8611 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة، فإن أكل منه شيئًا قضاه.   (1) الأثر: 8606-"ابن إدريس" هو"عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي" شيخ أبي كريب، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة والمخطوطة"أبو إدريس"، وهو خطأ. و"أبوه" هو"إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي"، روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، وسماك بن حرب وغيرهم. مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة"سمعت أبي بكر"، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المخطوطة: "حلله من وليه"، ولعلها"حلله منه وليه"، والذي في المطبوعة موافق للسياق. (3) في المخطوطة: "فلا يأكل قرضًا"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 584 8612 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فليأكل بالمعروف"، قال: قرضًا. 8613 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8614 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فليأكل بالمعروف"، قال: سَلفًا من مال يتيمه. 8615 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد= وعن حماد، عن سعيد بن جبير="فليأكل بالمعروف"، قالا هو القرض= قال الثوري: وقاله الحكم أيضًا، ألا ترى أنه قال:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"؟ 8616 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حجاج، عن مجاهد قال: هو القرض، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر= يعني:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف". 8617 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"فليأكل بالمعروف"، قال: القرض، ألا ترى إلى قوله:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم"؟ 8618 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل قال: قرضًا. 8619 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن سعيد بن جبير قال: إذا احتاج الوليُّ أو افتقر فلم يجد شيئًا، أكل من مال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 585 اليتيم وكَتَبه، فإن أيسر قضاه، وإن لم يوسر حتى تحضره الوفاة، دعا اليتيمَ فاستحلَّ منه ما أكل. 8620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، من مال اليتيم، بغير إسراف ولا قضاءَ عليه فيما أكل منه. * * * واختلف قائلو هذا القول في معنى:"أكل ذلك بالمعروف". فقال بعضهم: أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع، ولا يلبس منه. * ذكر من قال ذلك: 8621 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي قال، أخبرني من سمع ابن عباس يقول:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: بأطراف أصابعه. 8622 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله الأشجعي، عن سفيان، عن السدي، عمن سمع ابن عباس يقول، فذكر مثله. (1) 8623 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، يقول:"فمن كان غنيًا" مَنْ وَلِيَ مال اليتيم، فليستعفف عن أكله (2) ="ومن كان فقيرًا"، مَنْ وَلِيَ مال اليتيم، فليأكل معه بأصابعه، لا يسرف في الأكل، ولا يلبس.   (1) الأثر: 8622-"عبيد الله الأشجعي" هو"عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي". قال ابن معين: "ما كان بالكوفة أعلم بسيفان الثوري من الأشجعي". وهو ثقة مأمون. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "عبد الله الأشجعي"، وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "فليستعفف عن ماله"، وأثبت الصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 586 8624 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا حرمي بن عمارة قال، حدثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة في مال اليتيم: يدُك مع أيديهم، ولا تتخذ منه قَلَنْسُوة. 8625 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وعكرمة قالا تضع يدك مع يده. * * * وقال آخرون: بل"المعروف" في ذلك: أن يأكل ما يسدُّ جوعه، ويلبس ما وارَى العورة. * ذكر من قال ذلك: 8626 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: إن المعروف ليس بِلبس الكتَّان ولا الحُلَل، ولكن ما سدَّ الجوع ووارى العورة. 8627 - حدثنا بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: ليس المعروف بلبس الكتان والحلل، ولكن المعروفَ ما سد الجوع ووارى العورة. 8628 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم نحوه. 8629 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو معبد قال: سئل مكحول عن وَالي اليتيم، ما أكله بالمعروف إذا كان فقيرًا؟ قال: يده مع يده. قيل له: فالكسوة؟ قال: يلبس من ثيابه، فأما أن يتخذ من ماله مالا لنفسه فلا. 8630 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فليأكل بالمعروف"، قال: ما سد الجوع ووارى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 587 العورة. أما إنه ليس لَبُوس الكتان والحلل. (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك"المعروف"، أكل تمْره، وشرب رِسْل ماشيته، (2) بقيامه على ذلك، فأما الذهب والفضة، فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض. * ذكر من قال ذلك: 8631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أموالَ أيتام؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها، فقال ابن عباس: ألست تبغي ضالتها؟ (3) قال: بلى! قال: ألست تهنأ جَرْباها؟ (4) قال: بلى! قال: ألست تَلُطُّ حياضها؟ (5) قال: بلى! قال: ألست تَفْرِط عليها يوم وِرْدها؟ (6) قال: بلى! قال: فأصِبْ من رسلها= يعني: من لبنها. 8632 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتامًا، وإن لهم إبلا ولي إبل، وأنا أمنح في إبلي   (1) الأثر: 8630-"الأشجعي"، هو"عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي"، مضى قريبًا في التعليق على الأثر رقم: 8622. (2) "الرسل" (بكسر الراء وسكون السين) : اللبن. (3) "بغى الضالة بغاء وبغية وبغاية" (كلها بضم الباء) : نشدها وطلبها. (4) هنأ البعير الأجرب يهنؤه، إذا طلاه بالهناء (بكسر الهاء) ، وهو القطران، يعالج به من الجرب. (5) "لط الحوض يلطه لطًا": ألصقه بالطين حتى يسد خلله، قال ابن الأثير: "كذا جاء في الموطأ" انظر الموطأ: 934، ويشير به إلى الرواية الأخرى"تلوط"، كما ستأتي في الأثر التالي. وكان في المطبوعة هنا"تليط".، وهي صواب أيضًا، جاء في رواية حديث أشراط الساعة: "ولتقومن وهو يليط حوضه، " أي يطينه أيضًا. ولكنها لم تجيء في المخطوطة ولا في مكان غيره أعرفه. (6) "فرط يفرط فرطًا": إذ سبق الواردة الإبل إلى الماء، فهيأ لها الأرسان والدلاء، وملأ الحياض واستقى لهم. و"يوم الورد" بكسر الراء، وهو يومها الذي ترد فيه الماء. وكان في المطبوعة: "يوم ورودها"، وهي صحيحة المعنى، والذي في المخطوطة هو محض الصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 588 وأفقر، (1) فماذا يحلّ لي من ألبانها؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، (2) وتسقى عليها، (3) فاشرب غير مُضرّ بنسل، (4) ولا ناهكٍ في الحلب. (5) 8633 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن أبي العالية في هذه الآية:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: من فَضل الرِّسل والتمرة. (6) 8634 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية في والي مال اليتيم قال: يأكل من رسل الماشية ومن التمرة لقيامه عليه، ولا يأكل من المال. وقال: ألا ترى أنه قال:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم"؟ 8635 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال سمعت داود، عن رُفيع أبي العالية قال: رُخّص لولي اليتيم أن يصيب من الرِّسل ويأكل من التمرة، وأما الذهب والفضة فلا بد أن تردّ. ثم قرأ:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم"،   (1) "منح الشاة والناقة يمنحها منحًا": أعارها من لا ناقة له، يأخذ من لبنها ويرعى عليها. ثم يردها عليه. و"أفقرت فلانًا بعيرًا" إذا أعرته بعيرًا يركب ظهره في سفره ثم يرده إليك، وهو من"فقار" الظهر، أي ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. (2) "لاطه الحوض يلوطه لوطًا": طلاه بالطين وملسه. انظر التعليق السالف ص: 588، رقم: 5. (3) في المخطوطة: "وتسعى عليها" وهو خطأ، ورواية الموطأ: "وتسقيها يوم وردها". (4) "نهكت الناقة حلبًا أنهكها"، إذا بالغت في حلبها ونقصها، فلم يبق في ضرعها لبن. و"الحلب" (بفتح الحاء واللام) و"الحلب" (بسكون اللام) و"الحلاب" مصدر"حلب الشاء والإبل والبقر يحلبها": إذا استخرج ما في ضرعها من اللبن. (5) الأثران: 8631، 8632- رواه مالك في الموطأ من طريق"يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد" كرواية الأثر الثاني هنا، مع اختلاف في بعض اللفظ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 93، ونسبه السيوطي في الدر المنثور 1: 122، إلى مالك، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس في ناسخه. (6) في المطبوعة: "والثمرة" بالثاء المثلثة، وأثبت ما في المخطوطة هنا، وستأتي بالمثلثة في المخطوطة في الآثار التالية، ولكن صوابها"بالتاء"، وانظر حجتنا في ذلك في الأثر رقم: 8636. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 589 ألا ترى أنه قال:"لا بد من أن يدفع"؟ (1) 8636 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه قال: إنما كانت أموالهم إذْ ذاك النخل والماشية، (2) فرخّص لهم إذا كان أحدهم محتاجًا أن يصيب من الرِّسْل. 8637 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: إذا كان فقيرًا أكل من التمر، (3) وشرب من اللبن، وأصاب من الرسل. 8638 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، ذكر لنا أن عَمَّ ثابت بن رفاعة =وثابت يومئذ يتيمٌ في حجره= من الأنصار، أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إن ابن أخي يتيمٌ في حجري، فما يحلُّ لي من ماله؟ قال: أن تأكل بالمعروف، من غير أن تقي مالك بماله، ولا تتخذ من ماله وَفْرًا. (4) وكان اليتيم يكون له الحائط من النخل، (5) فيقوم وليه على صلاحه وَسقيه، فيصيب من تمرته، (6) أو تكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها، أو يلي علاجها   (1) الأثر -8635-"رفيع بن مهران الرياحي"، "أبو العالية" مضى برقم: 44، 184 ومواضع غيرها، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"رفيع عن أبي العالية" بزيادة"عن" وهو خطأ محض. (2) في المطبوعة: "أدخال النخل والماشية"، وفي المخطوطة: "ادحال"، ولم أجد لشيء من ذلك معنى، مع تقليبها على أكثر وجوه التصحيف، ثم هديت إلى أن أرجح أن يكون صوابها ما أثبت، وكأن الناسخ رأي"ذال": "ذاك" متصلة بألفها فظنها"حاء"، فكتب"الكاف" المتطرفة "لامًا" والذي أثبته هو حاق السياق إن شاء الله. (3) في المطبوعة: "من الثمر" بالثاء المثلثة، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر التعليق السالف ص: 589، رقم: 6. (4) "وفر ماله وفرًا": حاطه حتى يكثر ويصير وافرًا، يعني: أن يتأثل مالا لنفسه ويجمعه من مال يتيمه. (5) "الحائط" البستان من النخل، إذا كان عليه حائط، وهو الجدار، فإذا لم يحيط فهو"ضاحية". (6) في المطبوعة: "ثمرته"، والصواب من المخطوطة، وانظر ص589 تعليق: 6 والتعليق السالف: 3. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 590 ومؤونتها، فيصيب من جُزَازها وَعوارضها ورِسْلها. (1) فأما رقاب المال وأصول المال، (2) فليس له أن يستهلكه. (3) 8639 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد ابن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، يعني ركوب الدابة وخدمة الخادم. فإن أخذ من ماله قرضًا في غنى، فعليه أن يؤديه، وليس له أن يأكل من ماله شيئا. * * * وقال آخرون منهم: له أن يأكل من جميع المال، إذا كان يلي ذلك، وإن أتى على المال، ولا قضاء عليه. * ذكر من قال ذلك: 8640 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل بن صبيح، عن أبي أوَيس، عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعًا، عن القاسم بن محمد قال: سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما يصلُح لوليّ اليتيم قال: إن كان غنيًّا فليستعفف، وإن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف. (4)   (1) الجزاز والجزازة (بضم الجيم) والجزز (بفتحتين) والجزة (بكسر الجيم وتشديد الزاي) ، وجمعها جزز (بكسر ففتح) : هو ما يجزه من صوف الشاة وغيرها. ورواية اللسان والفائق للزمخشري"جززها" جمع"جزة"."والعوارض" جمع عارضة، وهي الشاة أو البعير تصيبه آفة أو كسر أو داء فيذبحونها، ومن هجائهم: "بنو فلان لا يأكلون إلا العوارض"، أي: لا ينحرون الإبل إلا من داء يصيبها."والرسل" اللبن. (2) "رقاب المال" يعني من الأنعام، و"أصول المال" يعني من النخيل. (3) الأثر: 8638- ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"ثابت بن رفاعة"، ولم ينسبه لابن جرير، ونسبه لابن مندة، وابن فتحون، من طريق عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، وقال: "هذا مرسل، رجاله ثقات". (4) الأثر: 8640-"إسماعيل بن صبيح اليشكري" مضى برقم: 2996. و"أبو أويس" هو: "عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي"، ابن عم مالك وصهره على أخته، قال ابن معين: "صدوق، وليس بحجة". وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه، ولا يحتج به، وليس بالقوي". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "عن أبي إدريس"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 591 8641 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كان يقول: يحل لوليِّ الأمر ما يحلّ لولي اليتيم:" من كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف". 8642 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الفضل بن عطية، عن عطاء بن أبي رباح في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: إذا احتاج فليأكل بالمعروف، فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء عليه. 8643 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا ذكر الله تبارك وتعالى مال اليتامى فقال:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، ومعروفُ ذلك: أن يتقي الله في يتيمه. 8644 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى قضاءً على وليّ اليتيم إذا أكل وهو محتاجٌ. 8645 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم:"فليأكل بالمعروف"، في الوصي، قال: لا قضاء عليه. 8646 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: إذا عمل فيه وليُّ اليتيم أكل بالمعروف. 8647 - حدثنا بشر بن محمد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إذا احتاج أكل بالمعروف من المال طُعْمَةً من الله له. (1)   (1) "طعمة" (بضم فسكون) : رزق ومأكلة، يقال: "جعل السلطان ناحية كذا طعمة لفلان" أي: مأكلة يأكل منها كما يأكل من كسبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 592 8648 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن البصري قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في حجري يتيمًا، أفأضربه؟ قال: فيما كنت ضاربًا منه ولدك؟ قال: أفأصيب من ماله؟ قال: بالمعروف، غير متأثِّل مالا ولا واقٍ مالك بماله. (1) 8649 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن الزبير بن موسى، عن الحسن البصري، مثله. (2) 8650 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء أنه قال: يضع يده مع أيديهم فيأكل معهم، كقَدْر خدمته وقَدْرِ عمله. 8651 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: والي اليتيم، إذا كان محتاجًا، يأكل بالمعروف لقيامه بماله. 8652 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، وسألته عن قول الله تبارك وتعالى:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، قال: إن استغنى كفَّ، وإن كان فقيرًا أكل بالمعروف. قال: أكل بيده معهم، لِقيامه على أموالهم، وحفظه إياها، يأكل مما يأكلون منه. وإن استغنى كفَّ عنه ولم يأكل منه شيئًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال:"المعروف"   (1) "تأثل مالا": اتخذ أصل مال يجمعه ويثبته ويخزنه. (2) الأثر: 8649-"الزبير بن موسى بن ميناء المكي"، روى عن جابر، وسعيد بن جبير، وعمرو بن دينار، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم. روى عنه ابن جريج، والثوري، وابن أبي نجيح. مترجم في التهذيب. وأخشى أن يكون: "أخبرنا الثوري وابن أبي نجيح". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 593 الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه، على وجه الاستقراض منه= فأما على غير ذلك الوجه، فغير جائز له أكله. (1) وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته. فلما كان إجماعًا منهم أنه غير مالكه، (2) وكان غيرَ جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره، يتيمًا كان ربُّ المال أو مدركًا رشيدًا= وكان عليه إن تعدَّى فاستهلكه بأكل أو غيره، ضمانه لمن استهلكه عليه، بإجماع من الجميع= وكان والي اليتيم سبيلُه سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه = (3) كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه، سبيلُه سبيلُ غيره، وإن فارقه في أنّ له الاستقراضَ منه عند الحاجة إليه، كما له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه، إذا كان قيِّمًا بما فيه مصلحته. * * * ولا معنى لقول من قال:"إنما عنى بالمعروف في هذا الموضع، أكل والي اليتيم من مال اليتيم، لقيامه عليه على وجه الاعتياض على عَمله وسعيه". لأنّ لوالي اليتيم أن يؤاجر نفسه منه للقيام بأموره، إذا كان اليتيم محتاجًا إلى ذلك بأجرة معلومة، كما يستأجر له غيره من الأجَراء، وكما يشتري له مَن يعينه، (4) غنيًّا كان الوالي أو فقيرًا. وإذ كان ذلك كذلك= وكان الله تعالى ذكره قد دل بقوله:"ومن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"، على أن أكل مال اليتيم إنما أذن لمن أذن له من وُلاته في حال الفقر والحاجة= وكانت الحالُ التي للولاة   (1) في المخطوطة"له أكلها"، وهو من سهو الناسخ. (2) في المخطوطة: "إجماعًا منه"، وهو أيضًا من سهو الناسخ. (3) السياق: "فلما كان إجماعًا منهم ... كان كذلك حكمه ... " وما بينهما عطف وفصل. (4) في المطبوعة: "وكما يشتري له من نصيبه"، ولا معنى لذلك، وهي في المخطوطة غير بينة، واجتهدت قراءتها كما أثبتها، أي يشتري له رقيقًا يعينه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 594 أن يُؤجروا أنفسهم من الأيتام مع حاجة الأيتام إلى الأجراء، غير مخصوص بها حال غِنًى ولا حال فقر = (1) كان معلومًا أن المعنى الذي أبيح لهم من أموال أيتامهم في كل أحوالهم، غير المعنى الذي أبيح لهم ذلك فيه في حال دون حال. ومن أبى ما قلنا، ممن زعم أن لولي اليتيم أكل مال يتيمه عند حاجته إليه على غير وجه القرض، استدلالا بهذه الآية= قيل له: أمجمَعٌ على أن الذي قلت تأويل قوله:"ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف"؟ فإن قال: لا! قيل له: فما برهانك على أن ذلك تأويله، وقد علمت أنه غيرُ مالك مالَ يتيمه؟ فإن قال: لأن الله أذن له بأكله! قيل له: أذن له بأكله مطلقًا أم بشرط؟ (2) فإن قال: بشرطٍ، وهو أن يأكله بالمعروف. قيل له: وما ذلك"المعروف"؟ وقد علمت القائلين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن ذلك هو أكله قرضًا وسلَفًا؟ ويقال لهم أيضًا مع ذلك: أرأيت المولَّى عليهم في أموالهم من المجانين والمعاتيه، ألولاة أموالهم أن يأكلوا من أموالهم عند حاجتهم إليه على غير وجه القرض لا الاعتياض من قيامهم بها، كما قلتم ذلك في أموال اليتامى فأبحتموها لهم؟ فإن قالوا: ذلك لهم= خرجوا من قول جميع الحجة. وإن قالوا: ليس ذلك لهم. قيل لهم: فما الفرق بين أموالهم وأموال اليتامى، وحكمُ ولاتهم واحدٌ: في أنهم ولاة أموال غيرهم؟   (1) السياق: "وإذ كان ذلك كذلك ... كان معلومًا ... "، وما بينهما عطف وفصل. (2) في المخطوطة: " أذن له بأكله مطلقًا بشرط بشرط"، وهو سهو ناسخ، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 595 فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله. (1) ويُسألون كذلك عن المحجور عليه: هل لمن يلي ماله أن يأكل ماله عند حاجته إليه؟ نحو سؤالِنَاهُمْ عن أموال المجانين والمعاتيه. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا دفعتم، يا معشرَ ولاة أموال اليتامى، إلى اليتامى أموالهم="فأشهدوا عليهم"، يقول: فأشهدوا على الأيتام باستيفائهم ذلك منكم، ودفعكموه إليهم، كما:- 8653 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم"، يقول: إذا دفع إلى اليتيم ماله، فليدفعه إليه بالشهود، كما أمره الله تعالى. * * * القول في تأويل قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكفى بالله كافيًا من الشهود الذين يشهدهم والي اليتيم على دفعه مال يتيمه إليه، كما:- 8654 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكفى بالله حسيبًا"، يقول: شهيدًا. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فلن يقولوا في أحدهم"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 596 يقال منه:"قد أحسبني الذي عندي"، يراد به: كفاني. وسمع من العرب:"لأحْسِبَنَّكم من الأسودين"= يعني به: من الماء والتمر (1) ="والمُحْسِب" من الرجال: المرتفع الحسب،"والمُحْسَب"، المكفِيُّ. (2) * * *   (1) قيل في شرح هذه الكلمة: "أي: لأوسعن عليكم"، وهو بمعنى الكفاية. (2) وانظر تفسير"حسبه" فيما سلف 4: 244 / 7: 405. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 597 القول في تأويل قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: للذكور من أولاد الرجل الميِّت حصة من ميراثه، وللإناث منهم حصة منه، من قليل ما خلَّف بعده وكثيره، حصة مفروضة، (1) واجبةٌ معلومة مؤقتة. (2) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يُورِّثون الذكور دون الإناث، كما:- 8655 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانوا لا يورِّثون النساء، فنزلت:"وللنساء نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون".   (1) انظر تفسير"الفرض" فيما سلف 4: 121 / 5: 120. (2) موقتة: مقدرة محددة، وأصلها من"الوقت" ثم اتسع في استعمالها في كل محدود، ومنه حديث علي رضي الله عنه."فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها شيئًا"، أي: لم يفرض في شرب الخمر مقدارًا معينًا من الجلد. ومنه أخذ النحويون قولهم في العلم الشخصي الذي يعين مسماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد، مثل"زيد" هو: "معرفة موقتة"، وانظر شرح ذلك في 1: 181، تعليق: 1. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 597 8656 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: نزلت في أم كحلة وابنة كَحْلة، وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار. كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله، توفي زوجي وتركني وابنته، فلم نورَّث! فقال عم ولدها: يا رسول الله، لا تركب فرسًا، ولا تحمل كلا ولا تنكى عدوًّا، يكسب عليها ولا تكتسب! فنزلت:"للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا". (1) * * *   (1) الأثر: 8656- خرجه الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة"أم كجة"، والسيوطي في الدر المنثور 2: 122، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. أما الحافظ فذكر رواية الطبري وقال فيها: "نزلت في أم كجة، وبنت أم كجة، وثعلبة، وأوس بن ثابت" فخالف نص الطبري في هذا الموضع، في"أم كجة"، و"أوس بن ثابت" كما ترى. وكانت في المطبوعة: "أم كحة" وبنت كحة بالحاء المهملة، والصواب بضم الكاف وتشديد الجيم المفتوحة، كما ضبطها الحافظ في الإصابة. وأما السيوطي فقال: "نزلت في أم كلثوم وابنة أم كحلة، أو أم كحة"، بالحاء المهملة أيضًا وهو خطأ. وأما "أم كحلة" كما جاء في المخطوطة، وكما أثبتها، فقد قال الحافظ في الإصابة أيضًا: "وأما المرأة، فلم يختلف في أنها أم كجة -بضم الكاف وتشديد الجيم- إلا ما حكى أبو موسى عن المستغفري أنه قال فيها: أم كحلة -بسكون المهملة بعدها لام، وإلا ما تقدم من أنها بنت كجة، كما في روايتي ابن جريج، فيحتمل أن تكون كنيتها وافقت اسم أبيها، فيستفاد من رواية ابن جريج أنها أم كلثوم". وهذا كأنه ينفي أن تكون رواية الطبري: "أم كحلة"، ولكن المخطوطة أثبتت ذلك واضحًا في الموضعين، فلم أجد سبيلا إلى إغفالها أو تغييرها مع هذه الرواية التي رواها الحافظ عن المستغفري، وثبوتها أيضًا في نص السيوطي، فيما نقله عن الطبري، وابن أبي حاتم، وابن المنذر. وسيأتي ذكر أم كجة في الأثر رقم: 8725 وأنها امرأة عبد الرحمن أخو حسان بن ثابت، فانظر التعليق على الأثر هناك. وأما "أوس بن سويد" فكما رأيت، ذكره الحافظ منسوبًا إلى ابن جرير"أوس بن ثابت"، ولكن الثابت في أصول التفسير وما نقل عنه، "أوس بن سويد". وقد ترجم الحافظ لأوس بن ثابت الأنصاري وأوس بن سويد، ولثعلبة بن ثابت الأنصاري، وثعلبة بن سويد، وذكر الاختلاف في اسميهما في هذه القصة نفسها. وقد تركت نص الطبري كما هو، واكتفيت بإثبات الاختلاف الذي ذكر الحافظ ابن حجر،ومن شاء فليستوفه من هناك، ومن مظانه الأخرى. * * * وقوله: لا تحمل كلا": أي لا تلي أمر العيال والسعي عليهم."والكل": العيال،يحتاجون إلى من يحملهم ويرزقهم، كاليتيم وغيره. وقوله: "ولا تنكى عدوًا"، يقال منه: "نكيت العدو أنكى (بكسر الكاف) نكاية"، إذا أصاب منهم، فقتل وأكثر الجراح. ويقال فيه أيضًا: "ونكأت العدو" بالهمز، بمعناه. وكان في المطبوعة؛"ولا تنكأ" بالهمز، وأثبت ما في المخطوطة، وهما صواب جميعًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 598 8657 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون"، قال: كان النساء لا يورَّثن في الجاهلية من الآباء، (1) وكان الكبير يرث، ولا يرث الصغير وإن كان ذكرًا، فقال الله تبارك وتعالى:"للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون" إلى قوله:"نصيبًا مفروضًا". قال أبو جعفر: ونصب قوله:"نصيبًا مفروضًا"، وهو نعت للنكرة، لخروجه مخرجَ المصدر، كقول القائل:"لك عليّ حقّ واجبًا". ولو كان مكان قوله:"نصيبًا مفروضًا" اسم صحيح، لم يجز نصبه. لا يقال:"لك عندي حق درهمًا" فقوله:"نصيبًا مفروضًا"، كقوله: نصيبًا فريضة وفرضًا، كما يقال:"عندي درهم هبةً مقبوضة". (2) * * * تم الجزء السابع من تفسير الطبري ويليه الجزء الثامن، وأوّله   (1) في المطبوعة: "لا يرثن" غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 257، فهو كنص عبارته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 599 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (8) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو محكم أو منسوخ؟ فقال بعضهم: هو محكم. ذكر من قال ذلك: 8658 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، محكمة، وليست منسوخة = يعني قوله:"وإذا حضر القسمة أولوا القربى" الآية. 8659 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. (1) . 8660 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا هي محكمة. (2) . 8661 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، واجب، ما طابت به أنفس أهل الميراث.   (1) الأثر: 8659 - هذا الأثر ساقط من المطبوعة، وخلط بينه وبين الذي يليه. (2) الأثر 8660 - كان في المطبوعة: "حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان ... "، وضع"الأشجعي" من الإسناد السالف الذي أسقطه، مكان"ابن يمان" فأعدتها إلى الصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 8662 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين"، قال، هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. 8663- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا هي محكمة، ليست بمنسوخة. 8664 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن، عن سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، هي واجبة على أهل الميراث، ما طابت به أنفسهم. 8665 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: أنه سئل عن قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا" فقال سعيد: هذه الآية يتهاون بها الناس. قال، وهما وليَّان، أحدهما يرث، والآخر لا يرث. والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم = قال، يعطيهم = قال، والذي لا يرث هو الذي أمر أن يقول لهم قولا معروفا. وهي محكمة وليست بمنسوخة. 8666 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم بنحو ذلك = وقال، هي محكمة وليست بمنسوخة. 8667 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن مطرف، عن الحسن قال، هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحوا. 8668 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور والحسن قالا هي محكمة وليست بمنسوخة. 8669 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، هي قائمة يعمل بها. 8670 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"، ما طابت به الأنفس حقا واجبا. 8671 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن والزهري قالا في قوله:"وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه" قال، هي محكمة. 8672 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور، عن قتادة، عن يحيى بن يعمر قال، ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس: هذه الآية: وآية الاستئذان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [سورة النور: 58] ، وهذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) [سورة الحجرات: 13] . 8673 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان الحسن يقول: هي ثابتة. * * * وقال آخرون: منسوخة. ذكر من قال ذلك: 8674 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد أنه قال في هذه الآية:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين" قال، كانت هذه الآية قسمة قبل المواريث، فلما أنزل الله المواريث لأهلها، جعلت الوصية لذوي القرابة الذين يحزنون ولا يرثون. 8675 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا قرة بن خالد، عن قتادة قال، سألت سعيد بن المسيب عن هذه الآية:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين" قال، هي منسوخة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 8676 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث، فلما كانت الفرائض والمواريث نسخت. 8677 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال، نسختها آية الميراث. 8678 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك مثله. 8679 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى" الآية، إلى قوله:"قولا معروفًا"، وذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك الفرائض، فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سمَّى المتوفَّي. 8680 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال، نسختها المواريث. * * * وقال آخرون:"هي محكمة وليست بمنسوخة، غير أن معنى ذلك:"وإذا حضر القسمة"، يعني بها قسمة الميت ماله بوصيته لمن كان يوصي له به". قالوا: وأمر بأن يجعل وصيته في ماله لمن سماه الله تعالى في هذه الآية. ذكر من قال ذلك: 8681 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد: أن عبد الله بن عبد الرحمن قَسَم ميراث أبيه، وعائشة حية، فلم يدع في الدار أحدا إلا أعطاه، وتلا هذه الآية:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه". قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس فقال، ما أصاب، إنما هذه الوصية = يريد الميت، أن يوصي لقرابته. (1) . 8682 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني ابن أبي مليكة: أن القاسم بن محمد أخبره، أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم، فذكر نحوه. 8684 - حدثنا عمران بن موسى الصَّفَّار قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب في قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين" قال، أمر أن يوصي بثلثه في قرابته. (2) . 8684 - حدثنا ابن المبارك قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب قال، إنما ذلك عند الوصية في ثلثه. 8685 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"، قال، هي الوصية من الناس. 8686 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين" قال، القسمة الوصية، كان الرجل إذا أوصى قالوا:"فلان يقسم ماله". فقال،"ارزقوهم منه". يقول: أوصوا لهم. يقول للذي يوصي:"وقولوا لهم قولا معروفًا" فإن لم توصوا لهم، فقولوا لهم خيرا. * * *   (1) الأثر: 8681 -"سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي" مضت ترجمته في: 2225، وفي مواضع أخرى. وكان في المطبوعة: "يحيى بن سعيد الأموي"، قدم وأخر، والصواب من المخطوطة. و"عبد الله بن عبد الرحمن" هو: "عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق"، وهو ابن أخت أم سلمة، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) الأثر: 8683 -"عمران بن موسى الصفار"، مضت ترجمته برقم: 2154، ولكنه موصوف في التهذيب وابن أبي حاتم"القزاز". فهذا اختلاف ينبغي أن يقيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال،"هذه الآية محكمة غير منسوخة، وإنما عنى بها الوصية لأولي قربى الموصي = وعنى باليتامى والمساكين: أن يقال لهم قول معروف". وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة من غيره، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره، (1) أن شيئا من أحكام الله تبارك وتعالى التي أثبتها في كتابه أو بيَّنها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، غير جائز فيه أن يقال له ناسخ لحكم آخر، أو منسوخ بحكم آخر، (2) إلا والحكمان اللذان قضى لأحدهما بأنه ناسخ والآخر بأنه منسوخ = ناف كل واحد منهما صاحبه، غيرُ جائز اجتماع الحكم بهما في وقت واحد بوجه من الوجوه، وإن كان جائزًا صرفه إلى غير النسخ = أو تقولَ بأن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ، حجة يجب التسليم لها.   (1) انظر ما سلف 2: 471، 472، 482، 534، 535 / 3: 385، 563 / 4: 582 / 5: 414 / 6: 54، 118. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أو منسوخ لحكم" باللام، والصواب بالباء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 وإذْ كان ذلك كذلك، لما قد دللنا في غير موضع = وكان قوله تعالى ذكره:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"، محتملا أن يكون مرادا به: وإذا حضر قسمة مال قاسمٍ مالَه بوصيةٍ، أولو قرابته واليتامى والمساكين، فارزقوهم منه - يراد: فأوصوا لأولي قرابتكم الذين لا يرثونكم منه، وقولوا لليتامى والمساكين قولا معروفًا، كما قال في موضع آخر: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: 180] ، ولا يكون منسوخا بآية الميراث = (1) لم يكن لأحد صرفه إلى أنه منسوخ بآية الميراث، إذ كان لا دلالة على أنه منسوخ بها من كتاب أو سنة ثابتة، وهو محتمل من التأويل ما بينَّا. وإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله:"وإذا حضر القسمة"، قسمة الموصي ماله بالوصية، أولو قرابته ="واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"، يقول: فاقسموا لهم منه بالوصية، يعني: فأوصوا لأولي القربى من أموالكم ="وقولوا لهم"، يعني الآخرين، وهم اليتامى والمساكين ="قولا معروفًا"، يعني: يدعى لهم بخير، (2) كما قال ابن عباس وسائر من ذكرنا قوله قبلُ. * * * وأما الذين قالوا:"إنّ الآية منسوخة بآية المواريث"، والذين قالوا:"هي محكمة، والمأمور بها ورثة الميت" = فإنهم وَجّهوا قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"، يقول: فأعطوهم منه ="وقولوا لهم قولا معروفًا"، وقد ذكرنا بعضَ من قال ذلك، وسنذكر بقية من قال ذلك ممن لم نذكره: 8687 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين"، أمر الله جل ثناؤه المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يَصِلوا أرحامهم ويتاماهم من الوصية، إن كان أوصىَ، وإن لم تكن وصية، وصَل إليهم من مواريثهم. 8688 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا حضر القسمة أولو القربى" الآية، يعني: عند قسمة الميراث. 8689 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة: أن أباه أعطاهُ من ميراث المُصْعب، حين قسم ماله. 8690 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا   (1) السياق: "وإذ كان ذلك كذلك، لما قد دللنا في غير موضع ... لم يكن لأحد ... " وما بينهما عطف وفصل وبيان. (2) انظر تفسير"قول معروف" فيما سلف 7: 572، 573 تعليق: 2= ثم 582، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 عوف، عن ابن سيرين قال، كانوا يرضخون لهم عند القسمة. (1) . 8691 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن عن حِطَّان: أن أبا موسى أمر أن يُعْطَوا إذا حضر قسمة الميراث: أولو القربى واليتامى والمساكين والجيرانُ من الفقراء. 8692 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال، قسم أبو موسى بهذه الآية:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين". 8693 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد ويحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطّان، عن أبي موسى في هذه الآية:"وإذا حضر القسمة" الآية قال، قضى بها أبو موسى. 8694 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر في الميراث إذا قُسم قال، كانوا يعطون منه التابوت والشيء الذي يُستحيى من قسمته. (2) 8695 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن الحسن وسعيد بن جبير، كانا يقولان: ذاك عند قسمة الميراث. 8696 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي العالية والحسن قالا يرضخون ويقولون قولا معروفًا، في هذه الآية:"وإذا حضر القسمة". * * * ثم اختلف الذين قالوا:"هذه الآية محكمة، وأن القسمة لأولي القربى   (1) رضخ له من ماله رضيخة: أعطاه عطية مقاربة أو قليلة. (2) أشكل على قوله: "والتابوت" هنا، وما أراد به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث، إن كان بعض أهل الميراث صغيرًا فقسم عليه الميراث وليُّ ماله". فقال بعضهم: ليس لوليّ ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئًا، لأنه لا يملك من المال شيئا، ولكنه يقول لهم قولا معروفًا. قالوا: والذي أمرَه الله بأن يقول لهم معروفًا، هو ولي مال اليتيم إذا قسم مالَ اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم، إلا أن يكون ولي ماله أحد الورثة، فيعطيهم من نصيبه، ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم. قالوا: فأما من مال الصغير، فالذي يولَّى عليه ماله، لا يجوز لوليّ ماله أن يعطيهم منه شيئًا. ذكر من قال ذلك: 8697 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي سعيد قال، سألت سعيد بن جبير، عن هذه الآية:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه" قال، إن كان الميت أوصى لهم بشيء، أنفذت لهم وصيتهم، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم، وإن كانوا صغارًا قال وليهم: إني لست أملك هذا المال وليس لي، وإنما هو للصغار. فذلك قوله:"وقولوا لهم قولا معروفًا". 8698 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفًا" قال، هما وليان، وليٌّ يرث، وولي لا يرث. فأما الذي يرث فيعطَى، وأما الذي لا يرث فقولوا له قولا معروفًا. 8699 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثني داود، عن الحسن وسعيد بن جبير كانا يقولان: ذلك عند قسمة الميراث. إن كان الميراث لمن قد أدرك، فله أن يكسو منه وأن يطعم الفقراء والمساكين. وإن كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 الميراث ليتامى صغار، فيقول الولي:"إنه ليتامى صغار"، ويقول لهم قولا معروفًا. (1) 8700 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي سعد، عن سعيد بن جبير قال، إن كانوا كبارًا رضخوا، وإن كانوا صغارًا اعتذروا إليهم. (2) 8701 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سليمان الشيباني، عن عكرمة:"وإذا حضر القسمة أولو القربى" قال، كان ابن عباس يقول: إذا ولي شيئًا من ذلك، يرضخ لأقرباء الميت. وإن لم يفعل، اعتذر إليهم وقال لهم قولا معروفًا. 8702 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفًا"، هذه تكون على ثلاثة أوجه: أما وجْهٌ، فيوصي لهم وصية، (3) فيحضرون ويأخذون وصيتهم= وأما الثاني، فإنهم يحضرون فيقتسمون إذا كانوا رجالا فينبغي لهم أن يعطوهم = وأما الثالث، فتكون الورثة صغارًا، فيقوم وليّهم إذا قسم بينهم، فيقول للذين حضروا:"حقكم حق، وقرابتكم قرابة، ولو كان لي في الميراث نصيب لأعطيتكم، ولكنهم صغار، فإن يكبروا فسيعرفون   (1) الأثر: 8699 - في المطبوعة"حدثنا ابن داود"، وهو خطأ أوقعته فيه المخطوطة فإن كتب أولا"حدثنا" ثم ضرب على"ثنا" وكتب"ثني"، مكانها، فظنها القارئ"ابن" فكتب ما كتب. و"داوود" هو: "داود بن أبي هند"، وقد مضت ترجمته فيما سلف: 1608، وفي غيره من المواضع. (2) الأثر: 8700 - في المطبوعة: "عن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير" وأثبت ما في المخطوطة. و"أبو سعد"، هو: "أبو سعد الأرحبي الكوفي" قارئ الأزد، ويقال، "أبو سعيد" روى عنه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، مترجم في التهذيب. (3) في المطبوعة: "أما الأول، فيوصي لهم ... "، كأنه ظن عبارة الخبر خطأ، فغيرها لتطابق قوله بعد: "وأما الثاني"، والذي في المخطوطة صواب جدًا، ولا معنى لتغييره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 حقكم"، فهذا القول المعروف. (1) 8703 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رجل، عن سعيد أنه قال،"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفًا" قال، إذا كان الوارث عند القسمة، فكان الإناء والشيء الذي لا يستطاع أن يقسم، فليرضخ لهم. وإن كان الميراث لليتامى، فليقل لهم قولا معروفًا. * * * وقال آخرون منهم: ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لأولي القربى واليتامى والمساكين، فإن كان الورثة كبارًا تولَّوا عند القسمة إعطاءهم ذلك، وإن كانوا صغارًا تولّى إعطاء ذلك منهم وليُّ مالهم. ذكر من قال ذلك: 8704 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس في قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"، فحدث عن محمد، عن عبيدة: أنه وَلِي وصية، فأمر بشاة فذبحت وصنع طعامًا، لأجل هذه الآية، وقال، لولا هذه الآية لكان هذا من مالي = قال، وقال الحسن: لم تنسخ، كانوا يحضرون فيعطون الشيء والثوب الخلق = قال يونس: إن محمد بن سيرين ولي وصية - أو قال، أيتاما - فأمر بشاة فذبحت، فصنع طعامًا كما صنع عبيدة. 8705 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد: أن عبيدة قسم ميراث أيتام، فأمر بشاة فاشتريت من مالهم،   (1) الأثر: 8702 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثنا أحمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل"، وهو خطأ صوابه: "حدثنا محمد بن الحسين". وقد مضت ترجمته برقم: 7120. ومضى إسناده مئات من المرات على الصواب، أقربها رقم: 8654. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 وبطعام فصنع، وقال، لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي. ثم قرأ هذه الآية:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه"، الآية. * * * قال أبو جعفر: فكأن من ذهب من القائلين القولَ الذي ذكرناه عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ومن قال،"يرضخ عند قسمة الميراث لأولي القربى واليتامى والمساكين"، تأول قوله:"فارزقوهم منه"، فأعطوهم منه = وكأن الذين ذهبوا إلى ما قال عبيدة وابن سيرين، تأولوا قوله:"فارزقوهم منه"، فأطعموهم منه. * * * واختلفوا في تأويل قوله:"وقولوا لهم قولا معروفًا". فقال بعضهم: هو أمر من الله تعالى ذكره ولاةَ اليتامى أن يقولوا لأولي قرابتهم ولليتامى والمساكين إذا حضروا قسمتهم مالَ من وَلُوا عليه ماله من الأموال بينهم وبين شركائهم من الورثة فيها، أن يعتذروا إليهم، على نحو ما قد ذكرناه فيما مضى من الاعتذار، كما:- 8706 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير:"وقولوا لهم قولا معروفًا" قال، هو الذي لا يرث، أمر أن يقول لهم قولا معروفًا. قال يقول:"إن هذا المال لقوم غُيَّب، أو ليتامى صغار، ولكم فيه حق، ولسنا نملك أن نعطيكم منه شيئًا". قال، فهذا القول المعروف. * * * وقال آخرون: بل المأمور بالقول المعروف الذي أمر جل ثناؤه أن يقال له، هو الرجل الذي يوصي في ماله = و"القول المعروف"، هو الدعاء لهم بالرزق والغنى وما أشبه ذلك من قول الخير، وقد ذكرنا قائلي ذلك أيضًا فيما مضى. (1) . * * *   (1) في المطبوعة، زاد بعد قوله: "فيما مضى" ="بما أغنى عن إعادته"، كأنه استأنس بما أكثر أبو جعفر من تكرار مثل هذه الجملة، ولكنها ليست في المخطوطة، والكلام هنا غني عنها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (9) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم:"وليخش"، ليخف الذين يحضرون موصيًا يوصي في ماله أن يأمره بتفريق ماله وصيةً منه فيمن لا يرثه، (1) ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده، كما لو كان هو الموصي، يسره أن يحثَّه من يحضره على حفظ ماله لولده، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتيال. (2) . ذكر من قال ذلك: 8707 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم" إلى آخر الآية، فهذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله سبحانه الذي سمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يُصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيَّعة. 8708 - حدثنا علي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم"، يعني: الذي يحضره الموت فيقال له:"تصدق من مالك، وأعتق، وأعط منه في سبيل الله". فنهوا أن يأمروه بذلك = يعني أن من حضر   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وصية به"، والصواب ما أثبت. (2) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 1: 559، 560 / 2: 239، 243، تعليق: 3 = ثم انظر"الذرية" فيما سلف 3: 19، 73 / 5: 543 / 6: 327، 361، 362 = ثم تفسير"الضعفاء" و"الضعاف" 5: 543، 551، والأثر الآتي رقم: 8708. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق أو الصدقة أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يبيِّن ماله وما عليه من دين، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون، ويوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف = يعني صغار = أن يتركهم بغير مال، فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم، ولكن قولوا الحق من ذلك. 8709 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا"، قال يقول: من حضر ميتًا فليأمره بالعدل والإحسان، ولينهه عن الحَيْف والجور في وصيته، وليخش على عياله ما كان خائفًا على عياله لو نزل به الموت. 8710 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا" قال، إذا حضرتَ وصية ميت فمره بما كنت آمرًا نفسك بما تتقرَّب به إلى الله، وخَفْ في ذلك ما كنت خائفًا على ضَعَفَةٍ، لو تركتهم بعدك. (1) يقول: فاتّق الله وقل قولا سديدًا، إن هو زاغ. 8711 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا"، الرجل يحضره الموت، فيحضره القوم عند الوصية، فلا ينبغي لهم أن يقولوا له:"أوصِ بمالك كله، وقدم لنفسك، فإن الله سيرزق عيالك"، ولا يتركوه يوصي بماله كله، يقول للذين حضروا:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم"، فيقول: كما   (1) في المطبوعة: "على ضعفتك"، زاد إضافة الكاف، وما في المخطوطة صواب محض، وعنى بقوله"ضعفة": صغار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 يخاف أحدكم على عياله لو مات - إذ يتركهم صغارًا ضعافًا لا شيء لهم - الضيعة بعده، (1) فليخف ذلك على عيال أخيه المسلم، فيقول له القول السديد. 8712 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب قال، ذهبت أنا والحكم بن عتيبَة إلى سعيد بن جبير، فسألناه عن قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا" الآية، قال قال، الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره:"اتق الله، صلهم، أعطهم، بِرَّهم"، ولو كانوا هم الذين يأمرهم بالوصية، لأحبوا أن يُبقوا لأولادهم. (2) 8713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير في قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا" قال، يحضرهم اليتامى فيقولون:"اتق الله، وصلهم، وأعطهم"، فلو كانوا هم، لأحبُّوا أن يبقوا لأولادهم. 8714 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا"، الآية، يقول: إذا حضر أحدكم من حضره الموتُ عند وصيته، فلا يقل:"أعتق من مالك، وتصدق"، فيفرِّق ماله ويدع أهله عُيَّلا (3) ولكن مروه فليكتب ماله من دين وما عليه، ويجعل من ماله لذوي قرابته خمس ماله، ويدع سائره لورثته. 8715 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وليخش الذين لو تركوا   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يتركهم صغارًا ... "، وهذا لا يستقيم، فآثرت"إذ يتركهم"، وصواب أيضًا أن تكون"إن تركهم صغارًا". (2) الأثر: 8712 -"الحكم بين عتيبة الكندي"، مضت ترجمته برقم: 3297، وكان في المطبوعة: "بن عيينة" وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. وانظر التعليق على الأثر: 8716. (3) "عيل" (بضم العين وتشديد الياء المفتوحة) و"عالة" جمع"عائل": وهو الفقير المحتاج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم" الآية قال، هذا يفرِّق المال حين يقسم، فيقول الذين يحضرون:"أقللت، زد فلانًا"، فيقول الله تعالى:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم"، فليخش أولئك، وليقولوا فيهم مثل ما يحب أحدهم أن يقال في ولده بالعَدل إذا أكثر:"أبق على ولدك". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وليخش الذين يحضرون الموصي وهو يوصي = الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا فخافوا عليهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم = أن ينهوه عن الوصية لأقربائه، وأن يأمروه بإمساك ماله والتحفظ به لولده، وهم لو كانوا من أقرباء الموصي، لسرَّهم أن يوصي لهم. ذكر من قال ذلك: 8716 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب قال، ذهبت أنا والحكم بن عتيبة، فأتينا مِقْسَمًا فسألناه = يعني عن قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا" الآية = فقال، ما قال سعيد بن جبير؟ فقلنا: كذا وكذا. فقال، ولكنه الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره:"اتق الله وأمسك عليك مالك، فليس أحد أحقَّ بمالك من ولدك"، ولو كان الذي يوصي ذا قرابة لهم، لأحبوا أن يوصي لهم. (1) 8717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت قال، قال مِقسم: هم الذين يقولون:"اتق الله وأمسك عليك مالك"، فلو كان ذا قرابة لهم لأحبوا أن يوصي لهم. 8718 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن   (1) الأثر: 8716 -"مقسم"، هو"مقسم بن بجرة". مضت ترجمته رقم: 4806. وكان في هذا الموضع أيضًا من المطبوعة"الحكم بن عيينة"، والصواب كما أثبت، وانظر التعليق على الأثر: 8712. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 أبيه قال، زعم حضرمي وقرأ:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا"، قال قالوا: حقيقٌ أن يأمر صاحب الوصية بالوصية لأهلها، كما أن لو كانت ذرية نفسه بتلك المنزلة، لأحب أن يوصي لهم، وإن كان هو الوارث، فلا يمنعه ذلك أن يأمره بالذي يحق عليه، فإن ولده لو كانوا بتلك المنزلة أحب أن يُحَثَّ عليه، فليتق الله هو، فليأمره بالوصية، وإن كان هو الوارث، أو نحوًا من ذلك. (1) . * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك، أمرٌ من الله ولاةَ اليتامى أن يلُوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم، ولا يأكلوا أموالهم إسرافًا وبدارًا أن يكبروا، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصِّغار بعدهم لهم بالإحسان إليهم، لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارًا.   (1) في المخطوطة: "فليق الله هو قلت أمره بالوصية"، وهو كلام غير مفهوم، ولم أهتد لصحة وجهه، فتركت ما في المطبوعة على حاله، وإن كانت الجملة كلها عندي غير مرضية في المخطوطة والمطبوعة جميعًا، وأخشى أن يكون سقط منها شيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 ذكر من قال ذلك: 8719 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم"، يعني بذلك الرجلَ يموت وله أولاد صغارٌ ضعاف، يخاف عليهم العَيْلة والضيعة، ويخاف بعده أن لا يحسن إليه من يليهم، يقول: فإن ولي مثل ذريته ضعافًا يتامى، فليحسن إليهم، ولا يأكل أموالهم إسرافًا وبدارًا خشية أن يكبروا، فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا"، يكفهم الله أمر ذريتهم بعدهم. ذكر من قال ذلك: 8720 - حدثنا إبراهيم بن عطية بن رديح بن عطية قال، حدثني عمي محمد بن رُدَيح، عن أبيه، عن السَّيْباني قال، كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك، وفينا ابن محيريز وابن الديلمي، وهانئ بن كلثوم قال، فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان. قال، فضقت ذرعًا بما سمعت. قال، فقلت لابن الدَّيلمي: يا أبا بشر، بودِّي أنه لا يولد لي ولدٌ أبدًا! قال، فضرب بيده على مَنْكبي وقال، يا ابن أخي، لا تفعل، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء، وإن أبى. قال، ألا أدلّك على أمرٍ إنْ أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم اللهُ فيك؟ قال، قلت: بلى! قال، فتلا عند ذلك هذه الآية:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا". (1) .   (1) الأثر: 8720 -"إبراهيم بن عطية بن رديح بن عطية" لم أجد له ترجمة. و"محمد بن رديح" لم أجد له ترجمة، ولكنه مذكور في ترجمة أبيه في التهذيب أنه روى عنه ابنه"محمد". وأما "رديح بن عطية القرشي السامي"، مؤذن بيت المقدس روى عن السيباني، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 306، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 518. وكان في المطبوعة"دريج" في الموضعين جميعًا وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. وأما "السيباني" فهو: "يحيى بن أبي عمرو السيباني" بالسين المهملة، نسبة إلى"سيبان" وهو بطن من حمير. وهو ابن عم الأوزاعي. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "الشيباني" بالشين المعجمة، والصواب ما في المخطوطة. وأما "ابن محيريز"، فهو: "عبد الله بن محيريز الجمحي" سكن بيت المقدس، روى عن أبي سعيد الخدري، ومعاوية وعبادة بن الصامت وغيرهم من الصحابة. وكان الأوزاعي لا يذكر خمسة من السلف إلا ذكر فيهم ابن محيريز، ورفع من ذكره وفضله. وهو تابعي ثقة من خيار المسلمين. وأما "ابن الديلمي"، فهو"عبد الله بن فيروز الديلمي" أبو بشر، ويقال، أبو بسر، بالسين المهملة، كان يسكن بيت المقدس، روى عن جماعة من الصحابة، روى عنه يحيى بن أبي عمر السيباني. وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. وأما "هانئ بن كلثوم بن عبد الله بن شريك الكناني" فهو من فلسطين، وكان عابدًا روى عن عمر بن الخطاب، ومعاوية وغيرهما. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان عطاء الخراساني إذا ذكر ابن محيريز وهانئ بن كلثوم وغيرهم قال، "قد كان في هؤلاء من هو أشد اجتهادًا من هانئ بن كلثوم، لكنه كان يفضلهم بحسن الخلق". وبعث إليه عمر بن عبد العزيز يستخلفه على فلسطين، فأبى، ومات في ولايته فقال، "عند الله أحتسب صحبة هانئ الجيش". هذا وقد كان في المطبوعة: "يودني أنه لا يولد لي ولد أبدًا"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية، قول من قال، تأويل ذلك: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم العَيْلة لو كانوا فرقوا أموالهم في حياتهم، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليُتم والمسكنة، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العَيْلة عليهم بعدهم، مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب، فليأمروا من حضروه وهو يوصي لذوي قرابته - وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك - بماله بالعدل = وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا، وهو أن يعرّفوه ما أباح الله له من الوصية، وما اختاره للموصين من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته. (1) . * * * وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية أولى من غيره من التأويلات، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل: (2) من أن معنى قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فأوصوا لهم - بما قد دللنا عليه من الأدلة. * * * فإذا كان ذلك تأويل قوله:"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين" الآية، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم"، تأديبًا منه عبادَه في أمر الوصية بما أذِنهم فيه، إذ كان ذلك عَقِيب الآية التي قبلها في حكم الوصية، وكان أظهرَ معانيه ما قلنا، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى، مع اشتباه معانيهما، من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه. * * *   (1) في المطبوعة: "وما اختاره المؤمنون ... " وهو اجتهاد في تصحيح ما كان في المخطوطة، وكان فيها: "وما اختاره المؤمنين ... "، والسياق يقتضي"للموصين" كما أثبتها، وهي قريبة في التصحيف. (2) انظر ما سلف: 12 وما بعدها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 وبمعنى ما قلنا في تأويل قوله:"وليقولوا قولا سديدًا"، قال من ذكرنا قوله في مبتدأ تأويل هذه الآية، وبه كان ابن زيد يقول. 8721 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا" قال، يقول قولا سديدًا، يذكر هذا المسكين وينفعه، ولا يجحف بهذا اليتيم وارث المؤدِّي ولا يُضِرّ به، لأنه صغير لا يدفع عن نفسه، فانظر له كما تنظر إلى ولدك لو كانوا صغارًا. * * * و"السديد" من الكلام، هو العدل والصواب. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا"، يقول: بغير حق، ="إنما يأكلون في بطونهم نارًا" يوم القيامة، بأكلهم أموال اليتامى ظلمًا في الدنيا، نارَ جهنم (2) ="وسيصلون" بأكلهم ="سعيرًا"، كما: - 8722 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا" قال، إذا قام الرجل يأكل مال اليتيم ظلمًا، يُبعث يوم القيامة ولهبُ النار يخرج من فيه ومن مسامعه ومن أذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم. (3)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك ... " والسياق يقتضي ما أثبت. (2) في المخطوطة: "وإن جهنم"، وهو فاسد جدًا، والذي في المطبوعة، قريب من الصواب. (3) في المطبوعة: "يأكل مال اليتيم" بالياء، وفي المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بالباء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 8723 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال، حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال، نظرت فإذا أنا بقوم لهم مَشافر كمشافر الإبل، وقد وُكِّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرًا من نار يخرج من أسافلهم، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال، هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا". (1) . 8724 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرًا" قال، قال أبي: إن هذه لأهل الشرك، حين كانوا لا يورَّثونهم، ويأكلون أموالهم. * * * وأما قوله:"وسيصلون سعيرًا"، فإنه مأخوذ من"الصَّلا" و"الصلا" الاصطلاء بالنار، وذلك التسخن بها، كما قال الفرزدق: (2) وَقَاتَلَ كَلْبُ الْحَيِّ عَنْ نَارِ أهْلِهِ ... لِيَرْبِضَ فِيهَا وَالصَّلا مُتَكنَّفُ (3)   (1) الأثر: 8723 -"أبو هارون العبدي" هو: "عمارة بن جوين". روى عن أبي سعيد الخدري وابن عمر. وهو ضعيف، وقالوا: كذاب. قال الدارقطني: "يتلون، خارجي وشيعي" وقال ابن حبان: "كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب". مترجم في التهذيب. والأثر أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 360، والسيوطي في الدر المنثور 2: 124 ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم. (2) في اللسان"صلا" 19: 201، 202، منسوبًا لامرئ القيس، وهو خطأ يصحح. (3) ديوانه: 560، النقائض: 561، اللسان (صلا) ، ومضى بيت من هذه القصيدة فيما سلف 3: 540. وهذا البيت من أبيات يصف فيها أيام البرد والجدب، ويمدح قومه، يقول في أولها: إذَا اغْبَرَّ آفَاقُ السَّمَاء وَكَشَّفَتْ ... كُسُورَ بُيُوتِ الْحَيِّ حَمْرَاءُ حَرْجَفُ وَأَوْقَدَتِ الشِّعْرَى مَعَ اللَّيْلِ نَارَهَا ... وَأَمْسَتْ مُحُولا جِلْدُهَا يَتَوَسَّفُ وَأَصْبَحَ مَوْضُوعُ الصَّقِيع كَأَنَّهُ ... عَلَى سَرَوَاتِ النِّيْبِ قُطْنٌ مٌنَدَّفُ وَقَاتَلَ كَلْبُ الْحَيِّ ........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَجَدْتَ الثَّرى فِينَا، إذَا يَبِسَ الثَّرَى ... وَمَنْ هُوَ يَرْجُو فَضْلَهُ الْمُتَضَيِّفُ و"إذا اغبر آفاق السماء"، جف الثرى، وثار غبار الأرض من المحل وقلة المطر. والحرجف: الريح الشديدة الهبوب. و"الشعرى" تطلع في أول الشتاء، و"أوقدت نارها" اشتد ضوءها، وذلك إيذان بشدة البرد. ومحول جمع محل: وهو المجدب. و"يتوسف" يتقشر. و"جلدها" يعني جلد السماء، وهو السحاب. يقول: لا سحاب فيها، وذلك أشد للبرد في ليل الصحراء. و"الصقيع" الجليد، و"النيب" مسان الإبل. و"سروات الإبل" أسنمتها. يقول: وقع الثلج على أسنمتها كأنه قطن مندوف. و"قاتل كلب الحي عن نار أهله"، يقاتلهم على النار مزاحمًا لهم من شدة البرد، يريد أن يجثم في مكان، و"الصلا" النار، و"متكنف" قد اجتمعوا عليه وقعدوا حوله. وقوله: "وجدت الثرى فينا"، يقول: من نزل بنا وجد خصبًا وكرمًا في هذا الزمان الجدب، إذ ذهبت ألبان الإبل واحترق الزرع. يقول: يجد الضيف عندنا ما يكفيه، فنحن غياث له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 وكما قال العجاج: وَصَالِيَاتٌ لِلصَّلا صُلِيُّ (1) ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرًا من الأمور، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك، كما قال الشاعر: (2)   (1) ديوانه: 67، من أرجوزته المشهورة، يقول في أولها: بَكَيْتُ وَالْمُحْنَزِنُ البَكِيُّ ... وإنِّما يَأْتِي الصِّبا الصَّبِيُّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . مِنْ أنْ شَجَاكَ طَلَلٌ عَامِيُّ ... قِدْمًا يُرى مِنْ عَهْدِه الكِرْسِيُّ مُحْرَنْجَمُ الجامِلِ والنُّؤِيُّ ... وصَالِيات. . . . . . . . . . . وكان في المطبوعة: "وصاليان"، وهو خطأ. والصواب من المخطوطة والديوان. و"الصاليات" يعني: الأثافي التي توضع عليها القدور. و"الصلا" الوقود، و"صلى" (بضم الصاد وكسر اللام وتشديد الياء) جمع صال، من قولهم"صلى، واصطلى" إذا لزم موضعه، يقول: هي ثوابت خوالد قد لزمت موضعها. (2) هو الحارث بن عباد البكري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا، عَلِمَ اللهُ ... وَإِنِّي بِحَرِّهَا اليَوْمَ صَالِي (1) فجعل ما باشر من شدة الحرب وأذى القتال، (2) بمنزلة مباشرة أذى النار وحرِّها. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة المدينة والعراق: (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) بفتح"الياء" على التأويل الذي قلناه. (3) . * * * وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض الكوفيين:"وَسَيُصْلَوْنَ" بضم"الياء" بمعنى: يحرقون. = من قولهم:"شاة مَصْلية"، يعني: مشوية. * * * قال أبو جعفر: والفتح بذلك أولى من الضم، لإجماع جميع القرأة على فتح"الياء" في قوله: (لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى) [سورة الليل: 15] ، ولدلالة قوله: (إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ) [سورة الصافات: 163] ، على أن الفتح بها أولى من الضم.   (1) الفاخر للمفضل بن سلمة: 78، والخزانة 1: 226، وسائر كتب التاريخ والأدب، من أبياته المشهورة في حرب البسوس، وكان اعتزلها، ثم خاضها حين أرسل ولده بجيرًا إلى مهلهل فقتله مهلهل، فقال، قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عَنْ حِيَالِ لَمْ أَكُنْ مِنْ جُناتِهَا .... ... لا بُجَيْرٌ أَغْنَى فَتِيلا، وَلا رَهْطُ كُلَيْبٌ تَزَاجَرُوا عَنْ ضَلالِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان في المطبوعة: "لحرها"، أساء قراءة ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "وإجراء القتال"، وهو قراءة رديئة لما في المخطوطة، ولا معنى له. وفي المخطوطة: "وأحرى القتال"، ورجحت صواب قراءتها كما أثبته. (3) في المطبوعة: "قلنا" بحذف الهاء، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 وأما"السعير": فإنه شدة حر جهنم، ومنه قيل:"استعرت الحرب" إذا اشتدت، وإنما هو"مَسعور"، ثم صرف إلى"سعير"، كما قيل: (1) "كفّ خَضِيب"، و"لِحية دهين"، وإنما هي"مخضوبة"، صرفت إلى"فعيل". * * * فتأويل الكلام إذًا: وسيصلون نارًا مسعَّرة، أي: موقودة مشعلة شديدًا حرُّها. وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك، لأن الله جل ثناؤه قال، (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) ، [سورة التكوير: 12] ، فوصفها بأنها مسعورة. ثم أخبر جل ثناؤه أن أكلة أموال اليتامى يصلونها وهي كذلك. ف"السعير" إذًا في هذا الموضع، صفة للجحيم على ما وصفنا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يوصيكم الله"، يعهد الله إليكم، (2) ="في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، يقول: يعهد إليكم ربكم إذا مات الميت منكم وخلَّف أولادًا ذكورًا وإناثًا، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بينهم، للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، إذا لم يكن له وارث غيرهم، سواء فيه صغار ولده وكبارهم وإناثهم، (3) في أن جميع ذلك بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.   (1) في المطبوعة: "قيل"، بإسقاط"كما"، والصواب من المخطوطة، ولكن الكاتب أساء الكتابة. فحذفها الناشر الأول. (2) انظر تفسير"أوصى" فيما سلف 3: 94، 405. (3) في المخطوطة: "وكباره"، وما في المطبوعة أجود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 ورفع قوله:"مثل" بالصفة، (1) وهي"اللام" التي في قوله:"للذكر"، ولم ينصب بقوله:"يوصيكم الله"، لأن"الوصية" في هذا الموضع عهد وإعلامٌ بمعنى القول، و"القول" لا يقع على الأسماء المخبر عنها. (2) فكأنه قيل: يقول الله تعالى ذكره لكم: في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين. * * * قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، تبيينًا من الله الواجبَ من الحكم في ميراث من مات وخلّف ورثة، على ما بيَّن. لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده، ممن كان لا يلاقي العدوَّ ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده، ولا للنساء منهم. وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية. فأخبر الله جل ثناؤه أن ما خلفه الميت بين من سَمَّى وفرض له ميراثًا في هذه الآية، وفي آخر هذه السورة، فقال في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم: لهم ميراث أبيهم، إذا لم يكن له وارث غيرهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. ذكر من قال ذلك: 8725 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثلُ حظ الأنثيين"، كان أهل الجاهلية لا يورِّثون الجواريَ ولا الصغارَ من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها أم كجَّة، وترك خمس أخواتٍ، فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كجَّة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية:   (1) "الصفة"، هي حرف الجر، وانظر ما سلف 1: 299، تعليق: 1، وفهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة. (2) "الوقوع"، هو التعدي إلى المفعول، كما سلف 4: 293، تعليق: 1، وفهارس المصطلحات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 "فإن كُنَّ نساء فوق اثنتين فلهن ثُلُثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف" = ثم قال في أم كجة:"ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن". (1) 8726 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا:"تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة!! اسكتوا عن هذا الحديث لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغيِّره". فقال بعضهم: يا رسول الله، أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبيَّ الميراث وليس يغني شيئًا؟! = وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا من قاتل، يعطونه الأكبر فالأكبر. (2) * * * وقال آخرون: بل نزل ذلك من أجل أنّ المال كان للولد قبل نزوله، وللوالدين الوصية، فنسخ الله تبارك وتعالى ذلك بهذه الآية. ذكر من قال ذلك: 8727 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أو عطاء، عن ابن عباس في قوله:"يوصيكم   (1) الأثر: 8725 -"أم كجة"، انظر ما سلف في التعليق على الأثر: 8656، وخبرها هناك. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أم كحة" بالحاء. أما "عبد الرحمن أخو حسان الشاعر"، فإنه يعني: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، وساق أثر السدي، ثم قال، "قلت: ولم أره لغيره، ولا ذكر أهل النسب لحسان أخًا اسمه عبد الرحمن". (2) في المطبوعة: "ويعطونه الأكبر" بزيادة واو لا محل لها، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 الله في أولادكم" قال، كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحبَّ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد، وللزوج الشطر والربع، وللزوجة الربع والثمن. (1) 8728 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" قال، كان ابن عباس يقول: كان المال، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسح الله تبارك وتعالى من ذلك ما أحبّ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم ذكر نحوه. 8729 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد عن ابن عباس مثله. وروي عن جابر بن عبد الله ما: - * * * 8730- حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر قال، سمعت جابر بن عبد الله قال، دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض، فتوضأ ونضَح عليّ من وَضوئه، فأفقتُ فقلت: يا رسول الله، إنما يرثني كَلالةٌ، فكيف بالميراث؟ فنزلت آية الفرائض. (2)   (1) الأثر: 8727 - رواه البخاري من طريق محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس. (الفتح 8: 184، 12: 19) . (2) الحديث: 8730 - رواه البخاري 1: 261 (فتح) ، من طريق شعبة، به. وسيأتي عقب هذا ما رواية ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر. وكذلك رواه البخاري 8: 182، من طريق ابن جريج، ورواه البخاري أيضًا 10: 98، و 12: 2- من رواية سفيان، عن محمد بن المنكدر. وذكره ابن كثير 2: 362، من رواية البخاري - من طريق ابن جريج - ثم قال، "كذا رواه مسلم، والنسائي، من حديث حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، به. ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر". وذكره السيوطي 2: 124-125، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 8731 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر قال، عادَني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في بني سَلمة يمشيان، فوجداني لا أعقِل، فدعا بماءٍ فتوضأ ثم رشَّ عليّ، فأفقتُ فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي؟ فنزلت"يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين". ... (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"فإن كن"، فإن كان المتروكات ="نساء فوق اثنتين"، ويعني بقوله:"نساءً"، بنات الميت،"فوق اثنتين"، يقول: أكثر في العدد من اثنتين ="فلهن ثلثا ما ترك"، يقول: فلبناته الثلثان مما ترك بعده من ميراثه، دون سائر ورثته، إذا لم يكن الميت خلّف ولدًا ذكرًا معهن. واختلف أهل العربية في المعنى بقوله:"فإن كنّ نساء". * * * فقال بعض نحوييّ البصرة بنحو الذي قلنا: فإن كان المتروكات نساء = وهو أيضًا قول بعض نحوييّ الكوفة. * * *   (1) الحديث: 8731 - هو مكرر الحديث قبله، كما أشرنا إليه. وفي المطبوعة"فدعا بوضوء فتوضأ". وفي المخطوطة"فدعا فتوضأ". والذي في البخاري - من هذا الوجه -"فدعا بماء". فالراجح أنها كانت كذلك عن الطبري، وسقطت من الناسخ سهوًا كلمة"بماء"، اشتبه عليه الحرفان الأخيران من"فدعا"، بكلمة"بما" لأنهم في الأكثر لا يثبتون الهمزة = فسقطت الكلمة منه. وفي المطبوعة لم تكمل الآية بعد"في أولادكم"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك، فإن كان الأولاد نساء، وقال، إنما ذكر الله الأولاد فقال،"يوصيكم الله في أولادكم"، ثم قسمَ الوصية فقال،"فإن كنّ نساء"، وإن كان الأولاد [نساءً، وإن كان الأولاد واحدة] ، (1) ترجمة منه بذلك عن"الأولاد". * * * قال أبو جعفر: والقول الأول الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريين، أولى بالصواب في ذلك عندي. لأن قوله:"وإن كُنّ"، لو كان معنيًّا به"الأولاد" لقيل:"وإن كانوا"، لأن"الأولاد" تجمع الذكور والإناث. وإذا كان كذلك، فإنما يقال،"كانوا"، لا"كُنّ". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وإن كانت"، [وإن كانت] المتروكة ابنة واحدة (2) ="فلها النصف"، يقول: فلتلك الواحدة نصف ما ترك الميت من ميراثه، إذا لم يكن معها غيرها من ولد الميت ذكرٌ ولا أنثى. * * *   (1) في المطبوعة: "وإن كان الأولاد واحدة، ترجمة منه ... "، وفي المخطوطة: "وإن كان الأولاد واحده"، ولم أجد لكليهما معنى، فرجحت نصها كما أثبته بين القوسين، استظهارًا من معنى هذه الآية كما ذكره آنفًا في صدر الكلام، ورجحت أن قوله: "واحدة" مجلوبة من الآية التي تليها"وإن كانت واحدة"، وفسرها كذلك، وساقها قبل مجيئها. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن كانت المتروكة ابنة واحدة"، وهو لا يستقيم، فرجحت زيادة ما زدته بين القوسين، على سياقه في تفسير أخواتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 فإن قال قائل: فهذا فرضُ الواحدة من النساء وما فوق الاثنتين، فأين فريضة الاثنتين؟ قيل: فريضتهم بالسنة المنقولة نقل الوراثة التي لا يجوز فيها الشك. (1) * * * وأما قوله:"ولأبويه"، فإنه يعني: ولأبوي الميت ="لكل واحد منهما السدس"، من تَرِكته وما خلَّف من ماله، سواءٌ فيه الوالدة والوالد، لا يزداد واحد منهما على السدس ="إن كان له ولد"، ذكرًا كان الولد أو أنثى، واحدًا كان أو جماعة. * * * فإن قال قائل: فإن كان كذلك التأويل، (2) فقد يجب أن لا يزاد الوالدُ مع الابنة الواحدة على السدس من ميراثه عن ولده الميت. وذلك إن قلته، قولٌ خلاف لما عليه الأمة مجمعة، (3) من تصييرهم باقي تركة الميت = مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها = لوالده أجمع! قيل: ليس الأمر في ذلك كالذي ظننتَ، وإنما لكل واحد من أبوي الميت السدس من تركته مع ولده، ذكرًا كان الولد أو أنثى، واحدًا كان أو جماعة، فريضة من الله له مسماة. فإمَّا زيد على ذلك من بقية النصف مع الابنة الواحدة   (1) كأنه يعني بذلك حديث جابر بن عبد الله، في خبر موت سعد بن الربيع، وإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتيه الثلثين (السنن الكبرى للبيهقي 6: 229) ، وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق = وخبر زيد بن ثابت: "إذا ترك رجل وامرأة بنتًا، فلها النصف، وإن كانتا اثنتين أو أكثر، فلهن الثلثان ... "، أخرجه البخاري (الفتح 12: 8) . هذا، وعجيب أن يترك أبو جعفر سياق الآثار لحجته في هذا الموضع، فأخشى أن يكون قد سقط من النساخ الأوائل شيء من كتابه = أو أن يكون هو قد أراد أن يسوق الآثار، ثم غفل عنها، وبقيت النسخ بعده ناقصة من دليل احتجاجه. وهذه أول مرة يخالف فيها أبو جعفر نهجه في تأليف هذا التفسير. (2) في المطبوعة: "فإذ كان كذلك"، والجيد ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "مجمعون"، وكذلك كان في المخطوطة، إلا أن الناسخ عاد فضرب على النون، وجعل الواو"تاء" مربوطة منقوطة، وتبع الناشر الأول خطأ الناسخ، وأغفل تصحيحه!! فرددته إلى الصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 إذا لم يكن غيره وغير ابنة للميت واحدة، (1) فإنما زيدها ثانيًا بقرب عصبة الميت إليه، (2) إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض، فلأولي عصبَة الميت وأقربهم إليه، بحكم ذلك لها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) وكان الأب أقرب عصبَة ابنه وأولاها به، إذا لم يكن لابنه الميت ابن. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُث} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن لم يكن له"، فإن لم يكن للميت ="ولد" ذكر ولا أنثى ="وورثه أبواه"، دون غيرهما من ولد وارث ="فلأمه الثلث"، يقول: فلأمه من تركته وما خلف بعده، ثلث جميع ذلك. * * * فإن قال قائل: فمن الذي له الثلثان الآخران. قيل له الأب. فإن قال، بماذا؟ (4)   (1) في المطبوعة: "فإن زيد على ذلك من بقية النصف"، وأثبت ما كان في المخطوطة، وهو صواب جيد. (2) في المطبوعة: "لقرب عصبة الميت" وفي المخطوطة"قرب"، وأجودهما ما أثبت. (3) يعني بذلك ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، "أًلْحِقوا الفرائضً بِأَهْلِهَا، فما بَقي فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذكر" (الفتح 2: 8، 9 / السنن الكبرى 6: 234) ، ويروى"لأدنى رجل"، ومعناه: لأقرب رجل من العصبة. وهذا أيضًا غريب من أبي جعفر في ترك ذكر حجته من الحديث، كشأنه في جميع ما سلف، وانظر ص: 36، تعليق: 1، وكأنه كان يختصر في هذا الموضع، وترك ذكر حجته؛ لأنه لا بد أن يكون قد استوفاها في موضعها من كتبه الأخرى. (4) في المطبوعة: "فإن قال قائل: بماذا"، و"قائل" زيادة لا شك فيها، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 قلت: بأنه أقرب أهل الميت إليه، (1) ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان الباقيان، إذ كان قد بيَّن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباده (2) أن كل ميِّت فأقربُ عصبته به، أولى بميراثه، بعد إعطاء ذوي السهام المفروضة سهامهم من ميراثه. وهذه العلة، هي العلة التي من أجلها سُميّ للأمّ ما سُمىَ لها، إذا لم يكن الميت خلًف وارثًا غير أبويه، لأن الأم ليست بعصبة في حالٍ للميت. فبيّن الله جل ثناؤه لعباده ما فرض لها من ميراث ولدها الميت، وترك ذكرَ مَن له الثلثان الباقيان منه معه، إذ كان قد عرّفهم في جملة بيانه لهم مَنْ له بقاياتركة الأموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم، وكان بيانه ذلك، مغنيًا لهم على تكرير حكمه مع كل من قَسَم له حقًّا من ميراث ميت، وسمي له منه سهمًا. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ} قال أبو جعفر: إن قال قائل: وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة، (4) وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد؟ قلت (5) اختلاف حكمهما مع الإخوة الجماعة والأخ الواحد، فكان في إبانة   (1) في المخطوطة: "بأنه أقرب ولد الميت إليه"، وهو خطأ وسهو من الناسخ، والصواب، من المطبوعة. (2) انظر التعليق السالف ص 37، تعليق: 3. (3) في المطبوعة: "وكان بيانه ذلك معينًا لهم على تكرير حكمه"، وهو خطأ محض وتصريف قبيح، وفي المخطوطة: "معينا لهم عن تكرير حكمه" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. (4) في المخطوطة: "حكم أبوين من الأخوة"، والصواب ما في المطبوعة. (5) قوله: "قلت" ليست في المخطوطة، ولكن السياق يقتضيها، فأحسن طابع التفسير في إثباتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 الله جل ثناؤه لعباده حكمهما فيما يرثان من وَلدهما الميت مع إخوته، غنًّى وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غيرَ متغيِّر عما كان لهما، ولا أخ للميت ولا وارث غيرهما. إذ كان معلومًا عندهم أن كل مستحق حقًّا بقضاء الله ذلك له، لا ينتقل حقُّه الذي قضى به له ربه جل ثناؤه عما قَضى به له إلى غيره، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه. فكان في فرضه تعالى ذكره للأم ما فرض، إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده، ولا أخ = (1) الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروضَ - وهو ثلث مال ولدها الميت (2) - حق لها واجب، حتى يغيِّر ذلك الفرض من فَرَض لها. فلما غيَّر تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الجماعة، وترك تغييره مع الأخ الواحد، عُلم بذلك أن فرضها غير متغيِّر عما فرض لها إلا في الحال التي غيَّره فيها مَن لزم العبادَ طاعتُه، دون غيرها من الأحوال. * * * ثم اختلف أهل التأويل في عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله:"فإن كان له إخوة". فقال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كل زمان: عنى الله جل ثناؤه بقوله:"فإن كان له إخوة فلأمه السدس" اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما، أنثيين كانتا أو كن إناثًا، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورًا، أو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى. واعتل كثيرٌ ممن قال ذلك، بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل   (1) في المطبوعة: " ... وغير والده لوائح الدلالة الواضحة ... " وهو شيء لا يكتبه أبو جعفر!! وفي المخطوطة: "وغير والده ولاح الدلالة ... "، وصواب قراءتها"ولا أخ" معطوفًا على قوله"إذا لم يكن لولدها الميت وارث ... ". وقوله: "الدلالة الواضحة" اسم"كان" في قوله: "وكان في فرضه تعالى ذكره ... ". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "هو ثلث مال ولدها الميت"، بغير "واو"، والصواب إثباتها. وإلا اختل الكلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 ثناؤه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضًا قطع العذر مجيئه، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده. (1) * * * وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: بل عنى الله جل ثناؤه بقوله:"فإن كان له إخوة"، جماعة أقلها ثلاثة. وكان ينكر أن يكون الله جل ثناؤه حجَب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة. فكان يقول في أبوين وأخوين: للأم الثلث، وما بقي فللأب، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد. ذكر الرواية عنه بذلك: 8732 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال، لم صار الأخوان يردَّان الأم إلى السدس، وإنما قال الله:"فإن كان له إخوة"، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رحمه الله (2) هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار؟ (3) * * *   (1) وهذا أيضًا موضع في النفس منه شيء، فإن أبا جعفر ترك سياق حجته من الآثار، كما فعل في الموضعين السالفين انظر ص: 36 تعليق: 1 / وص: 37، تعليق: 3، / ثم انظر السنن الكبرى للبيهقي 6: 227، 228. (2) في المطبوعة: "رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 8732 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 227 من طريق: إسحاق بن إبراهيم، عن شبابة، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، ونقله عنه ابن كثير في تفسيره 2: 367. وقد عقب ابن كثير عليه بقوله: "وفي صحة هذا الأثر نظر، فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس. ولو كان هذا صحيحًا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به، والمنقول عنهم خلافه. وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن أبيه أنه قال، "الأخوان، تسمى إخوة"، وقد أفردت لهذه المسألة جزءًا على حدة". أما "شعيب مولى ابن عباس"، فهو: شعيب بن دينار الهاشمي، وهو غير الكوفي، وقد قال فيه ابن حبان: "روى عن ابن عباس ما لا أصل له، حتى كأنه ابن عباس آخر"، وانظر اختلاف قولهم فيه في التهذيب، وأكثرهم على ترك الاحتجاج به، وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 244، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 367. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن المعنيَّ بقوله:"فإن كان له إخوة"، اثنان من إخوة الميت فصاعدًا، على ما قاله أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، لنقل الأمة وراثةً صحةَ ما قالوه من ذلك عن الحجة، وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك. (1) * * * فإن قال قائل: وكيف قيل في الأخوين"إخوة"، وقد علمت أن ل"الأخوين" في منطق العرب مثالا لا يشبه مثالَ"الإخوة"، في منطقها؟ (2) قيل: إنّ ذلك وإن كان كذلك، فإن من شأنها التأليف بين الكلامين يتقارب معنياهما، (3) وإن اختلفا في بعض وجوههما. فلما كان ذلك كذلك، وكان مستفيضًا في منطقها منتشرًا مستعملا في كلامها:"ضربت من عبد الله وعمرو رؤوسهما، وأوجعتُ منهما ظهورهما"، وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال،"أوجعت منهما ظهريهما"، وإن كان مقولا"أوجعت ظهْريهما"، (4) كما قال الفرزدق: بِمَا فِي فُؤَادَيْنَا مِنَ الشَّوْقِ وَالْهَوَى ... فَيَبْرَأُ مُنْهَاضُ الفُؤَادِ الْمُشَعَّفُ (5)   (1) هذا أيضًا موضع كان يجب أن يسوق عنده أبو جعفر حجته، أو يحيل على حجة سالفة، ولكنه لم يفعل، وانظر التعليق السالف ص: 40 تعليق: 1: والإشارة إلى المواضع السالفة هناك. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "وقد علمت أن الأخوين في منطق العرب مثالا ... "، وهو فاسد، والصواب"أن للأخوين"، كما أثبتها بزيادة"اللام". (3) في المطبوعة: "بتقارب معنييهما"، غير ما في المخطوطة، لأنه قرأ"يتقارب" فعلا، "بتقارب" اسمًا مصدرًا. (4) في المطبوعة: "ظهرهما" مكان"ظهريهما"، وهو خطأ، لأنه ليس شاهدًا في هذا الموضع، بل الشاهد ما جاء في المخطوطة كما أثبته، على التثنية. (5) ديوانه: 554، والنقائض: 553، وسيبويه 2: 202، وأمالي الشجرى 1: 12، وغيرها. وهو من قصيدته التي مضى بيت منها قريبًا ص: 27، تعليق: 3، يقول قبله ما لهج به من لهوه وكذبه وعبثه، ويذكرها صاحبته وأمره معها. دَعَوْتُ الَّذِي سَمَّى السَّمَوَاتِ أَيْدُهُ ... وَللهُ أَدْنَى مِنْ وَرِيِدي وأَلْطَفُ لِيَشْغَلَ عَنِّي بَعْلَهَا بِزَمَانَهٍ ... تُدَلِّهُهُ عَنِّي وعَنْهَا فَنُسْعَفُ بِمَا في فُؤَادَيْنَا ............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَأَرْسَلَ فِي عَيْنَيْهِ ماءً عَلاهُمَا ... وَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي أَطَبُّ وأَعْرَفُ فَدَاوَيْتُهُ عَامَيْنِ وَهْيَ قَرِ يَبةٌ ... أَرَاهَا، وتَدْنُو لِي مِرَارًا فَأرْشُفُ يقول: دعا الله أن يبتلي زوجها بمرض مزمن، يدلهه ويحيره، فيبقى دهشا متغير العقل أو البصر، فلا يتفقدها، حتى يصل إلى ما يريد وتريد. فاستجاب دعاءه، وأنزل على عينيه ماء، فطلبوا له الأطباء والعرفاء، وزعم الفرزدق أنهم عرفوا أنه أطب الناس بهذا الداء، فأدخلوه إليه، فظل يطببه عامين، وهي قريبة منه. وقوله: "منهاض الفؤاد" الذي هاضه الحزن والوجد، من"هاض العظم" إذا كسره، يريد شدة ما يجد من اللوعة، حتى شفه وأمرض قلبه. و"المشعف"، هو الذي شعفه الحب: إذا أحرق قلبه، مع لذة يجدها المحب، ولم يذكر أصحاب المعاجم"شعف" مشددة العين، ولكنه قياس هذه العربية. وفي المخطوطة والمطبوعة: "المشغف" بالغين المعجمة، وكأنه صواب أيضًا، من"شغفه الحب" إذا بلغ شغاف قلبه. وأما رواية الديوان، والنقائض، فهي"المسقف"، وهي رواية رديئة، قال أبو عبيدة في شرحها: "هو الذي عليه خشب الجبائر، والجبائر: هي السقائف تشد على الكسر". وهو لا شيء، وإنما حمله على ذلك ذكر"منهاض"، وأن"المشغف" من صفته، و"المنهاض" هو العظم الذي كسر بعد الجبر. ولكن صواب المعنى والرواية، هو ما ذكرت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 = غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه:"بما في أفئدتنا"، كما قال جل ثناؤه: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [سورة التحريم: 4] . فلما كان ما وصفت = من إخراج كل ما كان في الإنسان واحدًا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين، بلفظ الجميع، أفصحَ في منطقها وأشهرَ في كلامها (1) = وكان"الأخوان" شخصين كل واحد منهما غير صاحبه، من نفسين مختلفين، أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من   (1) في المطبوعة: "فلفظ الجمع أفصح في منطقها"، والصواب ما أثبته من المخطوطة، وقوله: "أفصح" منصوب خبر قوله: "فلما كان ما وصفت". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 أعضائه واحدًا لا ثاني له، (1) فأخرج اثناهما بلفظ اثنى العضوين اللذين وصفت، (2) فقيل"إخوة" في معنى"الأخوين"، كما قيل"ظهور" في معنى"الظهرين"، و"أفواه" في معنى"فموين"، و"قلوب" في معنى"قلبين". * * * وقد قال بعض النحويين: إنما قيل"إخوة"، لأن أقل الجمع اثنان. وذلك أن ذلك ضم شيء إلى شيء صارا جميعًا بعد أن كانا فردين، (3) فجمعا ليعلم أن الاثنين جمع. * * * قال أبو جعفر: وهذا وإن كان كذلك في المعنى، فليس بعلة تنبئ عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملا مستفيضًا على ألسن العرب لاثنيه بمثال وصورةٍ غير مثال ثلاثة فصاعدًا منه وصورتها. لأن من قال،"أخواك قاما"، فلا شك أنه قد علم أنّ كل واحد من"الأخوين" فردٌ ضم أحدهما إلى الآخر فصارا جميعًا بعد أن كانا شتى. غير أن الأمر وإن كان كذلك، (4) فلا تستجيز العرب في كلامها أن يقال،"أخواك قاموا"، فيخرج قولهم"قاموا"، وهو لفظ للخبر عن الجميع، خبرًا عن"الأخوين" وهما بلفظ الاثنين. لأن كل ما جرى به الكلام على ألسنتهم معروفًا عندهم بمثال وصورة، إذا غيَّر مغيِّر عما قد عرفوه فيهم،   (1) في المطبوعة: "أشبه معناهما" على الإفراد، والصواب من المخطوطة مثنى. وقوله: "وكان الأخوان"، معطوف على قوله: "فلما كان ما وصفت"، يريد: "ولما كان الأخوان ... ". وسياق الجملة: "وكان الأخوان شخصين ... أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من أعضائه واحدًا". (2) في المطبوعة: "فأخرج أنثييهما بلفظ أنثى العضوين"، وهو كلام لا معنى له، والصواب من المخطوطة، فالكلام في"الاثنين" و"الجمع"، لا في"الأنثى" و"الذكر". (3) في المطبوعة: "وذلك أنه إذا ضم شيء إلى شيء"، غير ما كان في المخطوطة كما أثبته، وهو صواب محض لا يغير. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "بعد أن كانا شتى عنوان الأمر وإن كان كذلك"، وهو كلام مستهجن لا معنى له، والناسخ عجل كما رأيت وعلمت، فكتب"غير أن الأمر"، "عنوان الأمر" ففسد الكلام، وأفسد على الناشر الأول فهمه للمعاني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 نَكِروه. (1) فكذلك"الأخوان" وإن كان مجموعين ضُمَّ أحدهما إلى صاحبه، فلهما مثالٌ في المنطق وصورة، غير مثال الثلاثة منهم فصاعدًا وصورتهم. فغير جائز أن يغيَّر أحدهما إلى الآخر إلا بمعنى مفهوم. وإذا كان ذلك كذلك، فلا قول أولى بالصحة مما قلنا قبل. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: ولم نُقصت الأم عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدًا؟ قيل: اختلفت العلماء في ذلك. فقال بعضهم: نُقصت الأم عن ذلك دون الأب، لأن على الأب مُؤَنهم دون أمهم. ذكر من قال ذلك: 8733 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس"، أضرُّوا بالأم ولا يرثون، (2) ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث، ويحجبها ما فوق ذلك. وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من   (1) في المطبوعة: "لأن لكل ما جرى به الكلام على ألسنتهم مثالا معروفًا عندهم وصورة، إذا غير مغير ما قد عرفوه فيهم أنكره"، بدل ما كان في المخطوطة تبديلا، جعل"بمثال""مثالا" وقدمها عن مكانها، وغير سائر الجملة كما رأيت. والذي أوقعه في ذلك أن الناسخ كتب"لأن لكل ما جرى" وصوابه"لأن كل ما جرى" كما أثبته. أما "نكروه"، فقد جعلها"أنكروه" وهما صواب جميعًا، إلا أن الواجب عليه كان يقتضي إثبات ما في المخطوطة. يقال، "أنكر الشيء إنكارًا ونكره" (على وزن سمع) ، قال الله تعالى في سورة هود: 70: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً { (2) في المطبوعة: "أنزلوا الأم ولا يرثون"، وفي المخطوطة: "أمروا بالأمر ولا يرثون" وهو تحريف ما أثبته عن الدر المنثور وابن كثير، كما سترى في التخريج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 الثلث لأن أباهم يلي نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم. (1) * * * وقال آخرون: بل نُقصت الأم السدس، وقُصِر بها على سدس واحد، معونةً لإخوة الميت بالسدس الذي حَجَبوا أمهم عنه. ذكر من قال ذلك: 8734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال، السدس الذي حجبتْه الإخوة الأمَّ لهم، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم. * * * وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا القول، وذلك ما: - 8735 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس قال، الكلالة من لا ولد له ولا والِد. * * * قال أبو جعفر، وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك: إن الله تعالى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس، لما هو أعلم به من مصلحة خلقه = وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الآباء لأولادهم = وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك. وليس ذلك مما كلَّفنا علمه، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا. * * * وأما الذي روي عن طاوس عن ابن عباس، فقول لما عليه الأمة مخالف. وذلك أنه لا خلاف بين الجميع: أنْ لا ميراث لأخي ميت مع والده. فكفى إجماعهم على خلافه شاهدًا على فساده. * * *   (1) الأثر: 8733 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 367، 368، وقال، "هذا كلام حسن"، والسيوطي في الدر المنثور 2: 126. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"من بعد وصية يوصي بها أو دين"، أنّ الذي قسم الله تبارك وتعالى لولد الميت الذكور منهم والإناث ولأبويه من تركته من بعد وفاته، إنما يقسمه لهم على ما قسمه لهم في هذه الآية من بعد قضاء دين الميت الذي مات وهو عليه من تركته، ومن بعد تنفيذ وصيته في بابها بعد قضاء دينه كله. (1) فلم يجعل تعالى ذكره لأحد من ورثة الميت، ولا لأحد ممن أوصى له بشيء، إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته، وإن أحاط بجميع ذلك. ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فيما بقي لما أوصى لهم به، ما لم يجاوز ذلك ثلثه. فإن جاوز ذلك ثلثه، جعل الخيار في إجازة ما زاد على الثلث من ذلك أو ردِّه إلى ورثته: إن أحبوا أجازوا الزيادة على ثلث ذلك، وإن شاءوا ردوه. فأما ما كان من ذلك إلى الثلث، فهو ماضٍ عليهم. وعلى كل ما قلنا من ذلك، الأمة مجمعة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبرٌ، وهو ما: - 8736 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن عليّ رضي الله عنه قال، إنكم تقرأون هذه الآية:"من بعد وصية يُوصي بها أو دين"، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية. (2) 8737 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضوان الله عليه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.   (1) هكذا في المطبوعة"في بابها"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وهي لفظة غريبة هاهنا، لا أظنها مما كان يجري على ألسنة القوم يومئذ على هذا المعنى، ولو خيرت لاخترت"في أهلها"، ولكني تركتها على حالها مخافة أن يكون ظني رجما. (2) في المطبوعة: "أن رسول الله" بإسقاط الواو، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 8738 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (1) 8739 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن ابن مجاهد، عن أبيه:"من بعد وصية يوصي بها أو دين" قال، يبدأ بالدين قبل الوصية. * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق: (يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) . * * * وقرأه بعض أهل مكة والشأم والكوفة، (يُوصَى بِهَا) ، على معنى ما لم يسمَّ فاعله. * * *   (1) الآثار: 8736، 8737، 8738 - حديث ضعيف، لضعف"الحارث الأعور"، وهو: الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، وهو ضعيف جدًا، وقال الشعبي وغيره: "كان كذابًا". وقد مضى الكلام عنه في رقم: 174 فيما كتبه أخي السيد أحمد، وفي المسند رقم: 565. وأسانيده الثلاثة تدور على"الحارث الأعور"، وقد رواه أحمد في مسنده رقم: 595، 1091، 1221 مطولا، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 267، والحاكم في المستدرك 4: 336، وابن كثير في تفسيره 2: 368، وقال، "رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير"، والسيوطي في الدر المنثور 2: 126، ونسبه لأبي أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه. ورواه الشافعي في الأم 4: 29، مختصرًا كما رواه الطبري، قال الشافعي: "وقد روى في تبدئة الدين قبل الوصية حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت أهل الحديث مثله". وساق الحديث عن سفيان عن أبي إسحاق. قال البيهقي: "امتناع أهل الحديث عن إثبات هذا، لتفرد الحارث الأعور بروايته عن علي رضي الله عنه، والحارث لا يحتج بخبره لطعن الحفاظ فيه". أما الحاكم، فقد ذكر مثل هذه العلة في الحارث الأعور، وقال، "لذلك لم يخرجه الشيخان، وقد صحت هذه الفتوى عن زيد بن ثابت"، ثم ساق فتوى زيد بن ثابت بإسناده. وقال ابن كثير: "ثم قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور. وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. قلت (القائل ابن كثير) : لكن كان حافظًا للفرائض معتنيًا بها وبالحساب". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) على مذهب ما قد سُمِّي فاعله، لأن الآية كلها خبر عمن قد سمي فاعله. ألا ترى أنه يقول:"ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان لا ولد"؟ فكذلك الذي هو أولى بقوله:"يوصي بها أو دين"، أن يكون خبرًا عمن قد سمي فاعله، لأن تأويل الكلام: ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد = من بعد وصية يوصي بها أو دين = يُقضى عنه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"آباؤكم وأبناؤكم"، هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم - من قسمة ميراث ميِّتكم فيهم على ما سمي لكم وبيَّنه في هذه الآية - آباؤكم وأبناؤكم (1) ="لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا"، يقول: أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتُكم أن تعطوهموها، فإنكم لا تعلمون أيهم أدنى وأشد نفعًا لكم في عاجل دنياكم وآجل أخراكم. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا".   (1) سياق هذه الجملة: "هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم ... آباؤكم وأبناؤكم"، يريد إعراب"آباؤكم وأبناؤكم"، وأنه خبر لمبتدأ محذوف. ولم يشر أحد من المفسرين إلى هذا الإعراب. بل قال القرطبي في تفسيره: "رفع بالابتداء، والخبر مضمر، تقديره: هم المقسوم عليهم، وهم المعطون". وقال الألوسي في تفسيره: "الخطاب للورثة، وآباؤكم مبتدأ، وأبناؤكم معطوف عليه، ولا تدرون مع ما في حيزه خبر له". وكذلك قال العكبري في إعراب القرآن 1: 94. وأجود القول ما قال أبو جعفر في سياق هذه الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 فقال بعضهم: يعني بذلك أيهم أقرب لكم نفعًا في الآخرة. ذكر من قال ذلك: 8740 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله،"آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا"، يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء، أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله سبحانه يشفع المؤمنين بعضهم في بعض. * * * وقال آخرون: معنى ذلك، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا في الدنيا. ذكر من قال ذلك: 8741 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أيهم أقرب لكم نفعًا"، في الدنيا. 8742 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 8743 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا"، قال بعضهم: في نفع الآخرة، وقال بعضهم: في نفع الدنيا. * * * وقال آخرون في ذلك بما قلنا. ذكر من قال ذلك: 8744 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا"، قال: أيهم خيرٌ لكم في الدين والدنيا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 الوالد أو الولدُ الذين يرثونكم، لم يدخلِ عليكم غيرهم، فرَضَ لهم المواريث، (1) لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فريضة من الله"،"وإن كان له إخوة فلأمه السدس"، فريضةً، يقول: سهامًا معلومة موقتة بيَّنها الله لهم. (2) * * * ونصب قوله:"فريضة" على المصدر من قوله:"يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" ="فريضة"، فأخرج"فريضة" من معنى الكلام، إذ كان معناه ما وصفت. وقد يجوز أن يكون نصبه على الخروج من قوله:"فإن كان له إخوة فلأمه السدس" ="فريضة"، فتكون"الفريضة" منصوبة على الخروج من قوله: (3) "فإن كان له إخوة فلأمه السدس"، كما تقول:"هو لك هبة، وهو لك صدقة مني عليك". (4) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فرضي لهم المواريث"، وهو تحريف وسوء كتابة من الناسخ، ولا معنى له، والصواب ما أثبت. (2) قوله: "موقتة"، أي محددة مقدرة بحد، وقد سلف شرح هذه الكلمة فيما مضى الجزء 7: 597، تعليق: 3، والمراجع هناك، وفي فهرس المصطلحات. ثم انظر تفسير"الفرض" و"الفريضة" فيما سلف 4: 121 / 5: 120 / 7: 597. (3) "الخروج"، انظر تفسيره فيما سلف 7: 25، تعليق: 3، كأنه يعني به خروج الحال المؤكدة. (4) انظر ما سلف 7: 599. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وأما قوله:"إن الله كان عليمًا حكيمًا"، فإنه يعني جل ثناؤه: إنّ الله لم يزل ذا علم بما يصلح خلقه، (1) أيها الناس، فانتهوا إلى ما يأمركم، يصلح لكم أموركم. ="حكيما"، يقول: لم يزل ذا حكمة في تدبيره، وهو كذلك فيما يقسم لبعضكم من ميراث بعض، وفيما يقضي بينكم من الأحكام، لا يدخل حكمه خَلَل ولا زلل، لأنه قضاء من لا تخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة. * * *   (1) انظر تفسير: "كان" نظيرة ما في هذه الآية، فيما سلف: 7: 523. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 القول في تأويل قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه،"ولكم" أيها الناس ="نصف ما ترك أزواجكم"، بعد وفاتهن من مال وميراث ="إن لم يكن لهن ولد"، يوم يحدث بهن الموت، (1) لا ذكر ولا أنثى ="فإن كان لهن ولد"، أي: فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهن الموت، (2) ولد ذكر أو أنثى ="فلكم الربع مما تركن"، من مال وميراث، ميراثًا لكم عنهن ="من بعد وصية يوصين بها أو دين"، يقول: ذلكم لكم ميراثًا عنهن، مما يبقى من تركاتهن وأموالهن، من بعد قضاء ديونهن التي يمتن وهي عليهن، ومن بعد إنفاذ وصاياهن الجائزة إن كن أوصين بها. * * *   (1) في المطبوعة: "يحدث لهن الموت" باللام، والصواب ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يحدث لهن الموت" باللام، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 القول في تأويل قوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد" ولأزواجكم، أيها الناس، ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث، إن حدث بأحدكم حَدَثُ الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى ="فإن كان لكم ولد"، يقول: فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى، واحدًا كان الولد أو جماعة ="فلهن الثمن مما تركتم"، يقول: فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم، الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها. * * * وإنما قيل:"من بعد وصية توصون بها أو دين"، فقدم ذكر الوصية على ذكر الدين، لأن معنى الكلام: إن الذي فرضتُ لمن فرضتُ له منكم في هذه الآيات، إنما هو له من بعد إخراج أيِّ هذين كان في مال الميت منكم، (1) من وصية أو دين. فلذلك كان سواءً تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية، لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج الشيئين:"الدين والوصية" من ماله، فيكون ذكر الدين أولى أن يُبدأ به من ذكر الوصية. (2) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "الميت منكن"، والصواب"منكم" كما أثبتها. (2) في المطبوعة: "إخراج أحد الشيئين" بزيادة"أحد"، وهي لا معنى لها هنا، بل هي إخلال بما أراد، وبما ذكر قبل من قوله: "إنما هو له من بعد إخراج أي هذين كان في مال الميت منكم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن كان رجلٌ أو امرأة يورث كلالةً. ثم اختلفت القرأة في قراءة ذلك. * * * فقرأ ذلك عامة قرأة أهل الإسلام: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) ، يعني: وإن كان رجل يورث متكلًّل النسب. * * * ف"الكلالة" على هذا القول، مصدر من قولهم:"تكلَّله النسب تكلُّلا وكلالة"، بمعنى: تعطف عليه النسب. * * * وقرأه بعضهم: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) ، بمعنى: وإن كان رجل يورِث من يتكلَّله، بمعنى: من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت. * * * واختلف أهل التأويل في"الكلالة". فقال بعضهم: هي ما خلا الوالد والولد. * ذكر من قال ذلك: 8745 - حدثنا الوليد بن شجاع السَّكوني قال، حدثني علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي قال: قال أبو بكر رحمه الله عليه: إني قد رأيت في الكلالة رأيًا = فإن كان صوابًا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، (1) والله منه بريء =: أن الكلالة ما خلا الولد والوالد. فلما   (1) في المطبوعة: "وإن يكن خطأ"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المطبوعة: "أبو بكر رضي الله عنه"، وكذلك لما ذكر"عمر"، وأثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وفيما يليه، ولم أنبه إليه فيما يلي. وفي المخطوطة والمطبوعة: "فمني والشيطان" بإسقاط"من"، والصواب من تفسير ابن كثير والبغوي بهامشه 2: 370، والدر المنثور 2: 250. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 استخلف عمر رحمة الله عليه قال: إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. (1) 8746 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، حدثنا الشعبي: أن أبا بكر رحمه الله قال في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله: هو ما دون الولد والوالد. قال: فلما كان عمر رحمه الله قال: إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر. 8747 - حدثنا [يونس بن عبد الأعلى] قال، أخبرنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن الشعبي: أن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا الكلالة من لا ولد له ولا والد. (2) 8748 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن عمران بن حدير، عن السميط قال: كان عمر رجلا أيسر، (3) فخرج يومًا وهو يقول بيده   (1) الأثر: 8745 - أخرجه البيهقي في السنن 6: 223، 224، وابن كثير والبغوي 2: 370، والدر المنثور 2: 250، ونسبه أيضًا لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وفي الدر والبيهقي: "فلما طعن عمر"، وفي ابن كثير: "فلما ولي عمر"، وإحدى روايتي البيهقي، ورواية البغوي كرواية الطبري: "فلما استخلف". (2) الأثر: 8747 -"يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، شيخ الطبري، روى عنه أبو جعفر شيئًا كثيرًا في تفسيره وفي غيره من كتبه، وقد مضى برقم: 1679. وكان في المطبوعة: "أبو بشر بن عبد الأعلى"، وليس في الرواة من كان بهذا الاسم، وخاصة في شيوخ أبي جعفر. وفي المخطوطة: "أبو بشر عبد الأعلى"، وهذا أيضًا لا يعرف، ورجح عندي أنه تصحيف وتحريف من الناسخ، وأن صوابه"يونس بن عبد الأعلى" شيخ الطبري، فأثبته كذلك بين قوسين. (3) جاء في هذا الأثر في صفة عمر أنه"أيسر"، والذي جاء في الآثار من صفته أنه"أعسر يسر (بفتحتين) يعمل بيديه جميعًا"، وذلك هو الذي يسمونه"الأضبط"، تكون قوة شماله، كقوة يمينه في العمل. فإذا كان يعمل بيده الشمال خاصة فهو"أعسر"، والرجل إذا كان"أعسر" وليس"يسرًا"، كانت يمينه أضعف من شماله. هذا، وكأنه أراد هنا بقوله: "أيسر" أنه يعمل بشماله، وهو غريب عند أهل اللغة، وقد جاء أيضًا في صفة عمر"أعسر أيسر"، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "هكذا روي في الحديث، وأما كلام العرب، فالصواب أنه"أعسر يسر". وقال ابن السكيت: "لا تقل أعسر أيسر". ولكن هكذا جاءت الرواية فيما بين أيدينا من تفسير أبي جعفر، فلا أدري أأخطأ ناسخها، أم هكذا كانت روايته. ولم أجد الخبر بتمامه في مكان آخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 هكذا، (1) يديرها، إلا أنه قال، أتى عليّ حين ولست أدري ما الكلالة، ألا وإنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد. (2) 8749 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن أبي بكر قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد. 8750 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد. 8751 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن جريج يحدث، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد. 8752 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن ابن عباس، قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد (3) . 8753 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا   (1) قوله: "يقول بيده هكذا"، أي: يحركها ويشير بها أو يومئ. و"القول" في كلام العرب يوضع مواضع كثيرة، منها معنى الإشارة والتحريك والإيماء. (2) الأثر: 8748 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 224 من طريق محمد بن نصر، عن عبد الأعلى، عن حماد، عن عمران بن حدير، عن السميط بن عمير، بغير هذا اللفظ مختصرًا، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 250-251 مختصرًا، ولم ينسبه لغير ابن أبي شيبة. و"عمران بن حدير السدوسي" مضت ترجمته فيما سلف برقم: 2634. وأما "السميط" فهو: سميط بن عمير السدوسي، ويقال: سميط بن سمير، ويقال سميط بن عمرو. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري: 2 / 2 / 204، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 317. (3) الآثار: 8750، 8751، 8752 - ثلاث طرق، وأخرجه البيهقي في السنن 6: 225 من طريقين، من طريق أبي سعيد الأعرابي، عن سعدان بن نصر، عن سفيان = ومن طريق محمد بن نصر، عن محمد بن الصباح، عن سفيان، مطولا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، عن ابن عباس بمثله. (1) 8754 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد السلولي، عن ابن عباس قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد. 8755 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة"، قال: الكلالة من لم يترك ولدًا ولا والدًا. 8756 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد قال: ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن من مات ولم يدع ولدًا ولا والدًا، أنه كلالة. 8757 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد قال: ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أنّ الكلالة الذي ليس له ولد ولا والد. 8758 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد. 8759 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن أبي   (1) الأثر: 8753، ثم الآثار: 8754، 8756، 8757، 8758، 8759 - طرق مختلفة لخبر سليم بن عبد السلولي عن ابن عباس وسيرويه أيضًا برقم: 8768. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 224 من طريق أخرى، من طريق يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق. وأشار إلى رقم: 8753، 8754، طريق إسرائيل عن أبي إسحاق. و"سليم بن عبد السلولي"، ويقال: "سليم بن عبد الله"، كوفي. مترجم في الكبير للبخاري 2 / 2 / 127، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 212، وتعجيل المنفعة: 163، قال البخاري وأبو حاتم: "روى عن حذيفة، روى عنه أبو إسحاق السبيعي"، وزاد الحافظ في تعجيل المنفعة"فقط". وقال: "وثقه ابن حبان وقال: شهد غزوة طبرستان، وقال العجلي: كوفي ثقة، هم ثلاثة إخوة: سليم بن عبد، وعمارة بن عبد، وزيد بن عبد. ثقات، سلوليون، كوفيون". هذا وقد أفادنا إسناد الطبري والبيهقي، أنه روى أيضًا عن غير حذيفة من الصحابة، روى عن ابن عباس أيضًا كما تسمع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 إسحاق، عن سليم بن عبد قال: أدركتهم وهم يقولون، إذا لم يدع الرجل ولدًا ولا والدًا، وُرِث كلالة. 8760 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإن كان رجل يورَث كلالة أو امرأة"، والكلالة الذي لا ولد له ولا والد، لا أب ولا جد، ولا ابن ولا ابنة، فهؤلاء الأخوة من الأم. 8761 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم قال في الكلالة: ما دون الولد والوالد. 8762 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة، من رجالهم ونسائهم. 8763 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري وأبي إسحاق، قال: الكلالة من ليس له ولد ولا والد. 8764 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن محمد، عن معمر، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق مثله. * * * وقال آخرون:"الكلالة ما دون الولد"، وهذا قول عن ابن عباس، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه: (1) أنه ورَّث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين. * * * وقال آخرون: الكلالة ما خلا الوالد. * ذكر من قال ذلك: 8765 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن شعبة، قال:   (1) هو الأثر رقم: 8734، فيما سلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 سألت الحكم عن الكلالة قال: فهو ما دون الأب. * * * واختلف أهل العربية في الناصب للكلالة. فقال بعض البصريين: إن شئت نصبت"كلالة" على خبر"كان"، وجعلت"يورث" من صفة"الرجل". وإن شئت جعلت"كان" تستغني عن الخبر نحو"وقع"، وجعلت نصب"كلالة" على الحال، أي: يورث كلالة، (1) كما يقال:"يضرب قائمًا". * * * وقال بعضهم قوله:"كلالة"، خبر"كان"، لا يكون الموروث كلالة، وإنما الوارث الكلالةُ. * * * قال أبو جعفر والصواب من القول في ذلك عندي أن"الكلالة" منصوب على الخروج من قوله:"يورث"، وخبر"كان""يورث". و"الكلالة" وإن كانت منصوبة بالخروج من"يورث"، فليست منصوبة على الحال، ولكن على المصدر من معنى الكلام. لأن معنى الكلام: وإن كان رجل يورَث متكلِّله النسب كلالةً = ثم ترك ذكر"متكلِّله" اكتفاء بدلالة قوله:"يورث" عليه. * * * واختلف أهل العلم في المسمَّى"كلالة". فقال بعضهم:"الكلالة" الموروث، وهو الميت نفسه، يسمى بذلك إذا ورثه غير والده وولده. (2) * ذكر من قال ذلك: 8766 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "يورث كلالة"، وفي المخطوطة يشبه أن تكون"مورث"، وتلك أجود، فأثبتها لأنها أحق بالمكان. (2) في المطبوعة: "سمى بذلك" وفي المخطوطة: "سمى" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 أسباط، عن السدي قوله في الكلالة، (1) قال: الذي لا يدع والدًا ولا ولدًا. 8767 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كنت آخر الناس عهدًا بعمر رحمه الله، (2) فسمعته يقول: القولُ ما قلت. (3) قلت: وما قلت؟ قال: الكلالة من لا ولد له. (4) 8768 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، عن ابن عباس قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد. (5)   (1) في المطبوعة: "قولهم في الكلالة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. (2) في المطبوعة: "رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فسمعته يقول ما قلت"، أسقط"القول"، وفي المخطوطة: "فسمعته يقول يقول ما قلت"، وهو عجلة من الناسخ وتحريف، والصواب ما أثبت من السنن الكبرى للبيهقي. (4) الأثر: 8767 -"سليمان الأحول" هو: سليمان بن أبي مسلم المكي الأحول، خال ابن أبي نجيح. وهو ثقة، روى عنه الستة. وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 225 من طريق سعدان بن نصر، عن سفيان (يعني ابن عيينة) ، عن سليمان الأحول. وقال البيهقي معقبًا على روايته: "كذا في هذه الرواية، والذي روينا عن عمر وابن عباس في تفسير الكلالة، أشبه بدلائل الكتاب والسنة من هذه الرواية، وأولى أن يكون صحيحًا، لانفراد هذه الرواية، وتظاهر الروايات عنهما بخلافها". وأشار إليها ابن كثير في تفسيره 2: 371 قال: "وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه من لا ولد له، والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد". هذا، ولم يغفل أبو جعفر عن ذلك، فعقب عليه هو أيضًا برواية القول المشهور في الرواية عن ابن عباس، فساق خبر سليم بن عبد السلولي عن ابن عباس، الذي سلف من رقم: 8753 - 8759، من طريق أخرى، واكتفى بذلك من التعليق على هذا القول الذي انفرد به طاوس عن ابن عباس. (5) الأثر: 8768 - هما إسنادان أحدهما"ابن وكيع عن أبيه"، وقد سلف 8754، والآخر: "ابن وكيع عن يحيى بن آدم"، وهو إسناد لم يذكره مع أسانيد هذا الأثر فيما سلف من رقم: 8753-8759. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سليمان بن عبد"، وهو خطأ، بل هو"سليم بن عبد السلولي" كما سلف في أسانيد الأثر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 وقال آخرون:"الكلالة"، هي الورثة الذين يرثون الميت، إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم، إذا لم يكونوا ولدًا ولا والدًا، على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك. * * * وقال آخرون: بل"الكلالة" الميت والحي جميعًا. * ذكر من قال ذلك: 8769 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد: الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا والد = أو الحي، كلهم"كلالة"، هذا يَرِث بالكلالة، وهذا يورَث بالكلالة (1) . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله هؤلاء، وهو أن"الكلالة" الذين يرثون الميت، من عَدا ولده ووالده، وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أنه قال: قلت يا رسول الله؟ إنما يرثني كلالة، فكيف بالميراث (2) وبما: - 8770 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد قال، كنا مع حميد بن عبد الرحمن في سوق الرقيق، قال: فقام من عندنا ثم رجع، فقال: هذا آخر ثلاثة من بني سعد حدَّثوني هذا الحديث، قالوا: مرض سعد بمكة مرضًا شديدًا، قال: فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده. فقال: يا رسول الله، لي مال كثير، وليس لي وارثٌ إلا كلالة، فأوصي بمالي كله؟ فقال: لا. (3)   (1) في المخطوطة: "هذا يرث بالكلالة، وهذا يرث بالكلالة"، وهو سهو من الناسخ، صوابه ما في المطبوعة. (2) هو الأثر السالف رقم: 8730. (3) الأثر: 8770 -"عمرو بن سعيد القرشي"، روى عن سعيد بن جبير، وأبي العالية، والشعبي، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، روى عنه أيوب، ويونس، وابن عون، وغيرهم وهو و"حميد بن عبد الرحمن الحميري"، روى له الستة، روى عن أبي بكرة وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وثلاثة من ولد سعد بن أبي وقاص (هم المذكورون في هذا الأثر) وغيرهم. قال ابن سعد: "كان ثقة، وله أحاديث". وكلاهما مترجم في التهذيب. وخبر سعد بن أبي وقاص في الوصية، وقوله: "إني أورث كلالة"، رواه ابن سعد في الطبقات 3 / 1 / 103، وأحمد في مسنده 4: 60، كلاهما: عفان بن مسلم، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عمرو بن القاري، عن أبيه، عن جده عمرو بن القاري. وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب: 444، وابن الأثير في أسد الغابة 4: 119 وقال: "أخرجه الثلاثة" يعني ابن منده، وأبو نعيم، وابن عبد البر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 8771 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد قال: جاء شيخٌ إلى عمر رضي الله عنه فقال: إنِّي شيخ، وليس لي وارث إلا كلالةُ أعراب مُتراخٍ نسبُهم، (1) أفأوصي بثلث مالي؟ قال: لا. * * * =فقد أنبأت هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى"الكلالة"، وأنها ورثة الميت دون الميت، ممن عدا والده وولده. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وله أخ أو أخت"، وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت، يعني: أخًا أو أختًا من أمه، كما:- 8772 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يعلى بن عطاء، عن القاسم، عن سعد أنه كان يقرأ:"وإن كان رجل   (1) قوله"متراخ نسبهم"، أي: بعيد نسبهم، من قولهم: "تراخى فلان عني"، أي: بعد عني، ولم يذكر أصحاب اللغة شاهدًا له، وهذا شاهده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت" قال، سعد: لأمه. 8773 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعت القاسم بن ربيعة يقول: قرأت على سعد:"وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت" قال، سعد: لأمه. 8774 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن القاسم بن ربيعة بن قانف (1) قال: قرأت على سعد، فذكر نحوه. 8775 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ:"وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت من أمه". (2) 8776 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وله أخ أو أخت" فهؤلاء الإخوة من الأم: إن كان واحدًا فله السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. (3) 8778 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت"،   (1) في المطبوعة: "القاسم بن ربيعة عن فاتك"، وهو خطأ محض، وفي المخطوطة كما أثبتها إلا أن الناسخ أساء كتابتها ونقطها، فغيرها الناشرون. وانظر التعليق التالي. (2) الآثار: 8772 -8775 -"القاسم بن ربيعة"، هو: "القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي" منسوبًا إلى جده، فهو: "القاسم بن عبد الله بن ربيعة بن قانف الثقفي". ثقة، لم يرو عنه سوى"يعلى بن عطاء العامري"، وقد سلفت ترجمته وإسناده فيما مضى رقم: 1755 -1757. وهذا الخبر عن سعد بن أبي وقاص، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 223، والسيوطي في الدر المنثور 2: 126، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والدارمي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) سقط من الترقيم رقم: 8777. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 فهؤلاء الإخوة من الأم، فهم شركاء في الثلث، سواءٌ الذكر والأنثى. * * * قال أبو جعفر: وقوله:"فلكل واحد منهما السدس"، إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه، فله السدس من ميراث أخيه لأمه. فإن اجتمع أخ وأخت، أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما، أو أختان كذلك، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما = فلكل واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس ="فإن كانوا أكثر من ذلك"، يعني: فإن كان الإخوة والأخوات لأم الميت الموروث كلالة أكثرَ من اثنين ="فهم شركاء في الثلث"، يقول: فالثُّلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثًا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة، شركة بينهم، إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رؤوسهم، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك، ولكنه بينهم بالسويَّة. * * * فإن قال قائل: وكيف قيل:"وله أخ أو أخت"، ولم يُقَل:"لهما أخ أو أخت"، وقد ذكر قبل ذلك"رجل أو امرأة"، فقيل: (1) "وإن كان رجلٌ يورث كلالة أو امرأة"؟ قيل: إن من شأن العرب إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر، فعطفت أحدهما على الآخر" ب"أو"، ثم أتت بالخبر، أضافت الخبر إليهما أحيانًا، وأحيانًا إلى أحدهما، وإذا أضافت إلى أحدهما، كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أيّ الاسمين اللذين ذكرتهما إضافَته، فتقول:"من كان عنده غلام أو جارية فليحسن إليه"، يعني: فليحسن إلى الغلام - و"فليحسن إليها"، يعني: فليحسن إلى الجارية - و"فليحسن إليهما". (2) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وقد ذكر مثل ذلك" وهو خطأ بين، وصواب السياق ما أثبت. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 257، 258. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 وأما قوله:"فلكل واحد منهما السدس"، وقد تقدم ذكر الأخ والأخت بعطف أحدهما على الآخر، والدلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله:"وله أخ أو أخت"، فإن ذلك إنما جاز، لأن معنى الكلام، فلكل واحد من المذكورين السدس. (1) * * * القول في تأويل قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"من بعد وصيه يوصي بها"، أي: هذا الذي فرضت لأخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حَدَثُ الموت من تركته، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته، كما:- 8779 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"من بعد وصية يوصَي بها أو دين"، والدين أحق ما بدئ به من جميع المال، فيؤدَّي عن أمانة الميت، ثم الوصية، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم. * * * وأما قوله:"غير مضارّ"، فإنه يعني تعالى ذكره: من بعد وصية يوصي بها، غيرَ مضَارّ ورثته في ميراثهم عنه، كما:- 8780 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ولكل واحد" بالواو، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"غير مضار"، قال: في ميراث أهله. 8781 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"غير مضار"، قال: في ميراث أهله. 8782 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"غير مضار وصية من الله"، وإن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت، ونهى عنه، وقدَّم فيه، فلا تصلح مضارَّة في حياة ولا موت. 8783 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا عبيدة بن حميد = وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية = جميعًا، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"غير مضار وصية من الله واللهُ عليم حليم"، قال: الضرار في الوصية من الكبائر. (1) 8784 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الضرار في الوصية من الكبائر. 8785 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. 8786 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحيفُ في الوصية من الكبائر. 8787 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى قالا حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الضرار والحيف في الوصية من الكبائر. (2)   (1) الأثر: 8783 -"نصر بن عبد الرحمن الأزدي"، مضت ترجمته برقم: 423، 875، 2859، وقد وقع هنا في المخطوطة والمطبوعة، كما كان قد وقع هناك فيهما"الأودي" بالواو، وهو خطأ. و"عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي"، مضى برقم: 2781. ثم انظر التعليق في آخر هذه الآثار رقم: 8787، 8788. (2) الأثر 8787- وما قبله، أثر ابن عباس، رواه أبو جعفر بخمسة أسانيد موقوفا عليه، وسيأتي في الذي يليه مرفوعًا، وقد أخرجه البيهقي في السنن 6: 271 من طريق سعيد بن منصور، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، وقال: "هذا هو الصحيح، موقوف، وكذلك رواه ابن عيينة وغيره عن داود موقوفًا. وروي من وجه آخر مرفوعًا، ورفعه ضعيف"، وهو إشارة إلى الأثر التالي الذي رواه الطبري. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 372، 373 قال: "رواه النسائي في سننه، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفًا ... وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، عن عائذ بن حبيب، عن داود بن أبي هند. ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفًا"، ثم قال: "قال ابن جرير: والصحيح الموقوف". وهذا الذي نسبه ابن كثير لابن جرير، لم أجده في تفسيره في مظنته في هذا الموضع، فلا أدري أسقط من الكتاب شيء، أم وجده ابن كثير في مكان آخر من كتب أبي جعفر، أم تعجل ابن كثير فأخطأ؟ هذا، وقد جاء في هذه الآثار في المخطوطة والمطبوعة: "الحيف في الوصية"، وفي السنن الكبرى"الجنف"، وهو مثله في المعنى، وهو الموافق لما في آية الوصية من سورة البقرة: 182"فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 8788 - حدثني موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر قال، حدثنا عمر بن المغيرة قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الضرار في الوصية من الكبائر". (1)   (1) الأثر: 8788 -"إسحاق بن إبراهيم بن يزيد" أبو النضر الدمشقي الفراديسي، مولى عمر بن عبد العزيز، روى عنه البخاري، وربما نسبه إلى جده يزيد. وهو ثقة، مترجم في التهذيب. وأما "عمر بن المغيرة" أبو حفص فهو بصري، وقع إلى المصيصة، روى عن داود بن أبي هند والجلد بن أيوب، وروى عنه بقية بن الوليد، وهشام بن عمار. قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه فقال: شيخ" وقال: "وروىعنه أبو النضر الدمشقي الفراديسي إسحاق بن إبراهيم". وقال البخاري: "عمر بن المغيرة، منكر الحديث مجهول". وقال علي بن المديني: "هو مجهول، لا أعرفه". مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 136، ولسان الميزان 4: 332. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عمرو بن المغيرة"، والصواب ما أثبته. وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 271 من طريق عبد الله بن يوسف التنسي، عنه. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 372، ونسبه لأبي بن حاتم، عن أبيه، عن أبي النضر الدمشقي، عن عمر بن المغيرة. وقال الحافظ في ترجمة"إسحاق بن إبراهيم" في التهذيب 1: 220 ="روى له الأزدي في الضعفاء حديثًا عن عمر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رفعه: الضرار في الوصية من الكبائر. قال الأزدي: المحفوظ من قول ابن عباس، لا يرفعه. قلت: (القائل هو الحافظ ابن حجر) : عمر، ضعيف جدًا، فالحمل فيه عليه، وقد رواه الثوري وغيره عن داود موقوفًا". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 8789 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو عمرو التيمي، عن أبي الضحى قال: دخلت مع مسروق على مريض، فإذا هو يوصي قال: فقال له مسروق: أعدل لا تضلل. (1) * * * ونصبت"غيرَ مضارّ" على الخروج من قوله:"يوصَى بها". (2) * * * وأما قوله:"وصية" فإن نصبه من قوله:"يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، وسائر ما أوصى به في الاثنين، ثم قال:"وصية من الله"، مصدرًا من قوله:"يوصيكم". (3) * * * وقد قال بعض أهل العربية: ذلك منصوب من قوله:"فلكل واحد منهما السدس" ="وصية من الله"، وقال: هو مثل قولك:"لك درهمان نفقةً إلى أهلك". (4) * * * قال أبو جعفر: والذي قلناه بالصواب أولى، لأن الله جل ثناؤه افتتح ذكر قسمةِ المواريث في هاتين الآيتين بقوله:"يوصيكم الله"، ثم ختم ذلك بقوله:"وصية من الله"، أخبر أن جميع ذلك وصية منه به عباده، فنصْبُ قوله:"وصية" على المصدر من قوله:"يوصيكم"، أولى من نصبه على التفسير من قوله: (5) "فلكل واحد منهما السدس"، لما ذكرنا. * * *   (1) الأثر: 8789 -"أبوعمرو التيمي"، لم أعرف من هو؟ وأخشى أن يكون"أبو المعتمر التيمي" وهو"سليمان بن طرخان التيمي". (2) "الخروج" انظر ما سلف ص: 50، تعليق: 3. (3) "المصدر" يعني به المفعول المطلق. (4) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 258. (5) "التفسير" هو التمييز، كما أسلفنا مرارًا آخرها في 6: 586، تعليق: 1. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 ويعني بقوله تعالى ذكره:"وصية من الله"، عهدًا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم = (1) "والله عليم"، يقول: والله ذو علم بمصالح خلقه ومضارِّهم، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه، ومن يحرم ذلك منهم، ومبلغ ما يستحق به كل من استحق منهم قسمًا، وغير ذلك من أمور عباده ومصالحهم ="حليم"، يقول: ذو حلم على خلقه، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضًا، (2) في إعطائهم الميراث لأهل الجلد والقوة من ولد الميت، وأهل الغناء والبأس منهم، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تلك حدود الله". فقال بعضهم: يعني به: تلك شروط الله. (3) *ذكر من قال ذلك: 8790 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"الوصية" فيما سلف ص: 30، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"عليم" و"حليم" في مادتهما من فهارس اللغة فيما سلف. (3) انظر تفسير"الحدود" فيما سلف 3: 546، 547 / 4: 564، 565، 583 - 585، 599، وفي هذا الموضع تفصيل لم يسبق مثله فيما سلف، وهو تفصيل في غاية الجودة والدقة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 أسباط، عن السدي:"تلك حدود الله"، يقول: شروط الله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك طاعة الله. * ذكر من قال ذلك: 8791 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"تلك حدود الله"، يعني: طاعة الله، يعني المواريث التي سمَّى الله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: تلك سنة الله وأمره. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك فرائض الله. * * * وقال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما نحن مبيِّنوه، وهو أن"حدّ" كل شيء: ما فصَل بينه وبين غيره، ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين:"حدود"، لفصلها بين ما حُدَّ بها وبين غيره. (1) فكذلك قوله:"تلك حدود الله"، معناه: هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم، والفرائض التي فرضها لأحيائكم من موتاكم في هذه الآية على ما فرض وبيَّن في هاتين الآيتين،"حدود الله"، يعني: فصول ما بين طاعة الله ومعصيته في قسمكم مواريث موتاكم، كما قال ابن عباس. (2) وإنما ترك"طاعة الله"، (3) والمعنى   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "لفصولها بين ما حد بها وبين غيره" كأن"الفصول" مصدر"فصل بين الشيئين يفصل"، ولكن أهل اللغة لم يجعلوا ذلك مصدرًا لهذا المعنى، بل قالوا مصدره"الفصل". أما "الفصول" فهو مصدر"فصل فلان من عندي" إذا خرج. والذي قاله أصحاب اللغة هو الصواب المحض. وأنا أرجح أن الناسخ أسقط من الكلام شيئًا، وأن أصل عبارة الطبري: "ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين حدود - وهي فصولها، لفصلها ... "، و"الفصول" هنا، وكما ستأتي في عبارته بعد، جمع"فصل" (بفتح فسكون) ، وهو مثل"الحد"، وهو الحاجز بين الشيئين. (2) يعني في الأثر رقم: 8791. (3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "طاعة الله"، وإنما المتروك"طاعة" وحدها: فكنت أوثر أن يكون الكلامْ: "وإنما ترك - طاعة - والمعنى بذلك ... ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 بذلك: حدود طاعة الله، اكتفاء بمعرفة المخاطبين بذلك بمعنى الكلام من ذكرها. والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قوله:"ومن يطع الله ورسوله"، والآية التي بعدها:"ومن يعص الله ورسوله". (1) * * * فتأويل الآية إذًا: هذه القسمة التي قسم بينكم، أيها الناس، عليها ربكم مواريثَ موتاكم، فصولٌ فصَل بها لكم بين طاعته ومعصيته، وحدود لكم تنتهون إليها فلا تتعدَّوها، ليعلم منكم أهلَ طاعته من أهل معصيته، (2) فيما أمركم به من قسمة مواريث موتاكم بينكم، وفيما نهاكم عنه منها. ثم أخبر جل ثناؤه عما أعدَّ لكل فريق منهم فقال لفريق أهل طاعته في ذلك:"ومن يطع الله ورسوله" في العمل بما أمره به، والانتهاء إلى ما حدَّه له في قسمة المواريث وغيرها، ويجتنبْ ما نهاه عنه في ذلك وغيره ="يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار". * * * = فقوله:"يدخله جنات"، يعني: بساتين تجري من تحت غروسها وأشجارها الأنهار ="خالدين فيها"، يقول: باقين فيها أبدًا لا يموتون فيها ولا يفنون، ولا يُخْرجون منها = (3) "وذلك الفوز العظيم". يقول: وإدخال الله إياهم الجنانَ التي وصفها على ما وصف من ذلك =   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "الآية التي بعدها" بإسقاط واو العطف، وهو فساد، والصواب إثباتها. وهذه حجة ظاهرة مبينة في تفسير معنى"حدود الله"، ورحم الله أبا جعفر وجزاه خيرًا عن كتابه. (2) في المطبوعة: "وفصل منكم أهل طاعته من أهل معصيته"، لم يحسن قراءة ما كان في المخطوطة فبدله، وكان فيها: "لسلم منكم أهل طاعته" كأنها رؤوس"سين"، وصواب قراءتها ما أثبت. (3) انظر تفسير"الجنات"، و"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 "الفوز العظيم"، يعني: الفَلَح العظيم. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 8792 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله" الآية، قال: في شأن المواريث التي ذكر قبل. 8793 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"تلك حدود الله"، التي حدَّ لخلقه، وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة، فانتهوا إليها ولا تعدَّوها إلى غيرها. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يعص الله ورسوله" في العمل بما أمراه به من قسمة المواريث على ما أمراه بقسمة ذلك بينهم وغير ذلك من فرائض الله، مخالفًا أمرهما إلى ما نهياه عنه ="ويتعدَّ حدوده"، يقول: ويتجاوز فصُول طاعته التي جعلها تعالى فاصلة بينها وبين معصيته، (2) إلى ما نهاه عنه من قسمة تركات موتاهم بين ورثتهم وغير ذلك من حدوده (3) ="يدخله نارًا خالدًا فيها"،   (1) انظر تفسير"الفوز" فيما سلف: 7: 452: 472. وقوله"الفلح" (بفتح الفاء واللام معًا) . و"الفلح": و"الفلاح": الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير. (2) انظر تفسير"الحدود" فيما سلف قريبًا ص: 68، والتعليق: 3. (3) في المطبوعة: "بين ورثته" بالإفراد، والصواب من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 يقول: باقيًا فيها أبدًا لا يموت ولا يخرج منها أبدًا ="وله عذاب مهين"، يعني: وله عذاب مذِلٌّ من عُذِّب به مُخزٍ له. (1) * * * وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 8794 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن يعص الله ورسولا ويتعد حدوده"، الآية، في شأن المواريث التي ذكر قبل = قال ابن جريج:"ومن يعص الله ورسوله"، قال: من أصابَ من الذنوب ما يعذب الله عليه. * * * فإن قال قائل: أوَ مُخَلَّدٌ في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟ (2) قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًّا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحادَّ الله ورسوله في أمرهما = على ما ذكر ابن عباس من قول من قالَ حين نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) إلى تمام الآيتين: أيُورَّث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدوَّ ولا يحوز الغنيمة، نصفَ المال أو جميع المال؟ (3) استنكارًا منهم قسمةَ الله ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه وإناث ولده = (4) ممن خالف قسمةَ الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على ما قسمه في كتابه، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله، استنكارًا منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرَهم ابن عباس ممن كان بين أظهُر أصحاب رسول الله   (1) انظر تفسير"مهين" فيما سلف 2: 347، 348 / 7: 423. تعليق: 1. (2) في المطبوعة: "أو يخلد" فعلا، وأثبت الصواب من المخطوطة. (3) يعني خبر ابن عباس الذي سلف برقم: 8726، وساق معناه لا لفظه. (4) قوله"ممن خالف قسمة الله" صلة قوله آنفًا: "فحاد الله ورسوله في أمرهما ... " والذي بينهما فصل وضعته بين الخطين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية = (1) فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكمَ الله في تلك، يصير بالله كافرًا، ومن ملة الإسلام خارجًا. * * *   (1) سياق هذه الفقر كلها: "نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما ... ممن خالف قسمة الله ما قسم من ميراث أهل الميراث ... فهو من أهل الخلود في النار". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 القول في تأويل قوله: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (15) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واللاتي يأتين الفاحشة" والنساء اللاتي يأتين = (1) بالزنا، أي يزنين (2) ="من نسائكم"، وهن محصنات ذوات أزواج أو غير ذوات أزواج ="فاستشهدوا عليهن أربعة منكم"، يقول: فاستشهدوا عليهن بما أتين به من الفاحشة أربعة رجال من رجالكم، يعني: من المسلمين ="فإن شهدوا" عليهن ="فامسكوهن في البيوت"، يقول: فاحبسوهن في البيوت (3) ="حتى يتوفاهن الموت"، يقول: حتى يمتن (4) ="أو يجعل الله لهن سبيلا"، يعني: أو يجعل الله لهن مخرجًا وطريقًا إلى النجاة مما أتين به من الفاحشة. (5) * * *   (1) قوله في تفسيره: "يأتين بالزنا" بإدخال الباء على خلاف ما في الآية سيظهر لك معناه في ص: 81 وتعليق: 1 وأن قراءة عبد الله: "واللاتي يأتين بالفاحشة"، بالباء. (2) انظر تفسير"الفاحشة" فيما سلف 3: 303 / 5: 571 / 7: 218 (3) انظر تفسير"الإمساك" فيما سلف 4: 546. (4) انظر تفسير"التوفي" فيما سلف 6: 455، 456، وما بعدها. (5) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف: 7: 490 بولاق تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 8795 - حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن مجاهد:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت"، أمر بحبسهن في البيوت حتى يمتن ="أو يجعل الله لهن سبيلا"، قال: الحد. (1) 8796 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم"، قال: الزنا، كان أمر بحبسهن حين يشهد عليهن أربعة حتى يمتن ="أو يجعل الله لهنّ سبيلا"، والسبيل الحد. 8797 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم" إلى"أو يجعل الله لهن سبيلا"، فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سورة النور: 2] ، فإن كانا محصنين رجُما. فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما. 8798 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أو يجعل الله لهن سبيلا"، فقد جعل الله لهنّ، وهو الجلد والرجم.   (1) الأثر: 8795 -"أبو هشام الرفاعي، محمد بن يزيد" مضت ترجمته برقم: 2739، وغيره من المواضع، وكان في المطبوعة: "أبو هشام الرفاعي عن محمد بن يزيد"، بزيادة"عن" وهو خطأ واضح، وصوابه في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 8799 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة"، حتى بلغ:"أو يجعل الله لهن سبيلا"، كان هذا من قبل الحدود، فكانا يؤذّيان بالقول جميعًا، وبحبْس المرأة. ثم جعل الله لهن سبيلا فكان سبيل من أحصن جلدُ مئة ثم رميٌ بالحجارة، وسبيل من لم يحصن جلد مئة ونفي سنة. 8800 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء بن أبي رباح وعبد الله بن كثير:"الفاحشة"،"الزنا"،"والسبيل" الحدّ، الرجم والجلد. (1) 8801 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم" إلى:"أو يجعل الله لهن سبيلا"، هؤلاء اللاتي قد نكحن وأحصنّ. إذا زنت المرأة فإنها كانت تحبس في البيت، ويأخذ زوجها مهرَها فهو له، فذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) الزنا (2) (وَعَاشِرُوهُنَّ   (1) في المطبوعة: "والسبيل الرجم والجلد"، حذف"الحد"، وأثبتها من المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فذلك قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} ، وأحسبه سهوًا من الناسخ لا من أبي جعفر، فإن صدر هذا الذي ساقه من آية أخرى في سورة البقرة: 229: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} والعجب للسيوطي، فإنه خرجه في الدر المنثور 2: 129، ونسبه لابن جرير وحده، وساقه كما هو في المخطوطة والمطبوعة، ولم يتوقف عند هذه الآية المدمجة من آية أخرى!! فأثبت نص الآية التي هي موضوع استشهاده. هذا، وقد حذف الناشر بعد قوله: "بفاحشة مبينة" كلمة"الزنا" فأثبتها من المخطوطة، والدر المنثور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء: 19] ، حتى جاءت الحدود فنسختها، فجُلدت ورُجِمت، وكان مهرها ميراثًا، فكان"السبيل" هو الجلد. 8802 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"أو يجعل الله لهن سبيلا"، قال: الحدّ، نسخ الحدُّ هذه الآية. 8803 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى، عن إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد:"أو يجعل الله لهن سبيلا"، قال: جلد مئة، الفاعل والفاعلة. 8804 - حدثنا الرفاعي قال، حدثنا يحيى، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الجلد. 8805 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي نكَّس رأسه، ونكَّس أصحابه رؤوسهم، فلما سُرِّي عنه رفع رأسه فقال: قد جعل الله لهنّ سبيلا الثيِّبُ بالثيب، والبكر بالبكر. أما الثيب فتُجلد ثم ترجم، وأما البكر فتجلد ثم تُنفى". (1)   (1) الحديث: 8805 - هذا الحديث رواه الطبري هنا بخمسة أسانيد: 8805 - 8807 / 8810، 8811. كلها صحيح متصل إلا الأخير منها، كما سيأتي، إن شاء الله. وقد رواه مسلم 2: 33، عن محمد بن بشار - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ورواه هو وغيره بأسانيد أخر، سنشير إليها. وحطان بن عبد الله الرقاشي البصري: تابعي ثقة ثبت، وكان مقرئًا. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 109، وابن سعد 7 / 1 / 93، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 303 - 304، وطبقات القراء 1: 253. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 8806 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله، عن عبادة بن الصامت قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"خُذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب تجلد مئة وترجم بالحجارة، والبكر جلد مئة ونفي سنة". (1) 8807 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة عن الحسن، عن حطان بن عبد الله أخي بني رَقاش، عن عبادة بن الصامت: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كُرِب لذلك وتربَّد له وجهه، (2) فأنزل الله عليه ذات يوم، فلقي ذلك. فلما سُرِّي عنه قال: " خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب، جلد مئة ثم رجم بالحجارة، والبكر بالبكر، جلد مئة ثم نفي سنة". (3) 8808 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا   (1) الحديث: 8806 - سعيد: هو ابن أبي عروبة. وقد سقط من الإسناد هنا، في المخطوطة والمطبوعة، [عن الحسن] ، بين قتادة وحطان. وهو خطأ من الناسخين. فإن الحديث رواه مسلم 2: 33، عن ابن بشار - شيخ الطبري هنا - وعن ابن المثنى - كلاهما عن عبد الأعلى، بهذا الإسناد، على الصواب. فلذلك أثبتنا ما أسقطه الناسخون. ثم كل الروايات التي رأينا"عن قتادة" فيها هذه الزيادة، ومنها الإسناد الذي بعد هذا، والإسناد: 8810. وكذلك رواه أحمد في المسند 5: 318 (حلبي) عن محمد بن جعفر، عن سعيد، عن قتادة. وكذلك رواه أبو داود: 4415، من طريق يحيى، عن سعيد. وكذلك رواه البيهقي 8: 210، من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد. وكذلك رواه أحمد 5: 317، عن طريق حماد، عن قتادة وحميد - كلاهما عن الحسن. (2) كان في المخطوطة"كرب لتلك"، والصواب من روايات الحديث، وصححته المطبوعة السالفة. وقوله: "كرب" بالبناء للمجهول من"كربه الأمر يكربه"، غمه واشتد عليه. وقوله: "تربد وجهه"؛ تغير لونه إلى الغبرة. وقوله بعد: "سرى عنه" بالبناء للمجهول، تجلى عنه، كربه، من قولهم: "سرا الثوب"، إذا نزعه، والتشديد للمبالغة. (3) الأثر: 8807 - انظر التعليق على الحديث 8805. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا"، قال يقول: لا تنكحوهن حتى يتوفّاهن الموت، ولم يخرجهن من الإسلام. ثم نسخ هذا، وجُعِل السبيل أن يجعل لهن سبيلا (1) قال: فجعل لها السبيل إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت، وجعل السبيل للبكر جلد مائة. 8809 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا" قال، الجلد والرجم. (2) 8810 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشيّ، عن عبادة بن الصامت قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني قد جعل الله لهن سبيل، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب تجلد وترجم، والبكر تجلد وتنفى". (3)   (1) كان في المطبوعة: "ثم نسخ هذا وجعل السبيل التي ذكر أن يجعل ... " زاد"التي ذكر" ولا خير في زيادتها، والذي في المخطوطة كما أثبته، مستقيم بعض الاستقامة، إذا قرئت"جعل" بالبناء للمجهول، فتركتها كذلك مخافة أن تكون صوابًا محضًا، وإن كنت الآن في ريب منه. (2) في المطبوعة: "حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا جويبر"، أسقط من الإسناد"يزيد"، وهو من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير. (3) الحديث: 8810 -[ابن] المثنى: هو"محمد بن المثنى" شيخ الطبري. وكلمة [ابن] سقطت من المطبوعة خطأ. وهي ثابتة في المخطوطة. "محمد بن جعفر": هو غندر، صاحب شعبة. ووقع في المطبوعة"محمد بن أبي جعفر"! وهو خطأ ظاهر. وثبت على الصواب في المخطوطة. والحديث - من هذا الوجه - رواه أحمد في المسند 5: 320، عن محمد بن جعفر، عن شعبة. وكذلك رواه مسلم 2: 33، عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا - وعن ابن بشار = كلاهما عن شعبة. ورواه أحمد أيضًا 5: 320، عن يحيى، عن حجاج، عن شعبة. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2: 79، من طريق أسد بن موسى، عن شعبة. وكذلك رواه حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان، عن عبادة - عند الدارمي في سننه 2: 181. وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن الحسن البصري، ذكروا أنه"عن الحسن، عن حطان الرقاشي، عن عبادة بن الصامت". وقليل منهم لم يذكروا في الإسناد"عن حطان" - كما سنذكر في الإسناد التالي لهذا. فالظاهر أن الحسن سمعه من حطان عن عبادة، وكذلك كان يرويه. وأنه في بعض أحيانه كان يرسله عن عبادة، فلا يذكر"عن حطان". فمن رواه عنه موصولا، بإثبات"حطان" في الإسناد: المبارك بن فضالة، عند الطيالسي في مسنده: 584. ومنصور بن زاذان، عند أحمد في المسند 5: 313، وسنن الدارمي 2: 181، وصحيح مسلم 2: 33، وسنن أبي داود: 4416، والترمذي 2: 242، والمنتقى لابن الجارود، ص: 371 -372، والطحاوي 2: 79، وابن النحاس في الناسخ والمنسوخ، ص: 97، والبيهقي في السنن الكبرى 8: 221-222. ولم ينفرد الحسن بروايته عن حطان، بل رواه أيضًا يونس بن جبير. فرواه ابن ماجه: 2550، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله، عن عبادة بن الصامت. فكان لقتادة فيه شيخان الحسن ويونس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 8811 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن إسماعيل بن مسلم البصري، عن الحسن، عن عبادة بن الصامت قال، كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذِ احمرَّ وجهه، وكان يفعل ذلك إذا نزل عليه الوحي، فأخذه كهيئة الغَشْي لما يجد من ثِقَل ذلك، فلما أفاق قال:"خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البكران يجلدان وينفيان سنة، والثيبان يجلدان ويرجمان". (1) * * *   (1) الحديث: 8811 - هذا هو الإسناد الخامس المنقطع، كما أشرنا في الإسناد الأول: 8805. يحيى بن إبراهيم المسعودي- شيخ الطبري: مضت ترجمته في رقم: 84 في الجزء الأول. إسماعيل بن مسام البصري: مضت ترجمته في: 5417. وهو قد روى هذا الحديث"عن الحسن، عن عبادة" - منقطعًا. لأن الحسن البصري لم يسمع من عبادة. ولم ينفرد إسمعيل بروايته عن الحسن منقطعًا، بل تابعه غيره على ذلك. مما يدل على أن الحسن كان يصل الحديث مرة عن حطان، ويرسله مرة عن عبادة. فرواه الشافعي في الرسالة: 378، 636 - بشرحنا - وفي اختلاف الحديث (هامش الأم 7: 252) ، عن عبد الوهاب، وهو ابن عبد المجيد الثقفي، "عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عبادة بن الصامت". ثم قال في الرسالة: 379"أخبرنا الثقة من أهل العلم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن حطان الرقاشي، عن عبادة بن الصامت". وقال في اختلاف الحديث - بعد روايته عن عبد الوهاب -: "وقد حدثني الثقة: أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة: حطان الرقاشي. ولا أدري: أدخله عبد الوهاب بينهما فزال من كتابي حين حولته من الأصل، أم لا؟ والأصل - يوم كتبت هذا الكتاب - غائب عني". وقد ذكره في الأم 6: 119، معلقًا، جازمًا بالزيادة، فقال: "ثم روى الحسن، عن حطان الرقاشي، عن عبادة". فلا أدري: أجزم بأن عبد الوهاب"أدخله بينهما" - بعد، أم أراد رواية ما حدثه به"الثقة"؟ ولم أجد رواية"يونس بن عبيد" في موضع آخر، حتى أستطيع اليقين بأي ذلك كان. ورواه أيضًا - منقطعًا -: "جرير بن حازم، عن الحسن، عن عبادة" - عند الطيالسي: 584، وأحمد في المسند 5: 327 (حلبي) ، والبيهقي في السنن 8: 210. وكذلك رواه - منقطعًا -: "حميد، عن الحسن، عن عبادة" - عند أحمد في المسند 5: 317 (حلبي) . والحديث صحيح على كل حال. وقد ظهر وصل الروايات المنقطعة بالروايات الموصولة. وقد ذكره ابن كثير 2: 375، عن بعض روايات أحمد، والطيالسي، ومسلم، وأصحاب السنن. وذكره السيوطي 2: 129، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله:"أو يجعل الله لهن سبيلا"، قول من قال: السبيلُ التي جعلها الله جل ثناؤه للثيبين المحصَنَيْن، الرجم بالحجارة، وللبكرين جلد مئة ونفي سنة = لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رَجم ولم يجلد = وإجماعِ الحجة التي لا يجوز عليها فيما نقلته مجمعةً عليه، الخطأ والسهو والكذب = وصحةِ الخبر عنه أنه قضى في البكرين بجلد مئة ونفي سنة. فكان في الذي صح عنه من تركه جلدَ من رُجم من الزناة في عصره، دليلٌ واضح على وهَاء الخبر الذي روي عن الحسن، (1) عن حطان، عن عبادة،   (1) في المطبوعة: "على وهي الخبر"، وأثبت ما في المخطوطة لما سترى بعد. وذلك أني صححتها في الجزء 4: 18، فجعلت العبارة"لوهي أسانيدها، وأنها مع وهي أسانيدها" مصدر"وهى الشيء يهي وهيًا" ثم فعلت ذلك في الجزء نفسه ص: 155، وقلت في التعليق: 1، إني أخشى أن يكون ذلك من ناسخ التفسير، لا من أبي جعفر، ونقلت قول المطرزي في المغرب أن قول الفقهاء"وهاء" أنه خطأ، ولا يعتد به، ثم فعلت ذلك في الجزء الرابع نفسه ص: 361، تعليق: 3. وكذلك فعلت في الجزء 6: 85، تعليق: 2. بيد أني رأيت الآن أن أثبت ما في المخطوطة، لأنه تكرر مرارًا كثيرة يمتنع معها ادعاء خطأ الناسخ في نسخه، هذه واحدة. وأخرى أنه قد وقعت لي أجزاء من كتاب أبي جعفر الطبري"تهذيب الآثار" وهما قطعتان بخطين مختلفين عتيقين، فوجدت فيهما أنه يكتب"وهاء"، لا"وهى"، فرجحت أن أبا جعفر كذلك كان يكتبها، وإن كان المطرزي يقول إنه خطأ ولا يعتد به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: السبيل للثيب المحصن الجلدَ والرجم. * * * وقد ذكر أن هذه الآية في قراءة عبد الله: (واللاتي يأتين بالفاحشة من نسائكم) . والعرب تقول:"أتيت أمرًا عظيمًا، وبأمر عظيم" = و"تكلمت بكلام قبيح، وكلامًا قبيحًا". (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"واللذان يأتيانها منكم"، والرجل والمرأة اللذان يأتيانها، يقول: يأتيان الفاحشة. و"الهاء" و"الألف" في قوله:"يأتيانها" عائدة على"الفاحشة" التي في قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم". والمعنى: واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما. * * * ثم اختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما". فقال بعضهم: هما البكران اللذان لم يُحْصنا، وهما غير اللاتي عُنين بالآية قبلها. وقالوا: قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم"، معنيٌّ به الثيِّبات المحصنات بالأزواج - وقوله:"واللذان يأتيانها منكم"، يعني به البكران غير المحصنين. *ذكر من قال ذلك: 8812 - حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال حدثنا   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 258. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 أسباط، عن السدي: ذكر الجواري والفتيان اللذين لم ينكِحوا فقال:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما". 8813 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واللذان يأتيانها منكم" البكرين = فآذوهما. (1) * * * وقال آخرون: بل عُني بقوله:"واللذان يأتيانها منكم"، الرجلان الزانيان. ذكر من قال ذلك: 8814 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا يحيى، عن ابن جريج، عن مجاهد:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، قال: الرجلان الفاعلان، لا يَكْنى. 8815 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واللذان يأتيانها منكم"، الزانيان. * * * وقال آخرون: بل عني بذلك الرجلُ والمرأة، إلا أنه لم يُقصَد به بكر دون ثيِّب. ذكر من قال ذلك: 8816 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، قال: الرجل والمرأة. 8817 - حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم" إلى قوله:"أو يجعل الله لهن سبيلا"، فذكر الرجل بعد   (1) في المطبوعة: "البكران" بالرفع كأنه استنكر ما كان في المخطوطة كما أثبته، وهو الصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 المرأة، ثم جمعهما جميعًا فقال:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابًا رحيما". 8818 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح قال، قال عطاء وعبد الله بن كثير، قوله:"واللذان يأتيانها منكم"، قال: هذه للرجل والمرأة جميعًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"واللذان يأتيانها منكم"، قول من قال:"عُني به البكران غير المحصنين إذا زنيا، وكان أحدهما رجلا والآخر امرأة"، لأنه لو كان مقصودًا بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال، كما كان مقصودًا بقوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم" قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل:"والذين يأتونها منكم فآذوهم"، أو قيل:"والذي يأتيها منكم"، كما قيل في التي قبلها:"واللاتي يأتين الفاحشة"، فأخرج ذكرهن على الجميع، ولم يقل:"واللتان يأتيان الفاحشة". وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه، أخرجت أسماءَ أهله بذكر الجميع أو الواحد = وذلك أن الواحد يدل على جنسه = ولا تخرجها بذكر اثنين. فتقول:"الذين يفعلون كذا فلهم كذا"،"والذي يفعل كذا فله كذا"، ولا تقول:"اللذان يفعلان كذا فلهما كذا"، إلا أن يكون فعلا لا يكون إلا من شخصين مختلفين، كالزنا لا يكون إلا من زانٍ وزانية. فإذا كان ذلك كذلك قيل بذكر الاثنين، يراد بذلك الفاعل والمفعول به. فأما أن يذكر بذكر الاثنين، والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كل واحد منهما به، أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين، فذلك ما لا يُعْرف في كلامها. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من قال:"عني بقوله:"واللذان يأتيانها منكم الرجلان" = وصحةُ قول من قال: عني به الرجل والمرأة. (1)   (1) قوله: "وصحة قول من قال" معطوف على قوله"فساد قول من قال" مرفوعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنهما غير اللواتي تقدم بيان حكمهن في قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة"، لأن هذين اثنان، وأولئك جماعة. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الحبس كان للثيّبات عقوبة حتى يتوفَّين من قبل أن يجعل لهن سبيلا لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سب وتعيير، كما كان السبيل التي جعلت لهن من الرجم، أغلظ من السبيل التي جعلت للأبكار من جلد المئة ونفي السنة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الأذى" الذي كان الله تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة، من قبل أن يجعل لهما سبيلا منه. فقال بعضهم: ذلك الأذى، أذًى بالقول واللسان، كالتعيير والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة. ذكر من قال ذلك: 8819 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فآذوهما"، قال: كانا يؤذَيَان بالقول جميعًا. 8820 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما"، فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنَّفان ويعيَّران حتى يتركا ذلك. * * * وقال آخرون: كان ذلك الأذى، أذًى اللسان، غير أنه كان سبًّا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 ذكر من قال ذلك: 8821 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فآذوهما"، يعني: سبًّا. * * * وقال آخرون: بل كان ذلك الأذى باللسان واليد. ذكر من قال ذلك: 8822 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، فكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير وضرب بالنعال. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين، إذا أتيا ذلك وهما من أهل الإسلام. و"الأذى" قد يقع لكل مكروه نال الإنسان، (1) من قول سيئ باللسان أو فعل. (2) وليس في الآية بيان أيّ ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ، (3) ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الجماعة الموجب مجيئهما قطعَ العذر. وأهل التأويل في ذلك مختلفون، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان أو اليد، وجائز أن يكون كان أذى بهما. (4) وليس في العلم بأيِّ ذلك كان من أيٍّ نفعٌ   (1) في المطبوعة"قد يقع بكل مكروه"، والصواب ما في المخطوطة، ومعنى"يقع" هنا: يجيء، أو يوضع، أو ينزل في الاستعمال. (2) انظر تفسير"الأذى" فيما سلف 4: 374 / 7: 455. (3) في المطبوعة: "بيان أن ذلك كان" وهو خطأ، والصواب ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما"، وكان في المخطوطة: "أذى بهما"، فرجحت أن هذا هو الصواب، وجعلت الأولى"أذى باللسان أو اليد" بدلا من العطف بالواو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 في دين ولا دنيا، ولا في الجهل به مضرة، (1) إذْ كان الله جل ثناؤه قد نسخ ذلك من مُحكمه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما. فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما، فما أوجب في"سورة النور: 2" بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) . وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما، فالرجم الذي قضى به رسول الله فيهما. وأجمع أهل التأويل جميعًا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لأهل الفاحشة من الزناة والزواني سبيلا بالحدود التي حكم بها فيهم. * * * وقال جماعة من أهل التأويل: إن الله سبحانه نسخ بقوله:" (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سورة النور: 2] ، قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما". ذكر من قال ذلك: 8823 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، قال: كل ذلك نسخته الآية التي في"النور" بالحدّ المفروض. 8824 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، عن مجاهد:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما" الآية، قال: هذا نسخته الآية في"سورة النور" بالحدّ المفروض. 8825 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي. عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما" الآية، نسخ ذلك بآية الجلد فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وليس في العلم بأن ذلك كان من أي نفع"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبت، وهذا تعبير قد سلف مرارًا وعلقت عليه آنفًا 1: 520، س: 16 / 2: 517، س: 15 / 3: 64، تعليق: 1 / 6: 291، تعليق: 1. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) . 8826 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، فأنزل الله بعد هذا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 8827 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم" الآية، جاءت الحدود فنسختها. 8828 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: نسخ الحدّ هذه الآية. (1) 8829 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:"فأمسكوهن في البيوت" الآية، قال: نسختها الحدود، وقوله:"واللذان يأتيانها منكم"، نسختها الحدود. (2) 8830 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، الآية، ثم نسخ هذا، وجعل السبيل لها إذا زنت وهي محصنة، رجمت وأخرجت، وجعل السبيل للذكر جلد مئة. 8831 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت"، قال: نسختها الحدود. * * *   (1) الأثر: 8828 - في المطبوعة: "عبيد بن سليمان"، والصواب من المخطوطة، وفي المخطوطة خطأ آخر كتب"عتبة بن سليمان"، وهو خطأ، وهذا إسناد دائر في التفسير. (2) الأثر: 8829 -"أبو سفيان المعمري" هو: محمد بن حميد اليشكري، سلف برقم: 1787، وهذا الإسناد مضى كثيرًا منه: 526، 1200، 1253، 1516، 1699. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 وأما قوله: فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما، فإنه يعني به جل ثناؤه: فإن تابا من الفاحشة التي أتيا فراجعا طاعة الله بينهما ="وأصلحا"، يقول: وأصلحا دينهما بمراجعة التوبة من فاحشتهما، والعمل بما يرضي الله =" فأعرضوا عنهما"، يقول: فاصفحوا عنهما، (1) وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة، ولا تؤذوهما بعد توبتهما. * * * وأما قوله:"إن الله كان توابًا رحيما"، فإنه يعني: إن الله لم يزل راجعًا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته (2) ="رحيما" بهم، يعني: ذا رحمة ورأفة. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"، ما التوبة على الله لأحد من خلقه، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة ="ثم يتوبون من قريب"، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم.   (1) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299. (2) انظر تفسير"كان" بهذا المعنى فيما سلف: 8: 51 / تعليق: 1 / وتفسير"التوبة" فيما سلف من مراجع اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 وذلك هو"القريب" الذي ذكره الله تعالى ذكره فقال:"ثم يتوبون من قريب". (1) * * * وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. غير أنهم اختلفوا في معنى قوله:"بجهالة". فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، وذهب إلى أنّ عمله السوء، هو"الجهالة" التي عناها. ذكر من قال ذلك: 8832 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية: أنه كان يحدِّث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة. 8833 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: اجتمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصيِ به فهو"جهالة"، عمدًا كان أو غيره. 8834 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. 8835 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: كل من عمل بمعصية الله، فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه. 8836 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"القريب" فيما يلي ص: 93. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 أسباط، عن السدي:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"، ما دام يعصي الله فهو جاهل. 8837 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء. 8838 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته = قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها = قال ابن جريج: وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه. 8839 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب"، قال:"الجهالة"، كل امرئ عمل شيئًا من معاصي الله فهو جاهل أبدًا حتى ينزع عنها، وقرأ: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) [سورة يوسف: 89] ، وقرأ: وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة يوسف: 33] . قال: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. * * * وقال آخرون: معنى قوله:"للذين يعملون السوء بجهالة"، يعملون ذلك على عمد منهم له. ذكر من قال ذلك: 8840 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن مجاهد:"يعملون السوء بجهالة"، قال: الجهالة: العمد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 8841 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله. 8842 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: الجهالة: العمد. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا. ذكر من قال ذلك: 8843 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قوله:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: الدنيا كلها جهالة. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال: تأويلها: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها، عامدين كانوا للإثم، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها. (1) وذلك أنه غير موجود في كلام العرب تسمية العامد للشيء:"الجاهل به"، إلا أن يكون معنيًّا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته، فيقال:"هو به جاهل"، على معنى جهله بمعنى نفعه وضُرّه. (2) فأما إذا كان عالمًا بقدر مبلغ نفعه وضرّه، قاصدًا إليه، فغيرُ جائز من أجل قصده إليه أن يقال (3) "هو به جاهل"،   (1) انظر فيما سلف 2: 183، تفسيره"الجاهلون" أنهم: السفهاء. (2) لعل الصواب"بمبلغ نفعه وضره"، وحرفه الناسخ. (3) كان في المطبوعة والمخطوطة: "فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال: هو به جاهل" وهو بلا شك كلام لا يستقيم مع الذي قبله ولا الذي بعده، وسهو الناسخ هنا شيء لا ريب فيه أيضًا، فظني أنه سبق قلمه بأن كتب"من غير" مكان"من أجل" كما أثبتها، أو تكون كانت"من جراء قصده إليه" فلم يحسن قراءة"من جرا" فكتب"من غير"، وهو تصحيف قريب جدًا، مر عليك أشد منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 لأن"الجاهل بالشيء"، هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه = أو [الذي] يعلمه، فيشبَّه فاعله، (1) إذ كان خطًأ ما فعله، بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل، فيخطئ موضع الإصابة منه، فيقال:"إنه لجاهل به"، وإن كان به عالمًا، لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به. وكذلك معنى قوله:"يعملون السوء بجهالة"، قيل فيهم:"يعملون السوء بجهالة" = وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله، عامدين إتيانه، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام = لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جَهِل عظيمَ عقاب الله عليه أهلَه في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فقيل لمن أتاه وهو به عالم:"أتاه بجهالة"، بمعنى أنه فعل فعل الجهَّال به، لا أنه كان جاهلا. * * * وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه: أنهم جهلوا كُنْه ما فيه من العقاب، فلم يعلموه كعلم العالم، وإن علموه ذنبًا، فلذلك قيل:"يعملون السوء بجهالة". (2) قال أبو جعفر: ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول، لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كُنْه ما فيه. وذلك أنه جل ثناؤه قال:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب" دون غيرهم. فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءًا على علم منه بكنه ما فيه، ثم تاب من قريب = (3) توبة، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه = وقوله:"باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس   (1) في المخطوطة"أو الذي يعمله فيشبه فاعله" وهو خطأ، صححه ناشر المطبوعة الأولى"يعلمه"، وزدت"الذي بين القوسين لكي يستوي جانبا الكلام". (2) قائل هذا هو الفراء في معاني القرآن 1: 259. (3) قوله: "توبة" اسم"يكون" في قوله: "أن لا يكون للعالم ... ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 من مغربها" = (1) وخلاف قول الله عز وجل: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) [سورة الفرقان: 70] . * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى:"القريب" في هذا الموضع. فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم. ذكر من قال ذلك: 8844 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ثم يتوبون من قريب"، والقريب قبلَ الموت ما دام في صحته. 8845 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"ثم يتوبون من قريب"، قال: في الحياة والصحة. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل معاينة مَلَك الموت.   (1) هذان الخبران رواهما أبو جعفر بغير إسناد، وكأنه ذكر معناهما دون لفظهما، وكأن الأول: "كُلّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أن يَغْفره، إلا من مات مشركًا أوْ قتلَ مؤمنًا مُتَعمّدًا" خرجه السيوطي في الجامع الصغير، لأبي داود، من حديث أبي الدرداء، وإلى أحمد والنسائي والحاكم في المستدرك، من حديث معاوية. أما الثاني، فكأنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ عزّ وجَلَّ يبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ ليتوبَ مُسِيءُ النهار، ويَبْسُط يده بالنهار ليتُوبَ مسيءُ الليل، حتى تطلُعَ الشَّمْسُ من مغربها"، أخرجه مسلم 17: 76 من حديث أبي موسى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 ذكر من قال ذلك. 8846 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ثم يتوبون من قريب"، والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت. 8847 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حدير قال، قال أبو مجلز: لا يزال الرجل في توبة حتى يُعاين الملائكة. 8848 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: القريب، ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى، وينزلْ به الموت. (1) 4849 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب"، وله التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملَك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت، فليس له ذاك. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل الموت. ذكر من قال ذلك: 8850 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن الضحاك،"ثم يتوبون من قريب"، قال: كل شيء قبل الموت فهو قريب. 8851 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:"ثم يتوبون من قريب"، قال: الدنيا كلها قريب.   (1) الأثر: 8848 -"محمد بن قيس المدني"، قاضي عمر بن عبد العزيز، قال ابن سعد: "كان كثير الحديث عالمًا"، ذكره ابن حبان في الثقات. له حديث واحد في مسلم، عن أبي صرمة، عن أبي هريرة. وهو الذي يروي عنه أبو معشر. مترجم في التهذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 8852 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ثم يتوبون من قريب"، قبل الموت. 8853 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي قلابة قال: ذُكر لنا أن إبليس لما لُعن وأُنظر، قال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح. فقال تبارك وتعالى: وعزتي لا أمنعه التَّوبة ما دام فيه الروح. 8854 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران، عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وثَمَّ أبو قلابة، فحدث أبو قلابة قال: إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النَّظِرة، فقال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم! فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. 8855 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النَّظِرة، فأنظره إلى يوم الدين، فقال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح! قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح. 8856 - حدثني ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبليس لما رأى آدم أجْوفَ قال: وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح! فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي لا أحُول بينه وبين التوبة ما دام فيه الروح. (1)   (1) الأحاديث: 8853 - 8856 - هذه أحاديث مرسلة، أشار إليها ابن كثير في تفسيره 2: 380، ثم قال: "وقد ورد في هذا حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده، من طريق عمرو بن أبي عمرو، وأبي الهيثم العتواري، كلاهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال إبليس: يا ربّ، وعزّتك وجَلالكَ لا أَزال أُغويهم مَا دامت أَرواحُهُم في أَجسادِهم! فقال الله عز وجلّ: وعزّتي وجَلالي لا أزَال أغفِر لهم ما استغفروا لي" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 8857 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغر". (1) 8858 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر مثله. (2) . 8859 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ. (3) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: تأويله: ثم يتوبون قبل مماتهم، في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيَه، وقبل أن يُغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحَشْرجة وغمّ الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندمٍ   (1) الأثر: 8857 -"بشير بن كعب بن أبي الحميري، أبو أيوب العدوي". ثقة معروف، روى عن أبي الدرداء، وأبي ذر، وأبي هريرة. و"بشير" مصغر. وهذا حديث آخر مرسل، رواه الإمام أحمد في مسنده 6610، 6408 مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب. من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير، عن ابن عمر، وهو حديث صحيح. ورواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن غريب". وانظر تخريجه من شرح المسند لأخي السيد أحمد. و"الغرغرة": أن يجعل الشراب في فمه ويردده إلى أقصى الحلق، ثم لا يبلعه. شبهوا تردد الروح قبل خروجها بمنزلة ما يتغرغر به المريض. وهذه صفة عجيبة بلفظ واحد، لحالة من شهدها شهد للعرب أنهم أهل بيان، وأن لغتهم أدنى اللغات في تصويرها للدقيق المشكل بكلمة واحدة. (2) الأثر: 8858 - هذا حديث منقطع، فإن عبادة بن الصامت مات سنة 34. وولد قتادة سنة 61، وانظر التعليق على الأثر السالف. (3) الأثر: 8859 - انظر التعليق على الأثر: 8857. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 على ما سلف منه، وعزمٍ منه على ترك المعاودة، (1) وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة: فأما إذا كان بكرب الموت مشغولا وبغمّ الحشرجة مغمورًا، فلا إخالُه إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبًا. ولذلك قال من قال:"إن التوية مقبولة، ما لم يغرغر العبد بنفسه"، (2) فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقلَ الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأريب، فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعةً من شروده عن رَبه إلى طاعته، كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب". * * * القول في تأويل قوله: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (3) "فأولئك"، فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ="يتوب الله عليهم"، دون من لم يتب حتى غُلب على عقله، وغمرته حشرجة ميتته، فقال وهو لا يفقه ما يقول:"إني تبت الآن"، خداعًا لربه، ونفاقًا في دينه. * * *   (1) في المطبوعة: "إلا ممن ندم على ما سلف منه، وعزم فيه على ترك المعاودة"، تصرف فيما كان في المخطوطة، لما رأى من تحريفها، وكان فيها: "إلا من ندم على ما سلف منه، وعرف فيه على ترك المعاودة"، والجملة الأولى مستقيمة، وقد أثبتها، والثانية تصحيف صواب قراءته ما أثبت. (2) قوله: "ولذلك قال من قال"، دال على أن أبا جعفر. حين روى الأحاديث الثلاثة المرسلة: 8857 -8859، لم يكن عنده ما صح من رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) في المخطوطة والمطبوعة"يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 ومعنى قوله:"يتوب الله عليهم"، يرزقهم إنابة إلى طاعته، ويتقبل منهم أوبتهم إليه وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم. (1) * * * وأما قوله:"وكان الله عليما حكيما"، فإنه يعني: ولم يزل الله جل ثناؤه (2) = "عليما" بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة، بعد إدبارهم عنه، المقبلين إليه بعد التولية، وبغير ذلك من أمور خلقه ="حكيمًا"، (3) في توبته على من تاب منهم من معصيته، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره، ولا يدخل أفعاله خلل، ولا يُخالطه خطأ ولا زلل. (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله ="حتى إذا حضر أحدهم الموت"، يقول: إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه، قال = وقد غُلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه، بشغله بكرب حشرجته وغرغرته =   (1) انظر تفسير"التوبة" و"تاب" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر معنى"كان" فيما سلف قريبًا: 88 تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) كان في المخطوطة والمطبوعة: "حكيم"، ورددتها إلى نص الآية والسياق. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا يخلطه"، وإنما يقال: "خلط الشيء بالشيء"، وليس هذا مكانها، بل الصواب ما أثبت. وانظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 "إني تبت الآن"، يقول: فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة، لأنه قال ما قال في غير حال توبة، كما:- 8860 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن يَعْلَى بن نعمان قال، أخبرني من سمع ابن عمر يقول: التوبة مبسوطة ما لم يَسُقْ، ثم قرأ ابن عمر:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموتُ قال إنّي تبت الآن"، ثم قال: وهل الحضور إلا السَّوق. (1) 8861 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن" قال: إذا تبيَّن الموتُ فيه لم يقبل الله له توبة. 8863 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن"، فليس لهذا عند الله توبة. 8863 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت إبراهيم بن ميمون يحدِّث، عن رجل من بني الحارث قال، حدثنا رجل منا، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من تاب قبل موته بعام تِيبَ عليه، حتى ذكر شهرًا، حتى ذكر ساعة، حتى ذكر فُواقًا. قال: فقال رجل: كيف يكون هذا والله تعالى يقول:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى   (1) الأثر: 8860 -"يعلى بن نعمان" كوفي ثقة. مترجم في الكبير 4 / 2 / 418، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 304، وتعجيل المنفعة: 457، روى عن عكرمة، وبلال بن أبي الدرداء. روى عنه العلاء بن المسيب، والثوري، والزهري. وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131 ونسبه أيضًا لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. و"ساق الميت يسوق" و"ساق بنفسه"، و"ساق نفسه"، "سوقًا وسياقًا وسووقًا"، و"حضرت فلانًا في السوق، وفي السياق الموت": وذلك النزع عند إقبال الموت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 إذا حضر أحدهم الموت قال إنَّي تبت الآن"؟ فقال عبد الله: أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) 8864 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم قال: كان يقال: التوبة، مبسوطة ما لم يُؤخذ بكَظَمِه. (2) * * * واختلف أهل التأويل فيمن عُني بقوله:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن" فقال بعضهم: عُني به أهل النفاق. ذكر من قال ذلك: 8865 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب"، قال: نزلت الأولى في المؤمنين، ونزلت الوسطى في المنافقين = يعني:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات"، والأخرى في الكفار يعني:"ولا الذين يموتون وهم كفار". * * * وقال آخرون: بل عُني بذلك أهل الإسلام.   (1) الأثر: 8863 - أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم: 6920، وأبو داود الطيالسي: 301، قال أخي السيد أحمد في شرح المسند: "إسناده ضعيف، لإبهام الرجل من بني الحارث، راويه عن التابعي"، وقد استوفى الكلام في تخريجه هناك. وقوله: "حتى ذكر فواقًا"، أي: فواق ناقة. وهذا مما يريدون به الزمن القليل القصير، وأصل"الفواق" (بضم الفاء وفتح الواو) هو الوقت بين الحلبتين، إذا فتحت يدك وقبضتها ثم أرسلتها عند الحلب. (2) "الكظم" (بفتحتين) وجمعه"كظام" (بكسر الكاف) و"أكظام"، وهو مخرج النفس عند الحلق. يريد: عند خروج نفسه، وانقطاع نفسه. ومنه قليل: "كظم غيظه"، أي رده وحبسه، و"رجل كظوم"، شديد الكتمان لما يعتلج في نفسه. وكان في المخطوطة: "ما أخذ بكظمه" وهو خطأ من الناسخ، وقد رواه ابن الأثير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131، ونسبه لابن جرير وابن المنذر، باللفظ الذي أثبته ناشر المطبوعة الأولى، وهو الصواب المحض إن شاء الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 ذكر من قال ذلك: 8866 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: بلغنا في هذه الآية:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن" قال: هم المسلمون، ألا ترى أنه قال:"ولا الذين يموتون وهم كفار"؟ * * * وقال آخرون: بل هذه الآية كانت نزلت في أهل الإيمان، غير أنها نسخت. ذكر من قال ذلك: 8867 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار" فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء: 48،116] ، فحرّم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه في الإسلام. (2) وذلك أن المنافقين كفار، فلو كان معنيًّا به أهل النفاق لم يكن لقوله:"ولا الذين يموتون وهم كفار" معنًى مفهوم، إذْ كانوا والذين قبلهم في معنى واحد: من أن جميعهم كفار. ولا وجه لتفريق أحكامهم، والمعنى   (1) الأثر: 8867 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131، ونسبه أيضًا لأبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) يعني الأثر رقم: 8866، فيما سلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 الذي من أجله بطل أن تكون [لهم] توبة، (1) واحدٌ. وفي تفرقة الله جل ثناؤه بين أسمائهم وصفاتهم، بأن سمَّى أحد الصنفين كافرًا، ووصف الصنف الآخر بأنهم أهل سيئات، ولم يسمهم كفارًا = ما دل على افتراق معانيهم. وفي صحة كون ذلك كذلك، صحةُ ما قلنا وفسادُ ما خالفه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا التوبة للذين يموتون وهم كفار = فموضع"الذين" خفض، لأنه معطوف على قوله:"للذين يعملون السيئات". (2) وقوله:"أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليما"، يقول: هؤلاء الذين يموتون وهم كفار ="أعتدنا لهم عذابًا أليما"، لأنهم من التوبة أبعد، لموتهم على الكفر. (3) كما:-   (1) في المخطوطة بعد قوله: "معنى مفهوم" ما نصه: "لأنهم إن كانوا الذين قبلهم في معنى واحد، من أن جميعهم كفار. ولا وجه لتفريق أحكامهم والمعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد"، وهي عبارة مضطربة أشد الاضطراب، إلا أن الناسخ ضرب بقلم خفيف على لام"لأنهم"، فتبين لي أن الذي بعدها"إذ كانوا الذين قبلهم"، وسقطت الواو من الناسخ الساهي عن كتابته. وسها أيضًا فأسقط"لهم" التي وضعتها بين القوسين. فاستقام الكلام كالذي كتبت. أما ناشر المطبوعة الأولى فقد أساء غاية الإساءة، فجعل الجملة هكذا: "لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم في معنى واحد: من أن جميعهم كفار. فلا وجه لتفريق أحد منهم في المعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة" فلم ينتبه لما ضرب عليه الناسخ في"لأنهم" وزاد في"كانوا الذين قبلهم" فجعلها"كانوا هم والذين قبلهم". ثم جعل"ولا جه"، "فلا وجه" وجعل"أحكامهم"، "أحد منهم" ثم جعل"والمعنى""في المعنى" وزاد"مقبولة" من عنده في آخر الكلام، فأفسد الكلام إفسادًا آخر. ورحم الله أبا جعفر، وغفر لناسخ كتابه، والحمد لله الذي هدى إلى الصواب. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 259. (3) وهذا أيضًا عبث آخر من ناشر المطبوعة الأولى، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة فقلب هذه الجملة قلبًا أهدر معناها، واستأصل المعنى الذي أراده أبو جعفر، فكتب: "لأنهم أبعدهم من التوبة كونهم على الكفر" ظن"لمونهم" كما كتبها الناسخ، "كونهم"، فعبث بالكلام عبثًا لا يرتضيه أحد من أهل العلم. وانظر نص الكلام في الأثر الذي يليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 8868 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"ولا الذين يموتون وهم كفار"، أولئك أبعدُ من التوبة. * * * واختلف أهل العربية في معنى:"أعتدنا لهم". فقال بعض البصريين: معنى"أعتدنا"،"أفعلنا" من"العَتَاد". قال: ومعناها: أعددنا. (1) * * * وقال بعض الكوفيين:"أعددنا" و"أعتدنا"، معناهما واحد. * * * فمعنى قوله:"أعتدنا لهم"، أعددنا لهم ="عذابًا أليما"، يقول: مؤلمًا موجعًا. (2) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى [بقوله] : (3) "يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله ="لا يحل لكم أن ترثوا النساء كَرهًا"، يقول: لا يحل   (1) هذا البصري، هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 120. (2) انظر تفسير"أليم"، فيما سلف من فهارس اللغة. (3) ما بين القوسين زيادة تقتضيها سياقة كلامه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 لكم أن ترثوا نكاحَ نساء أقاربكم وآبائكم كَرْهًا. (1) * * * فإن قال قائل: كيف كانوا يرثونهن؟ وما وجه تحريم وراثتهن؟ فقد علمت أن النساء مورثات كما الرجال مورثون! قيل: إن ذلك ليس من معنى وراثتهن إذا هن مِتن فتركن مالا وإنما ذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها، كان ابنه أو قريبُه أولى بها من غيره، ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوّجها حتى تموت. فحرّم الله تعالى ذلك على عباده، وحظَر عليهم نكاحَ حلائل آبائهم، ونهاهم عن عضلهن عن النكاح. * * * وبنحو القول الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 8869 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط بن محمد قال، حدثنا أبو إسحاق = يعني: الشيباني =، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، قال: كانوا إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوّجوها، وإن شاؤوا لم يزوّجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك. (2)   (1) انظر تفسير"الكره" فيما سلف 4: 297، 298 / 6: 565. (2) الأثر: 8869 "أبو إسحاق الشيباني"، هو: سليمان بن أبي سليمان، مضت ترجمته برقم: 1307، 3003، 3023. وهذا الأثر أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 184) ، والبيهقي في السنن الكبرى 7: 138، وأبو داود في سننه 2: 310 رقم: 2089، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، والنسائي وابن أبي حاتم. وقد استوفى الحافظ ابن حجر الكلام فيه في الفتح وانظر تفسير ابن كثير 2: 381382. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 8870 - وحدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال، حدثني محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فأنزل الله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا". (1) * * * 8871 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كَرْهًا ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبيِّنة"، وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضُلها حتى تموت أو تردَّ إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك = يعني أن الله نهاكم عن ذلك. (2)   (1) الأثر: 8870 "أحمد بن محمد الطوسي"، شيخ الطبري، روى عنه باسم"أحمد بن محمد بن حبيب" في التاريخ، وتمام نسبه: "أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب"، وقد مضت ترجمته برقم: 3833. و"عبد الرحمن بن صالح الأزدي العتكي"، كان رافضيًا، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه ويدنيه. فقيل له فيه، فقال: سبحان الله! رجل أحب قومًا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم! وهو ثقة. وقال يحيى بن معين: "يقدم عليكم رجل من أهل الكوفة، يقال له عبد الرحمن بن صالح، ثقة صدوق شيعي، لأن يخر من السماء، أحب إليه من أن يكذب في نصف حرف". وقال ابن عدي: "معروف مشهور في الكوفيين، لم يذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه، إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع". مترجم في التهذيب. و"يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، مضت ترجمته في: 2154، 3395، 5074. و"محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف"، روى عن أبيه = واسم أبيه: "أسعد" وعن أبان بن عثمان. روى عنه يحيى بن سعيد، وابن إسحاق، ومالك. ثقة، وأشار الحافظ ابن حجر في ترجمته إلى هذا الأثر، أنه رواه النسائي، والظاهر أنه في السنن الكبرى. و"أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري" واسمه"أسعد بن سهل ... " ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعامين، فيما روى. قال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث". وهذا الأثر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 132، وزاد نسبته للنسائي، وابن أبي حاتم. وخرجه ابن كثير منسوبًا إلى ابن مردويه بمثله 2: 382. (2) الأثر: 8871 رواه أبو داود في سننه 1: 311 رقم: 2090، من طريق علي بن حسين بن واقد عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس. والدر المنثور 2: 131. وقوله: "أحكم الله على ذلك"، فسره بعد، وأصله من"حكمت الفرس وأحكمته" إذا قدعته وكففته، و"حكم الرجل وأحكمه" منعه مما يريد. وفي المخطوطة"فأحكم عن ذلك"، وأثبتت المطبوعة الأولى نص أبي داود والدر المنثور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 8872 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كانت الأنصار تفعل ذلك. كان الرجل إذا مات حميمه، ورث حميمه امرأته، فيكون أولى بها من وليِّ نفسها. (1) 8873 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء كرهًا" الآية، قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه، فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها = قال ابن جريج، فأخبرني عطاء بن أبي رباح: أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجلُ فترك امرأة حبسها أهلهُ على الصبيِّ يكون فيهم، فنزلت:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا" الآية = قال ابن جريج، وقال مجاهد: كان الرجل إذا توفي أبوه، كان أحق بامرأته، ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها، أو يُنكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه = قال ابن جريج، وقال عكرمة نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم، من الأوس، توفّي عنها أبو قيس بن الأسلت، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تُركت فأنكح! فنزلت هذه الآية. (2)   (1) "الحميم" القريب الذي توده ويودك، وتهتم لأمره. (2) الأثر: 8873 - خبر كبيشة بنت معن. خرجه ابن الأثير في أسد الغابة 5: 538، ونسبه لأبي موسى - والسيوطي في الدر المنثور 2: 132، وزاد نسبته لابن المنذر. وقوله: "جنح عليها": بسط عليها جناحه - أو كنفه - ومال عليها، يعني أنه مال عليها ليحول بين الناس وبينها، وسيأتي في الأثر رقم: 8877 تفسير جيد لمعنى هذه الكلمة، وهو قول السدي: "فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها"، فهذا الفعل - أي إلقاء الثوب على المرأة - هو الذي استعمل له عكرمة لفظ"جنح عليها". ولم أجد في كتب اللغة من أثبت هذا المجاز الجيد، وهو حقيق أن يثبت فيها مشروحًا. فأثبته هناك إن شئت. وانظر أيضًا إلقاء الثوب على المرأة في الآثار الآتية رقم: 8878، 8880، 8881، 8882. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 8874 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كان إذا توفي الرجل، كان ابنه الأكبر هو أحق بامرأته، ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها، أو يُنكحها من شاء، أخاه أو ابنَ أخيه. 8875 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، مثل قول مجاهد. 8876 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك. 8877 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، فإن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارِث الميت فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه، أو ينكحها فيأخذ مهرها. وإن سبقته فذهبت إلى أهلها، فهم أحق بنفسها. 8878 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي (1) قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة، ألقى الرجل عليها ثوبه، فورث نكاحها، وكان أحق بها. وكان ذلك عندهم نكاحًا. فإن   (1) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وقد سلف مرارًا في هذا الإسناد الدائر في التفسير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 شاء أمسكها حتى تفتدي منه. وكان هذا في الشِّرك. 8879 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا. فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه، لا تستطيع أن تمتنع، (1) فإن أحبّ أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها، وإن كره فارقها، وإن كان صغيرًا حبست عليه حتى يكبر، فإن شاء أصابها، وإن شاء فارقها. فذلك قول الله تبارك وتعالى:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا". 8880 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، وذلك أن رجالا من أهل المدينة كان إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فورث نكاحها، فلم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا". 8881 - حدثني ابن وكيع قال، حدثني أبي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مقسم قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها فجاء رجلٌ فألقى عليها ثوبه، كان أحق الناس بها. قال: فنزلت هذه الآية:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا". * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا التأويل: يا أيها الذين آمنوا، لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرها = فترك ذكر"الآباء" و"الأقارب" و"النكاح"، ووجّه الكلام إلى النهي عن وراثة النساء، اكتفاء بمعرفة المخاطبين بمعنى   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "لا يستطيع أن يمنع"، وهو خطأ من الناسخ لا يستقيم به الكلام، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 الكلام، إذ كان مفهومًا معناه عندهم. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحل لكم، أيها الناس، أن ترثوا النساء تَرِكاتهن كرهًا. قال: وإنما قيل ذلك كذلك، لأنهم كانوا يعضلون أيَاماهُنَّ، وهن كارهات للعضل، حتى يمتن، فيرثوهن أموالهنّ. ذكر من قال ذلك: 8882 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس. فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. (1) 8883 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: نزلت في ناس من الأنصار، كانوا إذا مات الرجل منهم، فأمْلَكُ الناس بامرأته وليُّه، فيمسكها حتى تموت فيرثها، فنزلت فيهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، القولُ الذي ذكرناه عمن قال: معناه:"لا يحل لكم أن ترثوا نساء أقاربكم"، (2) لأن الله جل ثناؤه قد بين مواريث أهل المواريث، فذلك لأهله، كره وراثتهم إيَّاه الموروثَ ذلك عنه من الرجال أو النساء، أو رضي. (3)   (1) في المطبوعة: "فإن كانت قبيحة حبسها ... "، وفي المخطوطة: "ذميمة"، والصواب ما أثبت. والدميمة: القبيحة. (2) في المطبوعة: "أن ترثوا النساء كرهًا أقاربكم"، وهو كلام فاسد كل الفساد، وأساء التصرف في الخطأ الذي كان في المخطوطة، وكان فيها: "أن ترثوا النساء أقاربكم"، وهو سبق قلم من الناسخ، صوابه ما أثبت. (3) كان في المخطوطة: "فذلك لأهله نحوه وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء أو رضي"، فاستعجم على الناشر الأول للتفسير قوله: "نحوه" ولم يجد لها معنى، فكتب الجملة: "فذلك لأهله نحو وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء. فقد علم بذلك ... " جعل"نحوه""نحو" بغير هاء، وحذف"أو رضي" ليستقيم الكلام فيما يتوهم، ولكنه أصبح لغوًا لا معنى له!! والصواب أن يقرأ"نحوه" -"كره"، فيستقيم الكلام كما في المخطوطة بغير حذف. وقد أساء ناشر المطبوعة الأولى إلى هذا الكتاب الجليل إساءة بليغة، بما تصرف فيه، كما رأيت في آلاف من تعليقاتي، وكما سترى. وغفر الله لنا وله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 فقد علم بذلك أنه جل ثناؤه لم يحظر على عباده أن يرثوا النساء فيما جعله لهم ميراثًا عنهن، (1) وأنه إنما حظَر أن يُكْرَهن موروثات، بمعنى حظر وراثة نكاحهن، إذا كان ميِّتهم الذي ورثوه قد كان مالكًا عليهن أمرَهن في النكاح ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والأرضين وسائر مالَه منافع. (2) فأبان الله جل ثناؤه لعباده: أن الذي يملكه الرجل منهم من بُضْع زوْجه، (3) معناه غير معنى ما يملك أحدهم من منافع سائر المملوكات التي تجوز إجارتها. فإن المالك بُضع زوجته إذا هو مات، لم يكن ما كان له ملكًا من زوجته بالنكاح لورثته بعده، كما لهم من الأشياء التي كان يملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد موته، بميراثهم ذلك عنه. (4) * * * وأما قوله تعالى:"ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: تأويله:"ولا تعضلوهن": أي ولا تحبسوا، يا معشر ورثة من مات من الرجال، أزواجَهم عن نكاح من أردنَ نكاحه من الرجال، كيما يمتن ="فتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، أي: فتأخذوا من أموالهن إذا مِتن،   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يرثوا النساء ما جعله لهم ميراثًا"، وصواب السياق يقتضي"فيما" كما أثبتها. (2) في المخطوطة: "وسائر ماله نافع"، والصواب ما في المطبوعة، وقوله: "ما له منافع" أي: وسائر الأشياء التي لها منافع ينتفع بها مالكها. (3) في المطبوعة: "زوجته" وأثبت ما في المخطوطة. و"البضع" (بضم الباء وسكون الضاد) : فرج المرأة، وقيل: هو الجماع، وقيل: هو عقد النكاح. وكلها متقاربة، والأول أولاها، والباقي متفرع عليه. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "بميراثه ذلك عنه" بالإفراد، والصواب الجمع كما أثبته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 ما كان موتاكم الذين ورثتموهم ساقوا إليهن من صدقاتهن. وممن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم، منهم ابن عباس والحسن البصري وعكرمة. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تعضُلوا، أيها الناس، نساءكم فتحبسوهن ضرارًا، ولا حاجة لكم إليهن، فتُضِرُّوا بهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن من صَدُقاتهن. ذكر من قال ذلك: 8884 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تعضلوهن"، يقول: لا تقهروهن ="لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، يعني، الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر، فَيُضِرُّ بها لتفتدي. 8885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تعضلوهن"، يقول: لا يحل لك أن تحبس امرأتك ضرارًا حتى تفتدي منك = قال وأخبرنا معمر قال، وأخبرني سماك بن الفضل، عن ابن البيلماني قال: نزلت هاتان الآيتان،   (1) انظر الآثار رقم: 8871، 8873، 8877، وما بعدها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام. (1) 8886 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر قال، أخبرنا سماك بن الفضل، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن"، قال: نزلت هاتان الآيتان: إحداهما في الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام، قال عبد الله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء في الجاهلية، ولا تعضلوهن في الإسلام. (2) 8887 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"ولا تعضلوهن"، قال: لا تحبسوهن. 8888 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، أما"تعضلوهن"، فيقول: تضاروهن ليفتدِين منكم. 8889 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ولا تعضلوهن"، قال:"العضل"، أن يكره الرجل امرأته فيضرُّ بها حتى تفتدي منه، قال الله تبارك وتعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) [سورة النساء: 21] . (3) * * * وقال آخرون: المعنيُّ بالنهي عن عضل النساء في هذه الآية: أولياؤهن. ذكر من قال ذلك: 8890 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أن ينكحن أزواجهن"، كالعَضْل في"سورة البقرة". (4)   (1) الأثر: 8885 -"سماك بن الفضل الصنعاني"، ثقة. قال الثوري: لا يكاد يسقط له حديث لصحته. و"معمر"، هو معمر بن راشد، يروى عنه. و"ابن البيلماني"، هو: عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر. ثقة. مضت ترجمته برقم: 4946، 4947. (2) الأثر: 8886 -"عبد الله" يعني عبد الله بن المبارك. وكان في المطبوعة: "والأخرى في الإسلام" بإسقاط"أمر". وكذلك كتب ناسخ المخطوطة، ولكنه زاد"أمر" في الهامش، فأثبتها. (3) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ يكثر من ناشر المطبوعة السالفة، والصواب من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير. (4) انظر تفسير الآية رقم: 232، في 5: 17-27. وكان في المخطوطة: "كالعضل في سورة" وأسقط"البقرة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 8891 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وقال آخرون: بل المنهيُّ عن ذلك: زوجُ المرأة بعد فراقه إياها. وقالوا: ذلك كان من فعل الجاهلية، فنهوا عنه في الإسلام. ذكر من قال ذلك: 8892 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان العضلُ في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأةَ الشريفة فلعلها أن لا توافقه، (1) فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، قال: فهذا قول الله:"ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" الآية. * * * قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى"العضل" وما أصله، بشواهد ذلك من الأدلة. (2) وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله:"ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محبّ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصَّداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة، إلا لأحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارّة منه لها بذلك، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك = أو لوليها الذي إليه إنكاحها.   (1) في المطبوعة: "فلعلها لا توافقه"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر ما سلف 5: 24، 25، وما قبل ذلك من الآثار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحدٍ غيرهما، وكان الوليُّ معلومًا أنه ليس ممن أتاها شيئًا فيقال إنْ عضلها عن النكاح:"عَضَلها ليذهب ببعض ما آتاها"، كان معلومًا أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبيلُ إلى عضلها ضرارًا لتفتدي منه. وإذا صح ذلك، = وكان معلومًا أن الله تعالى ذكره لم يجعل لأحد السبيلَ على زوجته بعد فراقه إياها وبينونتها منه، فيكون له إلى عضلها سبيل لتفتدي منه من عَضْله إياها، أتت بفاحشة أم لم تأت بها، = (1) وكان الله جل ثناؤه قد أباح للأزواج عضلهن إذا آتين بفاحشة مبيِّنة حتى يفتدين منه = (2) كان بيِّنًا بذلك خطأ التأويل الذي تأوّله ابن زيد، وتأويلِ من قال:"عنى بالنهي عن العضل في هذه الآية أولياء الأيامى"، = وصحةُ ما قلنا فيه. (3) * * * [قوله] :"ولا"تعضلوهن"، (4) في موضع نصب، عطفًا على قوله:"أن ترثوا النساء كرهًا". ومعناه: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا، ولا أن تعضلوهن. (5) وكذلك هي فيما ذكر في حرف ابن مسعود. ولو قيل: هو في موضع جزم على وجه النهي، لم يكن خطأ. (6) * * *   (1) قوله: "وكان الله جل ثناؤه"، معطوف على قوله: "وكان معلومًا". (2) قوله: "كان بينًا بذلك ... " جواب"إذا" في قوله: "وإذا صح ذلك". (3) قوله: "وصحة ما قلنا فيه" مرفوع معطوف على"خطأ" في قوله: "كان بينًا بذلك خطأ التأويل". (4) زدت ما بين القوسين، اتباعًا لنهج أبي جعفر في تفسير الآي السالفة كلها. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا تعضلوهن" بإسقاط"أن"، وهو خطأ، يدل عليه قوله بعد: "وكذلك هي في حرف ابن مسعود" - وقراءة ابن مسعود: {ولا أن تعضلوهن} وانظر معاني القرآن للفراء 1: 259. (6) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 259. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 القول في تأويل قوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يحل لكم، أيها المؤمنون، أن تعضُلوا نساءكم ضرارًا منكم لهن، وأنتم لصحبتهن كارهون، وهن لكم طائعات، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن ="إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، فيحل لكم حينئذ الضرارُ بهن ليفتدين منكم. (1) ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الفاحشة" التي ذكرها الله جل ثناؤه في هذا الموضع. (2) فقال بعضهم: معناها الزنا، وقال: إذا زنت امرأة الرجل حلَّ له عَضْلها والضرارُ بها، لتفتدي منه بما آتاها من صداقها. ذكر من قال ذلك: 8893 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا أشعث، عن الحسن - في البكر تَفْجُر قال: تضرب مئة، وتنفى سنة، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه. وتأوَّل هذه الآية:"ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة". 8894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني - في الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة، أخذ ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك الحدود.   (1) في المخطوطة بعد: "ليفتدين منكم" ما نصه: "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، وهو تكرار أحسن الناشر الأول إذ حذفه. (2) انظر تفسير"الفاحشة" و"الفحشاء" فيما سلف: 73، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 8895 - حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا عبد الله بن المبارك قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة، (1) فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه. 8896 - حدثنا ابن حميد قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرني معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة - في الرجل يطّلع من امرأته على فاحشة، فذكر نحوه. 8897 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، وهو الزنا، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. 8898 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم: أنه سمع الحسن البصري:"إلا أن يأتين بفاحشة"، قال: الزنا. قال: وسمعت الحسن وأبا الشعثاء يقولان: فإن فعلت، حلَّ لزوجها أن يكون هو يسألها الخُلْع، تفتدي نفسها. (2) * * * وقال آخرون:"الفاحشة المبينة"، في هذا الموضع، النشوزُ. ذكر من قال ذلك: 8899 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، وهو البغض والنُّشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية. 8900 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن) في قراءة ابن مسعود. قال: إذا عصتك وآذتك، فقد حل لك   (1) في المخطوطة: "إذا رأى الرجل امرأته فاحشة" والصواب ما في المطبوعة. (2) في المخطوطة: "تفتدي سلها" غير بينة، وصواب قراءتها فيما أرجح"نفسها". أما المطبوعة، فقد حذف الكلمة كلها، وجعل الفعل"لتفتدي". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 أخذ ما أخذتْ منك. (1) 8901 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف بن طريف، عن خالد، عن الضحاك بن مزاحم:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال: الفاحشة ههنا النشوز. فإذا نشزَت، حل له أن يأخذ خُلْعها منها. (2) 8902 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال: هو النشوز. 8903 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء بن أبي رباح:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، فإن فعلن: إن شئتم أمسكتموهن، وإن شئتم أرسلتموهن. 8904 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، (3) سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال: عَدَل ربنا تبارك وتعالى في القضاء، فرجع إلى النساء فقال:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، و"الفاحشة": العصيان والنشوز. فإذا كان ذلك من قِبَلها، فإن الله أمره أن يضربها، وأمره بالهَجر. فإن لم تدع العصيان والنشوز، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية. * * *   (1) الأثر: 8900 - مضى برقم: 4828، وانظر التعليق عليه هناك. في المخطوطة: "فقد حل لك ما أخذت منك" وفوق"منك""ط" علامة الخطأ، وقد صححه ناشر المطبوعة الأول من الدر المنثور 2: 132، وقد مضى في الإسناد السالف على الصواب. وكان هنا"إذا عضلت وآذتك"، وصوابه من الإسناد السالف، كما بينته هناك. (2) الأثر: 8901 -"مطرف بن طريف الحارثي"، روى عن الشعبي وأبي إسحاق السبيعي، وغيرهما ثقة. مترجم في التهذيب. "وخالد" هو: "خالد بن أبي نوف السجستاني"، يروي عن ابن عباس مرسلا، وروى عن عطاء بن أبي رباح، والضحاك بن مزاحم. وهو ثقة. مترجم في التهذيب. (3) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ كثر جدًا في المطبوعة، صوابه من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير، فلن أشير إلى تصحيحه بعد هذه المرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في تأويل قوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، أنه معنىٌّ به كل"فاحشة": من بَذاءٍ باللسان على زوجها، (1) وأذى له، وزنًا بفرجها. وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، كلَّ فاحشة متبيّنةٍ ظاهرة. (2) فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنًا أو نشوز، (3) فله عضْلُها على ما بين الله في كتابه، والتضييقُ عليها حتى تفتدي منه، بأيِّ معاني الفواحش أتت، (4) بعد أن تكون ظاهرة مبيِّنة = (5) بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالذي: 8905 - حدثني يونس بن سليمان البصري قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يُوطِئن فُرُشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. (6)   (1) في المطبوعة: "بذاءة"، وأثبت ما في المخطوطة، و"البذاء" و"البذاءة" واحد. (2) في المطبوعة: " مبينة ظاهرة"، وهو لفظ الآية، وفي المخطوطة سيئة الكتابة، فرأيت الأجود أن تكون"متبينة"، فأثبتها كذلك. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فلكل زوج امرأة"، والسياق يقتضي"فلكل"، لقوله بعد"فله عضلها". (4) في المخطوطة: "بأن معاني فواحش أتت"، وهو تصحيف، وفي المطبوعة: "بأي معاني فواحش أتت"، فأصاب، ولكنه أغفل أن يجعل"فواحش""الفواحش" لتستقيم عربية الكلام. (5) قوله: "بظاهر كتاب الله" متعلق بقوله آنفًا": "فكل زوج امرأة ... فله عضلها ... بظاهر كتاب الله" وهكذا السياق. (6) الحديث: 8905 -"يونس بن سليمان البصري" - شيخ الطبري: هكذا ثبت اسمه في هذا الموضع. ولم أجد في شيوخ الطبري من يسمى بهذا، بل لم أجد ذلك في سائر الرواة فيما عندي من المراجع. والراجح - فيما أرى - بل أكاد أوقن أنه محرف عن"يوسف بن سلمان". وقد روى عنه الطبري قطعتين من هذا الحديث، بهذا الإسناد: 2003، 2365. وهو حديث جابر - الطويل في الحج. وهذا الحديث قطعة من حديث جابر بن عبد الله، في صفة حجة الوداع. وقد بينا تخريجه في: 2003. وهذه القطعة ذكرها السيوطي 2: 132، منسوبة للطبري وحده! ففاته - رحمه الله - أنها قطعة من الحديث الطويل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 8906 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال، حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس، إن النساء عندكم عَوَانٍ، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق. ومن حقكم عليهن أن لا يُوطئن فُرُشكم أحدًا ولا يعصينكم في معروف، وإذا فعلن ذلك، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. (1) * * * = فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدًا، وأن لا تعصيه في معروف، وأنّ الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه، وإنما هو واحب عليه إذا أدَّت هي إليه ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف. ومعلوم أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من حقكم عليهن أن لا يوطئن   (1) الحديث: 8906 - موسى بن عبد الرحمن المسروقي، شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 174. وهذا الإسناد ضعيف جدًا، من أجل"موسى بن عبيدة الربذي"، كما بينا في: 1875، 1876. والحديث ذكره السيوطي 2: 132، ولم ينسبه لغير الطبري. ولم أجده في مكان آخر. ومعناه ثابت صحيح، بصحة حديث جابر الذي قبله هنا. وهو ثابت أيضًا من حديث عمرو بن الأحوص الجشمي، مرفوعًا. رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". كما في الترغيب والترهيب 3: 73. وهو ثابت أيضًا من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه، مرفوعًا. رواه أحمد في المسند 5: 72-73 (حلبي) . عوان جمع عانية: وهي الأسيرة، يقول: هي عندكم بمنزلة الأسرى، وصدق نبي الله، هدى إلى الحق وبينه، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيما. و"العانية" من: "عنا الرجل يعنو عنوًا وعناء" إذا ذل لك واستأسر، فهو"عان". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 فرشكم أحدًا" إنما هو أن لا يمكِّنّ من أنفسهن أحدًا سواكم. (1) وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيِّنٌ أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيرَه وأمكنت من جماعها سواه، أنَّ له من منعها الكسوةَ والرزقَ بالمعروف، مثلَ الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف. وإذ كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها - بمنعه إياها ماله منعها - حقًّا لها واجبًا عليه. وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها زوجها ما أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عَضْل منهيّ عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عَضْل له مباح. وإذ كان ذلك كذلك، كان بينًا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله:"ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة". وإذْ صح ذلك، فبيِّنٌ فساد قول من قال:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، منسوخ بالحدود، (2) لأن الحدّ حق الله جل ثناؤه على من أتى بالفاحشة التي هي زنا. وأما العَضْل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها = كما عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له. وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية: ولا يحل لكم، أيها الذين آمنوا، أن تعضلوا نساءكم فتضيِّقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صَدُقاتكم، إلا أن يأتين بفاحشةٍ من زنا أو بَذاءٍ عليكم، وخلافٍ لكم فيما يجب عليهن لكم - مبيِّنة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عَضْلهن   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أن لا يمكن أنفسهن من أحد سواكم"، وفي المخطوطة كتب"لا" على سين"أنفسهن"، كأنه كان يوشك أن يصحح الكلمة، ثم غفل عنها، وصواب السياق يقتضي أن تكون الجملة كما أثبتها، وإنما سها الناسخ. (2) انظر ما سلف رقم: 8894. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هنّ افتدين منكم به. * * * واختلف القرَأة في قراءة قوله:"مبينة". فقرأه بعضهم:"مُبَيَّنَةٍ" بفتح"الياء"، بمعنى أنها قد بُيِّنت لكم وأُعلنت وأُظهرت. وقرأه بعضهم:"مُبَيِّنَةٍ" بكسر"الياء"، بمعنى أنها ظاهرة بينة للناس أنها فاحشة. * * * وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصوابَ، لأن الفاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بيِّنة. وإذا ظهرت، فبإظهار صاحبها إياها ظهرت. فلا تكون ظاهرة بيِّنة إلا وهي مبيَّنة، ولا مبيَّنة إلا وهي مبيِّنة. فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارئ صوابًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وعاشروهن بالمعروف"، وخالقوا، أيها الرجال، نساءكم وصاحبوهن ="بالمعروف"، يعني بما أمرتكم به من المصاحبة، (1) وذلك: إمساكهن بأداء حقوقهن التي فرض الله جل ثناؤه لهنّ عليكم إليهن، أو تسريح منكم لهنّ بإحسان، كما:- 8907 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف: 8: 13، والمراجع هناك، وأتم تعريف له فيما سلف: 7: 105. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 أسباط، عن السدي:"وعاشروهن بالمعروف"، يقول: وخالطوهن. * * * = كذا قال محمد بن الحسين، وإنما هو"خالقوهن"، من"العشرة" وهي المصاحبة. (1) * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من غير ريبة ولا نشوز كان منهن، ولكن عاشروهن بالمعروف وإن كرهتموهن، فلعلكم أن تكرهوهن فتمسكوهن، فيجعل الله لكم = في إمساككم إياهن على كُره منكم لهن = خيرًا كثيرًا، من ولد يرزقكم منهن، أو عطفكم عليهن بعد كراهتكم إياهن، كما:- 8908 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، يقول، فعسى الله أن يجعل في الكراهة خيرًا كثيرًا. 8909 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله: 8910 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، قال: الولد. * * *   (1) هذا التفريق الذي بين"خالقوهن" و"خالطوهن"، وتصحيح أبي جعفر، من حسن البصر بافتراق المعاني، وحقها في أداء معاني اللغة، ولا سيما في تفسير ألفاظها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 8911 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، والخير الكثير: أن يعطف عليها، فيرزق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا. و"الهاء" في قوله:"ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، على قول مجاهد الذي ذكرناه، كناية عن مصدر"تكرهوا"، كأنّ معنى الكلام عنده: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله في كُرْهه خيرًا كثيرًا. (1) ولو كان تأويل الكلام: فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله في ذلك الشيء الذي تكرهونه خيرًا كثيرًا، كان جائزًا صحيحًا. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: كتب هذه الجملة كنص الآية: "ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، وليس ذلك بشيء، بل السياق يقتضي أن يجعل"فيه"، "في كرهه"، لأنه تأويل معنى قوله إن"الهاء" في"فيه" كناية من مصدر"تكرهوا". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج"، وإن أردتم، أيها المؤمنون، نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها (1) ="وآتيتم إحداهن"، يقول: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر (2) ="قنطارًا". * * * = و"القنطار" المال الكثير. وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل التأويل في مبلغه، والصوابَ من القول في ذلك عندنا. (3) * * *   (1) انظر تفسير"الاستبدال" فيما سلف 2: 130، 494 / 7: 527. (2) انظر تفسير"الإيتاء" في فهارس اللغة، فيما سلف. (3) انظر تفسير"القنطار" فيما سلف 6: 244-250. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 ="فلا تأخذوا منه شيئًا"، يقول: فلا تضرُّوا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن، كما:- 8912 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج"، طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر. 8913 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * القول في تأويل قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) } قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"أتأخذونه"، أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن ="بهتانا"، يقول: ظلمًا بغير حق ="وإثما مبينًا"، يعني: وإثمًا قد أبان أمرُ آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذَه منه ظالم. (1) * * *   (1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 3: 300 / 4: 258 / 7: 370. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 القول في تأويل قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وكيف تأخذونه"، وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن، إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجًا ="وقد أفضى بعضكم إلى بعض"، فتباشرتم وتلامستم. * * * وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام، فإنه في معنى النكير والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر:"كيف تفعل كذا وكذا، وأنا غير راضٍ به؟ "، على معنى التهديد والوعيد. (1) * * * وأما"الإفضاء" إلى الشيء، فإنه الوصول إليه بالمباشرة له، كما قال الشاعر: (2) [بَلِينَ] بِلًى أَفْضَى إلَى [كُلِّ] كُتْبَةٍ ... بَدَا سَيْرُهَا مِنْ بَاطِنٍ بَعْدَ ظَاهِرِ (3) يعني بذلك أن الفساد والبلى وصل إلى الخُرَز. والذي عُني به"الإفضاء" في هذا الموضع، الجماعُ في الفرج. * * *   (1) في المطبوعة: "التهديد"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) لم أعرف قائله. (3) كان في المخطوطة والمطبوعة: بِلًى أَفْضَى إِلَى كتْبَةٍ ... بَدَا سَيرُها مِنْ بَاطِنٍ بَعد ظاهِر بياض في الأصل بين الكلمات، وقد زدت ما بين الأقواس اجتهادًا واستظهارًا، حتى يستقيم الشعر. و"الكتبة" (بضم فسكون) ، هي الخرزة المضمومة التي ضم السير كلا وجهيها، من المزادة والسقاء والقربة. يقال: "كتب القربة": خرزها بسيرين. وهذا بيت يصف مزادًا أو قربًا، قد بليت خرزها بلى شديدًا فقطر الماء منها، فلم تعد صالحة لحمل الماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه: وكيف تأخذون ما آتيتموهن، وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 8914 - حدثني عبد الحميد بن بيان القَنّاد قال، حدثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الإفضاء المباشرة، ولكنّ الله كريم يَكْني عما يشاء. 8915 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس قال: الإفضاء الجماع، ولكن الله يَكني. 8916 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس قال: الإفضاء هو الجماع. 8917 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقد أفضى بعضكم إلى بعض"، قال: مجامعة النساء. 8918 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 8919 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض"، يعني المجامعة. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 القول في تأويل قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) } قال أبو جعفر: أيْ: ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم، (1) من عهد وإقرار منكم بما أقررتم به على أنفسكم، من إمساكهن بمعروف، أو تسريحهنّ بإحسان. * * * وكان في عقد المسلمين النكاحَ قديمًا فيما بلغنا - أن يقال لناكح:"آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرِّحن بإحسان"! 8920 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا". والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم:"آلله عليك لتمسكنَّ بمعروف أو لتسرحن بإحسان". (2) * * * واختلف أهل التأويل في"الميثاق" الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا". فقال بعضهم: هو إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. *ذكر من قال ذلك: 8921 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. 8922 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك مثله.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "ما وثقت به لهن على أنفسكم"، واختلاف الضمائر هنا خطأ، وصوابه ما أثبت: "وثقتم". وانظر تفسير"الميثاق" فيما سلف 1: 414 / 2: 156، 228، 356 / 6: 550. (2) في المطبوعة: "وقد كان في عهد المسلمين"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 8923 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: هو ما أخذ الله تبارك وتعالى للنساء على الرجال، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عَقد النكاح. 8924 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، فهو أن ينكح المرأة فيقول وليها: أنكحناكَها بأمانة الله، على أن تمسكها بالمعروف أو تسرِّحها بإحسان. 8925 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال:"الميثاق الغليظ" الذي أخذه الله للنساء: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وكان في عُقْدة المسلمين عند نكاحهن:"أيْمُ الله عليك، لتمسكن بمعروف ولتسرحَنّ بإحسان". 8926 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الحسن ومحمد بن سيرين في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. * * * وقال آخرون: هو كلمة النكاح التي استحلَّ بها الفرجَ. *ذكر من قال ذلك: 8927 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: كلمة النكاح التي استحلَّ بها فروجهن. 8928 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد مثله. 8929 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 سفيان، عن أبي هاشم المكي، عن مجاهد في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: قوله:"نكحتُ". (1) 8930 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن كعب القرظي:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: هو قولهم:"قد ملكتَ النكاح". 8931 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: كلمة النكاح. 8932 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: الميثاق النكاح. 8933 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني سالم الأفطس، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: كلمة النكاح، قوله:"نكحتُ". * * * وقال آخرون: بل عنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله". (2) *ذكر من قال ذلك: 8934 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر وعكرمة:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قالا أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. 8935 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) الأثر: 8929 -"أبو هاشم المكي"، هو: إسماعيل بن كثير، صاحب مجاهد. قال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث". روى عنه سفيان الثوري، وابن جريج، ومسعر بن كدام، وغيرهم. مترجم في التهذيب. (2) انظر الأثرين السالفين رقم: 8905، 8906. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 عن أبيه، عن الربيع:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، والميثاق الغليظ: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك، قولُ من قال: الميثاق الذي عُني به في هذه الآية: هو ما أخذ للمرأة على زوجها عند عُقْدة النكاح من عهدٍ على إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان، فأقرَّ به الرجل. لأن الله جل ثناؤه بذلك أوصى الرجالَ في نسائهم. * * * وقد بينا معنى"الميثاق" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * واختلف في حكم هذه الآية، أمحكمٌ أم منسوخ؟ فقال بعضهم: محكم، وغير جائز للرجل أخذُ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدةَ الطلاقَ. * * * وقال آخرون: هي محكمة، غير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدةَ للطلاق أو هو. وممن حُكي عنه هذا القول، بكر بن عبد الله بن المزني. 8936 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال: سألت بكرًا عن المختلعة، أيأخذ منها شيئًا؟ قال: لا"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا". (2) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 414 / 2: 156، 157، 288 / 6: 550. (2) الأثر: 8936 - مضى هذا الأثر برقم: 4877، وكان فيه هنا، كما كان هناك"عقبة بن أبي المهنا"، فانظر التعليق عليه هناك، والمراجع مذكورة فيه، وقد زاد أبو جعفر هناك، إسنادًا آخر، عن عقبة بن أبي الصهباء، عن بكر بن عبد الله المزني، لهذا الأثر، وهذا أحد الدلائل على اختصار أبي جعفر لتفسيره هذا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 قال آخرون: بل هي منسوخة، نسخها قوله: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سورة البقرة: 229] . *ذكر من قال ذلك: 8937 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج" إلى قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: ثم رخص بعدُ فقال: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة: 229] . قال: فنسخت هذه تلك. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال:"إنها محكمة غير منسوخة"، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام، ما نَفَى خلافه من الأحكام، على ما قد بيَّنا في سائر كتبنا. (1) وليس في قوله:"وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج"، نَفْي حكمِ قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة: 229] . لأن الذي حرَّم الله على الرجل بقوله:"وإن أَردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا"، أخذُ ما آتاها منها إذا كان هو المريدَ طلاقَها. وأما الذي أباح له أخذَه منها بقوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، فهو إذا كانت هي المريدةَ طلاقَه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع. (2)   (1) انظر ما سلف، ما قاله في كتابه هذا في"النسخ" فيما سلف 3: 385، 635 / 4: 582 / 6: 54، 118. (2) انظر ما سلف 4: 549 - 585، وانظر كلامه في الناسخ والمنسوخ من الآيتين في ص: 579 -583، من الجزء نفسه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى. وإذ كان ذلك كذلك، لم يجز أن يُحكم لإحداهما بأنها ناسخة، وللأخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجبُ التسليم لها. وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني (1) =: من أنه ليس لزوج المختلعة أخذُ ما أعطته على فراقه إياها، إذا كانت هي الطالبةَ الفرقةَ، وهو الكاره = فليس بصواب، لصحة الخبَرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمرَ ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقِها إذ طلبت فراقه، (2) وكان النشوز من قِبَلها. (3) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا (22) } قال أبو جعفر: قد ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يَخْلُفُون على حلائل آبائهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فحرّم الله تبارك وتعالى عليهم المُقام عليهن، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشِرْكهم من فعل ذلك، لم يؤاخذهم به، إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه. ذكر الأخبار التي رويت في ذلك: 8938 - حدثني محمد بن عبد الله المخرميّ قال، حدثنا قراد قال، حدثنا   (1) انظر رد أبي جعفر مقاله بكر بن عبد الله المزني فيما سلف 4: 581، 582، وقال هناك: إنه"قول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "إن طلبت فراقه"، والصواب"إذ" كما أثبته. (3) انظر الأحاديث والآثار فيما سلف رقم: 4807 -4811، والتعليق عليها، وهو خبر ثابت بن قيس بن شماس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 ابن عيينة وعمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما يَحْرُم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين. قال: فأنزل الله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" = (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) (1) 8939 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الآية، قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرَّم الله، إلا أنّ الرجل كان يخلُف على حَلِيلة أبيه، ويجمعون بين الأختين، فمن ثَمَّ قال الله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف". 8940 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف"، قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت، خلفَ على أمِّ عبيد بنت صخر، (2) كانت تحت الأسلت أبيه = وفي الأسود بن خلف، وكان خَلَف على بنت أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عثمان بن عبد الدار، (3) وكانت عند أبيه خلف = وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسَد، وكانت عند أمية بن خلف، فخلف عليها صفوان بن أمية = وفي منظور بن زبّان، (4) وكان خلف على مُليكةِ ابنة خارجة، وكانت عند أبيه زَبَّان بن سيّار. (5)   (1) الأثر: 8938 -"محمد بن عبد الله المخرمي"، سلفت ترجمته برقم: 3730، 4929، 5447. و"قراد"، لقب، وهو: "عبد الرحمن بن غزوان"، سلفت ترجمته برقم: 555. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "بنت ضمرة"، والصواب من المراجع فيها تخريج الأثر. وانظر التعليق على الأثر في آخره، ففيه ذكر الاختلاف في اسمها. (3) اسمها"حمينة بنت أبي طلحة" تصغير"حمنة"، كما جاء في ترجمتها في المراجع. (4) في المطبوعة: "رباب" في الموضعين، وهي المخطوطة غير منقوطة، وصوابه من المراجع بعد، بالزاي المفتوحة، وباء مشددة. (5) الأثر: 8940 - روى ابن الأثير هذا الخبر، في ترجمة أم عبيد بنت صخر، ثم أشار إليها في تراجم أصحابها، ونسب رواية الخبر إلى أبي موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى الأصفهاني، في مستدركة على ابن منده. وأشار إليها أيضًا الحافظ ابن حجر في الإصابة، في تراجم المذكورين في هذا الخبر. هذا، ومضى الخبر رقم: 8873، وفيه أن أبا قيس بن الأسلت جنح على كبيشة بنت معن بن عاصم امرأة أبيه، فأخشى أن يكون الخبر السالف وهذا الخبر، مجتمعين على أنه جنح على امرأتين من نساء أبيه، كبيشة بنت معن، وعلى أم عبيد بنت صخر. ولكن الواحدي في أسباب النزول: 109 قال إنها نزلت في حصن بن أبي قيس، تزوج امرأة أبيه كبيشة بن معن، وهو ما ذكره الثعلبي في تفسيره. ورواه الحافظ في الإصابة في ترجمة"قيس بن صيفي بن الأسلت" (5: 257) عن الفريابي وابن أبي حاتم من طريق عدي بن ثابت. ثم قال: "وفي سنده قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، وهما ضعيفان. والخبر مع ذلك منقطع" وقال: "وقد تقدم في ترجمة حصن بن أبي قيس بن الأسلت أن القصة وقعت مع امرأة أبيه كبيشة بنت معن. هكذا سماها ابن الكلبي، وخالفه مقاتل، فجعل القصة لقيس. وعند أبي الفرج الأصفهاني (15: 154) ما يوهم أن قيسًا قتل في الجاهلية، فإنه ذكر أن يزيد بن مرداس السلمي قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم". وهذا أمر يحتاج إلى تحقيق طويل كما ترى، اكتفيت بهذه الإشارة إليه، وقد مضى في التعليق على اسم"أم عبيد بنت صخر"، أنه كان في المطبوعة والمخطوطة"أم عبيد بنت ضمرة"، وقد تابعت ما جاء في ترجمتها في كتب التراجم، واستأنست بتسمية أخيه: "جرول بن مالك بن عمرو بن عزيز" (جمهرة الأنساب: 315) وأم عبيد هي: (أم عبيد بنت صخر بن مالك بن عمرو بن عزيز"، و"الجرول": الحجر يكون ملء كف الرجل، فكأن أباه سماه جرولا، وسمى أخاه صخرًا، على عادة العرب في ذلك. والأنصار أيضًا، يكثر في أنسابهم"صخر"، ولم أجد منهم من تسمى"ضمرة"، فلذلك رجحت ما أثبت. ولكن ابن كثير نقل هذا الأثر في تفسيره 2: 388، وفيه"أم عبيد الله بنت ضمرة"، ولكن الثقة بنقل ابن كثير في مثل هذا غير صحيحة. أما الحافظ ابن حجر فقد ذكرها في ترجمة"قيس بن صيفي بن الأسلت"، فنقل عن سيف من تفسيره، وسماها"ضمرة أم عبيد الله"، ثم ترجم"ضمرة زوج أبي قيس بن الأسلت" (الإصابة 8: 134) ، وقال: "ذكرها الطبري فيمن نزلت فيه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، وهذا خلط وعجب من العجب، ولم أجد من ذكر"ضمرة" هذه، ولا ذكرها الطبري كما سها الحافظ في ذكرها وإفراد ترجمتها، وأخطأ. وهو من الأدلة على عجلة الحافظ في تأليفه كتاب الإصابة، وصحة ما قيل من أنه لم يكن إلا مسودة لم يبيضها، فيمحصها. وهذا الاختلاف محتاج إلى إطالة، اقتصرت منه على هذا القدر. وأما "الأسود بن خلف"، فهو"الأسود بن خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة الخزاعي"، وهو غير"الأسود بن خلف بن عبد يغوث"، كما ذكره الحافظ في الإصابة، وابن سعد 5: 339 فإن يكن ذلك، فهو أخو"عبد الله بن خلف بن أسعد" والد"طلحة الطلحات". ولم أجد ابن حجر قد أشار في الإصابة إلى خبر خلفه على امرأة أبيه، مع أنه ذكره في تراجم النساء المذكورات في الخبر، وفي ترجمة امرأة أبيه"حمينة بنت أبي طلحة"، وكذلك لم يذكره بتة، ابن الأثير، مع أنه ذكره في ترجمته"حمينة". وفي الإصابة وابن الأثير: "خلف بن أسد بن عاصم بن بياضة"، وهو تصحيف، بل هو"أسعد بن عامر". وهذا أيضًا يحتاج إلى تحقيق أوفى، ليس هذا مكانه. وأما خبر"منظور بن زبان بن سيار المازني"، وفي شأن قصته اختلاف ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته وترجمة"مليكة"، ورجح أن هذه القصة كانت على عهد عمر بن الخطاب، وأن عمر فرق بينهما، فاشتد ذلك عليه، وكان يحبها، فقال فيها شعرًا منه: لَعَمْرُ أبِي دِينٍ يُفَرِّقُ بَيْننَا ... وَبيْنَكِ قَسْرًا، إِنّهُ لَعَظِيمُ وقصته في الأغاني 12: 194 (دار الكتب) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 8941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: الرجل ينكح المرأة، ثم لا يراها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 حتى يُطلقها، أتحل لابنه؟ قال: هي مُرْسَلة، (1) قال الله تعالى:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". قال: قلت لعطاء: ما قوله:"إلا ما قد سلف"؟ قال: كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية. (2) 8942 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية   (1) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة هنا، وفي رقم: 8957 فيما يلي والدر المنثور، 2: 134، "مرسلة"، والذي جاء في كتب اللغة"امرأة مراسل"، قالوا: هي التي فارقها زوجها بأي وجه كان، مات أو طلقها. وقيل: هي التي يموت زوجها، أو أحست منه أنه يريد تطليقها، فهي تزين لآخر. وقيل: هي التي طلقت مرات. وقيل: هي التي تراسل الخطاب. وذلك كله قريب بعضه من بعض، فإن المرأة إذا مات زوجها أو طلقها، كانت خليقة أن تراسل الخطاب وتلتمس الطريق إلى زواج. وفي الحديث: "أن رجلا من الأنصار تزوج امرأة مراسلا يعني: ثيبًا = فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك!! "، فقال أصحاب اللغة: "المراسل: التي قد أسنت وفيها بقية شباب". وكأن شرح هذا اللفظ يقتضي الجمع بين هذه الأقوال جميعًا فيقال: إنها التي قد فارقت الشباب فمات عنها زوجها أو طلقها، فهي أحوج من ذات الشباب إلى طلب الزينة ومراسلة الخطاب، لقلة رغبتهم فيها، كرغبتهم في الأبكار الجميلات الشواب. وأما في هذا الخبر، فإن صح أن اللفظ"مرسلة" على الصواب، كان تفسيره: أنها التي أرسلها زوجها، أي أطلقها، وإنما عنى به: البكر المطلقة التي تنزل في الحكم منزلة الثيب. وإن كان الصواب"هي مراسل"، فينبغي أن يزاد في معنى"مراسل" أنها البكر التي طلقت، فهي بمنزلة الثيب. وانظر الأثر التالي. (2) سيأتي هذا الأثر برقم: 8957، مع اختلاف في لفظه، انظر التعليق عليه هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الآية، يقول: كل امرأة تزوجها أبوك وابنك، دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام. * * * واختلف في معنى قوله:"إلا ما قد سلف". فقال بعضهم: معناه: لكن ما قد سلف فدعوه. وقالوا: هو من الاستثناء المنقطع. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا نكاح آبائكم = بمعنى: ولا تنكحوا كنكاحهم، كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام ="إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا"، يعني: أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم، كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا - إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح، لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفوٌّ لكم عنه. وقالوا: قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، كقول القائل للرجل:"لا تفعل ما فعلتُ"، و"لا تأكل كما أكلت"، بمعنى: ولا تأكل كما أكلت، ولا تفعل كما فعلتُ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم، فإنّ نكاحهن لكم حلال، لأنهن لم يكن لهم حلائل، وإنما كان ما كان من آبائكم ومنهن من ذلك، (1) فاحشة ومقتًا وساء سبيلا. *ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "من آبائكم منهن" بإسقاط الواو، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 8943 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" الآية، قال: الزنا ="إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا" = فزاد ههنا"المقت". (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، على ما قاله أهل التأويل في تأويله، أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاحَ آبائكم، إلا ما قد سلف منكم فَمَضى في الجاهلية، فإنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا = فيكون قوله:"من النساء" من صلة قوله:"ولا تنكحوا"، ويكون قوله:"ما نكح آباؤكم" بمعنى المصدر، ويكون قوله:"إلا ما قد سلف" بمعنى الاستثناء المنقطع، لأنه يحسن في موضعه:"لكن ما قد سلف فمضى" ="إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا". * * * فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقًا قولَ من ذكرت قولَه من أهل التأويل، وقد علمتَ أن الذين ذكرتَ قولهم في ذلك، إنما قالوا: أنزلت هذه الآية في النَّهي عن نكاح حلائل الآباء، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحَهم؟ قيل له: إنما قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل، (2) إذ كانت"ما" في كلام العرب لغير بني آدم، وأنه لو كان المقصودَ بذلك النهيُ عن حلائل الآباء، دون سائر ما كان من مَناكح آبائِهم حرامًا ابتداءُ مثله في الإسلام بِنَهْي الله   (1) يعني بقوله: "زاد هاهنا"، زاد على ما جاء في"سورة الإسراء: 32": {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} . (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن قلنا إن ذلك هو التأويل"، وهو كلام لا يستقيم مع الذي بعده، والصواب الموافق للسياق هو ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 جل ثناؤه عنه، (1) لقيل:"ولا تنكحوا مَنْ نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف"، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، إذ كان"مَنْ" لبني آدم، و"ما" لغيرهم = ولم يُقَلْ:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". (2) [وأما قوله تعالى ذكره:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"] ، فإنه يدخل في"ما"، (3) ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم. فحرَّم عليهم في الإسلام بهذه الآية، نكاحَ حلائل الآباء وكلَّ نكاح سواه نهى الله تعالى ذكره [عن] ابتداء مثله في الإسلام، (4) مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شِرْكهم. * * * ومعنى قوله:"إلا ما قد سلف"، إلا ما قد مضى (5) ="إنه كان فاحشة"، يقول: إن نكاحكم الذي سلف منكم كنكاح آبائكم المحرَّم عليكم ابتداءُ مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم ="فاحشة"، يقول: معصية (6) ="ومقتًا وساء سبيلا"، (7) أي: بئس طريقًا ومنهجًا، (8) ما كنتم تفعلون في   (1) في المطبوعة: " ... حرامًا ابتدئ مثله في الإسلام"، ولم يحسن قراءة المخطوطة"ابتدا" فبدلها إلى ما أفسد الكلام إفسادًا. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "إذ كان من لبني آدم، وما لغيرهم ولا تقل: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، وهو كلام لا يستقيم البتة، وصواب قوله"ولا تقل""ولم يقل" (بالبناء للمجهول) ، وهو معطوف على قوله آنفًا: "لقيل: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم". واختلط على الناسخ تكرار الآية مرتين فسبق بصره، فأسقط من الكلام ما أثبته بعد بين القوسين، مما لا يتم الكلام ولا يستقيم إلا بإثباته، واجتهدت فيه استظهارًا من كلامه وحجته، كما ترى. (3) في المخطوطة: "فإنه يدخل فيما كان من مناكح آبائهم"، وهو سهو وخطأ من الناسخ لما اختلط عليه الكلام، والصواب هو الذي استظهره ناشر المطبوعة الأولى، كما أثبتها. (4) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة. (5) انظر تفسير"سلف" فيما سلف 6: 14. (6) انظر تفسير"فاحشة" فيما سلف: 115 تعليق: 2 والمراجع هناك. (7) لم يفسر أبو جعفر هنا"المقت" في هذا الموضع، ولا في سائر المواضع التي جاء فيها ذكر"المقت"، إلا تضمينًا. و"المقت": أشد البغض، ثم سمى هذا النكاح الذي كانوا يتناكحونه في الجاهلية"نكاح المقت"، وسمي المولود عليه"المقتى" على النسبة. (8) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف: 37، تعليق: 6، والمراجع هناك. وأما "ساء"، فإن أبا جعفر لم يبين معناها، ولم يذكر أن أصحاب العربية يعدونها فعلا جامدًا يجري مجرى"نعم" و"بئس"، وإن كان تفسيره قد تضمن ذلك. وهذا من الأدلة على أنه اختصر هذا التفسير في مواضع كثيرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 جاهليتكم من المناكح التي كنتم تناكحونها. (1) * * *   (1) حجة أبي جعفر في هذا الموضع، حجة رجل بصير عارف بالكلام ومنازله، متمكن من أصول الاستنباط، قادر على ضبط ما ينتشر من المعاني، متابع لسياق الأحكام والأخبار في كتاب ربه، خبير بما كان عليه العرب في جاهليتهم. وقد رد العلماء على أبي جعفر قوله، وقال بعضهم: هو قول غير وجيه. وذكروا أن"ما" تقع على أنواع من يعقل، وإن كانت لا تقع على آحاد من يعقل، عند من يذهب إلى المذهب. فجعلوا قول الطبري أن"ما" مصدرية باقية على معنى المصدر، قولا ضعيفًا. بيد أن مذهب أبي جعفر صحيح مستقيم لا ينال منه احتجاجهم عليه. وإنما ساقهم إلى ذلك، ترك أبي جعفر البيان عن حجته، وأنا قائل في ذلك ما يشفي إن شاء الله. وذلك أن الذين ردوا مقالة أبي جعفر، أرادوا أن هذه الآية نص في تحريم نكاح حلائل الآباء وحده، وكأنهم حسبوا أن لو جعلوا"ما" مصدرية، لم يكن في الآيات نص صريح في تحريم حلائل الآباء غيرها. والصواب غير ذلك. فإن الله سبحانه وتعالى قد حرم نكاح حلائل الآباء الذي كان أهل الجاهلية يرتكبونه بقوله في الآية التاسعة عشرة من سورة النساء فيما مضى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} وقال أبو جعفر في تفسيرها: "لا يحل لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كرهًا"، وساق هناك الآثار المبينة عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب جميعًا. وهذا الذي ساق هناك فيه البيان عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة، كما كان أهل الجاهلية يعرفونه. فكانت هذه الآية نصًا قاطعًا بينًا في تحريم نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة، كما عرفه أهل الجاهلية، لأنهم لم يعرفوا نكاح حلائل الآباء إلا على هذه الصورة التي بينها الله في كتابه، والتي أجمعت الأخبار على صفتها، أن يخلف الرجل على امرأة أبيه. وأنا أرجح أن الله تبارك وتعالى إنما قال: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، فذكر وراثتهن كرهًا، ثم أتبع ذلك بالنهي عن عضل النساء عامة، وبالبيان عن مقصدهم من عضل النساء، وهو الذهاب ببعض ما أوتين من صدقاتهن = لأن أهل الجاهلية، إنما تورطوا في نكاح حلائل الآباء، لشيء واحد: هو أخذ ما آتاهن الآباء من المال، ولئلا تذهب المرأة بما عندها من مال آبائهم، فلذلك أتبعه بالنهي عن العضل عامة، لأن فعلهم بحلائل آبائهم عضل أيضًا، ومقصدهم منه هو مقصدهم من عضل نسائهم. وأيضًا، فإن أهل الجاهلية لم يرتكبوا نكاح العمات والخالات والأخوات، كما سترى بعد، بل استنكروه، فاستنكارهم نكاح حلائل الآباء - وهن بمنزلة أمهاتهن في حياة آبائهن - كان خليقًا أن يكون من فعلهم وعادتهم، ولكن حملهم حب المال على مخالفة ذلك. ثم أتبع الله ذلك - كما قال أبو جعفر -"بالنهي عن مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحوها في الجاهلية، فحرم عليهم بهذه الآية نكاح حلائل الآباء وكل نكاح سواه، نهى الله عن ابتداء مثله في الإسلام، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه". وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري (الفتح 9: 158) أن نكاح الجاهلية كان على أربعة أنحاء، منها: "نكاح الناس اليوم"، ثم عددت ضروب النكاح ووصفتها، فأقر الإسلام منها نكاحًا واحدًا: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها. فهذه الآية مبطلة ضروب نكاح الجاهلية جميعًا، ما كان منها نكاحًا فاسدًا، كالاستبضاع، ونكاح البغايا، ونكاح البدل، والشغار، فكل ذلك كان: فاحشة ومقتًا وساء سبيلا، كما تعرفه من صفته في حديث عائشة، ويدخل فيه، كما قال أبو جعفر، نكاح حلائل الآباء. ثم أتبع الله سبحانه وتعالى هذه الآية التي حرمت جميع نكاح الجاهلية، آية أخرى حرمت كل نكاح كان معروفًا في الأمم الأخرى، غير العرب، أو في الملل الأخرى غير ملة الإسلام فقال: "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم" إلى آخر الآية. والعرب لم تعرف قط نكاح الأمهات، أو البنات أو الأخوات أو العمات أو الخالات، بل كان ذلك في غيرهم كالمصريين واليهود وأشباههم، ينكح الرجل أخته أو عمته أو خالته. ومن الدليل على أن العرب لم تعرف نكاح الأخوات، ولا نكاح العمات أو الخالات، أنهم كانوا في جاهليتهم، يقسمون على طلاق نسائهم أو تحريمهن على أنفسهم، أو هجرانهن، بقولهم للزوجة: "أنت علي كظهر أختي، أو كظهر عمتي، أو كظهر خالتي"، فكان ذلك عندهم تحريمًا على أنفسهم غشيان الزوجة. وهذا باب لم أجد أحدًا وفاه حقه، فعسى أن أوفق في موضع آخر إلى استيعابه إن شاء الله. وهو باب مهم في تفسير هذه الآيات، والله المستعان. وإذن فهذه الآية الأخيرة، غير خاصة في نكاح أهل الجاهلية، بل هي تحريم لكل نكاح كرهه الله للمؤمنين، مما كان عند الأمم قبلهم جائزًا أو مرتكبًا، أو كان بعضه عندهم قليلا غير مشهور شهرة أنكحة الجاهلية التي ذكرها الله في وراثة حلائل الآباء والأقارب، والتي ذكرتها عائشة في حديثها، والتي جاء تحريمها عامًا في قوله: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" بمعنى"ما" المصدرية، كما ذهب إليه أبو جعفر. وكتبه: محمود محمد شاكر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 القول في تأويل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: حُرّم عليكم نكاح أمهاتكم = فترك ذكر"النكاح"، اكتفاءً بدلالة الكلام عليه. وكان ابن عباس يقول في ذلك ما:- 8944 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: حُرّم من النسب سبعٌ، ومن الصِّهر سبعٌ. ثم قرأ:"حُرّمت عليكم أمهاتكم" حتى بلغ:"وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف"، قال: والسابعة:"ولا تنكحوا ما نَكح آباؤكم من النساء". 8945 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع. ثم قرأ:"حُرّمت عليكم أمهاتكم" إلى قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم". 8946 - حدثنا ابن بشار مرة أخرى قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس مثله. (1) 8947 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري بنحوه. 8948 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: حرم عليكم سبع نَسَبًا، وسبعٌ صهرًا."حُرّمت عليكم أمهاتكم" الآية. (2) 8949 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" قال: حَرّم الله من النسب سبعًا ومن الصهر سبعًا. ثم قرأ:"وأمهات نسائكم وربائبكم"، الآية. 8950 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرِّف، عن عمرو بن سالم مولى الأنصار قال، حُرّم من النسب سبع، ومن الصهر سبع:"حُرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت" = ومن الصهر:"أمهاتكم اللاتي أرضَعْنكم، وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم   (1) الآثار: 8944 - 8946 -"إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي"، روى له مسلم والأربعة. ثقة، كان يجمع صبيان المكاتب ويحدثهم لكي لا ينسى حديثه! و"عمير مولى ابن عباس" هو: عمير بن عبد الله الهلالي، مولى أم الفضل. ثقة. وروى خبر ابن عباس، الحاكم في المستدرك 2: 304 من طريق: محمد بن كثير، عن سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وأشار إليه الحافظ في الفتح 5: 133، ونسبه للطبراني. وابن كثير في التفسير 2: 390. (2) الأثر: 8948 - رواه بهذا الإسناد البخاري في صحيحه (الفتح 5: 132) بغير هذا اللفظ، ورواه بلفظه البيهقي في السنن الكبرى 7: 158، ولفظ البخاري: "حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع" كالخبر السالف، وانظر تفسير ابن كثير 2: 390. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جُناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" = ثم قال:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" ="ولا تنكِحوا ما نَكح آباؤكم من النساء". (1) * * * قال أبو جعفر: فكل هؤلاء اللواتي سَمَّاهن الله تعالى وبيَّن تحريمَهن في هذه الآية، مُحَرَّمات، غيرُ جائز نكاحُهن لمن حَرَّم الله ذلك عليه من الرجال، بإجماع جميع الأمة، لا اختلاف بينهم في ذلك: إلا في أمهات نسائِنا اللواتي لم يدخُلْ بهن أزواجُهن، فإن في نكاحهن اختلافًا بين بعض المتقدِّمين من الصحابة: إذا بانت الابنة قبلَ الدخول بها من زوجها، هل هُنّ من المُبْهمات، أم هنّ من المشروط فيهن الدخول ببناتهنّ؟ فقال جميع أهل العلم متقدمهم ومتأخرهم: من المُبهمات، (2) وحرام على من   (1) الأثر: 8950 -"عمرو بن سالم"، هو: "أبو عثمان الأنصاري" قاضي مرو، مختلف فيه وفي اسم أبيه اختلاف كثير. وقيل: "اسمه كنيته"، وهو مشهور بكنيته، ولكن الطبري جاء به غير مكنى باسمه واسم أبيه. (2) "المبهمات" هن من المحرمات: ما لا يحل بوجه ولا سبب كتحريم الأم والأخت وما أشبهه. وقال القرطبي في تفسيره (5: 107) : "وتحريم الأمهات عام في كل حال، لا يتخصص بوجه من الوجوه، ولهذا يسميه أهل العلم: (المبهم) ، أي لا باب فيه ولا طريق إليه، لانسداد التحريم وقوته". وسأسوق لك ما قاله الأزهري في تفسيرها قال: "رأيت كثيرًا من أهل العلم يذهبون بهذا إلى إبهام الأمر واستبهامه، وهو إشكاله = وهو غلط. قال: وكثير من ذوي المعرفة لا يميزون بين المبهم وغير المبهم من ألوان الخيل الذي لا شية فيه تخالف معظم لونه. قال: ولما سئل ابن عباس عن قوله: "وأمهات نسائكم" ولم يبين الله الدخول بهن، أجاب فقال: هذا من مبهم التحريم، الذي لا وجه فيه غير التحريم، سواء دخلتم بالنساء أو لم تدخلوا بهن. فأمهات نسائكم حرمن عليكم من جميع الجهات. وأما قوله: "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، فالربائب ههنا لسن من المبهمات، لأن لهن وجهين مبينين: أحللن في أحدهما، وحرمن في الآخر. فإذا دخل بأمهات الربائب حرمت الربائب، وإن لم يدخل بأمهات الربائب لم يحرمن" فهذا تفسير"المبهم" الذي أراده ابن عباس فافهمه". وعقب على هذا ابن الأثير فقال: "هذا التفسير من الأزهري، إنما هو للربائب والأمهات، لا الحلائل، وهو في أول الحديث إنما جعل سؤال ابن عباس عن الحلائل لا عن الربائب"، وهو تعقيب غير جيد. ثم انظر"الإنصاف" للبطليوسي: 28، 29. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 تزوَّج امرأةً أمُّها، (1) دخل بامرأته التي نكحها أو لم يدخل بها. وقالوا: شرطُ الدخول في الرَّبيبة دون الأم، فأما أمُّ المرأة فمُطْلقة بالتحريم. قالوا: ولو جاز أن يكون شرطُ الدخول في قوله:"وربائبكم اللاتي في حُجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، يرجع موصولا به قوله:"وأمهات نسائكم"، (2) جاز أن يكون الاستثناء في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" من جميع المحرّمات بقوله:"حرّمت عليكم"، الآية. قالوا: وفي إجماع الجميع على أنّ الاستثناء في ذلك إنما هو مما وَلِيَه من قوله:"والمحصنات"، أبينُ الدِّلالة على أن الشرط في قوله:"من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، مما وَليه من قوله:"وربائبكم اللاتي في حجوركم من نِسَائكم اللاتي دخلتم بهن"، دون أمَّهات نسائنا. * * * وروي عن بعض المتقدِّمين أنه كان يقول: حلالٌ نكاح أمَّهات نسائنا اللواتي لم ندخل بهن، وأنّ حكمهن في ذلك حكم الربائب. *ذكر من قال ذلك: 8951 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي رضي الله عنه: في رجل   (1) يعني: والذي تزوج امرأة فحرام عليه أمها. (2) في المخطوطة: "موضع موصولا به"، ولا معنى لها، وفي المطبوعة: "فوضع موصولا به" ولا معنى لها أيضًا، واستظهرت صحتها"يرجع موصولا به"، أي أن الشرط راجع إلى أمهات النساء والربائب جميعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يدخل بها، أيتزوَّج أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. 8952 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة، عن خلاس، عن علي رضي الله عنه قال: هي بمنزلة الربيبة. (1) 8953 - حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت: أنه كان يقول: إذا ماتت عنده وأخذَ ميراثها، كُرِه أن يخلُف على أمِّها. وإذا طلَّقها قبل أن يدخُل بها، فإن شاءَ فعل. 8954 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخُل بها، فلا بأس أن يتزوج أمَّها. 8955 - حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عكرمة بن خالد: أن مجاهدًا قال له:"وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم"، أريد بهما الدُّخُول جميعًا. (2) * * * قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب، أعني قولَ من قال:"الأمّ من المبهمات". لأن الله لم يشرط معهن الدخول ببناتهن، كما شرط ذلك مع   (1) الأثران: 8951، 8952 -"خلاس بن عمرو الهجري" ثقة، تكلموا في سماعه من علي، وأن حديثه عنه من صحيفة كانت عنده، ونص البخاري على ذلك في التاريخ الكبير 2 / 1 / 208. فمن أجل ذلك قال القرطبي في هذا الأثر: "وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة". (2) الأثر: 8955 -"عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي"، روى عن أبيه وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وهو ثقة. وقال بعضهم: "منكر الحديث" وإنما خلط بينه وبين"عكرمة بن خالد بن سلمة بن العاص بن هشام المخزومي"، وهما مختلفان. وانظر ما قاله ابن كثير في هذا الباب من تفسيره 2: 392-394، وذكر هذه الآثار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 أمهات الرَّبائب، مع أن ذلك أيضًا إجماعٌ من الحجة التي لا يجوز خِلافُها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ، غيرَ أنَّ في إسناده نظرًا، وهو ما:- 8956 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نكح الرجلُ المرأة، فلا يحل له أن يتزوج أمَّها، دخل بالابنة أم لم يدخل. وإذا تزوج الأمَّ فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوَّج الابنة. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا خبر، وإن كان في إسناده ما فيه، فان في إجماع الحجة على صحة القول به، مستغنىً عن الاستشهاد على صِحَّته بغيره. 8957 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال لعطاء: الرجل ينكح المرأة لم يَرَها ولم يجامعها حتى يطلقها، (2)   (1) الحديث: 8956 - المثنى بن الصباح الأبناوي المكي: مضت له ترجمة في: 4611. ونزيد هنا أنا نرى أن حديثه حسن، لأنه اختلط أخيرًا، كما فصلنا في شرح المسند، في الحديث: 6893. ومن أجل الكلام فيه ذهب الطبري إلى أن في إسناد هذا الحديث نظرًا. وقد رواه البيهقي أيضًا في السنن الكبرى 7: 160، من طريق ابن المبارك، عن المثنى بن الصباح. ثم قال البيهقي: "مثنى بن الصباح: غير قوي". ولكن المثنى لم ينفرد بروايته. فقد رواه البيهقي أيضًا - عقب رواية المثنى - من طريق ابن لهيعة، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه، فهذه متابعة قوية للمثنى، ترفع ما قد يظن من خطئه في روايته. والحديث نقله ابن كثير عن رواية الطبري هذه 2: 394، ضمن ما نقله من كلام الطبري في هذا الموضع. وذكره السيوطي 2: 135 وزاد نسبته لعبد الرزاق، وعبد بن حميد. ونص على أن البيهقي رواه من طريقين وهما اللتان ذكرناهما. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "لم يرها ولا يجامعها حتى يطلقها"، وأثبت ما في الدر المنثور 2: 135، فهو أجود، وقد مضى في الأثر رقم: 8941، "ثم لا يراها حتى يطلقها"، وانظر تخريج الأثر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 أيحل له أمها؟ قال: لا هي مُرسلة. قلت لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ:"وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن"؟ قال:"لا"، تترى = (1) قال حجاج، قلت لابن جريج: ما"تترى" = (2) ؟ قال: كأنه قال: لا! لا! (3) * * * وأما"الربائب" فإنه جمع"ربيبة"، وهي ابنة امرأة الرجل. قيل لها"ربيبة" لتربيته إياها، وإنما هي"مربوبة" صرفت إلى"ربيبة"، كما يقال:"هي قتيلة" من"مقتولة". (4) وقد يقال لزوج المرأة:"هو ربيب ابن امرأته"، يعني به:"هو رَابُّه"، كما يقال:"هو خابر، وخبير" و"شاهد، وشهيد". (5) * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"من نسائكم اللاتي دخلتم بهن". فقال بعضهم: معنى"الدخول" في هذا الموضع، الجماعُ. *ذكر من قال ذلك: 8958 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية   (1) في المطبوعة: "لا تبرأ"، ثم في الذي يليه"ما تبرأ"، وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وفيها: "تترى" غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "تترى"، أي: متتابعة، واحدة بعد واحدة، وقد جاء السؤال عن"تترى" أيضًا في حديث رواه ابن سعد 2 / 2 / 131، عن قباث بن أشيم الليثي، وجاء تفسيرها فيه"متفرقين". (2) في المطبوعة: "لا تبرأ"، ثم في الذي يليه"ما تبرأ"، وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وفيها: "تترى" غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "تترى"، أي: متتابعة، واحدة بعد واحدة، وقد جاء السؤال عن"تترى" أيضًا في حديث رواه ابن سعد 2 / 2 / 131، عن قباث بن أشيم الليثي، وجاء تفسيرها فيه"متفرقين". (3) الأثر: 8597 - مضى هذا الأثر مختصرًا بإسناده، وبغير هذا اللفظ فيما سلف قريبًا رقم: 8941، وانظر التعليق عليه هناك. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "قبيلة من مقبولة" بالباء الموحدة، وليس صوابا، بل الصواب ما أثبت، ولعل الناسخ كتب ما كتب، لأنهم قالوا: "رجل قتيل، وامرأة قتيل"، فهذا هو المشهور، ولكنه أغفل أنهم إذا تركوا ذكر المرأة قالوا: "هذه قتيلة بني فلان" وقالوا: "مررت بقتيلة"، ولم يقولوا في هذا"مررت بقتيل". (5) في المطبوعة: "جابر وجبير" بالجيم، وفي المخطوطة، أهمل نقط الأولى، ونقط الثانية جيما، وهو خطأ، ليس في العربية شيء من ذلك، بل الصواب ما أثبت و"الخابر والخبير": العالم بالخبر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، والدخول النكاح. * * * وقال آخرون:"الدخول" في هذا الموضع: هو التَّجريد. *ذكر من قال ذلك: 8959 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قلت لعطاء: قوله:"اللاتي دخلتم بهن"، ما"الدّخول بهن"؟ قال: أن تُهْدَى إليه فيكشف ويَعْتسَّ، ويجلس بين رجليها. (1) قلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيتِ أهلها؟ قال: هو سواءٌ، وَحسْبُه! قد حرَّم ذلك عليه ابنتَها. قلت: تحرم الربيبة مِمَّن يصنع هذا بأمها؟ ألا يحرُم عليَّ من أمَتي إن صنعته بأمها؟ (2) قال: نعم، سواء. قال عطاء: إذا كشف الرجل أَمته وجلس بين رجليها، أنهاه عن أمِّها وابنتها. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين عندي بالصواب في تأويل ذلك، ما قاله ابن عباس، من أنّ معنى:"الدخول" الجماع والنكاح. لأن ذلك لا يخلو معناه من أحد أمرين: إما أن يكون على الظاهر المتعارَف من معاني"الدخول" في الناس، وهو الوصول إليها بالخلوة بها = أو يكون بمعنى الجماع. وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يحرِّم عليه ابنتها إذا طلِّقها قبل مَسِيسها ومُباشرتها، أو قبل النَّظر إلى فرجها بالشهوة، ما يدلُّ على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.   (1) في المطبوعة: "يعس"، وفي المخطوطة"يعيس"، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "اعتس الشيء"، لمسه ورازه ليعرف خبره. وهو من الألفاظ التي لم تبين معناها كتب اللغة، ولكن معناها مفرق في أثناء كلامها. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ألا ما يحرم علي من أمتي"، وهو غير مستقيم، وكأن الصواب المحض ما أثبته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 وإذْ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك ما قلناه. * * * وأما قوله:"فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم"، فإنه يقول: فإن لم تكونوا، أيها الناس، دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي في حجوركم فجامعتموهن حتى طلقتموهن ="فلا جناح عليكم"، يقول: فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك. (1) * * * وأما قوله:"وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، فإنه يعني: وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم. * * * وهي جمع"حليلة" وهي امرأته. وقيل: سميت امرأة الرجل"حليلته"، لأنها تحلُّ معه في فراش واحد. * * * ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل، حرامٌ عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح، دخل بها أو لم يدخل بها. * * * فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في حلائل الأبناء من الرضاع، فإن الله تعالى إنما حرم حلائل أبنائِنا من أصلابنا؟ قيل: إن حلائل الأبناء من الرضاع، وحلائل الأبناء من الأصلاب، سواء في التحريم. وإنما قال:"وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، لأن معناه: وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم، دون حلائل أبنائكم الذين تبنيتموهم، كما:- 8960 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله:"وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"،   (1) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 3: 230، 231 / 4: 162، 566 / 5: 70، 117، 138. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 قال: كنا نُحدَّث، (1) والله أعلم، أنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم. حين نكح امرأة زَيْد بن حارثة، قال المشركون في ذلك، فنزلت:"وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، ونزلت: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) [سورة الأحزاب: 4] ، ونزلت: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [سورة الأحزاب: 40] * * * وأما قوله:"وأن تجمعوا بين الأختين" فإن معناه: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح = ف"أن" في موضع رفع، كأنه قيل: والجمع بين الأختين. (2) * * * ="إلا ما قد سلف" لكن ما قد مضى منكم (3) ="إن الله كان غفورًا" (4) لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها ="رحيما" بهم فيما كلَّفهم من الفرائض، وخفَّف عنهم فلم يحمِّلهم فوق طاقتهم. يخبر بذلك جل ثناؤه: أنه غفور لمن كان جمع بين الأختين بنكاح في جاهليته، وقبلَ تحريمه ذلك، إذا اتقى الله تبارك وتعالى بعدَ تحريمه ذلك عليه، فأطاعه باجتنابه = رحيمٌ به وبغيره من أهل طاعته من خَلْقِه. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "كنا نتحدث"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت، لأن عطاء يروي ما سمعه من أهل العلم من شيوخه. وانظر ابن كثير 2: 396. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 260. (3) انظر تفسير"إلا"، وتفسير"سلف" فيما سلف قريبًا: 137، 138، تعليق: 50. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن الله"، فأثبتها على منهجه في التفسير، بذكر نص الآية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 القول في تأويل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: حرمت عليكم المحصناتُ من النساءِ، إلا ما ملكت أيمانكم. * * * واختلف أهل التأويل في"المحصنات" التي عناهن الله في هذه الآية. فقال بعضهم: هن ذواتُ الأزواج غير المسبيَّات منهن، و"ملكُ اليمين": السَّبايا اللواتي فرَّق بينهن وبين أزواجهن السِّبَاء، فحللن لمن صِرْن له بملك اليمين، من غير طلاق كان من زوجها الحرْبيّ لها. *ذكر من قال ذلك: 8961 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كل ذات زوج، إتيانها زنًا، إلا ما سَبَيْتَ. 8962 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطيّة قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. (1)   (1) الأثران: 8961 -8962 - في الإسناد الأول: "عبد الرحمن"، هو: عبد الرحمن بن مهدي، سلف مرارًا. و"إسرائيل" هو: "إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة، سلف برقم: 1291، 1239 وغيرها. و"أبو حصين" هو: عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، ثقة. سلف برقم: 642، 643. وفي الإسناد الثاني: "ابن عطية" هو: الحسن بن عطية بن نجيح الكوفي، سلف برقم: 1939، 4962. وهذا الأثر، أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 304، من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن شعبة، عن أبي حصين، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي = وأخرجه من طريقه أيضًا البيهقي في السنن الكبرى 7: 167. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 8963 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، يقول: كل امرأة لها زوجٌ فهي عليك حرام، إلا أمةٌ ملكتها ولها زوجٌ بأرض الحربِ، فهي لك حلال إذا استبرأتَها. (1) 8964 - وحدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: ما سبَيْتُم من النساء. إذا سبيتَ المرأة ولها زوج في قومها، فلا بأس أن تطأها. 8965 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل امرأة محصنة لها زوج فهي مُحرَّمة، إلا ما ملكت يمينك من السبي وهي محصنة لها زوج، فلا تحرُم عليك به. قال: كان أبي يقول ذلك. 8966 - حدثني المثنى قال، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال، حدثنا سعيد، عن مكحول في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" قال: السبايا. (2) * * * واعتلّ قائلو هذه المقالة، بالأخبار التي رويت أن هذه الآية نزلت فيمن سُبي من أَوْطاس. ذكر الرواية بذلك: 8967 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن   (1) في المخطوطة: "إذا استبريتها"، كأنه لين الهمزة. (2) الأثر: 8966 -"عتبة بن سعيد بن حبان بن الرحض السلمي الحمصي"، يقال له: "وجين". ذكره ابن حبان في الثقات. و"سعيد" الراوي عن مكحول، كأنه"سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي"، صاحب مكحول. وقد سلفت روايته عنه برقم: 3997. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي، عن أبي سعيد الخدري: أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعثَ جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًّا، فأصابوا سبايَا لهن أزواجٌ من المشركين، فكان المسلمون يتأثَّمون من غشيانهن، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، أي: هُنّ حلال لكم إذا ما انقضت عِدَدهن. (1) 8968 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل: أن أبا علقمة الهاشمي حدَّث، أنّ أبا سعيد الخدري حدث: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حُنين سريَّة، فأصابوا حيًّا من أحياء العرب يومَ أوطاس، فهزموهم وأصابوا لهم سبايَا، فكان ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثَّمون من غشيانهن من أجل أزواجهن، فأنزل الله تبارك وتعالى:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" منهن، فحلالٌ لكم ذلك. 8969 - حدثني علي بن سعيد الكناني قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوار، عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري قال: لما سبىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ أوطاس، قلنا: يا رسول الله، كيف نقَعُ على نساء قد عرفنا أنسابَهنَّ وأزواجَهن؟ قال: فنزلت هذه الآية:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم". 8970 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عثمان البتي، [عن أبي الخليل] ، عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساءً من سَبْي أوطاس لهنّ أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهنَّ أزواج، فسألنا النبي صلى الله   (1) الأحاديث: 8967 - 8971 - هذه أسانيد خمسة لحديث واحد. وأبو الخليل: هو صالح بن أبي مريم. مضى توثيقه وترجمته في: 1899. وقد اختلف عليه فيه: بين روايته عن أبي سعيد الخدري مباشرة، وبين روايته عنه بواسطة أبي علقمة الهاشمي بينهما. بل إن الخلاف في ذلك على قتادة، لا على أبي الخليل، كما سيأتي، إن شاء الله. وأبو علقمة الهاشمي: هو المصري مولى بني هاشم. وهو تابعي ثقة. وسعيد - في الإسنادين الأولين: هو ابن أبي عروبة. وعثمان البتي - في إسنادين منهما -: هو عثمان بن مسلم البصري. وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين، وابن سعد، وغيرهم. و"البتي" - بفتح الباء الموحدة وتشديد التاء المثناة: نسبة إلى"البت"، اسم موضع. وقد جزم المزي في تهذيب الكمال، وتبعه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، بأن رواية أبي الخليل عن أبي سعيد مرسلة! هكذا دون دليل! مع أن مسلمًا روى الحديث بالوجهين. أمارة صحتهما عنده. ولذلك قال النووي في شرحه 10: 34-35 في الخلاف في إثبات"أبي علقمة" وحذفه: "ويحتمل أن يكون إثباته وحذفه كلاهما صواب، ويكون أبو الخليل سمع بالوجهين، فرواه تارة كذا، وتارة كذا". وعندي أن هذا هو الحق، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد. والحديث رواه أحمد: 11714 (ج3 ص72 حلبي) ، عن عبد الرزاق، عن سفيان - وهو الثوري - عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد. كالرواية التي هنا: 8970. وكذلك رواه الترمذي 4: 86، من طريق هشيم، عن عثمان البتي. وقال: "هذا حديث حسن. وهكذا روى الثوري، عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وليس في الحديث"عن أبي علقمة". ورواه مسلم 1: 417، من طريق شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد مباشرة. فهذه الروايات توافق الروايات التي هنا: 8969 -8971، التي لم يذكر فيها أبو علقمة. ورواه الطيالسي: 2239، عن هشام، عن قتادة، عن صالح - وهو أبو خليل - عن أبي علقمة. وكذلك رواه أحمد في المسند: 11820، من طريق ابن أبي عروبة. و11821، من طريق همام - كلاهما عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة (ج3 ص84 حلبي) . وكذلك رواه مسلم 1: 416 - 417، بإسنادين، من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة. ثم من طريق شعبة، عن قتادة - بزيادة"أبي علقمة". ومنه يظهر أن شعبة رواه عن قتادة بالوجهين: بإثبات أبي علقمة وحذفه. وكذلك رواه أبو داود: 2155، من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة. وكذلك رواه النسائي 2: 85، من طريق ابن أبي عروبة. وكذلك رواه البيهقي 7: 167، من طريق ابن أبي عروبة. ورواه الترمذي أيضًا 4: 86، من طريق همام، عن قتادة. ثم قال: "ولا أعلم أن أحدًا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث، إلا ما ذكر همام عن قتادة". هكذا قال الترمذي. وما لم يعلمه هو علمه غيره، فقد تابع همامًا على ذلك - سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، كما تبين من الروايات الماضية. وقد تعقب ابن كثير الترمذي بذلك، حين خرج الحديث في تفسيره 2: 399. وأيا ما كان، فالحديث صحيح، من الوجهين - كما قلنا - وكما خرجه مسلم في صحيحه منهما. وقد ذكره السيوطي 2: 137 - 138، دون بيان الخلاف في الإسناد، وزاد نسبته للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطحاوي، وابن حبان. تنبيه: زدنا في الإسناد: 8970 [عن أبي الخليل] ، لأنه هو الصواب، وهو الموافق لرواية أحمد: 11714، من طريق الثوري. فحذفه من الإسناد هنا خطأ من الناسخين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 عليه وسلم، فنزلت:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، فاستحللنا فروجَهنّ. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 8971 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد قال: نزلت في يوم أوطاس. أصابَ المسلمون سبايَا لهنَّ أزواج في الشرك، فقال:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، يقول: إلا ما أفاء الله عليكم. قال: فاستحللنا بها فروجَهن. وقال آخرون ممن قال:"المحصنات ذوات الأزواج في هذا الموضع": بل هُنَّ كل ذات زوج من النساء، حرامٌ على غير أزواجهن، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشترٍ من مولاها، فتحلُّ لمشتريها، ويُبْطِل بيعُ سيِّدها إياها النكاحَ بينها وبين زوجها. *ذكر من قال ذلك: 8972 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل ذات زوج عليك حرام، إلا أن تشتريها، أو ما ملكت يمينك. 8973 - حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه سئل عن الأمة تُباع ولها زوج؟ قال: كان عبد الله يقول: بيعُها طلاقُها، ويتلو هذه الآية:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم". (1)   (1) الأثر: 8973 - في المطبوعة: وحدثنا أحمد بن جعفر، عن شعبة"، وهو خطأ محض، والصواب من المخطوطة، و"محمد بن جعفر" المعروف بغندر، كان ربيب شعبة، وجالسه نحوًا من عشرين سنة، وروى عنه فأكثر، وقد سلف في الأسانيد مئات من المرات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 8974 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل ذات زوج عليك حرام إلا ما اشتريت بمالك = وكان يقول: بيعُ الأمة طلاقُها. 8975 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قوله:"والمحصنات من النساء"، قال: هنّ ذوات الأزواج، حرَّم الله نكاحهن، إلا ما ملكت يمينك، فبيعُها طلاقٌها = قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك. 8976 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: عن الحسن في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: إذا كان لها زوج، فبيعُها طلاقُها. 8977 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن أبيّ بن كعب، وجابرَ بن عبد الله، وأنسَ بن مالك قالوا: بيعُها طلاقُها. 8978 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن أبي بن كعب وجابرًا وابن عباس قالوا: بيعُها طلاقُها. 8979 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: بيعُ الأمة طلاقُها. (1) 8980 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور = ومغيرة والأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله قال، بيعُ الأمة طلاقها. 8981 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سعيد، عن   (1) الأثر: 8979 -"عمر بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي" ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله. 8982 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله. 8983 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلاق الأمة ستٌّ: بيعها طلاقُها، وعتْقُها طلاقها، وهبتُها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طَلاقُها. (1) 8984 - حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن عيسى ابن أبي إسحاق، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي بن كعب أنه قال: بيع الأمة طلاقها. (2) 8985 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن قال: بيع الأمة طلاقُها، وبيعُه طلاقُها. 8986 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا خالد، عن أبى قلابة قال: قال عبد الله: مشتريها أحقُّ بِبُضْعها = يعني الأمة تباع ولها زوج.   (1) الأثر: 8983 - ابن كثير 2: 400، والدر المنثور 2: 138. وفي ابن كثير: "خليد، عن عكرمة"، والصواب ما في التفسير، وهو خالد الحذاء: "خالد بن مهران"، وقد سلف رقم: 1683، 3912م، 5427. وفي هذه الأصول جميعًا: "طلاق الأمة ست"، ولم يذكر غير خمس منها، وفيها جميعًا علامة استشكال وتنبيه على هذا الخرم. وقد استظهرت أن يكون سادسها"وَإرْثُهَا طَلاقُهَا"، وكأنه الصواب إن شاء الله، فإن وراثة الأمة مطلقة لها. (2) الأثر: 8984 -"أحمد بن المغيرة"، وهو: "أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار" ="أبو حميد الحمصي" مضت ترجمته برقم: 5753، 5754. و"عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي الحمصي"، ثقة، كان يقال: "هو من الأبدال"، مات سنة 209. مترجم في التهذيب. وأما "عيسى بن أبي إسحاق" فكأنه"عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي" وقد رأى جده أبا إسحاق السبيعي المتوفى فيما اختلف فيه من سنة 126 - 129، ولم أجده روى عن"الأشعث بن سوار الكندي"، المتوفى سنة 136، ولكنه إذ كان رأى جده، فقد كان إذن خليقًا أن يروى عن الأشعث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 8987 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن الحسن قال: طلاق الأمة بيعُها. 8988 - حدثنا حميد قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا يونس، عن الحسن: أن أُبَيًّا قال: بيعُها طلاقُها. 8989 - حدثنا أحمد قال، حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج، فسيِّدها أحق ببُضْعِها. 8990 - حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: بيعُها طلاقُها. قال: فقيل لإبراهيم: فبَيْعُه؟ قال: ذلك ما لا نقول فيه شيئًا. * * * وقال آخرون: بل معنى"المحصنات" في هذا الموضع: العفائف. قالوا: وتأويل الآية: والعفائف من النساء حرام أيضًا عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم منهن بنكاح وصداق وسُنّة وشُهودٍ، من واحدةٍ إلى أربع. (1)   (1) قوله: "وسنة" هكذا جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة، وكذلك يأتي في الأثر التالي: 8991، وخرجه السيوطي في الدر، مثله، وفيه"وسنة" أيضًا. وأنا في شك من هذا اللفظ، ومن اللفظ الذي سيأتي في الأثرين: 9002، 9008، وهو"وبينة" ومجيئها في هذين الأثرين لا يحتمل قط أن تكون"بالسنة" أو "بسنة"، حتى أقول إن صوابه فيهما"سنة". أما "سنة" في هذا الموضع، فيحتمل السياق أن تكون: "وصداق وبينة وشهود". وأيضًا، لم أعرف ما"البينة" في النكاح، كما سترى في التعليق على الأثرين: 9002، 9008. أما "سنة" في هذا الموضع، وفي الأثر: 8991، فإني نظرت فلم أجد أركان النكاح، سوى الصداق والولي والشهود. وقد اختلف العلماء في"الولي" أشرط هو من شروط صحة النكاح، أم ليس بشرط = واختلفوا في أنه سنة أو فرض = واختلفوا في أنه من شروط تمام العقد، أم من شروط صحته. ورأيت سبب اختلافهم أنه لم تأت في"الولي" واشتراطه آية هي نص ظاهر. بل جاء في السنة، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، وإن اختلفوا في محامل هذا الحديث، وهو اختلاف مفصل في كتب الفقه. فبدا لي أن ما جاء في لفظ أبي جعفر، من خبر أبي العالية رقم: 8991، إنما سماه أبو العالية"سنة"، وهو يريد"الولي"، لأنه مجيئة في السنة، لا في ظاهر القرآن. هذا ما استظهرته، فمن أصاب، وجهًا غير هذا الوجه فعلمنيه، فجزاه الله خيرًا، وشكر له ما أفاد. وانظر التعليق على الأثرين: 9002، 9008. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 *ذكر من قال ذلك: 8991 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن أبي العالية قال، يقول:"انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"، ثم حرّم ما حرم من النسب والصهر، ثم قال:"والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: فرجع إلى أول السورة، إلى أربع، فقال: هن حرامٌ أيضًا إلا بصداق وسُنَّةٍ وشهود. (1) 8992 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: أحلّ الله لك أربعًا في أول السورة، وحرّم نكاح كلِّ محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك = قال معمر، وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه:"إلا ما ملكت يمينك"، قال: فزوجُك مما ملكت يمينُك، يقول: حرم الله الزنا، لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينُك. 8993 - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين قال، سألت عبيدة عن قول الله تعالى:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم"، قال: أربع. 8994 - حدثني علي بن سعيد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن عمر بن الخطاب مثله. 8995 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: الأربع، فما بعدهنّ حرام.   (1) الأثر: 8991 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ونسبه لابن جرير، وعبد بن حميد، ولفظه: "إلا لمن نكح بصداق ... " وانظر التعليق السالف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 8996 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عنها فقال: حرم الله ذوات القرابة. ثم قال:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، يقول: حرم ما فوق الأربع منهن. 8997 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمحصنات من النساء"، قال: الخامسةُ حرام كَحُرمة الأمهات والأخوات. * * * ذكر من قال:"عنى بالمحصنات في هذا الموضع، العفائفَ من المسلمين وأهل الكتاب. 8998 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"والمحصنات" قال: العفيفة العاقلة، من مسلمةٍ أو من أهل الكتاب. 8999 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن دريس، عن بعض أصحابه، عن مجاهد:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: العفائف. * * * وقال آخرون:"المحصنات" في هذا الموضع، ذوات الأزواج، غير أن الذي حرَّم الله منهن في هذه الآية، الزنا بهنّ، وأباحهن بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم" بالنكاح أو الملك. *ذكر من قال ذلك: 9000 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"والمحصنات"، قال: نهى عن الزنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 9001 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من النساء" قال: نهى عن الزنا، أن تنكِحَ المرأة زوجين. 9002 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل ذات زوج عليكم حرام، إلا الأربع اللاتي ينكحن بالبيِّنَةِ والمهر. (1) 9003 - حدثنا أحمد بن عثمان قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت النعمان بن راشد يحدِّث، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أنه سئل عن المحصنات من النساء، قال: هن ذوات الأزواج. (2) 9004 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله قال:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت   (1) الأثر: 9002 - لم أعرف ما أراد بقوله: "ينكحن بالبينة"، وسيأتي مثله في الأثر رقم: 9008، وقد وجدت في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده 4: 58، والحاكم في المستدرك 2: 172-174، من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى حي من الأنصار، ليتزوج امرأة منهم قال: "فأكرموني وزوجوني وألطفوني ولم يسألوني البينة. فرجعت حزينًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالك؟ فقلت: يا رسول الله، أتيت قومًا كرامًا فزوجوني وأكرموني ولم يسألوني البينة! فمن أين لي الصداق؟ " الحديث. فلا أدري أهذا هذا؟! وقد أشكل على ما أراد ابن عباس في هذا الحديث، وفي الذي يليه: 9008، بقوله: "بالبينة والمهر" أو "ببينة ومهر"، كما أشكل على لفظ"سنة" في ص: 158 تعليق: 1، والأثر: 8991، فانظره هناك. ورحم الله عبدًا علم جاهلا. وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ونسبه لابن أبي حاتم، والطبراني. (2) الأثر: 9003 -"أحمد بن عثمان بن أبي عثمان النوفلي" المعروف بابن أبي الجوزاء، روى عنه أبو جعفر في التاريخ 2: 205 بهذا الإسناد نفسه، وهو غير"أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي" الذي يروي عنه أبو جعفر أيضًا في غير هذا الموضع، وقد صرح أبو جعفر في إسناده في التاريخ بأنه"المعروف بابن أبي الجوزاء". مترجم في التهذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 أيمانكم"، قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين. وقال علي: ذوات الأزواج من المشركين. 9005 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:"والمحصنات من النساء"، قال: كل ذات زوج عليكم حرام. 9006 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن مكحول نحوه. 9007 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن الصلت بن بهرام، عن إبراهيم نحوه. (1) 9008 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" إلى"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، يعني ذوات الأزواج من النساء، لا يحل نكاحهنّ. يقول: لا تُخَبِّبْ ولا تَعِدْ، فتنشُز على زوجها. (2) وكل امرأة لا تنكح إلا ببينة ومَهْرٍ فهي من المحصنات التي حَرّم الله ="إلا ما ملكت أيمانكم"، يعني التي أحلَّ الله من النساء، وهو ما أحلَّ من حرائر النساء مثنى وثلاث ورباع. (3) * * *   (1) الأثر: 9007 -"الصلت بن بهرام التميمي" مضى برقم: 4223. (2) في المطبوعة: "لا تخلب"، وهو كأنه من"الخب"، وهو من قولهم: "خلب المرأة عقلها"، سلبها إياه بحلو حديثه وخداعه. وفي المخطوطة: "تحلب" غير منقوطة، وكذلك في الدر المنثور 2: 138، ولكني آثرت قراءتها"تخبب"، لأنه هو اللفظ المستعمل في إفساد النساء على أزواجهن. يقال: "خبب عليه امرأته أو عبده أو صديقه": أفسده عليه بمكره وغشه وخداعه، قال الفرزدق، في قوم اتهمهم بإفساد زوجته النوار عليه: وَإِنَّ امْرَأَ أَمْسَى يُخَبِّبُ زَوْجَتِي ... كَمَاشٍ إلى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا وَمِنْ دُونِ أَبْوَالِ الأُسُودِ بَسَالَةٌ ... وَبَسْطَةُ أَيْدٍ يَمْنَعُ الضَّيْمَ طُولُها (3) الأثر: 9008 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم. وانظر التعليق على الأثر: 9002، في إشكال معنى"بينة" هنا. وانظر أيضًا ص: 158 تعليق: 1، والتعليق على الأثر: 8991. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 وقال آخرون: بل هن نساءُ أهل الكتاب. *ذكر من قال ذلك: 9009 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عيسى بن عبيد، عن أيوب بن أبي العَوْجاء، عن أبي مجلز في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: نساء أهل الكتاب. (1) . * * * وقال آخرون: بل هن الحرائر. *ذكر من قال ذلك: 9010 - حدثنا ابن بشار قال، حدثني حماد بن مسعدة قال، حدثنا سليمان، عن عزرة في قوله:"والمحصنات من النساء"، قال: الحرائر. (2) * * *   (1) الأثر: 9009 -"يحيى بن واضح الأنصاري، أبو تميلة"، سلفت ترجمته مرارًا منها: 392، 461. و"عيسى بن عبيد بن مالك المروزي - الكندي"، يروي عن أبي مجلز، ولكنه روى عنه هنا بواسطة أيوب بن أبي العوجاء. روى عنه أبي تميلة يحيى بن واضح. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"أيوب بن العوجاء القرشي"، روى عن عكرمة، وعلباء بن أحمر. روى عنه الحسين بن واقد، والمبارك بن مجاهد، وعيسى بن عبيد المروزي، وأيوب. يعد في الخراسانيين، وهو مروزي. مترجم في الكبير 1 / 1 / 421، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 254. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أيوب عن أبي العوجاء"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت. و"أبو مجلز" هو"لاحق بن حميد" سلفت ترجمته في رقم: 2634. (2) الأثر: 9010 -"حماد بن مسعدة البصري"، ثقة، من شيوخ أحمد. مضى برقم: 3056. و"سليمان": هو: سليمان التيمي. و"عزرة" هو: عزرة بن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي، مضى برقم: 2752، 2753، وفي هذه الأخيرة خطأ (عروة) والصواب"عزرة" فليصحح. وكان في المطبوعة: "سليمان بن عرعرة"، ولا أدري من أين جاء بها الطابع، وإن كان"سليمان بن عرعرة بن البرند" مترجمًا في ابن أبي حاتم 2 / 1 / 134، وكان في المخطوطة"سليمان بن عزرة"، وليس في الرواة"سليمان بن عزرة"، فظاهر أنه"سليمان بن عزرة" وعزرة، يروي عن سليمان التيمي وقتادة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 وقال آخرون:"المحصنات" هن العفائف وذوات الأزواج، وحرام كُلُّ من الصنفين إلا بنكاحٍ أو ملك يمين. *ذكر من قال ذلك: 9011 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، وسئل عن قول الله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" الآية، قال: نرى أنه حرَّم في هذه الآية المحصنات من النساء ذوات الأزواج أن ينكحن مع أزواجهن = والمحصنات، العفائف = ولا يحللن إلا بنكاحٍ أو ملك يمين. والإحصان إحصانَان: إحصان تزويج، وإحصانُ عَفافٍ، في الحرائر والمملوكات. كل ذلك حرّم الله، إلا بنكاح أو ملك يمين. * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نساء كنَّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج، فيتزوّجُهن بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجُهن مهاجرين، فنهى المسلمون عن نكاحهن. *ذكر من قال ذلك: 9012 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن أبي سعيد الخدري قال: كان النساء يأتيننا ثم يهاجر أزواجهن، فمنعناهن = يعني قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم". (1) * * *   (1) الأثر: 9012 -"حبيب بن أبي ثابت" هو: "حبيب بن قيس بن دينار"، ويقال: "حبيب بن قيس بن هند"، ويقال"حبيب بن هند". روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وزيد بن أرقم، ومجاهد، وعطاء، وطاوس. وذكره أبو جعفر الطبري في طبقات الفقهاء. لم يذكر له رواية عن أبي سعيد الخدري. وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 311، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 107. والأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ولم ينسبه إلا لابن جرير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 وقد ذكر ابن عباس وجماعة غيره أنه كان ملتبسًا عليهم تأويل ذلك. 9013 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال، قال رجل لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سُئِل عن هذه الآية:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، فلم يقل فيها شيئًا؟ قال فقال: كان لا يعلمها. 9014 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن مجاهد قال: لو أعلم من يفسّر لي هذه الآية، لضربت إليه أكباد الإبل، قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" إلى قوله:"فما استمتعتم به منهن"، إلى آخر الآية. (1) * * * قال أبو جعفر: فأما"المحصنات"، فإنَّهن جمع"مُحْصَنة"، وهي التي قد مُنع فرجها بزوج. يقال منه:"أحْصَن الرجلُ امرأته فهو يُحْصنها إحصانًا"،"وحَصُنت هي فهي تَحْصُن حَصَانة"، إذا عفَّت ="وهي حاصِنٌ من النساء"، عفيفة، كما قال العجاج: وَحَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسٍ ... عَنِ الأذَى وَعَنْ قِرَافِ الْوَقْسِ (2)   (1) الأثر: 9014 -"عبد الرحمن بن يحيى"، لم أعرف من يكون؟ وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 139، لم ينسبه لغير ابن جرير. (2) ديوانه: 79، واللسان (حصن) (قنس) و (وقس) . وقد سلف من هذه القصيدة أبيات في 3: 403، يذكر فيها أبا العباس السفاح وخلافته، وهذا الشعر في ديوانه ملفق غير متصل، فلذلك لم أستطع أن أميز الآن، من على بقوله: "وحاصن"، وكأنه عنى أم أبي العباس. وقوله: "ملس" جمع"ملساء" وأراد بها البراءة من كل عيب يذم، كالشيء الأملس وهو البريء من الخشونة والعيوب والابن، ويقول المتلمس، وصدق العربي الحر: فَلا تَقْبَلَنْ ضَيْمًا مَخَافَةَ مِيتَةٍ، ... وَمُوتَنْ بِهَا حُرًّا وَجِلْدُكَ أَمْلَسُ ويعني بقوله: "الأذى" العيب. ويروى"من الأذى"، وهو جيد أيضًا. و"القراف" المخالطة، مصدر"قارف الشيء مقارفة وقرافًا" داناه وخالطه. فقالوا منه: "قارف الجرب البعير"، داناه شيء منه، وهو المراد هنا، أي ملابسة الداء و"الوقس"، الجرب. وضرب الجرب مثلا للفاحشة والعيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 ويقال أيضًا، إذا هي عَفَّت وحفِظت فرجها من الفجور:"قد أحصَنَتْ فرجها فهي مُحْصِنة"، كما قال جل ثناؤه: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) [سورة التحريم: 12] ، بمعنى: حفظته من الريبة، ومنعته من الفجور. وإنما قيل لحصون المدائن والقرى:"حُصُون"، لمنعها من أرادَها وأهلَها، وحفظِها ما وراءها ممن بغاها من أعدائها. ولذلك قيل للدرع:"درع حَصِينة". * * * فإذا كان أصل"الإحصان" ما ذكرنا من المنع والحفظ، فبيِّنٌ أنّ معنى قوله:"والمحصنات من النساء"، والممنوعات من النساء حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم. وإذ كان ذلك معناه، وكان الإحصان قد يكون بالحرّية، كما قال جل ثناؤه: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة المائدة: 5] = ويكون بالإسلام، كما قال تعالى ذكره: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [سورة النساء: 25] = ويكون بالعفة، كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) [سورة النور: 4] = ويكون بالزوج = (1) ولم يكن تبارك وتعالى خصّ محصَنة دون محصنة في قوله:"والمحصنات من النساء" = (2) فواجبٌ أن تكون كلُّ مُحْصنة بأيّ معاني الإحصان كان إحصانها، حرامًا علينا سفاحًا أو نكاحًا إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء، كما أباحه لنا كتابُ الله جل ثناؤه، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله.   (1) هذه عطوف متتابعة، والسياق: وإذ كان ذلك معناه، وكان الإحصان قد يكون بالحرية ... ويكون بالإسلام ... ويكون بالعفة ... ويكون بالزوج ... = ثم عطف مرة أخرى على أول الكلام فكان سياقه: وإذ كان ذلك معناه ... ولم يكن تبارك وتعالى خص محصنة دون محصنة. (2) هذا جواب"إذ"، والسياق: وإذ كان ذلك معناه ... فواجب أن تكون كل محصنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 فالذي أباحه الله تبارك وتعالى لنا نكاحًا من الحرائر: الأربعُ، سوى اللَّواتي حُرِّمن علينا بالنسب والصهر = ومن الإماء: ما سبينا من العدوِّ، سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حُرِّم علينا من الحرائر بالنسب والصهر، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرُم بذلك المعنى، متفقاتُ المعاني = وسوى اللّواتي سبيناهنّ من أهل الكتابين ولهن أزواج، فإن السبِّاء يحلُّهن لمن سبَاهن بعد الاستبراء، وبعد إخراج حق الله تبارك وتعالى الذي جعله لأهل الخُمس منهنّ. فأما السِّفاح، فإن الله تبارك وتعالى حرّمه من جميعهن، فلم يحلّه من حُرّة ولا أمة، ولا مسلمة، ولا كافرةٍ مشركة. وأما الأمة التي لها زوج، فإنها لا تحلّ لمالكها إلا بعد طلاق زوجها إياها، أو وفاته وانقضاء عدتها منه. فأمَّا بيع سيدها إياها، فغيرُ موجب بينها وبين زوجها فراقًا ولا تحليلا لمشتريها، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1) أنه خَيَّرَ بَرِيرة إذ أعتقتها عائشة، بين المُقام مع زوجها الذي كان سادَتُها زوَّجوها منه في حال رِقِّها، وبين فراقه = ولم يجعل صلى الله عليه وسلم عِتْق عائشة إيّاها لها طلاقًا. ولو كان عتقُها وزوالُ مِلك عائشة إياها لها طلاقًا، لم يكن لتخيير النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياها بين المقام مع زوجها والفراق، معنًى = ولوجب بالعتق الفراق، (2) وبزوال ملك عائشة عنها الطلاق. فلما خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الذي ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق، كان معلومًا أنه لم يخير بين ذلك إلا والنكاح عقدُه ثابت كما كان قبل زوال ملك عائشة عنها. فكان نظيرًا للعتق = الذي هو زوال مِلك مالك المملوكة ذات الزوج عنها = البيعُ، الذي هو زوال ملك مالكها عنها، إذ كان أحدهما زوالا ببيع، والآخر بعتق = في أن الفُرْقة لا تجب بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما، [ولا يجب بهما ولا بواحدٍ منهما   (1) خبر بريرة، في مسلم 10: 139-148، وأخرجه البخاري أيضًا في مواضع من صحيحه. (2) في المخطوطة: "وقد وجب بالعتق الفراق"، وهو خطأ بين، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 طلاقٌ] ، (1) وإن اختلفا في معانٍ أُخر: من أن لها في العتق الخيارُ في المقام مع زوجها والفراق، لعلة مفارقةٍ معنى البيع، وليس ذلك لها في البَيْع. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف يكون معنيًّا بالاستثناء من قوله:"والمحصنات من النساء"، ما وراء الأربع، من الخمس إلى ما فوقهن بالنكاح، والمنكوحات به غير مملوكات؟. قيل له: إن الله تعالى لم يخصّ بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم"، المملوكات الرقابَ، دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرُها، بل عمَّ بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم"، كلا المعنيين = أعني ملك الرقبة، وملك الاستمتاع بالنكاح = لأن جميع ذلك ملكته أيماننا. أما هذه فملك استمتاع، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها. ومن ادَّعى أن الله تبارك وتعالى عني بقوله:"والمحصنات من النساء" محصنة وغير محصنة سوى من ذكرنا أولا بالاستثناء بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم"، (2) بعضَ أملاك أيماننا دون بعض غيرَ الذي دللنا على أنه غير معنيٍّ به = سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير. (3) فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله. * * *   (1) في المطبوعة: "في أن الفرقة لا يجب بها بينهما وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما طلاق" وهو كلام فاسد مختل، غير ما في المخطوطة إذ كان ما فيها خطأ، وزاد"بها" في قوله"لا يجب بها"، ولا أدري ما أراد بذلك!! وفي المخطوطة: "في أن الفرقة لا تجب بينها وبين زوجها بهما، ولا بواحد منها وطلاق". والجملة الأولى مستقيمة، وأما "وطلاق" فإن الناسخ فيما أرجح قد اختلط عليه إعادة الجملة كما أثبتها، فكتب ما كتب. والصواب إن شاء الله هو ما أثبته بين القوسين، وهو استظهار من سياق الحجة السالفة كما ترى. هذا، وجملة أبي جعفر من أول الفقرة، شديدة التركيب، ولذلك وضعت لها الخطوط الفواصل، لتفصل التفسير عن سياق الكلام، وسياقه كما يلي: "فكان نظيرًا للعتق ... البيع ... في أن الفرقة ... "، يعني أن البيع نظير العتق، ثم فسر في خلال ذلك معنى"العتق" ومعنى"البيع". (2) قوله: "بعض" منصوب مفعول به لقوله"عنى بقوله". (3) السياق: "ومن ادعى ... سئل البرهان". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 فإن اعتلّ معتلُّ منهم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في سبايا أوطاس = = قيل له: إن سبايا أوْطاس لم يُوطأن بالملك والسبِّاء دون الإسلام. وذلك أنهن كن مشركاتٍ من عَبَدة الأوثان، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام، وأنهن إذا أسلمن فرَّق الإسلام بينهن وبين الأزواج، سبايا كنَّ أو مهاجرات. غير أنّهن إذا كُن سبايا، حللنَ إذا هُنَّ أسلمنَ بالاستبراء. فلا حجة لمحتجّ في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله:"والمحصنات من النساء"، ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهن، بخبر أبي سعيد الخدري أنّ ذلك نزل في سبايا أوطاس. لأنه وإن كان فيهن نزل، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسبِّاء خاصة، دون غيره من المعاني التي ذكرنا. مع أنّ الآية تنزل في معنًى، فتعمُّ ما نزلت به فيه وغيرَه، فيلزم حكمها جميع ما عمَّته، لما قد بيَّنا من القول في العموم والخصوص في كتابنا"كتاب البيان عن أصول الأحكام". * * * القول في تأويل قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: كتابًا من الله عليكم، فأخرج"الكتاب" مُصَدَّرًا من غير لفظه. (1) وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى:"حرِّمت عليكم أمهاتكم"، إلى قوله:"كتابَ الله عليكم"، بمعنى: كَتب الله تحريم ما حرَّم من ذلك وتحليلَ ما حلل من ذلك عليكم، كتابًا. (2) * * *   (1) "المصدر" (بضم الميم وفتح الصاد ودال مشدودة مفتوحة) ، أي مفعولا مطلقًا، من"التصدير" - وهو الإخراج على معنى المفعول المطلق. وانظر ما سلف 1: 117، تعليق: 1 ثم ص 138، تعليق: 2 / 2: 292 تعليق: 1، ص: 500. (2) انظر ما سلف 7: 261. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9015 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال:"كتاب الله عليكم"، قال: ما حرَّم عليكم. 9016 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عنها فقال:"كتابَ الله عليكم"، قال: هو الذي كتب عليكم الأربعَ، أن لا تزيدوا. 9017 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم"، وأشار ابن عون بأصابعه الأربع. 9018 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قوله:"كتاب الله عليكم"، قال: أربع. 9019 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كتاب الله عليكم"، الأربع. 9020 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كتاب الله عليكم"، قال: هذا أمرُ الله عليكم. قال: يريد ما حرَّم عليهم من هؤلاء وما أحلَّ لهم. وقرأ:"وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم"، إلى أخر الآية. قال:"كتاب الله عليكم"، الذي كتَبه، وأمره الذي أمركم به."كتاب الله عليكم"، أمرَ الله. (1) * * * وقد كان بعض أهل العربية يزعم أنّ قوله:"كتاب الله عليكم"، منصوب على وجه الإغراء، بمعنى: عليكم كتابَ الله، الزموا كتابَ الله.   (1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 3: 364، 365، 409، 508 / 4: 297 / 5: 300. ومعنى"الكتاب" الفرض والحكم والقضاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 = والذي قال من ذلك غير مستفيض في كلام العرب. وذلك أنها لا [تكاد] تَنصب بالحرف الذي تغرِي به، [إذا أخَّرت الإغراء، وقدمت المغرَى به] . (1) لا تكاد تقول:"أخاك عليك، وأباك دونك"، وإن كان جائزًا. (2) والذي هو أولى بكتاب الله: أن يكون محمولا على المعروف من لسان من نزل بلسانه. هذا، مع ما ذكرنا من تأويل أهل التأويل ذلك بمعنى ما قلنا، وخلافِ ما وجَّهه إليه من زعم أنه نُصب على وجه الإغراء. * * * القول في تأويل قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. *ذكر من قال ذلك: 9021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، ما دون الأربع ="أن تبتغوا أموالكم". 9022 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام،   (1) هذه الجملة التي بين القوسين، لا بد منها لصحة هذا القول، وقوله: "تكاد" قبلها بين القوسين، ضرورة زيادتها أيضًا، وإلا لم يكن لقوله بعد: "وإن كان ذلك جائزًا" معنى، فإنه يكون قد نفى بمرة واحدة، أن تنصب العرب بالحرف الذي تغرى به، إذا أخرته. وهو تناقض. واستظهرت الجملة الثانية مما سلف من كلامه في 1: 120، في الإغراء أيضًا. (2) وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 260. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، يعني: ما دون الأربع. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأحل لكم ما وراء ذلكم: مَن سَمَّى لكم تحريمه من أقاربكم. *ذكر من قال ذلك: 9023 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عنها فقال:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، قال: ما وراء ذات القرابة ="أن تبتغوا بأموالكم"، الآية. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"وأحل لكم ما وراء ذلكم: عددَ ما أحل لكم من المحصنات من النّساء الحرائر ومن الإماء. *ذكر من قال ذلك: 9024 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، قال: ما ملكت أيمانكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما نحن مبيِّنوه. وهو أن الله جل ثناؤه بيَّن لعباده المحرَّمات بالنسب والصهر، ثم المحرمات من المحصنات من النساء، ثم أخبرهم جل ثناؤه أنه قد أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرَّمات المبيَّنات في هاتين الآيتين، أن نَبْتغيه بأموالنا نكاحًا وملك يمين، لا سفاحًا. * * * فإن قال قائل: عرفنا المحلَّلات اللواتي هن وراء المحرَّمات بالأنساب والأصهار، فما المحلَّلات من المحصَنات والمحرمات منهن؟ قيل: هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع - على ما ذكرنا عن عبيدة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 والسدي - من الحرائر. فأما ما عدا ذوات الأزواج، فغير عدد محصور بملك اليمين. وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك، لأن قوله:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، عامّ في كل محلَّل لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا. فليس توجيه معنى ذلك إلى بعض منهن بأولى من بعض، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجَّة يجب التسليم لها. ولا حُجة بأن ذلك كذلك. * * * واختلف القرأة في قراءة قوله:"وأحل لكم ما وراء ذلكم". فقرأ ذلك بعضهم:"وَأَحَلَّ لَكُمْ" بفتح"الألف" من"أحل" بمعنى: كتب الله عليكم، وأحل لكم ما وراء ذلكم. وقرأه آخرون: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) ، اعتبارًا بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ،"وأحل لكم ما وراء ذلكم". * * * قال أبو جعفر: والذي نقول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الإسلام، غير مختلفتي المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الحقَّ. * * * وأما معنى قوله:"ما وراء ذلكم"، فإنه يعني: ما عدا هؤلاء اللواتي حرَّمتهن عليكم ="أن تبتغوا بأموالكم" يقول: أن تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم، (1) إما شراءً بها، وإما نكاحًا بصداق معلوم، كما قال جل ثناؤه: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) [سورة البقرة: 91] ، يعني: بما عداه وبما سواه. (2) * * *   (1) انظر تفسير: "ابتغى" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / 6: 196، 564، 570 / 7: 53. (2) انظر تفسير: "وراء" فيما سلف 2: 348، 349، ومعاني القرآن للفراء 1: 60، 261. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 وأما موضع:"أن" من قوله:"أن تبتغوا بأموالكم" فرفعٌ، ترجمةً عن"ما" التي في قوله: (1) "وأحل لكم ما وراء ذلكم" في قراءة من قرأ"وأحِلَّ" بضم"الألف" = ونصبٌ على ذلك في قراءة من قرأ ذلك:"وأحَل" بفتح"الألف". وقد يحتمل النصب في ذلك في القراءتين، على معنى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا. فلما حذفت"اللام" الخافضة، اتصلت بالفعل قبلها فنصبت. (2) وقد يحتمل أن تكون في موضع خفض، بهذا المعنى، (3) إذ كانت"اللام" في هذا الموضع معلومًا أن بالكلام إليها الحاجة. * * * القول في تأويل قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"محصِنين"، أعفَّاء بابتغائكم ما وراء ما حرَّم عليكم من النساء بأموالكم (4) ="غير مسافحين"، يقول: غير مُزَانين، كما:- 9025 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"محصنين"، قال: متناكحين ="غير مسافحين"، قال: زانين بكل زانية. 9026 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"محصنين" متناكحين ="غير مسافحين"، السفاحُ الزِّنا.   (1) "الترجمة" هنا هي"التفسير"، كما ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 261. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 261. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "فهذا المعنى"، وهو خطأ شديد الفساد. (4) انظر تفسير"الإحصان" فيما سلف قريبًا: 165، 166. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 9027 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"محصنين غير مسافحين"، يقول: محصنين غير زُنَاة. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فما استمتعتم به منهن". فقال بعضهم: معناه: فما نكحتم منهن فجامعتموهن - يعني: من النساء ="فآتوهن أجورهن فريضة" يعني: صدقاتهن، فريضة معلومة. (1) *ذكر من قال ذلك: 9028 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورَهن فريضة"، يقول: إذا تزوج الرجل منكم المرأة، ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صَداقها كلُّه = و"الاستمتاع" هو النكاح، وهو قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [سورة النساء: 4] . 9029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"فما استمتعتم به منهن"، قال: هو النكاح. 9030 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما استمتعتم به منهن"، النكاح.   (1) انظر تفسير"الاستمتاع" في"متع"، و"الإيتاء" في"أتى" و"الفريضة" في"فرض" من فهارس اللغة، في الأجزاء السالفة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 9031 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"فما استمتعتم به منهن"، قال: النكاحَ أراد. 9032 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" الآية، قال: هذا النكاح، وما في القرآن إلا نكاحٌ. إذا أخذتَها واستمتعت بها، فأعطها أجرَها الصداقَ. فإن وضعت لك منه شيئًا، فهو لك سائغ. فرض الله عليها العدة، وفرض لها الميراث. قال: والاستمتاع هو النكاح ههنا، إذا دخل بها. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما تمتَّعتم به منهن بأجرٍ تمتُّعَ اللذة، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولِيٍّ وشهود ومهر. *ذكر من قال ذلك: 9033 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورَهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"، (1) فهذه المتعة: الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى، ويشهد شاهدين، وينكح بإذن وليها، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وهي منه بريَّة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه. 9034 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما استمتعتم به منهن"، قال: يعني نكاحَ المتعة. 9035 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى قال، حدثنا نصير بن أبي الأشعث قال، حدثني ابن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه قال:   (1) قوله في الآية"إلى أجل مسمى"، هو في هذا الأثر من سياق الآية عن السدي، وانظر الآثار التالية: 9035 - 9043، وانظر رد الطبري هذه القراءة في آخر تفسير الآية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 أعطاني ابن عباس مصحفًا فقال: هذا على قراءة أبيّ = قال أبو كريب (1) قال يحيى: فرأيت المصحف عند نصير، فيه: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) . (2) 9036 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة قال، سألت ابن عباس عن متعة النساء. قال: أما تقرأ"سورة النساء"؟ قال قلت: بلى! قال: فما تقرأ فيها: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ؟ قلت: لا! لو قرأتُها هكذا ما سألتك! قال: فإنها كذا. 9037 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثني داود، عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فذكر نحوه. 9038 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي سلمة، عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية على ابن عباس:"فما استمتعتم به منهن". قال ابن عباس:"إلى أجل مسمى". قال قلت: ما أقرؤها كذلك! قال: والله لأنزلها الله كذلك! ثلاث مرات. 9039 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمير: أن ابن عباس قرأ: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) .   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أبو بكر"، مكان"أبو كريب"، وهو سهو من الناسخ كما ترى. (2) الأثر: 9035 -"يحيى بن عيسى الرملي"، شيخ أبي كريب، مضت ترجمته رقم: 6317، ثم 7418."نصير بن أبي الأشعث"- ويقال: ابن الأشعث -العرادي الأسدي، روى عن أبي إسحاق السبيعي وغيره. مترجم في التهذيب. و"ابن حبيب بن أبي ثابت"، لم أستطع أن أثبت أيهم هو، وهم"عبد الله بن حبيب" و"عبيد الله بن حبيب"، و"عبد السلام بن حبيب"، ذكرهم الداراقطني وقال: "بنو حبيب بن أبي ثابت وكلهم ثقات". وكان في المطبوعة: "حبيب بن أبي ثابت" أسقط"ابن"، وهي ثابتة في المخطوطة. وأبوه: "حبيب بن أبي ثابت"، روى عن ابن عباس، سلفت ترجمته قريبا، رقم: 9012. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 9040 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة = وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر قال، أخبرنا شعبة = عن أبي إسحاق، عن ابن عباس بنحوه. 9041 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: في قراءة أبيّ بن كعب: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) . 9042 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سألته عن هذه الآية:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" إلى هذا الموضع:"فما استمْتَعتم به منهن"، أمنسوخة هي؟ قال: لا = قال الحكم: وقال علي رضي الله عنه: لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شَقِيٌّ. 9043 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عيسى بن عمر القارئ الأسدي، عن عمرو بن مرة: أنه سمع سعيد بن جبير يقرأ: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن) . * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوَّله: فما نكحتموه منهن فجامعتموه، فآتوهن أجورهن = لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو الملك الصحيح على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. 9044 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال، حدثني الرَّبيع بن سبرة الجهني، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استمتعوا من هذه النساء = والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج. (1) * * *   (1) الحديث: 9044 - اختصر الطبري رحمه الله، أو شيخه سفيان بن وكيع - لفظ الحديث! فأوهم شيئًا آخر غير ما يدل عليه سياقه كاملا. وابن وكيع - شيخ الطبري -: هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف، كما بينا فيما مضى: 142. والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، كاملا: 15415 (ج3 ص405-406 حلبي) وشتان بين أحمد وابن وكيع. فرواه عن وكيع، بهذا الإسناد، وفيه: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: استمتعوا من هذه النساء. قال: والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج، قال: فعرضنا ذلك على النساء، فأبين إلا أن نضرب بيننا وبينهن أجلا. قال: فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: افعلوا" - ثم ذكر القصة في تمتعه بامرأة لعشرة أيام، وأنه بات عندها ليلة: "ثم أصبحت غاديًا إلى المسجد. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الباب والحجر، يخطب الناس يقول: ألا أيها الناس، قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله تبارك وتعالى قد حرم ذلك إلى يوم القيامة" - إلى آخر الحديث. ورواه البيهقي 7: 203، بنحوه من طريق أبي نعيم، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، به. وروى أحمد في المسند حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة، مطولا ومختصرًا، من أوجه كثيرة (3: 404-405) . وكذلك رواه مسلم 1: 395-396، مطولا ومختصرًا. وقصة سبرة بن معبد هذه كانت في حجة الوداع، أو في غزوة الفتح - على اختلاف الرواية عنه في ذلك. وقال الحافظ في الفتح 9: 147"والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر". وعلى كل حال فالنهي فيها هو الناسخ الأخير، وقد أفاض الحافظ في بيان النسخ مفصلا 9: 143-151. وانظر المحلى 9: 519-520، والسنن الكبرى للبيهقي 7: 200-207. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح الصحيح حرام، في غير هذا الموضع من كتبنا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. * * * وأما ما روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ، فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين. وغير جائز لأحد أن يلحق في كتاب الله تعالى شيئًا لم يأت به الخبرُ القاطعُ العذرَ عمن لا يجوز خلافه. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 القول في تأويل قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفرَيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك لا حرَج عليكم، (1) أيها الأزواج، إن أدركتكم عُسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورَهن فريضة، فيما تراضيتم به من حطٍّ وبراءة، بعد الفرض الذي سَلَف منكم لهن ما كنتم فرضتم. *ذكر من قال ذلك: 9045 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ: أن رجالا كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن تُدرك أحدهم العسرة، فقال الله:"ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة". وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما تراضيتم أنتم والنساء اللواتي استمتعتم بهن إلى أجل مسمى، إذا انقضى الأجل الذي أجَّلتموه بينكم وبينهن في الفراق، أن يزدنكم في الأجل، وتزيدوا من الأجر والفريضة، (2) قبل أن يستبرئن أرحامهن. *ذكر من قال ذلك: 9046 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"، إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجرة التي أعطاها على تمتعه بها - قبل   (1) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف: 149، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المخطوطة: "أن يزيدوكم في الأجل، وتزيدون من الأجر"، والذي في المطبوعة أجود الكلامين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 انقضاء الأجل بينهما، فقال:"أتمتع منك أيضًا بكذا وكذا"، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها، ثم تنقضي المدة. وهو قوله:"فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"، * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهن على استمتاعكم بهنّ من مُقام وفراق. *ذكر من قال ذلك: 9047 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"، والتراضي: أن يوفِّيها صداقها ثم يخيِّرها. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك ولا جناح عليكم فيما وضَعتْ عنكم نساؤكم من صَدُقاتهن من بعد الفريضة. *ذكر من قال ذلك: 9048 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"، قال: إن وضعتْ لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: ولا حرج عليكم، أيها الناس، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم من بعد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن، من حطِّ ما وجب لهنَّ عليكم، أو إبراء، أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء: 4] . فأما الذي قاله السدي: فقولٌ لا معنى له، لفساد القول بإحلال جماع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين. * * * وأما قوله:"إن الله كان عليمًا حكيمًا"، فإنه يعني: إن الله كان ذا علم بما يُصلحكم، أيها الناس، في مناكحكم وغيرها من أموركم وأمور سائر خلقه، ="حكيما" فيما يدبر لكم ولهم من التدبير، وفيما يأمركم وينهاكم، لا يدخل حكمته خلل ولا زلل. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى:"الطول" الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية. فقال بعضهم: هو الفضل والمال والسَّعة. *ذكر من قال ذلك: 9049- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، قال: الغنى. 9050 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9051 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، يقول: من لم يكن له سَعَة. 9052 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، يقول: من لم يستطع منكم سعة. 9053 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،   (1) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" في فهارس اللغة فيما سلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، قال: الطول الغنى. 9054 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، قال: الطول السعة. (1) 9055 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن لم يستطع منكم طولا"، أما قوله:"طولا"، فسعة من المال. 9056 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، الآية، قال:"طولا"، لا يجد ما ينكح به حرَّة. * * * وقال آخرون: معنى"الطول"، في هذا الموضع: الهَوَى. *ذكر من قال ذلك: 9057 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الجبار بن عمر، عن ربيعة: أنه قال في قوله الله:"ومن لم يستطع منكم طولا" قال: الطول الهوى. قال: ينكح الأمة إذا كان هواهُ فيها. (2) 9058 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان ربيعة يليِّن فيه بعض التليين، كان يقول: إذا خشي على نفسه إذا أحبَّها - أي الأمة - وإن كان يقدر على نكاح غيرها، فإني أرى أن ينكحها.   (1) الأثر: 9054 - في المطبوعة: "حدثنا ابن المثنى" بزيادة"ابن"، وليست في المخطوطة، وهو الصواب، وقد مضت رواية"المثنى" عن"حبان بن موسى"، في مئات من المواضع مثل: 4498، 4528، 4548، وما سيأتي قريبًا رقم: 9059، 9061. (2) الأثر: 9057 -"عبد الجبار بن عمر الأيلي" مضت ترجمته برقم: 4068. وكان في المطبوعة: "عبد الجبار بن عمرو" وهو خطأ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 9059 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر: أنه سئل عن الحرِّ يتزوج الأمة، فقال: إن كان ذا طول فلا. قيل: إن وقع حبّ الأمة في نفسه؟ قال: إن خشي العَنَت فليتزوجها. 9060 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن عبيدة، عن الشعبي قال: لا يتزوج الحر الأمة، إلا أن لا يجد = وكان إبراهيم يقول: لا بأس به. 9061 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: لا نكره أن ينكح ذُو اليسار اليوم الأمة، إذا خشي أن يشقى بها. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى"الطَّوْل" في هذا الموضع، السعة والغنى من المال، لإجماع الجميع على أن الله تبارك وتعالى لم يحرِّم شيئًا من الأشياء = سوى نكاح الإماء لواجد الطول إلى الحرة = فأحلَّ ما حرم من ذلك عند غلبة المحرَّم عليه له، لقضاء لذة. (2) فإذْ كان ذلك إجماعًا من الجميع فيما عدا نكاح الإماء لواجد الطول، فمثله في التحريم نكاح الإماء لواجد الطول: لا يُحَلُّ له من أجل غلبة هوًى عنده فيها، (3) لأن ذلك مع وجوده   (1) في المطبوعة: "أن يسعى بها"، هكذا قرأ ما في المخطوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. وعنى بذلك ما مضى في الآثار السالفة من قوله: "إن خشي العنت". (2) استشكل معنى هذه الجملة والتي بعدها على الناشر الأول. والمعنى، أن الله تعالى لم يحرم شيئًا، ثم أحله من أجل غلبة الهوى أو قضاء اللذة. بل أحل المحرم، للضرورة التي يخاف معها المضطر هلاك نفسه. فإذ كان ذلك إجماعًا من الجميع في كل شيء حرمه، فنكاح الإماء مثله، لا يمكن إحلاله من أجل غلبة الهوى. (3) في المطبوعة: "من أجل غلبة هوى سره فيها"، وفي المخطوطة: "من أجل غلبة الهوى غيره فيها"، وكأن صواب قراءتها ما أثبت. ولولا أن معنى"عنده" جائز صحيح، لآثرت أن تكون"عليه". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 الطولَ إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة، وليس بموضع ضرورة ترفع برخصة، (1) كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك نفسه، فيترخص في أكلها ليحيي بها نفسَه، وما أشبه ذلك من المحرمات اللواتي رخص الله لعباده في حال الضرورة والخوف على أنفسهم الهلاكَ منه، ما حرم عليهم منها في غيرها من الأحوال. (2) ولم يرخص الله تبارك وتعالى لعبدٍ في حرام لقضاء لذة. وفي إجماع الجميع على أن رجلا لو غلبَه هوى امرأة حرّة أو أمة، أنها لا تحل له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن الله به، ما يوضّح فساد قول من قال:"معنى الطول، في هذا الموضع: الهوى"، وأجاز لواجد الطول لحرة نكاحَ الإماء. * * * فتأويل الآية = إذ كان الأمر على ما وصفنا =: ومن لم يجد منكم سعة من مالٍ لنكاح الحرائر، فلينكح مما ملكت أيمانكم. * * * وأصل"الطول" الإفضال: يقال منه:"طال عليه يطول طَوْلا"، في الإفضال = و"طال يطول طُولا" في الطَول الذي هو خلاف القِصَر. * * * القول في تأويل قوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن لم يستطع منكم، أيها الناس، طولا = يعني من الأحرار ="أن ينكح المحصنات"، وهن الحرائر (3) = "المؤمنات" اللواتي قد   (1) في المطبوعة: "وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه"، وليس صوابًا في العبارة، وفي المخطوطة: "ترفع برخصة" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) جملة قوله: "ما حرم عليهم منها" مفعول لقوله: "رخص الله لعباده". (3) انظر تفسير"المحصنات" فيما سلف قريبًا: 151-169. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 صدَّقن بتوحيد الله وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحق. * * * وبنحو ما قلنا في"المحصنات" قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9062 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن ينكح المحصنات"، يقول: أن ينكح الحرائر، فلينكح من إماء المؤمنين. 9063 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم" قال:"المحصنات" الحرائر، فلينكح الأمة المؤمنة. 9064 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9065 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"فتياتكم"، فإماؤكم. 9066 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير:"أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"، قال: أما من لم يجد ما ينكح الحرة، تزوج الأمة. (1) 9067 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"، قال: لا يجد ما ينكح به حرة، (2) فينكح هذه الأمة، فيتعفف بها، ويكفيه أهلها   (1) في المطبوعة: "فيتزوج الأمة"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "من لم يجد ما ينكح ... "، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 مؤونتها. ولم يحلّ الله ذلك لأحد، إلا أن لا يجد ما ينكح به حرة فينفق عليها، ولم يحلّ له حتى يخشى العنت. (1) 9068 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا سفيان، عن هشام الدستوائي، عن عامر الأحول، عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة، وتُنكح الحرة على الأمة، ومن وجد طَوْلا لحرة فلا ينكحْ أمةً. * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من قرأة الكوفيين والمكيين: (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) بكسر"الصاد" مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك، سوى قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" [سورة النساء: 24] ، فإنهم فتحوا"الصاد" منها، ووجهوا تأويله إلى أنهن محصنات بأزواجهن، وأن أزواجهن هم أحصنوهنّ. وأما سائر ما في القرآن، فإنهم تأوّلوا في كسرهم"الصاد" منه، إلى أن النساء هنَّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفة. * * * وقرأت عامة قرأة المدينة والعراق ذلك كلَّه بالفتح، بمعنى أن بعضهن أحصنهن أزواجُهن، وبعضهن أحصنهنّ حريتهن أو إسلامهن. * * * وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر، بمعنى أنهن عففن وأحصنَّ أنفسهن. وذكرت هذه القراءة - أعني بكسر الجميع - عن علقمة، على الاختلاف في الرواية عنه. (2) * * *   (1) في المطبوعة: " ... إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرة، وينفق عليها"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد. (2) لم يشر أبو جعفر في تفسير آية النساء: 24 فيما سلف، إلى هذه القراءة، ولم يذكر هذا الاختلاف في قراءة"المحصنات"، وذلك من الأدلة على اختصاره التفسير، كما أسلفت مرارًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، مع اتفاق ذلك في المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ، إلا في الحرف الأول [من سورة النساء: 24] وهو قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، فإني لا أستجيز الكسر في صاده، لاتفاق قراءة الأمصار على فتحها. (1) ولو كانت القراءة بكسرها مستفيضة استفاضَتها بفتحها، كان صوابًا القراءةُ بها كذلك، لما ذكرنا من تصرف"الإحصان" في المعاني التي بيّناها، فيكون معنى ذلك لو كسر: والعفائف من النساء حرامٌ عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم، بمعنى أنهن أحصنَّ أنفسهن بالعفة. (2) * * * وأما"الفتيات"، فإنهن جمع"فتاة"، وهن الشوابّ من النساء. ثم يقال لكل مملوكة ذاتٍ سنّ أو شابة:"فتاة"، والعبد:"فتى". * * * ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات، وهل عنى الله بقوله:"من فتياتكم المؤمنات"، تحريم ما عدا المؤمنات منهن، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين؟ فقال بعضهم: ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين. *ذكر من قال ذلك: 9069 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من فتياتكم المؤمنات"، قال: لا ينبغي أن يتزوّج مملوكة نصرانيّةً. 9070 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من فتياتكم المؤمنات"، قال: لا ينبغي للحرّ المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب.   (1) هذا كله لم يذكر في تفسير آية النساء الأولى، وبيان معنى"الإحصان" قد سلف قريبًا: 165، 166. (2) هذا كله لم يذكر في تفسير آية النساء الأولى، وبيان معنى"الإحصان" قد سلف قريبًا: 165، 166. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 9071 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، يقولون: لا يحل لحرّ مسلم ولا لعبد مسلم، الأمةُ النصرانية، لأن الله يقول:"من فتياتكم المؤمنات"، يعني بالنكاح. (1) * * * وقال آخرون: ذلك من الله على الإرشاد والندب، لا على التحريم. وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق. *ذكر من قال ذلك: 9072 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة قال، قال أبو ميسرة: أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر. * * * = ومنهم أبو حنيفة وأصحابه، (2) واعتلوا لقولهم بقول الله: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ   (1) الأثر: 9071 -"الوليد بن مسلم الدمشقي"، سلفت ترجمته برقم: 2184، 6611 و"أبو عمرو"، هو الأوزاعي، وكان في المطبوعة والمخطوطة"أبو عمرو سعيد" كأنه واحد، أو "أبو عمر" و"سعيد"، والصواب ما أثبت. و"سعيد بن عبد العزيز التنوخي" أبو محمد، مضت ترجمته برقم: 8966. وأما "أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني"، كان من العباد المجتهدين، وكان كثير الحديث ضعيفًا. قال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، طرقه لصوص فأخذوا متاعه، فاختلط"، مات سنة 156، وفي تهذيب التهذيب خطأ في سنة وفاته، كتب: "سنة ست وخمسين ومئتين"، والصواب، ومئة. وقد ترجمه ابن سعد في طبقاته 7 / 2 / 170 في الطبعة الخامسة من أهل الشام، التي منها"سعيد بن عبد العزيز التنوخي". هذا، وقد كان في المطبوعة والمخطوطة: "ومالك بن عبد الله بن أبي مريم"، وليس في الرواة من يسمى بهذا الاسم، وصوابه ما أثبت، وأبو بكر بن أبي مريم، قد روى عنه الوليد بن مسلم، كما روى عن سائر من ذكر قبله. (2) قوله: "ومنهم أبو حنيفة وأصحابه" معطوف على قوله قبل الأثر: "وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق ... ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [سورة المائدة: 5] . قالوا: فقد أحل الله محصنات أهل الكتاب عامًّا، فليس لأحد أن يخُص منهن أمة ولا حرة. قالوا: ومعنى قوله:"فتياتكم المؤمنات"، غير المشركات من عبدة الأوثان. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب، فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين. وذلك أن الله جل ثناؤه أحلّ نكاح الإماء بشروط، فما لم تجتمع الشروط التي سماهن فيهن، (1) فغير جائز لمسلم نكاحهن. * * * فإن قال قائل: فإنّ الآية التي في"المائدة" تدل على إباحتهن بالنكاح؟ قيل: إن التي في"المائدة"، قد أبان أن حكمها في خاص من محصناتهم، وأنها معنيٌّ بها حرائرهم دون إمائهم، قولُه:"من فتياتكم المؤمنات". وليست إحدى الآيتين دافعًا حكمها حكمَ الأخرى، (2) بل إحداهما مبينة حكم الأخرى، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الأخرى، لو لم يكن جائزًا اجتماع حكميهما على صحة. (3) فغير جائز أن يحكم لإحداهما بأنها دافعة حكم الأخرى، إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس. ولا خبر بذلك ولا قياس. والآية محتملة ما قلنا: والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم. * * *   (1) في المطبوعة: "التي سماها فيهن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب جيد. (2) في المطبوعة: "دافعة حكمها ... " والصواب ما أثبت في المخطوطة، وإن كان كاتبها قد أساء الكتابة، فقرأها الناشر على غير وجهها الصحيح. (3) في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حكمهما" على الإفراد، والصواب ما أثبت، على التثنية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 القول في تأويل قوله تعالى {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} قال أبو جعفر: وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم. * * * وتأويل ذلك:"ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"، فلينكح بعضكم من بعض = بمعنى: فلينكح هذا فتاة هذا. * * * ف"البعض" مرفوع بتأويل الكلام، ومعناه، إذ كان قوله:"فمما ملكت أيمانكم"، في تأويل: فلينكح مما ملكت أيمانكم، ثم رد"بعضكم" على ذلك المعنى، فرفع. * * * ثم قال جل ثناؤه:"والله أعلم بإيمانكم"، (1) أي: والله أعلم بإيمان من آمن منكم بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، فصدق بذلك كله = منكم. (2) * * * يقول: فلينكح من لم يستطع منكم طولا لحرة من فتياتكم المؤمنات. لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولا لحرة، من هذا الموسر، فتاتَه المؤمنة التي قد أبدت الإيمان فأظهرته، وكلوا سرائرهن إلى الله، فإن علم ذلك إلى الله دونكم، والله أعلم بسرائركم وسرائرهن. * * *   (1) في المخطوطة أتم الآية هنا: "بعضكم من بعض"، وقد أحسن الناشر الأول إذ حذف هذه الزيادة هنا، لأن سياق التفسير على أن قوله: "والله أعلم بإيمانكم" من المقدم على قوله: "بعضكم من بعض". (2) السياق: "والله أعلم ... منكم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 القول في تأويل قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فانكحوهن"، فتزوجوهن (1) وبقوله:"بإذن أهلهن"، بإذن أربابهن وأمرهم إيّاكم بنكاحهن ورضاهم (2) = ويعني بقوله:"وآتوهن أجورهن"، وأعطوهن مهورهن، (3) كما:- 9073 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وآتوهن أجورهن" قال: الصداق. * * * ويعني بقوله:"بالمعروف" على ما تراضيتم به، مما أحلَّ الله لكم، وأباحه لكم أن تجعلوه مهورًا لهن. (4) * * *   (1) انظر تفسير"النكاح" فيما سلف 7: 574. (2) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450 / 4: 286، 371 / 5: 352، 355، 395 / 7: 288، 377. (3) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف في فهارس اللغة، وتفسير"الأجور" فيما سلف قريبًا: 175. (4) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف: 121، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 القول في تأويل قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخَذِاتِ أَخْدَانٍ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"محصنات"، (1) عفيفات ="غير مسافحات"، غير مزانيات (2) ="ولا متخذات أخدان"، يقول: ولا متخذات أصدقاء على السفاح. * * * وذكر أن ذلك قيل كذلك، (3) لأن"الزواني" كنّ في الجاهلية، في العرب: المعلنات بالزنا، و"المتخذات الأخدان": اللواتي قد حبسن أنفسَهن على الخليل والصديق، للفجور بها سرًّا دون الإعلان بذلك. *ذكر من قال ذلك: 9074 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان"، يعني: تنكحوهن عفائف غير زواني في سرّ ولا علانية ="ولا متخذات أخدان"، يعني: أخلاء. 9075 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"غير مسافحات"، المسافحات المعالنات بالزنا ="ولا متخذات أخدان"، ذات الخليل الواحد = قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي، يقولون:"أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك"، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [سورة الأنعام: 51] .   (1) انظر تفسير"محصنات" فيما سلف قريبًا: 151، 168، 185. (2) انظر تفسير: "السفاح" فيما سلف قريبًا: 174. (3) في المطبوعة: "وقد ذكر ... " بزيادة"قد"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 9076 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر قال، سمعت داود يحدّث، عن عامر قال: الزنا زناءان: تزني بالخدن ولا تزني بغيره، وتكون المرأة سَوْمًا، (1) ثم قرأ:"محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان". 9077 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"المحصنات" فالعفائف، فلتنكح الأمة بإذن أهلها محصنة = و"المحصنات" العفائف = غير مسافحة =، و"المسافحة"، المعالنة بالزنا = ولا متخذة صديقًا. 9078 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا متخذات أخدان"، قال: الخليلة يتخذها الرجل، والمرأة تتخذ الخليل. 9079 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9080- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان"،"المسافحة": البغيّ التي تؤاجر نفسها من عَرَض لها. و"ذات الخدن": ذات الخليل الواحد. فنهاهم الله عن نكاحهما جميعًا. 9081 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"محصنات   (1) في المطبوعة: "وتكون المرأة شؤمًا"، وهو كلام لا معنى له هنا، وهي في المخطوطة: "سوما" غير منقوطة، وهي الصواب. و"السوم" العرض، يقال: "عرض علي سوم عالة"، أي عرض ذلك علي عرضًا غير مبالغ فيه، كما يعرض الماء على الإبل شربت مرة بعد مرة. ويضرب مثلا لمن يعرض عليك ما أنت عنه غني، كالرجل يعلم أنك نزلت دار رجل ضيفًا، فيعرض عليك القرى. ومنه"السوم" وهو عرض السلعة على البيع. وذلك بمعنى ما سيأتي في الأثر رقم: 9080: "البغي التي تؤاجر نفسها من عرض لها". هذا، ولم يذكر هذا اللفظ مشروحًا في كتب اللغة، فقيده هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 غير مسافحات ولا متخذات أخدان"، أما"المحصنات"، فهن الحرائر، يقول: تزوج حرة. وأما"المسافحات"، فهن المعالنات بغير مهر. (1) وأما"متخذات أخدان"، فذات الخليل الواحد المستسرَّة به. (2) نهى الله عن ذلك. 9082 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي قال: الزنا وجهان قبيحان، أحدهما أخبث من الآخر. فأما الذي هو أخبثهما: فالمسافحة، التي تفجر بمن أتاها. وأما الآخر: فذات الخِدن. 9083 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان"، قال:"المسافح" الذي يَلقى المرأة فيفجر بها ثم يذهب وتذهب. و"المخادن"، الذي يقيم معها على معصية الله وتقيم معه، فذاك"الأخدان". * * * القول في تأويل قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بفتح"الألف"، بمعنى: إذا أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام. * * * وقرأه آخرون: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بمعنى: فإذا تزوّجن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج.   (1) في المطبوعة: "فهن المعلنات"، وفي المخطوطة: "فهي المعالنة"، ورجحت أن يكون الصواب ما أثبت. (2) المستسرة: المستخفية، من"السر". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ في قراءته الصوابَ. * * * فإن ظن ظانٌّ أنّ ما قلنا في ذلك غيرُ جائز، إذ كانتا مختلفتي المعنى، وإنما تجوز القراءةُ بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني = فقد أغفل (1) وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا، فغير دافع أحدُهما صاحبه. لأن الله قد أوجب على الأمَة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، الحدَّ. 9084 - فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا زَنت أمَةُ أحدكم فَليجلدها، كتابَ الله، ولا يُثَرِّبْ عليها. ثم إن عادت فليضربها، كتابَ الله، ولا يُثرّبْ عليها. ثم إن عادت فليضربها، كتابَ الله، ولا يُثرّب عليها. ثم إن زَنت الرابعة فليضربها، كتابَ الله، وليبعها ولو بحبل من شَعَرٍ". (2)   (1) قوله: "فقد أغفل"، جواب الشرط في قوله: "فإن ظن ظان ... ". وقوله: "أغفل" فعل لازم غير متعد، أي: دخل في الغفلة، وانظر تفسير مثله فيما سلف 1: 151، تعليق: 1 / 5: 52، تعليق: 4 = ثم: 160، تعليق: 1. (2) الأثر: 9084 - حديث صحيح، رواه من غير إسناد، وكأنه من مسند أبي هريرة، رواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 4: 350 / 12: 143-147) ومسلم 12: 211 / وأحمد في مسنده رقم: 7389، والبيهقي في السنن الكبرى 8: 242-244، من طرق. وقوله: "كتاب الله" على النصب، وفي رواية للنسائي"بكتاب الله". وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يثرب عليها"، أي: لا يعيرها بالزنا، ولا يبكتها بما أتت، ولا يعنف عليها باللوم. وهذا أدب نبي الله صلى الله عليه وسلم لأمته: أن لا تعير مرتكبًا بما ارتكب، وأن ترفق به، وتعرض عن تذكيره بالفاحشة، لئلا تمتلئ نفسه كمدًا وغيظًا وحقدًا على الناس. ولكنك ترى أهل زماننا، يستطيلون على كل من أتى جرمًا، فتمتلئ الصحافة بالسب والتعريض، وقبيح الصفات لكل من أتى جرمًا، كأن أحدهم قد أخذ عهدًا على أيامه البواقي أن لا يتورط في إثم أو جريمة. ومن يدري، فلعل أطولهم لسانًا في ذلك، أكثرهم استخفاء بما هو أشد من ذلك الجرم الذي ارتكبه المرتكب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 9085 - وقال صلى الله عليه وسلم:"أقيموا الحدودَ على ما ملكت أيمانكم". (1) * * * =فلم يخصص بذلك ذات زوج منهن ولا غير ذات زوج. فالحدود واجبةٌ على مَوالي الإماء إقامتها عليهن، إذا فجرن، بكتاب الله وأمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثكم به:- 9086 - ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة تَزني ولم تُحصَن. قال: اجلدها، فإن زنت فاجلدها، فإن زنت فاجلدها، فإن زنت = فقال في الثالثة أو الرابعة = فبعْها ولو بضفير = و"الضفيرُ": الشَّعر. 9087 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل = فذكر نحوه. (2) =فقد بينّ أن الحدّ الذي وجب إقامته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإماء، هو ما كان قبل إحصانهن. فأما ما وجب من ذلك عليهنّ بالكتاب، فبعدَ إحصانهن؟ قيل له: قد بيَّنا أن أحد معاني"الإحصان" الإسلام، وأن الآخر منه:   (1) الأثر: 9085 - رواه أحمد في مسنده رقم: 736، 1137، 1142، 1230 / والسنن الكبرى للبيهقي 8: 243. وانظر تخريجه في تفسير ابن كثير 2: 406. (2) الأثران: 9086، 9087 - الإسناد الأول، رواه مالك في الموطأ ص: 826، 827، مع خلاف في اللفظ يسير، وقال في آخره: "والضفير، الحبل"، وهما سواء في المعنى. وأخرجه البخاري (الفتح 4: 350 / 12: 143-145) ، ومسلم 12: 212، 213، من طرق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 التزويج، وأن"الإحصان" كلمة تشتمل على معان شتى. (1) وليس في رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل"عن الأمة تزني قبل أن تُحصن"، بيانُ أن التي سئِل عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي تزني قبل التزويج، فيكون ذلك حجة لمحتج في أن"الإحصان" الذي سنّ صلى الله عليه وسلم حدَّ الإماء في الزنا، هو الإسلام دون التزويج، ولا أنه هو التزويجُ دون الإسلام. وإذ كان لا بيان في ذلك، فالصواب من القول: أنّ كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامةُ الحدّ عليها، متزوجةً كانت أو غير متزوجة، لظاهر كتاب الله، والثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا مَن أخرجه من وُجوب الحد عليه منهنّ بما يجب التسليم له. وإذْ كان ذلك كذلك، تبين به صحةُ ما اخترنا من القراءة في قوله:"فإذا أُحصِن". * * * قال أبو جعفر: فإن ظن ظانّ أن في قول الله تعالى ذكره:"ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"، دلالةً على أن قوله:"فإذا أحصن"، معناه: تزوّجن، إذْ كان ذكر ذلك بعد وصفهن بالإيمان بقوله:"من فتياتكم المؤمنات" = (2) وحسبَ أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج، مع ما تقدم ذلك من وصفهن بالإيمان = فقد ظنّ خطأ. (3) وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك:"ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"،   (1) انظر ما سلف قريبًا ص: 151-196. (2) قوله: "وحسب" معطوف على قوله: "فإن ظن ظان". (3) قوله: "فقد ظن خطأ" جواب الشرط في قوله: "فإن ظن ظان". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 فإذا هنَّ آمنَّ"فإن أتين بفاحشة فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب"، فيكون الخبرُ مبتدأ عما يجب عليهنّ من الحدّ إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهن، (1) بعد البيان عما لا يجوز لناكحهن من المؤمنين من نكاحهن، وعمن يجوز نكاحه له منهن. فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام، فغيرُ جائز لأحد صَرْف معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام، من أجل ما تقدّم من وصف الله إيَّاهن بالإيمان. * * * غير أن الذي نختار لمن قرأ: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) بفتح"الصاد" في هذا الموضع، أن يُقرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ) بضم"الألف". ولمن قرأ:"مُحْصِناتٍ" بكسر"الصاد" فيه، أن يقرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بفتح"الألف"، لتأتلف قراءة القارئ على معنًى واحد وسياق واحد، لقرب قوله:"محصنات" من قوله:"فإذا أحصَن". ولو خالف من ذلك، لم يكن لحنًا، غيرَ أنّ وجه القراءةِ ما وصفت. * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، نظيرَ اختلاف القرأة في قراءته. فقال بعضهم: معنى قوله:"فإذا أحصن"، فإذا أسلمن. *ذكر من قال ذلك: 9088 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم: أن ابن مسعود قال: إسلامها إحصانها. (2)   (1) في المطبوعة: "فيكون الخبر بيانًا عما يجب عليهن من الحد"، غير ما في المخطوطة بسوء تصرف، والصواب ما أثبته من المخطوطة. هذا، ولم يرد بذكر"الخبر" و"مبتدأ" المعنى المصطلح عليه في النحو، بل أراد إخبار الله تعالى، وأنه ابتداء غير متصل بما قبله. (2) الأثر: 9088 -"سعيد" هو: سعيد بن أبي عروبة = و"أبو معشر"، هو زياد بن كليب، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سعيد بن أبي معشر"، وهو خطأ محض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 9089 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني جرير بن حازم: أن سليمان بن مهران حدّثه، عن إبراهيم بن يزيد، عن همام بن الحارث: أن النعمان بن عبد الله بن مقرّن، سأل عبد الله بن مسعود فقال: أَمَتي زنت؟ فقال: اجلدها خمسين جلدة. قال: إنها لم تُحصِن! فقال ابنُ مسعود: إحصانُها إسلامها. 9090 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان بن مقرّن سأل ابن مسعود عن أَمةٍ زنتْ وليس لها زوج، فقال: إسلامها إحصانها. (1) 9091 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان قال: قلت لابن مسعود: أَمتي زنت؟ قال: اجلدها. قلت: فإنها لم تُحصن! قال: إحصانها إسلامها. 9092 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة قال، كان عبد الله يقول: إحصانها إسلامها. 9093 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه تلا هذه الآية:"فإذا أحصن" قال، يقول: إذا أسلمن. 9094 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن   (1) الأثران 9089 -9090 - في الإسناد الأول: "إبراهيم بن يزيد" هو: إبراهيم النخعي. و"همام بن الحارث النخعي"، ثقة، كان من العباد، وكان لا ينام إلا قاعدًا. روى عن ابن مسعود. وذكر في الإسناد الأول: "النعمان بن عبد الله بن مقرن"، هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولم أجد لهذا الاسم ذكرًا في الكتب، وسيأتي في الأثر الذي يليه: "النعمان بن مقرن"، وقد اختلف في"النعمان بن مقرن" فقيل: "النعمان بن عمرو بن مقرن"، وقيل هما رجلان، وذلك مفصل في كتب الرجال، ولم يذكر أحد منهم"النعمان بن عبد الله بن مقرن". هذا، وقد روى هذا الأثر، البيهقي في السنن الكبرى 8: 243، وزاد الأمر إشكالا، فرواه من حديث إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث، عن عمرو بن شرحييل: أن معقل بن مقرن أتى عبد الله بن مسعود = ولم أستطع أن أقطع بشيء في هذا الاضطراب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 أشعث، عن الشعبي قال، قال عبد الله: الأمة إحصانها إسلامها. 9095 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، مغيرة، أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول:"فإذا أحصن"، يقول: إذا أسلمن. 9096 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي قال، الإحصان الإسلام. 9097 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن برد بن سنان، عن الزهري قال: جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكارًا من ولائد الإمارة في الزنا. (1) 9098 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا أحصنّ"، يقول: إذا أسلمن. 9099 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن سالم والقاسم قالا إحصانها إسلامها وعفافها في قوله:"فإذا أحصن". * * * وقال آخرون: معنى قوله:"فإذا أحصن"، فإذا تزوّجن. *ذكر من قال ذلك: 9100 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فإذا أحصن"، يعني: إذا تزوّجن حرًّا. 9101 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،   (1) الأثر: 9097 -"برد بن سنان الشامي، مولى قريش" صاحب مكحول. روى عن عطاء بن أبي رباح، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم. كان صدوقًا في الحديث. مترجم في التهذيب. وقوله: "من ولائد الإمارة"، في المخطوطة كتب"الإمارة" في الهامش، وكان قد ضرب على الكلمة في صلب الكلام. ولعله يعني: ولائد من السبي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) . يقول: إذا تزوجن. 9102 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة: أن ابن عباس كان يقرأ:"فإذا أحصن"، يقول: تزوجن. 9103 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثا، عن مجاهد قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحرّ، وإحصان العبد أن ينكح الحرّة. 9104 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة: أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تُضرب الأمةُ إذا زنتْ، ما لم تتزوّج. 9105 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: عن الحسن في قوله:"فإذا أحصن". قال: أحصنتهن البُعُولة. 9106 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإذا أحصن"، قال: أحصنتهن البعولة. 9107 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عياض بن عبد الله، عن أبي الزناد: أن الشعبي أخبره، أن ابن عباس أخبره: أنه أصاب جاريةً له قد كانت زَنتْ، وقال: أحصنتها. (1) * * * قال أبو جعفر وهذا التأويل على قراءة من قرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بضم"الألف"، وعلى تأويل من قرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بفتحها. وقد بينا الصّواب من القول والقراءة في ذلك عندنا. (2) * * *   (1) في المخطوطة: "قال: حصنتها". (2) انظر ما سلف: 195، 196 / ثم: 199. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن أتين بفاحشة"، فإن أتت فتياتكم - وهنّ إماؤكم - بعد ما أحصَنّ بإسلام، أو أحْصِنّ بنكاح (1) ="بفاحشة"، وهي الزنا (2) ="فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب"، يقول: فعليهن نصف ما على الحرائر من الحدّ، إذا هنّ زَنين قبل الإحصان بالأزواج. * * * و"العذاب" الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع، هو الحدّ، وذلك النصف الذي جعله الله عذابًا لمن أتى بالفاحشة من الإماء إذا هن أحصن: خمسون جلدة، ونَفي ستة أشهر، وذلك نصف عام. لأنّ الواجب على الحرة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان بالزوج، جلد مئة ونفي حَوْلٍ. فالنصف من ذلك خمسون جلدة، ونفي نصف سنة. وذلك الذي جعله الله عذابًا للإماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة، كما:- 9108 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب" ........... (3)   (1) انظر تفسير"أتى بالفاحشة" فيما سلف: 73، 81. (2) انظر تفسير"الفاحشة" فيما سلف: 3: 303 / 5: 571 / 7: 218 / 8: 73، 115، 116. (3) الأثر: 9108 - هذا الأثر مبتور في المخطوطة والمطبوعة، وإن كان قد ساقه كأنه غير مبتور، فلذلك وضعت هذه النقط للدلالة على الخرم. ولم أجده في مكان آخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 9109 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن أتين بفاحشة فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب"، خمسون جلدةً، ولا نَفي ولا رَجمَ. * * * فإن قال قائل: وكيف [قيل] (1) "فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب"؟. وهل يكون الجلدُ على أحد؟ قيل: إن معنى ذلك: فلازمُ أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يَلزم أبدان المحصنات، كما يقال:"عليّ صلاةُ يوم"، بمعنى: لازم عليّ أن أصلي صلاة يوم (2) = و"عليّ الحج والصيام"، مثل ذلك. وكذلك:"عليه الحدّ"، بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام عليه. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي أبَحْتُ = أيها الناس، (3) من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طَوْلا لنكاح المحصنات المؤمنات = أبحته لمن خشي العنت منكم، دون غيره ممن لا يخشى العنت. * * * واختلف أهل التأويل في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو الزنا. *ذكر من قال ذلك:   (1) الزيادة بين القوسين، لا بد منها، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة. (2) في المخطوطة: "لازم إلى أن أصلي"، والصواب ما في المطبوعة. (3) انظر تفسير"ذلك" بمعنى"هذا" فيما سلف 1: 225-227 / 3: 335 / 6: 466. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 9110 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد قوله:"لمن خشي العنت منكم"، قال: الزنا. 9111 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا. (1) 9112 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العنتُ الزنا. 9113 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد بن يحيى قال، حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: العنت الزنا. 9114 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا"ذلك لمن خشي العنتَ منكم". 9115 - حدثنا أبو سلمة قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير نحوه. (2) 9116 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"ذلك لمن خشي العنت منكم"، قال: الزنا. 9117 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا فضيل، عن عطية العوفي مثله.   (1) الأثر: 9111 - ذكر هذا الأثر صاحب اللسان في (زحلف) و (زلحف) ، وقال في: "ازحلف" إنه على القلب من"ازلحف" على وزن"اقشعر" وقراءتهما بسكون الزاي، وفتح اللام والحاء، والفاء المشددة. وقوله: "ازلحف" أي: تنحى وتباعد، شيئًا قليلا. وتمام الأثر في اللسان: "لأن الله عز وجل يقول: وأن تصبروا خير لكم". وانظر الأثر التالي رقم: 9114. (2) الأثر: 9115 -"أبو سلمة"، لم أعرف من يكون في شيوخ أبي جعفر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 9118 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لمن خشي العنت منكم"، قال: الزنا. 119 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبيدة، عن الشعبي = وجويبر، عن الضحاك = قالا العنت الزنا. 9120 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"ذلك لمن خشي العنت منكم"، قال: العنت الزنا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: العقوبة التي تُعْنِته، وهي الحدّ. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله:"ذلك لمن خشي العنت منكم"، ذلك لمن خاف منكم ضررًا في دينه وَبَدنِه. * * * قال أبو جعفر: وذلك أن"العنت" هو ما ضرّ الرجل. يقال منه:"قد عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتًا"، إذا أتى ما يَضرّه في دين أو دنيا، ومنه قول الله تبارك وتعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) [سورة آل عمران: 118] . ويقال:"قد أعنتني فلان فهو يُعنِتني"، إذا نالني بمضرة. وقد قيل:"العنت"، الهلاك. (1) * * * =فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا، قالوا: الزنا ضَرَرٌ في الدين، وهو من العنت. =والذين وجّهوه إلي الإثم، قالوا: الآثام كلها ضرر في الدين، وهي من العنت. = والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ، فإنهم قالوا: الحد مضرة على بدن المحدود في دنياه، وهو من العنت.   (1) انظر تفسير العنت فيما سلف 4: 360 / 7: 140. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 وقد عمّ الله بقوله:"لمن خشي العنت منكم"، جميعَ معاني العنت. ويجمع جميعَ ذلك الزّنا، لأنه يوجب العقوبةَ على صاحبه في الدنيا بما يُعنت بدنه، ويكتسب به إثمًا ومضرّة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهلُ التأويل الذي هم أهله، على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذةً وقضاءَ شهوة، فإنه بأدائه إلى العنت، منسوبٌ إليه موصوف به، إن كان للعنت سببًا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"وأنْ تصبروا"، أيها الناس، عن نكاح الإماء ="خير لكم" ="والله غفور" لكم نكاحَ الإماء أنْ تنكحوهن على ما أحلّ لكم وأذن لكم به، وما سلف منكم في ذلك، إن أصلحتم أمورَ أنفسكم فيما بينكم وبين الله ="رحيم" بكم، إذ أذن لكم في نكاحهن عند الافتقار وعدم الطول للحرّة. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9121 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: عن نكاح الأمة. 9122 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا،   (1) في المطبوعة: "أن كان للعنت"، وهو صواب، ولكن أثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 عن مجاهد:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: عن نكاح الإماء. 9123 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبرَ ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين، فهو خيرٌ لك. 9124 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبروا عن نكاح الإماء، خيرٌ لكم، وهو حلّ. 9125 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبروا عن نكاحهن = يعني نكاح الإماء= خير لكم. 9126 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: أن تصبروا عن نكاح الإماء، خير لكم. 9127 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: أن تصبروا عن نكاح الأمة خيرٌ لكم. 9128 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: وأن تصبروا عن الأمة، خير لكم. * * * و"أن" في قوله:"وأن تصبروا" في موضع رفع ب"خيرٌ"، بمعنى: والصبرُ عن نكاح الإماء خيرٌ لكم. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريد الله ليبين لكم"، حلاله وحرامَه ="وَيهديكم سُنن الذين من قبلكم"، يقول: وليسددكم (1) ="سُنن الذين من قبلكم"، يعني: سُبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه، ومناهجهم فيما حرّم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات وسائر ما حرم عليكم في الآيتين اللتين بَيَّن فيهما ما حرّم من النساء (2) ="ويتوب عليكم"، يقول: يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك، مما كنتم عليه من معصيته في فعلكم ذلك قبلَ الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحىَ إلى نبيه من ذلك ="عليكم"، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم ="والله عليم"، يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده في أدْيانهم ودنياهم وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذَرون مما أحل أو حرم عليهم، حافظ ذلك كله عليهم ="حكيم" بتدبيره فيهم، في تصريفهم فيما صرّفهم فيه. (3) * * * واختلف أهل العربية في معنى قوله:"يريد الله ليبين لكم". فقال بعضهم: معنى ذلك: يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. وقال: ذلك كما قال: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [سورة الشورى: 15] بكسر"اللام"، لأن معناه: أمرت بهذا من أجل ذلك. * * *   (1) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"السنة" فيما سلف 7: 230، 231، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 124. (3) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف، في فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 وقال آخرون: معنى ذلك: يريد الله أنْ يُبين لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم. وقالوا: من شأن العرب التعقيبُ بين"كي" و"لام كي" و"أن"، ووضْعُ كل واحدة منهن موضع كلِّ واحدة من أختها معَ"أردت" و"أمرت". فيقولون:"أمرتكَ أن تذهب، ولتذهب"، و"أردت أن تذهب ولتذهب"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [سورة الأنعام: 71] ، وقال في موضع آخر: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [سورة الأنعام: 14] ، (1) وكما قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) [سورة الصف: 8] ، ثم قال في موضع آخر، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) [سورة التوبة: 32] . واعتلوا في توجيههم"أن" مع"أمرت" و"أردت" إلى معنى"كي"، وتوجيه"كي" مع ذلك إلى معنى"أن"، لطلب"أردت" و"أمرت" الاستقبال، وأنها لا يصلح معها الماضي، (2) لا يقال:"أمرتك أن قمت"، ولا"أردت أن قمت". قالوا: فلما كانت"أن" قد تكون مع الماضي في غير"أردت" و"أمرت"، وَكَّدُوا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال، (3) من"كي" و"اللام" التي في معنى"كي". قالوا: وكذلك جمعت العرب بينهن أحيانًا في الحرف الواحد، فقال قائلهم في الجمع: (4) أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي ... فَتَتْرُكَهَا شَنًّا بِبَيْدَاءَ بَلَقْعِ (5)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وأمرت أن أكون"، وهو سهو من الناسخ، وأثبت نص التلاوة. (2) في المطبوعة: "وأيهما"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وكأنها خطأ مطبعي. (3) في المطبوعة: "ذكروا لها معنى الاستقبال ... "، وهو كلام لا معنى له، صوابه ما أثبته من المخطوطة، والظاهر أن الناشر استنكر عبارة أبي جعفر فغيرها. وعبارة الفراء في معاني القرآن: "استوثقوا لمعنى الاستقبال". (4) لا يعرف قائله. (5) معاني القرآن للفراء 1: 262، الإنصاف: 242، الخزانة 3: 585، والعيني (هامش الخزانة) 4: 405، وغيرها، كما قال صاحب الخزانة: "وهذا بيت قلما خلا منه كتاب نحوي". "الشن": الخلق البالي: و"البيداء": المفازة المهلكة، و"البلقع": الأرض القفر التي لا شيء بها. يقول: إنما أردت بذلك هلاكي وضياعي في قفرة مهلكة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 فجمع بينهن، لاتفاق معانيهن واختلاف ألفاظهن، كما قال الآخر: (1) قَدْ يَكْسِبُ المَالَ الهِدَانُ الجَافِي ... بِغَيْرِ لا عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ (2) فجمع بين"غير" و"لا"، توكيدًا للنفي. قالوا: إنما يجوز أن يجعل"أن" مكان"كي"، و"كي" مكان"أن"، في الأماكن التي لا يَصْحب جالبَ ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل. فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل، فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن يقال:"طننت ليقوم"، ولا"أظن ليقوم"، بمعنى: أظن أن يقوم = لأنّ ["أنْ"] ، (3) التي تدخل مع الظن   (1) ينسب إلى العجاج، وإلى رؤبة، وليس في ديوانه، وانظر التعليق التالي. (2) ديوان العجاج: 40، 82، معاني القرآن للفراء 1: 262، الإنصاف: 242. واللسان (صرف) (عصف) (هدن) ، والبيت التالي، هو الوارد في شعر العجاج: قَالَ الَّذِي جَمَّعْتَ لِي صَوَافِي ... مِنْ غَيْرِ لا عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ وهو من قصيدة يعاتب فيها ولده رؤبة، فرد عليه ولده رؤبة بقصيدة في ديوانه: 99. فظاهر أن هذا هو سبب الخلط في نسبة هذا الشعر، والصواب أنه للعجاج، لأنه من معنى عتابه ولده حين كبر وأرعش، وظن أن ابنه طمع في ماله ورجا هلاكه، وختم قصيدته بقوله: لَيْسَ كَذَاكُمْ وَلَدُ الأَشْرَافِ ... أَعْجَلَنِي المَوْتَ وَلَمْ يُكًافِ سَوْفَ يُجَازيك مَلِيكٌ وَافِ ... بِالأَخْذِ إنْ جَازَاكَ، أَوْ يُعافِي و"الهدان": الجبان، أو الوخم الثقيل النوام الذي لا يبكر في حاجة. و"عصف يعصف" و"اعتصف": طلب وكسب واحتال. و"العصف": الكسب والاحتيال. و"صرفت الرجل في أمري، فتصرف واصطرف": أي احتال في طلب الكسب. (3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من السياق، ومن معاني القرآن للفراء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 تكون مع الماضي من الفعل، يقال:"أظن أن قد قام زيد"، ومع المستقبل، ومع الأسماء. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: إن"اللام" في قوله:"يريد الله ليبين لكم"، بمعنى: يريد الله أنْ يبين لكم، لما ذكرتُ من علة من قال إنّ ذلك كذلك. * * *   (1) ومثالهما عند الفراء 1: 263 ما نصه"ومع المستقبل، فتقول: أظن أن سيقوم زيد = ومع الأسماء فتقول: أظن أنك قائم" وهذا الذي مضى هو مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 261-263. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا (27) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: والله يريد أن يراجع بكم طاعته والإنابة إليه، ليعفوَ لكم عما سلف من آثامكم، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم، من استحلالكم ما هو حرَامٌ عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم وغير ذلك مما كنتم تستحلونه وتأتونه، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله =="ويريد الذين يتبعون الشهوات"، يقول: ويريد الذين يطلبون لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها ="أن تميلوا" عن أمر الله تبارك وتعالى، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم معاصيه ="ميلا عظيمًا"، جورًا وعدولا عنه شديدًا. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله بأنهم"يتبعون الشهوات". فقال بعضهم: هم الزناة. *ذكر من قال ذلك: 9129 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: الزّنا ="أن تميلوا ميلا عظيمًا"، قال: يريدون أن تزنوا. 9130 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا"، أن تكونوا مثلهم، تزنون كما يزنون. 9131 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: الزنا ="أن تميلوا ميلا عظيمًا"، قال: يزني أهلُ الإسلام كما يزنون. قال: هي كهيئة: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [سورة القلم: 9] . 9132 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: الزنا ="أن تميلوا"، قال: أن تزنوا. * * * وقال آخرون، بل هم اليهودُ والنصارَى. *ذكر من قال ذلك: 9133 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: هم اليهود والنصارى ="أن تميلوا ميلا عظيمًا". * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 وقال آخرون: بل هم اليهودُ خاصة، وكانت إرادتهم من المسلمين اتّباعَ شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب. وذلك أنهم يحلون نكاحَهنّ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين: ويريدُ الذين يحلِّلون نكاح الأخوات من الأب، أن تميلوا عن الحق فتستحلّوهن كما استحلوا. * * * وقال آخرون. معنى ذلك: كل متبع شهوةً في دينه لغير الذي أبيح له. *ذكر من قال ذلك: 9134 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات" الآية، قال: يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، أن تميلوا في دينكم ميلا عظيمًا، تتبعون أمرَ دينهم، وتتركون أمرَ الله وأمرَ دينكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل وطلاب الزنا ونكاح الأخوات من الآباء، وغير ذلك مما حرمه الله ="أن تميلوا" عن الحق، (1) وعما أذن الله لكم فيه، فتجورُوا عن طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرم الله، وترك طاعته ="ميلا عظيمًا". وإنما قلنا، ذلك أولى بالصواب، لأن الله عز وجل عمّ بقوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة، وعمهم بوصفهم بذلك، من غير وصفهم باتّباع بعض الشهوات المذمومة. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها، دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل   (1) كان في المخطوطة والمطبوعة: "أن تميلوا ميلا عظيما عن الحق ... "، ولكني استظهرت من ذكره في آخر الفقرة: "ميلا عظيما"، أن قوله هنا"ميلا عظيما" سبق قلم من الناسخ، جرت تتمة الآية على لسانه فأثبتها، ولو صح ذلك، لكانت هذه الأخيرة في آخر الفقرة لا مكان لها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 أو قياس. وإذ كان ذلك كذلك كان داخلا في"الذين يتبعون الشهوات" اليهود، والنصارى، والزناة، وكل متبع باطلا. لأن كل متَّبع ما نهاه الله عنه، فمتبع شهوة نفسه. فإذ كان ذلك بتأويل الآية أولى، وجبتُ صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا (28) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريد الله أن يخفف عنكم"، يريد الله أن يُيسر عليكم، (1) بإذنه لكم في نكاح الفتيات المؤمنات إذا لم تستطيعوا طولا لحرة ="وخلق الإنسان ضعيفًا"، يقول: يسَّر ذلك عليكم إذا كنتم غيرَ مستطيعي الطوْل للحرائر، لأنكم خُلِقتم ضعفاء عجزةً عن ترك جماع النساء، قليلي الصبر عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات عند خوفكم العَنَت على أنفسكم، ولم تجدُوا طولا لحرة، لئلا تزنوا، لقلّة صبركم على ترك جماع النساء. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9135 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يريد الله أن يخفف عنكم" في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يُسر. 9136 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"التخفيف" فيما سلف 6: 577. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: في أمر الجماع. 9137 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: في أمر النساء. 9138 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: في أمور النساء. ليس يكون الإنسان في شيء أضعفَ منه في النساء. 9139 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يريد الله أن يخفف عنكم"، قال: رخّص لكم في نكاح هؤلاء الإماء، حين اضطُرّوا إليهن ="وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: لو لم يرخِّص له فيها، لم يكن إلا الأمرُ الأول، إذا لم يجد حرّة. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "يا أيها الذين آمنوا"، صدّقوا الله ورسوله ="لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، يقول: لا يأكل بعضكم أموالَ بعض بما حرّمَ عليه، من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها (2) ="إلا أن تكون تجارةً". كما:- 9140 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر تفسير"أكل الأموال بالباطل" فيما سلف 3: 548، 549 / 7: 528، 578 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، أما"أكلهم أموالهم بينهم بالباطل"، فبالرّبا والقمار والبخس والظلم (1) ="إلا أن تكون تجارة"، ليربح في الدرهم ألفًا إن استطاع. 9141 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن الفضل أبو النعمان قال، حدثنا خالد الطحان، قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، قال: الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها درهمًا. (2) 9142 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس = في الرجل يشتري من الرجل الثوبَ فيقول:"إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهمًا"، قال: هو الذي قال الله:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل". * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعامَ بعض إلا بشراء. فأما قِرًى، فإنه كان محظورًا بهذه الآية، حتى نسخ ذلك بقوله في"سورة النور": (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الآية [سورة النور: 61] .   (1) في المطبوعة: "نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا ... "، ولا أدري لم غير ما في المخطوطة!! وهو مطابق لما في الدر المنثور 2: 143. (2) الأثر: 9141 -"محمد بن الفضل أبو النعمان"، هو"عارم"، سلفت ترجمته برقم: 3387. وكان في المخطوطة: "محمد بن المفضل". وأما المطبوعة، فقد أساء الناشر غاية الإساءة، وخالف الأمانة، فكتب"أحمد بن المفضل"، وحذف"أبو النعمان"، وهذا أسوأ ما يكون من ترك الأمانة. وأما "خالد الطحان"، فهو: "خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي" سلفت ترجمته برقم: 4433، 5434. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 *ذكر من قال ذلك: 9143 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم" الآية، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك بالآية التي في"سورة النور"، فقال: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) إلى قوله: (جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) (1) فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجلَ من أهله إلى الطعام، فيقول:"إني لأتَجَنَّح"! = و"التجنح" التحرّج (2) = ويقول:"المساكين أحق به مني"! (3) فأحل من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحلّ طعامَ أهل الكتاب. (4) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك، قولُ السدي. وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أنّ أكل ذلك حرامٌ علينا، فإنّ الله لم يحلَّ قط أكلَ الأموال بالباطل. وإذْ كان ذلك كذلك، فلا معنى لقول من قال:"كان ذلك نهيًا عن   (1) من أعجب العجب، أن تكون آية سورة النور قد ذكرت قبل أسطر على الصحة، ثم تتفق المخطوطة والمطبوعة على أن تسوق الآية على الخطأ، فيكتب: "ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم ... " وهذا من السهو الشديد، أعاذنا الله وإياك من مثله، والله وحده المستعان. (2) "التجنح": التحرج، هذا معنى جيد عريق في العربية، لم تثبته كتب اللغة، فأثبته هناك. (3) في المطبوعة: "أحق مني به"، على التأخير، وأثبت ما في المخطوطة. (4) كأن هذا الأثر فيه بعض النقص، وقد اختصره السيوطي في الدر المنثور 2: 143، 144، اختصارًا شديدًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 أكل الرجل طعامَ أخيه قرًى [على وجه ما أذن له] ، ثم نُسخ ذلك، (1) لنقل علماء الأمّة جميعًا وجُهًّالها: أن قرَى الضيف وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام التي حَمِدَ الله أهلها عليها وَندبهم إليها، وأن الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل نَدَب الله عباده وحثهم عليه. وإذ كان ذلك كذلك، فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخًا أو منسوخًا بمعزل. لأن النسخَ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخًا بالإباحة. وإذ كان ذلك كذلك، صحّ القول الذي قلناه: من أنّ الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله أوْ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم - وشذّ ما خالفه. (2) واختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم". فقرأها بعضهم: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) رفعًا، بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو: تقع تجارة، عن تراض منكم، فيحل لكم أكلها حينئذ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه:"ألا أن تكون" تامةً ههنا، (3) لا حاجة بها إلى خَبر، على ما وصفت. وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة. * * * وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قرأة الكوفيين: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) ، نصبًا، بمعنى: إلا أن تكونَ الأموال التي تأكلونها بينكم، تجارةً عن تراض   (1) هذه العبارة التي بين القوسين، محرفة لا شك في تحريفها، ولم أجد لها وجهًا أرتضيه، فوضعتها بين القوسين، ولو أسقطها مسقط من الكلام لاستقام على صحة. (2) قوله: "وشذ ما خالفه" معطوف على قوله: "صح القول الذي قلناه". (3) في المطبوعة: " ... على هذا الوجه أن تكون تامة ... "، ورددتها إلى ما كان في المخطوطة، فهي صحيحة في سياقه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 منكم، فيحل لكم هنالك أكلها. فتكون"الأموال" مضمرة في قوله:"إلا أن تكون"، و"التجارة" منصوبة على الخبر. (1) * * * قال أبو جعفر: وكلتا القراءتين عندنا صوابٌ جائزةٌ القراءةُ بهما، لاستفاضتهما في قرأة الأمصار، مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب، أعجبُ إليّ من قراءته بالرفع، لقوة النصب من وجهين: أحدهما: أن في"تكون" ذكر من الأموال. والآخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها، ثم أفردت بـ "التجارة"، وهي نكرة، كان فصيحًا في كلام العرب النصبُ، إذ كانت مبنيةً على اسم وخبر. فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة، نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر: إِذَا كَانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا (2) قال أبو جعفر: ففي هذه الآية إبانةٌ من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوِّفة المنكرين طلبَ الأقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، اكتسابًا منا ذلك بها، (3) كما:- 9144 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن   (1) انظر تفصيل القول في هاتين القراءتين، في نظيرة هذه الآية من سورة البقرة: 282 في 6: 80-82، وإن اختلف وجه التأويل في الآيتين، كما يظهر من مراجعة ذلك في آية سورة البقرة. (2) سلف البيت بتمامه في 6: 80، ولم أشر إلى مكانه هنا في الموضع السالف، لأني لم أقف عليه أثناء تخريج شعر التفسير، لإدماجه في صلب الكلام. (3) في المطبوعة: "اكتسابًا أحل ذلك لها"، غير ما في المخطوطة، إذ لم يحسن قراءته. وهو كما أثبته، إلا أن الناسخ أخطأ فكتب"لها"، والصواب: "بها"، أي: بالتجارات والصناعات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، قال: التجارةُ رزقٌ من رزق الله، وحلالٌ من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرِّها. وقد كنا نحدَّث: أن التاجرَ الأمين الصدوقَ مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة. (1) . * * * وأما قوله:"عن تراض"، فإنّ معناه كما:- 9145 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:"عن تراض منكم"، في تجارة أو بيع، أو عطاءٍ يعطيه أحدٌ أحدًا. 9146 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"عن تراض منكم" في تجارة، أو بيع، أو عطاء يعطيه أحدٌ أحدًا. 9147 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعُ عن تراضٍ، والخيارُ بعد الصفقة، ولا يحلّ لمسلم أن يغشّ مسلمًا. (2)   (1) يعني الحديث الصحيح: "سَبْعَةٌ يِظلُّهُم الله في ظِلّه يومَ لا ظِلّ إلا ظِلُّهُ: إمَام عادلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عبادة الله، ورجُلٌ قلبه مُعَلَّقٌ بالمسجِد إذَا خَرَجَ مِنْه حَتَّى يَعُودَ إليه، ورجلان تَحابَّا في الله فاجتمعَا على ذلك وافترقَا، ورجُلٌ ذكر الله خاليًا ففاضتْ عيناهُ، ورجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذات مَنْصِبٍ وجَمالٍ فقال: إنّي أخاف الله رَبَّ العالَمين، ورجُلٌ تصدَّق بصدقةٍ، فأخفَاها حتى لا تَعْلَم شِماله ما تنفِقُ يمينُه". رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه: 345. (2) الأثر: 9147 - هذا حديث مرسل، خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 413 والسيوطي في الدر المنثور 2: 144، ولم ينسبه لغير ابن جرير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 9148 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج. قال: قلت لعطاء: المماسحة، بيعٌ هي؟ (1) قال: لا حتى يخيِّره، التخييرُ بعد ما يجبُ البيعُ، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك. * * * واختلف أهل العلم في معنى"التراضي" في التجارة. فقال بعضهم: هو أن يُخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيعَ بينهما فيما تبايعا فيه، من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيعَ بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ. *ذكر من قال ذلك: 9149 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان باع أحدهما من الآخر بُرْنُسًا، فقال: إني بعتُ من هذا برنسًا، فاسترضيته فلم يُرضني!! فقال: أرضه كما أرضاك. قال: إني قد أعطيته دراهم ولم يرضَ! قال: أرضه كما أرضاك. قال: قد أرضيته فلم يرض! فقال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا. (2) 9150 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرّقا. (3) 9151 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن شريح مثله.   (1) "تماسح الرجلان": إذا تبايعا فتصافقا، ومسح أحدهما على يد صاحبه، وذلك من صور بيعهم في الجاهلية. (2) "البيع" (بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة) ، البائع أو المشتري، والبيعان: المتبايعان. (3) الأثر: 9150 -"عبد الله بن أبي السفر الهمداني الثوري"، واسم"أبي السفر": سعيد بن يحمد. وروى عبد الله عن أبيه، وعن الشعبي وغيرهما. ثقة، ليس بكثير الحديث. مترجم في التهذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 9152 - حدثنا ابن المثنى قال حدثنا محمد قال، حدثنا شعبة، عن جابر قال، حدثني أبو الضحى، عن شريح أنه قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا = قال قال أبو الضحى: كان شريح يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1) 9153 - وحدثني الحسين بن يزيد الطحان قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون قال: اشتريت من ابن سيرين سابريًّا، فسَام عليَّ سَوْمَه، فقلت: أحسن! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما وزنتُ الثمن وَضَع الدراهم فقال: اختر، إما الدراهم، وإما المتاع. فاخترت المتاع فأخذته. (2) 9154 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يقولُ في البيعين: إنهما بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تصادرًا فقد وجب البيع. (3) 9155 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد قال، حدثنا سفيان بن دينار، عن ظبية قال: كنت في السوق وعلي رضي الله عنه في السوق، فجاءت جارية إلى بَيِّع فاكهة بدرهم، فقالت: أعطني هذا. فأعطاها إياه، فقالت: لا أريده، أعطني درهمي! فأبى، فأخذه منه علي فأعطاها إياه. (4)   (1) حديث: "البيعان بالخيار ... "، حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5: 268-272. (2) الأثر: 9153 -"الحسين بن يزيد الطحان"، وقد مضى قبل بنسبته"السبيعي"، انظر ما سلف رقم: 2892، 7863. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"الحسن بن يزيد" وهو خطأ. وأما "أبو حوشب"، فلم أجد من الرواة من هذا كنيته، وفي الإسناد تصحيف لا شك فيه. (3) "تصادرا" انصرف هذا، وانصرف الآخر، يقال: "صدر الرجل فهو صادر"، رجع أو انصرف. (4) الأثر: 9155 -"محمد بن إسماعيل الأحمسي" مضت ترجمته برقم: 405، 718."محمد بن عبيد الطنافسي" مضت ترجمته برقم: 405. و"ظبية"، هكذا اجتهدت قراءتها من المخطوطة، ولم أعرف من تكون؟ وكان في المطبوعة: "طيسلة" أخطأ قراءة المخطوطة خطأ عظيما. ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 9156 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي: أنه أُتِىَ في رجل اشترى من رجل برذَوْنًا ووَجبَ له، ثم إنّ المبتاع رَدّه قبل أن يتفرّقا، فقضى أنه قد وَجبَ عليه، فشهدَ عنده أبو الضحى: أنّ شريحًا قضى في مثله أن يردَّه على صاحبه. فرجع الشعبي إلى قضاء شُريح. 9157- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه كان يقول في البيعين: إذا ادّعى المشتري، أنه قد أوجبَ له البيعَ، وقال البائع: لم أُوجب له = قال: شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما [ما] افترقتما عن بيع ولا تخاير. (1) 9158 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد. قال: كان شريح يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه بالله: ما تفرَّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير. 9159 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان يقول: شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير. * * * وعلة من قال هذه المقالة، ما:- 9160 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل بَيِّعين فلا بيع بينهما حتى يتفرّقا، إلا أن يكونَ خيارًا. (2)   (1) الزيادة ما بين القوسين لا بد منهما للسياق، وانظر الأثر الذي يليه. (2) الحديث: 9160 - يحيى بن سعيد: هو القطان. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم العمري. ووقع في المطبوعة (والمخطوطة) "عبد الله" بالتكبير. وهو أخو"عبيد الله". وهو محتمل أن يكون كذلك. ولكني أرى الصواب"عبيد الله" بالتصغير، أولا: لأن الحديث معروف من روايته. وثانيًا: لأن الحافظ المزي لم يذكر في تهذيب الكمال رواية ليحيى القطان عن"عبد الله"، لا في ترجمة يحيى، ولا في ترجمة"عبد الله". وهو من عادته أن يتتبع ذلك ويستقصيه استقصاء تامًا. والحديث رواه أحمد في المسند: 5158، عن يحيى - وهو القطان، عن عبيد الله، به، نحوه. ورواه أحمد أيضًا: 6193، عن الفضل بن دكين، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ورواه البخاري 4: 280 (فتح) ، من رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وكذلك رواه مسلم 1: 447، من هذا الوجه. ورواه أحمد أيضًا: 4566، بنحوه، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار. وسيأتي أيضًا: 9164، من رواية أيوب، عن نافع، بمعناه. وقد خرجناه في مواضع كثيرة في المسند. وهو حديث معروف مشهور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 9161 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان بن معاوية قال، حدثني يحيى بن أيوب قال، كان أبو زرعة إذا بايع رجلا يقول له: خيِّرني! ثم يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يفترق إلا عن رضى". (1) 9162 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل البقيع! فسمعوا صوتَه، ثم قال: يا أهل البقيع! فاشْرأبًّوا ينظرون، حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: يا أهل البقيع! لا يتفرقنّ بيِّعان إلا عن رضى. (2)   (1) الحديث: 9161 - يحيى بن أيوب بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي: ثقة. قال ابن معين: "ليس به بأس". ونقل بعضهم عن ابن معين تضعيفه، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 260، فلم يذكر فيه جرحًا، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 137. وهو يروي هنا عن جده"أبي زرعة بن عمرو بن جرير" - وهو تابعي ثقة. والحديث رواه أبو داود: 3485، عن محمد بن حاتم الجرجرائي، عن مروان، وهو ابن معاوية الفزاري - بهذا الإسناد. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 271، من طريق أبي داود. وذكره السيوطي 1: 144 ولم ينسبه لغير الطبري. (2) الحديث: 9162 - هذا إسناد مرسل، لأن أبا قلابة تابعي. فلا أدري أهو هكذا في الطبري، أم كان موصولا فسقط اسم الصحابي من الناسخين؟ فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 271، من طريق الحسن بن مكرم، عن علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس، بنحوه. وهذا إسناد جيد. ولكن السيوطي ذكر رواية الطبري هذه 1: 144، عن أبي قلابة، مرسلا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 9163- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا أبو داود الطيالسي قال، حدثنا سليمان بن معاذ قال، حدثنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع رجلا ثم قال له: اختر. فقال: قد اخترت. فقال: هكذا البيع. (1) * * * قالوا: فالتجارة عن تراض، هو ما كان على ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشتري والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما = أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق = أو ما تفرقا عنه بأبدانهما عن تراض منهما بعد مُواجبة البيع فيه عن مجلسهما. فما كان بخلاف ذلك، فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما. * * * وقال آخرون: بل التراضي في التجارة، تُواجب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضى من كل واحد منهما: ما مُلِّك عليه صاحبه وَملِّك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده. * * * وعلة من قال هذه المقالة: أنّ البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما الذي جرى ذلك فيه. قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأولوا قولّ النبي صلى الله عليه وسلم:"البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"، على أنه ما لم   (1) الحديث: 9163 - سليمان بن معاذ: هو سليمان بن قرم - بفتح القاف وسكون الراء - بن معاذ، وهو ثقة، فيما رجحنا في شرح المسند: 5753. والحديث هو من رواية الطيالسي. وهو في مسنده: 2675. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 270، من طريق الطيالسي. وفي المستدرك للحاكم 2: 14، حديث لابن عمر وابن عباس - معًا - مرفوعًا، في معنى الخيار بين البيعين. وهو شاهد قوي لمعنى هذا الحديث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 يتفرّقا بالقول. وممن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا، قولُ من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين، ما تفرّق المتبايعان عن المجلس الذي تواجبَا فيه بينهما عُقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه = لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما:- 9164 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب = وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب = عن نافع، عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيعَ خيار" = وربما قال:"أو يقول أحدهما للآخر اختر". (1) * * * =فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه:"اختر"، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده.   (1) الحديث: 9164 - هذا إسناد من أصح الأسانيد: "أيوب، عن نافع، عن ابن عمر". وقد رواه الطبري هنا بإسنادين إلى أيوب: من طريق ابن علية، ومن طريق عبد الوهاب، وهو ابن عبد المجيد الثقفي. وقد رواه مالك في الموطأ، ص: 671، بنحوه - عن نافع عن ابن عمر: سلسلة الذهب. ورواه أحمد في المسند: 4484، عن إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب، به. ورواه البخاري 4: 274 (فتح) ، من طريق حماد بن زيد، عن أيوب. ورواه مسلم 1: 447، من رواية مالك، ومن رواية عبيد الله، ومن رواية أيوب - وغيرهم - عن نافع. ورواه البيهقي 5: 268-269، بأسانيد فيها كثيرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 =فإن يكن قبله، فذلك الخَلْف من الكلام الذي لا معنى له، (1) لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحدُ المتبايعين على صاحبه ما لم يكن له مالكًا، فيكون لتخييره صاحبه فيما مَلك عليه وجه مفهوم (2) = ولا فيهما من يجهلُ أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو لهُ غير مالك بعوَض يعتاضُه منه، فيقال له:"أنت بالخيار فيما تريدُ أن تحدثه من بيع أو شراء". = أو يكون - إذْ بطل هذا المعنى (3) - تخيير كلّ واحد منهما صاحبه مع عقد البيع. ومعنى التخيير في تلك الحال، نظيرُ معنى التخيير قبلها. لأنها حالة لم يَزُل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم. = أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذْ فَسد هذان المعنيان. (4) وإذْ كان ذلك كذلك، صحّ أن المعنى الآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعني قوله:"ما لم يتفرقا" - إنما هو التفرّق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده. وإذْ صحّ ذلك، فسد قولُ من زعم أن معنى ذلك إنما هو التفرق بالقول الذي به يكون البيع. وإذ فسد ذلك، صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصحّ تأويل من قال: معنى قوله:"إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم": إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض، عن مِلْك منكم عمن مَلكتموها عليه، بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها عن تراض منكم بعد عقد البيع بينكم بأبدانكم، أو تخيير بعضكم بعضًا. (5) * * *   (1) "الخلف" (بفتح الخاء وسكون اللام) : هو الكلام الرديء الخطأ، يقال: "هذا خلف من القول"، وفي المثل: "سكت ألفًا، ونطق خلفًا"، للذي يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ. (2) في المطبوعة: "فيما يملك عليه"، والصواب من المخطوطة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "إن بطل ... " والأجود ما أثبت. (4) في المطبوعة: "إذا فسد ... "، والصواب"إذ" كما في المخطوطة. (5) في المخطوطة والمطبوعة: "أو يخير بعضكم ... "، ورجحت ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تقتلوا أنفسكم"، ولا يقتل بعضكم بعضًا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة، ودين واحد. فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضَهم من بعض. وجعل القاتل منهم قتيلا = في قتله إياه منهم = بمنزلة قَتله نفسه، إذ كان القاتلُ والمقتول أهلَ يد واحدة على من خالف مِلَّتَهُما. (1) وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9165 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تقتلوا أنفسكم"، يقول: أهل ملتكم. 9166 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح:"ولا تقتلوا أنفسكم"، قال: قتل بعضكم بعضًا. * * * وأما قوله جل ثناؤه:"إن الله كان بكم رحيمًا"، فإنه يعني: إن الله تبارك وتعالى لم يزل"رحيمًا" بخلقه، (2) ومن رحمته بكم كفُّ بعضكم عن قتل بعض، أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظْرِ أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتمْ وأهلك بعضكم بعضًا قتلا وسلبًا وغصبًا. * * *   (1) انظر تفسير"أنفسكم" في مثل هذا المعنى 2: 301 / 6: 501 / 7: 454، 455. (2) انظر تفسير: "كان" في مثل هذا فيما سلف 7: 523 / 8: 51، 88، 98 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ومن يفعل ذلك عدوانًا". فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن يقتل نفسه، بمعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن ="عدوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا". *ذكر من قال ذلك: 9167 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيتَ قوله:"ومن يفعل ذلكُ عدْوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا"، في كل ذلك، أو في قوله:"ولا تقتلوا أنفسكم"؟ قال: بل في قوله:"ولا تقتلوا أنفسكم". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يفعل ما حرَّمته عليه من أول هذه السورة إلى قوله:"ومن يفعل ذلك" = من نكاح من حَرّمت نكاحه، وتعدِّي حدوده، وأكل أموال الأيتام ظلمًا، وقتل النفس المحرّم قتلها ظلمًا بغير حق. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يأكل مالَ أخيه المسلم ظلمًا بغير طيب نفس منه، وَقَتل أخاه المؤمن ظلمًا، فسوف نصليه نارًا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معناه: ومن يفعل ما حرّم الله عليه، من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) إلى قوله:"ومن يفعل ذلك"، من نكاح المحرمات، وعضل المحرَّم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 عضلُها من النساء، وأكل المال بالباطل، وقتل المحرّم قتله من المؤمنين= لأنّ كلّ ذلك مما وعد الله عليه أهلَه العقوبة. * * * فإن قال قائل: فما منعك أن تجعل قوله:"ذلك"، معنيّا به جميع ما أوعدَ الله عليه العقوبة من أول السورة؟ قيل: منعني ذلك (1) أن كلّ فصْل من ذلك قد قُرِن بالوعيد، إلى قوله: (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، (2) ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرّم الله في الآي التي بعده إلى قوله:"فسوف نصليه نارًا". فكان قوله:"ومن يفعل ذلك"، معنيًّا به ما قلنا، مما لم يُقرَن بالوعيد، مع إجماع الجميع على أنّ الله تعالى قد توعد على كل ذلك = (3) أولى من أن يكون معنيًّا به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقرونًا قبل ذلك. (4) * * * وأما قوله:"عدْوانًا"، فإنه يعني به تجاوزًا لما أباح الله له، إلى ما حرمه عليه ="وُظلمًا"، يعني: فعلا منه ذلك بغير ما أذن الله به، وركوبًا منه ما قد نهاه الله عنه (5) . وقوله:"فسوف نُصليه نارًا"، يقول: فسوف نُورده نارًا يصلَى بها فيحترق فيها (6) ="وكان ذلك على الله يسيرًا"، يعني: وكان إصلاءُ فاعل ذلك النارَ وإحراقه بها، على الله سَهْلا يسيرًا، لأنه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء. وإنما يصعب الوفاءُ بالوعيد لمن توعده، على من كان   (1) في المطبوعة: "منع ذلك"، والصواب من المخطوطة. (2) آخر الآية الثامنة عشرة من سورة النساء. (3) قوله: "أولى" خبر"كان" في قوله: "فكان قوله ... " (4) هذه حجة واضحة، وبرهان على حسن فهم أبي جعفر لمعاني القرآن ومقاصده. ونهج صحيح في ربط آيات الكتاب المبين، قل أن تظفر بمثله في غير هذا التفسير. (5) انظر تفسير"العدوان" و"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة"عدا" و"ظلم". (6) انظر تفسير"الإصلاء" فيما سلف: 27-29. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 إذا حاول الوفاءَ به قَدَر المتوعَّد من الامتناع منه. فأما من كان في قبضة مُوعِده، فيسيرٌ عليه إمضاءُ حكمه فيه، والوفاءُ له بوعيده، غيرُ عسير عليه أمرٌ أراده به. (1) * * *   (1) عند هذا الموضع، انتهى الجزء السادس من مخطوطتنا، وفي آخرها ما نصه: "نجز الجزء السادسُ من الكتاب، بحمد الله تعالى وعونِه وحُسْنِ توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. يتلوه في الجزء السابع إن شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} "وكان الفراغُ منه في بعض شهور سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسَنَ اللهُ تَقَضِّيها وخاتمتها، في خير وعافية بمنّه وكرمِهِ. غفر الله لِصاحبه ولكاتبه ولمؤلّفه ولجميع المسلمين. الحمد لله ربّ العالمين". ثم كتب كاتب تحته بخط مغربي، ما نصه: "طالعه الفقير إليه سبحانه، محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي، عفى عنهم بمنّه، وأتمه بتاريخ ثاني شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين واثني عشر مئة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله" وهذا الشيخ الجزائري الذي كتب هذه الخاتمة، هو الذي مضت له تعليقة على مكان من التفسير، أثبتها في مكانها في الجزء الخامس: 514، تعليق: 2. ثم بدأ الجزء السابع من مخطوطتنا، وأوله: بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 القول في تأويل قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا (31) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الكبائر" التي وعد الله جل ثناؤه عبادَه باجتنابها تكفيرَ سائر سيئاتهم عنهم. فقال بعضهم: الكبائر التي قال الله تبارك وتعالى:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم"، هي ما تقدَّم الله إلى عباده بالنهي عنه من أول"سورة النساء" إلى رأس الثلاثين منها. *ذكر من قال ذلك: 9168 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى ثلاثين منها. 9169 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله بمثله. 9170 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج، قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود مثله. 9171 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال، حدثني علقمة، عن عبد الله قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 إلى قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه". 9172 - حدثنا الرفاعي قال، حدثنا أبو معاوية وأبو خالد، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه". 9173 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: سئل عبد الله عن الكبائر، قال: ما بين فاتحة"سورة النساء" إلى رأس الثلاثين. 9174 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد عن إبراهيم، عن ابن مسعود قال: الكبائر، ما بين فاتحة"سورة النساء" إلى ثلاثين آية منها:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه". 9175 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى الثلاثين منها:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه". 9176 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة"سورة النساء"، إلى هذا الموضع:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه". 9177 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن ابن مسعود قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى ثلاثين آية منها. ثم تلا"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مُدْخلا كريمًا". 9178 - حدثني المثنى قال، حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مسعر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش قال، قال عبد الله: الكبائر ما بين أول"سورة النساء" إلى رأس الثلاثين. (1) * * *   (1) الآثار: 9168 -9178 - هذه الآثار أثر واحد بأسانيد كثيرة، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 4، وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 وقال آخرون:"الكبائر سبع". *ذكر من قال ذلك: 9179 - حدثني تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه قال: إني لفي هذا المسجد، مسجد الكوفة، وعليٌّ يخطب الناسَ على المنبر، (1) فقال:"يا أيها الناس، إن الكبائر سبعٌ"، فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرّات ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، ما هي؟ قال:"الإشراك بالله، وقتلُ النفس التي حرّم الله، وقذفُ المحصَنة، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الرّبا، والفرارُ يوم الزحف، والتعرُّب بعد الهجرة". فقلت لأبي: يا أبهْ، ما التعرّب بعد الهجرة؟ (2) كيف لحق ههنا؟ (3) فقال: يا بنيّ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سَهمه في الفيء ووَجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه، فرجع أعرابيًّا كما كان!!. (4) 9180 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير قال: الكبائر سبع، ليس منهن   (1) في المطبوعة وابن كثير: "علي رضي الله عنه" وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة وابن كثير: "يا أبت"، وهما سواء. و"التعرب": الرجوع إلى سكنى البادية كالأعراب، يقال: "تعرب بعد هجرته"، أي: صار أعرابيًا. (3) في المخطوطة: "كيف نحن ههنا"، وهي مضطربة الكتابة، فتركت ما في المطبوعة على حاله لموافقته ما في تفسير ابن كثير. (4) الأثر: 9179 -"محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري"، روى عن أبيه وعمه. مترجم في الكبير 1 / 1 / 107، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 277، وتعجيل المنفعة: 365. لم يذكر فيه البخاري جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات. وهذا الأثر أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير في ترجمته، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 422، فذكر ما رواه ابن مردويه من رواية ابن لهيعة، عن زياد بن أبي حبيب، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول"، وساق الخبر مرفوعًا. ثم قال: "وفي إسناده نظر، ورفعه غلط فاحش، والصواب ما رواه ابن جرير"، وساق الخبر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله: الإشراك بالله منهن: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) [سورة الحج: 31] و (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) [سورة النساء: 10] ، و (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [سورة البقرة: 275] ، و (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) [سورة النور: 23] ، والفرار من الزحف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ) [سورة الأنفال: 15] ، والتعرب بعد الهجرة: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) [سورة محمد: 25] ، وقتل النفس. 9181 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير الليثي قال: الكبائر سبع: الإشراك بالله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) ، وقتل النفس: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) الآية، [سورة النساء: 93] ، وأكل الربا: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) الآية، وأكل أموال اليتامى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) الآية، وقذف المحصنة: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) الآية، والفرار من الزحف: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) الآية، [سورة الأنفال: 16] والمرتدُّ أعرابيًا بعد هجرته: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) الآية. (1)   (1) الأثر: 9180، 9181 - في الأثر الأول، "محمد بن عبيد بن محمد بن واقد المحاربي"، أبو جعفر النحاس الكوفي، شيخ الطبري، روى عنه أبو داود والنسائي والترمذي وأبو حاتم وغيرهم. قال النسائي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في الثقات. وقد مضت روايته عنه في مواضع كثيرة: 1952، 3167، 3366، 4292، 8756. و"أبو الأحوص، سلام بن سليم"، مضت ترجمته برقم: 2058، 3167، 6170، 7216. و"ابن إسحاق" هو"محمد بن إسحاق"، مضت ترجمته مرارًا. و"عبيد بن عمير بن قتادة بن سعيد الليثي"، روى عن أبيه، وله صحبة، وعمر، وعلي، وأبي بن كعب، وأبي موسى، وأبي هريرة. تابعي ثقة من كبار التابعين. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة هنا: "عبيدة بن عمير"، وهو خطأ، والصواب ما في المخطوطة. وانظر الأثر الآتي رقم: 9189، والتعليق عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 9182 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال: سألت عبيدة عن الكبائر فقال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرارٌ يومَ الزحف، وأكل مال اليتيم بغير حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال: ويقولون: أعرابية بعد هجرة = قال ابن عون: فقلت لمحمد: فالسحر؟ قال: إن البهتان يجمع شرًّا كثيرًا. 9183- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: الكبائر: الإشراك، وقتل النفس الحرام، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرارُ من الزحف، والمرتدّ أعرابيًّا بعد هجرته. 9184 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة بنحوه. * * * وعلة من قال هذه المقالة ما:- 9185 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، أخبرني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المُجْمِر قال: أخبرني صهيب مولى العُتْواريّ: أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان: خطبنا رسول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: والذي نفسي بيده = ثلاث مرات = ثم أكبَّ، فأكبَّ كل رجل، منا يبكي، (1) لا يدري على ماذا حلف، ثم رفع رأسه وفي وجهه البِشر، فكان أحبَّ إلينا من حُمْر النَّعم، (2) فقال: ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رَمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبعَ، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل: ادخل بسلام". (3) 9186 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: الكبائر سبع: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار يوم الزحف. * * *   (1) أكب الرجل إكبابًا: نكس رأسه ونظر إلى الأرض. (2) "النعم": الإبل والشاء وأشاههما، وأراد به الإبل هاهنا. و"حمر النعم": خير الإبل وأصبرها على الهواجر، والعرب تقول: "خير الإبل حمرها وصهبها"، وهي التي لم يخالط حمرتها شيء. (3) الحديث: 9185 - هذا إسناد صحيح. خالد: هو ابن يزيد المصري. مضى توثيقه: 5465. نعيم بن عبد الله المجمر - بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما جيم ساكنة - المدني، مولى آل عمر بن الخطاب: تابعي ثقة معروف. أخرج له الجماعة. صهيب مولى العتواري: تابعي مدني ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 / 2 / 317. وابن أبي حاتم 2 / 1 / 444. و"العتواري": بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة. نسبته إلى"عتوارة"، بطن من كنانة، كما قال ابن الأثير. ووقع في مطبوعة ابن كثير في هذا الحديث"الصواري"! وهو تصحيف مطبعي سخيف. والحديث رواه البخاري في الكبير - في ترجمة صهيب - موجزًا كعادته، من طريق الليث، وهو ابن سعد، بهذا الإسناد. ورواه النسائي 1: 332، من طريق شعيب، عن الليث، به. وذكره ابن كثير 2: 415، عن هذا الموضع. وقال: "وهكذا رواه النسائي، والحاكم في مستدركه، من حديث الليث بن سعد، به. ورواه الحاكم أيضًا، وابن حبان في صحيحه - من حديث عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، به. ثم قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". وذكره السيوطي 2: 145، وزاد نسبته لابن ماجه، وابن خزيمة، والبيهقي في سننه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 وقال آخرون هي تسع. *ذكر من قال ذلك: 9187 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا زياد بن مخراق، عن طيسلة بن مياس قال: كنت مع النَّجَدات، فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر! فلقيت ابن عمر فقلت: أصبتُ ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر! (1) قال: وما هي؟ قلت: أصبت كذا وكذا. (2) قال: ليس من الكبائر = قال: لشيء لم يسمِّه طيسلة (3) = قال: هي تسع، وسأعدُّهن عليك: الإشراك بالله، وقتل النَّسَمة بغير حِلِّها، والفرار من الزحف، وقذفُ المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ظلمًا، وإلحادٌ في المسجد الحرام، والذي يستسحر، (4) وبكاء الوالدين   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "إني أصيب ذنوبا"، "أصيب" في المواضع الثلاثة في المخطوطة وفي الأول من المخطوطة: "أصبت"، وأنا أرجح أن هذه هي الصواب، فأجريت عليها المواضع الثلاثة، فجعلتها"أصبت"، فإنها أوفق لمعنى الخبر، وهي موافقة لما في ابن كثير. (2) أسقط في المطبوعة من هذا الموضع قوله: "أصبت"، فأثبتها في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "أشيء لم يسمعه طيسلة"، والصواب المحض في المخطوطة. يعني أن هذا الذنب، أو هذه الذنوب، لم يسمها، ولم يذكرها طيسلة، وهي ليست من الكبائر. (4) في المطبوعة والأدب المفرد للبخاري وابن كثير: "والذي يستسخر" بالخاء، وإنما معنى"يستسخر"، أن يسخر ويستهزئ، وليس ذلك من الكبائر، ولم أجده مذكورًا في خبر من الأخبار. وفي المخطوطة والدر المنثور 2: 146"يستسحر"، وهي غير منقوطة الحاء، وقراءتها بالحاء المهملة هو الصواب المحض فيما أرجح، وإن كان"استسحر، يستسحر" غير مذكور في شيء من كتب اللغة التي تحت أيدينا اليوم. وأنا أرجح أنه صواب، لأن المذكور في الآثار والأحاديث أنه من الكبائر هو"السحر"، وبناء"استسحر" من"السحر" صحيح في الاشتقاق، صحيح في معناه، وأرجح أن معناه: طلبك من الساحر أن يعمل لك بالسحر، أو أن تطلب منه علم السحر. وهذا موافق لما جاء في حديث طيسلة الذي يلي هذا الأثر وفيه: "والسحر". وهذا وقد جاء في بعض الآثار: "وتعلم السحر" (ابن كثير 2: 418) ، وجاء في خبر ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمن يغفر له: "ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة" (مجمع الزوائد 1: 104) ، وغيرها. وصحته من جهة الاشتقاق، أنهم قالوا في"الطرق"، وهو الضرب بالحصا، وهو نوع من الكهانة: "استطرق": طلب من الكاهن أن يطرق له الحصى، وأن ينظر له فيه. وأشباه ذلك كثير لا معنى لاستقصائه ههنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 من العقوق = قال زياد: وقال طيسلة: لما رأى ابن عمر فَرَقِي قال (1) أتخاف النار أن تدخلها؟ قلت: نعم! قال: وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: نعم! قال: أحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أمي. قال: فوالله لئن أنت ألَنْت لها الكلام، وأطعمتها الطعامَ، لتدخلنّ الجنة ما اجتَنَبْتَ الموجِبات. (2) 9188 - حدثنا سليمان بن ثابت الخراز الواسطي قال، أخبرنا سلم بن سلام قال، أخبرنا أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي النهدي قال: أتيت ابن عمر وهو في ظلّ أراكٍ يوم عرفة، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه، قال قلت: أخبرني عن الكبائر؟ قال: هي تسع. قلت: ما هن؟ قال: الإشراك بالله، وقذف المحصنة = قال قلت: قبل القتل؟ قال: نعم، ورَغْمًا = وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف، والسحر، وأكلُ الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق   (1) الفرق: شدة الفزع والخوف. (2) الحديث: 9187 - هذا إسناد صحيح. زياد بن مخراق المزني البصري: ثقة، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب. وترجمه البخاري في الكبير 2 / 2 / 339، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 545. طيسلة بن مياس، وسيأتي في الإسناد التالي"طيسلة بن علي النهدي" - وهما واحد. أبوه اسمه"علي"، ولقبه"مياس". وقد جزم البخاري في الكبير 2 / 2 / 368 بأنهما واحد، وذكر أن صواب نسبته"البهدلي"، وقال: "وبهدلة من بني سعد - و"النهدي، لا يصح". وكذلك جزم ابن أبي حاتم 2 / 1 / 501 بأنهما واحد، وبأنه"البهدلي" ويقال: السلمي. وروى عن يحيى بن معين، قال: "طيسلة بن علي البهدلي اليمامي: ثقة". والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد، ص: 4، عن مسدد، عن إسماعيل بن إبراهيم - وهو ابن علية - بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 2: 417، عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 2: 146 مختصرًا، وفي متنه تحريف. وزاد نسبته لابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والقاضي إسماعيل في أحكام القرآن. وقوله: "مع النجدات": هم قوم من الخوارج، من الحرورية، ينسبون إلى"نجدة بن عامر الحروي الحنفي"، رجل منهم، يقال: "هؤلاء النجدات" قاله في اللسان. وكان في المطبوعة"الحدثان"! وهو تصحيف صرف. ورسمت في المخطوطة دون نقط بما يقارب لفظ"النجدات". وثبت على الصواب في الأدب المفرد والمخطوطة الأزهرية من تفسير ابن كثير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 الوالدين المسلمين، وإلحادٌ بالبيت الحرام، (1) قبلتِكم أحياء وأمواتًا. (2) 9189 - حدثنا سليمان بن ثابت الخراز قال، أخبرنا سلم بن سلام قال، أخبرنا أيوب بن عتبة، عن يحيى، عن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله = إلا أنه قال: بدأ بالقتل قبل القذف. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "والإلحاد" بالتعريف، وفي المخطوطة: "والحلا". وظاهر أن الناسخ شبك الدال في الألف من عند مثنى الدال بقلم واحد في الخط. وانظر مثله في الأثر السالف. (2) الحديث: 9188 - وهذا إسناد آخر للحديث السابق، بنحوه. سليمان بن ثابت الخراز الواسطي - شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة. وثبت في ابن كثير"الجحدري" بدل"الخراز"! سلم بن سلام: هو أبو المسيب الواسطي. مترجم في التهذيب 4: 131، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 268، ولم يذكر فيه جرحًا. أيوب بن عتبة، أبو يحيى قاضي اليمامة: ضعيف، ضعفه أحمد، والبخاري، وغيرهما. وهذا الحديث ذكره ابن كثير 2: 417، عن هذا الموضع. ثم ذكر أنه رواه علي بن الجعد، عن أيوب بن عتبة - وساقه مطولا - وقال: "وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب، عن أيوب بن عتبة اليمامي، وفيه ضعف". وأشار الحافظ في التهذيب 5: 36-37، في ترجمة طيسلة، إلى أنه"أخرجه البغوي في الجعديات، عن علي بن الجعد، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي. وأخرجه الخطيب في الكفاية، والخرائطي في مساوئ الأخلاق، والبرديجي في الأسماء المفردة -: من طريق أخرى، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن مياس". ولكن أيوب بن عتبة لم ينفرد به عن طيسلة. فقد رواه عنه أيضًا عكرمة بن عمار العجلي، وهو ثقة: فأشار إليه البخاري - كعادته - إشارة موجزة، في ترجمة طيسلة 2 / 2 / 368، قال: "وقال النضر بن محمد: حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني طيسلة بن علي البهدلي، سمع ابن عمر. وقال وكيع، عن عكرمة: طيسلة بن علي النهدي، أن ابن عمر كان ينزل الأراك يوم عرفة". وهذه قطعة من هذا الحديث. وهذه القطعة رواها أبو داود في (مسائل الإمام أحمد) ، ص: 118، "حدثنا أحمد، قال حدثنا وكيع، عن عكرمة بن عمار، عن طيسلة بن علي: أن ابن عمر نزل الأراك يوم عرفة". وقد قصر السيوطي جدًا، حيث ذكر هذا الحديث 2: 146، ولم ينسبه لغير"علي بن الجعد في الجعديات". (3) الحديث: 9189 - يحيى: هو ابن أبي كثير. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة"يحيى بن عبيد بن عمير"! بتحريف"عن" إلى"بن". وهو تصحيف من الناسخين. ثم قد سقط من الإسناد هنا"عبد الحميد بن سنان" بين"يحيى بن أبي كثير" و"عبيد بن عمير". وليس هذا من الناسخين، بل هو خطأ من أيوب بن عتبة. عبيد بن عمير الليثي: تابعي معروف من كبار التابعين. مضى مرارًا. أبوه"عمير بن قتادة الليثي": صحابي، شهد الفتح وحجة الوداع. والحديث رواه الحاكم في المستدرك 1: 59، مطولا، من طريق حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، عن أبيه. وقال الحاكم: "قد احتجا [يعني الشيخين] برواة هذا الحديث، غير عبد الحميد بن سنان. فأما عمير بن قتادة فإنه صحابي. وابنه عبيد متفق على إخراجه والاحتجاج به". وتعقبه الذهبي في مختصره بأنهما لم يحتجا بعبد الحميد"لجهالته، ووثقه ابن حبان". ثم رواه الحاكم مرة أخرى 4: 259-260، من طريق حرب بن شداد أيضًا - مطولا. ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". وهنا وافقه الذهبي على تصحيحه، ولم يتعقبه بشيء. وقد رواه الحافظ المزي في تهذيب الكمال، ص: 769 (مخطوط مصور) مطولا، بإسنادين، من طريق حرب بن شداد، عن يحيى. ورواه أبو داود: 2875، من طريق حرب بن شداد، ولم يذكر لفظه كله. ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب، في ترجمة عمير بن قتادة، ص: 439 بإسناده من طريق أبي داود. وساق لفظه، ولكنه موجز من روايتي الحاكم. ورواه النسائي 2: 165، مختصرًا، من طريق حرب بن شداد. ولكن فيه"هن سبع" بدل"تسع". وذكره ابن كثير 2: 416، عن رواية الحاكم الأولى. ثم قال: "وقد أخرجه أبو داود، والنسائي، مختصرًا ... وكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديثه مبسوطًا. ثم قال الحاكم: رجاله كلهم محتج بهم في الصحيحين، إلا عبد الحميد بن سنان. قلت: وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: في حديثه نظر". ثم أشار ابن كثير إلى رواية الطبري هذه. ثم قال: "ولم يذكر في الإسناد عبد الحميد بن سنان". وهذا يدل على أن حذف"عبد الحميد بن سنان" من الإسناد - ليس خطأ من الناسخين، إنما هو من تخليط أيوب بن عتبة. وعبد الحميد بن سنان: ترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 13، ولم يذكر فيه جرحًا. فهذا توثيق منه له. والحديث ذكره السيوطي 2: 146، وزاد نسبته للطبراني، وابن مردويه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 وقال آخرون: هي أربع. *ذكر من قال ذلك: 9190 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن مطرف، عن وبرة، عن ابن مسعود قال: الكبائر: الإشراك بالله، والقنوط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 من رحمة الله، والإياس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله. 9191 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مطرف، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن أبي الطفيل، قال، قال عبد الله بن مسعود: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والإياسُ من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. 9192 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن وبرة بن عبد الرحمن قال، قال عبد الله: إن الكبائر: الشرك بالله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والإياس من رَوْح الله. 9193 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرفًا، عن وبرة، عن أبي الطفيل قال، قال عبد الله: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله. 9194 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن وبرة، عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أكبر الكبائر: الإشراك بالله. 9195 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن وبرة، عن أبي الطفيل، عن عبد الله بنحوه: 9196 - حدثني ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك، عن أبي الطفيل، عن عبد الله قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والإياس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله. (1)   (1) الأثر: 9196 -"عبد الملك" هو عبد الملك بن سعيد بن حبان بن أبجر، ويعرف بابن أبجر. كان ثقة ثبتًا في الحديث صاحب سنة. يروي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الملك بن أبي الطفيل" وهو خطأ ظاهر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 9197 - وبه قال، حدثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن عبد الله بمثله. 9198 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن عبد الله بن مسعود بنحوه. 9199 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود قال: الكبائرُ أربع: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، والأمن لمكر الله، والإياسُ من رَوْح الله. 9200 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن فُرات القزاز، عن أبي الطفيل، عن عبد الله قال: الكبائر: القنوط من رحمة الله، والإياس من رَوح الله، والأمن لمكر الله، والشرك بالله. (1) * * * وقال آخرون: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. *ذكر من قال ذلك: 9201 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن منصور، عن ابن سيرين، عن ابن عباس قال: ذكرت عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. 9202 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن محمد قال: أنبئت أن ابن عباس كان يقول: كل ما نهى الله عنه   (1) الآثار: 9190 - 9200 -"فرات القزاز" في الأثر الأخير، هو: "فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز التميمي". روى عن أبي الطفيل وغيره، وروى عنه ابنه الحسن بن الفرات، وشعبة والمسعودي وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر عن ابن مسعود، قد ساقه الطبري من طرق كثيرة، ذكر واحدًا منها ابن كثير في تفسيره 2: 422، وقال: "ثم رواه من عدة طرق، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود، وهو صحيح إليه بلا شك". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 147، ونسبه أيضًا لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، وابن أبي الدنيا في التوبة. وخرجه ابن كثير أيضًا في تفسيره 2: 421، 422، من حديث ابن عباس مرفوعًا وقال: "في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفًا". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 كبيرة = وقد ذُكرت الطَّرْفة، قال: هي النظرة. 9203 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن طاوس قال، قال رجل لعبد الله بن عباس: أخبرني بالكبائر السبع. قال، فقال ابن عباس: هي أكثر من سبع وسبع = (1) فما أدري كم قالها من مرة. 9204 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، (2) عن طاوس قال: ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي سبع. قال: هي أكثر من سبع وَسبع! قال سليمان: فلا أدري كم قالها من مرّة. 9205 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي، عن عوف قال: قام أبو العالية الرّياحي على حَلْقةٍ أنا فيها فقال: إن ناسًا يقولون:"الكبائر سبع"، وقد خفت أن تكون الكبائر سبعين أو يزدن على ذلك. 9206 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد قال، سمعت أبا عمرو يخبر، عن الزهري، عن ابن عباس: أنه سئل عن الكبائر: أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. 9207 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير، أن رجلا قال لابن عباس: كم الكبائر؟ أسبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. 9208 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائرَ السبع التي ذكرهن الله؟ ما هن؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منها إلى سبع.   (1) في المخطوطة وابن كثير 2: 425: "من سبع وسبع"، وفي المطبوعة: "من سبع وتسع"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر الأثر رقم: 9204. (2) في المطبوعة: "سليمان التميمي"، خطأ، صوابه من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 9209 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. 9210 - حدثنا أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا عبد الله بن سعدان، عن أبي الوليد قال: سألت ابن عباس عن الكبائر، قال: كل شيء عُصيِ الله فيه فهو كبيرة. (1) * * * وقال آخرون: هي ثلاث. *ذكر من قال ذلك: 9211 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود قال: الكبائر ثلاث: اليأسُ من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. (2) * * * وقال آخرون: كل موجِبة، وكل ما أوعد الله أهلَه عليه النار، فكبيرة. *ذكر من قال ذلك: 9212 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه"، قال:"الكبائر"، كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعْنة، أو عذاب. 9213 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا   (1) الأثر: 9210 -"عبد الله بن سعدان" لم أعرفه ولم أجده = و"أبو الوليد"، كذلك لم أجده. وأخشى أن يكون فيهما تحريف أو سقط. وأما في ابن كثير 2: 425، فقد كتب"عبد الله بن معدان"، ولم أجده أيضًا. (2) الأثر: 9211 - انظر الآثار السالفة عن ابن مسعود من 9190 - 9200. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 هشام بن حسان، عن محمد بن واسع قال، قال سعيد بن جبير: كل موجبة في القرآن كبيرة. 9214 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن محمد بن مِهْزَم الشعاب، عن محمد بن واسع الأزدي، عن سعيد بن جبير قال: كل ذنب نسبه الله إلى النار، فهو من الكبائر. (1) 9215 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سالم: أنه سمع الحسن يقول: كل موجبة في القرآن كبيرة. 9216 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه"، قال: الموجبات. 9217 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9218 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك قال: الكبائر: كل موجبة أوجبَ الله لأهلها النار. وكل عمل يقام به الحدُّ، فهو من الكبائر. * * * قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك، ما ثبتَ به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ما:- 9219 - حدثنا به أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،   (1) الأثر: 9214 -"محمد بن مهزم الشعاب"، ويقال"الرمام" لأنه كان يرم القصاع ويشعبها. وثقه ابن معين وابن حبان، وقال أبو حاتم: "ليس به بأس". مترجم في الكبير 1 / 1 / 230، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 102، وتعجيل المنفعة: 379. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "مهرم" وأما "مهزم" (بكسر الميم وسكون الهاء وفتح الزاي) فقال المعلق على التاريخ الكبير: "هكذا شكله في (قط) ، وهكذا ضبط عبد الغني في المؤتلف: 421، وغيره. وشكله في (كو) كمعلم". وهذا الأثر أخرجه البخاري في ترجمته في التاريخ الكبير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 حدثنا شعبة قال، حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال: سمعت أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر = أو: سئل عن الكبائر = فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوقُ الوالدين. فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور = أو قال: شهادة الزور = قال شعبة: وأكبر ظني أنه قال: شهادة الزور. (1) 9220 - حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة قال، أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر قال:"الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتلُ النفس، وقول الزور. 9221 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن كثير قال، حدثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس قال: ذكروا الكبائرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس. ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قولُ الزور. 9222 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،   (1) الحديث: 9219 - عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك: تابعي ثقة. يروي عن جده، ويروي أيضًا عن أبيه عن جده. و"عبيد الله" - بالتصغير. ووقع في ابن كثير في نقل هذا الحديث"عبد الله"؛ وهو خطأ صرف. والحديث رواه أحمد في المسند: 12363 (3: 131 حلبي) عن محمد بن جعفر، بهذا الإسناد. ورواه البخاري 10: 345-346 (فتح) . ومسلم 1: 37- كلاهما من طريق محمد بن جعفر، به. ورواه البخاري أيضًا 5: 192 (فتح) ، من طريق وهب بن جرير، وعبد الملك بن إبراهيم، كلاهما عن شعبة، به. وذكره ابن كثير 2: 418، عن رواية المسند. ثم نسبه للصحيحين. وذكره السيوطي 2: 146-147، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم. وسيأتي عقبة، بإسنادين - بنحوه - من طريق شعبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين = أو: قتلُ النفس، شعبة الشاكّ = واليمينُ الغَمُوس. 9223 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا شيبان، عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما الكبائر؟ قال: الشرك بالله. قال: ثم مَهْ؟ = قال: وعقوق الوالدين. قال: ثم مَهْ؟ قال: واليمين الغَموس = قلت للشعبي: ما اليمين الغَمُوس؟ قال: الذي يقتطع مالَ امرئ مسلم بيمينه وهو فيها كاذب. (1) 9224 - حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي السري محمد بن المتوكل العسقلاني قال، حدثنا يحيى بن سعد، عن خالد بن معدان، عن أبي رُهْم، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أقام الصلاة،   (1) الحديثان: 9222، 9223 - هما إسنادان لحديث واحد، بمعناه. و"فراس" - بكسر الفاء وتخفيف الراء: هو ابن يحيى الهمداني الخارفي. وهو ثقة، أخرج له الجماعة. عبيد الله بن موسى، في الإسناد الثاني: هو العبسي الحافظ. مضت ترجمته: 2092. ووقع في المطبوعة"عبد الله" بالتكبير، وهو خطأ. وشيخه"شيبان": هو النحوي أبو معاوية، وهو ابن عبد الرحمن. مضت ترجمته: 2340. والحديث رواه أحمد في المسند: 6884، عن محمد بن جعفر، عن شعبة - كالإسناد الأول هنا. ورواه البخاري 12: 170 (فتح) ، عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، به. ورواه أيضًا 11: 482-483، من طريق النضر بن شميل، عن شعبة. والرواية الثانية هنا - رواية عبيد الله بن موسى - أشار إليها الحافظ في الفتح 11: 483 من رواية ابن حبان في صحيحه. والحديث رواه أيضًا الترمذي 4: 87-88، والنسائي 2: 165، 254، وأبو نعيم في الحلية 7: 202. وذكره ابن كثير 2: 419، من رواية المسند. ونسبه للبخاري، والترمذي، والنسائي. وذكره السيوطي 1: 147، ونسبه لهؤلاء، ولأحمد، والطبري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 وأتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر، فله الجنة. قيل: وما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار يوم الزحف. (1) 9225 - حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن ابن أبي جعفر، عن ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن سلمان الأغر، عن أبيه أبي عبد الله سلمان الأغر قال، قال أبو أيوب   (1) الحديث: 9224 - ابن أبي السرى، محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن، الحافظ العسقلاني: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مات سنة 238. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 105، وتذكرة الحفاظ 2: 53-54. يحيى بن سعيد: هو العطار الأنصاري الحمصي، مضت ترجمته في: 5753. وكان في المطبوعة بدله"محمد بن سعد"، وهو تحريف على اليقين. وما أثبتنا هو الذي في المخطوطة، على أن كلمة"يحيى" فيها غير واضحة تمامًا. وكان من المحتمل هنا أن يكون الاسم"بحير بن سعد"، لأنه روى هذا الحديث - كما سيأتي. ولكني لم أجد ذكرًا لبحير بن سعد في شيوخ ابن أبي السرى، الذين حصرهم الحفاظ المزي في تهذيب الكمال، كعادته. ولكنه ذكر في شيوخه"يحيى بن سعيد العطار". خالد بن معدان الكلاعي: مضى في: 2070. أبو رهم - بضم الراء وسكون الهاء - أحزاب بن أسيد السمعي: تابعي قديم ثقة. وذكره بعضهم في الصحابة. والراجح الأول. والحديث رواه أحمد في المسند 5: 413 (حلبي) ، عن المقرئ، عن حيوة بن شريح: "حدثنا بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان ... " - فذكره. ثم رواه 5: 413-414، عن زكريا بن عدي، أخبرنا بقية، عن بحير، عن خالد بن معدان ... ". وبقية: هو ابن الوليد. وهو ثقة، وتكلم فيه من تكلم بأنه يدلس، ولكنه صرح بالتحديث في الإسناد الأول عند أحمد. فزالت شبهة التدليس. و"بحير بن سعد الحمصي": ثقة. وثقه أحمد، وابن سعد، وغيرهما. و"بحير": بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة وآخره راء. وأبوه"سعد": بفتح السين وسكون العين. وقد ثبت على الصواب في تهذيب الكمال للمزي (مخطوط مصور) ، والكبير للبخاري 1 / 2 / 137-138، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 412، والمشتبه للذهبي، والمسند، وغير ذلك. ورسم في تهذيب التهذيب والتقريب والخلاصة"سعيد". وهو خطأ لا شك فيه. والحديث نقله ابن كثير 2: 417-418، عن الرواية الثانية للمسند. ووقع فيه"يحيى بن سعيد" بدل"بحير بن سعد"! وهو خطأ ناسخ أو طابع، ثم نسبه أيضًا للنسائي. وذكره السيوطي 2: 146، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن حبان، والحاكم"وصححه". وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر، من وجه آخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 خالد بن أيوب الأنصاري عقبيٌّ بدريٌّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يعبد الله لا يشرك به شيئًا، ويقيم الصلاةَ، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر، إلا دخل الجنة. فسألوه: ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، والفرار من الزحف، وقتل النفس. (1) 9226- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عباد بن عباد، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة: أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ، فقالوا: الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرارٌ من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغُلول، والسحر، وأكل الربا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين تجعلون: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) ؟ إلى آخر الآية، [سورة آل عمران: 77] . (2)   (1) الحديث: 9225 - وهذا إسناد آخر من وجه آخر للحديث السابق. عباس بن أبي طالب: مضت ترجمته في: 880. سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري: مضت ترجمته في: 3959. وقد رجحنا توثيقه هناك. ووقع في المطبوعة (والمخطوطة) "سعد بن عبد الحميد عن جعفر"! وهو خطأ. وضعت كلمة"عن" بدل"بن". وقوله"عن ابن أبي جعفر": هكذا ثبت هنا، فإن يكن صوابًا يكن"عبد الله بن أبي جعفر الرازي"، الماضية ترجمته في: 7030. ولكني أرجح أنه مزيد في الإسناد تخليطًا من الناسخين. فإن"سعد بن عبد الحميد" معروف بالرواية عن ابن أبي الزناد. وابن أبي الزناد: هو"عبد الرحمن بن أبي الزناد". مضت ترجمته في: 1694. "عبد الله بن سلمان الأغر": هكذا ثبت هنا"عبد الله" بالتكبير. وهو ثقة يروي عن أبيه. ولكني أرجح أن يكون صوابه"عبيد الله" بالتصغير. فإنهم لم يذكروا رواية لموسى بن عقبة عن"عبد الله". وإنما عرف بالرواية عن أخيه"عبيد الله". و"عبيد الله بن سلمان الأغر": ثقة معروف، يروي عنه مالك، وموسى بن عقبة، وغيرهما. أبوه"سلمان الأغر، أبو عبد الله المدني": تابعي ثقة معروف، أخرج له الجماعة. والحديث سبق تخريجه. أما من هذا الوجه - من رواية سلمان الأغر عن أبي أيوب -: فلم أجده في غير هذا الموضع. (2) الحديث: 9226 - هذا إسناد ضعيف منهار. جعفر بن الزبير الدمشقي: ضعيف جدًا. روى عن القاسم عن أبي أمامة نسخة موضوعة، كما بينا فيما مضى: 1939. والحديث نقله ابن كثير 2: 423 عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 2: 147، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكر أنه"بسند حسن"! وهو في هذا مخطئ. فما هو إلا إسناد ضعيف لا تقوم له قائمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 9227 - حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا سفيان، عن أبي معاوية، عن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: ما الكبائر؟ قال: أن تدعو لله نِدًّا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن مأكلٍ معك، أو تزني بحليلة جارك. وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [سورة الفرقان: 68] . (1) 9228 - حدثني هذا الحديث عبد الله بن محمد الزهري فقال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو معاوية النخعي = وكان على السجن = سمعه من أبي عمرو، عن عبد الله بن مسعود: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أيّ العمل شر؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أن يأكل معك، أو تزني بجارتك. وقرأ علي: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في تأويل"الكبائر" بالصحة، ما صحَّ به الخبر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون ما قاله غيره، وإن كان كل   (1) الحديث: 9227 - عبيد الله بن محمد الفريابي - شيخ الطبري - مضت ترجمته في رقم: 17، وسيأتي، ص: 254، س: 3، أن الطبري يرى أنه غلط في هذا الحديث. يريد غلطًا في المعنى! ولكنا لا نوافقه على ذلك. فمعنى هذا الحديث والذي بعده واحد. وإنما هو اختلاف في اللفظ. "سفيان": هو ابن عيينة. وانظر الإسناد التالي لهذا. (2) الحديث: 9228 - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري - شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 163. أبو معاوية النخعي - في هذا الإسناد والذي قبله: هو عمرو بن عبد الله بن وهب. وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب، وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 243-244. أبو عمر الشيباني: هو سعد بن إياس، التابعي الكبير. مضت ترجمته في: 5524. والحديث سيأتي في الطبري، عند تفسير الآية: 71 من سورة الفرقان (19: 26 بولاق) ، عن عبد الله بن محمد الفريابي، عن سفيان، بهذا الإسناد، ثم رواه هناك بأسانيد أخر. ورواه أحمد في المسند، من رواية أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - مرارًا بأسانيد: 3612، 4102، 4131 - 4134، 4411، 4423. وكذلك رواه البخاري مرارًا، منها 8: 124، 12: 101-103، و 13: 413 (فتح) . وكذلك رواه مسلم 1: 36-37. وفي بعض الروايات عندهم زيادة"عمرو بن شرحبيل" في الإسناد، بين أبي وائل وابن مسعود والظاهر عندي أن أبا وائل سمعه من ابن مسعود، ومن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود، فحدث به على الوجهين. ويكون من المزيد في متصل الأسانيد. وفصل الحافظ القول في ذلك في 12: 101-103. وذكره ابن كثير 6: 194-195، من إحدى روايات المسند، وإحدى روايات الطبري الآتية. وذكره السيوطي 5: 77، وزاد نسبته للفريابي، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 قائل فيها قولا من الذين ذكرنا أقوالهم، قد اجتهد وبالغ في نفسه، ولقوله في الصحة مذهبٌ. فالكبائر إذن: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرّم قتلها، وقول الزور = وقد يدخل في"قول الزور"، شهادة الزور = وقذف المحصنة، واليمين الغموسُ، والسحر = ويدخل في قتل النفس المحرَّم قتلها، قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه = والفرارُ من الزحف، والزنا بحليلة الجار. وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ كل خبر رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الكبائر، وكان بعضه مصدِّقًا بعضًا. وذلك أن الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"هي سبع" يكون معنى قوله حينئذ:"هي سبع" على التفصيل = ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال:"هي الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور" على الإجمال، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 إذ كان قوله:"وقول الزور" يحتمل معاني شتى، وأن يجمعَ جميعَ ذلك"قول الزور". وأما خبر ابن مسعود الذي حدثني به الفريابي على ما ذكرت، فإنه عندي غلط من عبيد الله بن محمد، لأن الأخبار المتظاهرة من الأوجه الصحاح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، (1) بنحو الرواية التي رواها الزهري عن ابن عيينة. ولم يقل أحد منهم في حديثه عن ابن مسعود،"أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن الكبائر"، فنقلهم ما نقلوا من ذلك عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أولى بالصحة من نقل الفريابي. * * * قال أبو جعفر: فمن اجتنب الكبائر التي وعد الله مجتنبَها تكفيرَ ما عداها من سيئاته، وإدخاله مُدخلا كريمًا، وأدَّى فرائضه التي فرضها الله عليه، وجد الله لما وعده من وعدٍ منجزًا، وعلى الوفاء له ثابتًا. (2) * * * وأما قوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، فإنه يعني به: نكفر عنكم، أيها المؤمنون، باجتنابكم كبائر ما ينهاكم عنه ربكم، صغائر سيئاتكم (3) = يعني: صغائر ذنوبكم، كما:- 9229 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"نكفر عنكم سيئاتكم"، الصغائر. (4) 9230 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن: أن ناسًا لقوا عبد الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب   (1) في المطبوعة: "من الأوجه الصحيحة"، ولا أدري لم غير ما كان في المخطوطة!! (2) في المطبوعة: "وعلى الوفاء به دائبا" حرف ما في المخطوطة وكان فيها"وعلى الوفاء له دائبا" غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها إن شاء الله. (3) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف: 7: 482، 490 = وتفسير"السيئات" فيما سلف 2: 281-283 / 7: 482، 490. (4) الأثر: 9229 - في المطبوعة والمخطوطة"محمد بن الحسن"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه: 9133. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 الله، أمرَ أن يُعمل بها، لا يُعمل بها، (1) فأردنا أن نلقَى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف ردّ عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ ناسًا لقوني بمصر فقالوا:"إنا نرى أشياءَ من كتاب الله تبارك وتعالى، أمر أن يعمل بها ولا يعمل بها"، فأحبُّوا أن يلقوك في ذلك. فقال: اجمعهم لي. قال: فجمعتهم له = قال ابن عون: أظنه قال: في بَهْوٍ (2) = فأخذ أدناهم رجلا فقال: أنشدكم بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم. قال، فهل أحصيته في نفسك؟ (3) قال، اللهم لا! = قال: ولو قال:"نعم" لخصَمَه (4) = قال: فهل أحصيته في بصرك؟ هل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ (5) قال: ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلتْ عمر أمُّه! أتكلِّفونه أن يقيمَ الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات. قال: وتلا"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا". هل علم أهل المدينة = أو قال هل علم أحدٌ = بما قَدِمتم؟ قالوا، لا! قال: لو علموا لوعَظْت بكم. (6) 9231 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا زياد بن مخراق، عن معاوية بن قرة قال: أتينا أنس بن مالك، فكان فيما حدثنا قال: لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال! (7) ثم سكت هنيهة، ثم قال: والله لقد كلفنا ربنا أهون من ذلك! لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر! فما لنا ولها؟ ثم تلا"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية. (8) 9232- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية، إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنبَ الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:" اجتنبوا الكبائر، وسدّدوا، وأبشروا". 9233 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن ابن مسعود قال: في خمس آيات من"سورة النساء": لَهُنَّ أحب إليَّ من الدنيا جميعًا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [سورة النساء: 40] ، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ   (1) في المخطوطة: "أمر أن يعمل بها لا نعمل بها" بالنون في الثانية، وما في المطبوعة وابن كثير هو الصواب، لأنه جاءوا في شكاة عاملهم في مصر، كما هو ظاهر من آخر الأثر. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "في نهر"، والصواب من تفسير ابن كثير. و"البهو": البيت المقدم أمام البيوت. وكل هواء أو فجوة، فهو عند العرب"بهو". (3) "أحصى الشيء": أحاط به وحفظه، يعني: هل استوفيتم القيام بكل أمر به في ذلك وحفظتموه وضبطتم العمل به، ومنه قوله تعالى: "عَلَم أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ" أي: أن تطيقوا القيام به. (4) "خاصمت الرجل فخصمته": أي غلبته بالحجة. (5) "الأثر": ما تتركه في الأرض من ثقل خطاك عليها، وأراد به هنا: السعي في الأرض. كالذي في قوله تعالى: "ونكتب ما قدموا وآثارهم"، أي خطاهم حيث سعوا في الأرض. (6) الأثر: 9230- خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 423، 424، والسيوطي في الدر المنثور 2: 145، وقال ابن كثير: "إسناد صحيح ومتن حسن، وإن كانت رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاع، إلا أن مثل هذا اشتهر، فتكفي شهرته". وقال السيوطي: "أخرج ابن جرير بسند حسن". وقوله: "لوعظت بكم"، أي: لأنزلت بكم من العقوبة، ما يكون عظة لغيركم من الناس. وذلك أنهم جاءوا في شكاة عاملهم على مصر، وتشددوا ولم ييسروا، وأرادوا أن يسير في الناس بما لا يطيقون هم في أنفسهم من الإحاطة بكل أعمال الإسلام، وما أمرهم الله به. وذلك من الفتن الكبيرة. ولم يريدوا ظاهر الإسلام وأحكامه، وإنما أرادوا بعض ما أدب الله به خلقه. وعمر أجل من أن يتهاون في أحكام الإسلام. وإنما قلت هذا وشرحته، مخافة أن يحتج به محتج من ذوي السلطان والجبروت، في إباحة ترك أحكام الله غير معمول بها، كما هو أمر الطغاة والجبابرة من الحاكمين في زماننا هذا. (7) ليس في المخطوطة"ثم"، وتركتها لأنها في الدر المنثور، وتفسير ابن كثير. (8) الأثر: 9231- ابن كثير 2: 425، والدر المنثور، 2: 145، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء: 48، 116] ، وقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [سورة النساء: 110] ، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [سورة النساء: 152] . (1) 9234 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو النضر، عن صالح المرّي، عن قتادة، عن ابن عباس قال: ثمانِ آيات نزلت في"سورة النساء"، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، أولاهن: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة النساء: 26] ، والثانية: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا) [سورة النساء: 27] ، والثالثة: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) [سورة النساء: 28] ، = ثم ذكر مثل قول ابن مسعود سواء، وزاد فيه: ثم أقبل يفسرها في آخر الآية: وكان الله للذين عملوا الذنوب غفورًا رحيمًا. (2) وأما قوله:"وندخلكم مدخلا كريمًا"، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض الكوفيين: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا)   (1) الأثر: 9233 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 145، ونسبه أيضًا لأبي عبيد القاسم بن سلام، وسعيد بن منصور في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب. (2) الأثر: 9234 -"أبو النضر"، كأنه: "إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الدمشقي الفراديسي"، من شيوخ البخاري وأبي زرعة، أدركه ولم يكتب عنه، ولد سنة 141، وتوفي سنة 227، ثقة. مترجم في التهذيب، وقد مضى في رقم: 8788. "وصالح المري"، هو: صالح بن بشير بن وداع المري"، القاص. روى عن الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وغيرهم. كان رجلا صالحًا، ولكنه يروي أحاديث مناكير تنكرها الأئمة عليه. وهو متروك الحديث. مات سنة 172، أو سنة 176، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 274. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 بفتح"الميم"، وكذلك الذي في"الحج": (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ) [سورة الحج: 59] ، فمعنى:"وندخلكم مَدخلا"، فيدخلون دُخُولا كريمًا. وقد يحتمل على مذهب من قرأ هذه القراءة، أن يكون المعنى في"المدخل": المكان والموضع. لأن العرب رُبما فتحت"الميم" من ذلك بهذا المعنى، كما قال الراجز: (1) بِمَصْبَح الْحَمْدِ وَحَيْثُ نُمْسٍي (2) وقد أنشدني بعضهم سماعًا من العرب: (3) الْحَمْدُ لِلِه مَمْسَانَا ومَصْبَحَنَا ... بِالْخَيْرِ صَبَّحَنَا رَبِّي وَمَسَّانَا (4) وأنشدني آخر غيره: الْحَمْدُ لِلِه مُمْسَانا وَمُصْبَحَنَا لأنه من"أصبح""وأمسى". وكذلك تفعل العرب فيما كان من الفعل بناؤه على أربعة، تضم ميمه في مثل هذا فتقول:"دحرجته أدحرجه مُدحرجًا، فهو مُدحرَج". (5) ثم تحمل ما جاء على"أفعل يُفعل" على ذلك. (6) لأن"يُفعِل"، من"يُدْخِل"، وإن كان على أربعة، فإن أصله أن يكون على"يؤفعل"،"يؤدخل" و"يؤخرج"، فهو نظير"يدحرج". (7) * * *   (1) لم أعرف قائله. (2) معاني القرآن للفراء 1: 264، اللسان (صبح) . (3) هو أمية بن أبي الصلت. (4) ديوانه: 62، معاني القرآن للفراء 1: 264، الخزانة 1: 120، اللسان (مسى) ، وهو فاتحة هذه القصيدة. (5) في المخطوطة: "دحرجته فهو مدحرج"، وبينهما بياض بقدر كلمات، فزاد في المطبوعة: "مدحرجًا"، وزدت"أدحرجه"، لأن السياق فيما يلي يقتضي ذكرها. (6) في المطبوعة: "فعل يفعل"، والصواب من المخطوطة. (7) انظر معاني القرآن للفراء 1: 293، 294. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين:"مُدْخَلا" بضم"الميم"، يعني: وندخلكم إدخالا كريمًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) بضم"الميم"، لما وصفنا، من أن ما كان من الفعل بناؤه على أربعة في"فَعَل"، (1) فالمصدر منه"مُفْعَل". وأن"أدخل" و"دحرج""فَعَل" منه على أربعة. (2) ف"المُدخل" مصدره أولى من"مَفعل"، مع أن ذلك أفصح في كلام العرب في مصادر ما جاء على"أفعل"، كما يقال:"أقام بمكان فطاب له المُقام"، إذ أريد به الإقامة = و"قام في موضعه فهو في مَقام واسع"، كما قال جل ثناؤه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) [سورة الدخان: 51] ، من"قام يقوم". ولو أريد به"الإقامة" لقرئ:"إن المتقين في مُقام أمين" كما قرئ: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) [سورة الإسراء: 80] ، بمعنى"الإدخال" و"الإخراج". ولم يبلغنا عن أحد أنه قرأ:"مَدخل صدق"، ولا"مَخْرج صدق" بفتح"الميم". * * * وأما"المدخل الكريم"، فهو: الطيب الحسن، المكرَّم بنفي الآفات والعاهات عنه، وبارتفاع الهموم والأحزان ودخول الكدر في عيش من دَخله، فلذلك سماه الله كريمًا، كما:- 9235 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،   (1) يعني بقوله: "فعل" هنا في الموضعين، الفعل الماضي، ولا يعني الوزن الصرفي. (2) يعني بقوله: "فعل" هنا، الفعل الماضي، ولا يعني الوزن الصرفي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 حدثنا أسباط، عن السدي:"وندخلكم مدخلا كريمًا"، قال:"الكريم"، هو الحسن في الجنة. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تشتهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. (2) * * * وذكر أن ذلك نزل في نساءٍ تمنين منازلَ الرجال، وأن يكون لهم ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد والبغي بغير الحق. (3) * * *   (1) الأثر: 9235- في المطبوعة: "محمد بن الحسن"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 9229. (2) انظر تفسير"التمني" فيما سلف 2: 366. (3) ولكن هذا باب من القول والتشهي، قد لج فيه أهل هذا الزمان، وخلطوا في فهمه خلطًا لا خلاص منه إلا بصدق النية، وبالفهم الصحيح لطبيعة هذا البشر، وبالفصل بين ما هو أمان باطلة لا أصل لها من ضرورة، وبالخروج من ربقة التقليد للأمم الغالبة، وبالتحرر من أسر الاجتماع الفاسد الذي يضطرب بالأمم اليوم اضطرابًا شديدًا. ولكن أهل ملتنا، هداهم الله وأصلح شئونهم، قد انساقوا في طريق الضلالة، وخلطوا بين ما هو إصلاح لما فسد من أمورهم بالهمة والعقل والحكمة، وبين ما هو إفساد في صورة إصلاح. وقد غلا القوم وكثرت داعيتهم من ذوي الأحقاد، الذين قاموا على صحافة زمانهم، حتى تبلبلت الألسنة، ومرجت العقول، وانزلق كثير من الناس مع هؤلاء الدعاة، حتى صرنا نجد من أهل العلم، ممن ينتسب إلى الدين، من يقول في ذلك مقالة يبرأ منها كل ذي دين. وفرق بين أن تحيي أمة رجالا ونساء حياة صحيحة سليمة من الآفات والعاهات والجهالات، وبين أن تسقط الأمة كل حاجز بين الرجال والنساء، ويصبح الأمر كله أمر أمان باطلة، تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق، كما قال أبو جعفر لله دره، ولله بلاؤه. فاللهم اهدنا سواء السبيل، في زمان خانت الألسنة فيه عقولها! وليحذر الذين يخالفون عن أمر الله، وعن قضائه فيهم، أن تصيبهم قارعة تذهب بما بقي من آثارهم في هذه الأرض، كما ذهبت بالذين من قبلهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 ذكر الأخبار بما ذكرنا: 9236 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل، قال حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نعطَي الميراث، ولا نغزو في سبيل الله فنُقتل؟ فنزلت:"ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض". (1) 9237 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله: تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت:"ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتَسَبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن"، ونزلت: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) [سورة الأحزاب: 35] . 9238 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تتمنَّوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، يقول: لا يتمنى الرجل يقول:"ليت أنّ لي مالَ فلان وأهلَه"! فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله. 9239 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، قال: قول النساء:"ليتنا رجالا فنغزو ونبلُغ ما يبلغ الرجال"! (2)   (1) الحديث: 9236 - سفيان في هذا الإسناد: يجوز أن يكون الثوري، وأن يكون ابن عيينة. فمؤمل يروي عنهما، وكلاهما روى هذا الحديث: الثوري في الرواية عقب هذه: 9237، وابن عيينة في الرواية: 9241. وسيأتي تخريج الحديث في: 9241. (2) في المطبوعة: "ليتنا رجال" بالرفع، وهو الوجه السائر، أما المخطوطة، فقد كتب"رجالا"، وضبطها بالقلم ضبطًا، ولذلك أثبتها كما هي في المخطوطة، و"ليت" تنصب الاسم وترفع الخبر، وبعض النحويين ينصب الاسمين جميعًا، وأنشدوا: يا لَيْتَ أَيَامَ الصَّبَا رَوَاجِعَا وحكى بعض النحويين: أن بعض العرب يستعمل"ليت"، بمنزلة"وجدت"، فيعديها إلى مفعولين، ويجريها مجرى الأفعال، فيقول: "ليت زيدًا شاخصًا". فرواية الخبر بالنصب، صواب كما ترى، لا معنى لتغييره. ولا يحمل هذا على الخطأ من الناسخ، فالظاهر أن أبا جعفر أتى بالخبر التالي وفيه: "ليتنا رجال"، لينبه على هذه الرواية بالنصب. وانظر ص 264، تعليق: 1. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 9240 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، قولُ النساء يتمنين:"ليتنا رجال فنغزو"! ثم ذكر مثل حديث محمد بن عمرو. 9241 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: أيْ رسول الله، أتغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصفُ الميراث؟ فنزلت:"ولا تتمنوا ما فضل الله". (1)   (1) الحديث: 9241- هو في تفسير عبد الرزاق، ص: 41 (مخطوط مصور) ، بهذا الإسناد. وقد سبق بإسنادين آخرين: 9236، 9237. ورواه أحمد في المسند 6: 322 (حلبي) ، عن سفيان، وهو ابن عيينة، بهذا الإسناد. ورواه الترمذي 4: 88، عن ابن أبي عمر، عن سفيان. وفيه: "عن مجاهد، عن أم سلمة: أنها قالت: يغزو الرجال ... "، إلخ. ورواه الحاكم 2: 305-306، من طريق قبيصة بن عقبة، عن سفيان - وهو الثوري - عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "عن أم سلمة: أنها قالت ... ". ورواه الواحدي في أسباب النزول، ص 110، من طريق قتيبة، عن ابن عيينة - كرواية عبد الرازق هنا، وأحمد في المسند. فاختلفت صيغة الرواية عن مجاهد. ففي بعضها: "عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة". وفي بعضها: "عن مجاهد عن أم سلمة: أنها قالت". فالصيغة الأولى ظاهرها الإرسال، لأن معناها أن مجاهدًا يحكي من قبل نفسه ما قالته أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مرسلا، لأنه لم يدرك ذلك. والصيغة الثانية ظاهرها الاتصال، لأن معناها أن مجاهدًا يذكر هذا رواية عن أم سلمة. ثم يختلفون أيضًا في وصله دون حجة. فقد قال الترمذي - بعد روايته"عن مجاهد عن أم سلمة"-: "هذا حديث مرسل. ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، مرسلا: أن أم سلمة قالت كذا وكذا". وقال الحالكم - بعد روايته"عن مجاهد عن أم سلمة"-: "هذا حديث على شرط الشيخين، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة". ووافقه الذهبي على تصحيحه، وأعرض عن تعليله فلم يشر إليه. وعندي - بما أرى من السياق والقرائن - أن الروايتين بمعنى واحد، وإنما هو اختلا، في اللفظ من تصرف الرواة. وكلها بمعنى"مجاهد عن أم سلمة". فقد ثبت اللفظان من رواية ابن عيينة. وكذا قد ثبتا في رواية الثوري، هنا في: 9237، وفي رواية الحاكم. وقد نقل ابن كثير 2: 428، عن ابن أبي حاتم أنه قال: "وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله". وأما حكم الترمذي في روايته من طريق ابن عيينة -بأنه حديث مرسل، فإنه جزم بلا دليل. ومجاهد أدرك أم سلمة يقينًا وعاصرها، فإنه ولد سنة 21، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60 على اليقين. والمعاصرة - من الراوي الثقة - تحمل على الاتصال، إلا أن يكون الراوي مدلسًا. ولم يزعم أحد أن مجاهدًا مدلس، إلا كلمة قالها القطب الحلبي في شرح البخاري، حكاها عنه الحافظ في التهذيب 10: 44، ثم عقب عليها بقوله: "ولم أر من نسبه إلى التدليس". وقال الحافظ أيضًا في الفتح 6: 194، ردًا على من زعم أن مجاهدًا لم يسمع من عبد الله بن عمرو -: "لكن سماع مجاهد بن عبد الله من عمرو ثابت، وليس بمدلس". فثبت عندنا اتصال الحديث وصحته. والحمد لله. والحديث ذكره ابن كثير 2: 428، من رواية المسند، ثم أشار إلى روايات الترمذي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن جرير، والحاكم. وذكره السيوطي 2: 149، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 9242 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن شيخ من أهل مكة قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، قال: كان النساء يقلن:"ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال، ونغزو في سبيل الله"! فقال الله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض". 9243 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: تتمنى مالَ فلان ومال فلان! وما يدريك؟ لعل هلاكَه في ذلك المال! 9244 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد: أنهما قالا نزلت في أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة. (1)   (1) الأثر: 9244 - ابن كثير 2: 429، والدر المنثور 2: 149، ولم ينسبه لغير ابن جرير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 9245 - وبه قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء قال: هو الإنسان، يقول:"وددت أن لي مال فلان"! قال:"واسألوا الله من فضله"، وقول النساء:"ليت أنا رجالا فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال"! (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يتمنَّ بعضكم ما خصّ الله بعضًا من منازل الفضل. *ذكر من قال ذلك: 9246 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، فإن الرجال قالوا:"نريد أن يكون لنا من الأجر الضعفُ على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان، فنريد أن يكون لنا في الأجر أجران". وقالت النساء:"نريد أن يكون لنا أجرٌ مثل أجر الرجال، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا"! فأنزل الله تعالى الآية، وقال لهم: سلوا الله من فضله، يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم. 9247 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: نُهيتم عن الأمانيّ، ودُللتم على ما هو خير منه:"واسألوا الله من فضله". 9248 - حدثني المثنى قال، حدثنا عارم قال، حدثنا حماد بن زيد،   (1) في المطبوعة: "ليتنا رجال فنغزو"، على الوجه السائر، ولكني أثبت ما في المخطوطة، ولم أغيره، وهو صواب عند النحاة، فإنهم يقولون: إن من بعض لغات العرب أن تنصب"أن" الاسم والخبر جميعًا، قال بذلك أبو عبيد القاسم بن سلام والفراء وابن السيد وابن الطراوة. واستشهدوا بقول الشاعر إذَا الْتَفَّ جِنْحُ اللَّيْلِ، فَلْتَأْتِ، وَلْتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافًا إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا وانظر التعليق السالف ص: 261، تعليق: 2. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 عن أيوب قال: كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا قال: قد نهاكم الله عن هذا:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، ودلكم على خير منه:"واسألوا الله من فضله". قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل: ولا تتمنوا، أيها الرجال والنساء، الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سَلُوا الله من فضله. * * * القول في تأويل قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا، من الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية ="وللنساء نصيب" من ذلك مثل ذلك. *ذكر من قال ذلك: 9249 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن"، كان أهل الجاهلية لا يورَّثون المرأة شيئًا ولا الصبيَّ شيئًا، وإنما يجعلون الميراث لمن يَحْترف وينفع ويدفع. (1) فلما نَجَزَ للمرأة نصيبها وللصبيّ نصيبه، (2) وجَعل للذكر مثل حظّ الأنثيين، قال النساء:"لو   (1) احترف لعياله، وحرف لعياله: سعى لهم في الكسب وطلب الرزق. (2) في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2: 149"لحق"، واللام في المخطوطة مائلة. فرأيت أن"لحق" هنا لا معنى لها، ولم أجدها من قبل في كلام معناه كمعنى هذا الكلام، واجتهدت قراءتها، ورجحت أنها"نجز". يقال: "نجز حاجته": إذا قضاها وعجلها، كأنه قال: فلما عجل للمرأة نصيبها وقضاه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 كان جعل أنصباءَنا في الميراث كأنصباء الرجال"! وقال الرجال:"إنا لنرجو أن نفضَّل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضلنا عليهن في الميراث"! فأنزل الله:"للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، يقول: المرأة تُجزى بحسنتها عشر أمثالها، كما يُجْزى الرجل، قال الله تعالى:"واسألوا الله من فضله". 9250 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثني أبو ليلى قال، سمعت أبا حريز يقول: لما نزل:"للذكر مثل حظ الأنثيين"، قالت النساء: كذلك عليهم نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث! فأنزل الله:"للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، يعني الذنوب ="واسألوا الله"، يا معشر النساء ="من فضله". (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم، وللنساء نصيب منهم. *ذكر من قال ذلك: 9251 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"للرجال نصيب مما   (1) الأثر: 9250 -"عبد الرحمن بن أبي حماد" انظر ما سلف عنه برقم: 3109، 4077، 6691، 8431، ورواية المثنى عنه. و"أبو ليلى" هو: "عبد الله بن ميسرة الكوفي"، ويكنى"أبا إسحاق"، وقد سلفت ترجمته برقم: 6920. و"أبو حريز" هو: "عبد الله بن الحسين الأزدي" قاضي سجستان. قال ابن حبان في الثقات: "صدوق"، وقال ابن أبي عدي: "عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد". وقال سعيد بن أبي مريم: "كان صاحب قياس، وليس في الحديث شيء". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "أبو جرير"، وهو خطأ، والمخطوطة غير منقوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، يعني: ما ترك الوالدان والأقربون: يقول: للذكر مثل حظّ الأنثيين. 9252 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أبي إسحاق، عن عكرمة أو غيره في قوله:"للرجال نصيب مما أكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، قال: في الميراث، كانوا لا يورِّثون النساء. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: معناه: للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا فعملوه من خير أو شر، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال. وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال:"تأويله: للرجال نصيب من الميراث، وللنساء نصيب منه"، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبًا مما اكتسب. وليس الميراث مما اكتسبه الوارث، وإنما هو مال أورثه الله عن ميّته بغير اكتساب، وإنما"الكسب" العمل، و"المكتسب": المحترف. (1) فغير جائز أن يكون معنى الآية = وقد قال الله:"للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن": للرجال نصيبٌ مما ورِثوا، وللنساء نصيب مما ورثن. لأن ذلك لو كان كذلك لقيل:"للرجال نصيب مما لم يكتسبوا، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن"!! * * *   (1) انظر تفسير"الكسب" و"الاكتساب" فيما سلف 2: 273، 274 / 3: 100، 101، 128، 129 / 4: 449 / 6: 131، 295 / 7: 327، 364. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 القول في تأويل قوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته. ففضله في هذا الموضع: توفيقه ومعونته كما:- (1) 9253 - حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال، حدثنا أبو جعفر النفيلي قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن اشعث، عن سعيد:"واسألوا الله من فضله"، قال: العبادة، ليست من أمر الدنيا. 9254 - حدثنا محمد بن مسلم قال، حدثني أبو جعفر قال، حدثنا موسى، عن ليث قال:"فضله"، العبادة، ليسَ من أمر الدنيا. (2) 9255 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هشام، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"واسألوا الله من فضله"، قال: ليس بعرض الدنيا. 9256 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأسألوا الله من فضله"، يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم. 9257 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل لم يسمه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله، فإنه يحب أن يسأل، وإنّ من أفضل العبادة انتظار الفَرَج. (3) * * *   (1) انظر تفسير: "الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6: 516 / 7: 299، 414. (2) الأثران: 9253، 9254-"محمد بن مسلم الرازي"، هو المعروف بابن واره، واسمه"محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله"، الحافظ، كان أحد المتقنين الأمناء، قالوا: كان ابن مسلم شيئًا عجبًا. وكان أبو زرعة الرازي لا يقوم لأحد، ولا يجلس أحدًا في مكانه إلا ابن واره. وكان ابن واره فيه بأو شديد وعجب. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 79، وتاريخ بغداد 3: 256. و"أبو جعفر النفيلي"، هو: "عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل القضاعي"، روى له الأئمة. كان حافظًا، وكان الإمام أحمد إذا رآه يعظمه. مترجم في التهذيب. (3) الأثر: 9257 -"حكيم بن جبير الأسدي"، تكلموا فيه، قال أحمد: "ضعيف الحديث مضطرب"، وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، منكر الحديث، له رأي غير محمود، نسأل الله السلامة، غال في التشيع". وهذا الأثر رواه الترمذي في كتاب الدعوات: 514 من طريق: بشر بن معاذ العقدي، عن حماد بن واقد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، ثم قال الترمذي: "هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث، وحماد بن واقد ليس بالحافظ. وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 430، ونقل ما قاله الترمذي: "وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وإن أحب عباد الله إلى الله الذي يحب الفرج". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الله كان بما يصلح عباده - فيما قسم لهم من خير، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم ="عليما"، يقول: ذا علم. فلا تتمنوا (1) غير الذي قضى لكم، ولكن عليكم بطاعته، والتسليم لأمره، والرضى بقضائه، ومسألته من فضله. * * * القول في تأويل قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} يعني جل ثناؤه بقوله:"ولكلّ جعلنا موالي"، ولكلكم، أيها الناس ="جعلنا موالي"، يقول: ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم. * * * والعرب تسمي ابن العم"المولى"، ومنه قول الشاعر: (2)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "ولا تتمنوا"، والجيد ما أثبت. (2) لم أعرف قائله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 وَمَوْلًى رَمَيْنَا حَوْلَهُ وَهُوَ مُدْغِلٌ ... بِأَعْرَاضِنَا وَالْمُنْدِيَاتِ سَرُوعُ (1) يعني بذلك: وابن عم رمينا حوله، ومنه قول الفضل بن العباس: مَهْلا بَنِي عَمِّنَا مَهْلا مَوَالِينَا ... لا تُظْهِرُنَّ لَنَا مَا كانَ مَدْفُونَا (2) وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9258 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثنا إدريس قال، حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: ورثة. 9259 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان"، قال: الموالي، العصبة، يعني = الورثة. 9260 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: الموالي، العصبة.   (1) لم أجد البيت في مكان، وهو في المخطوطة. بأعواضنا والممديات سروع و"رجل مدغل": ذو خب مفسد بين الناس. و"المنديات"، المخزيات، وأنا بعد ذلك في شك شديد من"بأعراضنا" و"سروع"، فتركت البيت على حاله حتى أجده، أو ألتمس له وجهًا صحيحًا. وقوله: "رمينا حوله"، أي ناضلنا عنه، ودافعنا ورامينا من حوله من يراميه. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 125، والكامل 2: 279 والمؤتلف والمختلف، ومعجم الشعراء: 35، 310، والحماسة 1: 121، والصداقة والصديق: 139، واللسان (ولى) وغيرها. وراويتهم. لا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كانَ مَدْفُونَا وهي أجود الروايتين وأحقهما بمعنى الشعر، وفي اللسان رواية أخرى لا تقوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 9261 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: هم الأولياء. 9262 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولكل جعلنا موالي"، يقول: عصبة. 9263 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: الموالي: أولياء الأب، أو الأخ، (1) أو ابن الأخ، أو غيرهما من العصبة. 9264 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكل جعلنا موالي"، أما"موالي"، فهم أهل الميراث. 9265 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: الموالي: العصبة. هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسمًا، فقال الله تبارك وتعالى: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) [سورة الأحزاب: 5] ، فسموا:"الموالي"، قال: و"المولى" اليوم موليان: مَوْلى يرث ويورث، فهؤلاء ذوو الأرحام - وموَّلى يورَث ولا يرِث، فهؤلاء العَتَاقة. (2) وقال: ألا ترون قول زكريا: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) [سورة مريم: 5] ؟ فالموالي ههنا الورثة. * * * ويعني بقوله:"مما ترك الوالدان والأقربون"، مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث. * * *   (1) في المطبوعة: "الأب الأخ" بإسقاط "أو"، والصواب من المخطوطة. (2) يقال: "هو مولى عتاقة"، هو الذي أعتق من الرق، و"العتاقة" (بفتح العين) مصدر مثل"العتق" (بكسر فسكون) و"عتاق" (بفتح العين) . وقوله: "فهؤلاء العتاقة"، يعني: فهؤلاء موالي العتاقة، فإن لا يكن قد سقط من الناسخ"موالي"، فهو مصدر وصف به، بمعنى فهؤلاء المعتقون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ولكلكم، أيها الناس، جعلنا عَصبة يرثون به مما ترك والده وأقرباؤه من ميراثهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (1) قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) ، بمعنى: والذين عقدت أيمانكم الحلفَ بينكم وبينهم. وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين. * * * وقرأ ذلك آخرون: (والذين عاقدت أيمانكم) ، بمعنى: والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم الحلفَ بينكم وبينهم. * * * قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك: إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة أمصار المسلمين بمعنى واحد. * * * وفي دلالة قوله:"أيمانكم" على أنها أيمان العاقدين والمعقود عليهم الحلف، مستغنىَّ عن الدلالة على ذلك بقراءة قوله:"عقدت"،"عاقدت". وذلك أن الذين قرأوا ذلك:"عاقدت"، قالوا: لا يكون عَقْد الحلف إلا من فريقين، ولا بد لنا من دلالة في الكلام على أن ذلك كذلك. وأغفلوا موضعَ دلالة قوله:"أيمانكم"، على أن معنى ذلك أيمانكم وأيمانُ المعقود عليهم، وأن العقد إنما هو صفة للأيمان دون   (1) لم يذكر في المخطوطة والمطبوعة: "فآتوهم نصيبهم" في هذا الموضع، ولا فيما بعده، فأثبتها في مكانها، لأنه فسرها بعد في هذا الموضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 العاقدين الحلف، حتى زعم بعضهم أن ذلك إذا قرئ:"عقدت أيمانكم"، فالكلام محتاج إلى ضمير صفة تقَى الكلام، (1) حتى يكون الكلام معناه: والذين عقدت لهم أيمانكم = ذهابًا منه عن الوجه الذي قلنا في ذلك، من أن الأيمان معنيٌّ بها أيمان الفريقين. * * * وأما"عاقدت أيمانكم"، فإنه في تأويل: عاقدت أيمانُ هؤلاء أيمانَ هؤلاء، الحلفَ. فهما متقاربان في المعنى، وإن كانت قراءة من قرأ ذلك:"عقدت أيمانكم" بغير"ألف"، أصح معنى من قراءة من قرأه:"عاقدت"، للذي ذكرنا من الدلالة المُغنية في صفة الأيمان بالعقد، (2) على أنها أيمان الفريقين = من الدلالة على ذلك بغيره. (3) * * * وأما معنى قوله:"عقدت أيمانكم"، فإنه: وَصَلت وشَدّت وَوكَّدت =   (1) في المطبوعة: "إلى ضمير صلة في الكلام"، وهو خلط لا معنى له. وأثبت ما في المخطوطة، وقوله: "ضمير"، أي: إضمار، وقد سلف مثل ذلك 1: 427، تعليق: 1 / 2: 107، تعليق: 1. وأما قوله: "صفة" فقد سلف مرارًا أن"الصفة" هي حرف الجر، و"حروف الصفات"، هي حروف الجر (انظر 6: 329، تعليق: 6، والمراجع هناك) ، والمعنى: إضمار حرف جر. وأما قوله: "تقى الكلام" فهذا لفظ غم على معناه، وهو في المخطوطة كما أثبته، ولعله أراد أن حرف الجر المتعلق بقوله: "عقدت" يقي الجملة من فساد المعنى. ولعل ذلك من قديم عبارتهم، وإن كنت لا أحققه، وفوق كل ذي علم عليم. (2) في المطبوعة: "من الدلالة على المعنى - في صفة الأيمان بالعقد" وهو باطل المعنى، وفي المخطوطة: "من الدلالة على المعنية في صفة الأيمان بالعقد"، والذي لا شك فيه زيادة"على" في هذه العبارة، وأن قراءتها"المغنية". وانظر التعليق التالي. (3) تداخلت مراجع حروف الجر في هذه الجملة، وأحببت أن ألين سياقها، فهو يقول: "للذي ذكرنا من الدلالة المغنية في صفة الأيمان بالعقد ... من الدلالة على ذلك بغيره"، فقوله: "من الدلالة" متعلق بقوله: "المغنية"، يعني أن صفة الأيمان بالعقد، دلالة على أنها أيمان الفريقين، وأن هذه الدلالة مغنية من الدلالة على ذلك المعنى بدلالة غيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 "أيمانكم"، يعني: مواثيقكم التي واثق بعضهم بعضًا (1) ="فآتوهم نصيبهم". * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى"النصيب" الذي أمر الله أهل الحلف أن يؤتي بعضهم بعضًا في الإسلام. (2) فقال بعضهم: هو نصيبه من الميراث، لأنهم في الجاهلية كانوا يتوارثون، فأوجب الله في الإسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف، وبمثله في الإسلام، من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية. ثم نسخ ذلك بما فرض من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات. *ذكر من قال ذلك: 9266 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري في قوله:"والذين عاقدتْ أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا"، (3) قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسبٌ، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ الله ذلك في"الأنفال" فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الأنفال: 75] . (4) 9267 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قول الله:"والذين عاقدت أيمانكم"،   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "واثق بعضهم بعضًا"، والسياق يقتضي أن تكون: "بعضكم"، كما أثبتها. (2) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف 4: 206 / 6: 288. (3) ستأتي القراءة مرة"عاقدت" ومرة"عقدت" في الآثار التالية، فتركتها كما هي في المخطوطة والمطبوعة، فإن اختلفتا، أثبت ما في المخطوطة، دون إشارة إلى ذلك من فعلي. (4) أثبت تمام الآية في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 قال: كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر رضي الله عنه مولىً فورثه. 9268 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، فكان الرجل يعاقد الرجل: أيُّهما مات ورثه الآخر. فأنزل الله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) [سورة الأحزاب: 6] ، يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصيةً، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت. وذلك هو المعروف. 9269 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا"، كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول:"دمي دمُك، وهَدَمي هَدَمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك". (1) فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميرات ميراثهم. فنسخ ذلك بعد في"سورة الأنفال" فقال الله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: 6] . 9270 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) قولهم: "دمي دمك"، أي: إن قتلني إنسان طلبت بدمي كما تطلب دم وليك وأخيك. و"الهدم" (بسكون الدال وتحريكها) ، فإذا سكنت الدال، فمعناه: من هدم لي عزًا وشرفًا فقد هدمه منك، أو: من أهدر دمي فقد أهدر دمك = أو: ما عفوت أنا عنه من الدم، فعليك أن تعفو عنه. وأما "الهدم" (بفتح الدال) : فأصله: الشيء الذي انهدم، وهو قريب المعنى من الأول، ويقال: هو القبر، أي: أقبر حيث تقبر. يريدون: لا تفارقني ولا أفارقك في الحياة والممات. وقولهم: "تطلب بي وأطلب بك"، أي: تطلب الثأر بي، إذا أصابني مكروه، وأفعل ذلك بك. و"الباء" هنا بمعنى: السبب، أي بسببي ومن جراء ما أصابني. وهذه الكلمات كلها توثيق في العهد، وعقد لازم يوجب على الرجلين أن يتعاونا في الخير والشر، لا يفارق أحدهما صاحبه في المحنة والبلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 معمر، عن قتادة:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول:"دمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك". (1) فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس، فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث، وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) . 9271 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة يقول، في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجلَ في الجاهلية فيقول:"هدمي هدمك ودمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك"، (2) فجعل له السدس من جميع المال، ثم يقتسم أهل الميراث ميراثهم. فنسخ ذلك بعد في"الأنفال" فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) ، فصارت المواريث لذوي الأرحام. 9272 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة قال: هذا حِلْفٌ كان في الجاهلية، كان الرجل يقول للرجل:"ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتَعْقِل عني وأعقل عنك". (3) 9273 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، (4) سمعت الضحاك يقول في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم"، كان الرجل يتبع الرجل فيعاقده:"إن مِتُّ، فلك مثل ما يرث بعض ولدي"! وهذا منسوخ.   (1) انظر التعليق السالف. (2) انظر التعليق السالف. (3) "العقل" (بفتح فسكون) : الدية."عقل القتيل عقلا": أدى ديته. و"عقل عنه": أدى جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه. (4) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ كثر في هذه المطبوعة، نبهت عليه مرارًا، والصواب من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير، وسأصححه منذ اليوم ثم لا أشير إليه ثانية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 9274 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، فإن الرجل في الجاهلية قد كان يلحق به الرجل فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأهله وأقاربه الميراث، وبقي تابعه ليس له شيء، فأنزل الله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، فكان يعطى من ميراثه، فأنزل الله بعد ذلك: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) . * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فكان بعضهم يرث بعضًا بتلك المؤاخاة، ثم نسخ الله ذلك بالفرائض، وبقوله:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون". *ذكر من قال ذلك: 9275 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثنا إدريس بن يزيد قال، حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، قال: كان المهاجرون حين قَدِموا المدينة، يرث المهاجريٌّ الأنصاريَّ دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. فلما نزلت هذه الآية:"ولكل جعلنا موالي"، نسخت. (1)   (1) الأثر: 9275 - أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 186) مطولا، وفرقه الطبري، فروى بعضه هنا، وروى سائره برقم: 9277، قال الحافظ ابن حجر: "إدريس، هو ابن يزيد الأودي (بفتح الألف وسكون الواو) والد عبد الله بن إدريس الفقيه الكوفي، ثقة عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. ووقع في رواية الطبري عن أبي كريب، عن أبي أسامة: حدثنا إدريس بن يزيد"، وقد وقع في رواية البخاري نقص، سقط منه"فآتوهم نصيبهم" مع أن قوله: "من النصر" متعلق بقوله: "فآتوهم نصيبهم" لا بقوله: "عاقدت"، وهو وجه الكلام، واستدركه الحافظ في الفتح من رواية الطبري هذه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 9276 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم"، الذين عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ="فآتوهم نصيبهم"، إذا لم يأت رحمٌ تحول بينهم. قال: وهو لا يكون اليوم، إنما كان في نفر آخىَ بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطع ذلك. ولا يكون هذا لأحدٍ إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، كان آخى بين المهاجرين والأنصار، واليوم لا يؤاخَى بين أحد. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في أهل العقد بالحلف، ولكنهم أمروا أن يؤتي بعضهم بعضًا أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك، دون الميراث. *ذكر من قال ذلك: 9277 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثنا إدريس الأودي قال، حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم" من النصر والنصيحة والرِّفادة، ويوصي لهم، وقد ذهبَ الميراث. (1) 9278 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"والذين عقدت أيمانكم". قال: كان حلفٌ في الجاهلية، (2) فأمرُوا في الإسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والمشورة   (1) الأثر: 9277 - هو تمام الأثر السالف رقم: 9275، وقد سلف التعليق عليه. وقد كان في المخطوطة: "وقد الميراث" بينهما بياض، أتمته المطبوعة على الصواب من رواية البخاري. وفي البخاري زيادة: "وقد ذهب الميراث، ويوصى له". و"الرفادة" (بكسر الراء) : الإعانة بالعطية والصلة، ومنه"الرفادة" التي كانت قريش تترافد بها في الجاهلية، يخرج كل إنسان مالا بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالا عظيما أيام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام الحج. وكانت الرفادة والسقاية لبني هاشم. (2) "كان" هنا تامة، لا اسم لها ولا خبر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 والنصرة، (1) ولا ميراث. 9279 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم" من العوْن والنصر والحِلف. 9280 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد في قوله الله:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: كان هذا حلفًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام، أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والولاء والمشورة، ولا ميراث. 9281 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، قال ابن جريج:"والذين عاقدت أيمانكم"، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: هو الحلف:"عقدت أيمانكم". قال:"فآتوهم نصيبهم"، قال: النصر. 9282 - حدثني زكريا بن يحيى قال، حدثنا حجاج، قال، ابن جريج، أخبرني عطاء قال: هو الحلف. قال:"فآتوهم نصيبهم"، قال: العقل والنصر. 9283 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: لهم نصيبهم من النصر والرِّفادة والعقل. (2)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "من العقل والنصرة والمشورة"، ولكن المخطوطة وضعت حرف"م" على كل من"النصرة والمشورة" بمعنى تقديم الثاني على الأول. ففعلت ذلك. و"العقل": الدية، كما سلف شرحها قريبًا ص: 276، تعليق: 2. (2) الأثر: 9283 - في المطبوعة: "محمد بن محمد بن عمرو"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة، ومع ذلك فهو إسناد كثير الدوران في التفسير، أقربه: 9239. وانظر تفسير"العقل"، و"الرفادة" فيما سلف قريبًا من التعليقات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 9284 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 9285 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: هم الحلفاء. 9286- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عباد بن العوام، عن خصيف، عن عكرمة مثله. 9287 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، أما"عقدت أيمانكم"، فالحلفُ، كالرجل في الجاهلية ينزل في القوم فيحالفونه على أنه منهم، يواسونه بأنفسهم، (1) فإذا كان لهم حق أو قتال كان مثلهم، وإذا كان له حق أو نصرة خذلوه. فلما جاء الإسلام سألوا عنه، وأبى اللهُ إلا أن يشدّده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم يزد الإسلام الحُلفاء إلا شدة". * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون أبناءَ غيرهم في الجاهلية، فأمروا في الإسلام أنْ يوصوا لهم عند الموت وصيةً. (2) *ذكر من قال ذلك: 9288 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيَّب: أن الله قال:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، قال سعيد بن المسيب: إنما نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنَّون   (1) "آساه بنفسه وواساه بنفسه"، جعله"أسوة له". أي: مثلا له. ومنها"المواساة"، وهي المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق. (2) في المطبوعة: "فأمروا بالإسلام" وهي سقيمة، صوابها من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 رجالا غير أبنائهم ويورِّثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبًا في الوصية، وردّ الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة، (1) وأبى الله للمدَّعَيْن ميراثًا ممن ادّعاهم وتبنّاهم، ولكنّ الله جعل لهم نصيبًا في الوصية. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"والذين عقدت أيمانكم"، قولُ من قال:"والذين عقدت أيمانكم على المحالفة، وهم الحلفاء". وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها، أنّ عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق، على نحو ما قد ذكرنا من الرواية في ذلك. فإذ كان الله جل ثناؤه إنما وصف الذين عقدت أيمانهم ما عقدوه بها بينهم، دون من لم تعقد عقدًا بينهم أيمانهم (2) = وكانت مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين من آخى بينه وبينه من المهاجرين والأنصار، لم تكن بينهم بأيمانهم، وكذلك التبني = (3) كان معلومًا أن الصواب من القول في ذلك قولُ من قال:"هو الحلف"، دون غيره، لما وصفناه من العلة. * * * وأما قوله:"فآتوهم نصيبهم"، فإن أولى التأويلين به، ما عليه الجميع مجمعون من حكمه الثابت، وذلك إيتاءُ أهل الحلف الذي كان في الجاهلية دون الإسلام، بعضِهم بعضًا أنصباءَهم من النصرة والنصيحة والرأي، دون الميراث. وذلك لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية، فلم يزدْهُ الإسلام إلا شدة". 9289 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شريك، عن   (1) في المطبوعة: "في ذوي الرحم"، وهي صواب، والذي أثبته من المخطوطة صواب أيضًا. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "دون من لم يعقد عقد ما بينهم أيمانهم"، وصواب قراءتها ما أثبت. ثم قوله بعد: "وكانت مؤاخاة النبي ... " معطوف على قوله: "فإذ كان الله ... ". (3) قوله: "كان معلومًا"، جواب قوله: "فإذ كان الله ... " وما عطف عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) 9290 - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل بن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة. وما يسرني أنّ لي حُمَر النعم، وأنى نقضتُ الحلف الذي كان في دار الندوة. (2) 9291 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم الضبيّ: أن قيس بن عاصم سألَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف فقال: لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية.   (1) الحديث: 9289 - إسناده صحيح. ورواه أحمد في المسند: 2911، 3046، من طريق شريك، بهذا الإسناد مختصرًا، ليس فيه قوله"لا حلف في الإسلام". وهذه الزيادة ثابتة فيه في رواية أبي يعلى. فقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 173. كاملا وقال: "رواه أبو يعلى، وأحمد باختصار. ورجالهما رجال الصحيح". وذكره ابن كثير 2: 431-432، عن هذا الموضع من الطبري. وذكره السيوطي 2: 151، مختصرًا كرواية المسند. وقصر في تخريجه جدًا، إذ لم ينسبه لغير عبد بن حميد. (2) الحديث: 9290 - وهذا إسناد آخر، من وجه آخر - لحديث ابن عباس، بلفظ أطول من الذي قبله. وهو إسناد صحيح. محمد بن عبد الرحمن بن عبيد، مولى آل طلحة: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 1 / 1 / 146، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 318. والزيادة التي هنا -"وما يسرني أن لي حمر النعم"- ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد، حديثًا مستقلا، 8: 172، وقال: "رواه الطبراني. وفيه مرزوق بن المرزبان، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح". وليس إسناد الطبراني أمامي، حتى أستطيع أن أقول فيه. ولكن إسناد الطبري هنا خلا من ذاك الرجل، فصح الحديث من هذا الوجه. وذكره ابن كثير 2: 432، عن هذا الموضع، ولم يزد. "حمر النعم" انظر تفسيرها فيما سلف رقم: 9185. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 9292 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، قال فقال: ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام. (1) 9293 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جُدْعان، عن جدّته، عن أمّ سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة". (2)   (1) الحديثان: 9291، 9292 - مغيرة: هو ابن مقسم الضبي، مضى في: 3349. أبوه: "مقسم الضبي": مترجم في التعجيل، ص: 409 ترجمة موجزة، وأنه ذكره ابن حبان في الثقات. وهو تابعي، روى عن النعمان بن بشير. وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 33. وابن أبي حاتم 4 / 1 / 414-415. ولم يذاكرا فيه جرحًا. شعبة بن التوأم الضبي، ويقال"التميمي": تابعي ثقة. مترجم في التعجيل، ص: 177-178، والإصابة 3: 230، والكبير 2 / 2 / 244، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 368. والحديث رواه الطيالسي: 1084، عن جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، أي بأول الإسنادين هنا. ورواه أحمد في المسند 5: 61 (حلبي) عن هشيم، عن مغيرة. أي بثانيهما. ونقله ابن كثير 2: 432، عن ثانيهما. ثم أشار إلى رواية أحمد. ثم نقله ثانيًا، ص 433، من رواية المسند. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 172. وقال: "رواه أحمد". ثم لم يزد! وأشار إليه ابن أبي حاتم في ترجمة"شعبة بن التوأم"، فقال: "روى عن قيس بن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا حلف في الإسلام". (2) الحديث: 9293 - داود بن أبي عبد الله، مولى بني هاشم: ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، كما في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 417، فلم يذكر فيه جرحًا. ابن جدعان: المشهور بذلك عند أهل هذا الشأن، هو"علي بن زيد بن جدعان". وقد روى الترمذي 4: 25، بهذا الإسناد: "أبو كريب ... " - حديث"المستشار مؤتمن". فظن الحافظ ابن عساكر - في كتاب الأطراف - أنه هو"علي بن زيد". وتعقبه الحافظ المزي في تهذيب الكمال، ص: 817-818 (مخطوط مصور) ، فقال: "وذلك وهم منه. والصواب: جده عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان" - يعني لقوله في الإسناد: "عن ابن جدعان، عن جدته". وفي تهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب، في ترجمة داود، وفي ترجمة"عبد الرحمن" (3: 191، و6: 267 من تهذيب التهذيب) أن البخاري روى في الأدب المفرد حديث"المستشار مؤتمن" - من طريق داود"عن عبد الرحمن بن محمد" هذا. وأن ذاك هو الدليل على أن المراد ب"ابن جدعان" هو"عبد الرحمن بن محمد". والذي رأيته في الأدب المفرد (ص: 29) بهذا الإسناد حديث مطول، ولكن ليس فيه كلمة"المستشار مؤتمن". فالظاهر أنهما يريدان أصل الحديث. ولكن رواية البخاري هي التي كشفت عن الصواب في اسم"ابن جدعان". وجدة ابن جدعان - هذه - مجهولة، لم يعرف اسمها. وعندي أن جهالتها لا تضر. فالغالب - فيما أرى - أنها صحابية. لأن عبد الرحمن بن محمد تابعي، روى عن عائشة، وعن ابن عمر. فجدته يكلد العارف أن يوقن أنها صحابية، أو مخضرمة على الأقل. والنساء في تلك العصور لم يعرفن باصطناع الروايات. ولذلك قال الذهبي في الميزان (3: 395) : "فصل في النسوة المجهولات. وما علمت في النساء من اتهمت، ولا من تركوها". وقوله هنا"عن جدته" - في المطبوعة"عمن حدثه"! وهو تحريف. وفي مطبوعة ابن كثير 2: 432- حين نقل هذا الحديث عن الطبري -"عن ابن جدعان، حدثه"! وهو تحريف أيضًا. وصوابه، كما أثبتنا"عن جدته". وقد ثبت على الصواب في مخطوطة الأزهر من تفسير ابن كثير (2: 273 نسخة مصورة عندي) . والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 173. وقال: "رواه أبو يعلى، والطبراني. وفيه جدة ابن أبي مليكة، ولم أعرفها. وبقية رجاله ثقات". و"جدة ابن أبي مليكة": هي"جدة ابن جدعان"، لأن ابن جدعان - هنا -: هو"عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان". فهو ابن أخي"علي بن زيد بن جدعان"، وقد نسبوا إلى جدهم الأعلى. إذ"علي بن زيد": هو"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان". وإنما الذي اشتهر عند المحدثين باسم"ابن أبي مليكة" - فهو"عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة زهير ... ". وهو ابن عم"علي بن زيد". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 9294 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا حسين المعلم = وحدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا حسين المعلم = وحدثنا حاتم بن بكر الضبيّ قال، حدثنا عبد الأعلى، عن حسين المعلم = قال، حدثنا أبي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: فُوا بحلفٍ، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تُحدثوا حلفًا في الإسلام". (1)   (1) الحديث: 9294 - حاتم بن بكر الضبي - شيخ الطبري: هكذا ثبت هنا اسم أبيه"بكر". وقد مضى في: 3222 بالتصغير"بكير". وبينا هناك أنه ثبت في التقريب والتهذيب"بكر"، وفي الخلاصة"بكير". وها هو ذا الاختلاف وقع في موضعين من الطبري. ثم رجعت إلى النسخة المخطوطة المصورة من تهذيب الكمال، ص: 214، فظهر أن ناسخها أسقط كلمة"بكر" فأثبته"حاتم بن غيلان"، ممنسوبًا إلى جده. وهو سهو من الناسخ يقينًا، لأنه أثبته قبل ترجمة"حاتم بن حريث". ولو كان أصله"حاتم بن غيلان" لأخره إلى موضعه في حرف الغين في آباء من اسمه"حاتم"، فيكون موضعه بعد"حاتم بن العلاء". فبقي الإشكال في اسم أبيه كما هو؟ وهذا الحديث رواه الطبري هنا، مختصرًا، بثلاثة أسانيد: عن"حميد بن مسعدة، عن حسين المعلم". ثم عن"مجاهد بن موسى، عن يزيد بن هارون، عن حسين المعلم". ثم عن"حاتم بن بكر الضبي، عن عبد الأعلى، عن حسين المعلم". ثم يقول حسين المعلم"حدثنا أبي، عن عمرو بن شعيب". وفي هذه الأسانيد إشكالان: أولهما: أن"حميد بن مسعدة" مات سنة 244، فمن المحال أن يروى عن"حسين المعلم"، ويقول -كما هنا -"حدثنا حسين المعلم". لأن حسينًا مات سنة 145، فبين وفاتيهما 99 سنة!! والراجح عندي أن يكون الناسخون أسقطوا شيخًا بين حميد وحسين. وثانيهما: أن"حسينًا المعلم": هو"حسين بن ذكوان". وهو يروي عن عمرو بن شعيب مباشرة. ولو كان هذا وحده لكان هناك احتمال أن يروي عنه أيضًا بواسطة أبيه. ولكن الإشكال في أن"ذكوان" والد"حسين المعلم" ليس له ذكر في دوواين الرجال بشيء من الرواية، ولا ذكر أحد أن ابنه يروي عنه. فأنا أرجح أيضًا أن يكون قوله هنا"حدثنا أبي" زيادة خطأ من الناسخين. ويؤيد أن زيادة"حدثنا أبي" تخليط من الناسخين - أن ابن كثير حين أشار إلى هذا الإسناد 2: 432، قال: "ثم رواه - يعني الطبري - من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، به". فذكر أن حسينًا رواه عن عمرو بن شعيب. ولم يذكر أنه"عن حسين عن أبيه". وأما الحديث نفسه، فإنه سيأتي معناه، من رواية محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب: 9297، 9298، ومن رواية عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو: 9299. ويأتي تخريجه هناك، إن شاء الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 9295 - حدثنا أبو كريب وعبدة بن عبد الله الصفار قالا حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة قال، حدثني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: لا حلف في الإسلام، وأيُّما حِلف كان في الجاهلية، فلم يزده الإسلام إلا شدة. (1)   (1) الحديث: 9295 - زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي: ثقة معروف، من شيوخ شعبة والثوري. أخرج له الجماعة. سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قاضي المدينة: ثقة كثير الحديث، وهو ثبت لا شك فيه. أخرج له الجماعة. أبوه"إبراهيم بن عبد الرحمن": تابعي ثقة، من كبار التابعين. مترجم في التهذيب. والكبير 1 / 1 / 295، وابن سعد 5: 39-40، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 111. "جبير بن مطعم": صحابي معروف، من قريش، من بني نوفل. قدم المدينة في فداء أسارى بدر. ثم أسلم بعد ذلك. والحديث رواه أحمد في المسند: 16832ج4 ص83 حلبي، من طريق زكريا، وهو ابن أبي زائدة - بهذا الإسناد. وكذلك رواه مسلم 2: 270، والبيهقي 6: 262- كلاهما من طريق زكريا. وذكره ابن كثير 2: 432-433، من رواية المسند. ثم أشار إلى أنه رواه مسلم، وأبو داود، وابن جرير، والنسائي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 9296 - حدثنا حميد بن مسعدة ومحمد بن عبد الأعلى قالا حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق = وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق = عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شهدت حلف المطيِّبين. وأنا غلام مع عُمومتي، فما أحبّ أن لي حٌمرَ النعم وأني أنْكُثُه = زاد يعقوب في حديثه عن ابن علية. قال: وقال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يُصب الإسلام حلفًا إلا زاده شدة. قال: ولا حلفَ في الإسلام. قال: وقد ألَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قُريش والأنصار. (1)   (1) الحديث: 9296 - بشر بن المفضل بن لاحق البصري: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني. أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 2 / 84، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 366. وهذا الحديث رواه الطبري بإسنادين من طريق عبد الرحمن بن إسحاق. وهو: "عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله العامري". وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له مسلم. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 1 / 52، وابن سعد 5: 151-152، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 218. والحديث رواه أحمد: 1655، عن بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق - بهذا الإسناد. ثم روى له أوله: 1676، عن إسماعيل، وهو ابن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق. وكذلك روى البخاري أوله، في الأدب المفرد، ص: 83، من طريق ابن علية. ووقع فيه هناك خطأ مطبعي، يصحح من هذا الموضع. وهذا الحديث في حقيقته حديثان: أولهما: حديث متصل، من حديث عبد الرحمن بن عوف. وثانيهما: حديث مرسل. وهو قول الزهري: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " - إلى آخره. وقد فصلنا القول في ذلك في المسند: 1655. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 9297 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامَ الفتح، قام خطيبًا في الناس فقال:"يا أيها الناس، ما كان من حِلف في الجاهلية فإنّ الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا حلف في الإسلام". 9298 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. 9299 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا سليمان بن بلال قال، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (1) * * *   (1) الأحاديث: 9297-9299، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. وقد مضى بنحوه: 9294. يزيد - في الإسناد الأول: هو يزيد بن هارون. عبد الرحمن - في الإسناد الثالث: هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة. والحديث رواه أحمد في المسند - ضمن حديث مطول: 6692، عن يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق. وأشرنا إلى كثير من أسانيده هناك، وفي الاستدراك: 2832. ورواه البخاري في الأدب المفرد، ص: 83-84، مختصرًا كما هنا، عن خالد بن مخلد، بالإسناد الأخير هنا. وذكره ابن كثير 2: 432، عن الرواية: 9298 هنا. ثم أشار إلى الروايتين: 9294، 9299. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 قال أبو جعفر: فإذ كان ما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا = وكانت الآية إذا اختُلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ، (1) غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ - مع اختلاف المختلفين فيه، ولوجُوب حكمها وَنفي النسخ عنه وجه صحيحٌ - (2) إلا بحجة يجب التسليم لها، لما قد بينَّا في غير موضع من كتبنا الدلالةَ على صحةِ القول بذلك (3) = (4) فالواجب أن يكون الصحيح من القول في تأويل قوله:"والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، هو ما ذكرنا من التأويل، وهو أن قوله:"عقدت أيمانكم" من الحلف، وقوله:"فآتوهم نصيبهم" من النصرة والمعونة والنصيحة والرأي، على ما أمرَ به من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي ذكرناها عنه = (5) دون قول من قال:"معنى قوله: فآتوهم نصيبهم، من الميراث"، وان ذلك كان حكما ثم نُسخ بقوله:"وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"، ودونَ ما سِوَى القول الذي قلناه في تأويل ذلك. (6) وإذْ صَحّ ما قلنا في ذلك، وجب أن تكون الآية محكمة لا منسوخةً. (7) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "منسوخ هي"، خطأ، صوابه ما أثبت. (2) سياق العبارة: "غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ ... إلا بحجة يجب التسليم لها"، والذي بينهما قيد اعترض به بين طرفي الكلام. (3) انظر مقالته في: "الناسخ والمنسوخ" فيما سلف: 131، والتعليق 1، والمراجع هناك. (4) قوله: "فالواجب ... "، جواب قوله آنفًا: "فإذ كان ما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًصا". (5) السياق: "فالواجب أن يكون الصحيح من القول ... هو ما ذكرنا من التأويل ... دون قول من قال". (6) في المطبوعة والمخطوطة: "دون ما سوى القول" بلا واو عاطفة، والصواب إثبات"واو العطف"، عطفًا على قوله آنفًا: "دون قول من قال". (7) أشكل على ابن كثير هذا الموضع من كلام الطبري فرواه عنه ثم قال: "وفيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف وكما قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك. فكيف يقول: إن هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله أعلم". وهذا الذي تعجب منه ابن كثير، قد بينه الطبري، وأقام عليه كل مذهبه، في كل ناسخ ومنسوخ، وقد كرره مرات كثيرة في تفسيره، وقد أعاده هنا عند ذكر الناسخ والمنسوخ فقال: إن الآية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ، واختلف المختلفون في حكمها، وكان لنفي النسخ عنها وإثبات أنها محكمة وجه صحيح، لم يجز لأحد أن يقضي بأن حكمها منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها. وقد بين أبو جعفر مرارًا أن الحجة التي يجب التسليم لها هي: ظاهر القرآن، والخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما تأويل ابن عباس أو غيره من الأئمة، فليس حجة في إثبات النسخ في آية، لتأويلها على أنها محكمة وجه صحيح. فالعجب لابن كثير، حين عجب من أبي جعفر في تأويله وبيانه. ولو أنصف لنقض حجة الطبري في مقالته من الناسخ والمنسوخ، لا أن يحتج عليه ويتعجب منه، لحجة هي منقوضة عند الطبري، قد أفاض في نقضها مرارًا في كتابه هذا، وفي غيرها من كتبه كما قال، رحم الله أبا جعفر، وغفر الله لابن كثير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 القول في تأويل قوله: {إٍنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرأي، فإن الله شاهد على ما تفعلون من ذلك، وعلى غيره من أفعالكم، مُرَاعٍ لكل ذلك، حافظٌ، حتى يجازي جميعَكم على جميع ذلك جزاءه، أما المحسنَ منكم المتبع أمري وطاعتي فبالحسنى، وأما المسيءَ منكم المخالفَ أمري ونهيي فبالسوأى. ومعنى قوله:"شَهيدا"، ذو شهادة على ذلك. (1) * * *   (1) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف 1: 376-378 / 3: 97. 145 / 6: 60، 75 / 7: 243 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 القول في تأويل قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "الرجال قوّامون على النساء"، الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم ="بما فضّل الله بعضهم على بعض"، يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن. * * * وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9300 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"الرجال قوّامون على النساء"، يعني: أمرَاء، عليها أن تطيعه فيما أمرَها الله به من طاعته، وطاعته: أن تكون محسنةً إلى أهله، حافظةً لماله. وفضَّله عليها بنفقته وسعيه. 9301 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض"، يقول: الرجل قائمٌ على المرأة، يأمرها بطاعة الله، فَإن أبت فله أن يضربها ضربًا غير مبرِّح، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه. 9302 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 أسباط، عن السدي:"الرجال قوامون على النساء"، قال: يأخذون على أيديهن ويُؤدّبونهن. (1) 9303 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"بما فضل الله بعضهم على بعض"، قال: بتفضيل الله الرجال على النساء. * * * وذُكر أنّ هذه الآية نزلت في رجل لطم امرأته، فخوصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقضَى لها بالقصاص. ذكر الخبر بذلك: 9304 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا الحسن: أنّ رجلا لطمَ امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقِصّها منه، فأنزل الله:"الرجالُ قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه، وقال: أردتُ أمرًا وأراد الله غيرَه. 9305 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، ذكر لنا أن رجلا لطم امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه. 9306 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الرّجال قوّامون على النساء"، قال: صك رجل امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقِيدَها منه، فأنزل الله:"الرجال قوامون على النساء".   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ويؤدبوهن"، وهو سهو من الناسخ، وفي هامش المخطوطة حرف"ط" دلالة على الخطأ، أو كأنه كان هكذا في الأصل الذي نقله عنه، خطأ أيضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 9307 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن جرير بن حازم، عن الحسن: أنّ رجلا من الأنصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزلت: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [سورة طه: 114] ، ونزلت:"الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضَهم على بعض". (1) 9308 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لطم رجلٌ امرأته، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم القصاص. فبيناهم كذلك، نزلت الآية. 9309 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الرجال قوامون على النساء"، فإن رجلا من الأنصار كان بينه وبين امرأته كلامٌ فلطمها، فانطلق أهلها، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم:"الرجال قوامون على النساء" الآية. * * * وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس. 9310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، سمعت الزهري يقول: لو أن رجلا شَجَّ امرأته أو جَرحها، لم يكن عليه في ذلك قَوَدٌ، وكان عليه العَقل، إلا أن يعدُوَ عليها فيقتلها، فيقتل بها. (2) * * * وأما قوله:"وبما أنفقوا من أموالهم"، فإنه يعني: وبما ساقوا إليهن من   (1) "سورة طه" سورة مكية باتفاق، فيقول الحسن إنها نزلت في شأن المرأة الأنصارية وذلك بالمدينة ولا ريب، قول فيه نظر. (2) "القود": القصاص. و"العقل" الدية وما أشبهها. هذا، وبحسب امرئ مسلم أن يحفظ من صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رواه البخاري ومسلم: "أيضرب أحدكم امرأته، ثم يجامعها في آخر اليوم"، وما رواه ابن ماجه: "خياركم خياركم لنسائهم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة، كما:- 9311 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: فضله عليها بنفقته وسعيه. 9312 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك مثله. 9313 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"وبما أنفقوا من أموالهم"، بما ساقوا من المهر. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: الرجال قوامون على نسائهم، بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاقهم عليهنّ من أموالهم. * * * و"ما" التي في قوله:"بما فضل الله"، والتي في قوله:"وبما أنفقوا"، في معنى المصدر. * * * القول في تأويل قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فالصالحات"، المستقيمات الدين، العاملات بالخير، (1) كما:- 9314 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا عبد الله بن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"فالصالحات"، يعملن بالخير. * * *   (1) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91 / 6: 380 / 7: 130. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 وقوله:"قانتات"، يعني: مطيعات لله ولأزواجهن، كما:- 9315 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قانتات"، قال: مطيعات. 9316 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قانتات"، قال: مطيعات. 9317 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. (1) 9318 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"قانتات"، مطيعات. 9319 - حدثنا الحسن بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قانتات"، أي: مطيعات لله ولأزواجهن. 9320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال:"مطيعات". 9321 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"القانتات"، المطيعات. 9322 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله:"قانتات"، قال: مطيعات لأزواجهن. وقد بينا معنى"القنوت" فيما مضى، وأنه الطاعة، ودللنا على صحة ذلك من الشواهد بما أغنى عن إعادته. (2) * * *   (1) الأثر: 9317 - هذا الأثر زدته من المخطوطة وقد حذفته المطبوعة، وقد أحسن في حذفه لأنه تكرار لا معنى له للذي قبله، ولكني أثبته هنا مخافة أن يكون الناسخ قد تجاوز بصره، فوضع الإسناد مرة أخرى كما هو، ويكون في الإسناد خلاف أخطأه نظره. (2) انظر ما سلف 2: 538، 539 / 5: 228--237 / 6: 264، 401. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 وأما قوله:"حافظات للغيب"، فإنه يعني: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره، كما:- 9323 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"حافظات للغيب"، يقول: حافظات لما استودعهن الله من حقه، وحافظات لغيب أزواجهن. 9324 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"حافظات للغيب بما حفظ الله"، يقول: تحفظ على زوجها مالَه وفرجَها حتى يرجع، كما أمرَها الله. 9325 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء ما قوله:"حافظات للغيب"، قال: حافظات للزوج. 9326 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء عن"حافظات للغيب"، قال: حافظات للأزواج. 9327 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"حافظات للغيب"، حافظات لأزواجهن، لما غاب من شأنهن. 9328 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا أبو معشر قال، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرُ النساء امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتك، وإذا أمرَتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك. قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الرجال قوامون على النساء" الآية. (1) * * *   (1) الأثر: 9328 - في المطبوعة والمخطوطة: "سعيد عن أبي سعيد المقبري"، وهو خطأ ظاهر، كما سيتبين لك من تخريجه؛ أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده: 306 من حديث أبي معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، وذكر ابن كثير في تفسيره 2: 436، أن ابن أبي حاتم"رواه عن يونس بن حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، به سواء". فإن يكن ذلك كذلك، فقد أخطأ ابن أبي حاتم في روايته عن أبي داود، فالثابت في مسنده أنه من حديثه عن أبي معشر، ولعله وهم، فإن الآثار التي قبله مباشرة، رواها أبو داود من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. وهذا الأثر نسبه السيوطي في الدر المنثور 2: 151، لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه. والذي وجدته في المستدرك للحاكم 2: 161، من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، بمعناه بغير هذا اللفظ، مختصرًا، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ولم أعرف مكانه في سنن البيهقي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 قال أبو جعفر: وهذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدُلّ على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأن معناه: صالحاتٌ في أديانهن، مطيعاتٌ لأزواجهن، حافظات لهم في أنفسهنّ وأموالهم. * * * وأما قوله:"بما حفظ الله"، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة القرأة في جميع أمصار الإسلام: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، برفع اسم"الله"، على معنى: بحفظ الله إياهن إذ صيَّرهن كذلك، كما:- 9329 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج سألت عطاء عن قوله:"بما حفظ الله"، قال يقول: حفظهن الله. 9330 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله:"بما حفظ الله"، قال: بحفظ الله إياها، أنه جعلها كذلك. * * * وقرأ ذلك أبو جعفر يَزيد بن القَعْقاع المدني (1) (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) يعني:   (1) "أبو جعفر: يزيد بن القعقاع المدني المخزومي" مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور كبير القدر، أتوا به إلى أم سلمة أم المؤمنين، وهو صغير، فمسحت على رأسه ودعت له بالبركة، وصلى بابن عمر. كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي"القارئ" قال ابن معين: "كان ثقة قليل الحديث". طبقات القراء 2: 382-384. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 بحفظهنّ الله في طاعته وأداء حقه بما أمرهن من حفظ غَيب أزواجهن، كقول الرجل للرجل:"ما حَفِظتَ اللهَ في كذا وكذا"، بمعنى: ما راقبته ولا حِفْتَهُ. (1) * * * قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك ما جاءت به قرأة المسلمين من القراءة مجيئًا يقطع عذرَ من بَلغه ويُثبّتُ عليهُ حجته، دون ما انفرد به أبو جعفر فشذّ عنهم. وتلك القراءة ترفع اسم"الله" تبارك وتعالى: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب، وقُبح نصبه في العربية، لخروجه عن المعروف من منطق العرب. وذلك أن العربَ لا تحذف الفاعلَ مع المصادر، من أجل أنّ الفاعل إذا حذف معها لم يكن للفعل صاحبٌ معروف. * * * وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره، ومعناه: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، فاحسِنوا إليهن وأصلحوا. * * * وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود. 9331 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثنا عيسى الأعمى، عن طلحة بن مصرف قال: في قراءة عبد الله: (فالصالحات قانتات للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن واللاتي تخافون نشوزهن) . 9332 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل. قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، فأحسنوا إليهنّ.   (1) في المخطوطة: "راقبته ولا خفته"، وفي المطبوعة: "راقبته ولاحظته" وصواب قراءة المخطوطة ما أثبت، بزيادة"ما" قبل"راقبته"، وقوله: "ولا خفته" من الخوف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 9333 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله"، فأصلِحوا إليهن. 9334 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله"، يعني: إذا كن هكذا، فأصلحوا إليهنّ. * * * القول في تأويل قوله: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (1) اختلف أهلُ التأويل في معنى قوله:"واللاتي تخافونُ نشوزهن". فقال بعضهم: معناه: واللاتي تعلمون نشوزهن. ووجه صرف"الخوف"، في هذا الموضع، إلى"العلم"، في قول هؤلاء، نظيرُ صرف"الظن" إلى"العلم"، لتقارب معنييهما، إذ كان"الظن"، شكًّا، وكان"الخوفُ" مقرونًا برَجاء، وكانا جميعًا من فعل المرء بقلبه (2) كما قال الشاعر: (3) وَلا تَدْفِنَنَّي فِي الْفَلاةِ فَإِنَّني ... أَخَافُ إذَا مَا مِتُّّ أَنْ لا أَذُوقُهَا (4) معناه: فإنني أعلم، وكما قال الآخر: (5)   (1) لم يذكر في المخطوطة والمطبوعة: "فعظوهن"، مع أنه فسرها بعد، ولم يفردها عن هذا الموضع. (2) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 3: 550، 551. (3) هو أبو محجن الثقفي. (4) سلف البيت وتخريجه في 3: 551، وأزيد هنا، معاني القرآن للفراء 1: 146، 265، مع اختلاف يسير في الرواية، ونسيت هناك أن أرده إلى هذا الموضع، فألحق ذلك بمكانه هناك. (5) هو أبو الغول الطهوي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 أَتَانِي كَلامٌ عَنْ نُصَيْبٍ يَقُوُلُهُ ... وَمَا خِفْتُ، يَا سَلامُ أَنَّكَ عَائِبي (1) بمعنى: وما ظننتُ. * * * وقال جماعة من أهل التأويل: معنى"الخوف" في هذا الموضع: الخوف الذي هو خلاف"الرجاء". قالوا: معنى ذلك: إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن عليكم، من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه، ويَدخُلن ويخرجن، واسترْبتم بأمرهن، فعِظُوهن واهجروهنّ. وممن قال ذلك محمد بن كعب. (2) * * * وأما قوله:"نشوزهن"، فإنه يعني: استعلاءَهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضًا منهن وإعراضًا عنهم. * * * وأصل"النشوز" الارتفاع. ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض:"نَشْز" و"نَشَاز". (3) ="فعظوهن"، يقول: ذكّروهن الله، وخوِّفوهن وعيدَه، في ركوبها ما حرّم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه. (4) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال:"النشوز"، البغضُ ومعصيةُ الزوج. 9335 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) سلف تخريجه وشرحه فيما مضى 3: 550، وأزيد هنا معاني القرآن للفراء 1: 146، 265. وكان في المطبوعة هنا"أنك عاتبي"، وهو خطأ فاسد، وهو في المخطوطة غير منقوط. (2) سيأتي خبر محمد بن كعب القرظي، برقم: 9342. (3) انظر تفسير"النشوز"، و"النشز" فيما سلف 5: 475، 476. (4) انظر تفسير"الوعظ" فيما سلف 2: 180، 181 / 6: 14 / 7: 233. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 أسباط، عن السدي:"واللاتي تخافون نشوزهن"، قال: بغضهن. 9336 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن"، قال: التي تخاف معصيتها. قال:"النشوز"، معصيته وخِلافه. 9337 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن"، تلك المرأة تنشز، (1) وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره. (2) 9338 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا روح قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء:"النشوز"، أن تحبَّ فراقَه، والرجلُ كذلك. * * * ذكر الرواية عمن قال ما قلنا في قوله:"فعظوهن". 9339 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فعظوهن"، يعني: عظوهن بكتاب الله. قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظَها ويذكّرها الله، ويعظِّم حقّه عليها. (3) 9340 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن"، قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها:"اتقي الله وارجعي إلى فراشك"! فإن أطاعته، فلا سبيلَ له عليها. 9341 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "قيل المرأة تنشز"، وهو كلام فاسد جدًا، والصواب من الدر المنثور 2: 154، 155، والسنن الكبرى 7: 303. (2) الأثر: 9337 - رواه البيهقي في السنن 7: 303، من طريق عثمان بن سعيد، عن عبد الله بن صالح، بمثله مطولا، وسيروي الطبري جزءًا منه برقم: 9339 ثم رقم: 9356. (3) الأثر: 9339 - سنن البيهقي 3: 303، وانظر التعليق على الأثر: 9337. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 عن يونس، عن الحسن قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظْها بلسانه. يقول: يأمرها بتقوى الله وطاعته. 9342 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا رأى الرجل خِفّةً في بَصرها، (1) ومدخلَها ومخرجَها. قال يقول لها بلسانه:"قد رأيت منك كذا وكذا، فانتَهِي"! فإن أعْتَبت، فلا سبيل له عليها. وإن أبت، هَجر مَضجعها. (2) 9343 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فعظوهن"، قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها، فإنه يقول لها:"اتقي الله وارجعي". 9344 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء:"فعظوهن"، قال: بالكلام. 9345 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله:"فعظوهن"، قال: بالألسنة. 9346 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير:"فعظوهن" قال: عظُوهن باللسان. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "إذا رأى الرجل تقصيرها في حقه"، وعلق عليه بقوله: "في بعض النسخ: إذا رأى الرجل خفة في بصرها، وفي مدخلها ومخرجها"، والذي في بعض النسخ، هو الذي في مخطوطتنا، مع حذف"في" قبل"وفي مدخلها"، وهذا هو الصواب المحض، والذي في المطبوعة لا شك في أنه تصرف قبيح من ناسخ. وذلك أن أبا جعفر ذكر هذا آنفًا ص: 299س: 5: "إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن، من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه"، ونسبه إلى محمد بن كعب القرظي، وهذا هو معنى"وخفة في بصرها"، أي: أنها تطمح ببصرها إلى غيره من الرجال. (2) الأثر: 9342 - سيأتي آخره برقم: 9364. وقوله: "ومدخلها ومخرجها" بالنصب فيهما عطفًا على قوله: "خفة"، وهي مفعول"رأى". وقوله: "أعتبت"، من قولك: "أعتبني فلان"، إذا ترك ما كنت تجد عليه من أجله، ورجع إلى ما أرضاك عنه، بعد إسخاطه إياك عليه. (3) الأثر: 9346 -"عمرو بن أبي قيس الرازي"، مضت ترجمته برقم: 8611. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 القول في تأويل قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: فعظوهن في نشوزهن عليكم، أيها الأزواج، فإن أبينَ مراجعة الحقّ في ذلك والواجب عليهن لكم، فاهجروهن بترك جماعهنَ في مضاجعتكم إياهن. *ذكر من قال ذلك: 9347 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فعظوهن واهجروهن في المضاجع"، يعني: عظوهن، فإن أطعنكم، وإلا فاهجروهنّ. 9348 - حدثني محمد بن مسعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع"، يعني بالهجران: أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها. 9349 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الهجر هجرُ الجماع. 9350 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"تخافون نشوزهن"، فإن على زوجها أن يعظها، فإن لم تقبل فليهجرها في المضجع. يقول: يرقدُ عندها ويولِّيها ظهره ويطؤُها ولا يكلمها = هكذا في كتابي:"ويطؤها ولا يكلِّمها". (1)   (1) قوله: "هكذا في كتابي" من كلام أبي جعفر الطبري، وهذه دقة متناهية، وأمانة بالغة، مع مخافة فساد المعنى من وجوه، ولكنه أثبته كما وجده في كتابه، مخافة أن يكون عنى أن الهجر هجر الكلام وحده، لا هجر الوطء وإن كان الراجح خلاف ذلك، وإلا لضمه إلى القول التالي، وذكره مع الآثار التي في معناه هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 9351 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يضاجعها، ويهجر كلامها، ويولِّيها ظهره. 9352 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع"، قال: لا يجامعها. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجروا كلامَهن في تركهن مضاجعتكم، (1) حتى يرجعن إلى مضاجعتكم. *ذكر من قال ذلك: 9353 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، أنها لا تترك في الكلام، ولكن الهِجران في أمر المضجع. 9354- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير:"واهجروهن في المضاجع"، يقول: حتى يأتين مضاجعكم. (2) 9355 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير:"واهجروهن في المضاجع"، في الجماع. 9356 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يعظها فإن هي قبلت، وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها   (1) في المطبوعة: "واهجروهن واهجروا"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 9354 - هذا الأثر مكرر في المخطوطة بنصه مرة أخرى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 من غير أن يَذَر نكاحها، وذلك عليها شديدٌ. (1) 9357 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة:"واهجروهن في المضاجع"، الكلامَ والحديثَ. * * * [وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تقربوهن في فرشهن، حتى يرجعن إلى ما تحبّون] . (2) *ذكر من قال ذلك: 9358 - حدثني الحسن بن زُرَيق الطهوي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: لا تضاجعوهن. (3) 9359 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الهجران أن لا يضاجعها. 9360 - وبه قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر وإبراهيم قالا الهجران في المضجع، أن لا يضاجعها على فراش. 9361 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قالا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يحبّ. 9362 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا   (1) الأثر: 9357 - هذا تتمة الأثر السالف رقم: 9337، فانظر التعليق عليه هناك. (2) ما بين القوسين، ساقط من المخطوطة والمطبوعة، واستظهرته من معاني الآثار التالية، وهو القول الثالث من الأقوال الأربعة في تفسير الآية. (3) الأثر: 9358 -"الحسن بن زريق الطهوي الكوفي". روى عن سفيان بن عيينة، وأبي بكر بن عياش، وجماعة. قال العقيلي: "يحدث عن ابن عيينة بحديث ليس له أصل من حديث ابن عيينة" يعني حديث أنس: "يا أبا عمير، ما فعل النغير". فاعتدل له ابن عدي فقال: "لم أر له أنكر منه، فما أدري: وهم فيه، أو أخطأ، أو تعمد، وبقية أحاديثه مستقيمة". مترجم في لسان الميزان 2: 207، 208، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 15. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما كانا يقولان:"واهجروهن في المضاجع"، قالا يهجرُها في المضجع. 9363 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مقسم:"واهجروهن في المضاجع"، قال: هجرها في مضجعها: أن لا يقرب فراشَها. 9364 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يعظها بلسانه، فإن أعتبت فلا سبيل له عليها، وإن أبتْ هجر مضجعها. (1) 9365 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"فعظوهن واهجروهن"، قالا إذا خاف نشوزَها وعظها. فإن قبلتْ، وإلا هجر مضجعها. 9366 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"واهجروهن في المضاجع"، قال: تبدأ يا ابن آدم، فتعظها، فإن أبت عليك فاهجرها = يعني به: فراشَها. * * * وقال آخرون: معنى قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قولوا لهن من القول هُجْرًا في تركهنّ مضاجعتكم. *ذكر من قال ذلك: 9367 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يهجرها بلسانه، ويُغْلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها. 9368 - وبه قال، أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن عكرمة قال: إنما   (1) الأثر: 9364 - هو بعض الأثر السالف رقم: 9342. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 الهجران بالمنطق: أنْ يغلظ لها، وليس بالجماع. 9369 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن أبي الضحى في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يهجر بالقول، ولا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يريد. 9370 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل عن الحسن قال: لا يهجرها إلا في المبيت، في المضجع. ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش. 9371 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يعلى، عن سفيان في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: في مجامعتها، ولكن يقول لها:"تعالَىْ، وافعلي"، كلامًا فيه غلظة. فإذا فعلتْ ذلك، فلا يكلِّفْها أن تحبه، فإن قلبها ليس في يديها. * * * قال أبو جعفر: ولا معنى ل"الهجر" في كلام العرب إلا على أحد ثلاثة أوجه. أحدها:"هجر الرجل كلام الرجل وحديثه"، وذلك رفضه وتركه، يقال منه:"هَجر فلان أهله يهجرُها هجرًا وهجرانًا". والآخر: الإكثار من الكلام بترديد كهيئة كلام الهازئ، يقال منه:"هجر فلانٌ في كلامه يَهْجُر هَجْرًا"، إذا هذَى ومدّد الكلمة (1) ="وما زالت تلك هِجِّيراه، وإهْجِيرَاه"، ومنه قول ذي الرمة: رَمَى فَأَخْطَأَ، وَالأقْدَارُ غَالِبَةٌ ... فَانْصَعْنَ وَالْوَيْلُ هِجِّيرَاهُ وَالْحَرَبُ (2)   (1) هذا التفسير لمعنى"الهجر"، وهذه الصفة قلما تصيبها في كتب اللغة، فأثبتها هناك. (2) ديوانه: 16، والبيت من قصيدته الناصعة، وهو من الأبيات التي وصف فيها حمر الوحش، وصائدها من قبيلة جلان، جاءت الحمر ظماء إلى الماء، وتخفى لها الصائد قد أعد سهامه، فلما وردت الحمر حين دعاها خرير الماء المنسكب، ولم تكد تشرب منه نغبًا تكسر ما تلقى من حرارة العطش، حتى رماها الصائد فأخطأها، على مهارته وحذقه، فإن قدر الله غالب كل مقتدر ="فانصعن" أي: تفرقن هاربات، وبقي الصائد دائبًا يدعو على نفسه بالويل والحرب. و"هجيراه" دأبه، ألح إلحاحًا على ذلك لما أخفق. و"الحرب" نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، يدعو على نفسه بذلك من الغيظ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 والثالث:"هَجَر البعير"، إذا ربطه صاحبه بـ "الهِجَار"، وهو حبل يُربط في حَقْويها ورُسغها، (1) ومنه قول امرئ القيس: رَأَتْ هَلَكًا بِنِجَافِ الْغَبِيطِ ... فَكَادَتْ تَجُدُّ لِذَاكَ الْهِجَارَا (2) فأما القول الذي فيه الغلظة والأذى، فإنما هو"الإهجار"، ويقال منه:"أهجر فلان في منطقه" = إذا قال"الهُجْر"، (3) وهو الفحش من الكلام ="يُهْجر إهجارًا وهُجرًا". * * * فإذ كان لا وجه لـ "الهَجْر" في الكلام إلا أحد المعاني الثلاثة (4) = وكانت المرأة المخوف نشوزُها، إنما أمر زوجها بوعظها لتنيب إلى طاعته فيما يجب عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه = فغير جائز أن تكون عظته لذلك حتى تفيء المرأة إلى أمر الله وطاعة زوجها في ذلك، (5) ثم يكون الزوج مأمورًا   (1) الحقوان، واحدهما حقو (بفتح فسكون) : الخاصرتان. (2) ديوانه: 93، معجم ما استعجم: 991، واللسان (هلك) ثاني بيتين، قالهما في ناقته، والأول: أَرَى نَاقَةَ الْقَيْسِ قَدْ أَصْبَحَتْ ... عَلَى الأيْنِ ذَاتَ هِبَابٍ نَوَارَا "القيس" يعني نفسه. و"الأين" شدة التعب. و"الهباب": النشاط: و"النوار"، النفور من شدة بأسها وقوتها. و"الهلك" (بفتحتين) : ما بين أعلى الجبل وأسفله، أو المهواة بين الجبلين، أو الشق الذاهب في الأرض. و"الغبيط" صحراء متسعة لبني يربوع، وسطها منخفض وطرفها مرتفع، كهيئة الغبيط = وهو الرحل اللطيف = وذكره امرؤ القيس في كثير من شعره. و"النجاف" جمع"نجف" جمع"نجفة": وهي أرض مستطيلة مرتفعة لا يعلوها الماء، تكون في بطن الوادي شبه جدار ليس بالعريض. وقوله"تجد" أي: تقطع حبل الهجار = وهو حبل يشد في رسغها = وذلك نفورًا من المهواة التي أفزعتها. (3) "الهجر" هنا بضم الهاء وسكون الجيم. (4) يعني"الهجر" بفتح الهاء وسكون الجيم. (5) في المطبوعة: "ثم تصير"، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب"تصير" بقلم مضطرب، والظاهر أن الناسخ لم يستطع قراءة الكلمة على وجهها فاضطرب قلمه. والصواب المحض"تفيء" أي ترجع، وأما "ثم" فهو سهو منه، بل هي"حتى" كما أثبتها، وهي حق السياق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 بهجرها في الأمر الذي كانت عظته إياها عليه. وإذ كان ذلك كذلك، بطلَ قولُ من قال:"معنى قوله:"واهجروهن في المضاجع، واهجروا جماعهن". = أو يكون - إذ بطل هذا المعنى - بمعنى (1) واهجروا كلامهن بسبب هجرهنّ مضاجعكم. وذلك أيضًا لا وجه له مفهومٌ. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يَحِل لمسلم أن يهجر أخاه فَوْقَ ثلاث. (2) على أن ذلك لو كان حلالا لم يكن لهجرها في الكلام معنًى مفهوم. لأنها إذا كانت عنه منصرفةً وعليه ناشزًا، فمن سُرورها أن لا يكلمها ولا يَرَاها ولا تراه، فكيف يُؤْمر الرجل = في حال بُغض امرأته إياه، وانصرافها عنه = بترك ما في تركه سُرُورها، من ترك جماعها ومحادثتها وتكليمها؟ (3) وهو يؤمر بضربها لترتدع عما هي عليه من ترك طاعته، إذا دعاها إلى فراشه، وغير ذلك مما يلزمها طاعته فيه. (4) =   (1) في المطبوعة: "فمعنى: واهجروا ... " والفاء هنا خطأ لا شك فيه، ولكن ناسخ المخطوطة كتب"لمعنى" باء، ثم وضع نقطة النون على الباء، فأساء الناشر قراءتها. (2) هو من حديث أنس بن مالك، رواه البخاري (الفتح 10: 413) : "عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَبَاغَضُوا، ولا تَحاسدُوا، ولا تَدابَرُوا، وكونوا عِبَاد اللهِ إخوانًا، ولا يحلُّ لامرئ مُسْلِمٍ أنْ يهجُرَ أَخاهُ فوق ثلاثٍ". وحديث أبي أيوب الأنصاري: "لا يحِلُّ لرجُل أن يهجُرَ أخاهُ فَوقَ ثلاثٍ، يلتقيانِ، فيُعْرض هذا ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسَّلام"، (الفتح 10: 413) . (3) في المطبوعة: "مجاذبتها"، واخترت قراءتها كما أثبتها، وهي في المخطوطة غير منقوطة. (4) هذه الحجة جيدة جدًا، إذا اقتصر المرء على صورة واحدة من صور النشوز، وعلة واحدة هي التي ذكرها أبو جعفر. ولكن للنشوز صور عديدة، وعلله مختلفات، وهذه الآية أدب عام يعمل به المرء المسلم عند حاجته إليه عند مخافة النشوز أو معرفته ومعرفة أسبابه. وسترى أن أبا جعفر قد أسقط جميع الأقوال، ليفضي إلى تأويله الذي ذهب إليه، وسنذكر رد أبي بكر بن العربي عليه في تعليق يأتي في آخر مقالة أبي جعفر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 أو يكون - إذ فسد هذان الوجهان - يكون معناه (1) واهجروا في قولكم لهنّ، بمعنى: ردّدوا عليهن كلامكم إذا كلمتموهن، بالتغليظ لهن. فإن كان ذلك معناه، فلا وجه لإعمال"الهجر" في كناية أسماء النساء الناشزات = أعني في"الهاء والنون" من قوله:"واهجروهن". لأنه إذا أريد به ذلك المعنى، كان الفعل غير واقع، (2) إنما يقال:"هَجَر فلان في كلامه" ولا يقال:"هجر فلان فلانًا". فإذ كان في كلّ هذه المعاني ما ذكرنا من الخلل اللاحق، فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يكون قوله:"واهجروهن"، موجَّهًا معناه إلى معنى الرّبط بالهجار، على ما ذكرنا من قيل العرب للبعير إذا ربطه صاحبه بحبل على ما وصفنا:"هَجَره فهو يهجره هجْرًا". * * * وإذا كان ذلك معناه كان تأويل الكلام: واللاتي تخافون نشوزَهن فعظوهن في نشوزهن عليكم. فإن اتعظن فلا سبيل لكم عليهنّ، وإن أبين الأوْبة من نشوزهن فاستوثقوا منهنّ رباطًا في مضاجعهن = يعني: في منازلهن وبُيوتهن التي يضطجعن فيها ويُضاجعن فيها أزواجهنّ، كما:- 9372 - حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن شبل قال، سمعت أبا قزعة يحدث، عن عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: يطعمها، ويكسوها، ولا يضرب الوجه، ولا يقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت. (3)   (1) تكرار"يكون" هنا في هذا السياق عربي جيد. (2) "الفعل الواقع" هو الفعل المتعدي، وانظر فهرس المصطلحات فيما سلف. (3) الحديث: 9372 - عباس بن أبي طالب: هو"عباس بن جعفر بن عبد الله". مضت ترجمته في: 880. شبل: هو ابن عباد المكي القارئ. مضى في: 280. أبو قزعة - بفتح القاف والزاي والعين: هو سويد بن جحير بن بيان. مضت ترجمته في: 8281، 8283. وقوله هنا: "يحدث عن عمرو بن دينار" - الراجح عندي أنه خطأ ناسخ في زيادة حرف"عن". وأن يكون صوابه"يحدث عمرو بن دينار". أي: أن شبل بن عباد سمع الحديث من أبي قزعة وهو يحدث به عمرو بن دينار. لأن الحديث معروف من حديث أبي قزعة عن حكيم بن معاوية، ليس بينهما واسطة. وأبو قزعة وعمرو بن دينار من طبقة واحدة، فقد يحدث أحدهما عن الآخر. ولكن الواقع هنا - فيما أرى - أن الحديث عن أبي قزعة عن حكيم مباشرة. ثم استيقنت أن ما استظهرت هو الصواب. فإن هذا الحديث قطعة من حديث مطول، رواه أحمد في المسند 4: 446-447 (حلبي) ، عن عبد الله بن الحارث، وعن يحيى بن أبي بكير - كلاهما عن شبل بن عباد، قال: "سمعت أبا قزعة يحدث عمرو بن دينار، يحدث عن حكيم بن معاوية البهزي ... "- إلى آخره. فوقع في مطبوعة المسند"يحدث عن عمرو بن دينار"، بزيادة"عن"، كما في نسخة الطبري هنا. ولكن ثبت في مخطوطة الرياض - من المسند - (ج3 ص1074) ، على الصواب الذي ذكرنا، بحذف كلمة"عن". وهو الصواب إن شاء الله. حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري: مضت ترجمته وترجمة أبيه في: 873. والحديث يأتي تمام تخريجه في الرواية الثالثة: 9374. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 9373 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نَحوه. (1) 9374 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا بهز بن حكيم، عن جده قال، قلت: يا رسول الله، نساؤنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال: حرثُك، فأت حرثك أنَّى شئت، غير أن لا تضرب الوجهَ، ولا تقبِّح، ولا تَهجر إلا في البيت، وأطعم إذا طَعِمت، واكْس إذا اكتسيتَ، كيفَ وقد أفضى بعضكم إلا بعض؟ إلا بما حَلّ عليها. (2) * * *   (1) الحديث: 9373 - الحسن بن عرفة العبدي البغدادي، شيخ الطبري ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 31-32، وتاريخ بغداد 7: 394-396. مات سنة 257 وقد جاوز 110 سنين. والحديث رواه أحمد 4: 447 (حلبي) ، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، بهذا الإسناد. (2) الحديث: 9374 - حبان - بكسر الحاء - بن موسى بن سوار السلمي: ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 84، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 271. وهذا الحديث هو تكرار للحديثين قبله، مطولا. وقد جاء بالأسانيد الصحاح بأطول من هذا أيضًا. ورواه عن حكيم بن معاوية ابناه: بهز وسعيد، وغيرهما. فرواه أحمد في المسند، مطولا ومختصرًا، 4: 446، 447، مرارًا، و5: 3، 5 (حلبي) . ورواه أبو داود: 2142-2144. ورواه ابن ماجه: 1850، من طريق يزيد بن هارون، كالرواية التي قبل هذه. ورواه البيهقي 7: 295، 305، مطولا ومختصرًا. وقال المنذري: 2057، من تهذيب السنن: "اختلف الأئمة في الاحتجاج بهذه النسخة، فمنهم من احتج بها، ومنهم من أبى ذلك. وخرج الترمذي منها شيئًا وصححه". يريد نسخة"بهز بن حكيم عن أبيه عن جده". والحق أنها صحيحة إذا صح الإسناد إلى بهز. وذكره ابن كثير 2: 437 - مختصرًا - دون إسناد، ونسبه للسنن والمسند. وقوله: "إلا بما حل عليها" - وفي رواية المسند (ج5 ص5) : "إلا بما حل عليهن" - يعني: إلا بما حل لكم عليهن من الضرب الذي أذن الله به لكم إذا خفتم نشوزهن. وهو الذي نص الله عليه في هذه الآية الكريمة: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) . ولا يتجاوز في ذلك الحد الذي أذن الله به: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال عدّة من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9375 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الحسن قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظها بلسانه، فإن قبلت فذاك، وإلا ضَربها ضربًا غير مبرّح. فإن رجعت، فذاك، وإلا فقد حَلّ له أن يأخذ منها ويُخَلِّيها. 9376 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن"، قال: يفعل بها ذاك، ويضربها حتى تطيعه في المضاجع، فإذا أطاعته في المضجع، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته. 9377 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول في قوله:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن" ضربًا غير مبرح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوهن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 إذا عصينكم في المعروف ضربًا غير مبرّح. (1) * * * قال أبو جعفر: فكلّ هؤلاء الذين ذكرنا قولهم: لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب. ولم يوجبوا هجرًا = إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب، (2) مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بضربهن إذا عصين أزواجهن في المعروف، من غير أمر منه أزواجهن بهجرهن = (3) لما وصفنا من العلة. قال أبو جعفر: فإن ظنّ ظانٌّ أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عكرمة، ليس كما قلنا، وصحّ أن تركَ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ الرجل بهجر زوجته إذا عصته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر، لو كان دليلا على صحة ما قلنا من أنّ معنى"الهجر" هو ما بيناه = لوجب أن يكون لا معنى لأمر الله زوجَها أن يَعِظها إذا هي نشزت، إذ كان لا ذِكر للعظة في خبر عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم = = (4) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا عصينكم في المعروف"، دلالة بينة أنه لم يٌبح للرجل ضرب زوجته، إلا بعد عظتها من نشوزها. وذلك أنه لا تكون لهُ عاصية، إلا وقد تقدّم منه لها أمرٌ أو عِظَة بالمعروف على ما أمرَ الله به. (5) * * *   (1) الأثر: 9377 - الخبر الذي رواه عكرمة، واحتج به الطبري بعد، خبر مرسل. خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 155، ولم ينسبه لغير ابن جرير. (2) يعني بقوله: "إذ كان هيئة من الهيئات ... "، أن المرأة المضروبة لا تضرب إلا لأنها هجرت فراش زوجها، فالهجر حالة من حالاتها التي تكون عليها حين تضرب. (3) السياق: "ولم يوجبوا هجرًا ... لما وصفنا من العلة"، وفصل بينهما بالسبب الذي من أجله لم يوجبوا الهجر. (4) قوله: "فإن الأمر في ذلك ... " جواب قوله في أول الفقرة السالفة: "فإن ظن ظان"، وفصلت هذه الثانية فقرة مستقلة، لأنها كالجواب، ولئلا تختلط معاني الكلام. (5) تأويل الطبري في هذا الموضع لمعنى"الهجر"، وأنه الشد بالهجار، والاستثياق منهن رباطًا في منازلهن وبيوتهن التي يضطجعن فيها ويضاجعن فيها أزواجهن = تأويل مستغرب جدًا، شذ به عن كل تأويل تأوله المتقدمون. وقد استدرك عليه العلماء بعده، فمن أجود من قال في ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن 1: 175 قال: "يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة!! وإني لأعجبكم من ذلك: أن الذي جرأه على هذا التأويل، ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه، وهو حديث غريب، رواه ابن وهب عن مالك: أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام ... " ثم ذكر قصة ضرب الزبير أسماء وضرتها، وأنه عقد شعر واحدة بالأخرى، وارتفاع أسماء إلى أبي بكر، ونصيحة أبي بكر لها أن تصبر، لأن الزبير رجل صالح، وعسى أن يكون زوجها في الجنة = ثم قال ابن العربي: "فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ، مع فعل الزبير، فأقدم على هذا التفسير لذلك. وعجبًا له، مع تبحره في العلوم وفي لغة العرب، كيف بعد عليه صواب القول، وحاد عن سداد النظر"!! واستخراج أبي بكر ضمير الطبري، إذ ذكر الخبر الذي جرأه على هذا التفسير، ليس يعجبني، ولو كان الطبري أراده لذكره كعادته. ولكني أظن أبا جعفر قد تورط في هذا التأويل، للعلل التي قدم ذكرها بعد كلامه في تفسير"الهجر"، وأنه لو كان الكلام"فاهجروهن في المضاجع"، ولم يقل سبحانه قبله"فعظوهن"، لما احتاج أبو جعفر إلى هذا التأويل. وإذن فالذي دعاه إلى هذا التأويل هو تتابع الكلامين"فعظوهن" و"اهجروهن في المضاجع"، ثم إنه أيضًا لم يجد مساغًا للجمع بين معنى"النشوز"، ومعنى"الهجر"، كما قلت في ص: 308 تعليق: 4. ولاستيفاء القول في ذلك مكان غير هذا المكان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 القول في تأويل قوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فعظوهن، أيها الرجال، في نشوزهن، فإن أبينَ الإياب إلى ما يلزمهن لكم، فشدّوهن وثاقًا في منازلهن، واضربوهن ليؤبن إلى الواجب عليهن من طاعته الله في اللازم لهنّ من حقوقكم. * * * وقال أهل التأويل: صفة الضرب التي أباح الله لزوج الناشز أن يضربها: الضربُ غيرُ المبرِّح. *ذكر من قال ذلك: 9378 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 عن سعيد بن جبير:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح. 9379 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، أخبرنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير مثله. 9380 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الضرب غير مبرّح. (1) 9381 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح. 9382 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن"، قال: تهجرها في المضجع، فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرح، ولا تكسر لها عظمًا. فإن أقبلت، وإلا فقد حَلّ لك منها الفدية. 9383 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح. 9384 - وبه قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء:"واضربوهن"؟ قال: ضربًا غير مبرح. 9385 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن"، قال: تهجرها في المضجع. فإن أبت عليك، فاضربها ضربًا غير مبرح = أي: غير شائن. 9386 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّح؟ قال: السواك وشبهه، يضربها به.   (1) في المطبوعة: "غير المبرح" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 9387 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال، قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه. 9388 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته:"ضربًا غير مبرح"، قال: السواك ونحوه. (1) 9389 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تهجروا النساء إلا في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح = يقول: غير مؤثّر. 9390 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح. 9391 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، عن عكرمة مثله. 9392 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واضربوهن"، قال: إن أقبلت في الهجران، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح. 9393 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: تهجر مضجعها ما رأيتَ أن تنزع. (2) فإن لم تنزع، ضربها ضربًا غير مبرح. 9394 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح.   (1) يعني خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد مضى ذلك برقم: 8905، فراجع التخريج هناك. (2) "تنزع" أي: تقلع عن نشوزها وتتركه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 9395 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل، عن الحسن قال: ضربًا غير مبرح، غير مؤثر. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أطعنكم، أيها الناس، نساؤكم اللاتي تخافون نشوزهن عند وعظكم إياهن، فلا تهجروهن في المضاجع. فإن لم يطعنكم، فاهجروهن في المضاجع واضربوهن. فإن راجعنَ طاعتكم عند ذلك وفِئْنَ إلى الواجب عليهن، فلا تطلبوا طريقًا إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل. وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة:"إنك لست تحبّيني، وأنت لي مبغضة"، فيضربها على ذلك أو يُؤذيها. فقال الله تعالى للرجال:"فإن أطعنكم" أي: على بغضهنّ لكم فلا تجنَّوا عليهن، ولا تكلفوهن محبتكم، فإنّ ذلك ليس بأيديهن، فتضربوهن أو تؤذوهن عليه. * * * ومعنى قوله:"فلا تبغوا"، لا تلتمسوا ولا تطلبوا، من قول القائل:"بغَيتُ الضالة"، إذا التمستها، (1) ومنه قول الشاعر في صفة الموت: (2) بَغَاكَ وَمَا تَبْغِيِهِ، حَتَّى وَجَدْتَهُ ... كَأَنَّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أَمْسِ مَوْعِدَا (3)   (1) انظر تفسير: "بغي" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / 6: 196، 564، 570 / 7: 53. (2) هو سحيم عبد بني الحسحاس. (3) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 4: 163 / 7: 53. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 بمعنى: طلبك وما تطلبه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9396 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"، قال: إذا أطاعتك فلا تتجنَّ عليها العلل. 9397 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال، إذا أطاعته، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته. 9398 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قوله:"فلا تبغوا عليهن سبيلا"، قال: العلل. 9399 - وقال أخبرنا عبد الرزاق قال: قال الثوري في قوله:"فإن أطعنكم" قال: إن أتت الفراش وهي تبغضه. 9400 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى، عن سفيان قال: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه، لأن قلبها ليس في يديها. 9401 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إن أطاعته فضاجعته، فإن الله يقول:"فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا". 9402 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"، يقول: فإن أطاعتك، فلا تبغ عليها العلل. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) } قال أبو جعفر يقول: إن الله ذو علوّ على كل شيء، فلا تبغوا، أيها الناس، على أزواجكم = إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق = سبيلا لعلوِّ أيديكم على أيديهن، فإنّ الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم، منكم عليهن (1) = وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلا. وهن لكم مطيعات، فينتصر لهن منكم ربُّكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كل شيء. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"وإن خفتم شقاق بينهما"، وإن علمتم أيها الناس (3) ="شقاق بينهما"، وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه، وهو إتيانه ما يشق عليه من الأمور. فأما من المرأة، فالنشوز وتركها أداء حق الله   (1) في المطبوعة: "فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء، وأعلى منكم عليهن"، وفي المخطوطة: " ... ، عليهم منكم عليهن"، فأراد الناشر تصحيحه فأفسده، والصواب"عليكم، منكم عليهن" وقوله: "عليكم" من سياق فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم". (2) انظر تفسير: "العلي" فيما سلف 5: 405. (3) انظر تفسير"الخوف" بمعنى العلم فيما سلف قريبًا ص: 298، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 عليها الذي ألزمها الله لزوجها. وأما من الزوج، فتركُه إمساكها بالمعروف أو تسريحها بإحسان. * * * و"الشقاق" مصدر من قول القائل:"شاقَّ فلان فلانًا" = إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشق عليه من الأمور ="فهو يُشاقُّه مشاقَّة وشقاقًا"، وذلك قد يكون عداوة، (1) كما:- 9403 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما"، قال: إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقَّته = يقول: عادته. * * * وإنما أضيف"الشقاق" إلى"البين"، لأن"البين" قد يكون اسمًا، كما قال جل ثناؤه: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [سورة الأنعام: 94] ، في قراءة من قرأ ذلك. (2) * * * وأما قوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، فإن أهل التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: مَنِ المأمور ببعثة الحكمين؟ (3) فقال بعضهم: المأمور بذلك: السلطانُ الذي يرفع ذلك إليه. *ذكر من قال ذلك: 9404 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير: أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها. فإن انتهت، وإلا ضربها. فإن انتهت، وإلا رفع أمرَها إلى السلطان، فيبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها:"يفعل بها   (1) انظر تفسير"الشقاق" فيما سلف 3: 115، 116، 336. (2) هذه القراءة برفع"بينكم"، بمعنى: وصلكم الذي يصل بينكم. (3) في المطبوعة: "ببعثه الحكمين"، وهو خطأ في قراءة المخطوطة، وهي غير منقوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 كذا"، ويقول الحكم الذي من أهله:"تفعل به كذا". فأيهما كان الظالم ردَّه السلطان وأخذ فوق يديه، وإن كانت ناشزًا أمره أن يَخْلع. 9405 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، قال: بل ذلك إلى السلطان. * * * وقال آخرون: بل المأمور بذلك: الرجل والمرأة. *ذكر من قال ذلك: 9406 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، إن ضربها. فإن رجعت، فإنه ليس له عليها سبيل. فإن أبت أن ترجع وشاقّته، فليبعث حكمًا من أهله، وتبعث حكمًا من أهلها. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيما يُبعث له الحكمان، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وَجْهُ بَعْثهِما بينهما؟ فقال بعضهم: يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما. وليس لهما أن يعملا شيئًا في أمرهما إلا ما وكَّلاهما به، أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به مَن وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه، أو توكيل من وُكل منهما في ذلك. *ذكر من قال ذلك: 9407 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة قال: جاء رجل وامرأته بينهما شقاقٌ إلى علي رضي الله عنه، مع كل واحد منهما فِئام من الناس، (1) فقال علي رضي الله عنه: ابعثوا حكمًا   (1) "الفئام": الجماعة الكثيرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 من أهله وحكمًا من أهلها. ثم قال للحكمين: تدرِيان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرِّقا أن تفرقا، (1) قالت المرأة: رضيت بكتاب الله، بما عليَّ فيه ولي. قال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي رضي الله عنه: كذبتَ والله، لا تنقلب حتى تقرَّ بمثل الذي أقرَّت به. (2) 9408 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا هشام بن حسان وعبد الله بن عون، عن محمد: أن عليَّا رضي الله عنه أتاه رجل وامرأته، ومع كل واحد منهما فئام من الناس. فأمرهما علي رضي الله عنه أن يبعثا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، لينظرا. فلما دنا منه الحكمان، قال لهما علي رضي الله عنه: أتدريان ما لكما؟ لكما إن رأيتما أن تفرّقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما = قال هشام في حديثه: فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعليّ، فقال الرجل: أما الفرقة فلا! فقال عليّ: كذبتَ والله، حتى ترضى مثل ما رضيت به = وقال ابن عون في حديثه: كذبتَ والله، لا تبرَحُ حتى ترضى بمثل ما رضيت به. (3) 9409 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: شهدت عليًّا رضي الله عنه، فذكر مثله. (4) 9410 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط،   (1) في المخطوطة: "فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، إن رأيتما أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا"، سقط من الكلام ما ثبت في المخطوطة، وهو نص ما في المراجع التي سأذكرها بعد. (2) الأثر: 9407 - رواه الشافعي في الأم 5: 177 من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب بن أبي تميمة، بمثله سواء. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 305، 306. وقال الشافعي: "حديث علي ثابت عندنا". (3) الأثران: 9408، 9409 - أخرجه البيهقي في السنن 7: 306، مختصرًا. (4) الأثران: 9408، 9409 - أخرجه البيهقي في السنن 7: 306، مختصرًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 عن السدي قال: إذا هجرها في المضجع وضربها، فأبت أن ترجع وشاقّته، فليبعث حكمًا من أهله وتبعث حكمًا من أهلها. تقول المرأة لحكمها:"قد وليتك أمري، فإن أمرتني أن أرجعَ رجعت، وإن فرَّقت تفرقنا"، وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئًا من الأشياء، وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق، ويبعث الرجل حكمًا من أهله يوليه أمره، ويخبره يقول له حاجته: إن كان يريدها أو لا يريد أن يطلقها، أعطاها ما سألت وزادها في النفقة، وإلا قال له:"خذ لي منها ما لها علي، وطلقها"، فيوليه أمره، فإن شاء طلق، وإن شاء أمسك. ثم يجتمع الحكمان، فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه، ويجهد كل واحد منهما ما يريد لصاحبه. فإن اتفق الحكمان على شيء فهو جائز، إن طلَّقا وإن أمسكا. فهو قول الله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما". فإن بعثت المرأة حكمًا وأبى الرجل أن يبعث، فإنه لا يقربها حتى يبعث حكمًا. * * * وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان، غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قِبَل صاحبه، لا التفريق بينهما. *ذكر من قال ذلك: 9411 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن = وهو قول قتادة = أنهما قالا إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه. وأما الفرقة، فليست في أيديهما ولم يملَّكا ذلك = يعني:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها". 9412 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 من أهلها"، الآية، إنما يبعث الحكمان ليصلحا. فإن أعياهما أن يصلحا، شهدا على الظالم بظلمه، وليس بأيديهما فرقة، ولا يملَّكان ذلك. 9413 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد قال: وسألت عن الحكمين، (1) قال: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فما حكم الحكمان من شيء فهو جائزٌ، يقول الله تبارك وتعالى:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما". قال: يخلو حكم الرجل بالزوج، وحكم المرأة بالمرأة، فيقول كل واحد منهما لصاحبه:"اصدقني ما في نفسك". فإذا صَدق كل واحد منهما صاحبه، اجتمع الحكمان، وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقًا:"لتصدقني الذي قال لك صاحبك، ولأصدقنك الذي قال لي صاحبي"، فذاك حين أرادا الإصلاح، يوفق الله بينهما. فإذا فعلا ذلك، اطَّلع كل واحد منهما على ما أفضى به صاحبه إليه، فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما، فأتيا عليه فحكما عليه. فإن كانت المرأة قالا"أنت الظالمة العاصية، لا ينفق عليك حتى ترجعي إلى الحق وتطيعي الله فيه". وإن كان الرجل هو الظالم قالا"أنت الظالم المضارّ، لا تدخل لها بيتًا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحق والعدل". فإن أبت ذلك كانت هي الظالمةَ العاصيةَ، (2) وأخذ منها ما لها، وهو له حلال طيب. وإن كان هو الظالمَ المسيءَ إليها المضارَّ لها طلقها، ولم يحلّ له من مالها شيء. فإن أمسكها، أمسكها بما أمر الله، وأنفق عليها وأحسن إليها. (3)   (1) في المطبوعة: "سألت عن الحكمين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب، فالظاهر أنه بعض خبر، لا بدء خبر، وانظر التعليق رقم: 3. (2) في المطبوعة: "وترجع إلى الحق والعدل، فإن كانت هي الظالمة العاصية أخذ ... "، وفسد الكلام: وفي المخطوطة: "وترجع إلى الحق والعدل ما دامت ذلك كانت هي الظالمة العاصية وأخذ ... "، وهو تحريف من الناسخ، وصواب قراءتها"فإن أبت ذلك" كما أثبتها. والصواب أيضًا إثبات الواو في"وأخذ"، لا حذفها، كما في المطبوعة. (3) الأثر: 9413 -"قيس بن سعد المكي" مولى نافع بن علقمة، روى عن طاوس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير. ثقة. مترجم في التهذيب. وكان هذا الإسناد في المطبوعة: "قال حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن قيس بن سعد"، وكان في المخطوطة مثله، إلا أن وضع بعد"شبل" إلى أعلى: "لا" وبعد"مجاهد" إلى أعلى"إلى"، وذلك من إشاراتهم إلى حذف ما بينهما، استغنوا بذلك عن الضرب عليه بالقلم. فلم يعرف الناشر قاعدتهم في الكتابة والحذوف، فأثبت ما حقه الحذف. و"قيس بن سعد" كما ترى يروي عن مجاهد، وليس مجاهد ممن يروي عنه. وهذا الخبر، كأنه مما سأل عنه قيس بن سعد مجاهدًا أو عطاء، كما مر في بعض أسانيده السالفة، التي غاب عني مكانها اليوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 9414 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبعث الحكمين، حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. فيقول الحكم من أهلها:"يا فلان، ما تنقِم من زوجتك"؟ فيقول:"أنقِم منها كذا وكذا". قال فيقول:"أفرأيت إن نزعَت عما تكره إلى ما تحب، هل أنت مُتقي الله فيها، ومعاشرها بالذي يحق عليك في نفقتها وكسوتها"؟ فإذا قال:"نعم"، قال الحكم من أهله:"يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان"؟ فيقول مثل ذلك، فإن قالت:"نعم"، جمع بينهما. قال: وقال علي رضي الله عنه: الحكمان، بهما يجمع الله وبهما يفرِّق. 9415 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: الحكمان يحكمان في الاجتماع، ولا يحكمان في الفُرقة. 9416 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن"، وهي المرأة التي تنشز على زوجها، فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك، وهو بعد ما تقول لزوحها:"والله لا أُبرُّ لك قسمًا ولآذنَنَّ في بيتك بغير أمرك"! ويقول السلطان:"لا نجيز لك خلعًا" = حتى تقول المرأة لزوجها:"والله لا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم لك صلاة"! فعند ذلك يقول السلطان:"اخلع المرأة"! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 9417 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن"، قال: تعظها، فإن أبت وغَلبت، فاهجرها في مضجعها. فإن غلبت هذا أيضًا، فاضربها. فإن غلبت هذا أيضًا، بُعث حكم من أهله وحكم من أهلها. فإن غلبت هذا أيضًا وأرادت غيره، فإنَّ أبِي قال = أو: كان أبي يقول (1) = ليس بيد الحكمين من الفرقة شيء، إن رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا"أنت يا فلان ظالم، انزع"! فإن أبى، رفعا ذلك إلى السلطان. ليس إلى الحكمين من الفراق شيء. * * * وقال آخرون: بل إنما يبعث الحكمين السلطانُ، على أن حكمهما ماضٍ على الزوجين في الجمع والتفريق. *ذكر من قال ذلك: 9418 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، فهذا الرجل والمرأة، إذا تفاسد الذي بينهما، فأمر الله سبحانه أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء. فإن كان الرجل هو المسيء، حَجَبوا عنه امرأته وقَصَروه على النفقة، (2) وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرّقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا   (1) في المطبوعة: "فإن أبي كان يقول"، وفي المخطوطة: "فإن أبي قال وكان أبي يقول" والصواب ما في المخطوطة، إلا قوله"وكان أبي يقول"، فصوابه"أو: كان أبي يقول"، وقائل هذه الجملة هو: عبد الله بن زيد أسلم = وأبوه هو: زيد بن أسلم. (2) "قصره على الشيء" حبسه عليه، وألزمه إياه، إجبارًا وقهرًا، وفي الحديث: "لتقصرنه على الحق قصرًا"، أي: قهرًا وغلبة، وهو من"القسر"، وأبدلت السين صادًا، وهما يتبادلان في كثير من الكلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر، ثم ماتَ أحدهما، فإنّ الذي رضي يَرِث الذي كره، ولا يرث الكارهُ الراضيَ، وذلك قوله:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: هما الحكمان ="يوفق الله بينهما". 9419 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين: أن الحكم من أهلها والحكم من أهله، يفرِّقان ويجمعان إذا رأيا ذلك ="فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها". 9420 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فقال: لم أولد إذ ذاك! (1) فقلت: إنما أعني حَكم الشقاق. قال: يقبلان على الذي جاء التداري من عنده. (2) فإن فعل، وإلا أقبلا على الآخر. فإن فعل، وإلا حكما. فما حكما من شيء فهو جائز. 9421 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في قوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، قال: ما قضى الحكمان من شيء فهو جائز. 9422 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن داود،   (1) ذهب سعيد بن جبير حين سأله عمرو بن مرة عن"الحكمين"، إلى أنه عنى الحكمين في أمر علي ومعاوية رضي الله عنهما، واجتماعهما بدومة الجندل سنة 37 من الهجرة. فلذلك قال: "لم أولد إذ ذاك"، لأن سعيد بن جبير رحمه الله قتله الحجاج سنة 95، وهو ابن تسع وأربعين سنة، كأنه ولد سنة 46 من الهجرة، بعد التحكيم. وروي أن سعيد بن جبير دعا ابنه حين دعي ليقتل، فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ = فكأنه ولد - على هذه الرواية سنة 38 من الهجرة، وذلك أيضًا بعد تحكيم الحكمين. (2) في المطبوعة: "الذي جاء الأذى من عنده" لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. وهو من"التدارؤ"، ترك همزه، "تدارأ الرجلان"، أي تشاغبا وخالف أحدهما صاحبه. وفي قول بعض الحكماء: "لا تتعلموا العلم لثلاث، ولا تتركوه لثلاث: لا تتعلموه للتداري، ولا للتماري، ولا للتباهي = ولا تدعوه رغبة عنه، ولا رضًا بالجهل، ولا استحياء من الفعل له". وعنى بقوله: "التداري" هنا الخصومة والتداعي. وانظر الأثر التالي رقم: 9428. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 عن إبراهيم قال: ما حكما من شيء فهو جائز. إن فرّقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين، فهو جائز. وإن فرقا بتطليقة فهو جائز. وإن حكما عليه بجزاء بهذا من ماله، (1) فهو جائز: فإن أصلحا فهو جائز. وإن وضَعا من شيء فهو جائز. 9423 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا أبو جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، قال: ما صنع الحكمان من شيء فهو جائز عليهما. إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما. وإن طلقا واحدة وطلقاها على جُعْل، فهو جائز، (2) وما صنعا من شيء فهو جائز. 9424 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: إن شاء الحكمان أن يفرقا فرّقا. وإن شاءا أن يجمعا جمعَا. 9425 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم، عن حصين، عن الشعبي: أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصموا إلى شريح، فقال شريح: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرِّقا بينهما، فكره ذلك الرجل، فقال شريح: ففيم كانا اليوم؟ وأجاز قولهما. (3) 9426 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال: بعثت   (1) في المطبوعة: "بهذا من ماله"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وليس لها معنى هنا. ورجحت أن صوابها"بجزاء"، لأنه سيأتي في الأثر التالي: "أو طلقاها على جعل" و"الجعل" (بضم فسكون) ، وهو المال المعطى على شيء، أجرًا كان أو غيره. و"الجزاء" البدل، فكأنه يعطي لها بدلا مما لقيت من إساءته، وعقوبة للمسيء. (2) انظر التعليق السالف. (3) الأثر: 9425 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 306. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 أنا ومعاوية حكمين = قال معمر: بلغني أن عثمان رضي الله عنه بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرِّقا فرقتما. (1) 9427 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج قال، حدثني ابن أبي مليكة: أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة ابنة عتبة، فكان بينهما كلام. فجاءت عثمان فذكرت ذلك له، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقنَّ بينهما! وقال معاوية: ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف! فأتياهما وقد اصطلحا. (2) . 9428 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، يكونان عَدْلين عليهما وشاهدين. وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا إلى السلطان، (3) جعل عليهما حكمين: حكمًا من أهل الرجل، وحكمًا من أهل المرأة، يكونان أمينين عليهما جميعًا، وينظران مِن أيهما يكون الفساد. فإن كان من قبل المرأة، أجبرت على طاعة زوجها، وأمِرَ أن يتقي الله ويحسن صحبتها، وينفق عليها بقدر ما آتاه الله، إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان. وإن كانت الإساءة من قبل الرجل، أُمر بالإحسان إليها، فإن لم يفعل قيل له:"أعطها حقها وخَلِّ سبيلها". وإنما يلي ذلك منهما السلطان. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، أن الله خاطب المسلمين بذلك، وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشِّقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما، ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض.   (1) الأثر: 9426 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 306 (2) الأثر: 9427 - رواه الشافعي في الأم 5: 177، 178 من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج، وخرجه البيهقي في السنن 7: 306. (3) انظر تفسير"تدارأ" فيما سلف ص: 326، تعليق: 2. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين، وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين، أو من أقامه في ذلك مقام نفسه. واختلفوا في الزوجين والسلطان، ومن المأمورُ بالبعثة في ذلك: الزوجان، أو السلطان؟ (1) ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين، ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة فيه مختلفة. وإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يكون مخصوصًا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها. (2) وإذْ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الآية، والأمر بقوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، إذْ كان مختلفًا بينهما: هل هما معنيِّان بالأمر بذلك أم لا؟ = وكان ظاهر الآية قد عمهما = فالواجبُ من القول، إذ كان صحيحًا ما وصفنا، صحيحًا أن يقال (3) إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكمًا من قبله لينظر في أمرهما، وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك، لما لَه على صاحبه ولصاحبه عليه، (4) فتوكيله بذلك من وكِّل جائز له وعليه. وإن وكَّله ببعض ولم يوكله بالجميع، كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيًا جائزًا على ما وكله به. وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه. وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له وعليه، (5) أو بما له، أو بما عليه،   (1) في المخطوطة: "الزوجين أو السلطان"، وهو خطأ ظاهر. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "من أجمع الجميع"، وهو خطأ ظاهر، وفساد، والصواب ما أثبت. (3) في المطبوعة حذف"صحيحًا" هذه الثانية، مع أنها مستقيمة لا ضير منها. (4) في المطبوعة: "وكان لكل واحد منهما ممن بعثه من قبله في ذلك طاقة على صاحبه ولصاحبه عليه"، وهو كلام لا يستقيم البتة. وفي المخطوطة: "وكان كل واحد منهما من بعثه من قبله في ذلك لماقه على صاحبه، ولصاحبه عليه"، وظاهر أن قوله"من بعثه" هي: "قد بعثه" وأما قوله: "في ذلك لماقه" فإني رجحت أن صوابها"في ذلك لما له"، وكأنه عنى أنه قد أرسله مملكًا في جميع أمره، في جميع ماله على صاحبه، ولصاحبه عليه. واستأنست في ذلك بالجزء التالي من هذا الكلام. (5) في المطبوعة: "أو لم يوكل واحد من الزوجين" مكان ما في المخطوطة: "وإن لم يوكل" وهو تصرف معيب، فإنه أفسد الكلام، وزادها خلطًا على خلط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 إلا الحكمين كليهما، (1) [لم يجز] إلا ما اجتمعا عليه، دون ما انفرد به أحدهما. (2) وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء، وإنما بعثاهما للنظر بينهما، ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، (3) ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما = لم يكن لهما أن يُحدثا بينهما شيئًا غير ذلك من طلاق، أو أخذ مال، أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدًا منهما شيء من ذلك. (4) * * * فإن قال قائل: وما معنى الحكمين، إذ كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: معنى"الحكم"، النظرُ العدلُ، كما قال الضحاك بن مزاحم في الخبر الذي ذكرناه، الذي:- 9429 - حدثنا به يحيى بن أبي طالب، عن يزيد، عن جويبر عنه: لا أنتما قاضيان تقضيان بينهما= * * * =على السبيل التي بيَّنَّا من قوله. (5) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أنهما القاضيان، يقضيان بينهما ما فوَّض إليهما الزوجان. * * *   (1) في المطبوعة: "فليس للحكمين ... " مكان ما في المطبوعة: "إلا الحكمين"، وزاد الكلام اضطرابًا. (2) الذي بين القوسين، ظاهر جدًا أنه سقط من الناسخ، هو أو ما في معناه. وبهذا استقامت هذه العبارة التي اقتضت من الجهد ما كنا في غنى عنه، لو صحح الناسخ كتابته. (3) في المطبوعة، حذف قوله: "بينهما". (4) في المخطوطة: "لم يلزم" بحذف الواو، والصواب ما في المطبوعة. (5) قوله: "على السبيل التي بينا من قوله"، هذا من كلام الطبري، تعليقًا على سائر كلامه السالف. وعنى بذلك قول الضحاك الذي ذكره آنفًا برقم: 9428. ولو ترك هذا السياق بغير فواصل، لما استطاع أن يفهمه إلا المصابر على المشقات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 قال أبو جعفر: وأي الأمرين كان، فليس لهما، ولا لواحد منهما، الحكم بينهما بالفرقة، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك، وإلا ما لزم من حق لأحد الزوجين على الآخر في حكم الله، وذلك ما لزم الرجلَ لزوجته من النفقة والإمساك بمعروف، إن كان هو الظالم لها. فأما غير ذلك، فليس ذلك لهما، ولا لأحد من الناس غيرهما، لا السلطان ولا غيره. وذلك أن الزوج إن كان هو الظالمَ للمرأة، فللإمام السبيلُ إلى أخذه بما يجب لها عليه من حق. وإن كانت المرأة هي الظالمةَ زوجها الناشزةَ عليه، فقد أباح الله له أخذَ الفدية منها، وجعل إليه طلاقها، على ما قد بيناه في"سورة البقرة". (1) وإذْ كان الأمرُ كذلك، لم يكن لأحدٍ الفرقةُ بين رجل وامرأة بغير رضى الزوج، ولا أخذُ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه، إلا بحجة يجب التسليم لها من أصل أو قياس. وإن بعث الحكمين السلطانُ، فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل الزوج إياهما بذلك، (2) ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضى المرأة. يدل على ذلك ما قد بيناه قبلُ من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك، والقائلين بقوله. (3) ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين، ويتعرفا الظالم منهما من المظلوم، ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما. وإنما قلنا:"ليس لهما التفريق"، للعلة التي ذكرناها آنفًا. وإنما يبعث السلطانُ الحكمين إذا بعثهما، إذا ارتفع إليه الزوجان، فشكا كل واحد منهما صاحبه، وأشكلَ عليه المحقّ منهما من المبطل. لأنه إذا لم يشكل المحق من المبطل، فلا وجه لبعثه الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه. * * *   (1) انظر ما سلف 4: 549-583. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا يجوز لهما" بالواو، والصواب بالفاء. (3) انظر الآثار السالفة من 9407-9409. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 القول في تأويل قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن يريدا إصلاحًا"، إن يرد الحكمان إصلاحًا بين الرجل والمرأة = أعني: بين الزوجين المخوف شقاقُ بينهما = يقول:"يوفق الله" بين الحكمين فيتفقا على الإصلاح بينهما. وذلك إذا صدق كل واحد منهما فيما أفضى إليه: مَنْ بُعِثَ للنظر في أمر الزوجين. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9430 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد في قوله:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: أمَا إنه ليس بالرجل والمرأة، ولكنه الحكمان. 9431 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، قال: هما الحكمان، إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما. 9432 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، وذلك الحكمان، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب. 9433 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، يعني بذلك الحكمين. 9434 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 سعيد بن جبير:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: إن يرد الحكمان إصلاحًا أصلحا. 9435 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، يوفق الله بين الحكمين. 9436 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك قوله:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: هما الحكمان إذا نصحا المرأةَ والرجلَ جميعًا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"إنّ الله كان عليمًا"، بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره ="خبيرًا"، بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما، (1) لا يخفى عليه شيء منه، حافظ عليهم، حتى يجازي كلا منهم جزاءه، بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة غفرانًا أو عقابًا. * * * القول في تأويل قوله جل ذكره: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وذِلُّوا لله بالطاعة، واخضعوا له بها، وأفردوه بالربوبية، وأخلصوا له الخضوع والذلة، بالانتهاء إلى أمره، والانزجار   (1) انظر تفسير"الخبير" فيما سلف 1: 496 / 5: 94، 586. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 عن نهيه، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكًا تعظمونه تعظيمكم إياه. (1) ="وبالوالدين إحسانًا"، يقول: وأمركم بالوالدين إحسانًا = يعني برًّا بهما = ولذلك نصب"الإحسان"، لأنه أمر منه جل ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالدين، على وجه الإغراء. (2) * * * وقد قال بعضهم: معناه:"واستوصوا بالوالدين إحسانًا"، وهو قريب المعنى مما قلناه. * * * وأما قوله:"وبذي القربى"، فإنه يعني: وأمرَ أيضًا بذي القربى = وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه، ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين (3) إحسانًا بصلة رحمه. * * * وأما قوله:"واليتامى"، فإنهم جمع"يتيم"، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك. (4) * * * ="والمساكين" وهو جمع"مسكين"، وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة، فتمسكن لذلك. (5) * * * يقول تعالى ذكره: استوصوا بهؤلاء إحسانًا إليهم، وتعطفوا عليهم، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم. * * *   (1) انظر تفسير"عبد" فيما سلف 1: 160، 161، 362 / 3: 120، 317 / 6: 488. (2) انظر تفسير"وبالوالدين إحسانًا" فيما سلف 2: 290-292. (3) انظر تفسير"ذي القربى" فيما سلف 2: 292 / 3: 344. (4) انظر تفسير"اليتامى" فيما سلف 2: 292 / 3: 345 / 4: 295 / 7: 524، 541. (5) انظر تفسير"المساكين" فيما سلف 2: 137، 293 / 3: 345 / 4: 295 / 7: 116. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 القول في تأويل قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار ذي القرابة والرحم منك. *ذكر من قال ذلك: 9437 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والجار ذي القربى"، يعني: الذي بينك وبينه قرابة. 9438 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والجار ذي القربى"، يعني: ذا الرَّحم. 9439 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"والجار ذي القربى"، قال: جارك، هو ذو قرابتك. 9440 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"والجار ذي القربى"، قالا القرابة. 9441 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والجار ذي القربى"، قال: جارك الذي بينك وبينه قرابة. 9442 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والجار ذي القربى"، جارك ذو القرابة. 9443 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والجار ذي القربى"، إذا كان له جار له رحم، فله حقَّان اثنان: حق القرابة، وحق الجار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 9444 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والجار ذي القربى"، قال: الجار ذو القربى، ذو قرابتك. * * * وقال آخرون: بل هو جارُ ذي قرابتك. *ذكر من قال ذلك: 9445 - حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن ميمون بن مهران في قوله:"والجار ذي القربى" قال: الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك. * * * قال أبو جعفر: وهذا القول قولٌ مخالفٌ المعروفَ من كلام العرب. وذلك أن الموصوف بأنه"ذو القرابة" في قوله:"والجار ذي القربى"،"الجار" دون غيره. فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة. ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل:"وجار ذي القربى"، ولم يُقَل:"والجار ذي القربى". فكان يكون حينئذ = إذا أضيف"الجار" إلى"ذي القرابة" = الوصية ببرّ جار ذي القرابة، (1) دون الجار ذي القربى. وأما و"الجار" بالألف واللام، فغير جائز أن يكوى"ذي القربى" إلا من صفة"الجار". وإذا كان ذلك كذلك، كانت الوصية من الله في قوله:"والجار ذي القربى" ببرّ الجار ذي القربى، (2) دون جار ذي القرابة. وكان بينًا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "الوصية بين جار ذي القرابة"، وهو كلام لا معنى له، وهو تصحيف وتحريف، صوابه ما أثبت. (2) في المخطوطة والمطبوعة هنا أيضًا: "بين الجار ذي القربى"، وهو خطأ وتصحيف كما أسلفت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربى منكم بالإسلام. *ذكر من قال ذلك: 9446 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن نَوْف الشامي:"والجار ذي القربى"، المسلم. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا أيضًا مما لا معنى له. وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى، غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب الذين نزل بلسانهم القرآن، المعروفِ فيهم، (2) دون الأنكر الذي لا تتعارفه، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك = وكان معلومًا أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل:"فلان ذو قرابة"، إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه، دون القرب بالدين = كان صرفه إلى القرابة بالرحم، أولى من صرفه إلى القرب بالدين. * * * القول في تأويل قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه. *ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 9446 -"نوف الشامي"، هو: نوف بن فضالة الحميري البكالي، مضت ترجمته برقم: 3965، وسيأتي في رقم: 9456. (2) "المعروف" بالكسر، صفة لقوله: "إلى الأغلب". وفي المطبوعة: "المعروف وفيهم"، وهو خطأ في الطباعة ولا شك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 9447 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والجار الجنب"، الذي ليس بينك وبينه قرابة. 9448 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والجار الجنب"، يعني: الجار من قوم جنب. 9449 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والجار الجنب"، الذي ليس بينهما قرابة، وهو جار، فله حق الجوار. 9450 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والجار الجنب"، الجار الغريب يكون من القوم. 9451 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والجار الجنب"، جارك من قوم آخرين. 9452 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والجار الجنب"، جارك لا قرابة بينك وبينه، البعيد في النسب وهو جار. 9453 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"والجار الجنب"، قال: المجانب. 9454 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والجار الجنب"، الذي ليس بينك وبينه رَحمٌ ولا قرابة. (1)   (1) في المطبوعة: " ... وجه ولا قرابة"، وهو لا معنى له، والصواب من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 9455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"والجار الجنب"، قال: من قوم آخرين. * * * وقال آخرون: هو الجار المشرك. *ذكر من قال ذلك: 9456 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي:"والجار الجنب"، قال: اليهوديّ والنصرانيّ. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال:"معنى، الجنب، في هذا الموضع: الغريبُ البعيد، مسلمًا كان أو مشركًا، يهوديًا كان أو نصرانيًا"، لما بينا قبل من أن"الجار ذي القربى"، هو الجار ذو القرابة والرحم. والواجب أن يكون"الجار ذو الجنابة"، الجار البعيد، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران قريبهم وبعيدهم. * * * وبعد، فإن"الجُنب"، في كلام العرب: البعيد، كما قال أعشى بني قيس: أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطَائِي جَامِدَا (2)   (1) الأثر: 9456 -"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضت ترجمته برقم: 5796، وهو يروي عن سفيان الثوري، وعن شيبان بن عبد الرحمن التميمي. وقد جاء في هذا الإسناد في المطبوعة"شيبان، عن أبي إسحاق"، وكذلك هو في المخطوطة، ولكنه كتب"شيبان" كتابة سيئة، كتابة شاك في قراءتها. وقد سلف في الإسناد رقم: 9446 قريبًا"سفيان، عن أبي إسحاق" واضحة جدًا في المخطوطة، فرجحتها لذلك، وأثبتها هنا. وانظر التعليق على الأثر: 9446. (2) ديوانه: 49، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 126، الكامل 2: 26، وسيأتي في التفسير 20: 26 (بولاق) من قصيدة هجا فيها الحارث بن وعلة بن مجالد بن زبان الرقاشي، وكان جاء يسأله فقال له: "ولا كرامة!! ألست القائل: أَلا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي حُرَيْثًا ... مُغَلْغَلَةً? أَحَانَ أَمِ ادَّرَانَا? تهجوني وتصغرني، ثم تسألني!! = فكان مما قال له بعد البيت السالف، فأوجعه: لَعَمْرُكَ مَا أَشْبَهْتَ وَعْلَةَ فَي النَّدَى ... شَمَائِلَهُ، وَلا أَباهُ المُجَالِدَا إذَا زَارَهُ يَوْمًا صَدِيقٌ، كأنَّما ... يَرَى أُسُدًا فِي بَيْتِهِ وَأَسَاوِدَا في شعر كثير، و"حريث" تصغير"الحارث"، تصغير ترخيم، وقياسه"حويرث". ورجل"جامد الكف، وجماد الكف": بخيل لا تلين صفاته. وكان في المطبوعة هنا: "جاهدا" وهو خطأ، وفي الموضع الآخر من التفسير: "جاحدا" وهو خطأ أيضًا. وروى هنا: في عطائي"، وروايته في التفسير 20: 26"عن عطائي" وهي المطابقة لرواية المراجع السالفة جميعًا، ولا بأس بها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 يعني بقوله:"عن جنابة"، عن بعد وغُربة. ومنه، قيل:"اجتنب فلان فلانًا"، إذا بعد منه ="وتجنّبه"، و"جنَّبه خيره"، إذا منعه إياه. (1) ومنه قيل للجنب:"جُنُب"، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل. فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك. فقال بعضهم: هو رفيق الرجل في سَفره. *ذكر من قال ذلك: 9457 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) في المطبوعة: "وتجنبه خيره"، أسقط: "وجنبه" بين الكلامين، ففسد السياق، والصواب من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والصاحب بالجنب"، الرفيق. 9458 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير قال: سمعت سعيد بن جبير يقول:"والصاحب بالجنب"، الرفيق في السفر. (1) 9459 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"والصاحب بالجنب"، صاحبك في السفر. 9460 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والصاحب بالجنب"، وهو الرفيق في السفر. 9461 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والصاحب بالجنب"، الرفيق في السفر، منزله منزلك، وطعامه طعامك، ومسيره مسيرك. 9462 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد:"والصاحب بالجنب"، قالا الرفيق في السفر. 9463 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن علي وعبد الله قالا"الصاحب بالجنب"، الرفيق الصالح.   (1) الأثر: 9458 -"أبو بكير التيمي"، مؤذن لتيم، واسمه"مرزوق". روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد. وروى عنه ليث بن أبي سليم، وإسرائيل، وسفيان الثوري، وشريك. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "أبو بكر" وهو خطأ، صوابه ما أثبت من المخطوطة. وسيأتي على الصواب في رقم: 9467، 9468. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 9464 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني سليم، عن مجاهد قال:"الصاحب بالجنب"، رفيقك في السفر، الذي يأتيك ويده مع يدك. 9465 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، قراءة على ابن جريج قال، أخبرنا سليم: أنه سمع مجاهدًا يقول:"والصاحب بالجنب"، فذكر مثله. 9466 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والصاحب بالجنب"، الصاحب في السفر. 9467 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير،"والصاحب بالجنب"، الرفيق الصالح. 9468 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير مثله. 9469 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والصاحب بالجنب"، قال: الرفيق في السفر. 9470 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله. * * * وقال آخرون: بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه. *ذكر من قال ذلك: 9471- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر = أو القاسم = عن علي وعبد الله رضوان الله عليهما:"والصاحب بالجنب"، قالا هي المرأة. (1)   (1) قوله: "رضوان الله عليهما"، زيادة من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 9472 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن جابر، عن علي وعبد الله مثله. 9473 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والصاحب بالجنب"، يعني: الذي معك في منزلك. 9474 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنه قال في هذه الآية:"والصاحب بالجنب"، قال: هي المرأة. 9475 - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم:"والصاحب بالجنب"، قال: المرأة. 9476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال الثوري، قال أبو الهيثم، عن إبراهيم: هي المرأة. 9477 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله. 9478 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله. 9479 - حدثني عمرو بن بَيْذَق قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله. (1) * * * وقال آخرون: هو الذي يلزمك ويصحبك رَجاء نفعك. *ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 9479 -"عمرو بن بيذق" (بالذال المعجمة) هكذا في المخطوطة، شيخ الطبري، لم أعرف له ترجمة، وقد روى عنه في كتاب تاريخ الصحابة والتابعين، الملحق بالتاريخ ص: 86، وكتبه هناك"عمرو بين بيدق" بالدال المهملة، وكأن الأول أصح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 9480 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"الصاحب بالجنب"، الملازم = وقال أيضًا: رفيقك الذي يرافقك. 9481 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"والصاحب بالجنب"، الذي يلصق بك، وهو إلى جنبك، ويكون معك إلى جنبك رجاءَ خيرك ونفعك. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى:"الصاحب بالجنب"، الصاحب إلى الجنب، كما يقال:"فلان بجَنب فلان، وإلى جنبه"، وهو من قولهم:"جَنَب فلانٌ فلانًا فهو يجنُبُه جَنْبًا"، إذا كان لجنبه. (1) ومن ذلك:"جَنَب الخيل"، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا: الرفيقُ في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاءَ نفعه، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريبٌ منه. وقد أوصى الله تعالى بجميعهم، لوجوب حق الصاحب على المصحوب، وقد:- 9482 - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن فلان بن عبد الله، عن الثقة عنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وسلم في غَيْضِة طرفاء، (2) فقطع قَصِيلين، أحدهما معوجٌّ، والآخر معتدل، (3) فخرج بهما،   (1) هذا النص من تفسير اللغة، قلما تجده في كتاب من كتب اللغة. (2) "الغيضة"، مكان يجتمع فيه الماء ويفيض، فينبت فيه الشجر ويلتف، والجمع"غياض". و"الطرفاء" من شجر العضاء، وهدبه مثل هدب الأثل، وليس له خشب، إنما يخرج عصيًا سمحة في السماء، وقد تتحمض به الإبل، إذا لم تجد حمضًا غيره. (3) في المطبوعة: "فصيلين" بالفاء، ولا معنى لها، وفي المخطوطة: "فصيلين" غير منقوطة، وفي الدر المنثور: "فصلين" وليس لها معنى. و"القصيل" بالقاف: ما اقتصل (أي: اقتطع) من الزرع أخضر، ومنه: "القصيل" وهو الذي تعلف به الدواب. يقال: "قصل الدابة"، أي: علفها القصيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 فأعطى صاحبه المعتدل، وأخذ لنفسه المعوج، فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أنت أحق بالمعتدل مني! فقال:"كلا يا فلان، إن كل صاحب يصحب صاحبًا، مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار. (1) 9483 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة قال، حدثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن خير الأصحاب عند الله تبارك وتعالى، خيرهم لصاحبه. وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره. (2) * * * قال أبو جعفر: فإذ كان"الصاحب بالجنب"، محتملا معناه ما ذكرناه: (3) من أن يكون داخلا فيه كل من جَنَب رجلا بصحبةٍ في سفر، (4) أو نكاح، أو انقطاع إليه واتصال به = (5) ولم يكن الله جل ثناؤه خصّ بعضَهم مما احتمله ظاهر التنزيل   (1) الأثر: 9482 -"سهل بن موسى الرازي" انظر ما كتبت عنه برقم: 4319، وقبله رقم: 180. وأما "ابن أبي فديك" فهو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، مضت ترجمته برقم: 4319. وهذا الأثر على إرساله ضعيف، لجهالة من روى عنهم ابن أبي فديك. ولم أجده إلا في الدر المنثور 2: 159، ولم ينسبه لغير ابن جرير. (2) الأثر: 9483 - رواه أحمد في مسنده رقم: 6566 من طريق عبد الله بن يزيد، عن حيوة وابن لهيعة، بمثله، والحاكم في المستدرك 4: 164، والترمذي: 3: 129، من طريق عبد الله بن المبارك، كرواية الطبري. قال أخي السيد أحمد: "إسناده صحيح". و"أبو عبد الرحمن الحبلي"، هو: عبد الله بن يزيد المعافري، مضت ترجمته برقم: 6657. (3) في المطبوعة: "وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه"، أسقط"محتملا"، لأنها كتبت في المخطوطة"متصلا" مختلطة الكتابة، فلم يحسن قراءتها فحذفها، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها. أما ما كان في المطبوعة والمخطوطة من قوله: "وإن كان"، فهو خطأ محض لا تستقيم به الجملة، صوابه ما أثبت: "فإذ كان". (4) في المطبوعة: "يصحبه في سفر"، وهو خطأ معرق يختل به سياق الكلام. وهو في المخطوطة غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. (5) قوله: "ولم يكن الله" معطوف على قوله: "فإذ كان الصاحب". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 = (1) فالصواب أن يقال: جميعهم معنيّون بذلك، وكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"ابن السبيل"، هو المسافر الذي يجتاز مارًا. *ذكر من قال ذلك: 9484 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة = وابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابن السبيل"، هو الذي يمر عليك وهو مسافر. 9484م - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة مثله. 9485 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وابن السبيل"، قال: هو المارُّ عليك، وإن كان في الأصل غنيًّا. * * * وقال آخرون: هو الضيف. *ذكر من قال ذلك: 9486 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) قوله"فالصواب"، جواب قوله: "فإذ كان الصاحب ... فالصواب أن يقال". (2) في المطبوعة: "وبكلهم قد أوصى ... "، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وابن السبيل"، قال: الضيف، له حق في السفر والحضر. 9487 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابن السبيل"، وهو الضيف. 9488 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"وابن السبيل"، قال: الضيف. 9489 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن"ابن السبيل"، هو صاحب الطريق = و"السبيل": هو الطريق، وابنه: صاحبه الضاربُ فيه (1) = فله الحق على من مرّ به محتاجًا منقطَعًا به، إذا كان سفره في غير معصية الله، أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والذين ملكتموهم من أرقائكم = فأضاف"الملك" إلى"اليمين"، كما يقال:"تكلم فوك"، و"مشَتْ رجلك"، و"بطشت يدك"، بمعنى: تكلمتَ، ومشيتَ، وبطشتَ. غير أن ما وصف به كل   (1) انظر تفسير"ابن السبيل" فيما سلف 3: 345-347 / 4: 295 = وتفسير"السبيل" في 2: 497، وسائر فهارس اللغة. (2) "الحملان" (بضم الحاء وسكون الميم) : ما يحمل عليه من الدواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 عضو من ذلك، فإنما أضيف إليه ما وُصف به (1) لأنه بذلك يكون، في المتعارف في الناس، دون سائر جوارح الجسد. فكان معلومًا = بوصف ذلك العضو بما وصف به من ذلك = المعنى المراد من الكلام. فكذلك قوله:"وما ملكت أيمانكم"، لأن مماليك أحدنا تحت يديه، (2) إنما يَطعم ما تُناوله أيماننا، ويكتسي ما تكسوه، (3) وتصرِّفه فيما أحبَّ صرفه فيه بها. فأضيف ملكهم إلى"الأيمان" لذلك. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9490 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما ملكت أيمانكم"، ممّا خوّلك الله. كل هذا أوصى الله به. * * * قال أبو جعفر: وإنما يعني مجاهد بقوله:"كل هذا أوصى الله به"، الوالدين، وذا القربى، واليتامى، والمساكين، والجار ذا القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل. فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عبادَه إحسانًا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم. فحقٌّ على عباده حفظ وصية الله فيهم، ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه. * * *   (1) في المطبوعة: "ما وصفت به" في الموضعين، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يده"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "ونكسي ما يكسوه"، وهو خطأ صوابه من المخطوطة، وأفعال هذه الجملة إلى آخرها غير منقوطة في المخطوطة، فأساء ناشر المطبوعة وضع النقط عليها، فاختل معناها، فقد كان فيها: " ... نطعم ... ونكسي ... ونصرفه"، والصواب ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن الله لا يحبّ من كان مختالا"، إن الله لا يحب من كان ذا خُيَلاء. و"المختال:"المفتعل"، من قولك:"خال الرجل فهو يخول خَوْلا وخَالا"، (1) ومنه قول الشاعر: (2) فَإنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وإنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخُلْ (3) ومنه قول العجاج: وَالْخَالُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْجُهَّالْ (4)   (1) هذا أحد وجهي الكلام، والآخر: "خال يخال خيلا وخالا"، بالياء، ورجحه بعضهم لأنه من"الخيلاء". (2) هو أنس بن مساحق العبدي، رجل من عبد القيس. (3) حماسة أبي تمام 1: 133، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 127، واللسان (خيل) . وقبل البيت: أَلا أبْلِغَا خُلَّتِي رَاشِدًا ... قَدِيمًا، وصِنْوِي إذَا ما تَصِلْ بِأَنَّ الدَّقِيقَ يَهِيجُ الْجَلِيلَ ... وَأَنَّ الْعَزِيزَ لإذا سَاءَ ذَلْ وَأَنَّ الْحَزَامَةَ أَنْ تَصْرِفُوا ... لِحَيٍّ سِوَانَا صُدُورَ الأسَلْ وتقول في البيت"فخل" بضم الخاء وبفتحها، أي: اذهب فاختل ما شاءت لك الخيلاء. (4) وَالدَّهْرُ فِيهِ غَفْلَةٌ لِلْغُفَّالْ ... وَالْمَرْءُ يُبْلِيهِ بَلاء السِّرْبالْ كَرُّ الَّليَالِي وَاخْتِلافُ الأحْوَالْ وكان في المطبوعة: "ثياب الجمال"، وهو تصحيف، صوابه في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 وأما"الفخور"، فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه، وبسط له من فضله، ولا يحمده على ما أتاه من طَوْله، ولكنه به مختال مستكبر، وعلى غيره به مُسْتطيل مفتخر. كما:- 9491 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الله لا يحب من كان مختالا"، قال: متكبرًا، ="فخورا"، قال: يعدّ ما أُعطي، وهو لا يشكر الله. 9492 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهرويّ قال: لا تجد سيِّئ الملِكة إلا وجدته مختالا فخورًا. (1) وتلا"وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورًا" = ولا عاقًّا إلا وجدته جبارًا شقيًا. وتلا (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [سورة مريم: 32] * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يحب المختال الفخور، الذي يبخل ويأمر الناسَ بالبخل. = فـ"الذين" يحتمل أن يكون في موضع رفع، ردًّا على ما في قوله:"فخورًا"، من ذِكرٍ = (2) ويحتمل أن يكون نصبًا على النعت ل"مَنْ".   (1) "الملكة" (بفتح الميم واللام) و (بكسر الميم وسكون اللام) ، وهو الذي يسيء إذا ملك شيئًا، فتجبر وتغطرس، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة سيئ الملكة"، وهو الذي يسيء إلى مماليكه أو إلى ما يقع تحت سلطانه. (2) في المطبوعة: "من ذم"، ولا معنى له البتة. والصواب من المخطوطة، والمراد بقوله: "ذكر"، الضمير، وقد رد هذا الوجه أبو حيان في تفسيره 3: 247، ولم ينسبه للطبري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 و"البخل" في كلام العرب: منع الرجل سائله ما لديه وعنده ما فضل عنه، (1) كما:- 9493 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه ="والشح": أن يشٍح على ما في أيدي الناس. قال: يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحِلِّ والحرام، لا يقنع. واختلفت القرأة في قراءة قوله:"ويأمرون الناس بالبخل". * * * فقرأته عامة قرأة أهل الكوفة:"بِالْبَخَلِ" بفتح"الباء" و"الخاء". وقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين بضم"الباء":"بِالْبُخْلِ". قال أبو جعفر: وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد، وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في قراءته. * * * وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، الذين كتموا اسمَ محمد صلى الله عليه وسلم وصفته من اليهود ولم يبينوه للناس، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. *ذكر من قال ذلك: 9494 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "من فضل عنه"، وكأن الصواب المحض ما أثبت. وتفسير"البخل" هذا قلما تصيبه في كتب اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 الله من فضله"، قال: هم اليهود، بخلوا بما عندهم من العلم وكَتَموا ذلك. 9495 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" إلى قوله:"وكان الله بهم عليما"، ما بين ذلك في يهود. 9496 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9497 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، وهم أعداءُ الله أهلُ الكتاب، بخلوا بحقّ الله عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. 9498 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، فهم اليهود ="ويكتمون ما آتاهم الله من فضله"، اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم = (1) وأما:"يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، يبخلون باسم محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرُ بعضهم بعضًا بكتمانه. 9499 - حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال، حدثني أبو جعفر الرازي قال، حدثنا يحيى، عن عارم، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، في قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، قال: هذا للعلم، ليس للدنيا منه شيء. 9500 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، قال: هؤلاء يهود. وقرأ:"ويكتمون ما آتاهم الله من فضله"، قال: يبخلون بما آتاهم الله من الرزق،   (1) في المطبوعة: "أو: يبخلون ... "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب. إذا سئلوا عن الشيء وما أنزل الله كتموه. وقرأ: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) [سورة النساء: 53] من بخلهم. 9501 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان كَرْدَم بن زيد، حليفُ كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبَحْريّ بن عمرو، وحُيَيّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالا من الأنصار، = وكانوا يخالطونهم، ينتصحون لهم = من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون! فأنزل الله فيهم:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله"، أي: من النبوة، (1) التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ="وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"، إلى قوله:"وكان الله بهم عليمًا". (2) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية على التأويل الأول: والله لا يحبّ ذوي الخُيلاء   (1) في ابن هشام: "أي: من التوراة"، وهي أجود الروايتين، إن لم تكن هذه التي هنا من سهو الناسخ. ولكني خشيت أن يكون لها وجه، فتركتها. (2) الأثر: 9501 - رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته 2: 208، 209، وهو تابع الآثار التي آخرها: 8338 فيما مضى قديمًا. أما "كردم بن زيد" فإنه في سيرة ابن هشام: "كردم بن قيس"، وهو المذكور في سيرة ابن هشام 2: 160، أيضًا أنه حليف كعب بن الأشرف، من بني النضير. أما "كردم بن زيد" في رواية الطبري عن ابن إسحاق، فقد ذكره ابن هشام في سيرته 2: 162، وعده من بني قريظة. هذا، والذين ذكرهم في هذا الأثر من اليهود منسوبون في سيرة ابن هشام، وهذه نسبتهم: "كردم بن قيس" و"حيي بن أخطب" من بني النضير = و"كردم بن زيد"، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، من بني قريظة = وبحري بن عمرو، ورفاعة بن زيد بن التابوت، من بني قينقاع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 والفخر، الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم الله بتبيينه للناس، من اسم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه، وهم به عالمون = ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك مثل علمهم، بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له، ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته مَنْ حرّم الله عليه كتمانه إيّاه. * * * وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد:"إن الله لا يحب من كان مختالا فخورًا"، الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم، ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآية، بالبخل بتعريف من جهل أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم أنه حقّ، وأنّ محمدًا لله نبيّ مبعوث، وغير ذلك من الحق الذي كان الله تعالى ذكره قد بيّنه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه. فبخل بتبيينه للناس هؤلاء، وأمروا من كانت حاَله حالَهم في معرفتهم به: أن يكتموه من جَهِل ذلك، ولا يبيِّنوه للناس. وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل، ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمرُ الناس بالبخل ديانةً ولا تخلُّقًا، بل ترى ذلك قبيحًا وتذمَّ فاعله؛ (1) وَتمتدح - وإن هي تخلَّقَت بالبخل واستعملته في أنفسها - بالسخاء والجود، (2) وتعدُّه من مكارم   (1) في المطبوعة: "ويذم فاعله" بالياء، وهو خطأ في قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، واستتبع هذا الخطأ من ناشر المطبوعة أن يغير ما كان في المخطوطة، إذا اختلطت معاني الكلام عليه، كما سترى. (2) في المطبوعة: "ولا يمتدح ... فالسخاء، تعده ... "، لما أخطأ في قراءة الكلمة السالفة، غير ما في المخطوطة كل التغيير زاد"لا" في"ويمتدح"، وجعل"بالسخاء""فالسخاء"، وجعل"وتعده"، "تعده" بحذف الواو = أراد أن تستقيم العبارة ففسدت فسادًا مطلقًا بلا قيد ولا شرط!! هذا، وسياق الجملة: "بل ترى ذلك قبيحًا وتذم فاعله، وتمتدح ... بالسخاء والجود، وتعده من مكارم الأخلاق"، وأتى بقوله: "وإن هي تخلقت بالبخل، واستعملته في أنفسها"، اعتراضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 الأفعال وتحثُّ عليه. ولذلك قلنا: إنّ بخلهم الذي وصفهم الله به، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه، دون البخل بالأموال = إلا أن يكون معنى ذلك: الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وُسُبله، ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك. فيكون بخلهم بأموالهم، وأمرهم الناس بالبخل، بهذا المعنى (1) - على ذكرنا من الرواية عن ابن عباس - فيكون لذلك وجه مفهومٌ في وصفهم بالبخل وأمرِهم به. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) } قال أبو جعفر: يعني: بذلك جل ثناؤه:"وأعتدنا"، وجعلنا للجاحدين نعمة الله التي أنعم بها عليهم، (2) من المعرفة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين به بعد علمهم به، الكاتمين نعته وصفته مَنْ أمرَهم الله ببيانه له من الناس ="عذابًا مهينًا"، يعني: العقابَ المذلّ مَن عُذِّب بخلوده فيه، (3) عَتادًا له في آخرته، إذا قَدِم على ربه وَجدَه، بما سلف منه من جحوده فرضَ الله الذي فرضَه عليه. (4) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة"فهذا المعنى"، والصواب ما أثبته، وسياقه: فيكون بخلهم بأموالهم ... بهذا المعنى ... (2) انظر تفسير: "أعتدنا" فيما سلف 8: 103. (3) انظر تفسير: "المهين" فيما سلف 2: 347، 348 / 7: 423 / 8: 72. (4) في المطبوعة: "وآخذه بما سلف ... " والصواب ما في المخطوطة، فإن أول هذه الجملة"إذا قدم على ربه، وجد ... "، وهو تفسير"العتاد". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف الله صِفَتهم، عذابًا مهينًا ="والذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس." * * * و"الذين" في موضع خفضٍ، عطفًا على"الكافرين". * * * وقوله:"رئاء الناس"، يعني: ينفقه مُراءاة الناس، في غير طاعة الله أو غير سبيله، ولكن في سبيل الشيطان (1) ="ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"، يقول: ولا يصدقون بوحدانية الله، ولا بالمَعَاد إليه يوم القيامة (2) - الذي فيه جزاء الأعمال - أنه كائن. (3) * * * وقد قال مجاهد (4) إن هذا من صفة اليهود! وهو بصفة أهل النفاق الذين كانوا أهلَ شرك، (5) فأظهروا الإسلام تقيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلِ الإيمان به، وهم على كفرهم مقيمون = (6) أشبه منه بصفة اليهود. لأن اليهود كانت توحِّد الله وتصدّق بالبعث والمعاد. وإنما كان كفرُها، تكذيبَها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. * * *   (1) انظر تفسير"رئاء" فيما سلف 5: 521، 522. (2) في المطبوعة: "ولا بالميعاد". (3) قوله: "أنه كائن"، سياقه"ولا يصدقون بالمعاد ... أنه كائن". (4) يعني في الأثر رقم: 9495. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو صفة أهل النفاق"، وهو لا يستقيم، كما سترى في التعليق التالي. (6) السياق: "وهو بصفة أهل النفاق ... أشبه منه بصفة اليهود"، فصح التصحيح السالف. أما ناشر المطبوعة، فإنه لما رأى الكلام غير مستقيم، كتب: "أشبه منهم بصفة اليهود"، فزاد الكلام فسادًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 وبعدُ، ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وصفة الفريق الآخر الذين وصفهم في الآية قبلها، وأخبر أنّ لهم عذابًا مهينًا = بـ "الواو" الفاصلة بينهم = (1) ما ينبئ عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني، وإن كان جميعهم أهلَ كفر بالله. (2) ولو كانت الصفتان كلتاهما صفة نوع من الناس، لقيل إن شاء الله:"وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"،"الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس"، ولكن فصل بينهم بـ "الواو" لما وصفنا. * * * فإن ظن ظان أن دخول"الواو" غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب = فإنّ ذلك، (3) وإن كان كذلك، فإن الأفصح في كلام العرب إذا أريد ذلك، ترك إدخال"الواو". وإذا أريد بالثاني وصفٌ آخر غير الأوّل، إدخال"الواو". (4) وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأشهر من كلام مَنْ نزل بلسانه كتابُه، أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم. * * *   (1) السياق: ففي فصل الله ... بالواو الفاصلة بينهم، ما ينبئ". (2) في المطبوعة: "وإن كان جمعهم"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة، وهي غير منقوطة. (3) في المطبوعة: "في كلام العرب. قيل ذلك وإن كان كذلك"، والذي دعا ناشر المخطوطة إلى ذلك أن الناسخ كتب"العربفان" وصل"باء""العرب"، بفاء"فإن"، فاجتهد المصحح. (4) في المطبوعة: "أدخل الواو"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يكن الشيطان له خليلا وصاحبًا، يعمل بطاعته، ويتبع أمره، ويترك أمرَ الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات ="فساء قرينًا"، يقول: فساء الشيطان قرينًا. * * * وإنما نصب"القرين"، لأن في"ساء" ذكرًا من الشيطان، كما قال جل ثناؤه: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) [سورة الكهف: 50] ، وكذلك تفعل العرب في"ساء" ونظائرها (1) = ومنه قول عدي بن زيد: عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ، وأبْصِرْ قَرِينَهُ ... فَإنَّ الْقَرِينَ بِالمُقَارِنِ مُقْتَدِ (2) يريد: بـ "القرين"، الصّاحبَ والصديق. * * *   (1) انظر ما سلف في"ساء" 8: 138، تعليق: 8، ومعاني القرآن للفراء 1: 267-269، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 127. (2) ديوانه، في شعراء الجاهلية: 466، ومجموعة المعاني: 14، وغيرهما كثير. وقد أثبت البيت كما رواه أبو جعفر، وكما جاء في المخطوطة، أما ناشر المطبوعة فقد غيره، وأثبت ما درج عليه من الرواية: عَنِ الْمَرْءِ لا تَسأَل وسَلْ عَنْ قَرِينِه ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارن يَقْتَدِي وهو سوء تصرف لا شك فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 القول في تأويل قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأيّ شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ="لو آمنوا بالله واليوم الآخر"، لو صدّقوا بأن الله واحدٌ لا شريك له، وأخلصوا له التوحيد، وأيقنوا بالبعث بعد الممات، وصدّقوا بأن الله مُجازيهم بأعمالهم يوم القيامة ="وأنفقوا مما رزقهم الله"، يقول: وأدّوا زكاة أموالهم التي رَزَقهم الله وأعطاهموها، طيبةً بها أنفسهم، ولم ينفقوها رئاء الناس، التماس الذكر والفخر عند أهل الكفر بالله، والمحمدة بالباطل عند الناس ="وكان الله"، بهؤلاء الذين وصَف صفتهم أنهم ينفقون أموالهم رئاء الناس نفاقًا، وهم بالله واليوم الآخر مكذّبون ="عليمًا"، يقول: ذا علم بهم وبأعمالهم، (1) وما يقصدون ويريدون بإنفاقهم ما ينفقون من أموالهم، وأنهم يريدون بذلك الرَياء والسُّمعة والمحمدة في الناس، وهو حافظ عليهم أعمالهم، لا يخفَى عليه شيء منها، حتى يجازيهم بها جزاءهم عند مَعادهم إليه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم   (1) في المخطوطة: "ذو علم" بالرفع، ولا بأس به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله"، فَإن الله لا يبخس أحدًا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه، من ثواب نفقته في الدنيا، ولا من أجرها يوم القيامة ="مثقال ذَرّة"، أي: ما يزنها ويكون على قدر ثِقَلها في الوزن، ولكنه يجازيه به ويُثيبه عليه، كما:- 9502 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: أنه تلا"إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تَك حسنةً يضاعفها"، قال: لأنْ تفضُل حسناتي في سيئاتي بمثقال ذرّة، أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها. (1) 9503 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان بعض أهل العلم يقول: لأنْ تفضُل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذَرّة أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعًا. * * * وأما"الذرة" فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها، كما:- 9504 - حدثني إسحاق بن وهب الواسطيّ قال، حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"مثقال ذرة"، قال: رأس نَملة حَمراء. (2) * * * = قال أبو جعفر: قال لي إسحاق بن وهب: قال يزيد بن هارون: زعموا أن هذه   (1) غفرانك اللهم! إن ناشر المطبوعة يسيء إساءات لا عداد لها في تحريف الكلام، وتصرفه على غير أصل من فهم أو أمانة، فلم يحسن قراءة المخطوطة كما أثبتها، فجعل ما فيها لغوًا وكتب مكانه"لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرة، أحب إلي من الدنيا وما فيها". ولا أدري، ما كان أغناه عن مثل هذا العمل المنكر! (2) الأثر: 9504 -"إسحاق بن وهب بن زياد العلاف" أبو يعقوب الواسطي. روى عنه البخاري، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم. مترجم في التهذيب. و"أبو عاصم" هو: الضحاك بن مخلد. مضى مرارًا. و"شيب بن بشر" روى عن أنس، وعكرمة، ثقة لين الحديث، يخطئ كثيرًا. مترجم في التهذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 الذرّة الحمراء، ليس لها وزن. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك صحّت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 9505 - حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً، يُثابُ عليها الرزق في الدنيا، ويجزَى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بها في الدنيا، فإذا كان يومُ القيامة لم تكن له حسنةً. (2) حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا هشام بن سعد قال، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: والذي نَفسي بيده، ما أحدكم بأشدّ مُناشَدَةً في الحق يراه مصيبًا له، من المؤمنين في إخوانهم إذا رأوا أن قد خَلصُوا من النار، يقولون:"أي ربنا، إخواننا، كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، ويجاهدون معنا، قد أخذتهم النار"! فيقول الله لهم:"اذهبوا، فمن عرفتم صورته فأخرجوه"! ويحرِّم صورتهم على النار، فيجدون الرجل قد أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، وإلى ركبتيه، وإلى حَقْويه، فيخرجون منها بشرًا كثيرًا، ثم يعودون فيتكلمون، فيقول:"اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط خير فأخرجوه"! فيخرجون منها بشرًا كثيرًا. ثم   (1) في المطبوعة: "إن هذه الدودة الحمراء"، وهو خطأ محض، وفي المخطوطة: "إن هذه الدود الحمراء"، وهو تحريف. (2) الحديث: 9505 - أبو داود: هو الطيالسي. "عمران": هو ابن داور القطان. والحديث في مسند الطيالسي: 2011، بهذا الإسناد. ورواه الإمام أحمد في المسند، من طريق همام، عن قتادة: 12264، 12291، 14063 (ج3 ص123، 125، 283 حلبي) . وكذلك رواه مسلم 2: 344-345، من طريق همام. ثم رواه من طرق أخر. وذكره ابن كثير 2: 450، من رواية الطيالسي. وذكره السيوطي 2: 163، ونسبه لهؤلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 يعودون فيتكلمون، فلا يزال يقولُ لهم ذلك حتى يقول:"اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذَرّة فأخرجوه" = فكان أبو سعيد إذا حدَّث بهذا الحديث قال: إن لم تصدقوا، فاقرأوا:"إنّ الله لا يظلم مثقال ذَرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا" = فيقولون:"رَبنا لم نَذرْ فيها خيرًا". (1) 9507 - وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2) * * * وقال آخرون في ذلك، بما:- 9508 - حدثني به المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا صدقة بن أبي سهل قال، حدثنا أبو عمرو، عن زاذان قال: أتيت ابن مسعود فقال:   (1) الحديث: 9506 - جعفر بن عون بن عمرو بن حريث، المخزومي الكوفي: ثقة. أخرج له الجماعة. والحديث قطعة من حديث طويل في الشفاعة. رواه الأئمة في الدواوين من أوجه كثيرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: فرواه الطيالسي: 2179، عن خارجة بن مصعب، عن زيد. ورواه أحمد في المسند: 11144 (3: 16-17 حلبي) ، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن زيد. ورواه أيضًا: 11922 (3: 94-95 حلبي) ، من طريق معمر، عن زيد. ورواه مسلم 1: 66-67، من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد. ثم رواه - ولم يذكر لفظه - من طريق جعفر بن عون، عن هشام بن سعد. وهي الطريق التي رواها الطبري هنا. وستأتي الإشارة إلى رواية البخاري، في الحديث التالي. (2) الحديث: 9507 -"الليث": هو ابن سعد. خالد بن يزيد: هو الجمحي المصري."ابن أبي هلال": هو سعيد بن أبي هلال المصري. والحديث مكرر ما قبله. ورواه البخاري 13: 358-361 (فتح) ، من طريق الليث بن سعد، بهذا الإسناد. وذكر ابن كثير 2: 449 قطعة منه، نسبها للصحيحين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 إذا كان يومُ القيامة، جمع الله الأولين والآخرين، ثم نادى مناد من عند الله:"ألا من كان يطلب مظلمةً فليجئ إلى حقه فليأخذه"! قال: فيفرح والله المرءُ أن يَذُوب له الحقّ على والده، أو ولده، أو زوجته، فيأخذ منه، وإن كان صغيرًا (1) = ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) [سورة المؤمنون: 101] = فيقال له:"ائت هؤلاء حقوقهم" = أي: أعطهم حقوقهم = فيقول:"أي رب، من أين وقد ذهبت الدنيا"؟ فيقول الله لملائكته:"أي ملائكتي، انظروا في أعماله الصّالحة، وأعطوهم منها"! فإن بقي مثقال ذَرّة من حسنة قالت الملائكة؛ وهو أعلم بذلك منها:"يا ربنا، أعطينا كل ذي حق حقه، وبقي له مثقال ذرة من حسنة" فيقول للملائكة: ضعِّفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة" = ومصداق ذلك في كتاب الله:"إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، أي: الجنة، يعطيها. وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته، قالت الملائكة، وهو أعلم بذلك:"إلهنا، فنيت حسناته وبقي سيئاته، وبقي طالبون كثيرٌ"! فيقول الله:"ضعِّفوا عليها من أوزارهم، واكتبوا له كتابًا إلى النار" (2) قال صدقة: أو صكًّا إلى جهنم، شك صَدَقة أيتهما قال. (3) 9509 - وحدثت عن محمد بن عبيد، عن هارون بن عنترة، عن عبد الله بن السائب قال: سمعت زاذان يقول: قال عبد الله بن مسعود: يؤخذ بيد العبد والأمة يومَ القيامة، فينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين:"هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه"، فتفرح المرأة أنْ يَذُوب لها الحق على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها، (4) ثم قرأ ابن مسعود: (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) [سورة المؤمنون: 101] ، فيغفر الله تبارك وتعالى من حقه ما شاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئًا، فينصبُ للناس فيقول:"ائتوا إلى الناس حقوقهم"! فيقول:"رب فنيت الدنيا، من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول:"خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مَظْلمته". فإن كان وليًّا لله، ففضل له مثقال ذرّة، ضاعفها له حتى يُدخله بها الجنة = ثمّ قرأ علينا:"إنّ الله لا يظلم مثقال ذرة" = وإن كان عبدًا شقيًّا، قال الملك:"رب فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير"! فيقول:"خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صكًّا إلى النار". (5) * * *   (1) في المطبوعة: "فيفرح والله الصبي"، وفي المخطوطة: "فيفرح والله الصر أن يذوب"، وصواب قراءتها"المرء" كما أثبتها من المراجع المذكورة بعد. "ذاب لي على فلان من الحق كذا، يذوب"، أي ثبت له ووجب. (2) في المطبوعة: "ضعوا عليها من أوزارهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر الأثر التالي. (3) الحديث: 9508 - صدقة بن أبي سهل: مترجم في التعجيل، ص: 185-186. والكبير 2 / 2 / 298، برقم: 2891، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 434-435، برقم: 1907. ولم يذكرا فيه جرحًا، فهو ثقة. وشيخه"أبو عمرو": لم أعرف من هو؟ ففي هذه الكنية كثرة. "زاذان": هو الكندي الضرير. وهو تابعي ثقة معروف. وانظر الإسناد التالي لهذا. (4) انظر تفسير"يذوب"، فيما سلف ص: 363، تعليق رقم: 1. (5) الحديث: 9509 - هو تكرار للذي قبله بنحوه. ولكن الطبري جاء في أوله بصيغة التجهيل: "حدثت عن محمد بن عبيد". فضاع هذا الإسناد بهذا التجهيل. ونقله ابن كثير 2: 449-450، عن ابن أبي حاتم: "حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن هارون بن عنترة ... "، فزال الضعف عن أول الإسناد. وهارون بن عنترة: مضى توثيقه وترجمته في: 405. عبد الله بن السائب الكندي، ويقال: الشيباني، الكوفي: ثقة معروف. روى عنه الأعمش والثوري. وأخرج له مسلم. فهذا الإسناد - عند ابن أبي حاتم - إسناد صحيح. والحديث أثر موقوف على ابن مسعود. ولكني أراه من المرفوع حكمًا. فإن ما ذكره ابن مسعود مما لا يعرف بالرأي. وما كان ابن مسعود ليقول هذا من عند نفسه: وليس هو ممن ينقل عن أهل الكتاب، ولا يقبل الإسرائيليات. وقد ذكره ابن كثير - كما قلنا - ثم قال: "ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح" ونقله السيوطي 2: 163، وزاد نسبته لعبد بن حميد. "الصك": الكتاب. وقوله: "صكوا" فعل من"الصك"، أي: اكتبوا له صكًا، وهذا الفعل، لم تذكره كتب اللغة، وهذا شاهده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 قال أبو جعفر: فتأويل الآية على تأويل عبد الله هذا: إن الله لا يظلم عبدًا وجب له مثقال ذَرّة قِبَل عبد له آخر في مَعاده ويوم لقائه فما فوقه، (1) فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه، ولكنه يأخذه منه له، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَله (2) ="وإن تك حسنة يضاعفها"، يقول: وإن تُوجد له حسنة يضاعفها، بمعنى: يضاعف له ثوابها وأجرها ="ويُؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، يقول: ويعطه من عنده أجرًا عظيمًا،"والأجر العظيم" (3) الجنة، على ما قاله عبد الله. * * * ولكلا التأويلين وجه مفهوم = أعني التأويل الذي قاله ابن مسعود، والذي قاله قتادة = وإنما اخترنا التأويل الأول، لموافقته الأثرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته، إذ كان في سياق الآية التي قبلها، التي حث الله فيها على النفقة في طاعته، وذمِّ النفقة في طاعة الشيطان. ثم وَصَل ذلك بما وعدَ المنافقين في طاعته بقوله:"إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا". واختلفت القرأة في قراءة قَوله:"وإن تك حسنة". فقرأت ذلك عامة قرأة العراق: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) بنصب"الحسنة"، بمعنى: وإن تك زنةُ الذرّة حسنةً، يضاعفها. * * *   (1) السياق: "وجب له مثقال ذرة ... فما فوقه". (2) "التبعة" (بفتح التاء وكسر الباء) و"التباعة" (بكسر التاء) : ما اتبعت به صاحبك من ظلامة أو حق لك عنده. (3) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 2: 148، 512 / 5: 519 / 7: 501 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ) ، برفع"الحسنة"، بمعنى: وإن توجد حسنةٌ، على ما ذكرت عن عبد الله بن مسعود من تأويل ذلك. (1) وأما قوله:"يُضَاعفها"، فإنه جاء بـ "الألف"، ولم يقل:"يُضعِّفها"، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية: (2) يُضاعفها أضعافًا كثيرة، ولو أريد به في قوله (3) يضعِّف ذلك ضِعفين لقيل:"يضعِّفها" بالتشديد. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم الله بهذه الآية ما وعدهم فيها. فقال بعضهم: هم جميع أهل الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. واعتلّوا في ذلك بما:- 9510 - حدثنا الفضل بن الصباح قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال: لقيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة لتُضَاعف ألفَ ألف حسنة! قال: وما أعجبك من ذلك؟ فوالله لقد سمعته = يعني النبي صلى الله عليه وسلم = يقول: إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة! (4) وقال آخرون: بل ذلك: المهاجرون خاصة، دون أهل البوادي والأعراب. واعتلوا في ذلك بما:-   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 269. (2) يعني أبا عبيدة في مجاز القرآن 1: 127 ونصه: "يضاعفها" أضعافًا = و"يضعفها" ضعفين. (3) يعني: في قول أبي عبيدة. (4) الحديث: 9510 - رواه أحمد في المسند: 7932، عن يزيد بن هارون، بهذا الإسناد. وهو حديث صحيح. فصلنا القول في تخريجه في المسند. وذكره ابن كثير 2: 451، عن رواية المسند، ثم نقله من رواية ابن أبي حاتم بإسنادين. ثم ذكره مرة أخرى من رواية ابن أبي حاتم، عند تفسير الآية: 38 من سورة التوبة (ج4 ص168 -169) . وذكره السيوطي 2: 163، وقصر في تخريجه جدًا، فلم ينسبه لغير الطبري. وذكر نحوه قبله، ونسبه لابن أبي شيبة فقط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 9511 - حدثني محمد بن هارون أبو نشيط قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن عبد الله بن عمير قال: نزلت هذه الآية، في الأعراب: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [سورة الأنعام: 60] قال: فقال رجل: فما للمهاجرين؟ قال، ما هو أعظم من ذلك:"إنّ الله لا يظلم مثقال ذَرّة وإن تَكُ حسنةً يضاعفها ويُؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، وإذا قال الله لشيء:"عظيم"، فهو عظيم. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:"عُنى بهذه الآية المهاجرون دون الأعراب". (2) وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار الله أو أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضًا. فإذْ كان صحيحًا وعْدُ الله من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشرَ أمثالها، وَمنْ جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له = وكان الخبرَان اللذان ذكرناهما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحين = كان غيرَ جائز إلا أن يكون أحدُهما مجملا والآخر مفسَّرًا، إذ كانت أخبارُه صلى الله عليه وسلم يصدِّق بعضها بعضًا. وإذ كان ذلك كذلك، صحّ أن خبرَ أبي هريرة معناهُ أنّ الحسنة لَتُضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألفُ حسنة، وللأعراب منهم عشر أمثالها، على ما رَوَى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم = وأن قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، يعني: من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم   (1) الحديث: 9511 - هذا الإسناد ضعيف، من أجل"عطية العوفي". وقد بينا ضعفه فيما مضى: 305. وأما شيخ الطبري"محمد بن هارون بن إبراهيم الربعي": فإنه ثقة. مترجم في التهذيب. والحديث نقله ابن كثير 2: 450، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق فضيل بن مرزوق، بهذا الإسناد. ولم يذكر شيئًا في تخريجه، ولا في تعليله. وذكره السيوطي 2: 162-163، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن المنذر والطبراني. (2) في المطبوعة: "المهاجرين"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 يُضاعف له ويؤته الله من لدنه أجرًا = يعني يعطه من عنده ="أجرًا عظيمًا". يعني: عِوَضًا من حسنته عظيمًا، وذلك"العوض العظيم"، الجنة، كما:- 9512 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا صدقة بن أبي سهل قال، حدثنا أبو عمرو، عن زاذان، عن ابن مسعود:"ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، أي: الجنة يعطيها. (1) 9513 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عباد بن أبي صالح، عن سعيد بن جبير قوله:"ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، قال: الأجرُ العظيم، الجنة. (2) 9514 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، قال:"أجرًا عظيمًا"، الجنة. * * * القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الله لا يظلم عباده مثقال ذرّة، فكيف بهم ="إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، يعني: بمن يشهد عليها بأعمالها، وتصديقها رسلَها أو تكذيبها ="وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، (3) يقول: وجئنا بك،   (1) الأثر: 9512 - هو من الأثر السالف رقم: 9508. (2) الأثر: 9513 -"عباد بن أبي صالح ذكوان، السمان" هو: "عبد الله بن أبي صالح". قال البخاري في الصغير: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ثقة"، وقال الساجي: "ثقة، إلا أنه روى عن أبيه ما لم يتابع عليه". مترجم في التهذيب. (3) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف 1: 376-378 / 3: 97، 145 / 6: 60، 75 / ... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 يا محمد، ="على هؤلاء"، أي: على أمتك ="شهيدًا". يقول شاهدًا، كما:- 9515 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: إن النبيين يأتون يوم القيامة، منهم من أسلم معه من قومه الواحدُ والاثنان والعَشَرة، وأقلُّ وأكثر من ذلك، حتى يُؤتى بقوم لوط صلى الله عليه وسلم، لم يؤمن معه إلا ابنتاه، فيقال لهم: هل بلَّغتم ما أرسلتُمْ به؟ فيقولون: نعم. فيقال: من يشهد، فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم! فيقال لهم: اشهدوا، إنّ الرسل أودعوا عندكم شهادة، (1) فبم تشهدون؟ فيقولون: ربنا نَشهد أنهم قد بلغوا = كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ. فيقال: من يشهد على ذلك؟ فيقولون: محمد صلى الله عليه وسلم. فيدعى محمد عليه السلام، فيشهدُ أن أمته قد صدَّقوا، وأنّ الرسل قد بلَّغوا، فذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة: 143] . 9516 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، قال: رسولها، فيشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم ="وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتَى عليها فاضت عيناه. 9517 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسن، عن يزيد النحوي، عن عكرمة في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [سورة البروج: 3] ، قال: الشاهد محمد، والمشهود يوم الجمعة. فذلك قوله:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا".   (1) في المطبوعة: "أتشهدون أن الرسل"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 9518 - حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال، حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، عن عبد الله: "فكيف إذا جئنا منْ كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) . (1) 9519 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن المسعودي، عن القاسم: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: اقرأ علي. قال، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأ ابن مسعود"النساء" حتى بلغ:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: استعبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكفّ ابن مسعود = = قال المسعودي، فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شهيدًا عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيبَ عليهم، وأنتَ على كل شيء شهيد". (2) * * *   (1) الحديث: 9518 - سفيان: هو ابن عيينة. المسعودي -هنا-: هو معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. وهو ثقة. أخرج له الشيخان. وترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 390، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 277. "جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي": ثقة. ترجمه البخاري 1 / 2 / 193، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 484. أبوه"عمرو بن حريث": صحابي. وهذا الحديث -على صحة إسناده - لم أجده من غير رواية الطبري. وابن كثير لم ينسبه لغيره 2: 453، وكذلك السيوطي 2: 164. وانظر الحديث الذي بعده. والآية، تضمين لآية سورة المائدة 117. (2) الحديث: 9519 - إبراهيم بن أبي الوزير - واسم أبي الوزير: عمر - بن مطرف المكي، مولى بني هاشم: ثقة، وثقه محمد بن بشار وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 333، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 114-115. وهذا الحديث في الحقيقة حديثان: أولهما: رواية المسعودي - معن بن عبد الرحمن - عن القاسم. والظاهر أن القاسم هذا: هو أخوه"القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود". وهو تابعي ثقة. ولكنه لم يدرك أن يروي عن جده"عبد الله بن مسعود"، ولم يذكر هنا أنه"عن ابن مسعود" - حتى يكون إسنادًا منقطعًا. فهو حديث مرسل. ولكن هذا الحديث الأول منهما ثابت صحيح بالأسانيد المتصلة. فقد رواه البخاري 9: 81 (فتح) ، من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله. وكذلك رواه أحمد في المسند: 3606، 4118، من طريق الأعمش، به. ورواه أحمد أيضًا: 3550، من رواية أبي حيان الأشجعي، عن ابن مسعود، و: 3551، من طريق أبي رزين، عن ابن مسعود. ونقله ابن كثير في فضائل القرآن، ص: 77، عن البخاري. ثم قال: "وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه، من طرق، عن الأعمش. وله طرق يطول بسطها". ونقله في التفسير 2: 452-453، عن البخاري أيضًا. ثم قال: "وقد روى من طرق متعددة عن ابن مسعود. فهو مقطوع به. ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رزين، عنه". ونقله السيوطي 2: 163، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. وثانيهما: رواية المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه. وهذا مكرر للحديث السابق: 9518، ولكنه جعله هنا من حديث عمرو بن حريث، لم يذكر فيه روايته عن ابن مسعود. فيكون مرسل صحابي. فهو صحيح بكل حال. وقد رواه الحاكم في المستدرك 3: 319، من طريق جعفر بن عون، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه - مطولا - بقصة قراءة ابن مسعود هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن فيه النص الذي هنا"شهيدًا عليهم ما دمت فيهم ... ". فأصل الحديث صحيح ثابت. ولذلك قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونقل السيوطي 2: 163 رواية الحاكم، مختصرة قليلا، ولم ينسبها لغيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 القول في تأويل قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يوم نجيء من كلّ أمة بشهيد، ونجيء بك على أمتك يا محمد شهيدًا ="يود الذين كفروا"، يقول: يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله، ="لو تُسَوَّى بهم الأرض".. (1) * * *   (1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز ومكة والمدينة: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) "بتشديد""السين" و"الواو" وفتح"التاء"، بمعنى: لو تَتَسوّى بهم الأرض، ثم أدغمت"التاء" الثانية في"السين"، يراد به: أنهم يودّون لو صاروا ترابًا فكانوا سواءً هم والأرض. وقرأ آخرون ذلك: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) ، بفتح"التاء" وتخفيف"السين". وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة بالمعنى الأول، غير أنهم تركوا تشديد"السين"، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد. وقرأ ذلك آخرون: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) ، بمعنى: لو سوّاهم الله والأرض، فصاروا ترابًا مثلها بتصييره إياهم، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم. قال أبو جعفر: وكل هذه القراءات متقاربات المعنى، وبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ، لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابًا، إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك. وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك، فقد تمنى أن يكون ترابًا. على أن الأمر وإن كان كذلك، فأعجبُ القراءة إليّ في ذلك: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) ، بفتح"التاء" وتخفيف"السين" كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد = وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [سورة النبأ: 40] . فأخبر الله عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابًا، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا:"يا ليتني كنت ترابًا". فكذلك قوله:"لو تَسوّى بهم الأرض" فيسوَّوا هم. وهي أعجب إلي، ليوافق ذلك المعنى الذي أخبرَ عنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 بقوله:"يا ليتني كنتُ ترابًا". وأما قوله:"ولا يكتمون الله حديثًا"، فإن أهل التأويل تأوّلوه بمعنى: ولا تكتم الله جوارحُهم حديثًا، وإن جحدتْ ذلك أفواههم. ذكر من قال ذلك: 9520 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو، عن مطرف، عن. المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: أتى رجلٌ ابن عباس فقال: سمعت الله يقول (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: 23] ، وقال في آية أخرى:"ولا يكتمون الله حديثًا". فقال ابن عباس: أما قوله:"والله ربنا ما كنا مشركين"، فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا:"تعالوا فلنجحد"! فقالوا:"والله ربنا ما كنا مشركين"! فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثًا. 9521 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياءُ تختلفُ علي في القرآن؟ فقال: ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال: ليس بالشك، ولكنه اختلاف! قال: فهات ما اختلف عليك. قال: أسمع الله يقول: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: 23] ، وقال:"ولا يكتمون الله حديثًا"، وقد كتموا! فقال ابن عباس: أما قوله:"ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين"، فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب، ولا يغفر شركًا، ولا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره = جحد المشركون فقالوا:"والله ربنا ما كنا مشركين"، رجاءَ أن يغفر لهم، فختم على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك:"يَودّ الذين كفروا وَعصوُا الرسول لو تسوَّى بهم الأرضُ ولا يكتمون الله حديثًا". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 9522 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الزبير، عن الضحاك: أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، قول الله تبارك وتعالى:"يومئذ يودّ الذين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا"، وقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت:"ألقى علي ابن عباس مُتَشابه القرآن"، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بَقيع واحد، (1) فيقول المشركون:"إن الله لا يقبل من أحد شيئًا إلا ممن وحّده"! فيقولون:"تعالوا نَقُل"! (2) فيسألهم فيقولون:"والله رَبنا ما كنا مشركين"، قال: فيختم على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سُوِّيت بهم ولا يكتمون الله حديثًا. 9523 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يومئذ يود الذين كفروا وعصوُا الرسول لو تسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا"، يعني: أن تسوّى الأرضُ بالجبال والأرضُ، عليهم. (3) فتأويل الآية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول، لو تسوّى بهم الأرض ولم يكتموا الله حديثًا (4) = كأنهم تمنوا أنهم سوُّوا مع الأرض، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثًا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: يومئذ لا يكتمون الله حديثًا = ويودّون لو تسوّى بهم الأرض. وليس بمنكتم عن الله شيء من حديثهم، لعلمه جل ذكره بجميع حديثهم وأمرهم، فإن همْ كتموه بألسنتهم فجحدوه، (5) لا يخفى عليه شيء منه. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (6) "يا أيها الذين آمنوا"، صدّقوا الله ورسوله ="لا تقربوا الصلاة"، لا تصلوا ="وأنتم سكارى"، وهو جمع"سكران" ="حتى تعلموا ما تقولون"، في صلاتكم فتميّزون فيها ما أمركم الله به أو ندبكم إلى قيله فيها، (7) مما نهاكم عنه وزَجَركم. * * * ثم اختلف أهل التأويل في"السكر" الذي عناه الله بقوله:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى". فقال بعضهم: عنى بذلك السّكر من الشراب.   (1) "البقيع": المكان المتسع من الأرض، يكون فيه بعض الشجر. (2) في المطبوعة: "تعالوا نجحد"، غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته، ولم يستطع أن يعرف لها معنى، وهي صواب، وإن كانت كتب اللغة قد قصرت في إثبات هذا المعنى. وذلك أن"نقل" هنا من"القول" يراد به الكذب أو التعريض به، وقد مر بي ذلك في كتب السيرة مرارًا منها، ما قرأته في سيرة ابن هشام 3: 58، في خبر مقتل كعب الأشرف وقول محمد بن مسلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، لا بد لنا من أن نقول"! فقال رسول الله: "قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك". وهو شبيه المعنى بالكذب. (3) في المطبوعة: "أن تسوى الأرض بالجبال عليهم" حذف"الأرض" الثانية، والصواب ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "ولا يكتمون الله حديثًا"، وهو خطأ فاحش، والصواب ما في المخطوطة. (5) في المطبوعة: "فإنهم إن كتموه بألسنتهم"، وهو خطأ فاحش أيضًا، والصواب ما في المخطوطة. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت. (7) في المطبوعة: "وتقرأون فيها مما أمركم الله ... " وهو سياق مضطرب جدا، وفي المخطوطة: "وتقرون فيها مما أمركم الله" غير منقوط، وهو مضطرب أيضًا، ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 ذكر من قال ذلك 9524 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فخلط فيها، فنزلت:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى". 9525 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب: أن عبد الرحمن بن عوف صنعَ طعامًا وشرابًا، فدعا نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلوا، فقدّموا عليًّا يصلي بهم المغرب، فقرأ:"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُون أَعْبُد مَا تَعْبُدُون، وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ لَكُمْ دِيِنكُمْ وَلِيَ دِين"، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون". 9526 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قبل أن تحرّم الخمر، فقال الله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، الآية. 9527 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: نزل هذا وهم يشربون الخمر. فقال: وكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر. 9528 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين قال: كانوا يشربون بعد ما أنزلت التي في"البقرة"، (1) وبعد التي في"النساء"،   (1) يعني آية سورة البقرة: 219: "يسألونك عن الخمر والميسر". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 فلما أنزلت التي في"المائدة" تركوها. (1) 9529 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، قال: نهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريمُ الخمر. 9530 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9531 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ بتحريم الخمر. 9532 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل، وأبي رزين وإبراهيم في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" و (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [سورة البقرة: 90] ، وقوله: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) [سورة النحل: 67] ، قالوا: كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى من النوم. ذكر من قال ذلك 9533 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: ليست لمن يقربها سكران من الشراب، إنما عُنِي بها سكر النوم. (2)   (1) يعني آية سورة المائدة: 90، 91: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه". (2) في المطبوعة: "قال: سكر النوم"، حذف ما بين ذلك، وكان في المخطوطة: "لمن يقربها سكرا إنما عنى بها سكر النوم" بياض بين الكلام، ووضع بهامش المخطوطة حرف"ط" بمعنى الخطأ. وقد اجتهدت قراءتها كما أثبتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 9534 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، تأويل من قال: ذلك نهيٌ من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر، للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك، نهيٌ من الله = وأن هذه الآية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك معناه، والسكران في حال زوال عقله، نظيرُ المجنون في حال زوال عقله، وأنت ممن يُحيل تكليف المجانين لفقدهم الفهم لما يُؤمر وينهى؟ (1) قيل له: إن السكران لو كان في معنى المجنون، لكان غير جائز أمرُه ونهيه. ولكن السكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذَر، غير أن الشراب قد أثقل لسانه وأجزاء جسمه وأخدَرها، (2) حتى عجز عن إقامة قراءته في صلاته، وحدودها الواجبة عليه فيها، من غير زوال عقله، فهو بما أمر به ونهى عنه عارف فَهِمٌ، وعن أداء بعضه عاجز بخدَرِ جسمه من الشراب. وأما من صار إلى حدّ لا يعقل ما يأتي ويذر، فذلك منتقل من السكر إلى الخَبل ومعاني المجانين، (3) وليس ذلك   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بما يؤمر ... "، والصواب"لما" كما أثبته. (2) في المطبوعة: "وأحر جسمه وأخدره" غير ما في المخطوطة لأنه كتب"وأحرا حسمه وأخدرها"، فلم يحسن قراءة"وأجزاء"، فأفسد الكلام. (3) في المطبوعة: "ومعدود في المجانين"، غير ما في المخطوطة، وكان فيها: "ومعاني المجانين"، فلم يحسن قراءتها، ففعل ما فعل كدأبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 الذي خوطب بقوله:"لا تقربوا الصلاة"، لأن ذلك مجنون، وإنما خوطب به السكران، والسكرانُ ما وصفنا صفته. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم، معنى ذلك:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" ="ولا تقربوها جنبًا إلا عابري سبيل" = يعني: إلا أن تكون مجتازي طريق، أي: مسافرين ="حتى تغتسلوا". (1) *ذكر من قال ذلك: 9535 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر = وقال ابن المثنى: في السفر. 9536 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللتُ لكم أن تمسَّحوا بالأرض. 9537 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله = أو: عن زِرّ = عن علي رضي الله عنه:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إلا أن تكونوا مسافرين فلم تجدوا الماء، (2) فتيمموا. (3)   (1) انظر تفسير: "الجنب" فيما سلف قريبًا ص: 340. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا تجدوا الماء"، والصواب ما أثبت. (3) الأثر: 9537 -"عباد بن عبد الله الأسدي". روى عن علي. وروى عنه المنهال بن عمرو. قال البخاري: "فيه نظر"، وذكره ابن حبان في الثقات، وتكلم فيه أحمد. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر التالي رقم: 9540. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 9538 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر. 9539 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس بمثله. 9540 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن علي رضي الله عنه قال: نزلت في السفر:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"،"وعابر السبيل"، المسافر، إذا لم يجد ماء تيمم. 9541 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر، إذا لم يجد الماءَ فإنه يتيمم، فيدخلُه فيصلي. (1) 9542 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي. 9543 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: مسافرين، لا يجدون ماء فيتيممون صعيدًا طيبًا، لم يجدوا الماء فيغتسلوا. (2)   (1) في المطبوعة: "فإنه يتيمم فيصلي" حذف"فيدخله"، كأنه لم يعرف ماذا عنى بها فحذفها، وهذا عمل سيئ قبيح. وقوله: "فيدخله" يعني: المسجد. (2) في المطبوعة: "حتى يجدوا الماء فيغتسلوا"، وفي المخطوطة: "لي يجدوا الماء فيغتسلوا"، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 9544 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: مسافرين لا يجدون ماء. 9545 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن بكير بن الأخنس، عن الحسن بن مسلم في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إلا أن يكونوا مسافرين، فلم يجدوا الماء فيتيمموا. (1) 9546 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر تصيبه الجنابة، فلا يجد ماء فيتيمم. 9547 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير = وعن منصور، عن الحكم = في قوله:"إلا عابري سبيل"، قالا المسافر الجنبُ، لا يجد الماء فيتيمم فيصلي. 9548 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، إلا أن يكون مسافرًا. 9549 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم نحوه. 9550 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: كنا نسمع أنه في السفر. 9551 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو المسافر الذي لا يجد الماء، فلا بد   (1) في المطبوعة: "فلا يجدون الماء فيتمموا"، وأثبت ما في المخطوطة، إلا"فلم يجدوا"، فقد كانت فيها"فلا يجدوا". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 له من أن يتيمم ويصلي، فهو يتيمم ويصلي = قال: كان أبي يقولُ هذا. * * * وقال آخرون معنى ذلك، لا تقربوا المصَلَّى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون = ولا تقربوه جنبًا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل = يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه. فقال أهل هذه المقالة: أقيمت"الصلاة" مقام"المصلَّى" و"المسجد"، إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيّامئذ، لا يتخلَّفون عن التجميع فيها. (1) فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة، كفايةٌ عن ذكر المساجد والمصلَّى الذي يصلون فيه. *ذكر من قال ذلك: 9552 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو الممرُّ في المسجد. (2) 9553 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن ابن يسار، عن ابن عباس:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل":، قال: لا تقرب المسجد إلا أن يكون طريقك فيه، فتمرّ مارًّا ولا تجلس. (3) 9554 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد في الجنب: يمر في المسجد مجتازًا وهو قائم، لا يجلس وليس بمتوضئ. وتلا هذه الآية:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل".   (1) في المطبوعة: "التجمع فيها"، و"التجميع" هو: شهود صلاة الجماعة، أو إقامة صلاة الجماعة. (2) الأثر: 9552 -"أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود"، أبوه: عبد الله بن مسعود الصحابي. مضت ترجمته في رقم: 43، 4570، وغيرهما. (3) في المطبوعة: "فتمر مرًا"، لم يحسن قراءة ما كان في المخطوطة، على سوء كتابتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 9555 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرَّا في المسجد ما لم يجلسا فيه. 9556 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو الزبير قال: كان أحدنا يمر في المسجد وهو جُنب مجتازًا. 9557 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: الجنب يمر في المسجد ولا يقعُد فيه. 9558 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم = قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إذا لم يجد طريقًا إلا المسجد، يمرّ فيه. 9559 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا"، قال: لا بأس أن يمرّ الجنب في المسجد، إذا لم يكن له طريق غيره. 9560 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم مثله. 9561 - حدثني المثنى قال، حدثنا [الحماني] قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: الجنب يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه. ثم قرأ:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل". (1)   (1) الأثر: 9561 - في المخطوطة: "حدثني المثنى قال حدثنا قال حدثنا شريك"، وهو إسناد ناقص، فجاء في المطبوعة فجعله"حدثني المثنى قال حدثنا شريك"، واستظهرت أن يكون كما أثبته بين القوسين، من الآثار التي تليه، ومن رواية المثنى بمثل هذا الإسناد فيما سلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 9562 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة مثله. 9563 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة مثله. 9564 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى مثله. 9565 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد، ولا يقعدَا فيه. 9566 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن سعيد، عن الزهري قال: رُخِّص للجنب أن يمرّ في المسجد. 9567 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن قول الله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل". 9568 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم،"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: لا يجتاز في المسجد، إلا أن لا يجدَ طريقًا غيره. 9569 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه: لا يمر الجنب في المسجد، يتخذُه طريقًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوَّله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل، إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عَدِم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 الماء وهو جنب في قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) ، فكان معلومًا بذلك أن قوله (1) "ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا"، لو كان معنيًّا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر" معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. * * * وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا، لا تقربوا المساجد للصلاة مصلِّين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضًا جنبًا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل. * * * و"العابر السبيل": المجتازُه مرًّا وقطعًا. يقال منه:"عبرتُ هذا الطريق فأنا أعبُرُهُ عَبْرا وعبورًا". ومنه قيل:"عبر فلان النهرَ"، إذا قطعه وجازه. ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار:"هي عُبْر أسفار، وعَبْر أسفار"، (2) لقوتها على الأسفار. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن كنتم مرضى"، من جرح أو جُدَرِيّ وأنتم جنب، كما:- 9570 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان معلوم بذلك"، والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة، حذف"وعبر أسفار" الثانية، كأنه ظنها تكرارًا. وإنما أراد واحدة بضم العين وسكون الباء، والأخرى بفتح العين وسكون الباء = وهناك ثالثة بكسر العين وسكون الباء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 المنبِّه الفضل بن سليم، (1) عن الضحاك، عن ابن مسعود قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر"، قال: المريض الذي قد أُرخص له في التيمم، هو الكسير والجريح. فإذا أصابت الجنابة الكسيرَ اغتسل، (2) والجريح لا يحل جراحته، إلا جراحة لا يخشى عليها. (3) 9571 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن شريك، عن إسماعيل السدي، عن أبي مالك قال، في هذه الآية:"وإن كنتم مرضى أو على سفر"، قال: هي للمريض الذي به الجراحةُ التي يخاف منها أن يغتسل، فلا يغتسل. فرُخِّص له في التيمم. 9572 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كنتم مرضى"، و"المرض" هو الجراح. والجراحة التي يتخوّف عليه من الماء، (4) إن أصابه ضرَّ صاحبه، فذلك يتيمم صعيدًا طيبًا. 9573 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير في قوله:"وإن كنتم مرضى"، قال: إذا كان به جروح أو قُروح يتيمم. (5) 9574 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:"وإن كنتم مرضى"، قال: من القروح تكون في الذراعين.   (1) الأثر: 9570 -"أبو المنبه: الفضل بن سليم"، لم أجده، وإنما وجدت"الفضل بن سليم العبدي". روى عن القاسم بن خالد، روى عنه مسلم بن إبراهيم. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 63. (2) في المطبوعة، حذف قوله: "ولم يحل جبائره" كأنه لم يعرف لها معنى!! وهو أشهر من ذلك! (3) في المخطوطة: "والجرح لا يحل جراحته"، والصواب ما في المطبوعة. (4) في المخطوطة: "التي يتخوف عليه منه الماء"، وفي المطبوعة: "التي يتخوف عليها من الماء"، والصواب بينهما ما أثبت. (5) الأثر 9573 -"عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي"، مضى برقم: 2752، 2753. وقد كان في المطبوعة: "عروة"، والصواب من المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 9575 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:"وإن كنتم مرضى"، قال: القروح في الذراعين. 9576 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن جويبر، عن الضحاك قال: صاحب الجراحة التي يتخوّف عليه منها، يتيمم. ثم قرأ:"وإن كنتم مرضى أو على سفر". 9577 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن كنتم مرضى"، و"المرض"، أن يصيب الرجل الجرح والقرح والجدريّ، (1) فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء. 9578 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عاصم = يعني الأحول = عن الشعبي: أنه سئل عن [قوله] : المجدور تُصيبه الجنابة؟ قال: ذهب فرسان هذه الآية. (2) * * * وقال آخرون في ذلك، ما:- 9579 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماءً فتيمموا"، قال: المريضُ الذي لا يجد أحدًا يأتيه بالماء، ولا يقدر عليه، وليس له خادم ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء، وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبو إليه، تيمم وصلَّى إذا   (1) في المطبوعة: "أو القروح أو الجدري"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) هكذا في المخطوطة: "عن قوله: المجدور ... " فأثبتها بين القوسين، لأني في شك منها. وأما قوله: "ذهب فرسان هذه الآية"، فإنه مما أشكل على معناه، وربما رجحت أنه أراد أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، كما مضى في الأثر رقم: 9567. فيكون قوله: "ذهب فرسان هذه الآية"، عن ذلك الشطر من الآية"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، وأنهم هم الأنصار من أصحاب رسول الله، الذين كانت أبوابهم في المسجد، وقد مضوا، لم يبق اليوم منهم أحد. هذا غاية اجتهادي، وفوق كل ذي علم عليم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 حلَّت الصلاة = قال: هذا كله قولُ أبي = إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، لا يترك الصلاة، وهو أعذَرُ من المسافر. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وإن كنتم جَرْحى أو بكم قروحٌ، أو كسر، أو علّة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة، وأنتم مقيمون غيرُ مسافرين، فتيمموا صعيدًا طيبًا. * * * وأما قوله:"أو على سفر"، فإنه يعني: أو إن كنتم مسافرين وأنتم أصحّاء جنب، فتيمموا صعيدًا. * * * وكذلك تأويل قوله:"أو جاء أحد منكم من الغائط"، يقول: أو جاء أحدٌ منكم من الغائط، قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح، فليتيمم صعيدًا أيضًا. * * * و"الغائط": ما اتسع من الأودية وتصوَّب. وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان، لأن العرب كانت تختار قضاءَ حاجتها في الغِيطان، فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تقضي في الغِيطان، حيثُ قضاها من الأرض:"مُتَغَوِّط" و"جاء فلان من الغائط"، يعني به: قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الأرض. (1) . * * * وذكر عن مجاهد أنه قال في"الغائط": الوادي. 9580 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو جاء أحد منكم من الغائط"، قال: الغائط، الوادي. * * *   (1) انظر تفسير"الغائط" فيما سلف 5: 354. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 القول في تأويل قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أو باشرتم النساءَ بأيديكم. * * * ثم اختلف أهل التأويل في"اللمس" الذي عناه الله بقوله:"أو لامستم النساء". فقال بعضهم: عنى بذلك الجماع. *ذكر من قال ذلك: 9581 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع. وقال ناس من العرب: اللمس الجماع. قال: فأتيت ابن عباس فقلت: إنّ ناسًا من الموالي والعرب اختلفوا في"اللمس"، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع. قال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: كنت من الموالي. قال: غُلِب فريق الموالي، إن"المس" و"اللمس"، و"المباشرة"، الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. (1) 9582 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي قيس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. 9583 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن ابن عباس: أنه قال:"أو لامستم النساء"، قال: هو الجماع. 9584 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي،   (1) الأثر: 9581 - أخرجه البيهقي في السنن 1: 125، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: اختلفتُ أنا وعطاء وعبيد بن عمير في قوله:"أو لامستم النساء"، فقال عبيد بن عمير: هو الجماع. وقلت أنا وعطاء: هو اللمس. قال: فدخلنا على ابن عباس فسألناه فقال: غُلِب فريقُ الموالي، وأصابت العرب، هو الجماع، ولكن الله يعفُّ ويكني. 9585 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير: اختلفوا في الملامسة، فقال سعيد بن جبير وعطاء: الملامسة ما دون الجماع. وقال عبيد: هو النكاح. فخرج عليهم ابن عباس فسألوه، فقال: أخطأ الموليَان وأصَاب العربيّ، الملامسة النكاح، ولكن الله يكني ويعفّ. 9586 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة قال: اجتمع سعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير، فذكر نحوه. 9587 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال، قال سعيد بن جبير وعطاء في التماس: (1) الغمز باليد. وقال عبيد بن عمير: الجماع. فخرج عليهم ابن عباس فقال: أخطأ الموليان وأصابَ العربيُّ، ولكنه يعفّ ويكني. (2) 9588 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا قال ابن عباس: اللمس، الجماع. (3) 9589 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية وعبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.   (1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، ولعل صوابها: "اللماس" مصدر"لامس ملامسة ولماسًا"، كما سيأتي في الآثار التالية. (2) الأثر: 9587 - محمد بن عثمة، هو: "محمد بن خالد بن عثمة" مضى برقم: 90، 5314، 5483. (3) الأثر: 9588 - أخشى أن يكون في هذا الإسناد خرم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 9590 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"اللمس" و"المس" و"المباشرة"، الجماع، ولكن الله يكني بما شاءَ. 9591 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الملامسة الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء. 9592 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس مثله. 9593 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قال: اختلفت العرب والموالي في"الملامسة" على باب ابن عباس، قالت العرب: الجماع. وقالت الموالي: باليد. قال: فخرج ابن عباس فقال: غُلِب فريق الموالي، الملامسة الجماع. 9594 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رجل، عن سعيد بن جبير قال: كنا على باب ابن عباس، فذكر نحوه. 9595 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير قال: قعد قوم على باب ابن عباس، فذكر نحوه. 9596 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو لامستم النساء"، الملامسة هو النكاح. 9597 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير قال: اجتمعت الموالي والعرب في المسجد، وابن عباس في الصُّفَّة، فاجتمعت الموالي على أنّ"اللمس" دون الجماع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 واجتمعت العرب على أنه الجماع. فقال ابن عباس: من أيّ الفريقين أنت؟ قلت: من الموالي. قال: غُلِبت. 9598 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس، الجماع. 9598م = وبه عن سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس مثله. 9599 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس قال: هو الجماع. 9600 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. 9601 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن داود، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أو لامستم النساء"، قال: الجماع. 9602 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه قال: الجماع. 9603 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: الجماع. 9604 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك، عن خصيف قال: سألت مجاهدًا فقال ذلك. 9605 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة والحسن قالا غشيان النساء. * * * وقال آخرون: عنى الله بذلك كلَّ لمسٍ، بيدٍ كان أو بغيرها من أعضاء جسد الإنسان = وأوجبوا الوضوءَ على من مسَّ بشيء من جسده شيئًا من جسدها مفضيًا إليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 *ذكر من قال ذلك: 9606 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله أنه قال، شيئًا هذا معناه: الملامسة ما دون الجماع. 9607 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله = أو: عن أبي عبيدة، منصورٌ الذي شك = قال: القبلة، من المس. 9608 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله قال: اللمس، ما دون الجماع. 9609 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم قال، قال ابن مسعود: اللمس، ما دون الجماع. 9610 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: القبلةُ، من اللمس. 9611 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل = عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: القبلة، من اللمس، وفيها الوضوء. 9612 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود مثله. 9613 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: أخبرنا سليم بن أخضر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: سألت عبيدة عن قوله:"أو لامستم النساء"، قال: فأشار بيده هكذا = وحكاه سليم = وأراناه أبو عبد الله، فضم أصابعه. (1)   (1) الأثر: 9613 -"سليم بن أخضر البصري". روى عن ابن عون، قال ابن سعد: "كان ألزمهم لابن عون. وكان ثقة". مترجم في التهذيب."وأبو عبد الله"، هو: "أحمد بن عبدة الضبي" مضى برقم: 5502. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 9614 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد قال: سألت عبيدة عن قوله:"أو لامستم النساء"، قال بيده، فطَبِنْتُ ما عَنىَ، فلم أسأله. (1) 9615 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: ذكروا عند محمد مسَّ الفرج، وأظنهم ذكروا ما قال ابن عمر في ذلك، فقال محمد: قلت لعبيدة: قوله:"أو لامستم النساء"، فقال بيده. قال ابن عون بيده، كأنه يتناوَل شيئًا يقبض عليه. (2) 9616 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا خالد، عن محمد قال، قال عبيدة: اللمس باليد. 9616م - قال [يعقوب] ، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"أو لامستم النساء"، فقال بيده، وضم أصابعه، حتى عرفت الذي أراد. 9617 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قُبْلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللِّماس. (3) 9618 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن   (1) قوله: "قال بيده"، أي: أومأ بيده وأشار. وقوله: "فطبنت ما عنى"، أي: فطنت له وفهمته. يقال: "طبن الشيء يطبن طبنا = وطبن له" أي: فظن له. و"رجل طبن": فطن حاذق عالم بكل شيء. وفي المطبوعة: "فظننت ما عنى"، ليست بشيء. وهي في المخطوطة، سيئة النقط. والصواب ما أثبته، وسيأتي في الأثر رقم: 9616: "حتى عرفت الذي أراد"، فهو المعرفة، لا الظن كما ترى، وكذلك الأثر رقم: 9626. (2) "قال" في هذا الأثر، في الموضعين، بمعنى الإيماء والإشارة، كما أسلفت في التعليق السالف. (3) "اللماس" (بكسر اللام) مصدر"لامسه ملامسة ولماسًا". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 إسماعيل، عن عامر قال: الملامسة ما دون الجماع. 9619 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا مُحِلّ بن محرز، عن إبراهيم قال: اللمس من شهوة ينقض الوضوء. (1) . 9620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة، عن الحكم وحماد أنهما قالا اللمس، ما دون الجماع. 9621 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عطاء قال: الملامسة، ما دون الجماع. 9622 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن أصحاب عبد الله، عن عبد الله قال: الملامسة، ما دون الجماع. 9623 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن عامر، عن عبد الله قال: الملامسة، ما دون الجماع. 9624 - قال حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله. 9624م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله. 9625 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال، قال عبد الله = الملامسة، ما دون الجماع. ثم قرأ:"أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء". 9626 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن:"أو لامستم النساء"، فقال بيده هكذا، فعرفت ما يعني.   (1) الأثر: 9619 -"محل بن محرز الضبي الكوفي الأعور". روى عن أبي وائل: وإبراهيم النخعي، والشعبي. أدخله البخاري في الضعفاء، فقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي قال: يحول من هناك". قال يحيى القطان: "كان وسطا، ولم يكن بذاك". وهو ثقة. مترجم في التهذيب. و"محل" بضم الميم، وكسر الحاء، واللام مشددة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 9627 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وحسن بن صالح، عن منصور = عن هلال بن يساف، عن أبي عبيدة قال: القبلة من اللمس. 9628 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن زهير، عن خصيف، عن أبي عبيدة: القبلة والشيء. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:"عنى الله بقوله:"أو لامستم النساء"، الجماع دون غيره من معاني اللمس"، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. 9629 - حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال، أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلِّي ولا يتوضأ. (2) 9630 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت. (3)   (1) قوله: "والشيء"، هكذا هي في المطبوعة، وفي المخطوطة"السي" غير منقوطة، وأخشى أن يكون صوابها"والمس". (2) الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم أنه"عروة المزني"، من اجل كلمة قالها الثوري: "ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني"! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد حدث غيره عنه. والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة"عن عروة بن الزبير". وكذلك جاء التصريح بأنه"عروة بن الزبير"، في رواية ابن ماجه: 502، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال. وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة التمريض: "روى عن الثوري". ثم نقضها هو نفسه، فقال: "وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا صحيحًا". والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما"عن عروة" فقط، كما هنا. وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون، فأثبتوا صحته"عن عروة بن الزبير". وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي 1: 133-142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول بأن"الملامسة" في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا. وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1: 123-127، وابن كثير 2: 465-466. (3) الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم أنه"عروة المزني"، من اجل كلمة قالها الثوري: "ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني"! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد حدث غيره عنه. والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة"عن عروة بن الزبير". وكذلك جاء التصريح بأنه"عروة بن الزبير"، في رواية ابن ماجه: 502، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال. وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة التمريض: "روى عن الثوري". ثم نقضها هو نفسه، فقال: "وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا صحيحًا". والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما"عن عروة" فقط، كما هنا. وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون، فأثبتوا صحته"عن عروة بن الزبير". وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي 1: 133-142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول بأن"الملامسة" في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا. وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1: 123-127، وابن كثير 2: 465-466. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 9631 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبَّل ثم يصلي ولا يتوضأ. (1) 9632 - حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا شهاب بن عباد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة = وعن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة = قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء (2)   (1) الحديث: 9631 - حجاج: هو ابن أرطاة. زينب السهمية: هي بنت محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. فهي عمة عمرو بن شعيب. وذكرها ابن حبان في الثقات. وزعم الدارقطني أنها مجهولة! والحديث في هذه الرواية مرسل، لأن زينب السهمية تابعية، لا صحابية. وقد رواه أحمد في المسند موصولا 6: 62 (حلبي) ، عن محمد بن فضيل، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة. فارتفع الإرسال. وكذلك رواه ابن ماجه: 503، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل، به، موصولا. وأعله بعض الحفاظ بأن الحجاج بن أرطاة مدلس، وأنه رواه هنا بقوله: "عن عمرو بن شعيب"، لم يصرح بالتحديث. (2) الحديث: 9632 - هذا الحديث يرويه الطبري هنا من وجهين: فيرويه عن عمر بن شبة، عن شهاب بن عباد، عن مندل. ثم يرويه مندل عن ليث، عن عطاء، عن عائشة - ويرويه مندل أيضًا عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة. عمر بن شبة أبو زيد: مضت ترجمته في: 6310. شهاب بن عباد العبدي الكوفي أبو عمر: ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. قال ابن عدي: "كان من خيار الناس". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 236، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 363. ووقع اسمه محرفًا في المخطوطة والمطبوعة"سهاد بن عباد"! ولا يوجد راو بهذا الاسم. ووقع أيضًا محرفًا تحريفًا آخر في ابن كثير 2: 466"هشام بن عباد"! نقلا عن هذا الموضع من الطبري. وثبت على الصواب في المخطوطة الأزهرية من تفسير ابن كثير (2: 301 نسخة مصورة عندي) . مندل - بفتح الميم والدال بينهما نون ساكنة -: هو ابن علي العنزي، بفتح النون، الكوفي. وهو مختلف فيه بين التوثيق والتضعيف. والراجح - عندي - أنه حسن الحديث. وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 73، وابن سعد 6: 265، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 434-435. ليث: هو ابن أبي سليم. عطاء: هو ابن أبي رباح. وأبو روق: هو عطية بن الحارث الهمداني. مضى توثيقه في: 137. والحديث من الوجه الأول: رواية"عطاء عن عائشة" - رواه أيضًا البزار في مسنده، من طريق محمد بن موسى بن أعين، عن أبيه، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة، به. نقله ابن التركماني في الجوهر النقي 1: 125 (مع السنن الكبرى) ، والزيلعي في نصب الراية 1: 74 (طبعة مصر) . وهذا إسناد صحيح، ولا علة له. وقد رواه الدارقطني، ص: 50، من طريق عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكن الدارقطني حاول إعلاله بعلة غير قادحة. فذكر أن الثوري رواه عن عبد الكريم، عن عطاء، فقط، من قوله = يعني: من كلام عطاء. وقال: "وهو الصواب"! وهذه علة متهافتة. فالوصل والرفع زيادتان من ثقة، فهما مقبولتان. تنبيه: وقع في الجوهر النقي في هذا الحديث"عن عبد الكريم، عن عائشة"، دون ذكر"عن عطاء". وهو خطأ مطبعي لا شك فيه. بدلالة نقل الزيلعي، وبأن باقي الكلام في الجوهر النقي يدل على أنه"عن عطاء عن عائشة" - يقينا. والحديث من الوجه الثاني: رواية إبراهيم التيمي، عن عائشة - رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع، عن سفيان - وهو الثوري - عن أبي روق، به. وكذلك رواه أبو داود: 178، والنسائي 1: 39، والدارقطني، ص 50، 51، والبيهقي 1: 126-127، كلهم من طريق الثوري، عن أبي روق، به. وقال أبو داود: "هو مرسل. إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئًا". وقال النسائي: "ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا". وأشار إليه الترمذي 1: 138 (بشرحنا) ، وقال: "وهذا لا يصح أيضًا. ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعًا عن عائشة". وهذا الحديث قد روي موصولا أيضًا، من رواية إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عائشة. وقد بينت ذلك مفصلا في شرح الترمذي. ثم للحديث إسناد آخر صحيح عن عائشة: فرواه الدارقطني، ص: 49، من طريق سعيد بن بشير، عن منصور، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة. ونقله عنه الزيلعي وابن التركماني. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 247، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط. وفيه سعيد بن بشير: وثقه شعبة وغيره، وضعفه يحيى وجماعة". و"سعيد بن بشير" رجحنا توثيقه في: 5439. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 9633 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبِّلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءًا. (1) = ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدلالةُ الواضحة على أنّ"اللمس" في هذا الموضع، لمس الجماع، لا جميع معاني اللمس، كما قال الشاعر: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا (2) يعني بذلك: ننك لماسًا. (3) * * *   (1) الحديث: 9633 - هذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة. ولم أجده في مسند أحمد أيضًا. ونقله ابن كثير 2: 466، عن الطبري، ولم ينسبه لغيره. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 247، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط. وفيه يزيد بن سنان الرهاوي: ضعفه أحمد ويحيى وابن المديني، ووثقه البخاري وأبو حاتم، وثبته مروان بن معاوية. وبقية رجاله موثقون". ويزيد هنا، مختلف فيه كما قال الهيثمي. والراجح عندنا توثيقه. وهو مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 337، فلم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره في الضعفاء، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 266. (2) مضى تخريجه في 4: 126، تعليق: 1. (3) قوله: "لماسًا" أي، ملامسة. وكأنه جعل"اللميس" مصدرًا من"اللمس"، مثل"المسيس" مصدرًا من"المس". وهو قول غريب لم أجده عند غيره. بل أكثرهم يقول: "لميس: اسم امرأة"، ومعنى"امرأة لميس": هي المرأة اللينة الملمس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جنابة، وفيهم جراح. (1) 9634 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، في المريض لا يستطيع الغُسل من الجنابة، أو الحائض، قال: يجزيهم التيمم. وقال: أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحة ففشت فيهم، (2) ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت:"وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط"، الآية كلها. * * * وقال آخرون: نزلت في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعوَزَهم الماء فلم يجدوه في سفر لهم. *ذكر من قال ذلك: 9635 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة أنها قالت: كنت في مَسِير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الجيش ضلَّ عِقدي، (3) فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالتماسه، فالتُمِس فلم يوجد، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ الناس، فباتوا ليلتهم تلك، فقال الناس: حبست عائشة النبي صلى الله عليه وسلم! قالت: فجاء إليّ أبو بكر ورأس النبي صلى الله عليه   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وهم جراح"، و"جريح" جمعه"جرحى"، لا يجمع على"جراح"، ولم أجد من نص عليه، أو على شذوذ على القياس. ورجحت أن الناسخ كتب"وهم" مكان"وفيهم" فأثبتها كذلك. (2) في المطبوعة"ونال أصحاب رسول الله ... " مكان: "وقال: أصاب أصحاب رسول الله"، كأنه أخطأ قراءة المخطوطة. (3) "ضل الشيء": إذا ضاع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 وسلم في حجري وهو نائم، فجعلَ يَهمِزُني ويَقْرصني ويقول (1) من أجل عقدك حبست النبيَّ صلى الله عليه وسلم! قالت: فلا أتحرك مخافة أن يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أوجعني، فلا أدري كيف أصنع! فلما رآني لا أُحير إليه، انطلق. (2) فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وأراد الصلاة فلم يجد ماء، قالت: فأنزل الله تعالى آية التيمم. قالت: فقال ابن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر! (3) 9636 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، ففقدت عائشة قلادة لها، فأمر الناس بالنزول، فنزلوا وليس معهم ماء. فأتى أبو بكر على عائشة فقال لها: شَقَقت على الناس! = وقال أيوب بيده، يصف أنه قرصها (4) = قال: وَنزلت آية التيمم، ووُجدت القلادة في مُناخ البعير، فقال الناس: ما رأينا قط امرأة أعظم بركة منها! (5)   (1) همز صاحبه: غمزه بيده ولمزه ونخسه. (2) يقال: "أحار عليه جوابه، وأحار له جوابًا، فهو يحير"، إذا رد عليه. ويقال: "ما أحار بكلمة"، و"ما أحار إلى جوابًا". أي ما رد جوابًا. وقولها: "لا أحير إليه"، أي: ما أجيبه ولا أكمله. وكان في المطبوعة: " لا أجير" بالجيم، وهو خطأ. والصواب ما أثبت من المخطوطة. (3) الحديث: 9635 - عبيد الله بن عمر: هو العمري، أحد الفقهاء السبعة. وهذا الحديث ظاهره الإرسال. لأنه - هنا - من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة. وعبد الرحمن لم يدرك أن يسمع من عمة أبيه عائشة. وسيأتي بنحوه: 9641، من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - متصلا. ونخرجه هناك، إن شاء الله. (4) قوله: "قال بيده" أي أومأ وأشار، كما سلف مرارًا. (5) الحديث: 9636 - وهذا أيضًا مرسل، لأن ابن أبي مليكة حكى القصة دون أن يذكر من حدثه. وهو تابعي. وسيأتي نحو معناه: 9639، من رواية ابن أبي مليكة، عن ذكوان حاجب عائشة. وسيأتي أيضًا: 9642، من رواية ابن أبي مليكة، عن قصة ابن عباس وعائشة، دون واسطة ذكوان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 9637 - حدثني محمد بن عبد الله الهلالي قال، حدثني عمران بن محمد الحداد قال، حدثني الربيع بن بدر قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا، من بَلَعْرَج، (1) يقال له الأسلع قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحَلُ له، فقال لي ذات ليلة: يا أسلع، قم فارحلْ لي. قلت: يا رسول الله، أصابتني جنابة! فسكت ساعة، ثم دعاني وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، ووصف لنا ضربتين. (2)   (1) "بلعرج" يعني: بني الأعرج، كما يقولون في"بني العنبر""بلعنبر"، وكان حقه أن يكون"بلأعرج"، (بفتح الباء وسكون اللام وفتح الهمزة) ، ولكنه عاد فسهل الهمزة، وألقى حركتها على اللام، فصارت مفتوحة الباء واللام ساكنة العين. و"بنو الأعرج" هم: بنو الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. واسم"الأعرج": الحارث، قطعت رجله، كما ذكر أبو عبيدة في النقائض: 1025. (2) الحديث: 9637 - محمد بن عبد الله الهلالي - شيخ الطبري - مضى في: 1275، 6180. عمران بن محمد الحداد: لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع. الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد السعدي الأعرجي، ولقبه"عليلة": ضعيف مجمع على ضعفه. أبوه"بدر"، وجده"عمرو بن جراد": فيهما جهالة. فلم يرو عنهما غير الربيع بن بدر، وهو ضعيف كما قلنا. والحديث رواه الطبري عقب هذا، من طريق عمرو بن خالد، عن الربيع، به، نحوه. ورواه ابن سعد في الطبقات 7 / 1 / 45، في ترجمة"الأسلع"، عن مسلم بن إبراهيم، عن الربيع بن بدر. ووقع عنوان الترجمة فيه هكذا"ميمون بن سنباذ الأسلع". وهو تخليط من الطابع. فإن"ميمون بن سنباذ" غير"الأسلع" وإنما هي عنوان مستقل، دون ترجمة، كما يقع في ابن سعد كثيرًا، ثم"الأسلع" عنوان ترجمة أخرى. ورواه الدارقطني، ص: 66، والطحاوي في معاني الآثار 1: 67-68، والبيهقي في السنن الكبرى 1: 208- كلهم من طريق الربيع بن بدر. وقال البيهقي: "الربيع بن بدر ضعيف، إلا أنه غير منفرد به". ونقله الزيلعي في نصب الراية 1: 153، ونقل كلام البيهقي، وتعقبه بأن هذا لا يكفي في الاحتجاج به حتى يعلم الوجه الآخر ودرجته. وكذلك تعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي. والوجه الآخر الذي أشار إليه البيهقي - نقله ابن كثير 2: 472-473، من رواية ابن مردويه، من طريق العباس بن أبي سرية، "حدثني الهيثم بن رزيق المالكي، من بني مالك بن كعب بن سعد، وعاش مائة وسبعة عشر سنة، عن أبيه، عن الأسلع بن شريك ... " - فذكر الحديث، بنحوه. و"العباس بن أبي سرية": لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة. و"الهيثم بن رزيق": ترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 83-84، ولم يذكر فيه جرحًا، وأشار إلى هذه الرواية. وله ترجمة موجزة في لسان الميزان 6: 206، ولم يذكر أنه يروي عن أبيه. و"رزيق": بتقديم الراء، كما في المشتبه، ص: 221، والمخطوطة الأزهرية من ابن كثير 2: 307. ووقع مغلوطًا في المراجع التي نشير إليها. وأبوه"رزيق": ترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 504 (في باب الراء) . وقد رواه أيضًا الطبراني في الكبير، من هذا الوجه. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 261-262، وقال: "وفيه الهيثم بن رزيق. قال بعضهم: لا يتابع على حديثه". وذكر الهيثمي أيضًا رواية الربيع بن بدر، بلفظين 1: 262، ونسبهما للطبراني في الكبير، وأعلمهما بضعف الربيع. وذكر الحافظ ابن حجر هذه الروايات في الإصابة 1: 34-35، في ترجمة"الأسلع". وفيها فوائد كثيرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 9638 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا عمرو بن خالد قال، حدثني الربيع بن بدر قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا يقال له الأسلع، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم = فذكر مثله إلا أنه قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا (1) = أو قال: ساعةً، الشك من عمرو = قال: وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا أسلع فتيمم. قال: فتيممت ثم رحَلت له. قال: فسرنا حتى مررنا بماء، فقال: يا أسلع، مَسَّ = أو: أمِسّ = بهذا جلدك. قال: وأراني التيمم، كما أراه أبوه: ضربة للوجه، وضربة لليدين والمرفقين. (2) 9639 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بُغيل قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم قال، حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: أنه حدثه ذكوان أبو عمرو، حاجبُ عائشة: أن ابن عباس دخل عليها في مرضها فقال: أبشري، كنت أحبَّ نساء رسول الله صلى   (1) قوله: "شيئًا"، أي قليلا، وقد فسر في هذا الخبر، "ساعة" وقد أسلفت شرح ذلك بشواهده، وأنه من نوادر اللغة التي أغفلتها المعاجم في 6: 448، تعليق: 2. (2) في المطبوعة: "إلى المرفقين"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رَسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إلا طيبًا، وسقطت قلادتك ليلة الأبْوَاء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها حتى أصبح في المنزل، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله:"تيمموا صعيدًا طيبًا"، فكان ذلك من سببك، وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة. (1) 9640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، (2) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها، فوجدوها. وأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء. فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم. فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر   (1) الحديث: 9639 - حفص ين بغيل الهمداني المرهبي الكوفي: مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 170، ولم يذكر فيه جرحًا، فهو ثقة. و"بغيل": بضم الباء الموحدة وفتح الغين المعجمة. ووقع في المطبوعة"نفيل". وهو تصحيف. وفي المخطوطة غير منقوط. عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: هو التابعي المعروف. وقد مضت ترجمته في: 6605، ووقع في المطبوعة"عبد الله بن عبيد الله عن ابن أبي مليكة"! جعل راويين. وهو خطأ صرف، فليس في شيوخ عبد الله بن عثمان بن خثيم، ولا في تلاميذ ابن أبي مليكة - من يسمى"عبد الله بن عبيد"، بالاستقصاء التام الذي في تهذيب الكمال (مخطوط مصور) . وابن خثيم يروي عن ابن أبي مليكة مباشرة. ثم هذا الحديث - بعينه - معروف من روايته عنه، كما سيأتي. ذكوان أبو عمرو المدني، حاجب عائشة ومولاها: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 238، وابن سعد 5: 218، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 451. والحديث قطعة من حديث طويل، رواه أحمد في المسند: 2496، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن ابن خثيم، عن ابن أبي مليكة، عن ذكوان. ثم رواه أيضًا: 3262، بمعناه، عن عبد الرازق، عن معمر، عن ابن خثيم. وسيأتي مختصرًا، بنحوه، من طريق ابن عيينة: 9642. وكان استئذان ابن عباس على عائشة، حين كانت تموت. ولذلك قال لها ابن عباس حينذاك: "أبشري، ما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم والأحبة، إلا أن تخرج الروح من الجسد". رضي الله عنها وأرضاها. وقوله: "وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة" - هذا هو الصواب الثابت في المطبوعة، وهو الموافق لرواية المسند 2496. ويؤيده ما في الرواية الأخرى منه: 3262: "فكان في ذلك رخصة للناس عامة في سببك". ووقع في المخطوطة هنا"لهذه الآية". وهو خطأ لا معنى له. (2) قوله: "هلكت"، أي انقطعت وضاعت وضلت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرًا! (1) 9641 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: سقطت قلادة لي بالبَيداء، ونحن داخلون إلى المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجْري راقد، أقبل أبي فلكزني لَكْزة ثم قال: حبست الناس! ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ وحَضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، ونزلت:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" الآية. قال أسيد بن حضيرك لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة! (2) 9642 - حدثني الحسن بن شبيب قال، حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: دخل ابن عباس على عائشة فقال: كنتِ أعظم المسلمين بركة على المسلمين! سقطت قلادتك بالأبواء، فأنزل الله فيك آية التيمم! (3) * * *   (1) الحديث: 9640 - رواه أحمد في المسند 6: 57 (حلبي) ، عن ابن نمير بهذا الإسناد. وكذلك رواه البخاري 1: 373 (فتح) ، من طريق ابن نمير. ورواه مسلم 1: 109-110، وأبو داود: 317، وابن ماجه: 568، والبيهقي في السنن الكبرى 1: 214- من طرق، عن هشام بن عروة، نحوه. ونقله ابن كثير 2: 471، عن رواية المسند. وانظر الحديث التالي لهذا. (2) الحديث: 9641 - مضى معناه بإسناد منقطع: 9635، من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة. وأما هذا فمتصل، يرويه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وقد رواه مالك في الموطأ، ص: 53 - 54، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وكذلك رواه أحمد في المسند 6: 179 (حلبي) ، والبخاري 1: 365-368 (فتح) . ومسلم 1: 109، والنسائي 1: 59 - كلهم من طريق مالك. ونقله ابن كثير 2: 471-472، عن رواية البخاري. (3) الحديث: 9642 - الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر، أبو علي المؤدب، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم ترجمة موجزة 1 / 2 / 18، وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 7: 328، والحافظ في لسان الميزان 2: 213-214. وقال ابن عدي: "حدث عن الثقات بالبواطيل، ووصل أحاديث هي مرسلة". وقال الدارقطني: "يعتبر به، وليس بالقوي". وهذا الحديث عن هذا الشيخ فيه غلط يقينًا ولعله من تخليطه!! فإنه يرويه عن ابن عيينة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم - مباشرة، بالتصريح بالسماع. وهذا - في ذاته - ممكن، لأن ابن عيينة سمع من ابن خثيم. ولكن هذا الحديث بعينه ليس كذلك: فقد رواه أحمد في المسند: 1905، بأطول مما هنا - عن سفيان، وهو ابن عيينة: "عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم". فأثبت الواسطة بين ابن عيينة وابن خثيم. ولا نستسيغ أن نوازن بين الإمام أحمد وهذا الشيخ"الحسن بن شبيب". وقد رواه - بنحوه - البخاري 8: 371-372، وابن سعد في الطبقات 8: 51، كلاهما من طريق عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة. وفي هذه الروايات الثلاث، كما في رواية الطبري هنا: أنه من حكاية ابن أبي مليكة للقصة، دون أن يذكر أنه أخبره بها"ذكوان حاجب عائشة"، كما مضى في الرواية: 9639. والراجح عندي أن تكون هذه الروايات مرسلة، وأن ابن أبي مليكة لم يشهد احتضار عائشة ودخول ابن عباس عليها، وأنه سمع ذلك من مولاها ذكوان. ولكن حاول الحافظ في الفتح التكلف في احتمال أن يكون شهد ذلك. وهو تكلف بعيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أو لامستم النساء". فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: (أَوْ لامَسْتُمُ) بمعنى: أو لمستم نساءكم ولَمَسْنَكم. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (أو لمستم النساء) بمعنى: أو لمستم، أنتم أيها الرجال، نساءكم. وهما قراءتان متقاربتا المعنى. لأنه لا يكون الرجل لامسًا امرأته إلا وهي لامِستُه. فـ "اللمس" في ذلك يدل على معنى"اللِّماس"، و"اللماس" على معنى"اللمس" من كل واحد منهما صاحبه. فبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 القول في تأويل قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فلم تجدوا ماء"،"أو لمستم النساء، فطلبتم الماء لتتطَّهروا به فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن ="فتيمموا" يقول: فتعمَّدوا. * * * = وهو:"تفعَّلوا" من قول القائل:"تيممت كذا" = إذا قصدته وتعمدته ="فأنا أتيمّمه"، وقد يقال منه:"يَمَّمه فلان فهو يُيممه"، و"أمّمته أنا" و"أمَمْته" خفيفة، و"تيممت وتأمَّمت"، ولم يسمع فيها"يَمَمْت" خفيفة. (1) ومنه قول أعشى بني ثعلبة: تَيَمَّمْتَ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الأرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ (2) يعني بقوله:"تيمَّمت"، تعمدت وقصدت. (3) * * * وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله:"فَأُمُّوا صَعِيدًا". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9643 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبدان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في قوله:"فتيمموا صعيدًا طيبًا"، قال: تحرَّوا وتعمَّدوا صعيدًا طيبًا. (4) * * *   (1) بل روى ذلك اللحياني فقال: "أمو، ويموا". (2) سلف البيت وشرحه وتخريجه في 5: 558. (3) انظر تفسير: "تيمم" فيما سلف 5: 558، 559. (4) الأثر: 9643 -"عبد الله بن محمد" هو: "عبد الله بن محمد بن يزيد، أبو محمد الحنفي" و"عبدان"، هو: "عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي". مضت ترجمتهما برقم: 5000، ومضى هذا الإسناد نفسه برقم: 5009، 6198، 6200، وانظر الإسناد التالي: 9648، 9676. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 وأما"الصعيد"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نَبات فيها ولا غِرَاس. *ذكر من قال ذلك: 9644 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"صعيدًا طيبًا"، قال: التي ليس فيها شجر ولا نبات. * * * وقال آخرون: بل هو الأرض المستوية. *ذكر من قال ذلك: 9645 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الصعيد"، المستوي. * * * وقال آخرون: بل"الصعيد"، التراب. *ذكر من قال ذلك: 9646 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي قال: الصعيد، التراب. (1) * * * وقال آخرون:"الصعيد"، وجه الأرض. * * * وقال آخرون: بل هو وجه الأرض ذاتِ التراب والغُبَار. * * * قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب قول من قال:"هو وجه الأرض الخالية من النبات والغُروس والبناء، المستوية"، ومنه قول ذي الرمة:   (1) الأثر: 9646 -"الحكم بن بشير بن سلمان"، مضت ترجمته برقم: 1497، 6171. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الحكم بن بشر"، وهو خطأ. "عمرو بن قيس الملائي" مضت ترجمته: 886، 6171. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 كَأنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ ... دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ (1) يعني: تضرب به وجه الأرض. * * * وأما قوله:"طيبًا"، فإنه يعني به: طاهرًا من الأقذار والنجاسات. (2) * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"طيبًا". فقال بعضهم: حلالا. *ذكر من قال ذلك: 9647 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في قوله:"صعيدًا طيبًا" قال، قال بعضهم: حلالا. * * * وقال بعضهم بما:- 9648 - حدثني عبد الله قال، حدثنا عبدان قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، قال: قلت لعطاء:"فتيمموا صعيدًا طيبًا"، قال: طيّب ما حولك. (3) قلت: مكان جَرْدٌ غير بَطِح، (4) أيجزئ عني؟ قال: نعم. (5) * * *   (1) ديوانه: 571، من قصيدته المحكمة المشهورة. والبيت من أبياته في ذكر ظبية أودعت ولدها الصغير بين أشجار، فإذا ارتفعت شمس الضحى نال منه التعب، فانطرح على الأرض، كأنه سكران أثقله النعاس. وقوله: "دبابة": تدب في أوصال شاربها، يعني الخمر. وكان في المطبوعة: "وما به"، وهو خطأ. و"خرطوم"، صفة للخمر السريعة الإسكار، تأخذ شاربها حتى يشمخ بخرطومه - أي: أنفه - من شدة السكر وغلبته. (2) انظر تفسير"طيب" فيما سلف 3: 301 / 5: 555 / 7: 424. (3) في المطبوعة: "الطيب ما حولك"، وكان مثلها في المخطوطة، إلا أنه ضرب على الألف واللام. (4) قوله: "جرد" (بفتح فسكون) : وهي الأرض الفضاء لا نبت فيها، وكأنه عنى أنها كانت ذات نبات ثم جردها الشتاء والقحط. وقوله: "بطح" على وزن"فرح" وهو الرمل في البطحاء، وهو"الأبطح"، أيضًا، وهو أرض ترابها سهل لين فيه دقاق الحصى. وكان في المطبوعة: "غير أبطح"، ولكني أثبت ما في المخطوطة. (5) الأثر: 9648 - انظر التعليق على الإسناد السالف رقم: 9643. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 ومعنى الكلام: فإن لم تجدوا ماء، أيها الناس، وكنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لمستم النساء، فأردتم أن تصلّوا ="فتيمموا"، يقول: فتعمدوا وجه الأرض الطاهرة ="فامسحوا بوجوهكم وأيديكم". * * * القول في تأويل قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم، ولكنه ترك ذكر"منه"، اكتفاء بدلالة الكلام عليه. * * * و"المسح منه بالوجه"، أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض الطاهر، أو ما قام مقامه، فيمسَح بما علق من الغُبار وجهه. فإن كان الذي علق به من الغُبار كثيرًا فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو جائز. وإن لم يعلَق بيديه من الغبار شيء وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه، أجزأه ذلك، لإجماع جميع الحجَّة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد = وهو أرض رمل = فلم يعلق بيديه منها شيء فتيمم به، أن ذلك مجزئَه، لم يخالف ذلك من يجوز أن يُعْتَدّ خلافًا. (1) فلما كان ذلك إجماعًا منهم، كان معلومًا أن الذي يراد به من ضَرْب الصعيد باليدين، مباشرةُ الصعيد بهما، بالمعنى الذي أمرً الله بمباشرته بهما، لا لأخْذِ ترابٍ منه. * * * وأما"المسح باليدين"، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحدِّ الذي أمر الله بمسحه من اليدين.   (1) في المطبوعة: "أن يعتد بخلافه"، غير ما في المخطوطة، وهو معرق في الصواب. وقوله: "يعتد خلافًا" أي: يحسب خلافا. وأقام"خلافًا" المصدر، صفة مثل"عدل"، ومعناه: الذي يعد خلافه خلافًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 فقال بعضهم: حدّ ذلك الكفّان إلى الزَّندين، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين. *ذكر من قال ذلك: 9649 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن أبي مالك قال: تيمّم عمّارٌ فضرب بيديه إلى التراب ضربةً واحدة، ثم مسح بيديه واحدة على الأخرى، ثم مسح وجهه، ثم ضرب بيديه أخرى، فجعل يلوي يَدَه على الأخرى، ولم يمسح الذراع. (1) 9650 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن أبي خالد قال: رأيت الشعبي وصفَ لنا التيمم: فضرب بيديه إلى الأرض ضربة، ثم نفضهما ومسح وجهه، ثم ضرب أخرى، فجعل يلوي كفَّيه إحداهما على الأخرى. ولم يذكر أنه مسح الذراع. 9651 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك قال: وضع عمار بن ياسر كفيه في التراب، ثم رفعهما فنفخهما، فمسح وجهه وكفيه، ثم قال: هكذا التيمم. 9652 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا سلام مولى حفص قال، سمعت عكرمة يقول: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين. 9653 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن سعيد وابن جابر: أن مكحولا كان يقول: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع = ويتأوّل مكحول القرآن في ذلك: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [سورة المائدة: 6] ، وقوله في التيمم:"فامسحوا بوجوهكم وأيديكم"، ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء"إلى المرافق" = قال مكحول: قال الله   (1) الأثر: 9649 - رواه بغير هذا اللفظ، البيهقي في السنن الكبرى 1: 210، وانظر الأثر الآتي رقم: 9651. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [سورة المائدة: 38] ، فإنما تقطع يد السارق من مَفصِل الكوع. 9654 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا بشر بن بكر التنيسي، عن ابن جابر: أنه رأى مكحولا يتيمم، يضرب بيديه على الصعيد، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه بواحدةٍ. 9655 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: التيمم ضربة للوجه والكفين. * * * وعلة من قال هذه المقالة من الأثر، ما: 9656 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيمم، فقال: مرة للكفين والوجه (1) = وفي حديث ابن بشر: أن عمارًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التيمم. (2)   (1) في المطبوعة: "على الوجه"، والصواب ما في المخطوطة. (2) الحديث: 9656 - سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، مولى خزاعة: تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. أبوه: عبد الرحمن بن أبزى، له صحبة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم معه. والحديث رواه أحمد في المسند 4: 263 (حلبي) ، عن عفان، عن أبان، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن، بهذا الإسناد، نحوه. فزاد في الإسناد"عن عزرة" بين قتادة وسعيد. وعزرة: هو ابن عبد الرحمن بن زراة الخزاعي. مضت ترجمته في: 2752، 2753. وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 67، من طريق عفان، عن أبان. وكذلك رواه أبو داود: 327، والترمذي: 144 بشرحنا - كلاهما من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، به. وقال الترمذي: "حديث عمار حديث حسن صحيح. وقد روى عن عمار من غير وجه". وكذلك رواه البيهقي 1: 210، من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة. ثم قال البيهقي: "وكذلك رواه جماعة عن ابن أبي عروبة. ورواه عيسى بن يونس، عن ابن أبي عروبة - دون ذكر عزرة في إسناده. وكذلك رواه أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، واختلف عليه في ذكر عزرة في إسناده. ورواه الدارمي 1: 190، عن عفان - وهو الشيخ الذي رواه عنه أحمد بن حنبل، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن - بدون ذكر عزرة في الإسناد. أفيكون هذا من الاختلاف على"أبان" الذي أشار إليه البيهقي؟ قد يكون. ولكني أراه بعيدًا، لأن هذا إنما هو في النسخة المطبوعة من الدارمي، وهي مملوءة بالغلط والتحريف، لا يعتمد عليها. وقد ثبت ذكر"عن عزرة" في مخطوطة عتيقة صحيحة بدار الكتب، من كتاب الدارمي. فهي العمدة في ذلك - إلى أن شيخ الدارمي هو شيخ أحمد. وقد رواه عنه بزيادة"عن عزرة"، كما ذكرنا آنفًا. وأيا ما كان فالإسناد صحيح، لأن قتادة يروي أيضًا عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى مباشرة. ولكن الذين زادوا"عزرة" في الإسناد أكثر وأحفظ ممن لم يذكره. وإن صح الإسنادان، فلعله يكون من المزيد في متصل الأسانيد. ولكن متن الحديث هنا محرف"مرة بالكفين على الوجه"! وهذا لا معنى له. وصوابه في المخطوطة: "مرة للوجه والكفين". وهو الموافق لمعنى الحديث في الروايات الأخر. ولفظ المسند: "ضربة للوجه والكفين" أيضًا. والحديث ذكره ابن كثير 2: 469، عن رواية المسند. ووقع فيه (مخطوطًا ومطبوعًا) "عروة" بدل"عزرة". وهو تحريف من الناسخين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 9657 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد بن سعيد القرشي، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبزى، قال: جاء رجل إلى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد الماء! فقال عمر: لا تصل. فقال له عمار: أما تذكر أنّا في مسيرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعَّكت في التراب وصلَّيت، (1) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:"إنما كان يكفيك"، وضرَب كفّيه الأرض، ونفخ فيهما، ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة؟ (2)   (1) "تمعك في التراب": تمرغ فيه. (2) الحديث: 9657 - عبيد بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، القرشي الأموي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وهو أخو"يحيى بن سعيد الحافظ". الحكم: هو ابن عتيبة الكندي. ابن أبزى: هو سعيد بن عبد الرحمن، المترجم في الحديث الذي قبل هذا. والحديث على ظاهر الإسناد الذي هنا - يكون منقطعًا، فإنه يكون من رواية سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى للحادثة في عهد عمر، وهو لم يدرك ذلك يقينًا، لأنه من صغار التابعين. وهو إنما يروي هذا عن أبيه. فلا أدري أوقعت هذه الرواية للطبري هكذا، أم هو تخليط من الناسخين. وأما الحديث في ذاته فهو صحيح من هذا الوجه: فقد رواه أحمد في المسند 4: 265 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن ذر -وهو ابن عبد الله المرهبي الهمداني - عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أن رجلا أتى عمر ... "، إلخ. وكذلك رواه الطيالسي، عن شعبة، بنحوه: 638. وكذلك رواه البخاري 1: 375-377، بأسانيد من طريق شعبة. وكذلك رواه مسلم 1: 110، وأبو داود: 324-326، والنسائي 1: 59-60، و60-61، وابن ماجه: 569، والبيهقي في السنن الكبرى 1: 209-210، بأسانيد - كلهم من طريق شعبة، به نحوه. ففي كل هذه الأسانيد أنه من رواية سعيد عن أبيه. أما زيادة"ذر بن عبد الله المرهبي" في الإسناد بين الحكم وسعيد. فإنه ثبت عند الشيخين - البخاري ومسلم - تصريح الحكم بأنه سمعه من"ابن عبد الرحمن بن أبي أبزى عن أبيه، مثل حديث ذر". فقد سمعه عن سعيد بالواسطة، ثم سمعه منه مباشرة. وسيأتي حديثان آخران لعمار في شأن التيمم: 9670، 9672. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 وقالوا: أمر الله في التيمم بمسح الوجه واليدين، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس. * * * وقال آخرون: حدُّ المسح الذي أمر الله به في التيمم، أن يمسح جميع الوجه واليدين إلى المرفقين. *ذكر من قال ذلك: 9658 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوراث بن سعيد قال، حدثنا أيوب عن نافع: أن ابن عمر تيمم بمربد النعم، (1) فضرب ضربة فمسح وجهه، وضرب ضربة فمسح يديه إلى المرفقين. 9659 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال: سمعت عبيد الله،   (1) "المربد" (بكسر فسكون) : المكان تحبس فيه الإبل والغنم. و"مربد النعم" بالمدينة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 عن نافع، عن عبد الله أنه قال: التيمم مسحتان، يضرب الرجل بيديه الأرض يمسح بهما وجهه، ثم يضرب بهما مرة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين. (1) 9660 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر في التيمم قال: ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين. 9661 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان يقول في المسح في التيمم: إلى المرفقين. (2) 9662 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: سألت الحسن عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه، وضرب بيديه فمسح بهما ذراعيه ظاهرَهما وباطنهما. 9663 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أنه قال في هذه الآية: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [سورة المائدة: 6] ، وقال في هذه الآية (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (3) [سورة المائدة: 6] ، قال: أمر أن يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان. 9664 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا ابن المثنى قال، حدثني محمد بن أبي عدي = جميعًا، عن داود، عن الشعبي في التيمم قال:   (1) في المخطوطة: "ثم يمسح بهما مرة أخرى"، والصواب ما في المطبوعة. (2) الآثار: 9658 -9661 - انظر ما أخرجه البيهقي في سننه 1: 207 من أثر ابن عمر. (3) هذه الآية من سورة المائدة، وفيها"منه"، أما آية سورة النساء التي نحن فيها، فليس فيها"منه"، ولكن ثبت في المخطوطة"منه"، فرددتها إلى آية المائدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 ضربة للوجه، ولليدين إلى المرفقين. (1) 9665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: أمر بالتيمم، فيما أمر بالغسل. 9666 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال: سألت سالم بن عبد الله عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الأرض ضربة أخرى، فمسح بهما يديه إلى المرفقين. 9667 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، وأخبرنا حبيب بن الشهيد، عن الحسن: أنه سئل عن التيمم فقال: ضربة يمسح بها وجهه، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى المرفقين. * * * وعلة من قال هذه المقالة: أن التيمم بدلٌ من الوضوء، وعلى المتيمم أن يبلغ بالتراب من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه بالماء منهما في الوضوء. (2) واعتلوا من الأثر بما:- 9668 - حدثني به موسى بن سهلٍ الرملي قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا خارجة بن مصعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلَّمت عليه، فلم يرد عليَّ. فلما فرغ قام إلى حائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم ردَّ عليَّ السلام. (3)   (1) في المطبوعة: "وضربة لليدين"، زاد"ضربة"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "على المتيمم" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة. (3) الحديث: 9668 - نعيم بن حماد بن معاوية، الخزاعي الفارضي: ثقة من شيوخ البخاري، تكلم فيه بعضهم بما لا يقدح. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 100، وابن سعد 7 / 2 / 205-206، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 463-464، وتاريخ بغداد 13: 306-314. خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني: مختلف فيه جدًا. والأكثر على تضعيفه. ولكن أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك 1: 499، قال: "خارجة لم ينقم عليه إلا روايته عن المجهولين، وإذا روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة". عبد الله بن عطاء: إن لم يكن الطائفي المكي فلا أدري من هو؟ وأخشى أن يكون من المجهولين الذين يروي عنهم نعيم بن حماد. الأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز، التابعي الثقة المشهور. وما رأيت له رواية عن أبي جهيم، وما إخاله أدركه. وهو يروي هذا الحديث عن"عمير مولى ابن عباس" عن أبي جهيم، كما سيأتي. فلا أدري أسقط هذا من نسخ الطبري، أم هو هكذا في هذه الرواية؟ فيكون من غلط نعيم بن حماد، أو من غلط شيخه عبد الله بن عطاء! وقد نقله ابن كثير 2: 468-469، كما ثبت هنا. فإن كان خطأ في النسخ، كان خطأ قديمًا. أبو جهيم - بالتصغير - بن الحارث بن الصمة الأنصاري: صحابي معروف. والحديث في أصله ثابت صحيح، بغير إسناد الطبري هذا الذي لا يكاد يقوم! فرواه البخاري 1: 374-375 (فتح) : "حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث [هو ابن سعد] ، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، سمعت عميرًا مولى ابن عباس، قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو جهيم: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام". فهذه هي الرواية الصحيحة. أما ما هنا من زيادة"إلى المرفقين" - فهي زيادة ضعيفة الإسناد كما ترى. وقد أشار الحافظ إلى روايتين أخريين فيهما: "فمسح بوجهه وذراعيه"، وضعفهما بضعف رواتهما، وقال"والثابت في حديث أبي جهيم بلفظ: يديه، لا ذراعيه". وانظر السنن الكبرى للبيهقي 1: 205. ورواه أيضًا أبو داود: 329، والنسائي 1: 59 -كلاهما من طريق الليث بن سعد، به. وذكره مسلم في صحيحه 1: 110-111 تعليقًا، قال: "وروى الليث بن سعد"- إلخ. ويظهر أنه لم يكن متوثقا منه. فوقع فيه وهم في موضعين: "عبد الرحمن بن يسار"، بدل"عبد الله بن يسار". و"أبو جهم" بالتكبير، بدل"أبو جهيم". وقد نص الحافظ في الفتح على وهمه في الموضعين. ورواه أيضًا أحمد في المسند: 17614 (ج4 ص169 حلبي) ، عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة: "حدثنا عن الرحمن الأعرج"، فذكر الحديث، كرواية البخاري. ووقع للحافظ ابن حجر وهم شديد في هذه الرواية، في الإصابة 7: 35، في ترجمة أبي جهيم، فقال: "ورواه ابن لهيعة، عن عبد الله بن يسار، عن أبي جهيم! أخرجه أحمد"! ورواية أحمد ليست كما قال. بل هي كروايات البخاري وأبي داود والنسائي، اللاتي ذكرهن من قبل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 وقال آخرون: الحدّ الذي أمر الله أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم: الآباط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 *ذكر من قال ذلك: 9669 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن الأوزاعي، عن الزهري قال: التيمم إلى الآباط. وعلة من قال ذلك: أن الله أمر بمسح اليد في التيمم، كما أمر بمسح الوجه. وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه، فكذلك عليه جميع اليد، ومن طرف الكفّ إلى الإبط"يدٌ". واعتلوا من الخبر بما:- 9670 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا صيفي بن ربعي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، (1) فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح، فتغيَّظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد. فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة! نزل فيك رخصة! فضربنا بأيدينا: ضربة لوجوهنا، (2) وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط. (3) * * *   (1) "هلك العقد" انقطع فضاع. (2) في المطبوعة: "لوجهنا" بالإفراد، والصواب من المخطوطة. (3) الحديث: 9670 - صيفي بن ربعي الأنصاري: ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 2 / 1 / 448، وروى عن أبيه، قال: "صالح الحديث، ما أرى بحديثه بأسًا". ووقعت ترجمته في مطبوعة ابن أبي حاتم في ترجمتين برقمين، اتباعًا لإحدى نسخه المخطوطة. ووهم مصححه الفاضل في ترجيحها على المخطوطة الأخرى التي جعلت فيه ترجمة واحدة. أبو اليقظان: هو عمار بن ياسر. وهذه كنيته. والحديث رواه الطيالسي في مسنده: 637، عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد، مطولا. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 1: 208، من طريق الطيالسي. ورواه أحمد في المسند 4: 320 (حلبي) ، عن حجاج، عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد. ورواه ابن ماجه: 565، من طريق الليث بن سعد، عن الزهري، بهذا الإسناد. والحديث من هذا الوجه بهذا الإسناد - منقطع، لأن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود لم يدرك عمار بن يسار، وروايته عنه مرسلة. وقد ثبت أن عبيد الله سمعه من أبيه من عمار، وسمعه من ابن عباس عن عمار. فاتصل إسناده من هذين الوجهين: قال البيهقي - بعد روايته -: "وكذلك رواه معمر بن راشد، ويونس بن يزيد الأيلي، والليث بن سعد، وابن أخي الزهري، وجعفر بن برقان - عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عمار". ثم رواه - بنحوه - من طريق مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة"أنه أخبره عن أبيه، عن عمار بن ياسر". وقال أبو داود - بعد الحديث: 320، الذي سنذكره بعد - قال: "وقال مالك: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار. وكذلك قال أبو أويس، عن الزهري". ورواه ابن ماجه: 566، من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، وهو ابن دينار، عن الزهري: "عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار بن ياسر" - مختصرًا. وأما من رواية عبيد الله عن ابن عباس: فرواه أحمد في المسند 4: 263-264، من طريق صالح - وهو ابن كيسان - عن الزهري: "حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر" - فذكره مطولا. وكذلك رواه البيهقي 1: 208-209، من طريق أحمد في المسند. وذكره ابن كثير 2: 472، من رواية المسند. وكذلك رواه أبو داود: 320، والنسائي 1: 60 -كلاهما من طريق صالح، عن الزهري، به - بذكر ابن عباس في الإسناد. وقال الطيالسي - بعد الحديث: 637، الذي ذكرناه آنفًا -: "روى هذا الحديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار". وكذلك نص أبو داود في السنن، والبيهقي - بعد روايتهما الحديث من طريق صالح - على أن ابن إسحاق رواه عن الزهري، وذكر فيه"عن ابن عباس". وأياما كان: فالحديث صحيح. ولسنا نرى هذا اضطرابًا، بل هي طرق متعددة ثابتة، لا تكون واحدة منها علة لغيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الحدّ الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصِّر عنه في مسحه بالتراب من يديه: الكفان إلى الزّندين، لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز. ثم هو فيما جاوز ذلك مخيّر، إن شاء بلغ بمسحه المرفقين، وإن شاء الآباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرًا فيما جاوز الكفين: أن الله لم يحدَّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدًّا لا يجوز التقصير عنه. فما مسح المتيمم من يديه أجزأه، إلا ما أُجمع عليه، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه. وقد أجمع الجميعُ على أن التقصير عن الكفين غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 مجزئ، فخرج ذلك بالسنة، (1) وما عدا ذلك فمختلف فيه. وإذا كان مختلفًا فيه، وكان الماسح بكفيه داخلا في عموم الآية = كان خارجًا مما لزمه من فرض ذلك. * * * واختلف أهل التأويل في الجنب، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم لا؟ فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين: حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء، حكم من جاء من الغائط وسائر من أحدَث ممن جُعل التيمم له طهورًا لصلاته. وقد ذكرت قول بعض من تأوّل قول الله:"أو لامستم النساء"، أو جامعتموهن، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال ذلك. * * * واعتلَّ قائلو هذه المقالة، بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره، بإجماع الحجة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، الذي يقطع العذر ويزيل الشك. * * * وقال جماعة من المتقدمين: لا يجزئ الجنب غيرُ الاغتسال بالماء، وليس له أن يصلي بالتيمم، والتيمم لا يطهره. قالوا: وإنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب. وتأولوا قول الله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل". قالوا: وقد نهى الله الجنب أن يقرب مصَلَّى المسلمين إلا مجتازًا فيه حتى يغتسل، ولم يرخِّص له بالتيمم. قالوا: وتأويل قوله:"أو لامستم النساء" أو لامستموهن باليد، دون الفرج، ودون الجماع. قالوا: فلم نجد الله رخص للجنب في التيمم، بل أمره بالغسل، وأن لا يقرب الصلاة إلا مغتسلا. قالوا: والتيمم لا يطهِّره لصلاته. *ذكر من قال ذلك: 9671 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية، عن   (1) في المطبوعة: "فخرج ذلك بالسنة"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 الأعمش، عن شقيق قال: كنت مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت رجلا أجنبَ فلم يجد الماء شهرًا، أيتيمم؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرًا. فقال أبو موسى: فكيف تصنعون بهذه الآية في"سورة المائدة": (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [سورة المائدة: 6] ؟ فقال عبد الله: إن رُخّص لهم في هذا، لأوشكوا إذا بَرَد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد! فقال له أبو موسى: إنما كرهتم هذا لهذا! قال: نعم! قال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرَّغت في الصعيد كما تَمَرَّغ الدابة. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما يكفيك أن تصنع هكذا = وضرب بكفيه ضربة واحدة، ومسح بهما وجهه، ومسح كفيه"؟ قال عبد الله: ألم تر عُمرَ لم يقنع لقول عمار؟ (1) 9672 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك، وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: كنا عند عمر بن الخطاب رحمه الله، (2) فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنا   (1) الحديث: 9671 - أبو السائب: هو سلم بن جنادة، مضت ترجمته في: 48 شقيق: هو ابن سلمة، أبو وائل الأسدي، التابعي الكبير المخضرم. والحديث رواه أحمد في المسند 4: 264-265 (حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش بهذا الإسناد. وكذلك رواه البخاري 1: 386 (فتح) ، ومسلم 1: 110، وأبو داود: 321: والنسائي 1: 61- كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش. ورواه أحمد أيضًا 4: 265، من طريق عبد الواحد، وهو ابن زياد العبدي، عن الأعمش، به، بنحوه. ونقله ابن كثير 2: 269 عن هذه الرواية من المسند. وكذلك رواه مسلم 1: 110، من طريق عبد الواحد. ورواه البيهقي 1: 211، من طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش. ثم قال: "أخرجه البخاري ومسلم، من أوجه عن الأعمش. وأشار البخاري إلى رواية يعلى بن عبيد، وهو أثبتهم سياقة للحديث". وإشارة البخاري هي فيه 1: 387، عقب رواية أبي معاوية. (2) في المطبوعة: "رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء! فقال عمر: أمّا أنا، فلو لم أجد الماء لم أكن لأصلِّي حتى أجد الماء. قال عمار بن ياسر: أتذكر يا أمير المؤمنين، حيث كنا بمكان كذا وكذا، ونحن نرعي الإبل، فتعلم أنّا أجنبنا =؟ قال: نعم! = فأما أنا فتمرغت في التراب، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كان الصعيد لكَافيك! وضرب بكفَيه الأرض، ثم نفخ فيهما، ثم مسح وجهه وبعضَ ذراعيه؟ فقال: اتق الله يا عمار! فقال: يا أمير المؤمنين، إن شئت لم أذكره! فقال: لا ولكن نُوَلِّيك من ذلك ما تولَّيت. (1) 9673 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت إبراهيم في دُكان مسلم الأعور، فقلت: أرأيت إن لم تجد الماء وأنت جنب؟ قال: لا أصلي. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الجنب ممن أمره الله بالتيمم إذا لم يجد الماء، والصلاةِ (3) بقوله:"أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا". وقد بينا ثَمَّ أن معنى"الملامسة"، في هذا الموضع: الجماع، بنقل الحجة التي لا يجوزُ الخطأ فيما نقلته مجمعةً عليه، ولا السهو ولا التواطؤ والتشاعر، (4) بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه التطهر لصلاته = مع ما قد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار التي قد ذكرنا بعضها، وتركنا ذكر كثير منها، استغناءً بما ذكرنا منها عما لم نذكر، وكراهة منا إطالة الكتاب باستقصاء جميعه. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فلم تجدوا ماء فتيمموا"، وهل ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه طلب الماء، (5) أم ذلك أمر منه بالتيمم كلما لزمه الطلب وهو محدِثَ حدثًا يجب عليه منه الوضوء بالماء، لو كان للماء واجدًا؟ فقال بعضهم: ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه فرضُ الطلب بعد الطلب، محدثًا كان أو غير محدث. *ذكر من قال ذلك: 9674 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن الحجاج، عن أبي إسحاق،   (1) الحديث: 9672 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي. سفيان: هو الثوري. سلمة: هو ابن كهيل. مضت ترجمته في 439، 2435. أبو مالك: هو غزوان الغفاري، وهو تابعي معروف، مضى مرارًا. عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 94 وهو أخو"سعيد بن عبد الرحمن" المترجم في: 9656، 9657. ووقع في الطبري هنا من الناسخين يقينًا، إذ سقط منه مخطوطًا ومطبوعًا [عن عبد الرحمن بن أبزى] . فصار ظاهر الإسناد أن عبد الله بن عبد الرحمن هو الذي كان عند عمر وحكى القصة! وما كان هذا قط، لأن عبد الله لم يدرك ذلك، وليست له رواية إلا عن أبيه. ولا يحتمل السياق هنا أن يكون هذا اختلاف رواية. ثم مما يقطع بذلك أن النسائي روى هذا الحديث 1: 60، عن محمد بن بشار - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد نفسه، وفيه: [عن عبد الرحمن بن أبزى] ، التي زدناها هنا. وكذلك رواه أحمد في المسند 4: 319 (حلبي) ، عن عبد الرحمن بن مهدي - شيخ شيخ الطبري هنا، بهذا -الإسناد. وفيه هذه الزيادة. ولكن وقع في مطبوعة المسند خطأ مطبعي"عن أبي ثابت" بدل"عن أبي مالك"، وصححناه من مخطوطة المسند التي عندنا. فالحديث يرويه سلمة بن كهيل، عن شيخين، هما: أبو مالك، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى - كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي أبزى. وقد أشار البيهقي 1: 209-210 إلى روايات لسلمة بن كهيل في هذا الحديث، زعمها اضطرابًا من سلمة، ولكن الظاهر أنها اختلاف روايات من الرواة عنه. وقوله - في متن الحديث -"قال: نعم. فأما أنا فتمرغت ... " - هذا هو الثابت أيضًا في رواية النسائي. وفي طبعة مصر"أما أنا" بدون الفاء. وهو سياق صحيح، على تقدير حذف"قال" بعد قوله"نعم". لظهور أن قوله"فأما أنا" من كلام عمار بن ياسر، لا من كلام عمر. ومثل هذا كثير. ولفظ المسند في هذا الموضع: "قال: نعم، قال: فإني تمرغت في التراب". (2) الأثر: 9673 -"مسلم الأعور"، هو"مسلم بن كيسان الضبي"، ضعيف يتكلمون فيه، ولكن ليس له مدخل في هذا الأثر. و"إبراهيم" هو النخعي. (3) قوله: "والصلاة" مجرورًا عطفًا على"أمره الله بالتيمم ... والصلاة". (4) "التشاعر"، التعالم والتواطؤ. وقد سلفت هذه الكلمة في 6: 127، تعليق: 2 = و155، تعليق: 1. وكان في المطبوعة: "والتضافر"، غيرها إذ لم يفهمها. (5) في المطبوعة: "هل ذلك أمر" بحذف الواو، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 عن الحارث، عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: التيمم لكل صلاة. 9675 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي مثله. 9676 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبدان المروزي قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا عبد الوراث قال، أخبرنا عامر الأحول، عن نافع: أنه حدثه عن ابن عمر مثل ذلك. (1) 9677 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا مجالد، عن الشعبي قال: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة. 9678 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة قال: يتيمم لكل صلاة = ويتأوّل هذه الآية:"فلم تجدوا ماء". 9679 - قال أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا الفريابي، عن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قالوا: التيمم لكل صلاة. (2) 9680 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن النخعي قال: يتيمم لكل صلاة. * * * وقال أخرون: بل ذلك أمرٌ من الله بالتيمم بعد طلب الماء مَنْ لزمه فرض الطلب إذا كان محدثًا. فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره بالتراب، فلزمه فرض الطلب، فليس عليه تجديد تيممه، وله أن يصلي بتيممه الأول. *ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 9676 - انظر التعليق على الأثر: 9643. (2) الأثر: 9679 -"يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري" القاضي، روى عن أنس. و"عبد الكريم بن أبي المخارق"، الفقيه روى عن أنس. "وربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي"، وهو: ربيعة الرأي، صاحب الفتوى بالمدينة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن"، وهو خطأ، ولا يستقيم مع السياق أيضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 9681 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن يونس، عن الحسن قال: التيمم بمنزلة الوضوء. 9682 - حدثنا إسماعيل بن موسى السدي قال، حدثنا عمر بن شاكر، عن الحسن قال: يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث، فإن وجد الماء فليتوضأ. (1) 9683 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث. وكذلك التيمم. 9684 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد. 9685 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن قال: يصلي الصلوات بالتيمم ما لم يحدث. 9686 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء قال: التيمم بمنزلة الوضوء. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال:"يتيمم المصلي لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضًا"، لأن الله جل ثناؤه أمر كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء، فإن لم يجد الماء فالتيمم. ثم أخرج القائمَ إلى الصلاة من كان قد تقدم من قيامه إليها الوضوء بالماء (2) = سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) إلا أن يكون قد أحدث حدثًا ينقض طهارته، فيسقط فرض الوضوء عنه بالسنة. وأما القائم إليها وقد تقدم قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها، ففرض التيمم له لازم بظاهر التنزيل، بعد طلبه الماء إذا أعوزه. * * *   (1) الأثر: 9682 -"عمر بن شاكر البصري". يروي عن أنس المناكير. روى عنه إسماعيل بن موسى السدي الفزاري. مترجم في التهذيب. (2) في المطبوعة: "قد تقدم قيامه إليها"، بحذف"من"، وهي صواب في مكانها، كما في المخطوطة. (3) قوله: "سنة رسول الله" مرفوع، فاعل قوله: "ثم أخرج القائم ... سنة رسول الله". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لم يزل (1) ="عفوا"، عن ذنوب عباده، (2) وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به، كما عفا لكم، (3) أيها المؤمنون، عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى ="غفورًا"، يقول: فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذابَ على خطاياهم، كما ستر عليكم، أيها المؤمنون، بتركه معاجلتكم على صلاتكم في مساجدكم سكارى. يقول: فلا تعودوا لمثلها، فينالكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك، مُنَكِّلَة. (4) * * * القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله جل ثناؤه:"ألم تر إلى الذين". فقال قوم: معناه: ألم تخبر؟ * * * وقال آخرون: معناه ألم تعلم؟ (5) * * *   (1) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل، فيما سلف 7: 523 / 8: 51، 88، 98، 229. (2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف 7: 215، 327. (3) في المطبوعة: "كما عفا عنكم"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. (4) قوله: "منكلة" (بضم الميم وفتح النون وتشديد الكاف مكسورة) من التنكيل: وهو إنزال العقاب الشديد، إذا رآه غير نكل عنه وحذره. ولو قرئت: "منكلة"، (بفتح الميم وسكون النون واللام المفتوحة) ، لكانت صوابًا، ومثلها: "المنكل" وهو النكال أيضًا. (5) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف 3: 160 / 5: 429، 430 / 6: 288 = ومعاني القرآن للفراء 1: 270. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: ألم تر بقلبك، يا محمد، علمًا (1) "إلى الذين أوتوا نصيبًا". وذلك أن"الخبر" و"العلم" لا يجليان رؤية، ولكنه رؤية القلب بالعلم. فذلك كما قلنا فيه. (2) * * * وأما تأويل قوله:"إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، فإنه يعني: إلى الذين أعطوا حظَّا من كتاب الله فعلموه (3) وذكر أن الله عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم. *ذكر من قال ذلك: 9687 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل"، فهم أعداء الله اليهود، اشتروا الضلالة. 9688 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى قوله:"يحرفون الكلم عن مواضعه"، قال: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب اليهودي. (4) 9689 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق   (1) في المخطوطة: "ألم تر بعلمك"، وهو خطأ، صوابه ما في المبطوعة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "لذلك"، وصواب السياق ما أثبت. (3) انظر تفسير"الإيتاء" في فهارس اللغة = وتفسير"النصيب" فيما سلف 4: 206 / 6: 288 / 8: 274. (4) هكذا في المخطوطة أيضًا"رفاعة بن زيد بن السائب"، وسترى أنه: " ... بن زيد بن التابوت" في الأثر التالي، وأسماء يهود مشكلة، فلم أستطع أن أقطع بخطئها، فلعل"السائب" اسم جده، ولقبه"التابوت". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 قال، (1) حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظمائهم - يعني من عظماء اليهود = إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال:"راعنا سمعَك، يا محمد حتى نفهمك"! ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة" إلى قوله:"فلا يؤمنون إلا قليلا" (2) 9690 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (3) بإسناده، عن ابن عباس، مثله. * * *   (1) كان في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحاق"، وهو خطأ فاحش. (2) الأثر: 9689 - سيرة ابن هشام 2: 209، وهو تال للأثر السالف رقم: 9501. (3) في المطبوعة وحدها: "عن أبي إسحاق"، والمخطوطة صواب هنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 القول في تأويل قوله: {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يشترون الضلالة"، اليهود الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، يختارون الضلالة = وذلك: الأخذ على غير طريق الحقّ، وركوبُ غير سبيل الرشد والصواب، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهج الحق. (1) وإنما عنى الله بوصفهم باشترائهم الضلالة: مقامهم على التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم الإيمان به، وهم عالمون أنّ السبيل الحقَّ الإيمانُ به،   (1) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف 1: 312-315 / 2: 340-342، 455 / 3: 328 / 6: 527 = وتفسير"الضلالة" 1: 195، 313 / 2: 495، 496 / 6: 66، 500، 584 / 7: 369. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم التي عندهم. * * * وأما قوله:"ويريدون أن تضلوا السبيل"، يعني بذلك تعالى ذكره: ويريد هؤلاء اليهود الذين وصَفهم جل ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب =" أن تضلوا" أنتم، يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، المصدقين به =" أن تضلوا السبيل"، يقول: أن تزولوا عن قصد الطريق ومَحَجَّة الحق، فتكذبوا بمحمد، وتكونوا ضلالا مثلهم. وهذا من الله تعالى ذكره تحذيرٌ منه عبادَه المؤمنين، أن يستنصحوا أحدًا من أعداء الإسلام في شيء من أمر دينهم، أو أن يسمعوا شيئًا من طعنهم في الحق. * * * ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عن عداوة هؤلاء اليهود الذين نهى المؤمنين أن يستنصحوهم في دينهم إياهم، فقال جل ثناؤه: ="والله أعلم بأعدائكم"، يعني بذلك تعالى ذكره: والله أعلم منكم بعداوَة هؤلاء اليهود لكم، أيها المؤمنون. يقول: فانتهوا إلى طاعتي فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، (1) فإني أعلم بما هم عليه لكم من الغشِّ والعداوة والحسد، وأنهم إنما يبغونكم الغوائل، ويطلبون أن تضلوا عن محجة الحق فتهلكوا. * * * وأما قوله:"وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا"، فإنه يقول: فبالله، أيها المؤمنون، فثقوا، وعليه فتوكلوا، وإليه فارغبوا، دون غيره، يكفكم مهمَّكم، وينصركم على أعدائكم ="وكفى بالله وليًّا"، يقول: وكفاكم وحسْبكم بالله ربكم وليًّا يليكم ويلي أموركم بالحياطة لكم، والحراسة من أن يستفزّكم أعداؤكم عن دينكم، أو يصدّوكم   (1) في المخطوطة: "مما نهيتكم عنه"، وفي المطبوعة: "عما نهيتكم عنه"، والصواب ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 عن اتباع نبيكم (1) "وكفى بالله نصيرًا"، يقول: وحسبكم بالله ناصرًا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغى دينكم العَوَج. (2) * * * القول في تأويل قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قال أبو جعفر: ولقوله جل ثناؤه:"من الذين هادوا يحرفون الكلم"، وجهان من التأويل. أحدهما: أن يكون معناه:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" ="من الذين هادوا يحرفون الكلم"، فيكون قوله:"من الذين هادوا" من صلة"الذين". وإلى هذا القول كانت عامة أهلِ العربية من أهل الكوفة يوجِّهون قوله:"من الذين هادوا يحرِّفون". (3) * * * والآخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يُحرِّف الكلم عن مواضعه، فتكون"مَن" محذوفة من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله:"من الذين هادوا"، عليها. وذلك أن"مِن" لو ذكرت في الكلام كانت بعضًا ل"مَن"، فاكتفى بدلالة"مِنْ"، عليها. والعرب تقول:"منا من يقول ذلك، ومِنا لا يقوله"، (4) بمعنى: منا   (1) انظر تفسير: "الولي" فيما سلف 2: 489، 564 / 5: 424 / 6: 142، 313، 497. (2) انظر تفسير"النصير" فيما سلف 2: 489، 564 / 5: 581 / 6: 443، 449. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 271. (4) في المطبوعة: "والعرب تقول: منا من يقول ذلك" بزيادة"من" وهو خطأ، والصواب من معاني القرآن للفراء. أما المخطوطة فكان فيها: "والعرب تقول ذلك ومثالا لا يقوله" وهو من عبث الناسخ وإسقاطه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله = فتحذف"مَن" اكتفاء بدلالة"مِنْ" عليه، كما قال ذو الرمة: فَظَلُّوا، وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ ... وَآخَرُ يَثْنِي دَمْعَةَ العَيْنِ بِالهَمْلِ (1) يعني: ومنهم مَن دمعه، وكما قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [سورة الصافات: 164] . وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجِّهون تأويل قوله:"من الذين هادوا يحرفون الكلم"، غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك"القوم"، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرِّفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة: كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ (2) يعني: كأنك جمل من جمال أقيش. فأما نحويو الكوفة فينكرون أن يكون المضمر مع"مِن" إلا"مَن" أو ما أشبهها. (3) * * *   (1) ديوانه 485، وقبله: مع اختلاف الرواية: بَكَيْتُ عَلَى مَيٍّ بِهَا إذْ عَرَفْتُهَا ... وَهِجْتُ الْهَوَى حَتَّى بَكَى القَوْمُ مِنْ أَجْلِي فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ ... وَآخَرُ يَثْنِي عَبْرَةَ العَيْنِ بالهَمْلِ وَهَلْ هَمَلانُ الْعَيْنِ رَاجِعُ مَا مَضَى ... مِنَ الوَجْدِ، أوْ مُدْنِيكِ يَا مَيُّ مِنْ أَهْلِي وكان في المطبوعة: "يذري دمعة العين بالمهل" وهو خطأ، وتغيير من الطابع، وفي المخطوطة"يثني" كما في الديوان. وقوله: "يثني دمعة العين"، أي يرد هملانها. وقوله: "بالهمل" متعلق بقوله"دمعة" ووضع"دمعة" هنا مصدرًا لقوله: "دمعت عينه دمعًا ودمعانًا ودموعًا"، وزاده هو"دمعة" على وزن"رحمة" في المصادر = وكذلك في رواية"عبرة"، كلاهما مصدر، ولم تثبته كتب اللغة. يقول: وآخر يرد إرسال العين دمعها منهملا، يعني: لولا ذلك لسالت دموعه غزارًا. (2) مضى تخريجه فيما سلف 1: 179، تعليق: 2، ونسيت هناك أن أرده إلى هذا المكان، فأثبته. (3) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 271. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 قال أبو جعفر: والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك: قول من قال: قوله:"من الذين هادوا"، من صلة"الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، لأن الخبرين جميعًا والصفتين، من صفة نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصفَ الله صفتهم في قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب". وبذلك جاء تأويلُ أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام = إذ كان الأمر كذلك = إلى أن يكون فيه متروك. * * * وأما تأويل قوله:"يُحَرِّفون الكلِمَ عن مواضعه"، (1) فإنه يقول: يبدِّلون معناها ويغيِّرونها عن تأويله. * * * و"الكلم" جماع"كلمة". * * * وكان مجاهد يقول: عنى بـ "الكلم"، التوراة. 9691 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يحرفون الكلم عن مواضعه"، تبديل اليهود التوراة. 9692 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وأما قوله:"عن مواضعه"، فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه. * * *   (1) انظر تفسير"التحريف" فيما سلف 2: 248، 249. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} يعني بذلك جل ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا، يا محمد، قولك، وعصينا أمرك، كما:- 9693 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"سمعنا وعصينا"، قال: قالت اليهود: سمعنا ما نقول ولا نطيعك. 9694 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9695 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9696 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"سمعنا وعصينا"، قالوا: قد سمعنا، ولكن لا نطيعك. * * * القول في تأويل قوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالَيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره: أنهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يَسُبُّه:"اسمع، لا أسمعَك الله"، كما:- 9697 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واسمع غير مسمع"، قال: هذا قول أهل الكتاب يهود، كهيئة ما يقول الإنسان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 "اسمع لا سمعت"، أذًى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشتمًا له واستهزاءً. 9698 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"واسمع غير مسمع" قال: يقولون لك:"واسمع لا سمعت". وقد روي عن مجاهد والحسن: أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى: واسمع غير مقبول منك. = ولو كان ذلك معناه لقيل:"واسمع غير مسموع"، ولكن معناه: واسمع لا تسمع، ولكن قال الله تعالى ذكره:"ليًّا بألسنتهم وطعنًا في الدين"، فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم، والطعن في الدين بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم. * * * وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، يقول: غير مقبول ما تقول، فهو كما:- 9699 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، قال: غير مُسْتمع - قال ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، غير مقبول ما تقول. 9700 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9701 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"واسمع غير مسمع"، قال: كما تقول اسمع غير مَسْموع منك. 9702 - وحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 عن السدي قال: كان ناس منهم يقولون:"واسمع غير مسمع"، كقولك: اسمع غير صاغِرٍ. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وراعنا"، أي: راعنا سمعك، افهم عنّا وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في"سورة البقرة" بأدلته، بما فيه الكفاية عن إعادته. (2) * * * ثم أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليًّا بألسنتهم"، يعني تحريكًا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه، (3) واستخفافًا منهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنًا في الدين، كما:- 9703 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:"راعنا سمعك"! يستهزئون بذلك، فكانت اليهود قبيحة أن يقال: (4) "راعنا سمعك" ="ليًّا بألسنتهم" والليّ: تحريكهم ألسنتهم بذلك ="وطعنًا في الدين". 9704 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"راعنا ليًّا بألسنتهم"، كان   (1) في المطبوعة: "غير صاغ"، والصواب من المخطوطة. (2) انظر ما سلف 2: 459-467. (3) انظر تفسير"اللي" و"اللي بالألسنة" فيما سلف 6: 535-537. (4) في المخطوطة والمطبوعة: "فكان في اليهود قبيحة فقال"، وهو كلام لا يستقيم البتة، وصوابه الذي لا شك فيه ما أثبت، وانظر كونها كلمة قبيحة لليهود في 2: 460. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 الرجل من المشركين يقول:"أرعني سمعك"! يلوي بذلك لسانه، يعني: يحرِّف معناه. 9705 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أييه، عن ابن عباس:"من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه"، إلى"وطعنًا في الدين"، فإنهم كانوا يستهزئون، ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطعنون في الدين. 9706 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وراعنا ليا بألسنتهم وطعنًا في الدين"، قال:"راعنا"، طعنهم في الدين، وليهم بألسنتهم ليبطلوه، ويكذبوه. قال: و"الرَّاعن"، الخطأ من الكلام. (1) 9707 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"ليا بألسنتهم"، قال: تحريفًا بالكذب. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم، قالوا لنبي الله:"سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله، واسمع منا، وانظرنا ما نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا" ="لكان خيرًا لهم وأقوم"، يقول: لكان ذلك خيرًا لهم عند الله ="وأقوم"، يقول: وأعدل وأصوبَ في القول. * * *   (1) انظر القول في"الراعن" فيما سلف 2: 465، 466. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 وهو من"الاستقامة" من قول الله: (وَأَقْوَمُ قِيلا) [سورة المزمل: 6] ، بمعنى: وأصوبُ قيلا (1) كما:- 9708 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرًا لهم"، قال: يقولون اسمع منا، فإنا قد سمعنا وأطعنا، وانظرنا فلا تعجل علينا. 9709 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد قوله:"وانظُرنا"، قال: اسمع منا. 9710 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"وانظرنا"، قال: أفهمنا. 9711 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،"وانظرنا"، قال: أفهمنا. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة، من توجيههما معنى:"وانظرنا" إلى:"اسمع منا" = وتوجيه مجاهد ذلك إلى"أفهمنا" = فما لا نعرف في كلام العرب، (2) إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى"أفهمنا"، انتظرنا نفهم ما تقول = أو: انتظرنا نقل حتى تسمع منا = فيكون ذلك معنًى مفهومًا، وإن كان غير تأويلٍ للكلمة ولا تفسير لها. (3) ولا نعرف:"انظرنا" في كلام العرب، (4) إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا = فأما"انظرنا" بمعنى: انتظرنا، فمنه قول الحطيئة: وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتَكُمْ ... يَوْمًا يَجِيء بها مَسْحِي وَإِبْسَاسِي (5)   (1) انظر تفسر"أقوم" فيما سلف 6: 77، 78. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ما لا نعرف" بغير فاء، ولكني زدتها لأنها أعرق في العربية وأقوم للسياق. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "غير تأويل الكلمة" والصواب ما أثبت. (4) في المطبوعة: "فلا نعرف" بالفاء، والأجود ما في المخطوطة، كما أثبته. (5) ديوانه: 52، والكامل 1: 351، وهذا خطأ لا شك فيه في رواية البيت، وأثبته على حاله، لأنه دلالة على عجلة أبي جعفر أحيانًا في كتابة تفسيره، ودليل على حفظه الشعر، ولولا ذلك لم يخلط هذا الخلط فإن هذه القصيدة، هي التي هجا بها الزبرقان بن بدر، ومدح بغيض ابن عامر، والتي شكاه من أجلها الزبرقان إلى عمر بن الخطاب فحبسه، يقول للزبرقان لما غضب حين استضافه بغيض: مَا كانَ ذَنْبُ بَغِيض لا أَبَا لَكُمُ ... فِي بَائِسٍ جَاءَ يَحْدُو آخِرَ الناسِ لَقَدْ مَرَيْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتكُمْ ... يَوْمًا يجِيءُ بِهَا مَسْحِي وَإبْسَاسِي وَقَدْ مَدَحْتُكُمْ عَمْدًا لأُرْشِدَكُمْ ... كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ مَتْحٍي وَإمْرَاسِي ثم يليه بيت الشاهد الذي كان ينبغي أن يذكره هنا أبو جعفر، كما ذكره فيما سلف في تفسير"انظرنا" من سورة البقرة 2: 467، 468 وقد شرحته هناك. ولولا أن أثبت حال أبي جعفر في كتابه، لألغيت البيت المذكور في المتن، ولوضعت هذا البيت: وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ أَعْشَاءَ صَادِرَةٍ ... لِلْخِمْسِ طَالَ بِهَا حَوْزِي وَتَنْسَاسِي وقوله: "لقد مريتكم" من قولهم: "مري الناقة يمريها مريًا": إذا مسح ضرعها لتدر. و"الدرة": الدفعة من اللبن و"المسح" مسح الضرع للحلب. و"الإبساس": هو صوت الراعي، يلينه لناقته عند الحلب لتسكن ويسهل حلبها. يقول: لقد ترفقت لكم، أستخرج خيركم بالمديح الرقيق والقول اللين، فلم ألمق خيرًا، ولم تجودوا به. وكان في المخطوطة: "يجيء به" وهو خطأ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 وأما"انظرنا"، بمعنى: انظر إلينا، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات: ظَاهِرَاتُ الجَمالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ (1)   (1) ديوانه: 171، من قصيدته التي فخر فيها بقريش، ومدح مصعب بن الزبير، وذكر نساء عبد شمس بن عبد مناف فقال: وَحِسَانٌ مِثْلُ الدُّمَي عَبْشَمِيَّاتٌ ... عَلَيْهِن بَهْجَةٌ وَحَيَاءُ لا يَبِعْنَ العِيَابَ في مَوْسِمٍ النَّاسِ ... إذَا طَافَ بِالعِيابِ النِّسَاءُ ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ والسَّرْو ........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و"السرو": الشرف وكرم المحتد. وهي أجود الروايتين، وقوله: "كما ينظر الأراك الظباء"، من حسن التشبيه، ودقة الملاحظة للعلاقة بين الشرف والسؤدد. وما يكون للمرء من شمائل وسمت وهيأة. ويعني أنهن قد ينصبن أجيادهن، كأنهن ظباء تعطو الأراك لتناله. وذلك أظهر لجمال أجيادهن، وحركتهن. والجيد فيه دلالة من دلائل الخلق لا يخطئها بصير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 بمعنى: كما ينظر إلى الأراك الظباء. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (46) } قال أبو جعفر: يعني بذلك: ولكن الله تبارك وتعالى أخْزَى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية، فأقصاهم وأبعدهم من الرشد واتباع الحق (2) ="بكفرهم"، يعني: بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات ="فلا يؤمنون إلا قليلا"، يقول: فلا يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم، ولا يقرُّون بنبوته ="إلا قليلا"، يقول: لا يصدقون بالحق الذي جئتهم به، يا محمد، إلا إيمانًا قليلا كما:- 9712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فلا يومنون إلا قليلا"، قال: لا يؤمنون هم إلا قليلا. قال أبو جعفر: وقد بيّنا وجه ذلك بعلله في"سورة البقرة". (3) * * *   (1) انظر تفسير نظيرة هذه الكلمة من آية البقرة: "وقولوا انظرنا" 2: 467 - 469. (2) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 2: 328 / 3: 254، 261 / 6: 577. (3) يعني تفسير قوله تعالى"فقليلا ما يؤمنون" 2: 329 - 331. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب"، اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا حوالَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله لهم: يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به ="آمنوا" يقول: صدِّقوا بما نزلنا إلى محمد من الفرقان ="مصدقًا لما معكم"، يعني: محقِّقًا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران ="من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها". * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"طمسه إياها": محوه آثارها حتى تصير كالأقْفَاء. وقال آخرون: معنى ذلك أن نطمس أبصارها فنصيّرها عمياء، ولكن الخبر خرج بذكر"الوجه"، والمراد به بصره ="فنردّها على أدبارها"، فنجعل أبصارَها من قبل أقفائها. *ذكر من قال ذلك: 9713 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثنا عمي قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا" إلى قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا"، وطمسها: أن تعمى ="فنردها على أدبارها"، يقول: أن نجعل وجوههم من قبل أقفِيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 9714 - حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبْدي قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، قال: نجعلها في أقفائها، فتمشي على أعقابها القهقرى. (1) 9715 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، بنحوه = إلا أنه قال: طمْسُها: أن يردَّها على أقفائها. 9716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"فنردها على أدبارها"، قال: نحوِّل وجوهها قِبَل ظهورها. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك (2) من قبل أن نعمي قومًا عن الحق ="فنردها على أدبارها"، في الضلالة والكفر. *ذكر من قال ذلك: 9717 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، فنردها عن الصراط، عن الحق (3) ="فنردها على أدبارها"، قال: في الضلالة. 9718 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أن نطمس وجوهًا" عن صراط الحق ="فنردها على أدبارها"، في الضلالة. 9719 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.   (1) الأثر: 9714 -"أبو العالية، إسماعيل بن الهيثم العبدي"، لم نجده، وانظر ما سلف رقم: 9365، 9366. و"أبو قتيبة" هو: سلم بن قتيبة، مضت ترجمته برقم: 1899، 1924، 9365. (2) في المطبوعة، أسقط: "بل". (3) في المطبوعة: "عن الصراط الحق"، أسقط"عن" الثانية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 9720 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، الحسن:"نطمس وجوهًا"، يقول: نطمسها عن الحق ="فنردها على أدبارها"، على ضلالتها. 9721 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"كما لعنّا أصحاب السبت"، قال: نزلت في مالك بن الصَّيِّف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، من بني قينقاع. أما"أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، يقول: فنعميها عن الحق ونُرجعها كفارًا. 9722 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، يعني: أن نردهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردَّهم على أدبارهم، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها، وناحيتهم التي هم بها ="فنردها على أدبارها"، من حيث جاءوا منه بَديًّا من الشام. (1) *ذكر من قال ذلك: 9723 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، قال: كان أبي يقول: إلى الشأم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"من قبل أن نطمس وجوهًا"، فنمحو أثارها   (1) في المطبوعة: "بدءًا من الشام"، وأثبت في المخطوطة، وكلتاهما صواب. و"بديًا"، في بدء أمرهم. وتفسير"الوجوه" هنا: النواحي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 ونسوِّيها ="فنردها على أدبارها"، بأن نجعل الوجوه منابتَ الشَّعر، كما وجوه القردة منابت للشعر، لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم. فقالوا: إذا أنبت الشعر في وجوههم، فقد ردَّها على أدبارها، بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى قوله:"من قبل أن نطمس وجوها"، من قبل أن نطمس أبصارَها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء ="فنردها على أدبارها"، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه، فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقْفاءً والأقفَاء وجوهًا، فيمشون القهقرى، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك. * * * وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب: لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهودَ الذين وصف صفتهم بقوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة"، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب أمنوا بما نزلنا مصدِّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها" الآية، بأسَه وسطوته وتعجيل عَقابه لهم، (2) إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به. ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارًا. * * * وإذْ كان ذلك كذلك، فبيّنٌ فساد قول من قال: تأويل ذلك: أن نعمِيها عن الحق فنردها في الضلالة. فما وجْه ردِّ من هو في الضلالة فيها؟! وإنما يرد في الشيء من كان خارجًا منه. فأما من هو فيه، فلا وجه لأن يقال:"نرده فيه". * * * وإذْ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا أنّ الله قد تهدَّد للذين ذكرهم في هذه   (1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 272. (2) السياق: ثم حذرهم ... بأسه وسطوته ... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 الآية بردّه وجوهَهم على أدبارهم = كان بيّنًا فساد تأويل من قال: معنى ذلك: يهددهم بردِّهم في ضلالتهم. * * * وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من قبل أن نجعل الوجوه منابتَ الشعر كهيئة وجوه القردة، فقولٌ لقول أهل التأويل مخالف. وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين، على خطئه شاهدًا. * * * وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها، فنردّهم إلى الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجدٍ، فإنه = وإن كان قولا له وجه = مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد. (1) وذلك أن المعروف من"الوجوه" في كلام العرب، التي هي خلاف"الأقفاء"، وكتاب الله يُوَجَّه تأويله إلى الأغلب في كلام مَن نزل بلسانه، حتى يدلّ على أنه معنيٌّ به غير ذلك من الوجوه، الذي يجب التسليم له. (2) * * * وأما"الطمس"، فهو العُفُوّ والدثور في استواء. منه يقال:"طمست أعلام الطريق تطمِسُ طُموسًا"، إذا دثرت وتعفَّت، فاندفنت واستوت بالأرض، كما قال كعب بن زهير: مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إذَا عَرقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعْلام مَجْهُولُ (3) يعني:"طامس الأعلام"، دائر الأعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للأعمى الذي   (1) في المطبوعة: "كما يدل عليه"، وفيه خطأ، وفي المخطوطة: "كما يدل على" وفيه خطآن. والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "من الوجوه التي ذكرت، دليل يجب التسليم له"، زاد فيما كان في المخطوطة لتستقيم الجملة، وكان فيها: "من الوجوه التي يجب التسليم له" والأمر أهون من ذلك، أخطأ فكتب"التي" مكان"الذي"، وهو حق السياق. (3) سلف البيت وتخريجه في 4: 424، تعليق: 4. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 قد تعفَّى غَرُّ ما بين جفني عينيه فدثر: (1) "أعمى مطموس، وطمْيس"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) [سورة يس: 66] . * * * = قال أبو جعفر:"الغَرُّ"، الشقّ الذي بين الجفنين. (2) * * * فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الآية، فهل كان ما توعَّدهم به؟ (3) قيل: لم يكن، لأنه آمن منهم جماعة، منهم: عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، (4) وأسد بن عبيد، ومُخَيْرِق، (5) وجماعة غيرهم، فدفع عنهم بإيمانهم. ومما يبين عن أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم، ما:- 9724 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة = جميعًا، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد   (1) في المطبوعة: "الذي قد تعفى ما بين جفني ... " حذف"غر"، لأنه لم يحسن قراءتها، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وانظر شرح أبي جعفر لكلمة"غر"، والتعليق عليه بعد. (2) في المطبوعة: (العراسق الذي بين الخفين) ، واستدرك عليه الناشر الأول، وكتب فيه خلطًا شديدًا، نقله عنه آخرون!! وأما المخطوطة التي لم يحسن الناشر قراءتها فكان فيها: العرالسق الذي بين الخفين" كله غير منقوط، وصوابه قراءته ما أثبت. وأصل ذلك أن"الغر" (بفتح الغين وتشديد الراء) هو الشق في الأرض. و"الغر" أيضًا: الكسر يكون في الثوب، والغضون في الجلد، وهو مكاسر الجلد، ومنه قليل: "اطو الثوب على غره" أي على كسره. وقد جاءت هذه الكلمة في تفسير أبي جعفر 23: 17، 18 مصحفة بالزاي: "والطمس على العين هو أن لا يكون بين جفني العين (غز) ، وذلك هو الشق الذي بين الجفنين". وانظر شرح ابن إسحاق في سيرته 2: 210: "المطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق". فتبين من هذا صحة قراءتنا وصوابها، وخلط من لا يحسن أن يخلط، فضلا عن أن يصيب!! (3) "كان" هنا تامة، بمعنى: وقع وحدث. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "أسد بن سعية" وعند ابن إسحاق: "أسيد بن سعية" (بفتح الألف وكسر السين) . والاختلاف في اسمه واسم أبيه كثير. (5) لم أجد"مخيرق" في غير هذا الموضع، وهو في سائر الكتب وفي ترجمته"مخيريق"، والاختلاف في أسماء بني إسرائيل كثير. فتركته على حاله هنا، لأنه هكذا ثبت في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود: منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا! فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحقٌّ! (1) فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد! وجحدوا ما عرفوا، وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله فيهم:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، الآية (2) 9725 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعبٍ، (3) فقال: أسلم كعب في زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة، فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم! قال: ألستم تقرأون في كتابكم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [سورة الجمعة: 5] ؟ وأنا قد حملت التوراة! قال: فتركه. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلا من أهلها حزينًا وهو يقول:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، الآية. فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين. * * *   (1) في المخطوطة: "الذي حكم به لحق"، وفي هامش النسخة بخط عتيق: "الصواب: بعثت"، وأخطأ من كتب، فالصواب ما في المطبوعة، وهو نص سيرة ابن هشام. (2) الأثر 9724 - سيرة ابن هشام 2: 209، وهو تابع الأثر السالف: 9689، 9690. (3) يعني"كعب الأحبار". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 القول في تأويل قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا (47) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أو نلعنهم"، أو نلعنكم فنخزيكم ونجعلكم قردة ="كما لعنا أصحاب السبت"، يقول: كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم. (1) قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله:"آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم"، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) [سورة يونس: 22] . (2) وقد يحتمل أن يكون معناه:"من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها"، أو نلعن أصحاب الوجوه = فجعل"الهاء والميم" في قوله:"أو نلعنهم"، من ذكر أصحاب الوجوه، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك: وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9726 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السبت"، أي: نحوّلهم قردة. 9727 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، يقول: أو نجعلهم قردة. 9728 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف قريبًا ص: 439، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر ما سلف 1: 154 / 3: 304، 305 / 6: 238، 464، ومواضع أخرى كثيرة فيما سلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 أسباط، عن السدي:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، أو نجعلهم قردة. 9729 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، قال: هم يهود جميعًا، نلعن هؤلاء كما لعنّا الذين لعنّا منهم من أصحاب السبت. (1) * * * وأما قوله:"وكان أمر الله مفعولا"، فإنه يعني: وكان جميع ما أمر الله أن يكون، كائنًا مخلوقًا موجودًا، لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خَلْقه. و"الأمر" في هذا الموضع: المأمور = سمي"أمر الله"، لأنه عن أمره كان وبأمره. والمعنى: وكان ما أمر الله مفعولا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم" = وإن الله لا يغفر أن يشرك به، فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام. * * * وإذ كان ذلك معنى الكلام، فإن قوله:"أن يشرك به"، في موضع نصب بوقوع"يغفر" عليها (2) = وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرًا. وذلك أن يوجَّه معناه إلى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، على تأويل الجزاء،   (1) انظر خبر"أصحاب السبت" فيما سلف 2: 166 - 175. (2) "الوقوع" تعدى الفعل إلى مفعول، كما سلف مرارًا كثيرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 كأنه قيل: إن الله لا يغفر ذنبًا مع شرك، أو عن شرك. (1) وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون"أن" في موضع خفض في قول بعض أهل العربية. (2) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [سورة الزمر: 53] . ذكر الخبر بذلك: 9730 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثني مُجَبَّر، عن عبد الله بن عمر: أنه قال: لما نزلت: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، قام رجل فقال: والشرك، يا نبيَّ الله. فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما". (3)   (1) في معاني القرآن للفراء 1: 272: "مع شرك، ولا عن شرك"، والصواب في التفسير. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 272 فهذه مقالته. (3) الحديث: 9730 - ابن أبي جعفر: هو عبد الله بن أبي جعفر الرازي: مضت ترجمته وترجمة أبيه في: 7030. الربيع: هو ابن أنس البكري. مضت ترجمته في: 5480. مجبر - بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الباء الموحدة المفتوحة، بوزن"محمد"-: هو ابن أخي عبد الله بن عمر. و"مجبر" لقبه، واسمه: "عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب". ذكره المصعب في نسب قريش، ص: 356، وابن حزم في جمهرة الأنساب، ص: 146، والمشتبه للذهبي، ص: 462. مترجم في التعجيل، ص: 392 - 393، وله ذكر فيه أيضًا في ترجمة ابنه"عبد الرحمن" ص: 256 - 257. وله رواية في المسند: 1402، عن عثمان وطلحة. وأظنها رواية منقطعة، فإن طبقته أصغر من أن يدركهما. وله ذكر في الموطأ ص: 397: "مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنه لقي رجلا من أهله يقال له المجبر، قد أفاض ولم يحلق ولم يقصر، جهل ذلك، فأمره عبد الله أن يرجع، فيحلق أو يقصر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض". ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهذا تابعي عرف شخصه، ولم يذكر بجرح، فأقل حالاته أن يكون حديثه حسنًا. والحديث نقله ابن كثير 2: 481، عن هذا الموضع. ثم قال: "وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر". وذكره السيوطي 1: 169، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. وسيأتي عقب هذا بإسناد ضعيف، لإبهام شيخ الطبري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 9731 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، قال: أخبرني مُجَبَّر، عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الآية: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله. فكره ذلك النبي، فقال:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". 9732 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا الهيثم بن جَمّاز قال، حدثنا بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نَشُك في قاتلِ النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرَّحم، حتى نزلت هذه الآية:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، فأمسكنا عن الشهادة. (1) وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله. * * *   (1) الحديث: 9732 - آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني. مضت ترجمته في: 187، الهيثم بن جماز البكاء، الحنفي البصري القاضي: ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين، والنسائي، وغيرهم. مترجم في لسان الميزان 6: 204 - 205، والكبير للبخاري 4 / 2 / 216. وابن أبي حاتم 4 / 2 / 81، والضعفاء للنسائي، ص: 30. و"جماز": بفتح الجيم وتشديد الميم وآخره زاي. ووقع في المخطوطة والمطبوعة"حماد"، وهو تصحيف. وكذلك وقع مصحفًا في التهذيب 11: 100، عند ذكره بترجمة"الهيثم بن أبي الهيثم". بكر بن عبد الله المزني: تابعي ثقة معروف، أخرج له الجماعة. والحديث ذكره السيوطي 2: 169، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، والبزار. ومعناه ثابت عن ابن عمر من روايات أخر: ففي الدر المنثور 2: 169"أخرج ابن الضريس، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن عدي - بسند صحيح، عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقال: إني ادخرت دعوتي، شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورجونا". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 5، وقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير حرب بن سريج، وهو ثقة". وفي مجمع الزوائد 10: 210 - 211"عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقال: أخرت شفاعتي لأهل الكبائر يوم القيامة. رواه البزار، وإسناده جيد". وهو نحو الذي قبله. وفيه أيضًا روايات بهذا المعنى عن ابن عمر 10: 193. هذا، وكان في المخطوطة: "لا نشك في المؤمن، وآكل مال اليتيم": بينهما بياض وقبل"المؤمن" في أعلاه حرف"ط"، وهذا دال على أن النسخة التي نقل عنها كانت غير واضحة فأثبتنا ما جاء في الروايات الأخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يشرك بالله" في عبادته غيره من خلقه ="فقد افترى إثما عظيما"، يقول: فقد اختلق إثما عظيمًا. (1) وإنما جعله الله تعالى ذكره"مفتريًا"، لأنه قال زورًا وإفكًا بجحوده وحدانية الله، وإقراره بأن لله شريكًا من خلقه وصاحبة أو ولدًا. فقائل ذلك مُفترٍ. وكذلك كل كاذب، فهو مفترٍ في كذبه مختلقٌ له. * * *   (1) انظر تفسير"افترى" فيما سلف 6: 292. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد بقلبك، (1) الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرِّئونها من الذنوب ويطهرونها. (2) * * * واختلف أهل التأويل، في المعنى الذي كانت اليهود تُزَكي به أنفسها. فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسَهم، قولهم:"نحن أبناء الله وأحباؤه". *ذكر من قال ذلك: 9733 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يُظلمون فتيلا"، وهم أعداء الله اليهود، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه، فقالوا:"نحن أبناء الله وأحِبّاؤه". وقالوا:"لا ذنوب لنا". 9734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: هم اليهود والنصارى، قالوا:"نحن أبناء الله وأحباؤه". وقالوا:"لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى". 9735 - وحدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: قالت يهود:"ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون! فإن كانت لهم ذنوب فإنّ لنا ذنوبًا! فإنما نحن   (1) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف قريبًا: 426، تعليق: 5، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"التزكية" فيما سلف: 369، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 مثلهم"! قال الله تعالى ذكره: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) 9736 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: قال أهل الكتاب:"لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى"، وقالوا:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، وقالوا:"نحن على الذي يحب الله". فقال تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء"، حين زعموا أنهم يدخلون الجنة، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته. 9737 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل لله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا"، نزلت في اليهود، قالوا:"إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارًا، فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كُفَّر عنا بالليل". * * * وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسَهم، تقديمهم أطفالهم لإمامتهم في صلاتهم، زعمًا منهم أنهم لا ذنوب لهم. *ذكر من قال ذلك: 9738 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يزكون أنفسهم"، قال: يهود، كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمُّونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. فتلك التزكية. 9739 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9740 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد قال: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 الدعاء والصلاة يؤمُّونهم، ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، فتلك تزكية = قال ابن جريج: هم اليهود والنصارى. 9741 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: نزلت في اليهود، كانوا يقدمون صبيانهم يقولون:"ليست لهم ذنوب". 9742 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال، كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحِنْث يصلُّون بهم، يقولون:"ليس لهم ذنوب"! فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، الآية. (1) * * * وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم، كانت قولهم:"إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا". *ذكر من قال ذلك: 9743 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، وذلك أن اليهود قالوا:"إن أبناءنا قد تُوُفُّوا، وهم لنا قربة عند الله، وسيشفعون ويزكوننا"! فقال الله لمحمد:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" إلى"ولا يظلمون فتيلا". * * * وقال آخرون: بل ذلك كان منهم، تزكية من بعضهم لبعض. *ذكر من قال ذلك: 9744 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي، عن أبيه،   (1) الأثر: 9742 -"أبو مكين" هو: نوح بن ربيعة الأنصاري، مولاهم. مترجم في التهذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال عبد الله: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء! يلقى الرجل ليس يملك له نفعًا ولا ضرًا، فيقول:"والله إنك لذَيْتَ وذَيْتَ"، ولعله أن يرجع ولم يَحْلَ من حاجته بشيء، (1) وقد أسخط الله عليه. ثم قرأ:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" الآية. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: معنى"تزكية القوم"، الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم، وَصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا، وأنهم لله أبناء وأحبّاء، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه. لأن ذلك هو أظهر معانيه، لإخبار الله عنهم أنهم إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها. * * * وأما الذين قالوا: معنى ذلك:"تقديمهم أطفالهم للصلاة"، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم. * * * وأما قوله جل ثناؤه:"بل الله يزكي من يشاء"، فإنه تكذيب من الله المزكِّين أنفسهم من اليهود والنصارى، المبرِّئيها من الذنوب. يقول الله لهم: ما الأمر كما   (1) في المطبوعة: "ويجعله أن يرجع"، وهو خطأ لا شك فيه، والصواب في المخطوطة. وقوله: "لم يحل من حاجة بشيء"، أي لم يظفر منها بشيء، ولم يصب شيئًا مما ابتغى، وهو لا يستعمل إلا مع النفي والجحد بهذا المعنى. وقوله: "ذيت وذيت" من ألفاظ الكنايات، بمعنى: "كيت وكيت". (2) الأثر: 9744 -"يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي" سلفت ترجمته برقم: 5379. و"قيس بن مسلم الجدلي العدواني" روى عن طارق بن شهاب، وروى عنه الأعمش، وسفيان الثوري وآخرون. قال أحمد"ثقة في الحديث، كان مرجئًا" وقال أحمد عن سفيان: "يقولون: ما رفع رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا تعظيمًا لله". و"طارق بن شهاب الأحمسي"، روى عنه الأربعة. ورأى طارق النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة، وبلال، وحذيفة، وخالد بن الوليد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا، وأنكم برآء مما يكرهه الله، ولكنكم أهل فِرْية وكذب على الله، وليس المزكَّي من زكى نفسه، ولكنه الذي يزكيه الله، والله يزكي من يشاء من خلقه فيطهره ويبرِّئه من الذنوب، بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه، إلى ما يرضاه من طاعته. * * * وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك، لقوله جل ثناؤه:"انظر كيف يفترون على الله الكذب"، وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد طهرهم من الذنوب. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (49) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه، فيبخسهم في تركه تزكيتهم، وتزكية من ترك تزكيته، وفي تزكية من زكى من خلقه = شيئًا من حقوقهم، ولا يضع شيئًا في غير موضعه، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه، فيوفِّقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه. كل ذلك إليه وبيده، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدًا = ممن زكاه أو لم يزكه = فتيلا. * * * واختلف أهل التأويل في معنى"الفتيل". فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ، إذا فتلتَ إحداهما بالأخرى. *ذكر من قال ذلك: 9745 - حدثني سليمان بن عبد الجبار [قال، حدثنا محمد بن الصلت] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الفتيل ما خرج من بين إصبعيك. (1) 9746 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن التيمي قال: سألت ابن عباس عن قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: ما فتلت بين إصبعيك. 9747 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال، سمعت أبا العالية، عن ابن عباس:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: الفتيل، هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل. (2) 9748 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا يظلمون فتيلا"، والفتيل، هو أن تدلُك إصبعيك، (3) فما خرج بينهما فهو ذلك. 9749 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين،   (1) الأثر: 9745 -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط" مضى برقم: 5994 = وكذلك مضت ترجمة: "محمد بن الصلت"، وترجمة"أبي كدينة: يحيى بن المهلب". هذا وقد كان الإسناد مخرومًا فيما رجحت، سقط منه ذكر"محمد بن الصلت" كما مضى في 5994، 7964، وكما سيأتي الإسناد نفسه برقم: 9799، ولأن سليمان بن عبد الجبار، لم يلحق"أبا كدينة". و"قابوس" هو: قابوس بن أبي ظبيان الجنبي، روى عن أبيه حصين بن جندب. وهو ضعيف، لا يحتج به، كما قال ابن سعد. قال ابن حبان: "كان رديء الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له". وأبوه: "حصين بن جندب الجنبي، أبو ظبيان. روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر وغيرهم من الصحابة والتابعين، وهو ثقة. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 9747 -"يزيد بن درهم، أبي العلاء العجمي"، أخو: محمد بن درهم، روى عن أنس بن مالك، والحسن، وهذا هو يروي أيضًا عن أبي العالية، ولم يذكروه. روى عنه وكيع، وعبد الصمد بن عبد الوارث. قال الفلاس: "ثقة"، وقال ابن معين: "ليس بشيء". وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يخطئ كثيرًا". مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 2 / 260، ولسان الميزان 6: 286. وانظر الأثر التالي: 9811، والتعليق عليه. هذا، وكان في المطبوعة: "زيد بن درهم: ... "، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة"تدلك بين إصبعيك"، زاد"بين" وليست في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 عن أبي مالك في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: الفتيل: الوَسخ الذي يخرج من بين الكفين. 9750 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: الفتيل، ما فتلت به يديك، فخرج وَسَخ. 9751 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما. * * * وأناس يقولون: الذي يكون في بَطن النواة. *ذكر من قال ذلك: 9752 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فتيلا"، قال: الذي في بطن النواة. 9753 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: الفتيل، الذي في بطن النواة. 9754 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن عمرو: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول، فذكر مثله. 9755 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: الفتيل، الذي في شِقّ النواة. 9756 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال: الفتيل، في النَّوى. 9757 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 معمر، عن قتادة في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: الفتيل الذي في شِقّ النواة. 9758 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: الفتيل، شق النواة. 9759 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الفتيل، الذي في بطن النواة. 9760 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الفتيل، الذي يكون في شِقّ النواة. 9761 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يظلمون فتيلا"، فتيل النواة. 9762 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية قال: الفتيل، الذي في بطن النواة. (1) * * * قال أبو جعفر: وأصل"الفتيل"، المفتول، صرف من"مفعول" إلى"فعيل" كما قيل:"صريع" و"دهين" من"مصروع" و"مدهون". وإذ كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه إنما قصد بقوله:"ولا يظلمون فتيلا"، الخبرَ عن أنه لا يظلم عبادَه أقلَّ الأشياء التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر؟ = وكان الوسخ الذي يخرج من بين إصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى، كالذي هو في شق النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من   (1) الأثر: 9762 -"أبو عامر" هو أبو عامر العقدي، عبد الملك بن عمرو، مضت ترجمته برقم: 4143. و"قرة" هو قرة بن خالد السدوسي، روى عن أبي رجاء العطاردي، وابن سيرين، والحسن. وروى عنه شعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم. مترجم في التهذيب و"عطية" هو: عطية بن سعد بن جنادة العوفي. مترجم في رقم: 305. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 الأشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له، ولا قيمة = فواجبٌ أن يكون كل ذلك داخلا في معنى"الفتيل"، إلا أن يخرج شيئًا من ذلك ما يجب التسليم له، مما دل عليه ظاهر التنزيل. * * * القول في تأويل قوله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: انظر، يا محمد، كيف يفتري هؤلاء الذين يزكون أنفسهم من أهل الكتاب = القائلون:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، الزاعمون أنه لا ذنوب لهم = الكذبَ والزور من القول، فيختلقونه على الله ="وكفى به"، يقول: وحسبهم بقيلهم ذلك الكذبَ والزورَ على الله ="إثمًا مبينًا"، يعني أنه يبين كذبهم لسامعيه، ويوضح لهم أنهم أفَكَةٌ فجرة، (1) كما:- 9763 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: هم اليهود والنصارى ="انظر كيف يفترون على الله الكذب" (2) * * *   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"ألم تر"، فيما سلف قريبًا: 452، تعليق: 1، والمراجع هناك = وتفسير"النصيب" فيما سلف: 427، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر بقلبك، يا محمد، إلى الذين أُعطوا حظًّا من كتاب الله فعلموه ="يؤمنون بالجبت والطاغوت"، يعني: يصدِّقون بالجبت والطاغوت، ويكفرون بالله، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر، والتصديقَ بهما شرك. * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الجبت" و"الطاغوت". فقال بعضهم: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله. *ذكر من قال ذلك: 9764 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال:"الجبت" و"الطاغوت"، صنمان. * * * وقال آخرون:"الجبت" الأصنام، و"الطاغوت" تراجمة الأصنام. (1) *ذكر من قال ذلك: 9765 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"،"الجبت" الأصنام، و"الطاغوت"، الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبّرون عنها الكذبَ ليضلوا الناس. * * * وزعم رجال أنّ"الجبت"، الكاهن، و"الطاغوت"، رجل من اليهود يدعى   (1) يعني بقوله: "تراجمة الأصنام"، الكهان، تنطق على ألسنة الأصنام، كأنها تقول للناس بلسانهم، ما قالته تلك بألسنتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 كعب بن الأشرف، وكان سيِّد اليهود. * * * وقال آخرون:"الجبت"، السحر، و"الطاغوت"، الشيطان. *ذكر من قال ذلك: 9766 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد قال: قال عمر رحمه الله:"الجبت" السحر، و"الطاغوت" الشيطان. (1) 9767 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي، عن عمر مثله. (2) 9768 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت" الشيطان. 9769 - حدثني يعقوب قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي قال:"الجبت"، السحر، و"الطاغوت"، الشيطان. 9770 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت"، الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم. 9771 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت"، الشيطان والكاهن. * * *   (1) الأثر: 9766 -"حسان بن فائد العبسي"، مضى برقم: 5834، وكان في المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه: "حسان بن قائد العنسي". ومضى هذا الإسناد برقم: 5835. (2) الأثر: 9767 - مضى برقم: 5834. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 وقال آخرون:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الشيطان. *ذكر من قال ذلك: 9772 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان أبي يقول:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الشيطان. * * * وقال آخرون:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الكاهن. *ذكر من قال ذلك: 9773 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"الجبت والطاغوت"، قال:"الجبت" الساحر، بلسان الحبشة، و"الطاغوت" الكاهن. 9774 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن رفيع قال:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الكاهن. 9775 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية أنه قال:"الطاغوت" الساحر، و"الجبت" الكاهن. 9776 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن داود، عن أبي العالية، في قوله:"الجبت والطاغوت"، قال: أحدهما السحر، والآخر الشيطان. * * * وقال آخرون:"الجبت" الشيطان، و"الطاغوت" الكاهن. *ذكر من قال ذلك: 9777 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، كنا نحدَّث أن الجبت شيطان، والطاغوت الكاهن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 9778 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. 9779 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"الجبت" الشيطان، و"الطاغوت" الكاهن. * * * وقال آخرون:"الجبت" الكاهن، و"الطاغوت" الساحر. (1) *ذكر من قال ذلك: 9780 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير قال:"الجبت" الكاهن، و"الطاغوت" الساحر. 9781 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال في الجبت والطاغوت، قال:"الجبت" الكاهن، والآخر الساحر. * * * وقال آخرون:"الجبت" حيي بن أخطب، و"الطاغوت"، كعب بن الأشرف. *ذكر من قال ذلك: 9782 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"،"الطاغوت": كعب بن الأشرف، و"الجبت": حيي بن أخطب. 9783 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قال:"الجبت": حيي بن أخطب، و"الطاغوت": كعب بن الأشرف. 9784 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "والطاغوت الشيطان"، وصواب السياق ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 جويبر، عن الضحاك في قوله:"الجبت والطاغوت"، قال:"الجبت": حيي بن أخطب، و"الطاغوت": كعب بن الأشرف. * * * وقال آخرون:"الجبت" كعب بن الأشرف، و"الطاغوت" الشيطان. *ذكر من قال ذلك: 9785 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال:"الجبت": كعب بن الأشرف، و"الطاغوت": الشيطان، كان في صورة إنسان. قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، أن يقال: يصدِّقون بمعبودَين من دون الله، يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين. وذلك أن"الجبت" و"الطاغوت": اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ من دون الله، أو طاعة، أو خضوع له، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، من حجر أو إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها، كانت معظمة بالعبادة من دون الله = فقد كانت جُبوتًا وطواغيت. وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله. وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملّتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين. * * * وقد بينت الأصل الذي منه قيل للطاغوت:"طاغوت"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * *   (1) انظر ما سلف 5: 419، وسائر الآثار في"الطاغوت" من رقم: 5834 - 5845. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا (51) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم =:"هؤلاء"، يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر ="أهدى"، يعني: أقوم وأعدل ="من الذين آمنوا"، يعني: من الذين صدَّقوا الله ورسوله وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ="سبيلا"، يعني: طريقًا. * * * قال أبو جعفر: وإنما ذلك مَثَلٌ. ومعنى الكلام: أن الله وصف الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود = بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة = في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، بأنهم قالوا: (1) إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله، أعدل وأصوبُ من دين أهل التصديق لله ولرسوله. وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك. ذكر الآثار الواردة بما قلنا: 9786 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت حَبْر أهل المدينة وسيدهم؟ (2) قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "وأنهم قالوا" بالواو، والواو متصلة بالألف في المخطوطة، والصواب ما أثبته، وقوله: "بأنهم" متعلق بقوله: "إن الله وصف ... ". (2) في المطبوعة: "خير أهل المدينة"، وفي المخطوطة"حبر"، وإن كانت غير منقوطة في كثير من المواضع. ووقع في لسان العرب مادة (صنبر) : "خير" وفي مادة (بتر) : "حبر"، فأثبتها ورجحتها، لأنهم إنما سألوه عن شأن الدين، والحبر: العالم من أهل الكتاب، فهو المسئول عن مثل ما سألوه عنه من أمر خير الدينين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 الصُّنبور المنبتر من قومه، (1) يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السِّدانة وأهل السِّقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) [سورة الكوثر: 3] ، وأنزلت:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" إلى قوله:"فلن تجد له نصيرًا". 9787 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" ثم ذكر نحوه. 9788 - وحدثني إسحاق بن شاهين قال، أخبرنا خالد الواسطي، عن داود، عن عكرمة قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقال له المشركون: احكم بيننا، وبين هذا الصنبور الأبتر، فأنت سيدنا وسيد قومك! فقال كعب: أنتم والله خيرٌ منه! فأنزل الله تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، إلى آخر الآية. (2) 9789 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة: أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش، فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، (3) وأمرهم أن   (1) "الصنبور": سفعات تنبت في جذع النخلة، غير مستأرضة في الأرض. ثم قالوا للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب ولا ناصر"صنبور". فأراد هؤلاء الكفار من قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، صنبور نبت في جذع نخلة، فإذا قلع انقطع: فكذلك هو إذا مات، فلا عقب له. وكذبوا، ونصر الله رسوله وقطع دابر الكافرين. و"المنبتر" و"الأبتر": المنقطع الذي لا عقب له. (2) الأثر: 9788 -"إسحاق بن شاهين الواسطي"، مضى برقم: 8211، ولم نجد له ترجمة. و "خالد الواسطي"، هو: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي" مضى برقم: 7211. (3) "استجاش القوم": طلب منهم أن يجيشوا جيشًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 يغزوه، وقال: إنا معكم نقاتله. فقالوا: إنكم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم! فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما. ففعل. ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء، (1) ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده؟ قال: بل أنتم خير وأهدى! فنزلت فيه:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا". 9790 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود من بني النضير ما كان، (2) حين أتاهم يستعينهم في دية العامريَّين، فهمّوا به وبأصحابه، (3) فأطلع الله رسوله على ما هموا به من ذلك. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة، فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان: يا أبا سعد، إنكم قوم تقرؤون الكتابَ وتعلمون، ونحن قوم لا نعلم! فأخبرنا، ديننا خير أم دين محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان: نحن قوم ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه! قال: دينكم خير من دين محمد، فاثبتوا عليه، ألا ترون أنّ محمدًا يزعم   (1) "الكوماء": هي الناقة المشرقة السنام العاليته، وهذه خير النوق وأسمنها وأعزها عليهم، والجمع"كوم". (2) في المطبوعة: "واليهود بني النضير"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) ذلك في سنة أربع من الهجرة، فأرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتمالأوا على أن يلقوا عليه حجرًا من فوق جدار البيت الذي كان رسول الله جالسًا إلى جنبه، فأطلعه الله على ذلك من أمرهم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، ثم أمر بالتهيؤ لحرب بني النضير، فحاصرهم، وأجلاهم، وفيهم نزلت"سورة الحشر" بأسرها. انظر سيرة ابن هشام 3: 199 - 213. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 أنه بُعِث بالتواضع، وهو ينكح من النساء ما شاء! وما نعلم مُلْكًا أعظم من ملك النساء!! (1) فذلك حين يقول:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا". 9791 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش، قال: كفار قريش أهدى من محمد! "عليه السلام" = قال ابن جريج: قدم كعب بن الأشرف، فجاءته قريش فسألته عن محمد، فصغَّر أمره ويسَّره، وأخبرهم أنه ضالٌّ. قال: ثم قالوا له: ننشدك الله، نحن أهدى أم هو؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكُوم، ونسقي الحجيج، ونعمر البيت، ونطعم ما هبَّت الريح؟ (2) قال: أنتم أهدى. * * * وقال آخرون: بل هذه الصفة، صفة جماعة من اليهود، منهم: حُيَيّ بن أخطب، وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه لهم. ذكر الأخبار بذلك: 9792 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن قاله قال، أخبرني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذين حَزَّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، (3) والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، (4)   (1) لم تزل هذه مقالة كل طاعن على رسول الله من المستشرقين وأذنابهم في كل أرض، والكفر كله ملة واحدة، والذي يلقى على ألسنتهم، هو الذي ألقى على لسان هذا اليهودي الفاجر، عدو الله وعدو رسوله. (2) قوله: "نطعم ما هبت الريح"، يراد به معنى الدوام. ولو أرادوا به زمن الشتاء في القحط، لكان صوابًا. (3) في المطبوعة: "وأبو رافع" بزيادة الواو، وهو خطأ: "أبو رافع" كنية سلام ابن أبي الحقيق. والصواب من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. (4) في المطبوعة: "والربيع بن أبي الحقيق" أسقط"بن الربيع"، والصواب من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 وأبو عمار، (1) ووَحْوَح بن عامر، وهوذة بن قيس = فأما وحوح وأبو عمار وهوذة، (2) فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير = فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأوَل، فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل الله فيهم:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"، إلى قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا". (3) 9793 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"، الآية، قال: ذُكر لنا أن هذه الآية أنزلت في كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، ورجلين من اليهود من بني النضير، لقيا قريشًا بمَوْسم، (4) فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السِّدانة والسقاية، وأهل الحرم؟ فقالا لا بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه! وهما يعلمان أنهما كاذبان، إنما حملهما على ذلك حَسَد محمد وأصحابه. * * * وقال آخرون: بل هذه صفة حيي بن أخطب وحده، وإياه عنى بقوله:"ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا". *ذكر من قال ذلك: 9794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى آخر الآية، قال: جاء حيي بن   (1) "أبو عمار" في المطبوعة في الموضعين"أبو عامر"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. (2) "أبو عمار" في المطبوعة في الموضعين"أبو عامر"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. (3) الأثر: 9792 - سيرة ابن هشام 2: 210، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم: 9724. (4) الموسم: مجتمع الناس، في سوق أو في حج أو غيرهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 أخطب إلى المشركين فقالوا: يا حيي، إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: نحن وأنتم خير منهم! فذلك قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى قوله:"ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا". * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في ذلك، قولُ من قال: إن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود. وجائز أن تكون كانت الجماعةَ الذين سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد، = أو يكون حُيَيًّا وآخر معه، (1) إما كعبًا، وإما غيره. * * *   (1) في المطبوعة: "أن يكون"، وهو خطأ لا ريب فيه، صوابه ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، هم"الذين لعنهم الله"، يقول: أخزاهم الله فأبعدهم من رحمته، بإيمانهم بالجبت والطاغوت، وكفرهم بالله ورسوله عنادًا منهم لله ولرسوله، وبقولهم للذين كفروا:"هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا" ="ومن يلعن الله"، يقول: ومن يخزه الله فيبعده من رحمته ="فلن تجد له نصيرًا"، يقول: فلن تجد له، يا محمد، ناصرًا ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحلّ به، فيدفع ذلك عنه، كما:- 9795 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 قتادة قال: قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ما قالا = يعني من قولهما:"هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا" = وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنزل الله:"أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا". (1) * * * القول في تأويل قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أم لهم نصيب من الملك"، أم لهم حظ من الملك، يقول: ليس لهم حظ من الملك، (2) كما:- 9796 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أم لهم نصيب من الملك"، يقول: لو كان لهم نصيب من الملك، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا. 9797 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: قال الله:"أم لهم نصيب من الملك"، قال: فليس لهم نصيب من الملك، [لم يؤتوا الناس نقيرًا] ="فإذا لا يؤتون الناس نقيرًا"، (3) ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك، لم يكونوا إذًا يعطون الناس نقيرًا، من بُخْلهم. * * * واختلف أهل التأويل في معنى:"النقير". فقال بعضهم: هو النقطة التي في ظهر النواة.   (1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف: 439، تعليق: 2، والمراجع هناك = وتفسير"النصير" فيما سلف: 430، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 460، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة حذف جملة"لم يؤتوا الناس نقيرًا" كلها، وهي في الحقيقة جملة قلقة، فأثبتها كما هي بين قوسين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 *ذكر من قال ذلك: 9798 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"نقيرًا"، يقول: النقطة التي في ظهر النواة. 9799 - حدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: النقير الذي في ظهر النواة. (1) 9800 - حدثني جعفر بن محمد الكوفي المروزي قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: النقير وَسط النواة. (2) 9801 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"،"النقير" نقيرُ النواة: وَسطها. 9802 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"، يقول: لو كان لهم نصيب من الملك، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا = و"النقير"، النكتة التي في وَسَط النواة. 9803 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن عمرو: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: النقير الذي في ظَهر النواة.   (1) الأثر: 9799 - انظر التعليق على الأثر رقم: 9745. (2) الأثر: 9800 -"جعفر بن محمد الكوفي المروزي"، لم أعرف من هو، ولكني رأيت أبا جعفر روى عنه في التاريخ 5: 18، دون ذكر"المروزي"، و"جعفر بن محمد" كثير، ولكن لم أجد هذه النسب التي ذكرها الطبري. و"عبيد الله" لم أعرفه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 9804 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال:"النقير"، النقرة التي تكون في ظهر النواة. 9805 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال:"النقير"، الذي في ظهر النواة. * * * وقال آخرون:"النقير"، الحبة التي تكون في وَسَط النواة. *ذكر من قال ذلك: 9806 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"نقيرًا"، قال:"النقير"، حبة النواة التي في وَسَطها. 9807 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"، قال: النقير، حبة النواة التي في وسطها. 9808 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال:"النقير"، في النوى. 9809 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:"النقير"، نقير النواة الذي في وسطها. 9810 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"النقير"، نقير النواة الذي يكون في وَسط النواة. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 وقال آخرون: معنى ذلك: نَقْرُ الرجل الشيء بَطَرف أصابعه. *ذكر من قال ذلك: 9811 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال، سمعت أبا العالية: ووضع ابن عباس طرف الإبهام على ظهر السبابة، ثم رفعهما وقال: هذا النقير. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال، إن الله وصف هؤلاء الفرْقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشيء الذي لا خطر له، ولو كانوا ملوكًا وأهلَ قدرة على الأشياء الجليلة الأقدار. فإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى"النقير"، أن يكون أصغرَ ما يكون من النُّقر. وإذا كان ذلك أولى به، فالنقرة التي في ظهر النواة من صغار النُّقر، وقد يدخل في ذلك كل ما شَاكلها من النُّقر. ورفع قوله:"لا يؤتون الناس"، ولم ينصبْ بـ "إذَنْ"، ومن حكمها أن تنصب الأفعال المستقبلة إذا ابتدئ الكلام بها، لأن معها"فاء". ومن حكمها إذا دخل فيها بعضُ حروف العطف، أن توجه إلى الابتداء بها مرة، وإلى النقل عنها إلى غيرها أخرى. وهذا الموضع مما أريد بـ "الفاء" فيه، النقل عن"إذَنْ" إلى ما بعدها، وأن يكون معنى الكلام: أم لهم نصيب، فلا يؤتون الناس نقيرًا إذَنْ. (2) * * *   (1) الأثر: 9811 -"يزيد بن درهم، أبي العلاء" مضى برقم: 9747 في مثل هذا الإسناد، وقد علقت عليه هناك. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"زيد بن درهم"، وقد بينت خطأ ذلك هناك. أما المخطوطة هنا، فكان فيها: "عن ابن در بن درهم" سيئة الكتابة، متصلة الراءين، غير منقوطة. (2) القول في"إذن" استوفاه الفراء في معاني القرآن 1: 273، 274. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 القول في تأويل قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أم يحسدون الناس"، أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود، كما:- 9812 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أم يحسدون الناس"، قال: يهود. 9813 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9814 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله. * * * وأما قوله:"الناس"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عَنَى الله به. فقال بعضهم: عنى الله بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم خاصةً. *ذكر من قال ذلك: 9815 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، أخبرنا هشيم، عن خالد، عن عكرمة في قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، قال:"الناس" في هذا الموضع، النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصةً. 9816 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 9817 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله. 9818 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، قال:"الناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم. 9819 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه. * * * وقال آخرون: بل عنى الله به العرب. *ذكر من قال ذلك: 9820 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، أولئك اليهود، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله عاتب اليهودَ الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم أهدى من محمد وأصحابه سبيلا على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذَبة =: أتحسدون محمدًا وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله. (1) * * * وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ما قبل قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، مضى بذّم القائلين من اليهود للذين كفروا:"هؤلاء أهدىَ من الذين آمنوا سبيلا"، فإلحاق قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، بذمهم على ذلك، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل = أشبهُ   (1) في المطبوعة: "أم يحسدون"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 وأولى، ما لم تأت دلالة على انصراف معناه عن معنى ذلك. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل"الفضل" الذي أخبر الله أنه آتى الذين ذكرهم في قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله". (1) فقال بعضهم: ذلك"الفضل" هو النبوّة. *ذكر من قال ذلك: 9821 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله. بعث الله منهم نبيًا، فحسدوهم على ذلك. 9822 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"على ما آتاهم الله من فضله"، قال: النبوة. وقال آخرون: بل ذلك"الفضل" الذي ذكر الله أنه آتاهموه، هو إباحته ما أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النساء، ينكح منهن ما شاء بغير عدد. قالوا: وإنما يعني: بـ "الناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم، على ما ذكرتُ قبل. *ذكر من قال ذلك: 9823 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" الآية، وذلك أن أهل الكتاب قالوا:"زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، ليس همه إلا النكاح! فأيّ ملك أفضَلُ من هذا"! فقال الله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله". 9824 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف في فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 أسباط، عن السدي:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، يعني: محمدًا، أن ينكح ما شَاء من النساء. 9825 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، وذلك أن اليهود قالوا:"ما شأن محمد أُعطي النبوّة كما يزعم، وهو جائع عارٍ، وليس له هم إلا نكاحُ النساء؟ " فحسدوه على تزويج الأزواج، وأحل الله لمحمد أن ينكح منهن ما شاء أن ينكح. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، قولُ قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل: أن معنى"الفضل" في هذا الموضع: النبوّة التي فضل الله بها محمدًا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم = لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية، تدلّ على أنها تقريظٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمة الله عليهم، (2) على ما قد بينا قبل. وليس النكاح وتزويجُ النساء = وإن كان من فضْل الله جل ثناؤهُ الذي آتاه عباده = بتقريظ لهم ومدح. * * *   (1) الأثر: 9825 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت الضحاك يقول"، أسقط من الإسناد ما أثبته. وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 9819. وقد أسلفت أن مقالة اليهود هذه، قد تلقفها من بعدهم أهل الضغن على محمد رسول الله، ولا يزالون يبثونها في كتبهم، وقد تعلق بها أشياعهم من أهل الضلالة المتعبدين لسادتهم من المستشرقين في زماننا هذا. (2) في المطبوعة: "رضي الله عنهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد فعلت ذلك مرارًا دون أن أنبه عليه في بعض المواضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 القول في تأويل قوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أم يحسد هؤلاء اليهود = الذين وصف صفتهم في هذه الآيات = الناسَ على ما آتاهم الله من فضله، من أجل أنهم ليسوا منهم؟ فكيف لا يحسدون آل إبراهيم، فقد آتيناهم الكتاب = ويعني بقوله:"فقد آتينا آل إبراهيم"، فقد أعطينا آل إبراهيم، يعني: أهله وأتباعه على دينه (1) "الكتاب"، يعني كتاب الله الذي أوحاه إليهم، وذلك كصحف إبراهيم وموسى والزّبور، وسائر ما آتاهم من الكتب. * * * = وأما"الحكمة"، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابًا مقروءًا (2) "وآتيناهم ملكًا عظيمًا". * * * واختلف أهل التأويل في معنى"الملك العظيم" الذي عناه الله في هذه الآية. (3) فقال بعضهم: هو النبوّة. *ذكر من قال ذلك: 9826 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أم يحسدون الناس"، قال: يهود ="على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب"، وليسوا منهم ="والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، قال: النبوّة.   (1) انظر تفسير"آل" فيما سلف 2: 37 / 3: 222، تعليق: 1 / 6: 326. (2) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 7: 369، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148 - 150 / 2: 488 / 5: 312، 314، 371 / 6: 299، 300. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 9827 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله = إلا أنه قال:"ملكًا"، النبوّة. * * * وقال آخرون: بل ذلك تحليلُ النساء. قالوا: وإنما عنى الله بذلك: أم يحسدون محمدًا على ما أحلّ الله له من النساء، فقد أحل الله مثل الذي أحله له منهن، لداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، فكيف لم يحسدوهم على ذلك، وحسدوا محمدًا عليه السلام؟ *ذكر من قال ذلك: 9828 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فقد آتينا آل إبراهيم"، سليمان وداود ="الحكمة"، يعني: النبوة ="وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، في النساء، فما باله حَلّ لأولئك وهم أنبياء: أن ينكح داود تسعًا وتسعين امرأة، وينكح سليمان مئة، ولا يحل لمحمد أن ينكح كما نكحوا؟ * * * وقال آخرون: بل معنى قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، الذي آتى سليمان بن داود. *ذكر من قال ذلك: 9829 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا". يعني ملكَ سليمان. * * * وقال آخرون: بل كانوا أُيِّدوا بالملائكة. *ذكر من قال ذلك: 9830 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن همام بن الحارث:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، قال: أُيِّدوا بالملائكة والجنود. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية = وهي قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا" = القولُ الذي رُوي عن ابن عباس أنه قال:"يعني ملك سليمان". لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، دون الذي قال إنه ملك النبوّة، ودون قول من قال: إنه تحليلُ النساء والملك عليهن. (1) لأن كلام الله الذي خوطب به العرب، غيرُ جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالةٌ أو تقوم حُجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجبُ التسليم لها. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن الذين أوتوا الكتاب = من يهود بني إسرائيل، الذين قال لهم جل ثناؤه:"آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها" ="مَنْ آمن به"، يقول: من صدَّق بما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم مصدّقًا لما معهم ="ومنهم من صدّ عنه"، ومنهم من أعرَض عن التصديق به، (2) كما:- 9831 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمنهم من آمن به"، قال: بما أنزل على محمد من يهود ="ومنهم من صدّ عنه".   (1) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148 - 150 / 2: 488 / 5: 312، 314، 371 / 6: 299، 300. (2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 9832 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدّوا عما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما رَفعَ عنهم وعيدَ الله الذي توعِّدهم به في قوله: (آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) في الدنيا، (1) وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لإيمان من آمن منهم، وأن الوعيدَ لهم من الله بتعجيل العقوبة في الدنيا، إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فلما آمن بَعضُهم، خرجوا من الوعيد الذي توعَّده في عاجل الدنيا، وأخرت عقوبةُ المقيمين على التكذيب إلى الآخرة، فقال لهم: كفاكم بجهنم سعيرًا. (2) * * * ويعني بقوله:"وكفى بجهنم سعيرًا"، وحسبكم، أيها المكذبون بما أنزلت على محمد نبيي ورسولي ="بجهنم سعيرًا"، يعني: بنار جهنم، تُسعَر عليكم = أي: تُوقدُ عليكم. * * * = وقيل:"سعيرًا"، أصله"مسعورًا"، من"سُعِرت تُسعَر فهي مسعورة"، كما قال الله: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) [سورة التكوير: 12] ، ولكنها صرفت إلى"فعيل"، كما قيل:"كف خضيب"، و"لحية دهين"، بمعنى: مخضوبة ومدهونة - و"السعير"، الوقود. (3) * * *   (1) هي الآية السالفة من"سورة النساء" رقم: 47. (2) انظر ما سلف ص: 445س: 4 وما بعده. (3) انظر تفسير"السعير" فيما سلف: 30. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} قال أبو جعفر: هذا وعيد من الله جل ثناؤه للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل الله على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار، وبرسوله. يقول الله لهم: إن الذين جحدوا ما أنزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم، من آياتي = يعني: من آيات تنزيله، ووَحي كتابه، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد صلى الله عليه وسلم = فلم يصدقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به ="سوف نصليهم نارًا"، يقول: سوف ننضجهم في نارٍ يُصلون فيها = أي يشوون فيها (1) ="كلما نضجت جلودهم"، يقول: كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت ="بدلناهم جلودًا غيرها"، يعني: غير الجلود التي قد نضجت فانشوت، كما:- 9833 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ثوير، عن ابن عمر:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"، قال: إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا بيضًا أمثالَ القراطيس. (2) 9834 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم   (1) انظر تفسير"الإصلاء" فيما سلف: 27 - 29، 231. (2) الأثر: 9833 -"ثوير"، هو: ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة الهاشمي. مضت ترجمته برقم: 3212، 5414. وفي المطبوعة: "نوير"، وفي المخطوطة غير منقوط. في المطبوعة: "جلودًا بيضاء"، وهو خطأ، والصواب في المخطوطة. و"القراطيس" جمع"قرطاس": وهو الصحيفة البيضاء التي يكتب فيها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 بدلناهم جلودًا غيرَها"، يقول: كلما احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرَها. 9835 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كلما نضجت جلودهم"، قال: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول: جلدُ أحدهم أربعون ذراعًا، (1) وسِنُّه سبعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل وَسِعه. (2) فإذا أكلت النار جلودهم بُدّلوا جلودًا غيرها. 9836 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قال: بلغني عن الحسن:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها"، قال: ننضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. 9837 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان، عن الحسن قوله:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم غيرها"، قال: تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد. قال: وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعًا، والله أعلم بأيِّ ذراع! (3) . * * * قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال: وما معنى قوله جل ثناؤه:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"؟ وهل يجوز أن يبدّلوا جلودًا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا، فيعذَّبوا فيها؟ فإن جاز ذلك عندك، فأجز أن يُبدَّلوا أجسامًا وأرواحًا غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذّب! وإن أجزت ذلك، لزمك أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار، غيرُ الذين أوعدهم الله العقابَ على كفرهم به ومعصيتهم إياه، وأن يكون الكفار قد ارتفعَ عنهم العذاب!! * * *   (1) في المطبوعة: "أن جلده ... "، وأثبت ما في المخطوطة. وعنى بذلك غلظ الجلد، كما سيأتي في رقم: 9837. (2) في المطبوعة: "لوسعه"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 9837 -"أبو عبيدة الحداد"، هو: عبد الواحد بن واصل السدوسي. مضت ترجمته برقم: 8284. و"هشام بن حسان القردوسي" مضى برقم: 2827. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 قيل: إن الناس اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، (1) وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب. وأما الجلد واللحم، فلا يألمان. قالوا: فسواء أعيد على الكافر جلدهُ الذي كان له في الدنيا أو جلدٌ غيره، إذ كانت الجلود غير آلمة ولا معذَّبة، وإنما الآلمةُ المعذبةُ: النفسُ التي تُحِس الألم، ويصل إليها الوجع. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فغير مستحيل أن يُخْلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يحصى عدده، ويحرق ذلك عليه، ليصل إلى نفسه ألم العذاب، إذ كانت الجلود لا تألَمُ. * * * وقال آخرون: بل الجلودُ تألم، واللحمُ وسائرُ أجزاء جِرْم بني آدم. وإذا أحرق جلدهُ أو غيره من أجزاء جسده، وصل ألم ذلك إلى جميعه. قالوا: ومعنى قوله:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها": بدلناهم جلودًا غير محترقة. وذلك أنها تعاد جديدة، والأولى كانت قد احترقتْ، فأعيدت غير محترقة، فلذلك قيل:"غيرها"، لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا، التي عصوا الله وهى لهم. قالوا: وذلك نظيرُ قول العرب للصّائغ إذا استصاغته خاتمًا من خاتم مَصُوغ، (2) بتحويله عن صياغته التي هُو بها، إلى صياغة أخرى:"صُغْ لي من هذا الخاتم خاتمًا غيره"، فيكسره ويصوغ له منه خاتمًا غيره، والخاتم المصوغ بالصّياغة الثانية هو الأول، ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتمًا قيل:"هو غيره". قالوا: فكذلك معنى قوله:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"، لما   (1) في المخطوطة: "الذي هو الجلد واللحم"، وهو لا يستقيم، وأصاب ناشر المطبوعة الأولى في زيادة"غير". (2) "استصاغه خاتما": طلب إليه أن يصوغ له خاتمًا. وهذه صيغة لم تذكرها كتب اللغة، وهي عربية معرقة، وقياس صحيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد الاحتراق، (1) قيل:"هي غيرها"، على ذلك المعنى. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"كلما نضجت جلودهم"، (2) سرابيلهم، بدلناهم سرابيل من قَطِران غيرها. فجعلت السرابيل [من] القطران لهم جلودًا، (3) كما يقال للشيء الخاص بالإنسان:"هو جِلدة ما بين عينيه ووجهه"، لخصُوصه به. قالوا: فكذلك سرابيل القطران التي قال الله في كتابه: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [سورة إبراهيم: 50] ، لما صارت لهم لباسًا لا تفارق أجسامهم، جعلت لهم جلودًا، فقيل: كلما اشتعل القَطِران في أجسامهم واحترق، بدلوا سرابيل من قطران آخر. قالوا: وأما جلود أهل الكفر من أهل النار، فإنها لا تحترق، (4) لأن في احتراقها = إلى حال إعادتها = فناءَها، (5) وفي فنائها رَاحتها. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنها: أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها. قالوا: وجلود الكفار أحد أجسامهم، ولو جاز أن يحترق منها شيء فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار، جاز ذلك في جميع أجزائها. وإذا جاز ذلك، وجب أن يكون جائزًا عليهم الفناء، ثم الإعادة والموت، ثم الإحياء، وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون. قالوا: وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون، دليل واضح أنه لا يموت شيء من أجزاء أجسامهم، والجلود أحدُ تلك الأجزاء. * * * وأما معنى قوله:"ليذوقوا العذاب"، فإنه يقول: فعلنا ذلك بهم، ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته، بما كانوا في الدنيا يكذّبون آيات الله ويجحدونها. * * *   (1) في المطبوعة: "الاحتراق"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقال آخرون: معنى ذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) الزيادة التي بين القوسين، لا غنى عنها. (4) في المطبوعة: "لا تحرق" والجيد ما في المخطوطة كما أثبته. (5) يعني: أنها عندئذ تفنى حتى تعاد مرة أخرى، وفناؤه يوجب فترة يخف فيها عنهم العذاب. وهذا باطل كما سترى في الحجج التالية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) } قال أبو جعفر: يقول: إن الله لم يزل (1) ="عزيزًا" في انتقامه ممن انتقم منه من خلقه، لا يقدر على الامتناع منه أحد أرادَه بضرّ، ولا الانتصار منه أحدٌ أحلّ به عقوبة ="حكيمًا" في تدبيره وقضائه. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات"، والذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وصدّقوا بما أنزل الله على محمد مصدّقًا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم ="وعملوا الصالحات"، يقول: وأدّوا ما أمرهم الله به من فرائضه، واجتنبوا ما حرّم الله عليهم من معاصيه، وذلك هو"الصالح" من أعمالهم ="سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يقول: سوف يدخلهم الله يوم القيامة ="جنات"، يعني: بساتين (3) ="تجري من تحتها الأنهار"، يقول: تجري من تحت تلك الجنات الأنهار ="خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين فيها أبدًا بغير نهاية ولا انقطاع، دائمًا ذلك لهم فيها أبدًا ="لهم فيها أزواج"، يقول: لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها ="أزواج   (1) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل فيما سلف: 426، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"عزيز" و"حكيم" في فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"جنة" فيما سلف: 7: 494، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 مطهرة"، يعني: بريئات من الأدناس والرَّيْب والحيض والغائط والبول والحَبَل والبُصاق، وسائر ما يكون في نساء أهل الدنيا. وقد ذكرنا ما في ذلك من الآثار فيما مضى قبل، وأغنى ذلك عن إعادتها. (1) * * * وأما قوله:"وندخلهم ظِلا ظليلا"، فإنه يقول: وندخلهم ظلا كَنينًا، كما قال جل ثناؤه: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [سورة الواقعة: 30] ، وكما:- 9838 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن = وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر = قالا جميعًا، حدثنا شعبة قال، سمعت أبا الضحاك يحدّث، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ في الجنة لشجرةً يسيرُ الراكب في ظلّها مئة عام لا يقطعها، شجرةُ الخلد. (2) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 395 - 397 / 6: 261، 262. (2) الحديث: 9838 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي. أبو الضحاك البصري: تابعي، لم يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه أحد غير شعبة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 395. والحديث رواه أحمد في المسند: 9870، عن محمد بن جعفر وحجاج، و: 9951، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي - ثلاثتهم عن شعبة. (المسند 2: 455، 462 حلبي) . وذكر الحافظ في المزي في تهذيب الكمال (مخطوط مصور) أنه رواه ابن ماجه في التفسير. ونقله ابن كثير 2: 490، عن هذا الموضع من الطبري. وأصل الحديث ثابت عن أبي هريرة، من أوجه كثيرة، في المسند والصحيحين وغيرهما، دون زيادة"شجرة الخلد". انظر المسند: 7490. وقد أشرنا لكثير من طرقه هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} * * * قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية. فقال بعضهم: عني بها ولاة أمور المسلمين. *ذكر من قال ذلك: 9839 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي مكين، عن زيد بن أسلم قال: نزلت هذه الآية:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، في ولاة الأمر. (1) 9840 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن شهر قال: نزلت في الأمراء خاصة"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". 9841 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد قال، قال علي رضي الله عنه كلماتٍ أصاب فيهن:"حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا، وأن يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا". (2) 9842 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد، عن علي بنحوه.   (1) الأثر: 9839 -"أبو أسامة" هو: حماد بن أسامة بن زيد القرشي، مضى برقم: 5265. و"أبو مكين" هو: نوح بن ربيعة، مضى برقم: 9742. (2) الأثر: 9841 -"مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري". روى عن أبيه، وعلي، وطلحة، وعكرمة ابن أبي جهل، وغيرهم، تابعي ثقة، قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث". مترجم في التهذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 9843 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا موسى بن عمير، عن مكحول في قول الله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم أهلُ الآية التي قبلها:"إن الله يأمرُكم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها"، إلى آخر الآية. 9844 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن زيد قال، قال أبي: هم الوُلاة، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها. وقال آخرون: أمر السلطان بذلك: أن يعِظوا النساء. (1) *ذكر من قال ذلك: 9845 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن الله يأمرُكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، قال: يعني السلطان، يعظون النساء. (2) * * * وقال آخرون: الذي خوطب بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في مفتاح الكعبة، أمر برَدّها على عثمان بن طلحة. *ذكر من قال ذلك: 9846 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، قال: نزلت في عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قَبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة، ودخل به البيت يوم الفتح، (3) فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان   (1) في المطبوعة: "أن يعطوا الناس"، غير ما في المخطوطة، وهو الذي أثبته، ولكنه كان في المخطوطة غير منقوط، فلم يحسن قراءته، فكتب ما لا معنى له. والمقصود بذلك أن على الأمراء أن يعظوا النساء في النشوز وغيره، حتى يردوهن إلى أزواجهن. وهو القول المنسوب إلى ابن عباس في كتب التفسير. (2) في المطبوعة: "يعظون الناس"، وهو خطأ، وانظر التعليق السالف. (3) في المطبوعة: "مفاتيح الكعبة، ودخل بها البيت"، وكان في المخطوطة: "مفاتيح الكعبة ودخل به البيت"، ورد اللفظ مفردًا"المفتاح" في هذا الأثر والذي يليه، وكذلك نقله ابن كثير في تفسيره 2: 492"مفتاح الكعبة" بالإفراد، فصححت نص المخطوطة، كما في ابن كثير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: فداهُ أبي وأمي! (1) ما سمعته يَتلوها قبل ذلك! 9847 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من قال: هو خطاب من الله ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من وَلُوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في القضية، والقَسْم بينهم بالسوية. يدل على ذلك ما وَعظ به الرعية (3) في: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) ، فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الرّاعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة، كما:- 9848 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) قال: قال أبي: هم السلاطين. وقرأ ابن زيد: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) [سورة آل عمران: 26] ، وإنما نقول: هم العلماء الذي يُطيفون على   (1) في المطبوعة: "فداؤه أبي وأمي"، وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير. (2) الأثر: 9847 -"الزنجي بن خالد" هو: مسلم بن خالد بن فروة، أبو خالد الزنجي، الفقيه المكي. وإنما سموه"الزنجي" قالوا: لأنه كان شديد السواد. وقالوا: لأنه كان أشقر كالبصلة. وقالوا: كان أبيض مشربًا بحمرة، وإنما سمى"الزنجي" لمحبته التمر. قالت له جاريته: "ما أنت إلا زنجي"، لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب. ومن الزنجي تعلم الشافعي الفقه قبل أن يلقى مالكًا. ولكنهم تكلموا في حديثه، فقال البخاري: "منكر الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به". وذكروا عللا في ضعف حديثه وهو صدوق. مترجم في التهذيب. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فدل على ذلك ما وعظ به الرعية"، وهو كلام فاسد جدًا، أخل بحجة الطبري، والصواب ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 السلطان، (1) ألا ترى أنه أمرهم فبدأ بهم، بالولاة فقال (2) "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"؟ و"الأمانات"، هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقَسْمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها ="وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" الآية كلها. فأمر بهذا الولاة. ثم أقبل علينا نحن فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) . * * * وأما الذي قال ابن جريج من أنّ هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة، فإنه جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كل مؤتمن على أمانة، فدخلَ فيه ولاة أمور المسلمين، وكلّ مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا. ولذلك قال من قال: عُني به قضاءُ الدين، وردّ حقوق الناس، كالذي:- 9849 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، فإنه لم يرخص لموسِر ولا معسر أن يُمسكها. 9850 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، عن الحسن: أن   (1) حذف ناشر المطبوعة هذه الجملة إذ لم يفهمها، وجعل سياق الكلام هكذا: " ... ممن تشاء، ألا ترى أنه أمر فقال: إن الله يأمركم"، وهذا فساد شديد، وهجر للأمانة، وعبث بكلام أهل التاويل. وقائل هذا الكلام هو ابن زيد، بعد أن ذكر تأويل أبيه زيد بن أسلم. وقوله: "يطيفون على السلطان" هم الذين يقاربونه ويدنيهم في مجالسه ويستشيرهم. من قوله: "طاف بالشيء وطاف عليه= وأطاف به وأطاف عليه": دار حوله. (2) في المطبوعة: "أنه أمر فقال ... " كما ذكرت في التعليق السالف. وسياق عبارته أنه أمر العلماء بالولاة - فبدأ بهم، أي: بالعلماء. والعلماء هم الذين يفتون الولاة في قسمة الفيء والصدقات، لأنهم هم أهل العلم بها. فهذا خطاب للعلماء الذين ائتمنوا على الدين. ثم قال للولاة: "وإذا حكمتم بين الناس"، كما ترى في سياق الأثر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا = إذ كان الأمر على ما وصفنا =: إن الله يأمركم، يا معشر ولاة أمور المسلمين، أن تؤدوا ما ائتمنتكم عليه رعيّتكم من فَيْئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم، على ما أمركم الله بأداء كل شيء من ذلك إلى من هو له، بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها، ولا تستأثروا بشيء منها، ولا تضعوا شيئًا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصيرَ في أيديكم = ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكمُ الله الذي أنزله في كتابه، وبيّنه على لسان رسوله، لا تعدُوا ذلك فتجورُوا عليهم. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر ولاة أمور المسلمين، إن الله نعم الشيء يَعظكم به، ونعمت العظة يعظكم بها في أمره إياكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين الناس بالعدل (2) * * * ="إن الله كان سميعًا"، يقول: إن الله لم يزل سميعًا بما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم   (1) الأثر: 9850 - قال ابن كثير في تفسيره 2: 490"وفي حديث الحسن، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". رواه الإمام أحمد، وأهل السنن". (2) انظر تفسير"نعما" فيما سلف 5: 582. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 بين الناس ولما تُحاورونهم به (1) "بصيرًا" بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، (2) وما تقضون به بينهم من أحكامكم: بعدل تحكمون أو جَوْر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظٌ ذلك كلَّه، حتى يجازي محسنكم بإحسانه، ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته، كما:- 9851 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني. (3) * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول".   (1) في المطبوعة: "ولم تجاوزوهم به"، ولا معنى لها البتة، والصواب ما في المخطوطة، ولكنه لم يفهم ما أراد، فحرفه وغيره. (2) في المطبوعة: "فيما ائتمنتكم عليه"، غير ما في المخطوطة لغير شيء. (3) الحديث: 9851 - ورواه أحمد في المسند مرارًا، من طرق مختلفة، منها: 7330، 7428، 7643. ورواه الشيخان وغيرهما، كما فصلنا هناك. وذكره ابن كثير 2: 497، بقوله: "وفي الحديث المتفق على صحته". وهو كما قال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 فقال بعضهم: ذلك أمرٌ من الله باتباع سنته. *ذكر من قال ذلك: 9852 - حدثنا المثنى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، قال: طاعة الرسول، اتباع سُنته. 9853 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، قال: طاعة الرسول، اتباع الكتاب والسنة. 9854 - وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء مثله. * * * وقال آخرون: ذلك أمرٌ من الله بطاعة الرّسول في حياته. *ذكر من قال ذلك: 9855 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، إن كان حيًّا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمرٌ من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمرَ ونهى، وبعد وفاته باتباع سنته. (1) وذلك أن الله عمّ بالأمر بطاعته، ولم يخصص بذلك في حال دون حال، (2) فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجبُ التسليم له. * * * واختلف أهل التأويل في"أولي الأمر" الذين أمر الله عبادَه بطاعتهم في هذه الآية.   (1) في المطبوعة: "في اتباع سنته"، وكان في المخطوطة"في باتباع سنتنا"، وضرب على"في". (2) في المطبوعة: "لم يخصص ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 فقال بعضهم: هم الأمراء. *ذكر من قال ذلك: 9856 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: هم الأمراء. (1) 9857 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، نزلت في رجل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على سرية. (2) 9858 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السهمي، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في السرية. (3)   (1) الحديث: 9856 - هذا موقوف على أبي هريرة. وإسناده صحيح. ومعناه صحيح. وقد ذكره الحافظ في الفتح 8: 191، وقال: "أخرجه الطبري بإسناد صحيح". (2) الحديث: 9857 - يعلى بن مسلم بن هرمز البصري المكي: ثقة، أخرج له الشيخان. ووثقه ابن معين وأبو زرعة. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 4 / 2 / 417، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 302. وهو أخو"عبد الله بن مسلم" الآتي في الإسناد بعده - كما رجحه البخاري وغيره. والحديث رواه أحمد في المسند: 3124، عن حجاج، وهو ابن محمد، بهذا الإسناد. وفيه تسمية الرجل، أنه"عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي". وكذلك رواه البخاري 8: 190 - 191، عن صدقة بن الفضل، عن حجاج بن محمد، به. وذكره ابن كثير 2: 494، عن رواية البخاري، ثم قال: "وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث حجاج بن محمد الأعور، به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج". وقصة عبد الله بن حذافة رواها أحمد في المسند: 11662 (ج3 ص67 حلبي) ، من حديث أبي سعيد الخدري. روى معناها أيضًا من حديث علي بن أبي طالب: 622. (3) الحديث: 9858 - عبد الله بن مسلم بن هرمز: هو أخو يعلى الذي في الحديث السابق - على الراجح. وعبد الله هذا: فيه ضعف، مع أن الثوري يروي عنه، والثوري لا يروي إلا عن ثقة. فالظاهر أن ضعفه من قبل حفظه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 164 - 165. ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا"عبيد الله"، بدل"عبد الله" وهو خطأ واضح. والحديث بمعنى الذي قبله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 9859 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أصحاب السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 9860 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال. قال أبي: هم السلاطين. قال وقال ابن زيد في قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعةَ الطاعة، وفي الطاعة بلاء. وقال: ولو شاء الله لجعل الأمر في الأنبياء (1) = يعني: لقد جعلت [الأمر] إليهم والأنبياء معهم، (2) ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن ز كريا؟ 9861 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قِبَل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبًا منهم عرَّسوا، (3) وأتاهم ذو العُيَيْنَتين فأخبرهم، (4) فأصبحوا قد هربوا، (5) غير رجل أمر أهله فجمعوا   (1) في المطبوعة: "ولو شاء الله لجعل"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يعني: لقد جعل إليهم الأنبياء معهم"، وهو مستقيم، ولكنه كان في المخطوطة: "لقد جعلت إليهم الأنبياء معهم"، فاستظهرت سقوط"الأمر"، فوضعته بين قوسين. (3) "عرس القوم تعريسًا": إذا نزلوا في السفر من آخر الليل، يقعون وقعة للاستراحة، ثم ينيخون وينامون نومة خفيفة، ثم يثورون مع انفجار الصبح سائرين. (4) "ذو العيينتين" و"ذو العوينتين"، و"ذو العينين": الجاسوس. (5) في المطبوعة وابن كثير 2: 496"وقد هربوا"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 متاعهم، (1) ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإنّ قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدًا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم. فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارًا الخبر، فأتى خالدًا، فقال: خلِّ عن الرجل، فإنه قد أسلم، وهو في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبَّا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله، أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد، لا تسبَّ عمارًا، فإنه من سب عمارًا سبه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله، ومن لعن عمارًا لعنه الله. فغضب عمار فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله تعالى قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". (2) * * * وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه. *ذكر من قال ذلك: 9862 - حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله ..... (3)   (1) في المخطوطة: "غير رجال من أهله"، وهو فاسد، وأثبت ما في المطبوعة وتفسير ابن كثير. (2) الأثر: 9861 - أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 497، ثم قال: "وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق، عن السدي مرسلا. ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فذكر بنحوه. والله أعلم". (3) الأثر: 9862 - كان هذا الأثر والذي يليه متصلين، " ... عن جابر بن عبد الله قال حدثنا جابر بن نوح" وهو خطأ وفساد لا شك فيه. وكأن هذا الأثر كان: "حدثني بذلك سفيان بن وكيع ... " = أو: "عن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والفقه". أو ما شابه ذلك. ولكني وضعت النقط دلالة على الخزم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 9863 - .... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أولي الفقه منكم. (1) 9864 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أولي الفقه والعلم. 9865 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح:"وأولي الأمر منكم"، قال: أولي الفقه في الدين والعقل. 9866 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9867 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، يعني: أهل الفقه والدين. 9868 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن مجاهد:"وأولي الأمر منكم"، قال: أهل العلم. 9869 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بن السائب في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أولي العلم والفقه.   (1) الأثر: 9863 - كأن صواب هذا الإسناد: "حدثني أبو كريب، قال حدثنا جابر بن نوح"، فإن أبا كريب هو يروي عن جابر بن نوح، كما سلف مرارًا، أقربها رقم: 9842، ولكني تركته على حاله، ووضعت مكان ذلك نقطًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 9870 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء:"وأولي الأمر منكم"، قال: الفقهاء والعلماء. 9871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم العلماء. 9872 - قال، وأخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم أهل الفقه والعلم. 9873 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء: 83] ؟ * * * وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. *ذكر من قال ذلك: 9874 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: كان مجاهد يقول: أصحاب محمد = قال: وربما قال: أولي العقل والفقه ودين الله. (1) * * * وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر رحمهما الله. (2) *ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "أولي الفضل"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "رضي الله عنهما". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 9875 - حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا حفص بن عمر العدني قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أبو بكر وعمر. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم الأمراء والولاة = لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان [لله] طاعةً، وللمسلمين مصلحة، (2) كالذي:- 9876 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البَرُّ ببِرِّه، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلُّوا وراءهم. فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم. (3)   (1) الأثر: 9875 -"أحمد بن عمرو البصري"، لم أجده في كتب التراجم، وظننت أنه"أحمد بن عمرو بن عبد الخالق" البزار، أبو بكر العتكي البصري، من أهل البصرة، قال الخطيب: "كان ثقة حافظًا، صنف المسند، وتكلم على الأحاديث، وبنى عللها، وقدم بغداد وحدث بها" ومات بالرملة سنة 291، فهو خليق أن يكون رآه أبو جعفر وروى عنه في بغداد أو في الرملة. مترجم في تاريخ بغداد 4: 334. و"حفص بن عمر العدني" مضت ترجمته برقم: 6796. (2) الزيادة بين القوسين، أراها زيادة لا غنى عنها. (3) الحديث: 9876 - ابن أبي فديك: هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك المدني. وهو ثقة معروف، من شيوخ الشافعي وأحمد. أخرج له الجماعة. عبد الله بن محمد بن عروة: هو عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير المدني. قال أبو حاتم: "هو متروك الحديث، ضعيف الحديث جدًا". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الثقات". مترجم في لسان الميزان 3: 331 - 332، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 158. فهذا حديث ضعيف جدًا، لم نجده إلا في هذا الموضع. وقد نقله ابن كثير 2: 495، والسيوطي 2: 177- ولم ينسباه لغير الطبري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 9877 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على المرء المسلم، الطاعةُ فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية؛ فمن أمر بمعصية فلا طاعة. (1) 9878 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني خالد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2) = فإذ كان معلومًا أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" بطاعة ذَوِي أمرنا = كان معلومًا أن الذين أمرَ بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن ولَّوْه المسلمين، (3) دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضًا القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعيّة، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية.   (1) الحديثان: 9877، 9878 - يحيى في الإسناد الأول: هو ابن سعيد القطان. وخالد - في الإسناد الثاني: هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت ترجمته في: 7818. عبيد الله - في الإسنادين: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، العمري. ووقع في المطبوعة، في الإسنادين: "يحيى بن عبيد الله"، "خالد بن عبيد الله"! وهو خطأ واضح، صوابه من المخطوطة. والحديث رواه أحمد في المسند: 4668، عن يحيى، وهو القطان، بمثل الإسناد الأول هنا. ورواه أيضًا: 6278، عن ابن نمير، عن عبيد الله، به. وقد شرحناه شرحًا وافيًا، وخرجناه - في الموضع الأول. وذكره ابن كثير 2: 494، من رواية أبي داود - من طريق يحيى القطان. ثم نسبه للشيخين من طريق يحيى. وقصر السيوطي جدًا، إذ ذكره 2: 177، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن جرير - فقط! وهو في المسند والصحيحين وغيرهما. (2) الحديثان: 9877، 9878 - يحيى في الإسناد الأول: هو ابن سعيد القطان. وخالد - في الإسناد الثاني: هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت ترجمته في: 7818. عبيد الله - في الإسنادين: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، العمري. ووقع في المطبوعة، في الإسنادين: "يحيى بن عبيد الله"، "خالد بن عبيد الله"! وهو خطأ واضح، صوابه من المخطوطة. والحديث رواه أحمد في المسند: 4668، عن يحيى، وهو القطان، بمثل الإسناد الأول هنا. ورواه أيضًا: 6278، عن ابن نمير، عن عبيد الله، به. وقد شرحناه شرحًا وافيًا، وخرجناه - في الموضع الأول. وذكره ابن كثير 2: 494، من رواية أبي داود - من طريق يحيى القطان. ثم نسبه للشيخين من طريق يحيى. وقصر السيوطي جدًا، إذ ذكره 2: 177، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن جرير - فقط! وهو في المسند والصحيحين وغيرهما. (3) في المطبوعة: "ومن ولاه المسلمون"، وأثبت ما في المخطوطة، ولم يرد أبو جعفر معنى ما كان في المطبوعة، بل أراد: ومن ولاه الأئمة أمور المسلمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم، أيها المؤمنون، في شيء من أمر دينكم: أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم، فاشتجرتم فيه (1) ="فردوه إلى الله"، يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم = أنتم بينكم، أو أنتم وأولو أمركم = فيه من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم = وأما قوله:"والرسول"، فإنه يقول: فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك أيضًا من عند الرسول إن كان حيًا، وإن كان ميتًا فمن سنته ="إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، يقول: افعلوا ذلك إن كنتم تصدقون بالله ="واليوم الآخر"، يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك. فلكم من الله الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9879 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد في قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، قال: فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله والرسول. قال يقول: فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله.   (1) انظر تفسير"تنازع" فيما سلف 7: 289. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 ثم قرأ مجاهد هذه الآية: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء: 83] . 9880 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فردوه إلى الله والرسول"، قال: كتاب، الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: 9881 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فردوه إلى الله والرسول"، قال: إلى الله"، إلى كتابه = وإلى"الرسول"، إلى سنة نبيه. 9882 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، قال:"الله"، كتابه، و"رسوله" سنته، فكأنما ألقمه حجرًا. 9883 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، أخبرنا جعفر بن مروان، عن ميمون بن مهران:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، قال: الرد إلى الله، الردّ إلى كتابه = والرد إلى رسوله إن كان حيًا، فإن قبضه الله إليه فالردّ إلى السنة. 9884 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، يقول: ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ="إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر". 9885 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، إن كان الرسول حيًا = و"إلى الله" قال: إلى كتابه. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك"، فردُّ ما تنازعتم فيه من شيء إلى الله والرسول، ="خير" لكم عند الله في معادكم، وأصلح لكم في دنياكم، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة، وترك التنازع والفرقة ="وأحسن تأويلا"، يعني: وأحمد مَوْئلا ومغبّة، وأجمل عاقبة. * * * وقد بينا فيما مضى أن"التأويل""التفعيل" من"تأوّل"، وأنّ قول القائل:"تأوّل"،"تفعّل"، من قولهم:"آل هذا الأمر إلى كذا"، أي: رجع = بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9886 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأحسن تأويلا"، قال: حسن جزاء. 9887 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9888 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك خير وأحسن تأويلا"، يقول: ذلك أحسنُ ثوابًا، وخير عاقبةً. 9889 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحسن تأويلا" قال: عاقبة.   (1) انظر ما سلف 6: 204 - 206. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 9890 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ذلك خير وأحسن تأويلا"، قال: وأحسن عاقبة = قال: و"التأويل"، التصديق. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد، بقلبك، فتعلم = إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب، يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت = يعني إلى: من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله، (1) ="وقد أمروا أن يكفروا به"، يقول: وقد أمرهم الله أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوتُ الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمرَ الله واتبعوا أمر الشيطان ="ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا"، يعني: أن الشيطان يريد أن يصدَّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالا بعيدًا = يعني: فيجور بهم عنها جورًا شديدًا (2) . * * * وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهَّان، ليحكم بينهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرهم.   (1) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 5: 416 - 419 / 8: 461 - 465. (2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف: 8: 428، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 *ذكر من قال ذلك: 9891 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة، فأنزل الله فيه هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" حتى بلغ"ويسلموا تسليمًا". 9892 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، فذكر نحوه = وزاد فيه: فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، يعني المنافقين ="وما أنزل من قبلك"، يعني اليهود ="يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، يقول: إلى الكاهن ="وقد أمروا أن يكفروا به"، أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه، أن يكفر بالكاهن. 9893 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من اليهود، خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك = أو قال: إلى النبي = لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة، قال: فنزلت:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، يعنى: الذي من الأنصار ="وما أنزل من قبلك"، يعني: اليهوديّ (1) "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، إلى الكاهن ="وقد أمروا   (1) في المخطوطة: "اليهود". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 أن يكفروا به"، يعني: أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه. وتلا"ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا"، وقرأ:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" إلى"ويسلموا تسليما". 9894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن رجلا من اليهود كان قد أسلم، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حق، (1) فقال اليهودي له: انطلق إلى نبي الله. فعرف أنه سيقضي عليه. قال: فأبى، فانطلقا إلى رجل من الكهان فتحاكما إليه. قال الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل   (1) المدرأة: المدافعة والخصومة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت". 9895 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، الآية، حتى بلغ"ضلالا بعيدًا"، ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين: رجل من الأنصار يقال له"بشر"، وفي رجل من اليهود، في مدارأة كانت بينهما في حق، فتدارءا بينهما، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما، وتركا نبي الله صلى الله عليه وسلم. فعاب الله عز وجل ذلك = وذُكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وقد علم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لن يجور عليه. فجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم، ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون، فعابَ ذلك على الذي يزعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب، فقال:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى قوله:"صدودًا". 9896 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم. وكانت قُرَيظة والنَّضير في الجاهلية، إذا قُتِل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم. فإذا قُتِل الرجل من بني قريظة قتلته النضير، أعطوْا ديتَه ستين وَسْقًا من تمر. (1) فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجلٌ من بني النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النضيري: يا رسول الله، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا ولكنا إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء الله بالإسلام! فأنزل الله يُعَيِّرهم بما فعلوا فقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: 54] ، فعيَّرهم، ثم ذكر قول النضيري:"كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقًا، ونقتل منهم ولا يقتلونا"، فقال (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [سورة المائدة: 50] . وأخذ النضيري فقتله بصاحبه، فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم! وقالت قريظة: نحن أكرم منكم! ودخلوا المدينة إلى أبي بُرْدة، (2) الكاهن الأسلمي، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي بردَة ينفِّر بيننا! (3)   (1) "الوسق" مكيلة معلومة في زمانهم، كانت تبلغ حمل بعير. (2) في المطبوعة: "أبو برزة الأسلمي" وهو خطأ محض، والصواب ما كان في المخطوطة، فإن أبا برزة الأسلمي - نضلة بن عبيد - فهو صحابي جليل، و"برزة" بفتح الباء بعدها راء ساكنة بعدها زاي. وأما "أبو بردة" فهو بالباء المضمومة بعدها راء ساكنة بعدها دال. وذكر الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بردة الأسلمي إلى الإسلام، فأبى، ثم كلمه ابناه في ذلك، فأجاب إليه وأسلم. وقال الحافظ ابن حجر: "وعند الطبراني بسند جيد عن ابن عباس قال: كان أبو بردة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود، فذكر القصة في نزول قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون ... " الإصابة في ترجمته. وذكر الهيثمي خبر ابن عباس في مجمع الزوائد 7: 6، وفيه أيضًا"أبو برزة الأسلمي"، وهو خطأ، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". وكذلك رواه ابن كثير في تفسيره 2: 500 وفيه أيضًا"أبو برزة" وهو خطأ. (3) في المطبوعة هنا أيضًا"أبو برزة"، وانظر التعليق السالف. ويقال: "نفر الحاكم أحد المتخاصمين على صاحبه تنفيرًا": أي قضى عليه بالغلبة. وهو من"المنافرة" وذلك أن يتفاخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا، يغلب أحدهما على الآخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا بل النبي صلى الله عليه وسلم يُنفِّر بيننا، فتعالوا إليه! فأبى المنافقون، وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه، (1) فقال: أعظِموا اللُّقمة = يقول: أعظِموا الخَطَر (2) = فقالوا: لك عشرة أوساق. قال: لا بل مئة وسْق، ديتي، (3) فإني أخاف أن أنفِّر النضير فتقتلني قريظة، أو أنفِّر قريظة فتقتلني النضير! فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله عز وجل:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" = وهو أبو بردة (4) ="وقد أمروا أن يكفروا به" إلى قوله:"ويسلموا تسليما". * * * وقال آخرون:"الطاغوت"، في هذا الموضع، هو كعب بن الأشرف. *ذكر من قال ذلك: 9897 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به"، و"الطاغوت" رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا، بل نحاكمكم إلى كعب! فذلك قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، الآية. 9798 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، قال: تنازع رجلٌ من المنافقين ورجلٌ من   (1) في المطبوعة هنا مرة ثالثة: "أبو برزة". (2) "الخطر" هو المال الذي يجعل رهنًا بين المتراهنين، وأراد به الجعل الذي يدفعه كل واحد من المتنافرين إلى الحكم. وسماه"اللقمة" مجازًا، وهذا كله لم تقيده كتب اللغة، ولم أجده في أخبار المنافرات. فيستفاد من هذا الخبر. أن الحكم في المنافرة كانوا يجعلون له جعلا يأخذه بعد استماعه للمنافرة، وبعد الحكم. (3) "أوساق" جمع"وسق" ومضى تفسيره"الوسق" فيما سلف ص: 510، تعليق: 1. (4) في المطبوعة هنا مرة رابعة"أبو برزة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الله تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين يزعمون" الآية، والتي تليها فيهم أيضًا. (1) 9899 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، فذكر مثله = إلا أنه قال: وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد. 9900 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" إلى قوله:"ضلالا بعيدًا"، قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة، أحدهم مؤمن والآخر منافق، فدعاه المؤمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) . 9901 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود، فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال المؤمن: اذهب بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى قوله:"صدودًا" = قال ابن جريج:"يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، قال: القرآن ="وما أنزل من قبلك"، قال: التوراة. قال:   (1) في المخطوطة: "الآية التي تليها منهم فيهما أيضًا"، ولا أدري ما هو، وما في المطبوعة أقرب إلى الصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 يكون بين المسلم والمنافق الحق، فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه، فيأبى المنافق ويدعوه إلى الطاغوت = قال ابن جريج: قال مجاهد:"الطاغوت"، كعب بن الأشرف. 9902 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، هو كعب بن الأشرف. * * * وقد بينا معنى:"الطاغوت" في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد، إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ="وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله"، يعني بذلك:"وإذا قيل لهم تعالوا"، هلُمُّوا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه، وإلى الرسول ليحكم بيننا (2) ="رأيت المنافقين يصدون عنك"، يعني بذلك: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم ="صدودًا". (3) * * * وقال ابن جريج في ذلك بما:-   (1) انظر ما سلف: 507 والتعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474، 483، 485. (3) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53 / 8: 482. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 9903 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول"، قال: دعا المسلمُ المنافقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم، قال:"رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا". * * * = وأما على تأويل قول من جعل الدَّاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديّ، والمدعوَّ إليه المنافق، على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" = فإنه على ما بيَّنت قبل. * * * القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ="إذا أصابتهم مصيبة"، يعني: إذا نزلت بهم نقمة من الله ="بما قدمت أيديهم"، يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم، (1) ="ثم جاؤوك يحلفون بالله"، يقول: ثم جاؤوك يحلفون بالله كذبًا وزورًا ="إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا". وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العِبر والنِّقم، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا، (2) ولكنهم يحلفون بالله كذبًا وجرأة على الله: ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصوابَ فيما احتكمنا فيه إليه. * * *   (1) انظر تفسير"قدمت أيديهم" فيما سلف 2: 368 / 7: 447. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنهم وإن تأتهم"، والأجود حذف الواو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم ="يعلم الله ما في قلوبهم" في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك = من النفاق والزيغ، (1) وإن حلفوا بالله: ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا ="فأعرض عنهم وعظهم"، يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأسَ الله أن يحلّ بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذِّرهم من مكروهِ ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله =،"وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا"، يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم نرسل، يا محمد، رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه. يقول تعالى ذكره: فأنت، يا محمد، من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلتُه إليه. وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين = الذين كانوا يزعمون أنهم   (1) السياق: "يعلم الله ما في قلوبهم ... من النفاق والزيغ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم = فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلتُ رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرِّضى بحكمه واحتكم إلى الطاغوت، فقد خالف أمري، وضيَّع فرضي. * * * ثم أخبر جل ثناؤه: أن من أطاع رسله، فإنما يطيعهم بإذنه = يعني: بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته، (1) كما:- 9904 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إلا ليطاع بإذن الله"، واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله. 9905 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9906 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * قال أبو جعفر: إنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين، بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضى بحكمه، إنما هو للسابق لهم من خِذْلانه وغلبة الشقاء عليهم، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضى بحكمه، والمسارعة إلى طاعته. * * *   (1) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 8: 192 تعليق: 2 والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين = الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودًا =،"إذ ظلموا أنفسهم"، باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت، وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها ="جاؤوك"، يا محمد، حين فعلو ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك، جاؤوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم، وسأل لهم اللهَ رسولهُ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله:"فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول". * * * = وأما قوله:"لوجدوا الله توابًا رحيمًا"، فإنه يقول: لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنبهم ="لوجدوا الله توابًا"، يقول: راجعًا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون (1) ="رحيمًا" بهم، في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه. * * * وقال مجاهد: عُنِي بذلك اليهوديُّ والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف. 9907 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ظلموا أنفسهم" إلى قوله:"ويسلموا تسليما"، قال: إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف. * * *   (1) انظر تفسير"الاستغفار" و"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 القول في تأويل قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلا" فليس الأمر كما يزعمون: أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دعوا إليك يا محمد = واستأنف القسم جل ذكره فقال:"وربك"، يا محمد ="لا يؤمنون"، أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك ="حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، يقول: حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه. يقال:"شجَر يشجُر شُجورًا وشَجْرًا"، و"تشاجر القوم"، إذا اختلفوا في الكلام والأمر،"مشاجرة وشِجارًا". * * * ="ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت"، يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما قضيت. وإنما معناه: ثم لا تحرَج أنفسهم مما قضيت = أي: لا تأثم بإنكارها ما قضيتَ، وشكّها في طاعتك، وأن الذي قضيت به بينهم حقٌّ لا يجوز لهم خلافه، كما:- 9908 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حرجًا مما قضيت"، قال: شكًّا. 9909 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"حرجًا مما قضيت"، يقول: شكًّا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 9910 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9911 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت"، قال: إثمًا ="ويسلموا تسليما"، يقول: ويسلّموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهم بالطاعة، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا. * * * واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت؟ فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور. ذكر الرواية بذلك: 9912 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدَّثه: أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِرَاج من الحرّة كانا يسقيان به كَلأهما النخل، (1) فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمرّ! (2) فأبى عليه، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ (3) فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم،   (1) "الشراج" (بكسر الشين) جمع"شرج" (بفتح فسكون) ، وهو مسيل الماء من الحرة إلى السهل. و"الحرة" موضع معروف بالمدينة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنما أحرقت بالنار. و"الكلأ" هو العشب ترعاه الأنعام. وكان في المطبوعة: "كلاهما" بغير همز، وهو خطأ يوهم. (2) قوله: "سرح الماء"، أي أطلقه، لأن الماء كان يمر على أرض الزبير قبل أرض الأنصاري، فكان يحبسه حتى يسقي أرضه. (3) قوله: "أن كان ... "، "أن" (بفتح الألف وسكون النون) ، التعليل، يقول أمن أجل أنه ابن عمتك؟ وأم الزبير هي: صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، (1) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعَى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه = قال أبو جعفر: والصواب:"استوعب" (2) = وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاري. فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأنصاريُّ، (3) استوعب للزبير حقه في صريح الحكم = قال فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، الآية. (4) 9913 - حدثني يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شَرْج من شِراج الحَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا زبير، أَشْرِب، ثم خلِّ سبيل الماء. فقال الذي من الأنصار من بني أمية: (5) اعدل يا نبيَّ الله، وإن كان ابن عمتك! قال: فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرف   (1) "الجدر" (بفتح الجيم وسكون الدال) ، وهي الحواجز التي تحبس الماء. (2) الظاهر أن قول أبي جعفر: "والصواب: استوعب"، إنما عنى به صواب الرواية في هذا الخبر بهذا الإسناد، ولا أظن أبا جعفر ينكر"استوعى" أن تكون صحيحة، فإن"استوعى" بمعنى: استوعب الحق واستوفاه، عربي صحيح لا شك فيه. (3) "أحفظه" أغضبه. (4) الحديث: 9912 - سياق هذا الإسناد ظاهره أنه من حديث"الزبير بن العوام" - لقوله"أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام". ويحتمل أن يكون من حديث"عبد الله بن الزبير" حكاية عن القصة. وقد جاء الحديث بسياقات أخر، بعضها ظاهره أنه من حديث عروة بن الزبير - يحكي القصة، فيكون ظاهره الإرسال. وبعضها ظاهره أنه من رواية عروة عن أبيه الزبير، كما سيأتي: فرواه ابن أبي حاتم - فيما نقل عنه ابن كثير 2: 503 - بإسناد الطبري هذا: عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، به. وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 453، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب. وكذلك رواه الإسماعيلي، فيما نقله عند الحافظ في الفتح 5: 26. ورواه النسائي 2: 308 - 309، كرواية الطبري هذه. ولكن عن شيخين: يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين - كلاهما عن ابن وهب، بهذا الإسناد - وعند هؤلاء جميعًا - كما هنا: "أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام". ورواه أحمد في المسند: 16185 (ج4 ص4 - 5 حلبي) ، في مسند عبد الله بن الزبير - عن هاشم بن القاسم، عن الليث، عن ابن شهاب، "عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم رجل من الأنصار الزبير"، إلخ. وبنحو ذلك رواه البخاري 5: 26 - 28، ومسلم 2: 221، وأبو داود: 3637، والترمذي 2: 289 - 290، وابن ماجه: 2480، وابن حبان في صحيحه: 23 (بتحقيقنا) - كلهم من طريق الليث بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، حكاية للقصة. وفي بعض ألفاظهم: "عن عروة: أن عبد الله بن الزبير حدثه". وظاهر هذه الأسانيد أنه من حديث"عبد الله بن الزبير" - حكاية للقصة، ليس فيها التصريح بروايته عن أبيه الزبير بن العوام. وقال البخاري عقب هذه الرواية: "ليس أحد يذكر: عروة عن عبد الله - إلا الليث فقط". وقد تعقبه الحافظ ابن حجر برواية"النسائي وغيره" - المطابقة لرواية الطبري هنا وابن الجارود وابن أبي حاتم - أن يونس بن يزيد الأيلي ذكر فيه"عن عبد الله بن الزبير"، كما ذكره الليث. بل زاد ابن وهب في روايته هذه عن يونس والليث: أنه"عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه الزبير بن العوام". ورواه أحمد في المسند: 1419، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، قال، "أخبرني عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار" - إلخ. وكذلك رواه البخاري 5: 227 (فتح) ، عن أبي اليمان، بهذا الإسناد، كرواية أحمد. فهذه الرواية ظاهرها أن عروة يروي الحديث فيها عن أبيه الزبير بن العوام مباشرة. وقد نقل ابن كثير 2: 502 - 503 هذه الرواية عن المسند. ثم قال: "هكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير، فإنه لم يسمع منه. والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله". وقد تعقبته في شرح المسند: 1419 فقلت: إن الحديث حديث الزبير، ولا يبعد أن يكون سمعه منه أبناه عبد الله وعروة، وأن يكون عروة سمعه أيضًا من أخيه عبد الله، أو ثبته عبد الله فيه. وأما ادعاء أن عروة لم يسمع من أبيه فالأدلة تنقضه، فإنه كان مراهقًا أو بالغًا عند مقتل أبيه، كانت سنه 13 سنة. وفي التهذيب 7: 185: "قال مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز: حج عروة مع عثمان، وحفظ عن أبيه فمن دونهما من الصحابة". وأزيد هنا أن البخاري صرح في ترجمة"عروة" في التاريخ الكبير 4 / 1 / 31 بسماعه من أبيه، فقال: "سمع أباه وعائشة وعبد الله بن عمر". وأن الإمام أحمد روى حديثًا آخر قبله: 1418، من طريق هشام بن عروة، "عن عروة، قال: أخبرني أبي الزبير" - وإسناده صحيح، وفيه التصريح بسماع عروة من أبيه، وأن الحافظ في الفتح 5: 26 قال: "وإنما صححه البخاري - مع هذا الاختلاف - اعتمادًا على صحة سماع عروة من أبيه". ورواه عروة أيضًا من عند نفسه، حكاية للقصة، دون أن يذكر أنه عن اخيه أو عن أبيه - فيكون ظاهره أنه حديث مرسل، كما في الرواية الآتية عقب هذه، وسيأتي باقي الكلام هناك. (5) في المطبوعة: حذف قوله: "من بني أمية"، كأنه ظن أن"بني أمية" هنا هم القرشيون!! و"بنو أمية" هنا: هم بنو أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير، احبس الماء إلى الجدْرِ = أو: إلى الكعبين = ثم خل سبيل الماء. قال: ونزلت:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم". (1) 9914 - حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجلٍ من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك! فأنزل الله:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم   (1) الحديث: 9913 - إسماعيل بن إبراهيم: هو ابن علية. عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة: ثقة، وثقه ابن معين والبخاري وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 212 - 213. وهذا الحديث صورته صورة الإرسال، كما أشرنا في الحديث قبله. لأن عروة بن الزبير - وهو تابعي - يحكي القصة، دون أن يذكر روايته إياها عن أبيه أو عن أخيه. وكذلك رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج، رقم: 337 (بتحقيقنا) ، عن ابن علية، كرواية الطبري هذه. وبهذه الصورة - صورة الإرسال - رواه البخاري 5: 29 (فتح) ، من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: "خاصم الزبير رجلا". - إلخ. وكذلك رواه مرة أخرى 8: 191، من طريق معمر. وكذلك رواه 5: 30، من طريق ابن جريج، عن الزهري - على صوره الإرسال. وأشار الحافظ في الفتح 5: 26 إلى روايات أخر عن الزهري توافق روايتي معمر وابن جريج على روايته بصورة الحديث المرسل. والراجح عندي أن عروة سمع الحديث من أبيه مع أخيه عبد الله، ولعله لم يتثبت من حفظه تمامًا لصغر سنه، فسمعه مرة أخرى من أخيه. فحدث به على تارات: يذكر أنه عن أخيه عن أبيه. أو يذكر أنه عن أبيه مباشرة. أو يرسل القصة إرسالا دون ذكر واحد منهما لثقته بسماعها واطمئنانه. ولذلك أخرج البخاري في صحيحه الرواية التي صورتها صورة الإرسال في موضعين، توثيقًا منه لثبوته موصولا. وأريد الحافظ في الفتح 5: 26 صنيع البخاري هذا بقوله: "ثم الحديث ورد في شيء يتعلق بالزبير، فداعية ولده متوفرة على ضبطه". والحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 180، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا". (1) * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهوديّ اللذين وصف الله صفتهما في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت". *ذكر من قال ذلك: 9915 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما"، قال: هذا الرجل اليهوديُّ والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.   (1) الحديث: 9914 - عبد الله بن عمير الرازي - شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع. عبد الله بن الزبير بن عيسى الأسدي: هو الحميدي الإمام الثقة المشهور، من شيوخ البخاري. قال أبو حاتم: "هو أثبت الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام". مات سنة 219. سفيان: هو ابن عيينة. "سلمة رجل من ولد أم سلمة": هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة". مضت ترجمته في: 8368، 8369. وهذا الحديث فيه القصة السابقة التي رواها عروة بن الزبير. وقد أشار إليه الحافظ في الفتح 5: 26، قال: "وقد جاءت هذه القصة من وجه آخر، أخرجها الطبري والطبراني، من حديث أم سلمة". وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص4) بنحوه. وقال: "رواه الطبراني، وفيه يعقوب بن حميد، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره". وليس"يعقوب بن حميد" في هذا الإسناد - إسناد الطبري - فهو وجه آخر. وقد ذكره ابن كثير 2: 503 - 504 من كتاب ابن مردويه، من طريق الفضل بن دكين، عن ابن عيينة، بهذا الإسناد. ولكن فيه: "عن رجل من آل أبي سلمة، قال: خاصم الزبير رجلا" - إلخ. فلم يذكر فيه"عن أم سلمة". وذكره السيوطي 2: 180، وزاد نسبته للحميدي - وهو الوجه الذي في الطبري هنا - وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 9916 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9917 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: إلى الكاهن. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا القول = أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" = أولى بالصواب، لأن قوله:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: (2) "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض = ما"لم تأت دلالة على انقطاعه = أولى. * * * فإن ظن ظانٌّ أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شِراج الحرة، وقولِ من قال في خبرهما:"فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" = ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، (3) ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دلالة دالة (4) وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى   (1) وهناك قول آخر ذكر الطبري فيما سلف، دليله في الأثر رقم: 5819، أن الآية نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين، كان له ابنان فتنصرا. وقد بينت آنفًا في 5: 410، تعليق: 4، أن هذا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره هذا. (2) في المطبوعة: "الذين أسدى الله الخبر عنهم"، وهو كلام خلو من كل معنى، أوقعه فيه أنه لم يحسن قراءة المخطوطة، ولم يعرف قط قاعدة ناسخها، فإنه يكتب"ابتدأ" هكذا: "ابتدى" غير منقوطة. (3) في المطبوعة: "في حصة المحتكمين"، وهو خطأ في الطباعة. (4) في المطبوعة: "إذ كانت الآية دالة على ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 بعض ذلك ببعضٍ، أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيُعْدَل به عن معنى ما قبله. * * * وأما قوله:"ويسلموا"، فإنه منصوب عطفًا، على قوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم" = وقوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم"، نصبٌ عطفًا على قوله:"حتى يحكموك فيما شجر بينهم". * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم"، ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، المحتكمين إلى الطاغوت، أن يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك = أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها (1) ="ما فعلوه"، يقول: ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله، طاعة لله ولرسوله ="إلا قليل منهم". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9918 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا   (1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 8: 170، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 أنفسكم"، يهود يعني = أو كلمة تشبهها = والعربَ، (1) كما أمر أصحاب موسى عليه السلام. 9919 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم"، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضًا بالخناجر، لم يفعلوا إلا قليل منهم. 9920 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا! فقال ثابت: والله لو كُتب علينا أن اقتلوا أنفسكم، لقتلنا أنفسنا! أنزل الله في هذا:"ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا". 9921 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي قال: لما نزلت:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ من أمتي لَرِجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرَّواسي. * * * واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله:"إلا قليل منهم". فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع"قليل"، لأنه جعل بدلا من الأسماء   (1) في المطبوعة: "هم يهود يعني والعرب". ومثلها في الدر المنثور 2: 181، وهو تصرف من السيوطي، وتبعه الناشر الأول. وذلك أنه شك في معنى"أو كلمة تشبهها" فحذفها، وزاد في أول الكلام"هم". ولكن قوله: "أو كلمة تشبهها" أي: تشبه"يعني" في معناها، كقولك "يريد" أو "أراد". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 المضمرة في قوله:"ما فعلوه"، لأن الفعل لهم. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: إنما رفع على نية التكرير، كأن معناه: ما فعلوه، ما فعله إلا قليل منهم، كما قال عمرو بن معد يكرب: (1) وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ، ... لَعمْرُ أَبِيك إلا الفَرْقَدَانِ (2) قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: رفع"القليل" بالمعنى الذي دلَّ عليه قوله:"ما فعلوه إلا قليل منهم". وذلك أن معنى الكلام: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم = فقيل:"ما فعلوه" على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله:"ألم تر إلى الذين   (1) وأصح، نسبته إلى حضرمي بن عامر الأسدي، وينسب إلى سوار بن المضرب، وهو خطأ. (2) سيبويه 1: 371 / مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 131 / البيان والتبيين 1: 228 / حماسة البحتري: 151 / الكامل 2: 298 / المؤتلف والمختلف: 85 / الخزانة 2: 52= 4: 79 / شرح شواهد المغني: 78. هذا ولم أجد أبيات عمرو بن معد يكرب، وأما شعر حضرمي، فقبل البيت، وهو شعر جيد: وَذِي فَجْعٍ عَزَفتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... حِذَارَ الشَّامتين، وَقَدْ شَجَانِي أَخِي ثِقَةٍ، إذَا مَا اللَّيْلُ أَفْضَى ... إلَيَّ بِمُؤْيِدٍ حُبْلَى كَفَانِي قَطَعْتُ قَرِينَتِي عَنْهُ فأغْنَى ... غناهُ، فَلَنْ أَراهُ وَلَنْ يَرَانِي وكُلُّ قَرِينَةٍ قُرِنَتْ بِأُخْرى، ... وَلَوْ ضَنَّتْ بِهَا، سَتَفَرَّقَانِ وكُلُّ أَخٍ ...................... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَكُلُّ إِجَابَتي إِيَّاهُ أَنِّي ... عَطَفْتُ عَلَيْهِ خَوَّار الْعِنَانِ وقوله: "وذي فجع"، أي: صديق يورث فراقه الفجيعة، ويروى"وذى لطف"، ويروي"وذي فخم"، يعني: ذي كبرياء واستعلاء. و"عزف نفسه عن الشيء": صرفها. و"شجاني": أحزنني. و"المؤيد" الداهية العظيمة."حبلى" تلد شرًا بعد شر. و"القرينة" النفس التي تقارن صاحبها لا تفارقه، حتى يموت. و"خوار العنان" صفة الفرس إذا كان سهل المعطف لينه كثير الجري، يعني، أنه ينصره في الحرب حين يستغيث به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ثم استثنى"القليل"، فرفع بالمعنى الذي ذكرنا، إذ كان الفعل منفيًّا عنه. * * * وهي في مصاحف أهل الشام: (مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ) . وإذا قرئ كذلك، فلا مرْزِئَةَ على قارئه في إعرابه، (1) لأنه المعروف في كلام العرب، إذ كان الفعل مشغولا بما فيه كنايةُ مَنْ قد جرى ذكره، (2) ثم استثني منهم القليل. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدُّون عنك صدودًا ="فعلوا ما يوعظون به"، يعني: ما يذكّرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره (3) ="لكان خيرًا لهم"، في عاجل دنياهم، وآجل معادهم ="وأشد تثبيتًا"، وأثبت لهم في أمورهم، وأقوم لهم عليها. (4) وذلك أن المنافق يعمل على شك، فعمله يذهب باطلا وعناؤه يضمحلّ فيصير هباء، وهو بشكه يعمل على وناءٍ وضعف. (5)   (1) "المرزئة" (بفتح الميم، وسكون الراء، وكسر الزاي) ، مثل الرزء، والرزيئة: وهو المصيبة والعناء والضرر والنقص، وكل ما يثقل عليك، عافاك الله. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "فلا مرد به على قارئه"، وهو شيء لا يفهم ولا يقال!! (2) "الكناية" الضمير، كما سلف مرارًا كثيرة. ثم انظر مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 131. (3) انظر تفسير"الوعظ"، فيما سلف ص: 299، تعليق: 4، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"التثبيت" فيما سلف 5: 354، 531 / 7: 272، 273. ولو قال: "وأقوى لهم عليها"، لكان ذلك أرجح عندي، وكلتاهما صواب. (5) "الونا" و"الوناء": الفترة والكلال والإعياء والضعف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 ولو عمل على بصيرة، لاكتسب بعمله أجرًا، ولكان له عند الله ذخرًا، وكان على عمله الذي يعمل أقوى، ولنفسه أشدَّ تثبيتًا، لإيمانه بوعد الله على طاعته، وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله:"وأشد تثبيتًا"، تصديقًا، كما:- 9922 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا"، قال: تصديقًا. * * * = لأنه إذا كان مصدّقًا، كان لنفسه أشد تثبيتًا، ولعزمه فيه أشدّ تصحيحًا. وهو نظير قوله جل ثناؤه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [سورة البقرة: 265] . وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه، بما فيه كفاية من إعادته، (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم، لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعِظُوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا ="أجرًا" يعني: جزاء وثوابًا عظيمًا (2) = وأشد تثبيتًا لعزائمهم وآرائهم، وأقوى لهم على أعمالهم، لهدايتنا إياهم صراطًا مستقيمًا = يعني: طريقًا لا اعوجاج فيه، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم، وذلك الإسلام. (3) * * *   (1) انظر تفسير الآية فيما سلف 5: 530 - 534. (2) انظر تفسيره"الأجر" فيما سلف ص: 365، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170 - 177 / 3: 140، 141 / 6: 441. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 ومعنى قوله:"ولهديناهم"، ولوفَّقناهم للصراط المستقيم. (1) ثم ذكر جل ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه السلام، من الكرامة الدائمة لديه، والمنازل الرفيعة عنده. فقال: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) الآية. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يطع الله والرسول" بالتسليم لأمرهما، وإخلاص الرضى بحكمهما، والانتهاء إلى أمرهما، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه، وفي الآخرة إذا دخل الجنة ="والصديقين" وهم جمع"صِدِّيق". * * * واختلف في معنى:"الصديقين". فقال بعضهم:"الصديقون"، تُبَّاع الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن"الصدِّيق"،"فِعِّيل"، على مذهب قائلي هذه المقالة، من"الصدق"، كما يقال:"رجل سِكّير" من"السُّكر"، إذا كان مدمنًا على ذلك، و"شِرِّيبٌ"، و"خِمِّير". * * *   (1) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 وقال آخرون: بل هو"فِعِّيل" من"الصَّدَقة"، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو تأويل من قال ذلك، وهو ما:- 9923 - حدثنا به سفيان بن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن موسى بن يعقوب قال، أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أمها كريمة ابنة المقداد، (1) عن ضباعة بنت الزبير، (2) وكانت تحت المقداد، عن المقداد قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: شيء سمعته منك شككت فيه! قال: إذا شكّ أحدكم في الأمر فليسألني عنه. قال قلت: قولك في أزواجك:"إنيّ لأرجو لهن من بعدِيَ الصدِّيقين" قال: من تَعُدُّون الصديقين؟ (3) قلت: أولادنا الذين يهلكون صغارًا. قال: لا ولكن الصدِّيقين هم المصَّدِّقون. (4) * * * وهذا خبر، لو كان إسناده صحيحًا، لم نستجز أن نعدوه إلى غيره، ولو كان في إسناده بعض ما فيه.   (1) في المخطوطة"كريمة ابنة المقدام"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المخطوطة: "متاعة بنت الزبير"، خطأ، صوابه في المطبوعة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "من تعنون الصديقين"، وهو خطأ لا معنى له. والصواب ما أثبت من مختصر هذا الأثر في منتخب كنز العمال (هامش المسند) 5: 113. (4) الحديث: 9923 - سفيان بن وكيع بن الجراح - شيخ الطبري: ضعيف، كما فصلنا في: 142، 143. موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود، الزمعي -بسكون الميم - المدني: ثقة، وثقه ابن معين وابن القطان وغيرهما. وضعفه ابن المديني وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 298، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 167 - ولم يذكرا فيه جرحًا. بل اقتصر ابن أبي حاتم على توثيق ابن معين إياه. قريبة - بالتصغير - بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عمة موسى بن يعقوب: مترجمة في التهذيب، دون جرحها بشيء. أمها: "كريمة بنت المقداد بن الأسود": تابعية ثقة. ذكرها ابن حبان في الثقات. ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم: صحابية معروفة. كانت زوجًا للمقداد بن الأسود. ولها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها المقداد. وهذا الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 183، مختصرًا، ولم ينسبه لغير ابن جرير. ولكنه ذكره في الجامع الكبير، المسمى"جمع الجوامع"، كما يدل عليه ذكره في كتاب"منتخب كنز العمال" للمتقي الهندي، المطبوع بهامش مسند أحمد - طبعة الحلبي - ذكره فيه مختصرًا (ج5 ص113) ، ونسبه للطبراني في الكبير. وقد أعجزني أن أجده في مجمع الزوائد، لأنه على شرطه. ولست أعرف إذا كانت روايته عند الطبراني من طريق سفيان بن وكيع، أو من طريق راو آخر، فإن يكن من طريق راو غيره، كان الإسناد جيدًا، لأن جرح سفيان بن وكيع لم يكن من قبل صدقه، كما بينا في ترجمته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بـ "الصديق"، أن يكون معناه: المصدِّق قوله بفعله. إذ كان"الفعِّيل" في كلام العرب، إنما يأتي، إذا كان مأخوذًا من الفعل، بمعنى المبالغة، إما في المدح، وإما في الذم، ومنه قوله جل ثناؤه في صفة مريم: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [سورة المائدة: 75] . وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا، كان داخلا من كان موصوفًا بما قلنا في صفة المتصدقين والمصدقين. ="والشهداء"، وهم جمع"شهيد"، وهو المقتول في سبيل الله، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحق في جَنب الله حتى قتل. (1) * * * ="والصالحين"، وهم جمع"صالح"، وهو كل من صلحت سريرته وعلانيته. (2) وأما قوله جل ثناؤه:"وحَسُن أولئك رفيقًا"، فإنه يعني: وحسن، هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم، (3) رفقاء في الجنة. * * * و"الرفيق" في لفظ واحدٍ بمعنى الجميع، (4) كما قال الشاعر: (5)   (1) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف: 368، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف: 293، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر ما كتبته في"حسن" 4: 458، تعليق: 2. (4) في المطبوعة: "بلفظ الواحد"، وأثبت ما في المخطوطة. (5) هو جرير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 دَعَوْنَ الهَوَى، ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوَبنَا ... بِأَسْهُمِ أَعْدَاءِ، وَهُنَّ صَدِيقُ (1) بمعنى: وهن صدائق. * * * وأما نصب"الرفيق"، فإن أهل العربية مختلفون فيه. فكان بعض نحويي البصرة يرى أنه منصوب على الحال، ويقول: هو كقول الرجل:"كَرُم زيد رجلا"، ويعدل به عن معنى:"نعم الرجل"، ويقول: إن"نعم" لا تقع إلا على اسم فيه"ألف ولام"، أو على نكرة. * * * وكان بعض نحويي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير، (2) وينكر أن يكون حالا ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول:"كرم زيدٌ من رجل" و"حسن أولئك من رفقاء"، وأن دخول"مِنْ" دلالة على أن"الرفيق" مفسره. قال: وقد حكي عن العرب:"نَعِمتم رجالا"، فدل على أن ذلك نظير قوله:"وحسنتم رفقاء". * * * قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب، للعلة التي ذكرنا لقائليه. * * *   (1) ديوانه: 398، وطبقات فحول الشعراء: 351، واللسان (صدق) ، وغيرها كثير. من أبيات ذكر فيهن الحجاج، قبله أبيات حسان، تحفظ: وَبِتُّ أُرَائِي صَاحِبَيَّ تَجَلُّدًا ... وَقَدْ عَلِقَتْنِي مِنْ هَوَاكِ عَلُوقُ فَكَيْفَ بِهَا? لا الدَّارُ جَامِعَةُ الْهَوَى ... وَلا أنْتَ عَصْرًا عَنْ صِبَاكَ مُفِيقُ أَتجْمَعُ قَلْبًا بِالْعِرَاقِ فَرِيُقهُ، ... ومِنْهُ بِأَظْلالٍ الأََرَاكِ فَرِيقُ? كأنْ لَمْ تَرُقْني الرَّائِحَاتُ عَشِيَّةً ... وَلَمْ يُمْسِ فِي أَهْل الْعِرَاقِ وَمِيقُ أُعَالِجُ بَرْحًا مِنْ هَوَاكِ، وَشَفَّني ... فُؤَادٌ إذَا مَا تُذْكَرِينَ خَفُوقُ أَوَانِسُ، أَمَّا مَنْ أَرَدْنَ عَنَاءَهُ ... فَعَانِ، وَمَنْ أَطْلَقْنَ فَهُوَ طَلِيقُ دَعَوْنَ الْهَوَى ............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي المطبوعة: "نصبن الهوى"، وهي رواية أخرى، غير التي في المخطوطة والديوان. (2) "التفسير". التمييز و"المفسر": المميز. كما سلف مرارًا. انظر فهرس المصطلحات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 وقد ذكر أن هذه الآية نزلت، (1) لأن قومًا حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرًا أن لا يروه في الآخرة. ذكر الرواية بذلك: 9924 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان، مالي أراك محزونًا؟ قال: يا نبي الله، شيء فكرت فيه! فقال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر في وجهك ونجالسك، غدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك! فلم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا". قال: فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبشره. 9925 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك لو قَدْ مِتَّ رُفِعت فوقنا فلم نرك! فأنزل الله:"ومن يطع الله والرسول"، الآية. 9926 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين"، ذكر لنا أن رجالا قالوا: هذا نبي الله نراه في الدنيا، فأما في الآخرة فيرفع فلا نراه! فأنزل الله:"ومن يطع الله والرسول" إلى قوله:"رفيقًا". 9927 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" الآية، قال: قال ناس من الأنصار: يا رسول الله، إذا أدخلك الله الجنة فكنت   (1) في المخطوطة: "وقد ذكرنا أن ... "، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 في أعلاها، ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟ فأنزل الله"ومن يطع الله والرسول". 9928 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن يطع الله والرسول"، الآية، قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضله على من آمن به في درجات الجنة، (1) ممن اتبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضًا؟ فأنزل الله في ذلك. يقال: (2) إن الأعلَين ينحدرون إلى من هم أسفل منهم فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به، فهم في رَوْضه يحبرون ويتنعَّمون فيه. (3) . * * * وأما قوله:"ذلك الفضل من الله"، فإنه يقول: كون من أطاع الله والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ="الفضل من الله"، يقول: ذلك عطاء الله إياهم وفضله عليهم، لا باستيجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم. (4) * * * فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله؟ قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم، فهداهم به لطاعته، فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره. * * * وقوله:"وكفى بالله عليما"، يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم ="عليما"   (1) في المطبوعة: "له فضل على من آمن"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فقال"، والصواب ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "في روضة"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6: 518 / 7: 299، 414 / 8: 268. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي، فإنه لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه، حتى يجازي جميعهم، جزاء المحسنين منهم بالإحسان، والمسيئين منهم بالإساءة، (1) ويعفو عمن شاء من أهل التوحيد. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (2) "يا أيها الذين آمنوا"، صدَّقوا الله ورسوله ="خذوا حذركم"، خذوا جُنَّتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوكم لغزوهم وحربهم ="فانفروا إليهم ثُبات". * * * = وهي جمع"ثبة"، و"الثبة"، العصبة. = ومعنى الكلام: فانفروا إلى عدوكم جماعة بعد جماعة متسلحين. = ومن"الثبة" قول زهير: وَقَدْ أَغْدُوا عَلَى ثُبَةٍ كِرَامٍ ... نَشَاوَى وَاجِدِينَ لِمَا نَشَاء (3)   (1) في المطبوعة: "فيجزي المحسن منهم بالإحسان، والمسيء منهم بالإساءة" وفي المخطوطة: "جزاء المحسنين منهم بالإحسان، والمسيء منهم بالإساءة"، وأثبت ما في المخطوطة، وأثبت صواب السياق على ما يقتضيه صدر الكلام. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك ... " والسياق يقتضي ما أثبت. (3) ديوانه: 72، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 132، واللساق (ثبا) و (نشا) ، وغيرها. من أبيات وصف فيها الشرب، قد بلغت منهم النشوة، وهم في ترف من يومهم، لا يفتقدون شيئًا ثم يقول: لَهُمْ رَاحٌ، وَرَاوُوقٌ، ومِسْكٌ ... تُعَلُّ بِهِ جُلُودُهُمُ، ومَاءُ أُمَشِّي بَيْنَ قَتْلَى قَدْ أُصِيَبتْ ... نُفُوسُهُمُ، ولَمْ تَقْطُرَ دماءُ يَجُرُّونَ الْبُرُودَ وَقَدْ تَمَشَّتْ ... حُمَيَّا الْكَأْسِ فِيهِمْ والغِنَاءُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 وقد تجمع"الثبة" على"ثُبِين". (1) . * * * ="أو انفروا جميعًا"، يقول: أو انفروا جميعًا مع نبيكم صلى الله عليه وسلم لقتالهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9929 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"خذوا حذركم فانفروا ثبات"، يقول: عصبًا، يعني سَرايَا متفرقين ="أو انفروا جميعًا"، يعني: كلكم. 9930 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فانفروا ثبات"، قال: فرقًا، قليلا قليلا. 9931 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فانفروا ثبات"، قال:"الثبات" الفرق. 9932 - حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. 9933 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فانفروا ثبات"، فهي العصبة، وهي الثبة ="أو انفروا جميعًا"، مع النبي صلى الله عليه وسلم. 9934 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فانفروا ثبات"، يعني: عصبًا متفرِّقين. * * *   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 132. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) } قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال:"وإن منكم"، أيها المؤمنون، يعني: من عِدَادكم وقومكم، ومن يتشَّبه بكم، ويظهر أنه من أهل دعوتكم ومِلَّتكم، وهو منافق يبطِّئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم ="فإن أصابتكم مصيبة"، (1) يقول: فإن أصابتكم هزيمة، أو نالكم قتل أو جراح من عدوكم ="قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا"، فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسَرَّه تخلّفه عنكم، شماتة بكم، لأنه من أهل الشك في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب، وفي وعيده. فهو غيرُ راج ثوابًا، ولا خائف عقابًا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9935 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة" إلى قوله:"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، ما بين ذلك في المنافقين.   (1) انظر تفسير"إصابة المصيبة" فيما سلف: 514. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 9936 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 9937 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن منكم لمن ليبطئن" عن الجهاد والغزو في سبيل الله ="فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا"، قال: هذا قول مكذِّب. 9938 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: المنافق يبطِّئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، قال الله:"فإن أصابتكم مصيبة"، قال: بقتل العدو من المسلمين ="قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا"، قال: هذا قول الشامت. 9939 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فإن أصابتكم مصيبة"، قال: هزيمةٌ. * * * ودخلت"اللام" في قوله:"لمن"، وفتحت، لأنها"اللام" التي تدخل توكيدًا للخبر مع"إنَّ"، كقول القائل:"إنّ في الدار لَمَن يكرمك". وأما"اللام" الثانية التي في"ليبطئن"، فدخلت لجواب القسم، كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن والله ليبطئن. (1) * * *   (1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 275، 276. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 القول في تأويل قوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"ولئن أصابكم فضل من الله"، ولئن أظفركم الله بعدوكم فأصبتم منهم غنيمة، ليقولن هذا المبطِّئُ المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل الله، المنافقُ ="كأن لم يكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز"، بما أصيب معهم من الغنيمة ="فوزًا عظيمًا". * * * وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين: أنّ شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها، لطلب الغنيمة = وإن تخلَّفوا عنها، فللشك الذي في قلوبهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابًا، ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابًا. * * * وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين:"يا ليتني كنت معهم"، حسدًا منهم لهم. 9940 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا"، قال: قول حاسد. 9941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولئن أصابكم فضل من الله"، قال: ظهور المسلمين على عدوهم فأصابوا الغنيمة، ليقولن:"يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا"، قال: قول الحاسد. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 القول في تأويل قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) } قال أبو جعفر: وهذا حضٌّ من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به على أحايينهم = غالبين كانوا أو مغلوبين، والتهاونِ بأقوال المنافقين في جهاد من جاهدوا من المشركين، (1) [وأن لهم في] جهادهم إياهم - مغلوبين كانوا أو غالبين - منزلة من الله رفيعة. (2) * * * يقول الله لهم جل ثناؤه:"فليقاتل في سبيل الله"، يعني: في دين الله والدعاء إليه، والدخول فيما أمر به أهل الكفر به ="الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، يعني: الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها. وبيعُهم إياها بها: إنفاقهم أموالهم في طلب رضى الله، لجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه، (3) وبَذْلهم مُهَجهم له في ذلك. * * * أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه فقال:"ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن يقاتل - في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله - أعداءَ الله ="فيقتل"، يقول: فيقتله أعداء الله، أو يغلبهم   (1) في المخطوطة والمطبوعة"والتهاون بأحوال المشركين"، والذي يدل عليه سياق التفسير، هو ما أثبت. ويعني بذلك ما يقوله المنافق عند هزيمة المسلمين: "قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا"، وقوله إذا كانت الدولة والظفر للمسلمين: "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا". وقوله: "والتهاون" عطف على قوله: "وهذا حض من الله المؤمنين على جهاد عدوه". (2) كان مكان ما بين القوسين في المخطوطة والمطبوعة: "وقع" وهو كلام لا يستقيم البتة، فاستظهرت أن يكون صواب سياقه ما أثبت، أو ما يشبهه من القول. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "كجهاد من أمر بجهاده"، وصواب السياق"لجهاد ........ " كما أثبتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 فيظفر بهم ="فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: فسوف نعطيه في الآخرة ثوابًا وأجرًا عظيمًا. وليس لما سمى جل ثناؤه"عظيمًا"، مقدار يعرِف مبلغَه عبادُ الله. (1) * * * وقد دللنا على أن الأغلب على معنى:"شريت"، في كلام العرب:"بعت"، بما أغنى [عن إعادته] ، (2) وقد:- 9942 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة. 9943 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، فـ "يشري": يبيع، و"يشري": يأخذ = وإن الحمقى باعوا الآخرة بالدنيا. * * *   (1) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف: 529، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"شرى" و"اشترى" فيما سلف 1: 312- 315 / 2: 340- 342، 455 / 3: 328 / 4: 246 / 6: 527 / 7: 420، 459 / 8: 428 وزدت ما بين القوسين، جريًا على نهج عبارته في مئات من المواضع السالفة، والظاهر أن الناسخ نسى أن يكتبها، لأن"بما أغنى" وقعت في آخر الصفحة، ثم قلب الورقة إلى الصفحة التالية، وكتب"وقد". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 القول في تأويل قوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وما لكم" أيها المؤمنون ="لا تقاتلون في سبيل الله"، وفي"المستضعفين"، يقول: عن المستضعفين منكم ="من الرجال والنساء والولدان"، فأما من"الرجال"، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم، فحضَّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله، وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدِّهم عن دينهم؟ "من الرجال والنساء والولدان" = جمع"ولد": وهم الصبيان ="الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يقولون في دعائهم ربَّهم بأن ينجييهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين:"يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها". * * * والعرب تسمي كل مدينة"قرية" = يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسَها أهلُها = وهي في هذا الموضع، فيما فسر أهل التأويل،"مكة". * * * وخفض"الظالم" لأنه من صفة"الأهل"، وقد عادت"الهاء والألف" اللتان فيه على"القرية"، وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها، (1) أتبعت إعرابها إعرابَ الاسم الذي قبلها، كأنها صفة له، فتقول:"مررت بالرجلِ الكريمِ أبوه". * * * ="واجعل لنا من لدنك وليًّا"، يعني: أنهم يقولون أيضًا في دعائهم: يا ربنا، واجعل لنا من عندك وليًّا، يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك =   (1) في المخطوطة: "الذي معه عادر لاسم قبلها"، وهو سهو من الناسخ، صوابه ما في المطبوعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 "واجعل لنا من لدنك نصيرًا"، يقولون: (1) واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية الظالم أهلها، (2) بصدِّهم إيانا عن سبيلك، حتى تظفرنا بهم، وتعلي دينك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9944 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين، كانوا بمكة. 9945 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان" = الصبيان ="الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، مكة = أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة. 9946 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين = وأما"القرية"، فمكة. 9947 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين"، قال: وفي المستضعفين.   (1) انظر تفسير"الولي"، و"النصير"، فيما سلف من فهارس اللغة. (2) في المطبوعة"من ظلمنا من أهل القرية"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 9948 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب يقول،"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال: في سبيل الله وسبيل المستضعفين. 9949 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، قالا خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فنأى بصدره إلى القرية الصالحة، (1) فما تلافاه إلا ذلك (2) = فاحتجَّت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، (3) فأمروا أن يقدُروا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبْرٍ = وقال بعضهم: قرّب الله إليه القرية الصالحة، فتوفَّته ملائكة الرحمة. 9950 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، هم أناس مسلمون كانوا بمكة، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك (4) = وقوله:"ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، فهي مكة. 9950م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:   (1) قوله: "نأى بصدره" أي تباعد به. يعني: تحامل وهو هالك حتى وجه صدره إلى القرية الصالحة، ابتعادًا وإعراضًا عن القرية الظالمة. ومثله: "نأى بجانبه". (2) قوله: "فما تلافاه إلا ذلك"، أي: فما تداركه وأنقذه من سوء المصير، إلا هذه الإعراضة التي أعرضها عن القرية الظالمة. وكانت هذه الجملة غير منقوطة في المخطوطة. فآثر ناشر المطبوعة حذفها، لما لم يحسن قراءتها وفهمها. (3) قوله: "احتجت فيه"، أي: اختصمت فيه الملائكة، وألقى كل خصم بحجته، ولم يرد هذا الوزن بهذا المعنى في كتب اللغة، وهو صحيح عريق، وإنما قالوا: "احتج بالشيء" اتخذه حجة، أما التخاصم والتنازع فقالوا فيه: "تحاج القوم". فهذا من الزيادات الصحيحة على قيد اللغة. (4) في المطبوعة: "وفيهم قوله"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، قال: وما لكم لا تفعلون؟ تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوة، فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم الله هؤلاء ودينهم؟ (1) قال: و"القرية الظالم أهلها"، مكة. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله، وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به ="يقاتلون في سبيل الله"، يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده (2) ="والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت"، يقول: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم ="يقاتلون في سبيل الطاغوت"، (3) يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله، مقوِّيًا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحرِّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به:"فقاتلوا" أيها المؤمنون، ="أولياء الشيطان"، يعني بذلك: الذين يتولَّونه ويطيعون أمره، في خلاف طاعة الله، والتكذيب به، وينصرونه (4) ="إن كيد الشيطان   (1) في المطبوعة: "حتى يسلم لله"، وأثبت ما في المخطوطة فهو الصواب. (2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (سبل) . (3) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 3: 416- 420 / 8: 461- 465، 507- 513. (4) انظر تفسير"ولي" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 كان ضعيفًا"، يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين، (1) من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وَهَن وضعف. * * * وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حميّة أو حسدًا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. والمؤمنون يقاتل مَن قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل، وبما لَه من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف. * * * القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يُفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه. * * *   (1) انظر تفسير"الكيد" فيما سلف 7: 156. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 فتأويل قوله:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"، ألم تر بقلبك، يا محمد، فتعلم (1) ="إلى الذين قيل لهم"، من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال ="كفوا أيديكم"، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم ="وأقيموا الصلاة"، يقول: وأدُّوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها (2) ="وآتوا الزكاة"، يقول: وأعطوا الزكاة أهلها الذين جعلها الله لهم من أموالكم، تطهيرًا لأبدانكم وأموالكم (3) = كرهوا ما أمروا به من كف الأيدي عن قتال المشركين وشق ذلك عليهم ="فلما كتب عليهم القتال"، يقول: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم (4) ="إذا فريق منهم"، يعني: جماعة منهم (5) ="يخشون الناس"، يقول: يخافون الناس أن يقاتلوهم ="كخشية الله أو أشد خشية"، أو أشد خوفًا (6) = وقالوا جزعًا من القنال الذي فرض الله عليهم:"لم كتبت علينا القتال"، لم فرضت علينا القتال؟ ركونًا منهم إلى الدنيا، وإيثارًا للدعة فيها والخفض، (7) على مكروه لقاء العدوّ ومشقة حربهم وقتالهم ="لولا أخرتنا"، يخبر عنهم، قالوا: هلا أخرتنا ="إلى أجل قريب"، يعني: إلى أن يموتوا على فُرُشهم وفي منازلهم. (8) . * * *   (1) انظر تفسير: "ألم تر" فيما سلف: 426، تعليق: 5، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير: "إقامة الصلاة" فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) . (3) انظر تفسير"إيتاء الزكاة" فيما سلف من فهارس اللغة"أتى""زكا". (4) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 525، تعليق: 1، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير"فريق" سلف 2: 244، 245، 402 / 3: 549 / 6: 535. (6) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 1: 599، 560 / 2: 239، 243. (7) في المطبوعة: "وإيثارًا للدعة فيها والحفظ عن مكروه"، وفي المخطوطة: "والحفظ على مكروه"، وكلاهما خطأ فاسد، والصواب: "والخفض" وهو لين العيش، وأما قوله: "على مكروه لقاء العدو" فهو متعلق بقوله: "وإيثار للدعة ... على مكروه ... ". (8) انظر تفسير"الأجل" فيما سلف 5: 7 / 6: 43، 76. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 وبنحو الذي قلنا إنّ هذه الآية نزلت فيه، قال أهل التأويل. ذكر الآثار بذلك، والرواية عمن قاله. 9951 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، كنا في عِزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذِلة! فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا. فلما حوَّله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"، الآية (1) . 9952 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"، عن الناس ="فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم"، نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال: ابن جريج وقوله:"وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب"، قال: إلى أن نموت موتًا، هو"الأجل القريب". 9953 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة"، فقرأ حتى بلغ:"إلى أجل قريب"، قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرَّعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله صلى   (1) الأثر: 9951 -"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق" مضى برقم: 1591، 2575، 2594. وأبوه: "علي بن الحسن بن شقيق بن دينار" مضى برقم: 1909. وكان في المطبوعة: " ... بن الحسين بن شقيق"، وهو خطأ. وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك 2: 307 مع اختلاف في لفظه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن 9: 11، ورواه ابن كثير في تفسيره 2: 514، من طريق ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر المنثور 2: 184، ونسبه إلى هؤلاء وزاد نسبته إلى النسائي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 الله عليه وسلم: ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة، وأُمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا) . 9954 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، قال: هم قوم أسلموا قبل أن يُفرض عليهم القتال، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ="فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" الآية، إلى"إلى أجل قريبٍ" (1) وهو الموت، قال الله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) . * * * وقال آخرون: نزلت هذه وآيات بعدها، في اليهود. *ذكر من قال ذلك: 9955 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" إلى قوله:"لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، ما بين ذلك في اليهود. 9956 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم" إلى قوله:"لم كتبت علينا القتال"، نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "الآية إلى أجل قريب"، والسياق يقتضي"إلى" الثانية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 القول في تأويل قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"قل متاع الدنيا قليل"، قل، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين قالوا:"ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" =: عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل، لأنها فانية وما فيها فانٍ (1) ="والآخرة خير"، يعني: ونعيم الآخرة خير، لأنها باقية ونعيمها باق دائم. وإنما قيل:"والآخرة خير"، ومعنى الكلام ما وصفت، من أنه معنيٌّ به نعيمها - لدلالة ذكر"الآخرة" بالذي ذكرت به، على المعنى المراد منه ="لمن اتقى"، يعني: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فأطاعه في كل ذلك ="ولا تظلمون فتيلا"، يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلا. * * * وقد بينا معنى:"الفتيل"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته ههنا. (2) * * * القول في تأويل قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: = حيثما تكونوا يَنَلكم الموت فتموتوا ="ولو كنتم في بروج مشيَّدة"، يقول: لا تجزعوا من الموت، ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت   (1) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / 3: 55 / 5: 262 / 6: 258. (2) انظر ما سلف: 456 - 460. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 بإزائكم أين كنتم، وواصلٌ إلى أنفسكم حيث كنتم، ولو تحصَّنتم منه بالحصون المنيعة. * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"ولو كنتم في بروج مشيدة". فقال بعضهم: يعنى به: قصور مُحصنة. *ذكر من قال ذلك: 9957 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول: في قصور محصنة. 9958 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا أبو همام قال، حدثنا كثير أبو الفضل، عن مجاهد قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة، وكان لها أجيرٌ، فولدت جارية. فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارًا، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية. قال: أما إنّ هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة، ويتزوجها أجيرها، (1) ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة!! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية. وعولجت فبرِئت، فشبَّت، وكانت تبغي، فأتت ساحلا من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها تبغي. قال: ائتيني بها. فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي: كذا. فقلت له: كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوَّجته! قال: فتزوجها، فوقعت منه موقعًا. فبينا هو يومًا عندها إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية! = وأرته الشق في بطنها = وقد كنت   (1) "تبغي" من"البغاء"، "بغت المرأة": فجرت وزنت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 أبغي، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر! قال: فإنّه قال لي: يكون موتها بعنكبوت. (1) قال: فبنى لها برجًا بالصحراء وشيده. فبينما هما يومًا في ذلك البرج، إذا عنكبوت في السقف، فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدَخَتْه، وساحَ سمه بين ظفرها واللحم، فاسودت رجلها فماتت. فنزلت هذه الآية:"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة". (2) 9959 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولو كنتم في بروج مشيدة"، قال: قصور مشيدة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: قصورٌ بأعيانها في السماء. *ذكر من قال ذلك: 9960 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، وهي قصور بيض في سماء الدنيا، مبنية. 9961 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله:"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول: ولو كنتم في قصور في السماء. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "بالعنكبوت"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 9958 -"كثير أبو الفضل"، هو: كثير بن يسار الطفاوي، أبو الفضل البصري. روى عن الحسن البصري، وثابت البناني وغيرهما. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 515، من تفسير ابن أبي حاتم، وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 184، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، وأبي نعيم في الحلية. (3) الأثر: 9961 -"عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ"، مضى برقم: 2929، وهذا الإسناد نفسه مضى أيضًا قبله برقم 2919، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"عبد الرحمن بن سعيد"، كما كان في رقم: 2929، ولكنه سيأتي على الصواب في المخطوطة والمطبوعة بعد قليل رقم: 9962، 9972. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 واختلف أهل العربية في معنى"المشيدة". فقال بعض أهل البصرة منهم:"المشيدة"، الطويلة. قال: وأما"المشِيدُ"، بالتخفيف، فإنه المزيَّن. (1) * * * وقال آخر منهم نحو ذلك القول، (2) غير أنه قال:"المَشِيد" بالتخفيف المعمول بالشِّيد، و"الشيد" الجِصُّ. * * * وقال بعض أهل الكوفة:"المَشيد" و"المُشَيَّد"، أصلهما واحد، غير أن ما شدِّد منه، فإنما يشدد لنفسه، والفعل فيه في جمع، (3) مثل قولهم:"هذه ثياب مصبَّغة"، و"غنم مذبَّحة"، فشدد؛ لأنها جمع يفرَّق فيها الفعل. وكذلك مثله،"قصور مشيدة"، لأن القصور كثيرة تردد فيها التشييد، ولذلك قيل:"بروج مشيدة"، ومنه قوله:"وغَلَّقت الأبواب"، وكما يقال:"كسَّرت العودَ"، إذا جعلته قطعًا، أي: قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف، فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه، جاز التشديد عندهم والتخفيف، فيقال منه:"هذا ثوب مخرَّق" و"جلد مقطع"، لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد، ولم يجيزوه إلا بالتخفيف، وذلك نحو قولهم:"رأيت كبشًا مذبوحًا" ولا يجيزون فيه:"مذَّبحًا"، لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرُّق في الثوب. * * * وقالوا: فلهذا قيل:"قصر مَشِيد"، لأنه واحد، فجعل بمنزلة قولهم:   (1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 132. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقال آخرون منهم"، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) في المطبوعة: "فإنما يشدد لتردد الفعل فيه ... " غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته وهو صواب المعنى المطابق للسياق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 "كبش مذبوح". وقالوا: جائز في القصر أن يقال:"قصر مشيَّد" بالتشديد، لتردد البناء فيه والتشييد، ولا يجوز ذلك في"كبش مذبوح"، لما ذكرنا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قل أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله"، وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة (2) ="يقولوا هذه من عند الله"، يعني: من قبل الله ومن تقديره (3) ="وإن تصبهم سيئة"، يقول: وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم، (4) = يقولوا لك يا محمد: ="هذه من عندك"، بخطئك التدبير. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9962 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:   (1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 277. (2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف: 514، 538 وانظر تفسير"الحسنة" فيما سلف 4: 203-206. (3) انظر تفسير"عند" فيما سلف: 2: 500 / 7: 490، 495. (4) انظر تفسير"سيئة" فيما سلف: 2: 281، 282، / 7: 482، 490 / 8: 254. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 555 "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك"، قال: هذه في السراء والضراء. (1) 9963 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله. 9964 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك" فقرأ حتى بلغ:"وأرسلناك للناس رسولا"، قال: إن هذه الآيات نزلت في شأن الحرب. فقرأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) فقرأ حتى بلغ:"وإن تصبهم سيئة"، يقولوا:"هذه من عند محمد عليه السلام، أساء التدبير وأساء النظر! ما أحسن التدبير ولا النظر". * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"قل كل من عند الله"، قل، يا محمد، لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة:"هذه من عند الله"، وإذا أصابتهم سيئة:"هذه من عندك": = كل ذلك من عند الله، دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده الفَلُّ والهزيمة، (2) كما:- 9965 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن   (1) الأثر: 9962 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 9961. (2) في المطبوعة: "القتل والهزيمة"، وفي المخطوطة: "العال والهزيمة" غير منقوطة، ورجحت أن صوابها"الفل"، من قولهم: "فل القوم يفلهم فلا.": هزمهم وكسرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 556 قتادة:"قل كل من عند الله"، النعم والمصائب. 9966 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كل من عند الله"، النصر والهزيمة. 9967 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا"، يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فمال هؤلاء القوم"، (1) فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا:"هذه من عند الله"، وإن تصبهم سيئة يقولوا:"هذه من عندك" ="لا يكادون يفقهون حديثًا"، يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به، من أن كل ما أصابهم من خير أو شر، أو ضرّ وشدة ورخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاءً ونعمة إلا بمشيئته. وهذا إعلام من الله عبادَه أن مفاتح الأشياء كلها بيده، لا يملك شيئًا منها أحد غيره. * * *   (1) قال الفراء في معاني القرآن 1: 278: " (فمال) ، كثرت في الكلام حتى توهموا أن اللام متصلة ب"ما"، وأنها حرف في بعضه". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 557 القول في تأويل قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، ما يصيبك، يا محمد، من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك، يتفضل به عليك إحسانًا منه إليك = وأما قوله:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه ="فمن نفسك"، يعني: بذنب استوجبتها به، اكتسبته نفسك، (1) كما:- 9968 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، أما"من نفسك"، فيقول: من ذنبك. 9969 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، عقوبة، يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عَثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. 9970 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يقول:"الحسنة"، ما فتح الله عليه يوم بدر، وما أصابه من الغنيمة والفتح = و"السيئة"، ما أصابه يوم أُحُد، أنْ شُجَّ في وجهه وكسرت رَبَاعيته.   (1) انظر تفسير"الحسنة" فيما سلف: 555، تعليق: 2، والمراجع هناك. وانظر تفسير"السيئة" فيما سلف: 555، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 558 9971 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يقول: بذنبك = ثم قال: كل من عند الله، النعم والمصيبات. 9972 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال: هذه في الحسنات والسيئات. (1) 9973 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله. 9974 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال: عقوبةً بذنبك. 9975 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، بذنبك، كما قال لأهل أُحد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [سورة آل عمران: 165] ، بذنوبكم. 9976 - حدثني يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال: بذنبك، وأنا قدّرتها عليك. 9977 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، وأنا الذي قدّرتها عليك.   (1) انظر التعليق على الأثرين السالفين: 9961، 9962. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 559 9978 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح بمثله. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه دخول"مِن" في قوله:"ما أصابك من حسنة" و"من سيئة"؟ * * * قيل: اختلف في ذلك أهل العربية. فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت"من" لأن"من" تحسن مع النفي، مثل:"ما جاءني من أحد". (1) قال: ودخول الخبر بالفاء، لأن"ما" بمنزلة"مَن". (2) * * * وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت"مِن" مع"ما"، كما تدخل على"إن" في الجزاء، لأنهما حرفا جزاء. وكذلك، تدخل مع"مَن"، إذا كانت جزاء، فتقول العرب:"مَن يزرك مِن أحد فتكرمه"، كما تقول:"إن يَزُرك من أحد فتكرمه". قال: وأدخلوها مع"ما" و"مَنْ"، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعًا شيئين، وذلك أن"ما" في قوله:"ما أصابك من سيئة" رفع بقوله:"أصابك"، (3) فلو حذفت"مِن"، رفع قوله:"أصابك""السيئةَ"، لأن معناه: إن تصبك سيئة = فلم يجز حذف"مِن" لذلك، لأن الفعل الذي هو على"فعل" أو"يفعل"، لا يرفع شيئين. (4) وجاز ذلك مع"مَن"، لأنها تشتبه بالصفات، (5) وهي في موضع اسم. فأما"إن" فإن"مِن" تدخل معها وتخرج، ولا تخرج مع"أيٍّ"، لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب، ودخلت مع"ما"، لأن الإعراب لا يظهر فيها. * * *   (1) انظر ما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586 / 6: 551. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة من"، وهو كلام لا معنى له البتة، صواب قراءته ما أثبت، ويعني بدخول الفاء في الخبر قوله: "فمن الله" و"فمن نفسك". (3) في المطبوعة والمخطوطة: "ما أصابك من حسنة"، والسياق يقتضي ذكر الأخرى كما أثبتها. (4) "فعل" أو "يفعل"، يعني الماضي والمضارع. (5) "الصفات"، حروف الجر، كما سلف مرارًا، فراجعه في فهارس المصطلحات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 560 القول في تأويل قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وأرسلناك للناس رسولا"، إنما جعلناك، يا محمد، رسولا بيننا وبين الخلق، تبلّغهم ما أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم، وإن ردُّوا فعليها ="وكفى بالله" عليك وعليهم ="شهيدًا"، يقول: حسبك الله تعالى ذكره، شاهدًا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه، (1) وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدَك، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر، جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. * * *   (1) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 القول في تأويل قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) } قال أبو جعفر: وهذا إعذارٌ من الله إلى خلقه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم، أيها الناس، محمدًا فقد أطاعني بطاعته إياه، فاسمعوا قوله وأطيعوا أمرَه، فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم، وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيي، فلا يقولنَّ أحدكم:"إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضَّل علينا"! * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 ثم قال جل ثناؤه لنبيه: ومن تولى عن طاعتك، يا محمد، فأعرض عنك، (1) فإنا لم نرسلك عليهم"حفيظًا"، يعني: حافظًا لما يعملون محاسبًا، بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل إليهم، وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين. * * * ونزلت هذه الآية، فيما ذكر، قبل أن يؤمر بالجهاد، كما:- 9979 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله:"فما أرسلناك عليهم حفيظًا" قال: هذا أول ما بعثه، قال: (إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) [سورة الشورى: 48] . قال: ثم جاء بعد هذا بأمره بجهادهم والغلظة عليهم حتى يسلموا. * * * القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله:"ويقولون طاعة"، يعني: الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال خَشُوا الناس كخشية الله أو أشد خشية، يقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه ="وإذا برزوا من عندك"، يقول: فإذا خرجوا من عندك، (2) يا محمد ="بيّت طائفة منهم غير الذي تقول"، يعني بذلك جل ثناؤه: غيَّر جماعة منهم ليلا الذي تقول لهم. وكل عمل عُمِل ليلا فقد"بُيِّت"، ومن ذلك"بيَّت" العدو، وهو الوقوع   (1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 7: 326، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"برز" فيما سلف 5: 354 / 7: 324. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 562 بهم ليلا ومنه قول عبيدة بن همام: (1) أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا، ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ (2) لأنْكِحَ أَيِّمَهُمْ مُنْذِرًا، ... وَهَلْ يُنْكِحَ الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرْ?! (3) يعني بقوله:"فلم أرض ما بيتوا"، ليلا أي: ما أبرموه ليلا وعزموا عليه، ومنه قول النمر بن تولب العُكْليّ: هَبَّتْ لِتَعْذُلَنِي مِنَ اللَّيْل اسْمَعِ! ... سَفَهًا تُبَيِّتُكِ المَلامَةُ فَاهْجَعِي (4)   (1) عبيدة بن همام، أخو بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، من بني تميم، وظنه ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة"عبيدة بن همام التغلبي"، وكلا، فهذا إسلامي، وذلك جاهلي! واستظهرت من نسب"يعلى بن أمية" في جمهرة الأنساب: 217، وغيرها أنه"عبيدة بن همام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وخبر هذا الشعر دال على أنه جاهلي، فقد ذكر الجاحظ في الحيوان 4: 376 خبر هذه الأبيات، في خبر للنعمان بن المنذر ومثالبه، وذلك أن أخاه المنذر بن المنذر خطب إلى عبيدة بن همام، فرده أقبح الرد، وذكر الأبيات. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، الحيوان 4: 376، الكامل 2: 35، 106، الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1: 263، ديوان الأسود بن يعفر لنهشلي، أعشى بني نهشل، في ديوان الأعشين: 298، اللسان (نكر) . وروى: "فقد طرقوني بشيء". "طرقوني": أتوني ليلا. و"نكر" بضمتين، مثل"نكر" بضم فسكون: الأمر المنكر الذي تنكره. والبيت يتممه الذي بعده. (3) "الأيم" من النساء، التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا. و"رجل أيم"، لا زوجة له. و"منذر" يعني: المنذر بن المنذر، أخا النعمان بن المنذر. وقوله: "هل ينكح العبد حر لحر" أي: هل ينكح الحر الذي ولدته الأحرار، عبدًا من العبيد، وذلك تعريض منه بالمنذر وأخيه النعمان، الذي جعل امرأته ظئرًا لبعض ولد كسرى، وسماه كسرى"عبدًا". وقوله: "حر لحر"، أي: حر قد ولدته الأحرار، كما تقول: "هو كريم لكرام، وحر لأحرار"، اللام فيه للنسب، كأنه قال: كريم ينسب إلى آباء كرام، وحر ينسب إلى آباه أحرار. وهذا الذي قلته لا تجده في كتاب، فاحفظه. وكان في المخطوطة: "لأنكح إليهم منذرًا"، وهو فاسد جدًا كما ترى، وفيها أيضًا: "حر بحر"، والصواب ما أثبت. (4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، والخزانة 1: 153، والعيني (بهامش الخزانة) 2: 536، وشرح شواهد المغني: 161، وغيرها. وكان في المطبوعة: "بليل اسمع"، وهو خطأ، ومثله في المخطوطة: "بليل اسمع"، ولكني أثبت رواية أبي عبيدة فهي أجود الروايات. وقوله: "اسمع"، هذا قول امرأته أو أمه التي كانت تلومه على الكرم والسخاء. ويعني بذلك أنها كانت تكثر من مقالة"اسمع، واسمع مني". وقوله: "سفها"، أي باطلا وخفة عقل. وقوله"تبيتك الملامة" ليس من معنى ما أراد الطبري، وإن كان الشراح قد فسروه كذلك. وهو عندي من قولهم: "بات الرجل" إذا سهر، ومنه: "بت أراعي النجوم"، أي سهرت أنظر إليها، فقوله: "تبيتك الملامة"، أي تسهرك ملامتي وعتابي، يقول: سهرك المضني هذا من السفه، فنامى واهجعي، فهو أروح لك! فاستشهاد أبي عبيدة، والطبري على أثره، بهذا البيت، ليس في تمام موضعه، وإن كان الأمر قريب بعضه من بعض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 563 يقول الله جل ثناؤه:"والله يكتب ما يبيتون"، يعني بذلك جل ثناؤه: والله يكتب ما يغيِّرون من قولك ليلا في كُتب أعمالهم التي تكتبها حَفَظته. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9980 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: يغيِّرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: 9981 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"بيّت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: غيَّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. 9982 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: غيّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. 9983 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون) ، قال: هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا:"طاعة"، فإذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 564 خرجوا من عنده، غيّرت طائفة منهم ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ="والله يكتب ما يبيتون"، يقول: ما يقولون. 9984 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: يغيرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. 9985 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمنا بالله ورسوله"، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. وإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1) خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله، فقال:"بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، يقول: يغيرون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. 9986 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، هم أهل النفاق. * * * وأما رفع"طاعة"، فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول وهو: أمرُك طاعة، أو: منا طاعة. (2) وأما قوله:"بيت طائفة"، فإن"التاء" من"بيّت" تحرِّكها بالفتح عامة قرأة المدينة والعراق وسائر القرأة، لأنها لام"فَعَّل". * * *   (1) في المطبوعة: "فإذا برزوا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 378. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 565 وكان بعض قرأة العراق يسكّنها، ثم يدغمها في"الطاء"، لمقاربتها في المخرج (1) . قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ترك الإدغام، لأنها = أعني"التاء" و"الطاء" = من حرفين مختلفين. وإذا كان كذلك، كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب، واللغة الأخرى جائزةٌ = أعني الإدغام في ذلك = محكيّةٌ. * * * القول في تأويل قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم:"فأعرض"، يا محمد، عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم:"أمرك طاعة"، (2) فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به، وغيَّروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة، وارض لهم بي منتقمًا منهم ="وتوكل" أنت يا محمد ="على الله"، يقول: وفوِّض أنت أمرك إلى الله، وثق به في أمورك، وولِّها إياه (3) ="وكفى بالله وكيلا"، يقول: وكفاك بالله = أي: وحسبك بالله ="وكيلا"، أي: فيما يأمرك، ووليًّا لها، ودافعًا عنك وناصرًا. (4) * * *   (1) انظر معني القرآن للفراء 1: 379. (2) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299 / 6: 291 / 8: 88. (3) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف: 7: 346. (4) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 566 القول في تأويل قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أفلا يتدبرون القرآن"، أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجّة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، كما:- 9987 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا" أي: قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإنّ قول الناس يختلف. 9988 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضًا، ولا ينقض بعضه بعضًا، ما جهل الناس من أمرٍ، (1) فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم! وقرأ:"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا". قال: فحقٌّ على المؤمن أن يقول:"كل من عند الله"، ويؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض= وإذا جهل أمرًا ولم يعرف أن يقول: (2) "الذي قال الله حق"، ويعرف أن الله تعالى لم يقل قولا وينقضه، (3) ينبغي   (1) في المطبوعة: "من أمره"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبت من المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا جهل أمرًا" بإسقاط الواو، وهو لا يستقيم. وهو معطوف على قوله: "فحق على المؤمن أن يقول ... ". (3) في المطبوعة: "وينقض" والصواب من المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 567 أن يؤمن بحقيقة ما جاء من الله. (1) 9989 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"أفلا يتدبرون القرآن"، قال:"يتدبرون"، النظر فيه. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، وإذا جاء هذه الطائفة المبيّتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم="أمرٌ من الأمن"، فالهاء والميم في قوله:"وإذا جاءهم"، من ذكر الطائفة المبيتة= يقول جل ثناؤه: وإذا جاءهم خبرٌ عن سريةٍ للمسلمين غازية بأنهم قد أمِنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم="أو الخوف"، يقول: أو تخوّفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم="أذاعوا به"، يقول: أفشوه وبثّوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل مأتَى سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) = و"الهاء" في قوله:"أذاعوا به"، من ذكر"الأمر". وتأويله أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم. * * * يقال منه:"أذاع فلان بهذا الخبر، وأذاعه"، ومنه قول أبي الأسود: أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ (3)   (1) في المطبوعة: "بحقية ما جاء من الله"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "وقبل أمراء سرايا رسول الله" وفي المخطوطة: "وقبل أمانا" وجر مع الميم شبه الراء، فاختلطت الكلمة، ورجحت صواب قراءتها ما أثبت. (3) ديوانه (في نفائس المخطوطات: 2) : 44، والأغاني 12: 305، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، اللسان (ذيع) ، من أبيات قالها أبو الأسود الدؤلي لما خطب امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد، فأسر أمرها إلى صديق له، فحدث الصديق ابن عم لها كان يخطبها، فمشى ابن عمها إلى أهلها وسألهم أن يمنعوها من نكاحه، ففعلوا، وضاروها حتى تزوجت ابن عمها، فقال أبو الأسود: أَمِنْتُ امْرءَا فِي السَّرِّ لَمْ يَكُ حَازِمًا ... ولكِنَّهُ فِي النُّصْحِ غَيْرُ مُرِيبِ أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ، حَتَّى كأنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثُقوبِ وَكُنْتَ مَتَى لَمْ تَرْعَ سِرَّكَ تَلْتَبِسْ ... قَوَارِعُهُ مِنْ مُخْطِئٍ وَمُصِيبِ فَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ ... وَمَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ وَلكِنْ إِذَا مَا اسْتُجْمِعَا عِنْدَ وَاحِدٍ، ... فَحُقَّ لهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ وهي أبيات حسان كما ترى، و"الثقوب": ما أثقبت به النار، أي أوقدتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 568 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 9990 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يقول: سارعوا به وأفشوه. 9991 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم، أو أنهم خائفون منهم، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوَّهم أمرُهم. 9992 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يقول: أفشوه وسعَوْا به. (1)   (1) في المطبوعة: "وشنعوا به"، والصواب من المخطوطة."سعى بفلان إلى الوالي"، وشى به إليه، وهذا من مجازه: أي: مشى بالخبر حتى يبلغ العدو، فكأنه وشى بالسرايا إلى عدوهم. وانظر التعليق التالي رقم: 4. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 569 9993 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، قال هذا في الأخبار، إذا غزت سريّة من المسلمين تخبَّر الناس بينهم فقالوا (1) "أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا"،"وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا"، فأفشوه بينهم، من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبرهم (2) = قال ابن جريج: قال ابن عباس قوله:"أذاعوا به"، قال: أعلنوه وأفشوه. 9994 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أذاعوا به"، قال: نشروه. قال: والذين أذاعوا به، قوم: إمّا منافقون، وإما آخرون ضعفوا. (3) 9995 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أفشوه وسَعَوْا به، (4) وهم أهل النفاق. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولو ردوه"، الأمر الذي نالهم من عدوهم [والمسلمين] ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم (5) = يعني:   (1) في المطبوعة: إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها" غير ما في المخطوطة إذ لم يفهمه! وقوله: "تخبر الناس بينهم"، أي تساءلوا عن أخبارهم بينهم: يقال: "تخبر الخبر واستخبر"، إذا سأل عن الأخبار ليعرفها. (2) في المطبوعة: "هو الذي يخبرهم به"، لا أدري لم غير ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "وإما آخرون ضعفاء" وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "وشنعوا به" كما سلف في ص569 تعليق: 1. (5) قوله: "والمسلمين" هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولم أدر ما هو، فتركته على حاله، ووضعته بين القوسين، وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. وبحذف ما بين القوسين يستقيم الكلام على وجهه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 570 وإلى أمرائهم = وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذو وأمرهم، هم الذين يتولّون الخبر عن ذلك، (1) بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بطوله، (2) فيصححوه إن كان صحيحًا، أو يبطلوه إن كان باطلا ="لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، يقول: لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به، الذين يبحثون عنه ويستخرجونه ="منهم"، يعني: أولي الأمر ="والهاء""والميم" في قوله:"منهم"، من ذكر أولي الأمر = يقول: لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه. * * * وكل مستخرج شيئًا كان مستترًا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب، فهو له:"مستنبط"، يقال:"استنبطت الركية"، (3) إذا استخرجت ماءها،"ونَبَطتها أنبطها"، و"النَّبَط"، الماء المستنبط من الأرض، ومنه قول الشاعر: (4) قَرِيبٌ ثَرَاهُ، ما يَنَالُ عَدُوُّه ... لَهُ نَبَطًا، آبِي الهَوَانِ قَطُوبُ (5) يعني: ب"النبط"، الماء المستنبط. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "هم الذين يقولون الخبر عن ذلك" وهو كلام مريض، صوابه ما أثبت، وهو تصحيف ناسخ. (2) في المطبوعة: "ثبتت عندهم" أساء قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. و"البطول" مصدر"بطل الشيء" ومثله"البطلان". (3) "الركية": البئر تحفر. (4) هو كعب بن سعد الغنوي، أو: غريقة بن مسافع العبسي، وانظر تفصيل ذلك في التعليق على الأصمعيات، وتخريج الشعر هناك. (5) الأصمعيات: 103، وتخريجه هناك. وقوله: "قريب الثرى"، يريدون كرمه وخيره. و"الثرى": التراب الندي، كأنه خصيب الجناب. وقوله: "ما ينال عدوه له نبطًا"، أي لا يرد ماءه عدو، من عزه ومنعته، / إذا حمى أرضًا رهب عدوه بأسه."آبى الهوان" لا يقيم على ذل. و"قطوب": عبوس عند الشر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 571 9996 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم"، يقول: ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم حتى يتكلم هو به ="لعلمه الذين يستنبطونه"، يعني: عن الأخبار، وهم الذين يُنَقِّرون عن الأخبار. 9997 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم"، يقول: إلى علمائهم = (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ، لعلمه الذين يفحصون عنه ويهمّهم ذلك. (1) 9998 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولو ردوه إلى الرسول"، حتى يكون هو الذي يخبرهم ="وإلى أولي الأمر منهم"، الفقه في الدين والعقل. (2) 9999 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم"، العلم (3) ="الذين يستنبطونه منهم"، يتتبعونه ويتحسسونه. 10000 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، قال: الذين يسألون عنه ويتحسسونه. 10001 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،   (1) في المخطوطة: "يفصحون عنه"، وهو تصحيف، قدم وأخر. (2) في المطبوعة: "أولى الفقه" زاد"أولى"، والذي في المخطوطة صواب أيضًا، على طريقة قدماء المفسرين في الاختصار، كما سلف آلافًا من المرات. (3) في المطبوعة: "لعلمه" مكان"العلم"، والذي في المخطوطة صواب، كما سلف في التعليق السابق، وهو طريقتهم في الاختصار، ويعني"أولي العلم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 572 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"يستنبطونه"، قال: قولهم:"ما كان"؟ "ماذا سمعتم"؟ 10002 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10003 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"الذين يستنبطونه"، قال: يتحسسونه. 10004 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم. 10005 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"يستنبطونه منهم"، قال، يتتبعونه. 10006 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به" حتى بلغ"وإلى أولي الأمر منهم"، قال: الولاة الذين يَلُون في الحرب عليهم، (1) الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر: أصدق، أم كذب؟ أباطل فيبطلونه، أو حق فيحقونه؟ قال: وهذا في الحرب، وقرأ:"أذاعوا به"، ولو فعلوا غير هذا: وردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، الآية. * * *   (1) في المطبوعة: "الذين يكونون في الحرب عليهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، فغير وبدل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 573 القول في تأويل قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا (83) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولولا إنعام الله عليكم، أيها المؤمنون، بفضله وتوفيقه ورحمته، (1) فأنقذكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين = الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر:"طاعة"، فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي يقول = لكنتم مثلهم، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا كما اتبعه هؤلاء الذين وصف صفتهم. * * * وخاطب بقوله تعالى ذكره:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان"، الذين خاطبهم بقوله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) [سورة النساء: 71] . * * * ثم اختلف أهل التأويل في"القليل"، الذين استثناهم في هذه الآية: من هم؟ ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم؟ فقال بعضهم: هم المستنبطون من أولي الأمر، استثناهم من قوله:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، ونفى عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف. (2) *ذكر من قال ذلك: 10007 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،   (1) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف: 535، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 279، ويعني أن الاستثناء من"الاستنباط" لا من"الإذاعة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 574 عن قتادة قال: إنما هو:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم" = إلا قليلا منهم ="ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان". 10008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، يقول: لاتبعتم الشيطان كلّكم = وأما قوله:"إلا قليلا"، فهو كقوله:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، إلا قليلا. 10009 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة، عن سعيد، عن قتادة:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، قال يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم. وأما"إلا قليلا "، فهو كقوله: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا. 10010 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج نحوه = يعني نحو قول قتادة = وقال: لعلموه إلا قليلا. وقال آخرون: بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"طاعة"، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا. ومعنى الكلام: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به = إلا قليلا منهم. *ذكر من قال ذلك: 10011 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، فهو في أول الآية لخبر المنافقين، قال:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يعني بـ "القليل"، المؤمنين، [كقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 575 عِوَجَا قَيِّمًا) [سورة الكهف: 221] يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيّما، ولم يجعل له عوجًا. (1) 10012 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هذه الآية مقدَّمة ومؤخرة، إنما هي: أذاعوا به إلا قليلا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير. * * * وقال آخرون: بل ذلك استثناء من قوله:"لاتبعتم الشيطان". وقالوا: الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الآخرون همّوا به من اتباع الشيطان. فعرَّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم، واستثنى الآخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الآخرين. *ذكر من قال ذلك: 10013 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: في قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، قال: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا حدّثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان، إلا طائفة منهم. * * * وقال آخرون معنى ذلك: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعًا.   (1) الأثر: 10011- نص هذا الأثر في المطبوعة: "ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان- فانقطع الكلام، وقوله: "إلا قليلا"، فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين، قال: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به- إلا قليلا. يعني بالقليل المؤمنين كقول الحمد لله ... " إلى آخر الأثر. وهو منقول من الدر المنثور 2: 187. أما في المخطوطة، فهو كمثل الذي أثبته، إلا أنه قال في آخره: "يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيما ... " إلى آخر الكلام. وقد رجحت أن الذي في المخطوطة من صدر الكلام هو الصواب، وأن آخر الخبر قد سقط منه ذكر نص الآية من سورة الكهف، فأثبتها بين الكلامين. وقوله: "فهو في أول الآية لخبر المنافقين"، يعني أنه مردود إلى أول الآية في خبرهم. ثم عقب على ذلك بذكر آية سورة الكهف، وبين ما فيها من التقديم والتأخير. وكأن الذي رجحت هو الصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 576 قالوا: وقوله:"إلا قليلا"، خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجميع والإحاطة، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحدٌ من الضلالة، فجعل قوله:"إلا قليلا"، دليلا على الإحاطة، (1) واستشهدوا على ذلك بقول الطرِمّاح بن حكيم، في مدح يزيد بن المهلب: أَشَمُّ كَثِيرُ يُدِيِّ النَّوَالِ، ... قَلِيلُ المَثَالِبِ وَالقَادِحَةْ (2) قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب، ومعلوم أن معناه أنه لا مثالب فيه ولا معايب. لأن من وصف رجلا بأنّ فيه معايب، وإن وصف الذي فيه من المعايب بالقلة، فإنما ذمَّه ولم يمدحه. ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه. قالوا: فكذلك قوله:"لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، إنما معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من قال: عنى باستثناء"القليل" من"الإذاعة"، وقال: معنى الكلام: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ولو ردوه إلى الرسول. * * * وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب، لأنه لا يخلو القولُ في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا، وغير جائز أن يكون من قوله:"لاتبعتم الشيطان"، لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته، فغير جائز أن يكون من تُبَّاع الشيطان. * * *   (1) انظر ما قاله في معنى"القليل" فيما سلف 2: 331 / 8: 439، وما كتبته في الجزء الأول: 554، تعليق: 1. (2) ديوانه: 139."الأشم": السيد ذو الأنفة والكبرياء، من"الشمم" وهو ارتفاع في قصبة الأنف، مع استواء أعلاه، وإشراف الأرنبة قليلا. وهو من صفات الكرم والعتق. وقوله"يدي" (بضم الياء وكسر الدال، والياء المشددة) أو (بفتح الياء وكسر الدال وتشديد الياء) ، جمع"يد" الأول جمعها على وزن"فعول"، مثل فلس وفلوس، والثاني جمعها على وزن"فعيل" مثل عبد وعبيد. كأنه قال: كثير أيدي النوال. وفي ديوانه: "يدي" بفتح الياء والدال وهو خطأ. وفي المخطوطة: "برى النوادي"، وهو خطأ لا معنى له. و"المثالب" جمع"مثلبة"، وهي العيوب الجارحة. و"القادحة" يعني بها: العيوب التي تقدح في أصله وخلائقه، سماها بالقادحة، وهي الدودة التي تأكل الأسنان، أو الأشجار، ووضعها اسما للجمع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 577 وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب، سبيل، فنوجِّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون (1) "معنى ذلك: لاتبعتم الشيطان جميعًا"، ثم زعم أن قوله:"إلا قليلا"، دليل على الإحاطة بالجميع. هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل. (2) * * * وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، لأن علم ذلك إذا رُدَّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، فبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم، استوى في علم ذلك كلّ مستنبطٍ حقيقتَه، (3) فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم، وخصوص بعضهم بعلمه، مع استواء جميعهم في علمه. وإذْ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا، ودخَل هذه الأقوال الثلاثة ما بيّنا من الخلل، (4) فبيِّنٌ أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من"الإذاعة". (5) * * *   (1) في المطبوعة: "فتوجيهه إلى المعنى"، كأنه ابتداء كلام، وهو فساد في القول، والصواب ما في المخطوطة. ومن أجل هذا الخطأ في قراءة المخطوطة، زاد الناشر: "لا وجه له" كما سترى في التعليق التالي. وهو عمل غير حسن. (2) في المطبوعة: " ... من تأويل أهل التأويل، لا وجه له"، فحذفت هذه الكلمة التي زادها الناشر، ليستقيم له قراءة الكلام. وانظر التعليق السالف. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "كل مستنبط حقيقة"، والسياق يقتضي ما أثبت. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "فدخل"، ولا معنى للفاء هنا، والصواب ما أثبته. (5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 279، 280. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 578 القول في تأويل قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك"، فجاهد، يا محمد، أعداء الله من أهل الشرك به ="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك. (2) * * * فأما قوله:" لا تكلف إلا نفسك" فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما حمَّل غيرك منه، أي: أنك إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما كُلِّفه غيرك. (3) * * * ثم قال له:"وحرض المؤمنين"، يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك ="عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا"، يقول: لعل الله أن يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته وأنكر رسالتك، عنك وعنهم، ونكايتهم. (4) * * * وقد بينا فيما مضى أن"عسى" من الله واجبة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (5)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق ما أثبت. (2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 8: 3470، 546، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"التكليف" فيما سلف 5: 45. (4) سياق الكلام"أن يكف ... عنك وعنهم" ثم عطف"ونكايتهم" على قوله: "قتال من كفر بالله". (5) لم أجد هذا الموضع الذي أشار الطبري، وأخشى أن لا يكون مضى شيء من ذلك، وأنه قد وهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 579 ="والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا"، يقول: والله أشد نكاية في عدوه، من أهل الكفر به = منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم، (1) فإني راصِدُهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم، وأضعف بأسهم، وأعلي الحق عليهم. و"التنكيل" مصدر من قول القائل:"نكلت بفلان"، فأنا أنكّل به تنكيلا"، إذا أوجعته عقوبة، (2) كما:- 10014 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وأشد تنكيلا"، أي عقوبة. * * * القول في تأويل قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، من يَصِرْ، يا محمد، شفعًا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، وهو"الشفاعة الحسنة" (3) ="يكن له نصيب منها"، يقول: يكن له من شفاعته تلك نصيب - وهو الحظ (4) - من ثواب الله وجزيل كرامته ="ومن يشفع شفاعة سيئة، يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على   (1) "نكل عن الشيء": أحجم وارتد عنه من الفرق. والمعنى: أشد نكاية في عدوه ... من نكاية عدوه فيك يا محمد. (2) انظر تفسير"النكال" و"التنكيل" فيما سلف 2: 176، 177. (3) انظر تفسير"الشفاعة" فيما سلف 2: 31، 32 / 5: 382- 384، 395. (4) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 472، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 580 المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو"الشفاعة السيئة" ="يكن له كِفل منها". يعني: بـ "الكفل"، النصيب والحظ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من"كِفل البعير والمركب"، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة. يقال منه:"جاء فلان مكتَفِلا"، إذا جاء على مركب قد وطِّئَ له -على ما بيّنا- لركوبه. (1) * * * وقد قيل إنه عنى بقوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها" الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا، ثم عُمَّ بذلك كل شافع بخير أو شر. * * * وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك، لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته، أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض، التي لم يجر لها ذكر قبل، ولا لها ذكرٌ بعد. ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض. 10015 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة"، قال: شفاعة بعض الناس لبعض. 10016 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 10017 - حدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال: من يُشَفَّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران، ولأن الله يقول:   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 581 "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، ولم يقل"يشفَّع". (1) 10018 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال:"من يشفع شفاعة حسنة"، كتب له أجرها ما جَرَت منفعتها. 10019 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سئل ابن زيد عن قول الله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، قال: هما شريكان فيها، كما كان أهلها شريكين. ذكر من قال:"الكفل": النصيب. 10020 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، أي حظ منها="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، و"الكفل" هو الإثم. 10021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يكن له كفل منها"، أما"الكفل"، فالحظ. 10022 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يكن له كفل منها"، قال: حظ منها، فبئس الحظ. 10023 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:   (1) الأثر: 10016- كان في المطبوعة: "كان له أجرها وإن لم يشفع، لأن الله يقول:.." وهو نص ما في الدر المنثور 2: 187. وأثبت ما في المخطوطة. والظاهر أنه تصرف من السيوطي، وتبعه ناشر المطبوعة الأولى. والصواب ما في المخطوطة، إلا أنه ينبغي أن تقرأ"يشفع" الأولى في قول الحسن مشددة الفاء بالبناء للمجهول. ويعني الحسن: أن الشافع لأخيه إذا استجيبت شفاعته كان له أجران، أجر عن الخير الذي ساقه إلى أخيه، وأجر آخر هو مثل أجر المشفوع إليه في فعله ما فعل من الخير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 582 "الكفل" و"النصيب" واحد. وقرأ: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [سورة الحديد: 8] . * * * القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وكان الله على كل شيء مقيتًا". فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا. *ذكر من قال ذلك: 10024 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وكان الله على كل شيء مقيتًا" يقول: حفيظًا. 10025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مقيتًا" شهيدًا. 10026 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد مثله. 10027 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"مقيتًا" قال: شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا. 10028 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، قال:"المقيت"، الحسيب. * * * الجزء: 8 ¦ الصفحة: 583 وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير. *ذكر من قال ذلك: 10029 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، قال:"المقيت"، الواصب. (1) وقال آخرون: هو القدير. *ذكر من قال ذلك: 10030 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، أما"المقيت"، فالقدير. 10031 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكان الله على كل شيء مقيتًا" قال: على كل شيء قديرًا،"المقيت" القدير. * * * قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال، قولُ من قال: معنى"المقيت"، القدير. وذلك أن ذلك فيما يُذكر، كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (2) وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتَا (3) أي: قادرًا. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:-   (1) يقال: "وصب الرجل على ماله يصب" (مثل: وعد يعد) : إذا لزمه وأحسن القيام عليه. (2) لم أجده للزبير، بل وجدته لأبي قيس بن رفاعة، مرفوع القافية في طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 243، ومراجعه هناك. ونسبه في الدر المنثور 2: 187، 188 إلى أحيحة ابن الجلاح الأنصاري. (3) اللسان (قوت) ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 242، 243 والتعليق عليه هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 584 10032 - "كفى بالمرء إثما أن يُضِيعَ من يُقيت". (1) في رواية من رواها:"يُقيت"، يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله، فيقدّر له قوته. يقال= منه."أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة" و"قاته يقوته قياتةً وقُوتًا"، و"القوت" الاسم. وأما"المقيت" في بيت اليهوديّ الذي يقول فيه: (2) لَيْتَ شِعْرِي، وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ (3) ! أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إذا حُوسِبْتُ? ... إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ (4) = فإن معناه: فإنّي على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى. (5) * * *   (1) الحديث: 10032- رواه أحمد في مسنده، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رقم: 6495، 6819، 6828، 6842، والحاكم في المستدرك 1: 415، وهو حديث صحيح، وروايته"يقوت". (2) هو السموأل بن عادياء اليهودي. (3) ديوانه: 13، 14، والأصمعيات: 85، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135، وطبقات فحول الشعراء للجمحي: 236، 237، اللسان (قوت) وغيرها. وقوله: "ليت شعري": أي ليتني أعلم ما يكون. وقوله: "وأشعرن" استفهام، أي: وهل أشعرن. وقوله: "قربوها منشورة" يعني: صحف أعماله يوم يقوم الناس لرب العالمين. وفي البيت روايات أخر. (4) يعني بالفضل: الخير والجزاء الحسن والإنعام من الله."أم على": أم على الإثم المستحق للعقوبة. (5) هذا المعنى الذي قاله أبو جعفر، هو قول أبي عبيدة، وهو أحسن ما قيل في معنى"المقيت" في هذا البيت. وانظر اعتراض المعترضين على البيت، واختلافهم في تفسيره في مادة (قوت) من لسان العرب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 585 القول في تأويل قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا حييتم بتحية"، إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. (1) ="فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها"، يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم="أو ردوها" يقول: أو ردّوا التحية. * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة"التحية" التي هي أحسن مما حُيِّيَ به المُحَّيي، والتي هي مثلها. فقال بعضهم: التي هي أحسن منها: أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل:"السلام عليكم"،:"وعليكم السلام ورحمة الله"، ويزيد على دعاء الداعي له. والرد أن يقول:"السلام عليكم" مثلها. كما قيل له، (2) أو يقول:"وعليكم السلام"، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له. (3) *ذكر من قال ذلك: 10033 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، يقول: إذا سلم عليك أحد فقل أنت:"وعليك السلام ورحمة الله"، أو تقطع إلى"السلام عليك"، كما قال لك. 10034 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،   (1) وذلك لأن معنى"التحية": البقاء والسلامة من الآفات. (2) في المخطوطة، مكان قوله: "كما قيل له"="قال قيل له"، ولا أدري ما هو، وتصرف الطابع الأول لا بأس به. (3) في المطبوعة: "فيدعو الداعي له"، والصواب من المخطوطة، ولكن أوقعه في الخطأ، أن الناسخ كتب: "فيدعوا" بالألف بعد الواو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 586 عن ابن جريج، عن عطاء قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: في أهل الإسلام. 10035 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج فيما قرئ عليه، عن عطاء قال: في أهل الإسلام. 10036 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح أنه كان يرد:"السلام عليكم"، كما يسلم عليه. 10037 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم أنه كان يرد:"السلام عليكم ورحمة الله". 10038 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطية، عن ابن عمر: أنه كان يرد:"وعليكم". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهلَ الإسلام، أو ردوها على أهل الكفر. *ذكر من قال ذلك: 10039 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من سلَّم عليك من خلق الله، فاردُدْ عليه وإن كان مجوسيًّا، فإن الله يقول:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها". 10040 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، للمسلمين="أو ردوها"، على أهل الكتاب. 10041 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 587 عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، للمسلمين=" أو ردوها"، على أهل الكتاب. 10042 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، يقول: حيوا أحسن منها، أي: على المسلمين="أو ردوها"، أي: على أهل الكتاب. 10043 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: قال أبي: حق على كل مسلم حيِّي بتحية أن يحيِّي بأحسن منها، وإذا حياه غير أهل الإسلام، أن يرد عليه مثل ما قال. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: ذلك في أهل الإسلام، ووجّه معناه إلى أنه يرد السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصِّحاح من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردُّ تحية كل كافر بأخَسَّ من تحيته. وقد أمر الله بردِّ الأحسن والمثل في هذه الآية، من غير تمييز منه بين المستوجب ردَّ الأحسن من تحيته عليه، والمردودِ عليه مثلها، بدلالة يعلم بها صحة قولُ من قال:"عنى برد الأحسن: المسلم، وبرد المثل: أهل الكفر". والصواب= إذْ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك، ولا صحة أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم (1) = أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلَّم عليه: بين رد الأحسن، أو المثل، إلا في الموضع الذي خصَّ شيئًا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مسلَّمًا لها. وقد خَصّت السنة أهل الكفر بالنهي عن رد الأحسن   (1) في المطبوعة: "ولا بصحته أثر لازم"، وفي المخطوطة: "ولا بصحة أثر لازم"، وكلتاهما غير مستقيمة، فرجحت أن يكون ما أثبت أقرب إلى حق السياق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 588 من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن يقال:"وعليكم"، فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى ما حدَّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام، فإن لمن سلَّم عليه منهم في الردّ من الخيار، ما جعل الله له من ذلك. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا، خَبَرٌ. وذلك ما:- 10044 - حدثني موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي قال، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك ورحمة الله. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله: وعليك ورحمة الله وبركاته. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له: وعليك. فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلَّما عليك، فرددتَ عليهما أكثر مما رددت عليّ! فقال: إنك لم تدع لنا شيئًا، قال الله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، فرددناها عليك. (1) * * *   (1) الحديث: 10044- عبد الله بن السري المدائني الأنطاكي: ضعيف، وكان رجلا صالحًا، كما قالوا. وقال أبو نعيم: "يروى المناكير، لا شيء". وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: "روى عن أبي عمران العجائب التي لا يشك أنها موضوعة". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 78. ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث عن هشام بن لاحق، كما سيأتي. هشام بن لاحق، أبو عثمان المدائني: مختلف فيه، قال أحمد: "يحدث عن عاصم الأحول، وكتبنا عنه أحاديث، لم يكن به بأس، ورفع عن عاصم أحاديث لم ترفع، أسندها هو إلى سلمان". وأنكر عليه شبابة حديثًا. وهذا خلاصة ما في ترجمته عند البخاري في الكبير 4 / 2 / 200- 201، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 69- 70. وفي لسان الميزان أن النسائي قواه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات وفي الضعفاء. وقال ابن عدي: "أحاديثه حسان، وأرجو أنه لا بأس به". فيبدو من كل هذا أن الكلام فيه ليس مرجعه الشك في صدقه، بل إلى وهم أو خطأ منه- فالظاهر أنه حسن الحديث. والحديث ذكره ابن كثير 2: 526- 527، عن هذا الموضع من الطبري. ثم نقل عن ابن أبي حاتم أنه رواه معلقًا من طريق عبد الله بن السري الأنطاكي، بهذا الإسناد، مثله. ثم قال ابن كثير: "ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان -فذكر مثله. ولم أره في المسند". وهو كما قال ابن كثير، ليس في المسند. ولكن السيوطي ذكره في الدر المنثور 2: 188، وأنه رواه أحمد"في الزهد". وزاد نسبته أيضًا لابن المنذر، والطبراني، وأنه"بسند حسن". وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 33، وقال: "رواه الطبراني. وفيه هشام بن لاحق، قواه النسائي، وترك أحمد حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح". وإطلاقه أن أحمد ترك حديث هشام- ليس بجيد، فإن النص الثابت عن أحمد عند البخاري وابن أبي حاتم، لا يدل على ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 589 فإن قال قائل: أفواجب رد التحية على ما أمر الله به في كتابه؟ قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين. *ذكر من قال ذلك: 10045 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: ما رأيته إلا يوجبه، قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها". (1) 10046 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: السلام: تطوُّع، والرد فريضة. * * *   (1) أي: يوجب رد السلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 590 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله كان على كل شيء مما تعملون، أيها الناس، من الأعمال، من طاعة ومعصية، حفيظًا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه، كما:- 10047 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حسيبًا"، قال: حفيظًا. 10048 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * وأصل"الحسيب" في هذا الموضع عندي،"فعيل" من"الحساب" الذي هو في معنى الإحصاء، (1) يقال منه:"حاسبت فلانًا على كذا وكذا"، و"فلان حاسِبُه على كذا"، و"هو حسيبه"، وذلك إذا كان صاحبَ حِسابه. * * * وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة: أن معنى"الحسيب" في هذا الموضع، الكافي. يقال منه:"أحسبني الشيء يُحسبني إحسابًا"، بمعنى كفاني، من قولهم:"حسبي كذا وكذا". (2) وهذا غلط من القول وخطأ. وذلك أنه لا يقال في"أحسبني الشيء"، (3)   (1) انظر تفسير"الحسيب" فيما سلف 7: 596، 597. = وتفسير"الحساب" فيما سلف 4: 207، 274، 275 / 6: 279. (2) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 135، وانظر ما سلف 7: 596، 597. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "أحسبت"، والصواب"أحسبني" كما دل عليه السياق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 591 "أحسبَ على الشيء، فهو حسيب عليه"، (1) وإنما يقال:"هو حَسْبه وحسيبه"= والله يقول:"إن الله كان على كل شيء حسيبًا". * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحسبت على الشيء"، والصواب ما أثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 القول في تأويل قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الله لا إله إلا هو ليجمعنكم"، المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له، (1) هو الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل طائع. (2) * * * وقوله:"ليجمعنكم إلى يوم القيامة"، يقول: ليبعثنَّكم من بعد مماتكم، وليحشرنكم جميعًا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته، وأهل الإيمان به والكفر (3) ="لا ريب فيه"، (4) يقول: لا شك في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أنّي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم (5) ="ومن أصدق من الله حديثًا"، يعني بذلك: فاعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا، فلا تشكوا في صحته ولا تمتروا في حقيقته، (6)   (1) انظر ما كتب عن"العبودة" فيما سلف 6: 271، تعليق: 1 404، تعليق 2 / 549، تعليق: 2 / 565، تعليق: 2. (2) انظر تفسير"لا إله إلا هو" فيما سلف 6: 149. (3) انظر تفسير"القيامة" فيما سلف 2: 518. (4) انظر تفسير"لا ريب فيه" 1: 228، 378 / 6: 221، 294، 295. (5) في المطبوعة: "أي جامعكم"، أساء قراءة المخطوطة. (6) في المطبوعة: "في حقيته"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خُلْف له-"ومن أصدق من الله حديثًا"، يقول: وأي ناطق أصدق من الله حديثًا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعًا، أو يدفع به عنها ضرًّا. والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب، لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه أو دفع ضر عنها [داعٍ. وما من أحدٍ لا يدعوه داعٍ إلى اجتلاب نفع إلى نفسه، أو دفع ضر عنها] ، سواه تعالى ذكره، (1) فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرًا، [فقال] :"ومن أصدق من الله حديثًا"، وخبرًا. * * *   (1) زدت ما بين القوسين على ما جاء في المطبوعة، لأنه حق الكلام. فإن أبا جعفر قدم الحجة الأولى في الجملة السابقة، للبيان عن استحالة الكذب على الله سبحانه وتعالى. ثم أتبع ذلك بالبيان عن معنى استعمال التفضيل في قوله تعالى: "ومن أصدق من الله حديثًا"، وبين أنه ليس لله سبحانه وتعالى نظير في ذلك. وكان في المطبوعة، كما أثبته، خلا ما بين القوسين وهو كلام غير مستقيم. أما المخطوطة، فقد كان فيها ما نصه: "لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع ولا دفع ضر عن نفسه أو دفع ضر عنها؛ سواه تعالى ذكره، فيجوز أن يكون ... " وهو كلام مختلط دال على إسقاط الناسخ من كلام أبي جعفر. فاجتهدت في وضع هذه الزيادة التي أثبتها، ليستقيم الكلام على وجه يصح. وزدت أيضًا"فقال" بين قوسين، لحاجة الكلام إليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 593 القول في تأويل قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، فما شأنكم، أيها المؤمنون، في أهل النفاق فئتين مختلفتين (1) ="والله أركسَهم بما كسبوا"، يعني بذلك: والله رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك، في إباحة دمائهم وسَبْي ذراريهم. * * * و"الإركاس"، الردُّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ، إِنَّهُمُ ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزُّورَا (2) يقال منه:"أرْكَسهم" و"رَكَسَهم". * * * وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي: (وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ) ، بغير"ألف". (3) * * *   (1) انظر تفسير"فئة" فيما سلف 5: 352، 353 / 6: 230. (2) ديوانه: 36، وليس هذا البيت بنصه هذا في الديوان، بل جاء في شعر من بحر آخر، هو: أُرْكِسُوا فِي جَهَنَّمٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا ... عُتَاةً تَقُولُ إفْكًا وَزُورَا ولم أجده برواية أبي جعفر في مكان آخر. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 281 = ثم انظر تفسير"أركسهم" فيما يلي ص: 15، 16 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الآية. فقال بعضهم:نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه السلام ولأصحابه: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ) [سورة آل عمران: 167] . *ذكر من قال ذلك: 10049- حدثني الفضل بن زياد الواسطي قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدّث، عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، رجعت طائفة ممن كان معه، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول:"نقتلهم"، وفرقة تقول:"لا". فنزلت هذه الآية:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة: إنها طَيْبَة، وإنها تَنْفي خَبَثها كما تنفي النار خبثَ الفِضَّة. (1) 10050- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. (2) 10051- حدثني زريق بن السخت قال، حدثنا شبابة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: ذكروا المنافقين عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فريق:"نقتلهم"، وقال فريق:"لا نقتلهم". فأنزل   (1) الحديث: 10049 - الفضل بن زياد الواسطي: لا أدري من هو؟ والترجمة الوحيدة التي وجدتها بهذا الاسم هي"الفضل بن زياد الطساس البغدادي". وهو من هذه الطبقة. فلعله هو. مترجم في الجرح 3 / 2 / 62. وتاريخ بغداد 12: 360. وله ترجمة غير محررة، في لسان الميزان 4: 441. أبو داود: هو الطيالسي. وقد روى الطبري هذا الحديث بثلاثة أسانيد، سيأتي تخريجه في آخرها، إن شاء الله. (2) الحديث: 10050 - أبو أسامة: هو حماد بن أسامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الله تبارك وتعالى:"فما لكم في المنافقين فئتين" إلى آخر الآية (1) وقال آخرون: بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك. *ذكر من قال ذلك: 10052- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما لكم في المنافقين فئتين"، قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا   (1) الحديث: 10051 - زريق- بتقديم الزاي - بن السخت، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في المشتبه للذهبي، ص: 222، قال: "زريق بن السخت، عن إسحاق الأزرق. وهو الصحيح، ويقال بتقديم الراء". شبابة: هو ابن سوار. مضت ترجمته في: 37. ويجب أن يكون هنا سقط في الإسناد، بين شبابة وعدي بن ثابت، لأن شبابة بن سوار مات سنة 204 أو 205، أو 206، وهو الذي جزم به البخاري في الصغير، ص: 228. وعدي بن ثابت مات سنة 116، فبينهما 90 سنة. والظاهر أنه سقط من الإسناد هنا [عن شعبة] . عدي بن ثابت الأنصاري: ثقة معروف. أخرج له الجماعة. وهو ابن بنت عبد الله بن يزيد - شيخه في هذا الإسناد. عبد الله بن يزيد الخطمي - بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة: صحابي معروف، شهد الحديبية صغيرا. والحديث رواه الإمام أحمد في المسند 5: 184، عن بهز، عن شعبة، كالرواية الأولى هنا المطولة: 10049. وكذلك رواه البخاري 4: 83، و7: 275، و 8: 193 - من طريق شعبة، به. ورواه مسلم 1: 389 - 390، من طريق شعبة أيضا، ولكنه روى آخره: "إنها طيبة ... " فقط. وذكره ابن كثير 2: 529، من رواية المسند. ثم قال: "أخرجاه في الصحيحين من طريق شعبة". وذكره السيوطي 2: 189-190، وزاد نسبته للطيالسي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الدلائل. وليس في مسند الطيالسي المطبوع، لأنه ناقص كما هو معروف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتّجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول:"هم منافقون"، وقائل يقول:"هم مؤمنون". فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم علي بن عويمر، أو: هلال بن عويمر الأسلمي، (1) وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف= وهو الذي حَصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يُقاتل قومه، فدفع عنهم= بأنهم يَؤُمُّون هلالا (2) وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد. 10053- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله بنحوه= غير أنه قال: فبيّن الله نفاقهم، وأمر بقتالهم، فلم يقاتلوا يومئذ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون هلالَ بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حِلْف. (3) * * * وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. *ذكر من قال ذلك: 10054- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلّموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحابَ محمد"عليه السلام"، فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من   (1) أسقط المطبوعة: "علي بن عويمر، أو: " وساق الخبر"فلقيهم هلال.." وأثبته من المخطوطة. والأثر التالي من رواية أبي جعفر، هو الذي فيه إسقاط علي بن عويمر" من الخبر. (2) في المطبوعة: "يؤمنون هلالا"، والصواب من المخطوطة والدر المنثور 2: 190 (3) الأثران: 10052، 10053 - انظر الأثر التالي: 10071. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله = أو كما قالوا =، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلَّمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارَهم، تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله"، الآية. 10055- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين" الآية،، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم: لا يحلُّ لكم! فتشاجروا فيهما، فأنزل الله في ذلك:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا" حتى بلغ"ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم". 10056- حدثنا القاسم قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد قال: بلغني أنّ ناسًا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم، فاختلف فيهم المسلمون، فقالت طائفة: دماؤهم حلال! وقالت طائفة: دماؤهم حرام! فأنزل الله:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا". * * * 10057- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، هم ناس تخلّفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من وَلايتهم آخرون، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين، وبرّأ المؤمنين من وَلايتهم، وأمرهم أن لا يتولَّوهم حتى يهاجروا. * * * وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة، أرادوا الخروج عنها نفاقًا. * ذكر من قال ذلك: 10058- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"، قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنّا قد أصابنا أوجاعٌ في المدينة واتَّخَمْناها، (1) فلعلنا أن نخرج إلى الظَّهر حتى نتماثل ثم نرجع، (2) فإنا كنا أصحاب برّيّة. فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداءٌ لله منافقون! (3) وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا بل إخواننا غَمَّتهم المدينة فاتّخموها، (4)   (1) "اتخمناها"، "افتعل" من"الوخم"، يقال: "أرض وخمة ووخيمة"، وبيئة، لا يوافق المرء سكنها فيجتويها. و"استوخم القوم المدينة": استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم. والذي ذكرته كتب اللغة بناء"استوخم""استفعل" متعديا من"الوخم"، ولم يذكروا"اتخم""افتعل"، وهو صحيح في قياس العربية. وهذا شاهده. (2) "الظهر": ما غلظ وارتفع من الأرض، و"البطن": ما لان منها وسهل ورق واطمأن. ومثله"ظاهر الأرض"، فسموا ما بعد عن القرية وارتفع في البرية: "ظهر البلدة وظاهرها". (3) في المطبوعة: "أعداء الله المنافقون"، وفي المخطوطة: أعداء الله منافقون"، والصواب ما أثبت. (4) في المطبوعة والدر المنثور 2: 191: "تخمتهم المدينة فاتخموها"، وليس صوابا. وفي المخطوطة: "عمهم المدينة" غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها، من"الغم": وهو الكرب وكل ما يكرهه الإنسان فيورثه الضيق والهم. والدليل على صحة هذه القراءة ما جاء في معاني القرآن 1: 280"ضجروا منها واستوخموها" وانظر ما سلف تعليق: 1، في تفسير"اتخم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 فخرجوا إلى الظهر يتنزهون، (1) فإذا بَرَؤوا رجعوا. فقال الله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين ="والله أركسهم بما كسبوا". * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك. *ذكر من قال ذلك: 10059- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"، حتى بلغ"فلا تتّخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، قال: هذا في شأن ابن أُبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم. 10060- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن هذه الآية حين أنزلت:"فما لكم في المنافقين فئتين"، فقرأ حتى بلغ"فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، فقال سعد بن معاذ: فإنّي أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته! = يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.   (1) "يتنزهون" أي: يتباعدون عن الأرض التي استوخموها، حتى يبرأوا. و"التنزه" التباعد عن الأرياف والمياه، حيث لا يكون ماء ولا ندى ولا جمع ناس، وذلك شق البادية، وهو أصح للأبدان. (2) الأثر: 10059، 10060 - في المطبوعة، ساق هذين الأثرين، أثرا واحدا، فجعله هكذا: "حين تكلم في عائشة بما تكلم، فقال سعد بن معاذ.." وأسقط صدر الأثر: 10060، فرددته إلى الصواب من المخطوطة. والذي أوقع الناشر في هذا، سوء صنيع السيوطي في نقله عن ابن جرير، وذلك في الدر المنثور 2: 191. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنّ اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم. والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة. = وفي قول الله تعالى ذكره:"فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا"، أوضح الدّليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأنّ الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيمًا من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرضُ هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنُه ومُقامه. * * * واختلف أهل العربية في نصب قوله:"فئتين". فقال بعضهم: هو منصوب على الحال، كما تقول:"ما لَك قائما"، يعني: ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين. * * * وقال بعض نحويي الكوفيين: هو منصوب على فعل"ما لك"، قال: ولا تُبالِ أكان المنصوب في"ما لك" معرفة أو نكرة. (1) . قال: ويجوز في الكلام أن تقول:"ما لك السائرَ معنا"، لأنه كالفعل الذي ينصب بـ"كان" و"أظن" وما أشبههما. قال: وكل موضع صلحت فيه"فعل" و"يفعل" من المنصوب، جاز نصب المعرفة منه والنكرة، كما تنصب"كان" و"أظن"، لأنهن نواقصُ في المعنى، وإن ظننت أنهنّ تَامّاتٍ. (2)   (1) في المطبوعة: "ولا تبالي كان المنصوب.." وفي المخطوطة: "ولا تبال كان المنصوب" ورجحت قراءتها كما أثبتها، استظهارًا من نص الفراء في معاني القرآن. (2) هذا مختصر نص الفراء في معاني القرآن 1: 281. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، لأن المطلوب في قول القائل:"ما لك قائمًا"،"القيام"، فهو في مذهب"كان" وأخواتها، و"أظن" وصواحباتها. (1) * * * القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"والله أركسهم". فقال بعضهم: معناه: ردَّهم، كما قلنا. *ذكر من قال ذلك: 10061- حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"والله أركسهم بما كسبوا"، ردَّهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: والله أوْقَعهم. *ذكر من قال ذلك: 10062- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والله أركسهم بما كسبوا"، يقول: أوقعهم. وقال آخرون: معنى ذلك: أضلهم وأهلكهم. *ذكر من قال ذلك: 10063- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:"والله أركسهم"، قال: أهلكهم. 10064- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"والله أركسهم بما كسبوا"، أهلَكَهم بما عملوا.   (1) في المخطوطة: "والظن وصواحباتها"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 10065- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والله أركسهم بما كسبوا"، أهلكهم. * * * وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله"أتريدون أن تهدوا من أضل الله"، أتريدون، أيها المؤمنون، أن تهدوا إلى الإسلام فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه، من أضله الله عنه= يعني بذلك: من خَذَله الله عنه، فلم يوفقه للإقرار به؟ (2) وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية. يقول لهم جل ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلَّهم الله فخذلهم عن الحق واتباع الإسلام، بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالَهم من المؤمنين؟ ="ومن يُضلل الله فلن تجد له سبيلا"، يقول: ومَن خذله عن دينه واتباع ما أمره به، من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده، فأضلَّه عنه="فلن تجد له"، يا محمد،"سبيلا"، يقول: فلن تجد له طريقًا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله [عنه] ، (3) ولا منهجًا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه. * * *   (1) انظر ما سلف ص: 7 (2) انظر معنى"هدى"، ومعنى"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) هذه الزيادة بين القوسين، يقتضيها السياق اقتضاء. وانظر تفسير"السبيل" فيما سلف. من فهارس اللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 القول في تأويل قوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ودوا لو تكفرون كما كفروا"، تمنَّى هؤلاء المنافقون (1) = الذين أنتم، أيها المؤمنون، فيهم فئتان= أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم، وتصديقَ نبيِّكم محمد صلى الله عليه وسلم="كما كفروا"، يقول: كما جحدوا هم ذلك="فتكونون سواء"، يقول: فتكونون كفّارًا مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله (2) ="فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، يقول (3) حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون، إلى دار الإسلام وأهلها="في سبيل الله"، يعني: في ابتغاء دين الله، وهو سبيله، (4) فيصيروا عند ذلك مثلكم، ويكون لهم حينئذ حكمكم، كما:- 10066- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا"، يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم= يعني الهجرةَ في سبيل الله. * * *   (1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542 / 8: 371. (2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256 / 2: 495 - 497 / 6: 483، 486، 487 / 7: 118 (3) انظر تفسير"ولي" و"أولياء" فيما سلف: 8: 430، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف: 8: 579، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار بالله ورسوله، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ومن الكفر إلى الإسلام (1) ="فخذوهم" أيها المؤمنون="واقتلوهم حيث وجدتموهم"، من بلادهم وغير بلادهم، أين أصبْتموهم من أرض الله ="ولا تتخذوا منهم وليَّا"، يقول: ولا تتخذوا منهم خليلا يواليكم على أموركم، ولا ناصرًا ينصركم على أعدائكم، (2) فإنهم كفار لا يألونكم خبالا وَدُّوا ما عنتُّم. * * * وهذا الخبر من الله جل ثناؤه، إبانةٌ عن صحة نِفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم، وتحذيرٌ لمن دفع عنهم عن المدافعة عنهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10067- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم"، فإن تولوا عن الهجرة ="فخذوهم واقتلوهم". 10068- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم"، يقول: إذا أظهروا كُفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم. * * *   (1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 8: 562 تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص 17، تعليق: 3= و"نصير" فيما سلف 8: 472 تعليق 1، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق، (1) فدخلوا فيهم، وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم: أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم، كما: - 10069- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرُون على أهل الذمة. 10070- حدثني يونس، عن ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء. 10071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: 8: 127 تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) الأثر: 10071 - انظر الأثرين السالفين: 10052، 10053. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 وقد زعم بعض أهل العربية، (1) أن معنى قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم"، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم:"اتّصل الرجل"، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم: إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ! ... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ! (2) يعني بقوله:"اتصلت"، انتسبت. * * * قال أبو جعفر: ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم، أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش= بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه. فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش، إنما كان بعد ما نُسخ قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك"براءة"، و"براءة" نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام. (3) * * *   (1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 136، وفي المطبوع من مجاز القرآن تأخير وتقديم لم يمسسه بالتحرير ناشر الكتاب، فليحرر مكانه. (2) ديوانه: 59، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 136 والناسخ والمنسوخ: 109 واللسان (وصل) ، وغيرهما. وفي اللسان"لبكر بن وائل"، وفسرها"اتصلت": انتسبت. وفسرها شارح شعر الأعشى: إذا دعت، يعني دعت بدعوى الجاهلية، وهو الاعتزاء. وهذا البيت آخر بيت في قصيدة الأعشى تلك. يقول: تدعى إليهم وتنتسب، وهي من إمائهم اللواتي سبين وقد رغمت أنوفهن وأنوف رجالهن الذي كانوا يدافعون عنهن، ثم انهزموا عنهن وتركوهن للسباء. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ذلك نسخ قراءة نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام"، وهو خطأ لا معنى له، وخلط فاحش. واستظهرت أن ما كتبته هو الصواب وأنه عنى"سورة براءة"، من الناسخ والمنسوخ: 109، ومن تفسير أبي حيان 3: 315، وتفسير القرطبي 5: 308، وقد نسبوه جميعًا إلى الطبري أيضا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 القول في تأويل قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم"،"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم" ="إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"= أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم. ويعني بقوله:"حصرت صدورهم"، ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم. والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام:"قد حَصِرَ"، ومنه"الحَصَرُ" في القراءة. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10072- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو جاءوكم حصرت صدورهم"، يقول: رجعوا فدخلوا فيكم="حصرت صدورهم"، يقول: ضاقت صدورهم="أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم". * * *   (1) انظر تفسير"الحصر" فيما سلف 6: 376، 377 وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 136، ومعاني القرآن للفراء 1: 282. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 وفي قوله:"أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم"، متروكٌ، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه. وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر"قد"، لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك: تقول:"أتاني فلان ذَهَب عقله"، بمعنى: قد ذهب عقله. ومسموع منهم:"أصبحت نظرتُ إلى ذات التَّنانير"، بمعنى: قد نظرت. (1) ولإضمار"قد" مع الماضي، جاز وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال، لأن"قد" إذا دخلت معه أدْنته من الحال، وأشبهت الأسماء. (2) * * * وعلى هذه القراءة= أعني"حَصِرَت"، قراءة القرأة في جميع الأمصار، وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها. * * * وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) ، نصبًا، (3) وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائزة القراءة بها عندي، لشذوذها وخروجها عن قراءة قرأة الإسلام. * * *   (1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 282. و"ذات التنانير": أرض بين الكوفة وبلاد غطفان، وقال ياقوت في معجمه: "عقبة بحذاء زبالة". (2) في المطبوعة: "وأشبه الأسماء"، وما في المخطوطة صواب، يعني وأشبهت الأفعال الماضية الأسماء. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 282. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم"، ولو شاء الله لسلّط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم= عليكم، (1) أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى ذكره كفَّهم عنكم. يقول جل ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفِّهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم، فيما أمركم به من الكفِّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه:"فإن اعتزلوكم"، يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين، بدخولهم في أهل عهدكم، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم="فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم"، يقول: وصالحوكم. * * * و"السَّلَم"، هو الاستسلام. (2) وإنما هذا مثلٌ، كما يقول الرجل للرجل:"أعطيتك قِيادي"، و"ألقيت إليك خِطَامي"، إذا استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله:"وألقوا إليكم السلم"، إنما هو: ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم، صلحًا منهم لكم وسَلَمًا. ومن"السَّلم" قول الطرمَّاح: وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًا غَادَرَتْ سَلَمًا ... لِلأسْدِ كُلَّ حَصَانٍ وَعْثَةِ اللِّبَدِ (3)   (1) السياق: ولو شاء الله لسلط هؤلاء ... عليكم". (2) انظر تفسير"الإسلام" أيضًا فيما سلف من فهارس اللغة"سلم". (3) ديوانه: 145، من قصيدته التي هجا بها الفرزدق وبيوت بني دارم وبني سعد فقال قبله: وَدَارِمٌ قد قَذَفْنَا مِنْهُمُ مِئَةً ... فِي جَاحِمِ النَّارِ، إِذْ يُلْقَوْنَ فِي الخُدَدِ يَنْزُونَ بالْمُشْتَوَى مِنْهَا، ويُوقِدُهَا ... عَمْرٌو، وَلَوْلا لُحُومُ الْقَوْمِ لَمْ تَقِدِ وَذَاكَ أنَّ تَمِيمًا ............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فزعم أن عمرو بن المنذر اللخمي، أحرق بني دارم رهط الفرزدق، قال أبو عبيدة: ولم يكن للطرماح بهذا الحديث علم. يعني حديث يوم أوارة، وهو يوم غزا عمرو بن المنذر بني دارم، فقتل منهم تسعة وتسعين رجلا. و"الأسد" يعني عمرو بن المنذر ومن معه. و"الحصان" المرأة العفيفة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "كل مصان وعثه اللبد" وهو خطأ لا معنى له. وامرأة"وعثة": كثيرة اللحم، كأن الأصابع تسوخ فيها من كثرة لحمها ولينها."وامرأة وعثه الأرداف"، كذلك. و"اللبد" جمع لبدة (بكسر فسكون) : وهي كساء ملبس يفرش للجلوس عليه. وعنى بذلك أنها وعثة الأرداف، حيث تجلس على اللبد. فسمي الأرداف لبدًا. يقول: أسلمت تميم نساءها لنا ولجيش عمرو بن المنذر، وفروا عن أعراضهم، لم يلفتهم إليهن ضعفهن عن الدفع عن أنفسهن، وأنساهم الروع كرائم نسائهم ومترفاتهن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 يعني بقوله:"سلمًا"، استسلامًا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10073- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي جعفر: عن أبيه، عن الربيع:"فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم"، قال: الصلح. * * * وأما قوله:"فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، فإنه يقول: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم، صلحًا منهم لكم="فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، أي: فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقًا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذْنٍ، فلا تعرَّضوا لهم في ذلك= إلا سبيل خير * * * ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: 5] . ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا: 10074- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) إلى قوله: (وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) وقال في"الممتحنة": (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، وقال فيها: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) إلى (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة الممتحنة: 8، 9] . فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين فقال: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) [سورة التوبة: 1، 2] . فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) ، ثم نسخ واستثنى فقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) إلى قوله: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [سورة التوبة: 5، 6] . 10075- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فإن اعتزلوكم"، قال: نسختها: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 10076- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة: يقول في قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" إلى قوله:"فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) . 10077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، الآية، قال: نسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر: إما أن يسلموا، وإما أن يكون الجهاد. * * * القول في تأويل قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} قال أبو جعفر: وهؤلاء فريق آخر من المنافقين، كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار، يعلم ذلك منهم قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يعبدونه من دون الله، ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم. يقول الله:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يعني: كلما دعاهم [قومهم] إلى الشرك بالله، (1) ارتدُّوا فصاروا مشركين مثلهم. * * * واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية.   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا -على ما وصفهم الله به من التقيَّة- وهم كفار، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم. يقول الله:"كلما ردُّوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يعني كلما دعاهم [قومهم] إلى الشرك بالله، (1) ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم، ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء. *ذكر من قال ذلك: 10078- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم"، قال: ناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا. فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويُصلحوا. 10079- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 10080- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها. وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرَّب إلى العُود والحجَر وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلِّم بالإسلام:"قل: هذا ربي"، للخنفساء والعقرب. * * * وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين. *ذكر من قال ذلك:   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 10081- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم"، قال: حيٌّ كانوا بتهامة، قالوا:"يا نبيّ الله، لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا"، وأرادوا أن يأمنوا نبيَّ الله ويأمنوا قومهم، فأبى الله ذلك عليهم، فقال:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه. * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي. *ذكر من قال ذلك: 10082- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين، ينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، فقال:"ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة"، يقول: إلى الشرك. * * * وأما تأويل قوله:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، فإنه كما:- 10083- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، قال: كلما ابتلُوا بها، عَمُوا فيها. 10084- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: كلما عرَض لهم بلاء، هلكوا فيه. * * * والقول في ذلك ما قد بينت قبلُ، وذلك أن"الفتنة" في كلام العرب، الاختبار، و"الإركاس" الرجوع. (1) . * * * فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك، رجعوا إليه. * * *   (1) انظر"تفسير الفتنة" فيما سلف 2: 444 / 3: 565، 566، 570، 571 / 4: 301 / 6: 196، 197= وانظر تفسير"الإركاس" فيما سلف ص: 7، 15، 16. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يعتزلكم، (1) أيها المؤمنون، هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه ="ويلقوا إليكم السلم"، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقادَ ويصالحوكم، (2) . كما:- 10085- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم"، قال: الصلح. * * * ="ويكفوا أيديهم"، يقول: ويكفوا أيديهم عن قتالكم، (3) ="فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، يقول جل ثناؤه: إن لم يفعلوا، فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها، (4) فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذ حلال="وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا"، يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم على ما هم عليه من الكفران، ولم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم، (5) جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم، بمقامهم على كفرهم، وتركهم هجرة دار الشرك="مبينًا" يعني: أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن لم يعتزلوكم"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر تفسير"ألقوا السلم" فيما سلف ص23، 24. (3) انظر تفسير"الكف" فيما سلف 8: 548. (4) انظر تفسير"ثقف" فيما سلف 3: 564. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "لم يعتزلوكم"، بإسقاط الواو، والأصح إثباتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 وإصابتكم الحق في قتلهم. وذلك قوله:"سلطانًا مبينًا"، و"السلطان" هو الحجة، (1) . كما:- 10086- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة قال: ما كان في القرآن من"سلطان"، فهو: حجّة. 10087- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"سلطانًا مبينًا" أما"السلطان المبين"، فهو الحجة. * * *   (1) انظر تفسير"السلطان" فيما سلف 7: 279 = وتفسير"المبين" فيما سلف 8: 124 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنًا. يقول: ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الأشياء البتة، كما:- 10088- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه، من عهد الله الذي عهد إليه. * * * وأما قوله:"إلا خطأ"، فإنه يقول: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 وليس له مما جعل له ربه فأباحه له. وهذا من الاستثناء الذي يُسميه أهل العربية"الاستثناء المنقطع"، كما قال جرير بن عطية: مِنَ البِيضِ، لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا، وَلَمْ تَطَأْ ... عَلَى الأرْضِ إِلا رَيْطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ (1) يعني: ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البُرْد من الأرض. (2) ثم أخبر جل ثناؤه عباده بحكم من قُتل من المؤمنين خطأ، فقال:"ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير"، يقول: فعليه تحرير ="رقبة مؤمنة"، في ماله ="ودية مسلمة"، تؤديها عاقلته (3) ="إلى أهله إلا أن يصدقوا"، يقول: إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه، فيسقط عنه. * * * وموضع"أن" من قوله:"إلا أن يصدقوا"، نصب، لأن معناه: فعليه ذلك، إلا أن يصدّقوا. * * *   (1) ديوانه: 457، والنقائض: 706، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 137، من قصيدته التي هجا فيها الفرزدق وآل الزبرقان بن بدر، وهو من أول القصيدة، وقبله: أَمِنْ عَهْدِ ذِي عَهْدٍ تَفِيضُ مَدَامِعِي ... كَأَنَّ قَذَى الْعَيْنَيْنِ مِنْ حَبِّ فُلْفُلِ? فَإنْ يَرَ سَلْمَى الجِنُّ يَسْتَأْنِسُوا بِهَا، ... وَإِنْ يَرَ سَلْمَى رَاهِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ ورواية الديوان وأبي عبيدة في النقائض: "إِلاَّ نِيرَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ" و"النير" (بكسر النون) : علم الثوب. و"المرط": إزار خز له علم، ويكون من صوف أيضا. وأما "الريط" فهو جمع"ريطة": وهي الملاءة إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لفقين، وتكون ثوبًا دقيقًا لينًا. و"المرحل": الموشى، وهو ضرب من البرود، وشيه معين كتعيين جديات الرحل. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "مرجل" بالجيم، وهو خطأ. (2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 136-138. (3) "العاقلة"،: هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب، الذين يعطون دية قتل الخطأ. من"العقل"، وهي الدية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 وذكر أن هذه الآية نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، وكان قد قتل رجلا مسلمًا بعد إسلامه، وهو لا يعلم بإسلامه. ذكر الآثار بذلك: 10089- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، قال: عياش بن أبي ربيعة، قتل رجلا مؤمنًا كان يعذِّبه مع أبي جهل= وهو أخوه لأمه= فاتّبَع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو. وكان عيّاش هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، فجاءه أبو جهل= وهو أخوه لأمه= فقال: إنّ أمك تناشدك رَحِمها وحقَّها أن ترجع إليها= وهي أسماء ابنة مخرِّبة، (1) فأقبل معه، فربطه أبو جهل حتى قدم مكة. فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرًا وافتتانًا، وقالوا: إنّ أبا جهل ليقدِرُ من محمدٍ على ما يشاء ويأخذ أصحابه. 10090- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فاتبع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل، وعيّاش حَسبه أنه كافر كما هو. (2) وكان عياش هاجر إلى المدينة مؤمنًا، فجاءه أبو جهل= وهو أخوه لأمه- فقال: إن أمك تنشُدك برحمها وحقها إلا رجعت إليها. وقال أيضًا: ويأخذ أصحابه فيربطهم. (3) 10091- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) في المطبوعة: "بنت مخرمة"، والصواب من المخطوطة: "مخربة" بالراء المشددة المكسورة، وبالباء. وأسماء من بني نهشل بن دارم، تميمية. (2) في المطبوعة: "وعياش يحسبه"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فيأخذ" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= قال ابن جريج، عن عكرمة قال: كان الحارث ابن يزيد بن أنيسة، (1) = من بني عامر بن لؤي= يعذِّبُ عياشَ بن أبي ربيعة مع أبي جهل. ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه عياش بالحرّة، فعلاه بالسيف حتى سكت، (2) وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، ونزلت:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، الآية فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحِّررْ. 10092- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، قال: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي= وكان أخًا لأبي جهل بن هشام، لأمه (3) = وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين الأولين قبل قُدُوم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلبه أبو جهل والحارث بن هشام، ومعهما رجل من بني عامر بن لؤي. فأتوه بالمدينة، وكان عياش أحبَّ إخوته إلى أمه، فكلَّموه وقالوا:"إنّ أمك قد حلفت أن لا يُظِلَّها بيت حتى تراك، وهي مضطجعة في الشمس، فأتها لتنظر إليك ثم ارجع"! وأعطوه موثقًا من الله لا يَهِيجونه حتى يرجع إلى المدينة، (4) فأعطاه بعض أصحابه بعيرًا له نجيبًا وقال: إن خفت منهم شيئًا، فاقعد على النجيب. فلما أخرجوه من المدينة، أخذوه فأوثقوه، وجَلَده العامريّ، فحلف ليقتلنَّ العامري. فلم يزل محبوسًا بمكة حتى خرج يوم الفتح، فاستقبله العامريّ وقد أسلم، ولا يعلم عيّاش بإسلامه، فضربه فقتله. فأنزل الله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، يقول: وهو لا يعلم أنه مؤمن="ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبه مؤمنة وديةٌ مسلمة إلى أهله إلا أن يصدّقوا"، فيتركوا الدّية. * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أبي الدرداء. *ذكر من قال ذلك: 10093- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، الآية، قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء، نزل هذا كله فيه. (5) كانوا في سرية، فعدَل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله! قال: فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققتَ عن قلبه! فقال: ما عَسَيْتُ أجِدُ! (6) هل هو يا رسول الله إلا دمٌ أو ماء؟ قال: فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟ قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ = حتى تمنَّيتُ أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال: ونزل القرآن:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ" حتى بلغ"إلا أن يصدّقوا"، قال: إلا أن يَضَعوها. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عرَّف عبادَه بهذه الآية مَا على مَن قتل مؤمنًا خطأ من كفَّارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأيّ ذلك كان، فالذي   (1) في المطبوعة: "بن نبيشة"، وفي المخطوطة بهذا الرسم، بغير ألف في أوله، غير منقوطة. والصواب من الإصابة وأسد الغابة وغيرهما. (2) "سكت" سكن، وانقطعت حركته. وهو مما يزاد من المجاز على نصوص المعاجم. (3) في المطبوعة: "فكان أخا" أساء قراءة المخطوطة. (4) في المطبوعة: "لا يحجزونه"، وهو خطأ وتغيير لما في المخطوطة."هاجه يهيجه": أزعجه ونفره، يريد: لا يؤذونه بما يزعجه أو ينفره. (5) حذفت المطبوعة قوله: "نزل هذا كله فيه"، ولا أدري لم فعل ذلك!! (6) قوله: "ما عسيت أجد"، من"عسى"، كأنه قال: ماذا أجد بقتلي إياه وهو مشرك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 عَنَى الله تعالى بالآية: تعريفَ عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عَقَل عنه من عباده تنزيلَه، (1) وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه. * * * وأما"الرقبة المؤمنة"، فإن أهل العلم مختلفون في صفتها. فقال بعضهم: لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان بعد بلوغها، وصلَّت وصامت، ولا يستحقّ الطفل هذه الصفة. *ذكر من قال ذلك: 10094- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي حيان قال: سألت الشعبي عن قوله:"فتحرير رقبة مؤمنة"، قال: قد صلَّت وعرفت الإيمان. 10095- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فتحرير رقبه مؤمنة"، يعني بالمؤمنة، مَن عقل الإيمان وصام وصلّى. 10096- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كان في القرآن من"رقبة مؤمنة"، فلا يجزئ إلا من صام وصلَّى. وما كان في القرآن من"رقبة" ليست"مؤمنة"، فالصبيّ يجزئ. 10097- حدثت عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: كل شيء في كتاب الله:"فتحرير رقبة مؤمنة"، فمن صام وصلى وعَقل. وإذا قال:"فتحرير رقبة"، فما شاء. 10098- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كل شيء في القرآن:"فتحرير رقبه   (1) في المخطوطة: "من عقل عنه عباده وتنزيله"، وهو غير مستقيم، والذي في المطبوعة جيد صحيح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 مؤمنة"، فالذي قد صلى. وما لم يكن"مؤمنة"، فتحرير من لم يصلّ. 10099- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فتحرير رقبة مؤمنة"،"والرقبة المؤمنة" عند قتادة من قد صلَّى. وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصلِّ ولم يبلغ ذلك. 10100- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فتحرير رقبه مؤمنة"، قال: إذا عقل دينه. 10101- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال في:"فتحرير رقبة مؤمنة"، لا يجزئ فيها صبيٌّ. 10102- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فتحرير رقبة مؤمنة"، يعني بالمؤمنة: من قد عقل الإيمان وصام وصلى. فإن لم يجد رقبة، فصيام شهرين متتابعين، وعليه دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا بها عليه. * * * وقال آخرون: إذا كان مولودًا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن، وإن كان طفلا. *ذكر من قال ذلك: 10103- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كلّ رقبة ولدت في الإسلام، فهي تجزئ. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قال من قال: لا يجزئ في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان من بالغي الرجال والنساء، (1) إذا كان ممن كان أبواه على مِلّة من الملل سوى الإسلام، وولد بينهما   (1) في المطبوعة، حذف قوله: "بالغي" وجعلها"من الرجال والنساء"، وكانت في المخطوطة: "تابعي"، وهو خطأ صواب قراءته ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 وهما كذلك، (1) ثم لم يسلما ولا واحدٌ منهما حتى أعتِق في كفارة الخطأ. وأما من ولد بين أبوين مسلمين، فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حدّ الاختيار والتمييز، ولم يدرك الحُلُم، فمحكوم له بحكم أهل الإيمان في الموارثة، والصلاة عليه إن مات، وما يجب عليه إن جَنَى، ويجب له إن جُنِيَ عليه، وفي المناكحة. فإذْ كان ذلك من جميعهم إجماعًا، فواجب أن يكون له من الحكم= فيما يجزئ فيه من كفارة الخطأ إن أعتق فيها= من حكم أهل الإيمان، مثلُ الذي له من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها. ومن أبَى ذلك، عُكِس عليه الأمر فيه، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصلٍ أو قياس. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في غيره مثله. وأما"الدية المسلمة" إلى أهل القتيل، فهي المدفوعة إليهم، على ما وجب لهم، موفَّرة غير منتقصةٍ حقوقُ أهلها منها. (2) * * * وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: هي الموفرة. 10104- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"وديه مسلمة إلى أهله"، قال: موفَّرة. * * * وأما قوله:"إلا أن يصَّدقوا"، فإنه يعني به: إلا أن يتَصدقوا بالدية على القاتل، أو على عاقِلته، فأدغمت"التاء" من قوله:"يتصدقوا" في"الصاد" فصارتا"صادًا". * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ولد يتيما وهو كذلك"، والمخطوطة غير منقوطة، وهو كلام لا خير فيه ولا معنى له، وصواب قراءته ما أثبت. (2) انظر تفسير"مسلمة" فيما سلف 2: 184، 213-215. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 وقد ذكر أن ذلك في قراءه أبي، (إِلا أَنْ يَتَصَدَّقُوا) . 10105- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن الشرود حرف أُبيّ: (إِلا أَنْ يَتَصَدَّقُوا) . (1) * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ =،"من قوم عدو لكم"، يعني: من عِدَاد قوم أعداء لكم في الدين مشركين قد نابَذُوكم الحربَ على خلافكم على الإسلام (2) ="وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"، يقول: فإذا قتل المسلم خطأ رجلا من عِداد المشركين، والمقتول مؤمن، والقاتل يحسب أنه على كفره، فعليه تحرير رقبة مؤمنة. * * * واختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: معناه: وإن كان المقتول من قوم هم عدو لكم وهو مؤمن= أي: بين أظهرهم لم يهاجر= فقتله مؤمن، فلا دية عليه، وعليه تحرير رقبة مؤمنة. *ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 10105 -"إسحاق" هو"إسحاق بن إبراهيم بن الضيف" أو "إسحاق بن الضيف"= و"بكر بن الشرود"، مضيا برقم: 8562. (2) في المطبوعة: "لم يأمنوكم الحرب" وفي المخطوطة: "قد يأمنوكم الحرب" وصواب المعنى يقتضي أن تكون"قد نابذوكم الحرب" كما أثبتها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 10106- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة والمغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، قال: هو الرجل يُسْلم في دار الحرب فيقتل. قال: ليس فيه دية، وفيه الكفَّارة. 10107- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة في قوله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن"، قال: يعني المقتول يكون مؤمنًا وقومه كفار. قال: فليس له دية، ولكن تحرير رقبة مؤمنة. 10108- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، قال: يكون الرجل مؤمنًا وقومه كفار، فلا دية له، ولكن تحرير رقبة مؤمنة. 10109- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" في دار الكفر، يقول:"فتحرير رقبة مؤمنة"، وليس له دية. 10110- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"، ولا دية لأهله، من أجْل أنهم كفار، وليس بينهم وبين الله عهدٌ ولا ذِمَّة. 10111- حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عطاء بن السائب، عن ابن عباس أنه قال في قول الله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن" إلى آخر الآية، قال: كان الرجل يسلم ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمرّ بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتل فيمن يقتل، فيعتق قاتله رقبة، ولا دية له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 10112- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة"، قال: هذا إذا كان الرجل المسلم من قوم عدوّ لكم= أي: ليس لهم عهد - يقتل خطأ، فإن على من قتله تحريرُ رقبة مؤمنة. 10113- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن، فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفّر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين، ولا دية عليه. 10114- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن"، القتيل مسلم وقومه كفّار، فتحرير رقبه مؤمنة، ولا يؤدِّي إليهم الدية فيتقوّون بها عليكم. * * * وقال آخرون: بل عنى به الرجلُ من أهل الحرب يقدَم دار الإسلام فيسلم، ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مرَّ بهم الجيش من أهل الإسلام هَرَب قومه، وأقام ذلك المسلم منهم فيها، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرًا. *ذكر من قال ذلك: 10115- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"، فهو المؤمن يكون في العدوّ من المشركين، يسمعون بالسريَّة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيفرّون ويثبتُ المؤمن، فيقتل، ففيه تحرير رقبة مؤمنةٍ. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ="من قوم بينكم" أيها المؤمنون="وبينهم ميثاق"، أي: عهدٌ وذمة، وليسوا أهلَ حرب لكم="فدية مسلّمة إلى أهله"، يقول: فعلى قاتله دية مسلمة إلى أهله، يتحملها عاقلته="وتحرير رقبه مؤمنة"، كفارة لقتله. * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، أهو مؤمن أو كافر؟ (1) فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتلَه ديته، لأن له ولقومه عهدًا، فواجب أداءُ دِيته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، ولا يحلّ للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طِيب أنفسهم. *ذكر من قال ذلك: 10116- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يقول: إذا كان كافرًا في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية مسلمةً إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين. 10117- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، سمعت الزهري يقول: دية الذميّ دية المسلم. قال: وكان يتأول:"وإن   (1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف ص: 19، تعليق1، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله". 10118- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عيسى بن أبي المغيرة، عن الشعبي في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله"، قال: من أهل العهد، وليس بمؤمن. 10119- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، وليس بمؤمن. 10120- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة"، بقَتْله، أي: بالذي أصاب من أهل ذمته وعَهدِه ="فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله"، الآية. 10121- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله"، يقول: فأدوا إليهم الدية بالميثاق. قال: وأهل الذمة يدخلون في هذا="وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين". * * * وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤدِّيها إلى قومه من المشركين، لأنهم أهل ذمة. *ذكر من قال ذلك: 10122- حدثني ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة"، قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون لهم عقدٌ، فتكون ديته لقومه، وميراثه للمسلمين، ويَعْقِل عنه قومه، ولهم دِيَته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 10123- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن جابر بن زيد في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال: وهو مؤمن. 10124- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال: كلهم مؤمن. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، قولُ من قال: عنى بذلك المقتولَ من أهل العهد. لأن الله أبهم ذلك فقال:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم"، ولم يقل:"وهو مؤمن"، كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب= وعنى المقتولَ منهم وهو مؤمن. (2) فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصفَ به القتيلين الماضي ذكرهما قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك. * * * فإن ظن ظان أنّ في قوله تبارك وتعالى:"فدية مسلمة إلى أهله"، دليلا على أنه من أهل الإيمان، لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن= فقد ظن خطأ. وذلك أن دية الذميّ وأهل الإسلام سواء، لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيدِ المؤمنين من أهل الإيمان سواء. فكذلك حكم ديات أحرارهم سواءٌ، مع أن دياتهم لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك، فجعلها على النِّصف من ديات أهل الإيمان أو على الثلث، لم يكن في ذلك دليلٌ على أن المعنيّ بقوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، من أهل الإيمان، لأن دية المؤمنة لا خلافَ   (1) في المطبوعة: "قال: هو كافر"، مكان"كلهم مؤمن"، والذي في المطبوعة مناقض للترجمة، والذي أثبته من المخطوطة مخالف أيضا للترجمة لقوله: "كلهم مؤمن" أي: أنه هو وقومه مؤمنون. إلا أن يكون أراد بقوله: "كلهم" كل قتيل مر ذكره في الآيات السالفة، وهذا هو الأرجح عندي، ولم يعن بقوله: "كلهم" قوم القتيل. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أو عن المؤمن منهم وهو مؤمن"، ولا معنى له، والصواب ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 بين الجميع= إلا من لا يُعدُّ خلافًا= أنها على النصف من دية المؤمن، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية. فكذلك حكم ديات أهل الذمة، لو كانت مقصِّرة عن ديات أهل الإيمان، لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات. فكيف والأمر في ذلك بخلافه، ودياتهم وديات المؤمنين سواء؟ * * * وأما"الميثاق" فإنه العهد والذمة. وقد بينا في غير هذا الموضع أن ذلك كذلك، والأصل الذي منه أخذ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) *ذكر من قال ذلك: 10125- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يقول: عهد. 10126- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال: هو المعاهدة. 10127- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، عهد. 10128- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة مثله. * * * فإن قال قائل: وما صفة الخطأ، الذي إذا قتل المؤمن المؤمنَ أو المعاهِدَ لزمته ديتُه والكفارة؟   (1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: ص: 19، والتعليق: 1، وص: 41، والتعليق: 1. والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 قيل: هو ما قال النَّخَعيّ في ذلك، وذلك ما:- 10129- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال:"الخطأ"، أن يريد الشيء فيصيبَ غيره. 10130- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"الخطأ"، أن يرمي الشيء فيصيب إنسانًا وهو لا يريده، فهو خطأ، وهو على العاقِلة. (1) * * * فإن قال: فما الدية الواجبة في ذلك؟ قيل: أما في قتل المؤمن، فمائة من الإبل، إن كان من أهل الإبل، على عاقلة قاتله. لا خلاف بين الجميع في ذلك، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلافٌ بين أهل العلم. فمنهم من يقول: هي أرباع: خمس وعشرون منها حِقّة، وخمس وعشرون جَذعَةَ، وخمس وعشرون بَنات مَخَاض، وخمس وعشرون بنات لَبُون. (2) ذكر من قال ذلك. 10131- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علي رضي الله عنه في الخطأ شبه العمد: ثلاثٌ وثلاثون حِقّة، وثلاث وثلاثون جَذَعة، وأربع وثلاثون ثَنِيَّة إلى بازِل عامها. (3) وفي الخطأ: خمس وعشرون حِقّة، وخمس وعشرون جَذَعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشر بناتِ لبون.   (1) مضى كثيرًا تفسير"العاقلة"، وهم العصبة الذين يؤدون الدية عن القاتل منهم، من"العقل"، وهو الدية. (2) البعير إذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة، فهو حينئذ"حق" (بكسر الحاء) ، والأنثى"حقة". فإذا استوفى السنة الرابعة ودخل في الخامسة، فهو حينئذ"جذع" (بفتحتين) والأنثى"جذعة". ثم قبل ذلك يكون البعير فصيلا. فإذا استكمل الفصيل الحول ودخل في الثانية فهو حينئذ"ابن مخاض"، والأنثى"ابنة مخاض" فإذا استكمل السنة الثانية وطعن في الثالثة، فهو حينئذ"ابن لبون"، والأنثى"ابنة لبون" (3) البعير إذا استكمل السنة الخامسة وطعن في السادسة، فهو حينئذ"ثني"، والأنثى"ثنية". فإذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه، فهو حينئذ"بازل" والأنثى"بازل" بغير هاء. قال ابن الأعرابي: "ليس قبل الثني اسم يسمى، ولا بعد البازل اسم"يسمى" يعني أنه ليس للبعير إذا دخل في السابعة وطعن في الثامنة اسم يسمى به. وكأن ذلك لأن البازل ربما بزل في السنة الثامنة. وأما "البازل" فهو أقصى أسنان البعير. ثم يقولون بعد"بازل عام" و"بازل عامين"، وكذلك ما زاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 10132- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن فراسٍ والشيباني، عن الشعبي، عن علي بن أبي طالب بمثله. 10133- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه بنحوه. 10134- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه أنه قال في قتل الخطأ: الدية مائة أرباعًا، ثم ذكر مثله. * * * وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض. *ذكر من قال ذلك: 10135- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: في الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض. (1) 10136- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن مسعود في قتل الخطأ: مائة من الإبل أخماسًا:   (1) أنكر اللغويون أن يقال"بنو لبون" جمع"ابن لبون"، وقالوا هي: "بنات لبون" للذكر والأنثى، وهذه الآثار الصحاح دالة على أنه صحيح في اللغة العربية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 خُمْس جَذَاع، وخُمْس حِقَاق، (1) وخُمْس بنات لبون، وخمس بنات مَخَاض، وخمس بنو مخاض. 10137- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: الدية أخماس: دية الخطأ: خمس بنات مخاض، وخُمْس بنات لبون، وخُمْس حقِاق، وخُمْس جِذاع، وخُمْس بنو مخاض. (2) * * * واعتل قائلو هذه المقالة بحديث= 10138- حدثنا به أبو هشام الرفاعي، (3) قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة وأبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن الخشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الدية في الخطأ أخماسًا= قال: أبو هشام، قال ابن أبي زائدة: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون بني مخاض. (4)   (1) "الحقاق"، و"الجذاع" جمع"حقة" و"جذعة" وقد سلف شرحها في التعليقات قريبًا. (2) وقوله: "بنو مخاض" مما أنكره اللغويون، لا يقال عندهم في الجمع إلا"بنات مخاض"، و"بنات لبون" ومثله"بنات آوى"، وهذا الأثر وما بعده دال على صحة قولهم: "بنو مخاض". (3) في المطبوعة: "أبو هشام الرباعي"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وقد مضت ترجمته مرارًا في الأجزاء السالفة. (4) الأثر: 10138 -"الخشف بن مالك الطائي"، روى عن أبيه، وعمر، وابن مسعود. روى عنه"زيد بن جبير الجشمي". قال النسائي: "ثقة"، وقال الدارقطني في السنن: "مجهول". وقال الأزدي: "ليس بذاك". مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8: 75-76) من طريقين: طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية محمد بن خازم عن الحجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا. ولم يزد على هذا. ثم رواه من طريق أبي داود، عن مسدد، عن عبد الواحد، عن الحجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر= قال أبو داود: هو قول عبد الله - يعني: إنما روي من قول عبد الله موقوفا غير مرفوع. ثم نقل البيهقي تعليل هذا الحديث عن أبي الحسن الدارقطني فقال: "لا نعلم رواه إلا خشف بن مالك، وهو رجل مجهول، لم يرو عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي. ولا نعلم أحدًا رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن أرطاة. والحجاج رجل مشهور بالتدليس، وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه. قال: ورواه جماعة من الثقات عن حجاج فاختلفوا عليه فيه" ثم ساق الروايات عن الحجاج، وأنه جعل في بعضها بني اللبون مكان الحقاق. ثم ذكر أنهم لم يرووا فيه تفسير الأخماس، ثم قال: "فيشبه أن يكون الحجاج ربما كان يفسر الأخماس برأيه بعد فراغه من الحديث، فيتوهم السامع أن ذلك في الحديث، وليس كذلك". قال البيهقي: "وكيف ما كان، فالحجاج بن أرطاة غير محتج به، وخشف بن مالك مجهول، والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود. والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد أخماسها بني المخاض في الأسانيد التي تقدم ذكرها، لا كما توهم شيخنا أبو الحسن الدارقطني رحمنا الله وإياه. وقد اعتذر من رغب عن قول عبد الله رضي الله عنه في هذا بشيئين: أحدهما ضعف رواية خشف بن مالك عن ابن مسعود بما ذكرنا، وانقطاع رواية من رواه عنه موقوفًا" ثم ساق وجوهها وبين انقطاعها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 10139- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله: أنه قضى بذلك. * * * وقال آخرون: هي أرباع، غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور. *ذكر من قال ذلك: 10140- حدثنا ابن بشار قال، حدثني محمد بن بكر قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان وزيد بن ثابت قالا في الخطأ شبه العمد: أربعون جذعة خَلِفة، (1) وثلاثون حقة، وثلاثون بنات مخاض= وفي الخطأ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور. 10141- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن   (1) "الخلفة" (بفتح الخاء وكسر اللام وفتح الفاء) : الناقة الحامل، وجمع"خلفة""مخاض"، كما قالوا: "امرأة" و"نسوة". أما من لفظها فيقال: "خلفات وخلائف"، وفي الحديث: "ثلاث آيات يقرؤها أحدكم، خير له من ثلاث خلفات سمان عظام"، وفي حديث هدم الكعبة: "لما هدموها ظهر فيها مثل خلائف الإبل" أي: صخور عظام في أساسها كالنوق الحوامل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت: في دية الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور. 10142- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه= قال وحدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت، مثله. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على أهل الإبل: مائة من الإبل. ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها، وأجمعوا على أنه لا يقصَّر بها في الذي وجبت له الأسنان عن أقل ما ذكرنا من أسنانها التي حدَّها الذين ذكرنا اختلافهم فيها، وأنه لا يجاوز بها في الذي وَجبت له عن أعلاها. (2) وإذْ كان ذلك من جميعهم إجماعًا، فالواجب أن يكون مجزيًا من لزمته دية قتل خطأ، أيَّ هذه الأسنان التي   (1) الأثر: 10142-"أبو عثمة"، هو"محمد بن خالد بن عثمة"، وهو معروف بابن عثمة. وقد سلف مثل ذلك في رقم: 5314، ومضت ترجمته في رقم: 90، 91، 5483، ورقم: 9587. وكان في المطبوعة هنا"ابن عثمة" وأثبت ما في المخطوطة، لما مضى في رقم: 5314، وانظر التعليق عليه هناك. و"عبد ربه" هو: عبد ربه بن أبي يزيد. قال علي بن المديني: "عبد ربه الذي روى عنه قتادة، مجهول، لم يرو عنه غير قتادة". وقال البخاري في التاريخ: "نسبه همام". وقال علي: "عرفه ابن عيينة، قال: كان يبيع الثياب". مترجم في التهذيب. "أبو عياض" هو المدني، مختلف في اسمه وفي روايته. انظر ترجمته في التهذيب. وهو يروي عن عبد الله بن مسعود، ويروي عنه قتادة. ودل هذا الأثر على أنه يروي أيضًا عن عثمان بن عفان. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنه لا يجاوز بها الذي وجب عن أعلاها"، وهو لا يستقيم، وجعلتها على سياقة التي قبلها فزدت"في" و"له". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 اختلف المختلفون فيها، (1) أدَّاها إلى من وجبت له. (2) لأن الله تعالى لم يحدَّ ذلك بحدّ لا يجاوز به ولا يقصَّر عنه ولا رسولُه، إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه، فإنه ليس للإمام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين. * * * وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب، فإن لورثة القتيل عليهم عندنا ألف دينار. وعليه علماء الأمصار. * * * وقال بعضهم: ذلك تقويم من عمر رحمة الله عليه، للإبل على أهل الذهب في عصره. والواجب أن يقَّوم في كل زمان قيمتها، إذا عدم الإبلَ عاقلةُ القاتل، واعتلوا بما:- 10143- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن مكحول قال: كانت الدية ترتفع وتنخفض، فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثمانمئة دينار، فخشي عمر من بعد، فجعلها اثني عشر ألف درهم، وألفَ دينار. (3) * * * وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبًا ألف دينار، فقالوا: ذلك فريضة فرضها الله على لسان رسوله، كما فرض الإبل على أهل الإبل. قالوا: وفي إجماع علماء الأمصار في كل عصر وزمان، إلا من شذ عنهم، على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا تنقص عنها= أوضحُ الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب، وجوبَ الإبل على أهل الإبل، لأنها لو كانت قيمة لمائة من الإبل، لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الإبل.   (1) في المطبوعة: "دية قتل خطأ" وفي المخطوطة: "ديته قتيل خطأ" ورجحت المخطوطة بعد تصحيح"ديته" إلى"دية". (2) السياق: "أي هذه الأسنان أداها إلى من وجبت له". (3) انظر السنن الكبرى للبيهقي 8: 76-80. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 وهذا القول هو الحق في ذلك، لما ذكرنا من إجماع الحجة عليه. * * * وأما من الوَرِق على أهل الوَرِق عندنا، فاثنا عشر ألف درهم، (1) وقد بينا العِلل في ذلك في كتابنا (كتابِ لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام) . * * * وقال آخرون: إنما على أهل الورق من الورِق عشرة آلاف درهم. وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاقٌ، فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها. فقال بعضهم: ديته ودية الحر المسلم سواءٌ. *ذكر من قال ذلك: 10144- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري: أن أبا بكر وعثمان رضوان الله عليهما، كانا يجعلان دية اليهوديّ والنصرانيّ، إذا كانا معاهدين، كدية المسلم. 10145- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحكم بن عيينة: أن ابن مسعود كان يجعل ديةَ أهل الكتاب، إذا كانوا أهل ذمّة، كدية المسلمين. 10146- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد قال: سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب، فأخبرته أنّ إبراهيم قال: إن ديتهم وديتنا سواء. 10147- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم وداود، عن الشعبي أنهما قالا دية اليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ مثل دية الحرّ المسلم.   (1) الورق (بفتح فكسر) و"الورق" (بفتح أو كسر ثم سكون) و"الرقة" (بكسر ففتح) : هي الدراهم المضروبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 10148- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: دية اليهودي والنصراني والمجوسيّ كدية المسلم، إذا كانت له ذمة. 10149- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء أنهما قالا دية المعاهِد دية المسلم. 10150- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: دية المسلم والمعاهد سواء. 10151- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال: سمعت الزهري يقول: دية الذميّ دية المسلم. 10152- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن عامر قال: دية الذمي مثل دية المسلم. 10153- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم مثله. 10154- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم مثله. (1) 10155- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر: وبلغه أن الحسن كان يقول:"دية المجوسي ثمانمئة، ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف"، فقال: ديتهم واحدة. 10156- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،   (1) الأثر: 10154 - كان هذا الإسناد في المطبوعة والمخطوطة متصلا بالذي بعده هكذا: "عن إبراهيم قال حدثنا عبد الحميد بن بيان"، وهو خطأ، "إبراهيم" هو النخعي، الذي سلف في الآثار السالفة. و"عبد الحميد بن بيان" هو السكري القناد، شيخ أبي جعفر. فرجح عندي أن الناسخ جعل مكان"مثله"، "قال" فرددتها إلى ما يجب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 عن قيس بن مسلم، عن الشعبي قال: دية المعاهد والمسلم في كفّارتهما سواء. 10157- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: دية المعاهد والمسلم سواء. * * * وقال آخرون: بل ديته على النصف من دية المسلم. *ذكر من قال ذلك: 10158- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عمرو بن شعيب في دية اليهودي والنصرانيّ، قال: جعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمئة. فقلت لعمرو بن شعيب: إن الحسن يقول:"أربعة آلاف"! قال: كان ذلك قبل الغِلْمة (1) وقال: إنما جعل دية المجوسي بمنزلة العبد. 10159- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن عمر بن عبد العزيز قال: دية المعاهد على النصف من دية المسلم. * * * وقال آخرون: بل ديته على الثلث من دية المسلم. *ذكر من قال ذلك: 10160- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن أبي عثمان= قال: وكان قاضيًا لأهل مَرْو= قال: جعل عمر رضي الله عنه دية اليهودي والنصراني أربعة آلافٍ، أربعة آلافٍ. 10161- حدثنا عمار بن خالد الواسطي قال، حدثنا يحيى بن سعيد   (1) كان في المطبوعة: "لعله كان ذلك قبل" حذف"الغلمة"، وزاد في أول الكلام"لعله"، وهو صنيع سيئ. فأثبت ما في المخطوطة كما هو، ولم أعرف ما أراد، فتركته لمن يعلمه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 ، عن الأعمش، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب قال، قال عمر: دية النصراني أربعةُ آلاف، والمجوسي ثمانمئة. 10162- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة عن ثابت قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال عمر: دية أهل الكتاب أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمئة. 10163- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، فذكر مثله. 10164- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح: أن رجلا من قومه رمى يهوديًّا أو نصرانيًّا بسهمٍ فقتله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأغرمه ديته، أربعةَ آلاف. 10165- وبه عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال عمر: دية اليهوديّ والنصرانيّ أربعة آلاف، أربعة آلاف. 10166- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا بعض أصحابنا، عن سعيد بن المسيب، عن عمر مثله. 10167- قال حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عمر مثله. 10168- قال حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أنه قال: دية اليهوديّ والنصرانيّ أربعة آلاف، والمجوسي ثمانمئة. 10169- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء مثله. 10170- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين"، الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبةٌ لا يبطلها شيء. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 القول في تأويل قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين"، فمن لم يجد رقبةً مؤمنة يحرّرها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد، لعُسْرته بثمنها="فصيام شهرين متتابعين"، يقول: فعليه صيام شهرين متتابعين. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم فيه بنحو ما قلنا. *ذكر من قال ذلك: 10171- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين"، قال: من لم يجد عِتْقًا = أو عتاقة، شك أبو عاصم (1) = في قتل مؤمن خطأ، قال: وأنزلت في عيّاش بن أبي ربيعة، قتل مؤمنًا خطأ. * * * وقال آخرون: صوم الشهرين عن الدية والرقبة. قالوا: وتأويل الآية: فمن لم يجد رقبة مؤمنة، ولا دِية يسلمها إلى أهلها، فعليه صوم شهرين متتابعين. *ذكر من قال ذلك: 10172- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن زكريا، عن الشعبي، عن مسروق: أنه سئل عن الآية التي في"سورة النساء":"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين": صيام الشهرين عن   (1) "العتاقة" (بفتح العين) مصدر: "عتق العبد يعتق عتقًا وعتاقًا وعتاقة". وانظر"العتاقة"، في التعليق على الأثر السالف رقم: 9265. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 الرقبة وحدَها، أو عن الدية والرقبة؟ فقال: من لم يجد، فهو عن الدية والرقبة. 10173- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر، عن مسروق بنحوه. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الصوم عن الرقبة دون الدية، لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل، بإجماع الحجّة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، (1) فلا يقضي صومُ صائم عما لزم غيرَه في ماله. * * * و"المتابعة" صوم الشهرين، وأن لا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير علة حائلة بينه وبين صومه. (2) * * * ثم قال جل ثناؤه:"توبةً من الله وكان الله عليمًا حكيما"، يعني: تجاوزًا من الله لكم إلى التيسير عليكم، بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها، بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين="وكان الله عليمًا حكيمًا"، يقول: ولم يزل الله="عليمًا"، بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه وغير ذلك="حكيمًا"، بما يقضي فيهم ويريد. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "عن نبينا"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ولا يقطعه" وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر تفسير"التوبة"، و"كان"، و"عليم" و"حكيم" في موادها من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 القول في تأويل قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يقتل مؤمنًا عامدًا قتله، مريدًا إتلاف نفسه="فجزاؤه جهنم"، يقول: فثوابه من قتله إياه (1) ="جهنم"، يعني: عذاب جهنم="خالدًا فيها"، يعني: باقيًا فيها (2) = و"الهاء" و"الألف" في قوله:"فيها" من ذكر"جهنم"="وغضب الله عليه"، يقول: وغضب الله عليه بقتله إياه متعمدًا (3) ="ولعنه" يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه (4) ="وأعد له عذابًا عظيمًا"، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره. * * * واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحق صاحبُه أن يسمى متعمِّدًا، بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجلٌ رجلا بحدِّ حديد يجرح بحدِّه، أو يَبْضَع ويقطع، (5) فلم يقلع عنه ضربًا به حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصدٌ ضربَه: أنه عامدٌ قتلَه. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك. فقال بعضهم: لا عمدَ إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا. *ذكر من قال ذلك: 10174- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء:"العَمد"، السلاح= أو قال: الحديد= قال: وقال سعيد بن المسيب: هو السلاح.   (1) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314 / 6: 576. (2) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف 6: 577، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"غضب الله" فيما سلف 1: 188، 189 / 2: 138، 347 / 7: 116. (4) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 2: 328، 329 / 3: 254، 261 / 6: 577 / 8: 439، 471. (5) "بضع اللحم يبضعه": قطعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 10175- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان بحديدة، وما كان بدون حديدة، فهو شبه العمد، لا قَوَد فيه. 10176- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان بحديدة، وشبه العمد ما كان بَخَشبة. وشبه العمد لا يكون إلا في النفس. (1) 10178- حدثني أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس قال: من قتل في عصبيّة، في رمي يكون منهم بحجارة، أو جلد بالسياط، أو ضرب بالعصى، فهو خطأ، ديته دية الخطأ. ومن قتل عمدًا فهو قَوَد يَدِه. (2) 10179- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، ومغيرة، عن الحارث وأصحابه، في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضًا حتى يموت، قال: أسأل الشهودَ أنه ضربه، فلم يزل مريضًا من ضربته حتى ماتَ، فإن كان بسلاح فهو قَوَد، وإن كان بغير ذلك فهو شِبْه العمد. * * * وقال آخرون: كلّ ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل. (3) *ذكر من قال ذلك: 10180- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة، عن عبيد بن عمير أنه قال: وأي   (1) سقط من الترقيم رقم: 10177. (2) في المطبوعة: "قود يديه"، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله: "قود يده"، أي قود بما جنت يده. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا كان الذي ضرب الأغلب"، والسياق يقتضي إثبات"به" حيث أثبتها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 عمد هو أعمد من أن يضرب رجلا بعصا، ثم لا يقلع عنه حتى يموت؟. (1) 10181- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن إبراهيم قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت، أو ضربه بخشبة حتى يموت، فهو القَوَد. * * * وعلة من قال:"كل ما عدا الحديد خطأ"، ما:- 10182- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرْش؟ (2) * * *   (1) الأثر: 10180 -"حبان بن أبي جبلة القرشي، مولاهم، المصري. روى عن عمرو بن العاص، والعبادلة إلا ابن الزبير، مضت ترجمته برقم: 2195. أما "عبد الرحمن بن يحيى"، فلم أعرف من هو، وأخشى أن يكون"صوابه" عبد الرحمن بن أنعم، وهو: "عبد الرحمن بن زياد بن أنعم بن ذري بن يحمد الإفريقي"، وسلفت ترجمته برقم 2195، وروايته أيضًا عن"حبان بن أبي جبلة". (2) الحديث: 10182 - سفيان: هو الثوري. جابر: هو ابن يزيد الجعفي. وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب، كما بينا في: 2340. أبو عازب: رجل كوفي غير معروف. قيل: اسمه"مسلم بن عمرو"، وقيل: "مسلم بن أراك". لم يرو عنه غير جابر الجعفي -هذا- و"الحارث بن زياد". و"الحارث بن زياد" -هذا-: لا يعرف أحدًا، فإنه هو مجهول. ترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 75. وروى عن أبيه أنه قال: "هو مجهول". ولم يترجم له البخاري. وأما أبو عازب: فقد ترجم له البخاري في الكبير 4 / 1 / 268، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 190 - كلاهما في اسم"مسلم بن عمرو". وهو -على الرغم من هذا- لا يزال مجهولا، إذ لم يرو عنه ثقة معروف. والحديث رواه أحمد في المسند 4: 272 (حلبي) ، عن وكيع، بهذا الإسناد. ولكن بلفظ"لكل شيء خطأ" بزيادة اللام في"كل". ثم رواه 4: 275 (حلبي) ، عن أحمد بن عبد الملك، عن زهير، عن جابر -وهو الجعفي- به، بلفظ"كل شيء خطأ إلا السيف، وفي كل خطأ أرش". ورواه البيهقي في السنن الكبرى 8: 42، بثلاثة أسانيد، من طريق جابر الجعفي ثم رواه بإسناد آخر، من طريق قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن إبراهيم بن بنت النعمان بن بشير، عن النعمان. ثم قال: "مدار هذا الحديث على جابر الجعفي، وقيس بن الربيع، ولا يحتج بهما". وذكره الزيلعي في نصب الراية 4: 333، من رواية المسند. وأعله بما قاله صاحب التنقيح: "وعلى كل حال فأبو عازب ليس بمعروف". ثم نقل تعليله عن البيهقي في المعرفة بمثل ما أعله به في السنن الكبرى. ولم يعقب عليهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 وعلة من قال:"حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء، حكم السيف، في أنّ من قتل به قتيلُ عمد"، ما:- 10183- حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاحٍ لها بين حجرين، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله بين حجرين. (1) * * * قالوا: فأقاد النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر، وذلك غير حديدٍ. قالوا: وكذلك حكم كل من قتل رجلا بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثلَ المقتول به، نظيرُ حكم اليهوديِّ القاتلِ الجارية بين الحجرين. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: كل من ضرب إنسانًا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسَه به: أنه قاتل عمدٍ، ما كان المضروب به من شيء (2) للذي ذكرنا من الخبر عن   (1) الحديث: 10183 - هذا مختصر من حديث صحيح متفق عليه. رواه البخاري 12: 174 -175، 187-188، ومسلم 2: 27 -كلاهما من طريق همام، عن قتادة، عن أنس. ورواه البخاري أيضًا 12: 176، 180، ومسلم 2: 26-27، من أوجه أخر عن أنس. وذكره المجد بن تيمية في المنتقى: 3915، وقال: "رواه الجماعة" - يعني الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة. ="الأوضاح" جمع وضح (بفتحتين) ، وهو الدرهم الصحيح. ثم اتخذ حلي من الدراهم الصحاح من الفضة، فقيل لها"أوضاح". (2) قوله: "ما كان المضروب به من شيء" يعني: أي شيء كان المضروب به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وأما قوله:"فجزاؤه جهنم خالدًا فيها"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه. فقال بعضهم معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه. *ذكر من قال ذلك: 10184- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه. 10185- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال، حدثنا شعبة، عن يسار، عن أبي صالح:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: جزاؤه جهنم إن جازاه. * * * وقال آخرون: عُنِي بذلك رجل بعينه، كان أسلم فارتدّ عن إسلامه، وقتل رجلا مؤمنًا. قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا مستحلا قتلَه، فجزاؤه جهنم خالدًا فيها. *ذكر من قال ذلك: 10186- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صُبَابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الديةَ فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله= قال ابن جريج: وقال غيره: ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديتَه على بني النجار، ثم بعث مقيسًا، وبعث معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فاحتمل مقيسٌ الفِهريَّ (1) = وكان أيِّدًا (2) = فضرب به الأرض،   (1) "مقيس الفهري"، والأشهر"السهمي"، وهو واحد، لأنه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. (2) "الأيد" على وزن"سيد" الشديد القوي، من"الأيد" (بفتح فسكون) وهو القوة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 ورَضخَ رأسه بين حجرين، ثم ألفى يتغنى: ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا، وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابِ فَارِعِ (1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أظنّه قد أحدث حدثًا! أما والله لئن كان فعل، لا أومِنه في حِلّ ولا حَرَم ولا سلم ولا حرب! فقتل يوم الفتح= قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا"، الآية. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب. *ذكر من قال ذلك: 10187- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور قال، حدثني سعيد بن جبير= أو: حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير= قال: سألت ابن عباس عن قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه جهنم، ولا توبة   (1) سيرة ابن هشام 3: 305، 306، تاريخ الطبري 3: 66، معجم البلدان (فارع) ، وهو آخر أبيات أربعة هي: شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ حَلَلْتُ بِهِ وِترِي، وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الأَوْثَانِ أَوَّلَ راجِعِ ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا ............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان في المخطوطة والمطبوعة: "قتلت به فهرًا"، وليس صوابًا، إنما قتل قاتل أخيه هشام بن صبابة، قالوا: اسمه"أوس"، لا"فهر". أما "فهر" في قوله: "ثأرت به فهرًا" فإنه يعني أبناء فهر، وهم رهطه، أدرك ثأرهم بقتله الأنصاري. وفي مطبوعة تاريخ الطبري"قهرًا" بالقاف، والصواب بالفاء. و"فارع" أطم بالمدينة لبني النجار، كان لحسان بن ثابت رحمه الله، ذكره في شعره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 له = فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من نَدم. * * * وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيدَ لقاتل المؤمن متعمّدًا، كائنًا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله. قالوا: فكل قاتل مؤمن عمدًا، فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في"سورة الفرقان". *ذكر من قال ذلك: 10188- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُفَّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال:"جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضبَ الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا". قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمِل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلتْه أمه! وأنَّى له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيَّكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه! رجل قتل رجلا متعمدًا جاء يوم القيامة آخذًا بيمينه أو بشماله، تَشْخَبُ أوداجه دمًا، في قُبُل عرش الرحمن، يَلزم قاتلَه بيده الأخرى يقول: سلْ هذا فيم قتلني؟ ووالذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قُبض نبيّكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان. (1)   (1) الأثر: 10188 -"يحيى الجابر" هو"يحيى بن المجبر"، وهو: يحيى بن عبد الله بن الحارث المجبر التيمي وثقه أخي السيد أحمد في المسند. ورواه أحمد في المسند رقم: 2142 بطوله، وهو حديث صحيح، من طريق محمد بن جعفر عن شعبة، عن يحيى بن المجبر التيمي. ثم رواه برقم: 2683، ورواه مختصرًا برقم: 1941، 3445 وانظر ابن كثير 2: 537-539. وقوله: "تشخب أوداجه دما"، أي تسيل دمًا له صوت في خروجه، و"الشخب"، ما يخرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة وعصرة لضرع الشاة، ويكون لمخرجه صوت عند الحلب. و"الأوداج" جمع"ودج" (بفتحتين) ، وهي العروق التي تكتنف الحلقوم، وما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح. وقوله: "في قبل عرش الرحمن"، "قبل" (بضم فسكون) ، أو (بفتحتين) أو (بضمتين) كل ذلك جائز، وهو الوجه، أو ما يستقبلك من شيء، ويعني به ما بين يدي العرش حيث يستقبله الناظر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 10189- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد: عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا"، فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحًا! فقال: وأنَّى له التوبة! (1) 10190- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا همام، عن يحيى، عن رجل، عن سالم قال: كنت جالسًا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلا قتل مؤمنًا متعمدًا، أين منزله؟ قال:"جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا". قال: أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: وأنَّى له الهدى، ثكلته أمه؟ والذي نفسي بيده لسمعته يقول= يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم= يجيء يوم القيامة مُعَلِّقًا رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذًا صاحبه بيده الأخرى، تشخَبُ أوداجه حِيَال عرش الرحمن، يقول: يا رب، سلْ عبدك هذا عَلام قتلني؟ فما جاء نبيّ بعد نبيِّكم، ولا نزل كتابٌ بعد كتابكم. (2)   (1) الأثر: 10189 -"أبو خالد" الأحمر، هو سليمان بن حيان الأزدي، مضى برقم: 3956، ورواية سفيان بن وكيع عنه برقم: 2472. و"عمرو بن قيس الملائي"، مضى مرارًا، وانظر رقم: 3956. و"يحيى بن الحارث التيمي" هو"يحيى الجابر"، و"يحيى بن عبد الله بن الحارث" نسب إلى جده، ومضى في الأثر السالف. وهذا الأثر مختصر الذي قبله. (2) الأثر: 10190 -"موسى بن داود الضبي الطرسوسي"، من شيوخ أحمد وعلي بن المديني. ثقة صاحب حديث، ولي قضاء طرسوس إلى أن مات بها. و"همام" هو ابن يحيى بن دينار الأزدي، روى عن عطاء وقتادة وابن سيرين. روى عن الثوري، وهو من أقرانه. ثقة. وهذا الأثر طريق آخر للأثر السالف بمعناه، وجعل بين يحيى الجابر، وسالم بن أبي الجعد"رجلا"، ويحيى قد سمع سالمًا، فلا يضر أن يكون سمعه أيضًا من رجل عن سالم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 10191- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا عمار بن رُزيق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس: بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فوالله لقد أنزلت على نبيكم، ثم ما نسخها شيء، ولقد سمعته يقول: ويل لقاتل المؤمن، يجيء يوم القيامة آخذًا رأسه بيده= ثم ذكر الحديث نحوه. (1) 10192- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزى: سئل ابن عباس عن قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، فقال: لم ينسخها شيء. وقال في هذه الآية: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [سورة الفرقان: 68] . قال: نزلت في أهل الشرك. 10193- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين، فذكر نحوه. (2) 10194- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور قال، حدثني سعيد بن جبير= أو: حُدّثت عن سعيد بن جبير: أن عبد الرحمن بن أبزى أمَره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في"النساء":   (1) الأثر: 10191 -"عمار بن رزيق الضبي"، أبو الأحوص. روى عن أبي إسحاق السبيعي والأعمش وعطاء بن السائب، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "عمان بن زريق" بالنون في"عمار" وبتقديم الزاي على الراء، وهو خطأ. (2) الأثر: 10192، 10193 - رواه مسلم (18: 158) والبخاري (فتح 8: 380) من طريق محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، كالإسناد الثاني. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 "ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم" إلى آخر الآية= والتي في"الفرقان": (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) إلى (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ، قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا، فلا توبة له. وأما التي في"الفرقان"، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدَلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق، وأتينا الفواحش، فما ينفعنا الإسلام! قال فنزلت: (إِلا مَنْ تَابَ) الآية (1) 10195- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: ما نسخها شيء. 10196- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: هي من آخر ما نزلت، ما نسخها شيء. 10197- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت إلى ابن عباس فسألته فقال: لقد نزلت في آخر ما أنزل من القرآن، وما نسخها شيء. (2) 10198- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة قال، أخبرني شهر بن حوشب قال،   (1) الأثر: 10194 - رواه البخاري (فتح 8: 379) ومسلم (18: 159) . رواه البخاري من طريق سعد بن حفص، عن شيبان، عن منصور. ورواه مسلم من طريق هارون بن عبد الله، عن أبي النضر هاشم بن القاسم الليثي، عن أبي معاوية شيبان. وأسقطت المخطوطة: "وأتينا الفواحش". وليس فيها كلمة"الآية" في آخر الأثر. (2) الآثار 10195 - 10197 - هذه الآثار، رواها البخاري في صحيحه (فتح 8 / 379) ومسلم (18: 158) . وقد استقصى الحافظ ابن حجر الكلام فيها في الفتح. وكان في المطبوعة: "لقد نزلت في آخر ما نزل"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 سمعت ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم" بعد قوله: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) ، بسنةٍ. 10199- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن ابن عباس قال:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: نزلت بعد (إِلا مَنْ تَابَ) ، بسنة. 10200- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قاتل المؤمن: نزلت بعد ذلك بسنة. فقلت لأبي إياس: من أخبرك؟ فقال: شهر بن حَوْشب. 10201- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا"، قال: ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر الله. 10202- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا" الآية، قال عطية: وسئل عنها ابن عباس، فزعم أنها نزلت بعد الآية التي في"سورة الفرقان" بثمان سنين، وهو قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى قوله: (غَفُورًا رَحِيمًا) . 10203- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مطرف عن أبي السفر، عن ناجية، عن ابن عباس قال: هما المبهمتان: الشرك والقتل. (1) 10204- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك   (1) يعني بقوله: "المبهمتان"، يعني: الآيتان اللتان لا مخرج منهما، كأنها باب مبهم مصمت، أي: مستغلق لا يفتح، ولا مأتى له. وذلك أن الشرك والقتل، جزاؤه التخليد في نار جهنم، أعاذنا الله منها. ومثله في الحديث: "أربع مبهمات: النذر والنكاح والطلاق والعتاق"، وفسرته رواية أخرى: "أربع مقفلات"، أي: لا مخرج منها، كأنها أبواب مبهمة عليها أقفال. وقد مضى تفسير"المبهم" فيما سلف 8: 143، تعليق: 2، بغير هذا المعنى، فانظره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 بالله، وقتل النفس التي حرم الله، لأن الله سبحانه يقول:"فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا". 10205- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه الكوفيين، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: إنها لمحكمة، وما تزداد إلا شدة. 10206- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثني هياج بن بسطام، عن محمد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت قال: نزلت"سورة النساء" بعد"سورة الفرقان" بستة أشهر. (1) 10207- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: يأتي المقتول يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه وأوداجه تشخَب دمًا، يقول: يا ربِّ، دمي عند فلان! فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضى بينهما. ثم نزع بهذه الآية:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها" الآية، قال ابن عباس: والذي نفسي بيده، ما نسخها الله جل وعز منذ أنزلها على نبيَّكم عليه السلام. (2) 10208- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة،   (1) الأثر: 10206 -"هياج بن بسطام الهروي"، مضت ترجمته برقم: 9603. (2) الأثر: 10207 -"ابن البرقي"، هو"أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي" سلف برقم: 22 وكان في المطبوعة"ابن الرقي" وهو خطأ. و"ابن أبي مريم"، هو"سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم الجمحي"، مضى برقم: 22، وغيره من المواضع. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 عن أبي الزناد قال: سمعت رجلا يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت قال، سمعت أباك يقول: نزلت الشديدةُ بعد الهيِّنة بستة أشهر، قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا"، إلى آخر الآية، بعد قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى آخر الآية، [سورة الفرقان، 68] . 10209- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد قال: سمعت رجلا يحدّث خارجة بن زيد قال: سمعت أباك في هذا المكان بمنَى يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة= قال: أراه: بستة أشهر، يعني:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا" بعد: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [سورة النساء: 48، 116] . 10210- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، (1) قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدًا فيها، ولكنه يعفو ويتفضَّل على أهل الإيمان به وبرسوله، (2) فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إيّاها ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) [سورة الزمر: 53] . * * * فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلا في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلا فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عز ذكرُه قد أخبر   (1) في المطبوعة: "وأولى القول في ذلك"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يعفو أو يتفضل"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 أنه غير غافرٍ الشركَ لأحدٍ بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء: 48، 116] ، والقتل دون الشرك. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدَّقوا الله وصدَّقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم="إذا ضربتم في سبيل الله"، يقول: إذا سرتم مسيرًا لله في جهاد أعدائكم (2) ="فتبينوا"، يقول: فتأنَّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، (3) ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينًا حرْبًا لكم ولله ولرسوله="ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلَم"، (4) يقول: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرًا لكم أنه من أهل ملتكم ودَعوتكم (5) ="لست   (1) في المخطوطة: "ولا نقبل دون الشرك"، وهو خطأ محض، والصواب ما في المطبوعة. (2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف ص: 17، تعليق: 4، والمراجع هناك. (3) في المخطوطة: "فلما تعلموا"، وهو خطأ. (4) كان في المطبوعة هنا، "السلام"، كقراءتنا اليوم في مصحفنا، والسلام التحية، وهي إحدى القراءتين، ولكن تفسير أبي جعفر بعد، هو تفسير"السلم"، وهو الاستسلام والانقياد، وهي القراءة الأخرى التي اختارها. فكتابتها هنا"السلام" خطأ. لا يصح به المعنى من تفسيره. (5) انظر تفسير"السلم" فيما سلف ص: 23، 24، 29 ومادة"سلم" من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 مؤمنًا"، فتقتلوه ابتغاء="عرض الحياة الدنيا"، يقول: طلبَ متاعِ الحياة الدنيا، (1) فإن="عند الله مغانم كثيرة"، من رزقه وفواضل نِعَمه، فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فأثابكم بها على طاعتكم إياه، فالتمسوا ذلك من عنده="كذلك كنتم من قبل"، يقول، كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلم فقلتم له (2) "لست مؤمنًا" فقتلتموه، كذلك كنتم أنتم من قبل، يعني: من قبل إعزاز الله دينه بتُبَّاعه وأنصاره، تستخفُون بدينكم، كما استخفى هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله، بدينه من قومه أن يُظهره لهم، حذرًا على نفسه منهم. وقد قيل إن معنى قوله:"كذلك كنتم من قبل" كنتم كفارًا مثلهم="فمنَّ الله عليكم"، يقول: فتفضل الله عليكم بإعزاز دينه بأنصاره وكثرة تُبَّاعه. وقد قيل، فمنَّ الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلم (3) ="فتبينوا"، يقول: فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتلَه ممن التبس عليكم أمرُ إسلامه، فلعلَّ الله أن يكون قد مَنَّ عليه من الإسلام بمثل الذي منَّ به عليكم، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان. (4) ="إن الله كان بما تعملون خبيرًا"، يقول: إن الله كان بقتلكم من تقتلون، وكَفِّكم عمن تكفُّون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم="خبيرًا"، يعني: ذا خبرة وعلم به، (5) يحفظه عليكم وعليهم، حتى يجازى جميعكم به يوم القيامة جزاءه، المحسن بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. (6) * * *   (1) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 8: 316 تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "ألقى إليكم السلام"، وانظر التعليق السالف ص: 70، رقم: 4. (3) في المطبوعة: "ألقى إليكم السلام"، وانظر التعليق السالف ص: 70، رقم: 4. (4) انظر تفسير"من" فيما سلف 7: 369. (5) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة. (6) في المطبوعة: "جزاء المحسن بإحسانه.."، وهو غير مستقيم، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 وذكر أن هذه الآية نزلت في سبب قتيل قتلته سريّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال:"إنيّ مسلم" = أو بعد ما شهد شهادة الحق= أو بعد ما سلَّم عليهم= لغنيمة كانت معه، أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه. ذكر الرواية والآثار في ذلك: (1) 10211- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال (2) بعث النبي صلى الله عليه وسلم محلِّم بن جثَّامة مَبْعثًا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم حِنَةٌ في الجاهلية، (3) فرماه محلم بسهم، فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله، سُنَّ اليوم وغيِّر غدًا! (4) فقال عيينة: لا والله، حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي (5) فجاء محلِّم في بُرْدين، (6) فجلس بين يديْ رسول الله ليستغفر له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك! فقام وهو يتلقى دموعه ببُرْديه، فما مضت به سابعة حتى مات، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم   (1) في المطبوعة: "والآثار بذلك"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "عن نافع أن ابن عمر"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "إحنة في الجاهلية"، وهو صواب، و"الإحنة": الحقد في الصدر. من"أحن" وأما "حنة" كما أثبتها من المخطوطة، فهي من"وحن"، وهي أيضًا الحقد. وقد سلف التعليق على هذه اللفظة، حيث وردت في الأثر رقم 2195، في الجزء الثالث: 152، 153، تعليق: 2. وقد ذكرت هناك إنكار الأصمعي"حنة"، وزعم الأزهري أنها ليست من كلام العرب. وهذا دليل آخر على صواب هذه الكلمة، وأن الذي قاله الأزهري ليس بشيء. (4) في ابن كثير 2: 546: "سر اليوم وغر غدا" وهو خطأ محض. (5) في المخطوطة: "حتى تذوق بكاؤه" وهو تحريف من الناسخ، والصواب من السياق ومن تفسير ابن كثير. (6) في المخطوطة: "في برد"، والصواب من ابن كثير، وكما صححه في المطبوعة من سياق الخبر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شرٌّ من صاحبكم! ولكن الله جل وعز أراد أن يَعِظكم. ثم طرحوه بين صَدفَيْ جبل، (1) وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، الآية (2) 10212- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، (3) عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَمٍ، (4) فخرجت في نَفَرٍ من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن رِبْعيّ، ومحلِّم بن جَثَّامة بن قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعود له، معه مُتَيِّعٌ له، ووَطْبٌ من لبن. (5) فلما مر بنا سلَّم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلِّم بن جثَّامة الليثي لشيء كان بينه وبينه فقتله، وأخذ بعيره ومتَيِّعَه. فلما قدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، (6) نزل فينا القرآن:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضَرِبتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمنًا"، الآية (7)   (1) "الصدف" (بفتحتين) : جانب الجبل الذي يقابلك منه. والصدف: كل شيء مرتفع عظيم كالحائط والجبل. (2) الأثر: 10211 - في تفسير ابن كثير 2: 546، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 200 مختصرًا. (3) في المطبوعة: "عن يزيد عن عبد الله بن قسيط"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسائر المراجع. (4) "إضم": واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، من عند المدينة، وهو واد لأشجع وجهينة. (5) "القعود": هو البكر من الإبل، حين يمكن ظهره من الركوب، وذلك منذ تكون له سنتان حتى يدخل في السادسة. و"متيع" تصغير"متاع": وهو السلعة، وأثاث البيت، وما يستمتع به الإنسان من حوائجه أو ماله. و"الوطب": سقاء اللبن. (6) في المطبوعة: "وأخبرناه" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة. (7) الأثر: 10212 - هذا الأثر رواه ابن إسحاق في سيرته، سيرة ابن هشام 4: 275، ورواه أحمد في مسنده 6: 11، وابن سعد في الطبقات 4 / 2 / 22 و2 / 1 / 96 (بغير إسناد) ، والطبري في تاريخه 3: 106، وابن عبد البر في الاستيعاب: 285، وابن الأثير في أسد الغابة 3: 77، وابن كثير في تفسيره 2: 545، والحافظ ابن حجر في ترجمة"عبد الله بن أبي حدرد"، والسيوطي في الدر المنثور 2: 199، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والطبراني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم والبيهقي، وكلاهما في الدلائل. وفي إسناد هذا الأثر اضطراب شديد أرجو أن أبلغ في بيانه بعض ما أريد في هذا المكان. 1- وإسناد محمد بن إسحاق في سيرة ابن هشام: "حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد". 2- وإسناد أحمد في مسنده: "حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق (وفي المطبوعة: عن إسحاق، خطأ صوابه من تفسير ابن كثير) ، حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد". 3- وإسناد الطبري في تاريخه: "حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد= وقال بعضهم: عن ابن القعقاع= عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد". 4- وإسناد ابن سعد في الطبقات: "أخبرنا محمد بن عمر قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه". والأسانيد الثلاثة الأولى، وإسناد الطبري في التفسير، جميعها من طريق محمد بن إسحاق، وقد اتفق إسناد أحمد وإسناد ابن إسحاق في سيرة ابن هشام. وأما إسنادا الطبري فقد خالف ما اتفق عليه أحمد وابن هشام في السيرة، فجاء في التفسير هنا"عن أبي القعقاع" لا"عن القعقاع"، ثم زاد الطبري الأمر إشكالا في التاريخ فقال"عن أبي القعقاع.. عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد"، فزاد"عن أبيه"، ولا ذكر لها في تفسيره، ولا في سائر الأسانيد، والظاهر أنه خطأ، وأن صوابه كما في التفسير"عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد". وأما إسناد ابن سعد، فقد خالف هذا كله فجعل مكان"القعقاع"، أو "أبي القعقاع"، "عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد"، ولم أجد لعبد الرحمن هذا ذكرًا في كتب تراجم الرجال. وجاء ابن عبد البر في الاستيعاب 2: 452، بما هو أغرب من هذا، فسماه"عبد ربه بن أبي حدرد الأسلمي"، وليس له ذكر في كتاب. ولكني وجدت في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 2 / 228"عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي"، سمع أبا هريرة. روى عنه أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان المديني. ولا أظنه هذا الذي في إسناد ابن سعد. (انظر أيضًا تهذيب التهذيب 6: 160) . وأما "القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد" فقد ترجم البخاري في الكبير 4 / 1 / 187، لصحابي هو"القعقاع بن أبي حدرد الأسلمي" وامرأته"بقيرة"، وهو كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة، أخو"عبد الله بن أبي حدرد" ثم عقب البخاري على هذه الترجمة بقوله: "ويقال: القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، ولا يصح"، يعني أنه هذا الأخير لا تصح له صحبة، وأنه غير الأول. وكذلك فعل ابن أبي حاتم 3 / 2 / 136، كمثل ما في التاريخ الكبير. أما الحافظ في تعجيل المنفعة: 344، فقد ترجم للقعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ووهم في نقله عن البخاري، فظن البخاري قد ترجم له، فذكر في ترجمته ما قال البخاري في ترجمة"القعقاع بن أبي حدرد"، مع أنه صحح ذلك في ترجمة"القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد" في القسم الثالث من الإصابة. أما ما ذكره الطبري من أنه"أبو القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد" أو "ابن القعقاع"، فلم أجده في مكان آخر، ولكني تركت ما كان في نص إسناده في التفسير"أبو القعقاع"، مع أنه لا ذكر له في الكتب ولا ترجمة، لأنه وافق ما في التاريخ، ولأن ما رواه من قوله: "ويقال: ابن القعقاع"، يستبعد معه كل تحريف أو زيادة من ناسخ أو غيره. هذا، وقد جاء في إسناد آخر في التاريخ 3: 125 عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق، عن ابن شهاب الزهري، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، "عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد". فلم يذكر اسمه، كما ذكر في الإسناد السالف، كما سيأتي في الإسناد التالي أيضًا: "عن ابن أبي حدرد، عن أبيه". وهذا اضطراب غريب في إسناده، أردت أن أجمعه في هذا المكان، لأني لم أجد أحدًا استوفى ما فيه، وعسى أن يتوجه لباحث فيه رأي، وكتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 10213- حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا المحاربي عبد الرحمن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه بنحوه. (1) 10214- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لحق ناسٌ من المسلمين رجلا في غُنَيْمة له، فقال: السلام عليكم! فقتلوه وأخذوا تلك الغُنَيْمة، فنزلت هذه الآية:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، تلك الغُنَيْمة. (2) 10215- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس بنحوه. 10216- حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن   (1) الأثر: 10213 - انظر التعليق على الأثر السالف."هارون بن إدريس الأصم" شيخ الطبري، مضى برقم: 1455. و"المحاربي""عبد الرحمن بن محمد بن زياد" مضى برقم: 221، 875، 1455. (2) "الغنيمة" تصغير"غنم"، وهو قطيع من الغنم. وإنما أدخلت التاء في"غنيمة"، لأنه أريد بها القطعة من الغنم. وانظر ما قاله أبو جعفر في دخول هذه التاء فيما سلف 6: 412، 413. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 عطاء، عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلا ثم ذكر مثله. (1) 10217- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سُلَيم على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في غنم له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلّم عليكم إلا ليتعوذَ منكم! فَعَمَدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" إلى آخر الآية. 10218- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (2) 10219- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الرجل يتكلم بالإسلام، ويؤمن بالله والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت سريَّة محمدٍ صلى الله عليه   (1) الأثر: 10216 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة. و"سعيد بن الربيع الرازي" مضى برقم: 3791، 5312. (2) الأثران: 10217، 10218 - رواه أحمد في مسنده من طريق يحيى بن أبي بكير، وحسين بن محمد، وخلف بن الوليد، ويحيى بن آدم، جميعًا عن إسرائيل. وأرقامه في المسند: 2023، 2462، 2988، وإسناده صحيح. وقال ابن كثير في تفسيره 2: 544: "ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى، وعبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن إسرائيل به. وقال في بعض كتبه غير التفسير: وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط (هكذا في الأصل) . وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما، لعلل، منها: أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا عن هذا الوجه= ومنها: أن عكرمة في روايته عندهم نظر= ومنها: أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه، فقال بعضهم: نزلت في محلم بن جثامة. وقال بعضهم: أسامة بن زيد. وقيل غير ذلك. قلت [القائل ابن كثير] : وهذا كلام غريب، وهو مردود من وجوه، أحدها: أنه ثابت عن سماك، حدث به غير واحد من الأئمة الكبار. الثاني: أن عكرمة محتج به في الصحيح. الثالث: أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس.." وهذا الذي نقله ابن كثير من بعض كتب أبي جعفر، أرجح، بل أقطع، أنه في كتابه تهذيب الآثار، وبيانه هذا الذي نقله ابن كثير، مطابق لنهجه في تهذيب الآثار، ونقلت هذا هنا للفائدة، ولأنه أول نقل رأيته في تفسير ابن كثير عن تهذيب الآثار فيما أرجح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 وسلم أخبر بها حيّه= يعني قومه= ففرّوا، وأقام الرجل لا يخافُ المؤمنين من أجل أنه على دينهم، حتى يلقاهم فيلقي إليهم السلام، فيقولُ المؤمنون:"لست مؤمنًا"، وقد ألقى السلام فيقتلونه، فقال الله تبارك وتعالى:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، إلى"تبتغون عرض الحياة الدنيا"، يعني: تقتلونه إرادةَ أن يحلَّ لكم ماله الذي وجدتم معه -وذلك عرضُ الحياة الدنيا- فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل الله. وهو رجل اسمه"مِرْداس"، جَلا قومه هاربين من خيلٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليها رجل من بني لَيْث اسمه"قُليب"، (1) ولم يجلُ معهم، (2) وإذْ لقيهم مرداس فسلم عليهم قتلوه، (3) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته، ورد إليهم ماله، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك. 10220- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، الآية، قال: وهذا الحديث في شأن مرداس، رجل من غطفان، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشًا عليهم غالب اللَّيثي إلى أهل فَدَك، وبه ناس من غطفان، وكان مرداس منهم، ففرّ أصحابه، فقال مرداس:"إني مؤمن وإنيّ غيرُ مُتّبعكم، فصبَّحته الخيلُ غُدْوة، (4) فلما لقوه سلم عليهم مرداس، فرماه   (1) انظر الاختلاف في اسمه"قليب" بالقاف والباء، أو فليت" بالفاء والتاء، في الإصابة في موضعه. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ولم يجامعهم" وظاهر أنه تحريف من الناسخ، صوابه ما أثبت. (3) في المطبوعة: "إذا لقيهم مرداس فسلم عليهم فقتلوه" وأثبت ما في المخطوطة إلا أني جعلت"وإذا""وإذ"، لأن السياق يقتضيها. (4) "صبحتهم الخيل (بفتحتين) وصبحتهم (بتشديد الباء) ": أتتهم صباحًا، وكانت أكثر غاراتهم في الصباح. و"الغدوة" (بضم فسكون) : البكرة، ما بين صلاة الغداة (الفجر) وطلوع الشمس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه، (1) وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل الله جل وعز في شأنه:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون، وبها يُحَيِّي بعضهم بعضًا. (2) 10221- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا"، (3) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضَمْرة، فلقوا رجلا منهم يدعى مِرداس بن نهيك، معه غُنَيْمة له وجمل أحمر. فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتّبعه أسامة. فلما بلغ مرداسٌ الكهفَ، وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال:"السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". فشدّ عليه أسامة فقتله، من أجل جمله وغُنَيْمته. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبَّ أن يُثْنَى عليه خيرٌ، ويسأل عنه أصحابَه. فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدِّثون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله، لو رأيت أسامة ولقيه رجل، فقال الرجل:"لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، فشد عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيفَ أنت ولا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما قالها متعوذًا، تعوَّذ بها!. فقال   (1) في المخطوطة: "فدعاه" وهو تحريف، صواب ما أثبت. وفي المطبوعة: "فتلقوه"، وهو رديء، خير منه ما في الدر المنثور: "فتلقاه". (2) الأثر: 10220 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 200، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. (3) كان في المطبوعة: " ... عرض الحياة الدنيا، الآية، قال: بعث ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان الناسخ قد غفل فأسقط من الآية في كتابته: "كذلك كنتم من قبل". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ قال: يا رسول الله، إنما قلبه بَضْعة من جسده! (1) فأنزل الله عز وجل خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول:"تبتغون عرض الحياة الدنيا"، فلما بلغ:"فمنَّ الله عليكم"، يقول: فتاب الله عليكم، فحلف أسامةُ أن لا يقاتل رجلا يقول:"لا إله إلا الله"، بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. 10222- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: بلغني أن رجلا من المسلمين أغار على رجل من المشركين فَحَمَل عليه، فقال له المشرك:"إنّي مسلم، أشهد أن لا إله إلا الله"، فقتله المسلم بعد أن قالها. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذي قتله: أقتلته، وقد قال لا إله إلا الله؟ فقال، وهو يعتذر: يا نبي الله، إنما قالها متعوذًا، وليس كذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا شققت عن قلبه؟ ثم ماتَ قاتلُ الرجل فقُبر، فلفظته الأرض. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يقبروه، ثم لفظته الأرض، حتى فُعل به ذلك ثلاث مرات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الأرض أبتْ أن تقبَله، فألقوه في غارٍ من الغيران= قال معمر: وقال بعضهم: إن الأرض تَقْبَل من هو شرٌّ منه، ولكن الله جعله لكم عِبْرَة. 10223- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: أن قومًا من المسلمين لقوا رجلا من المشركين في غُنَيْمة له، فقال:"السلام عليكم، إنِّي مؤمن"، فظنوا أنه يتعوّذ بذلك، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمته. قال: فأنزل الله جل وعز:"ولا تقولوا لمن   (1) "البضعة" (بفتح فسكون) : القطعة من اللحم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، تلك الغُنَيْمة="كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا". 10224- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، قال: خرج المقداد بن الأسود في سريّة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمُّروا برجل في غُنَيْمة له، فقال:"إنّي مسلم"، فقتله المقداد. (1) فلما قدموا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، قال: الغنيمة. (2) 10225- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء= = فذكر من قصة أبي الدرداء، نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد، وقد ذكرت في تأويل قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، (3) ثم قال في الخبر: = ونزل الفرقان:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، فقرأ حتى بلغ:"لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، غنمه التي كانت، عرض الحياة الدنيا ="فعند الله مغانم كثيرة"، خير من تلك الغنم، إلى قوله:"إن الله كان بما تعملون خبيرًا".   (1) في المخطوطة: "فقتله الأسود"، والصواب ما في المطبوعة، أو أن تكون: "فقتله ابن الأسود". (2) الأثر: 10224-"حبيب بن أبي عمرة" القصاب، بياع القصب، ويقال"اللحام"، أبو عبد الله الحماني. روى عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأم الدرداء. روى عنه الثوري وجماعة. قال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب. (3) انظر ما سلف رقم: 10221. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 10226- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: راعي غنم، لقيه نفر من المؤمنين فقتلوه، (1) وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا منه:"السلام عليكم، فإني مؤمن". 10227- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: حرم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله:"لست مؤمنًا"، كما حرم عليهم الميْتَة، فهو آمن على ماله ودمه، لا تردّوا عليه قوله. * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"فَتَبَيَّنُوا". فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين وبعضُ الكوفيين والبصريين: (فَتَبَيَّنُوا) بالياء والنون، من"التبين" بمعنى، التأني والنظر والكشف عنه حتى يتَّضح. (2) وقرأ ذلك عُظْم قرأة الكوفيين: (فَتَثَبَّتُوا) ، بمعنى التثبُّت، الذي هو خلاف العَجَلة. قال أبو جعفر: والقولُ عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة المسلمين بمعنى واحد، وإن اختلفت بهما الألفاظ. لأن"المتثبت" متبيّن، و"المتبيِّن" متثبِّت، فبأي القراءتين قرأ القارئ، فمصيبٌ صوابَ القراءة في ذلك. واختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم". (3)   (1) في المخطوطة: "بعثه نفر من المؤمنين"، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة. (2) انظر تفسير"التبين" فيما سلف ص: 70. (3) في المطبوعة: " ... السلام" بالألف، والصواب إثباتها كرسم المصحف هنا، حتى يظهر سياق اختلاف القراءة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين والكوفيين: (السَّلَمَ) بغير ألف، بمعنى الاستسلام. * * * وقرأ بعض الكوفيين والبصريين: (السَّلامَ) بألف، بمعنى التحية. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) ، بمعنى: من استسلم لكم، مذعنًا لله بالتوحيد، مقرًّا لكم بملَّتكم. وإنما اخترنا ذلك، لاختلاف الرواية في ذلك: فمن راوٍ رَوى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحق وقال:"إنّي مسلم" = ومن راوٍ رَوى أنه قال:"السلام عليكم"، فحياهم تحية الإسلام= ومن راوٍ رَوى أنه كان مسلمًا بإسلامٍ قد تقدم منه قبل قتلهم إياه= وكل هذه المعاني يجمعه"السَّلَم"، لأن المسلم مستسلم، والمحيي بتحية الإسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحق مستسلم لأهل الإسلام، فمعنى"السَّلم" جامع جميع المعاني التي رُويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الآية وليس ذلك في"السلام"، (1) لأن"السلام" لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية. فلذلك وصفنا"السلم"، بالصواب. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كذلك كنتم من قبل". فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السَّلَم، مستخفيًا في قومه بدينه خوفًا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرًا على أنفسكم منهم، فمنَّ الله عليكم. *ذكر من قال ذلك: 10228- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن   (1) في المطبوعة: "وليس كذلك في الإسلام"، والصواب الجيد من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله:"كذلك كنتم من قبل"، تستخفون بإيمانكم، (1) كما استخفى هذا الراعي بإيمانه. 10229- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير:"كذلك كنتم من قبل"، تكتمون إيمانكم في المشركين. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه، بعد ما ألقى إليكم السلم، (2) كافرًا، كنتم كفارًا، فهداه كما هداكم. *ذكر من قال ذلك: 10230- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم"، كفارًا مثله="فتبينوا". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الأول، وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمون بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيمًا بين أظهر قومه من المشركين مستخفيًا بدينه منهم. وإنما قلنا:"هذا التأويل أولى بالصواب"، لأن الله عز ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلم ولم يُقَدْ به قاتلوه، (3) للبْس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنِّهم أنه ألقى   (1) في المخطوطة: "مستخفون بإيمانكم"، وما في المطبوعة أجود. (2) قوله"كافرًا" ليس في المخطوطة، والسياق يقتضيها كما في المطبوعة، وانظر اعتراض أبي جعفر بعد، فهو يوجب إثبات هذه الكلمة في هذا الموضع. (3) في المطبوعة في هذا الموضع وما يليه"السلام" مكان"السلم"، ولكني أثبت ما في المخطوطة، لأن تفسير أبي جعفر جار على"السلم" لا على"السلام". وقوله: "لم يقد" بالبناء للمجهول من"القود" (بفتح القاف والواو) وهو القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل، يقال منه"أقدته به أقيده إقادة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 السلم إلى المؤمنين تعوّذًا منهم، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركًا فيقال:"كما كان كافرًا كنتم كفارًا"، بل لا وجه لذلك، لأن الله جل ثناؤه لم يعاتب أحدًا من خلقه على قتل محارِبٍ لله ولرسوله من أهل الشرك، بعد إذنه له بقتلِه. واختلف أيضًا أهل التأويل في تأويل قوله:"فمنّ الله عليكم". فقال بعضهم: معنى ذلك: فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتتمون به من أهل الشرك. (1) *ذكر من قال ذلك: 10231- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير:"فمن الله عليكم"، فأظهر الإسلام. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فمن الله عليكم= أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلم (2) طلبَ عرض الحياة الدنيا= بالتوبة من قتلكم إياه. *ذكر من قال ذلك: 10232- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن الله عليكم"، يقول: تاب الله عليكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدِّلالة على أن معنى قوله:"كذلك كنتم من قبل"، ما وصفنا قبل. فالواجب أن يكون عَقِيب ذلك:"فمن الله عليكم"،   (1) في المطبوعة: "بعد ما كانوا يكتمونه"، والجيد ما في المخطوطة."يكتتمون به"، يستخفون به. (2) في المخطوطة: "أيها القاتلو الذي ألقي إليكم السلم"، وهو لا بأس به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم، بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته، حِذَارًا من أهل الشرك. (1) * * *   (1) في المطبوعة: "حذرًا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون"، لا يعتدل المتخلِّفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله، المؤثرون الدعةَ والخَفْض وَالقُعودَ في منازلهم على مُقاساة حُزُونة الأسفار والسير في الأرض، ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله، وقتالهم في طاعة الله، إلا أهل العذر منهم بذَهَاب أبصارهم، وغير ذلك من العِلل التي لا سبيل لأهلها -للضَّرَر الذي بهم- إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله="والمجاهدون في سبيل الله"، ومنهاج دينه، (1) لتكون كلمة الله هي العليا، المستفرغون طاقَتهم في قتال أعداءِ الله وأعداءِ دينهم= بأموالهم، إنفاقًا لها فيما أوهَن كيد أعداء أهل الإيمان بالله - وبأنفسهم، مباشرة بها قتالهم، بما تكون به كلمة الله العالية، وكلمة الذين كفروا السافلة. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"غير أولي الضرر". * * * فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة ومكة والشأم (غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ) ، نصبًا، بمعنى: إلا أولي الضرر. وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة والبصرة: (2) (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) برفع"غير"،   (1) انظر تفسير"في سبيل الله" فيما سلف ... ، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "قرأة أهل العراق والكوفة والبصرة"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 على مذهب النّعت"للقاعدين". قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ) بنصب"غير"، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله:"غير أولي الضرر"، نزل بعد قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم"، استثناءً من قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون". * * * ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك: 10233- حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ائتوني بالكتف والَّلوح، فكتب (1) "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون"، وعمرو بن أم مكتوم خلف ظَهره، فقال: هل لي من رُخصة يا رسول الله؟ فنزلت:"غير أولي الضرر". (2) 10234- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي   (1) في المطبوعة"فكتب"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الحديث: 10233 - هذا حديث البراء بن عازب، في شأن نزول قوله تعالى (غير أولي الضرر) - وقد رواه الطبري هنا بسبعة أسانيد. خمسة منها في نسق: 10233 - 10237، ثم: 10248، 10249. وأبو إسحاق -فيها كلها-: هو أبو إسحاق السبيعي. فهذا الحديث أولها، "عن نصر بن علي الجهضمي" - رواه الترمذي 3: 19، عن نصر بن علي، بهذا الإسناد. وكذلك رواه النسائي 2: 54، عن نصر بن علي. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 40 - بتحقيقنا- عن محمد بن عمر بن يوسف، عن نصر بن علي. وقوله: "فكتب: لا يستوي" - إلخ: يعني أمر بالكتابة. وهذا هو الثابت في المطبوعة"فكتب" بالفاء. وهو الموافق لما في الترمذي، والنسائي، وابن حبان، وفي المخطوطة"وكتب" بالواو. فأثبتنا الموافق دون المخالف، وإن كان المعنى واحدًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 إسحاق، عن البراء قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، جاء ابن أم مكتوم وكان أعمى، فقال: يا رسول الله، كيف وأنا أعمى؟ فما برح حتى نزلت:"غير أولي الضرر". (1) 10235- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، قال: لما نزلت، جاء عمرو ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ضريرَ البصر، فقال: يا رسول الله، ما تأمرني، فإني ضرير البصر؟ فأنزل الله هذه الآية، فقال: ائتوني بالكتف والدواة، أو: اللوح والدواة. (2) 10236- حدثني إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرَّملي قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء: أنه لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، كلمه ابن أم مكتوم، فأنزلت:"غير أولي الضرر". (3)   (1) الحديث: 10234 - هو تكرار للحديث قبله، على ما في سفيان بن وكيع من ضعف. ولكنه سمع من أبي بكر بن عياش، أبو بكر سمع من أبي إسحاق السبيعي. والحديث في ذاته صحيح من هذا الوجه: فقد رواه النسائي 2: 54، عن محمد بن عبيد، عن أبي بكر بن عياش، به. (2) الحديث: 10235 - سفيان بن وكيع لم ينفرد بروايته عن أبيه عن سفيان الثوري: فقد رواه أحمد في المسند 4: 290، 299 (حلبي) ، عن وكيع، عن الثوري - بهذا الإسناد. وكذلك رواه الترمذي 4: 90-91، عن محمود بن غيلان، عن وكيع، به. وقال: "هذا حديث حسن صحيح. ويقال: عمرو بن أم مكتوم. ويقال: عبد الله بن أم مكتوم. وهو عبد الله بن زائدة. وأم مكتوم: أمه". (3) الحديث: 10236- إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي، أبو محمد: ثقة من شيوخ ابن أبي حاتم، ترجمه في 1 / 1 / 158، وقال: "كتبنا عنه، وهو صدوق". ولكن عنده"السلال" بدل"الدلال" - ولم نجد مرجحًا، فأثبتنا ما ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة. ولكن فيه خطأ في المطبوعة: "محمد بن إسماعيل" بزياة"محمد بن" وليست في المخطوطة، فحذفناها. ويؤيد ذلك أن الطبري نفسه روى عنه في التاريخ 2: 273، بهذا الإسناد، عن البراء في عدة أصحاب طالوت، وسماه هناك"إسماعيل بن إسرائيل الرملي". وحديث البراء في عدة أصحاب طالوت، مضى بأسانيد: 5724 - 5729، ولكن ليس فيها هذا الإسناد الذي في التاريخ. عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي، سكن مصر: ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 158، وروى عن أبيه، قال: "ليس بالقوي". ولم يذكر أنه يروي عن مسعر، ولكن روايته عنه ثابتة في تهذيب الكمال للحافظ المزي، ص: 1322 (مخطوط مصور) ، في ترجمة مسعر، في الرواة عنه، وكذلك ثبت في ترجمته هو في لسان الميزان 3: 332 - 333 أنه يروي عن مسعر. وفي ترجمته هذه ما يدل على جرحه جرحًا شديدًا، يسقط روايته. والحديث من رواية مسعر - ثابت صحيح، من غير رواية عبد الله بن محمد بن المغيرة هذا. فرواه مسلم 2: 101، عن أبي كريب، عن ابن بشر، وهو محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي الحافظ، عن مسعر، به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 10237- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، أنه سمع البراء يقول في هذه الآية:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فجاء بكتف فكتبها. قال: فشكا إليه ابن أم مكتوم ضَرَارته، فنزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر". = قال شعبة، وأخبرني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد في هذه الآية:"لا يستوي القاعدون"، مثل حديث البراء. (1)   (1) الحديث: 10237 - إبو إسحاق: هو السبيعي، كما قلنا آنفًا. ووقع في المطبوعة"عن ابن إسحاق"، وهو خطأ يقينًا. وثبت على الصواب في المخطوطة. والحديث رواه أحمد في المسند 4: 282 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. ورواه مسلم 2: 100-101، عن محمد بن المثنى (شيخ الطبري هنا) ، وعن محمد بن بشار - كلاهما عن محمد بن جعفر، به. ورواه أبو داود الطيالسي: 705، عن شعبة، به. ورواه أحمد أيضا 4: 284، عن عفان و299-300، عن عبد الرحمن (وهو ابن مهدي) - كلاهما عن شعبة. ورواه البخاري 6: 34 (فتح) ، والدارمي 2: 209 - كلاهما عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 41 (بتحقيقنا) ، عن أبي خليفة، عن أبي الوليد الطيالسي، به. ورواه البخاري أيضًا 8: 196 (فتح) ، عن حفص بن عمر، عن شعبة. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 23، بإسنادين، من طريق حفص بن عمر. وهذا كله عن أصل الحديث، حديث البراء. وأما الإسناد الآخر الملحق به هنا: "شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد" - وهو ابن ثابت: فإنه في الحقيقة حديث آخر بإسناد آخر، فيه رجل مبهم. فيكون إسناده ضعيفًا. وحديث زيد بن ثابت -في نفسه- صحيح، وسيأتي: 10239، 10240. وأما من هذا الوجه الضعيف، فقد رواه مسلم أيضًا، تبعًا لحديث البراء هذا، كمثل صنيع الطبري هنا. وبالضرورة ليس هذا الإسناد على شرط الصحيح عند مسلم. وإنما ساقه تمامًا للرواية عن شعبة، كما سمعه. ومن العجب أن لم يتحدث عنه النووي في شرحه 13: 42، ولم يذكر علته. ومن عجب أيضًا أن لم يذكره الحافظ المزي في باب (المبهمات) من تهذيب الكمال، ولا ذكره أحد من فروعه - مع أنه في صحيح مسلم بروايتين: "عن سعد بن إبراهيم، عن رجل، عن زيد"، و"عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد". ثم لما نعرف هذا الرجل المبهم. وسعد: هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وأبوه: من كبار التابعين، فمن المحتمل جدًا أن يكون شيخه الرجل المبهم هنا صحابيًا. ولكنا لا نستطيع ترجيح ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 10238- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، ما لي رخصة؟ قال: لا! قال ابن أم مكتوم: اللهم إني ضرير فرخِّص! فأنزل الله:"غير أولي الضرر"، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبها= يعني: الكاتب. (1)   (1) الحديث: 10238 - إسحاق بن سليمان الرازي العبدي: مضى توثيقه في: 6456. أبو سنان الشيباني: هو الأصغر الكوفي، واسمه"سعيد بن سنان البرجمي". وهو ثقة، تكلم فيه من أجل بعض خطئه. وقد مضت ترجمته في: 175. وقد وهم الحافظ في الفتح 8: 196 وهمًا شديدًا، حين أشار إلى هذا الحديث من رواية الطبراني -كما سيأتي- فزعم أنه"ضرار بن مرة"! وهو أبو سنان الشيباني الأكبر. والذي يروي عن أبي إسحاق السبيعي ويروي عنه إسحاق بن سليمان الرازي - هو"أبو سنان الشيباني الأصغر، سعيد بن سنان"، كما هو بين من تهذيب الكمال وفروعه. فلم يذكر الحافظ المزي في ترجمتيهما إلا ما قلنا. وأبو إسحاق: هو السبيعي، كما ذكرنا آنفًا. ووقع في المطبوعة"عن ابن إسحاق". وهو خطأ، صوابه ما أثبتنا عن المخطوطة. وهو الثابت في الرواية. والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص9، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 196 -كما قلنا آنفًا. وذكر أنه عند الطبراني، وعلله بأن"المحفوظ: عن أبي إسحاق عن البراء. كذا اتفق الشيخان عليه من طريق شعبة ... "، ثم أشار إلى كثير من الروايات التي ذكرها الطبري هنا وفيما يأتي. ولسنا نرى هذا علة لذاك، ولا ذاك علة لهذا، فالقصة مشهورة وقد رواها أيضًا زيد بن ثابت، كما سيأتي: 10239، 10240. ورواها أيضًا الفلتان بن عاصم الجرمي الصحابي، مطولة. ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص9. وقال: "رواه أبو يعلى، والبزار بنحوه، والطبراني بنحوه ... ورجال أبي يعلى ثقات". وذكره الحافظ في الإصابة 5: 213 في ترجمة الفلتان، من رواية الحسن بن سفيان في مسنده، ثم ذكر أنه رواه ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن حبان في صحيحه. وذكره السيوطي 2: 203-204، وزاد نسبته لعبد بن حميد. ورواها ابن عباس، كما سيأتي: 10242. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 10239- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سهل بن سعد قال: رأيت مروان بن الحكم جالسًا، فجئت حتى جلست إليه، فحدَّثنا عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ! قال: فأنزل عليه وفخذُه على فخذي، فثقلت، فظننتُ أن تُرَضَّ فخذي، ثم سُرِّي عنه، فقال:"غير أولي الضرر". (1)   (1) الحديث: 10239 - رواه النسائي 2: 54، عن محمد بن عبد الله بن بزيع، أحد شيخي الطبري هنا - بهذا الإسناد. ورواه أحمد في المسند 5: 184 (حلبي) ، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري، به، ولم يذكر لفظه كاملا، أحاله على رواية قبيصة بن ذؤيب قبله. وهي الرواية التي ستأتي هنا عقب هذا. ورواه البخاري 8: 195-196 (فتح) ، من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح، به. ورواه الترمذي 4: 92، والنسائي 2: 54، وابن الجارود، ص: 460 - كلهم من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه. ورواه البيهقي 9: 23، من طريق إبراهيم بن سعد. وذكره السيوطي 2: 202-203، وزاد نسبته لابن سعد، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن المنذر، وأبي نعيم في الدلائل. "رض الشيء يرضه رضا": كسره. و"سُري عنه" (بالبناء للمجهول) : أي كشف عنه وتجلى ما كان يأخذه من الكرب عند نزول الوحي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 10240- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فجاء عبد الله بن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، إني أحبُّ الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الزَّمَانة ما قد ترى، قد ذهب بصري! قال زيد: فثقلت فخِذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يَرُضَّها، ثم قال: اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله". (1) 10241- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني عبد الكريم: أن مقسمًا مولى عبد الله بن الحارث أخبره: أن ابن عباس أخبره قال:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، عن بدر، والخارجون إلى بدر. (2)   (1) الحديث: 10240 - هو في معنى الحديث السابق عن زيد بن ثابت، ولكنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عنه. وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة: تابعي كبير ثقة، كما مضى في: 5471 وهو مترجم في التهذيب وغيره، وفي الإصابة 5: 271-272. والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: 48 (مخطوط مصور) . ورواه أحمد في المسند 5: 184 (حلبي) ، عن عبد الرزاق. وذكره ابن كثير 2: 549، من تفسير عبد الرزاق، ثم قال: "رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 195، ونسبه لأحمد فقط. (2) الحديث: 10241 - هذا الحديث ليس في تفسير عبد الرزاق، فلعله في المصنف. ولم يروه أحمد في المسند، فيما وصل إليه تتبعي. وقد رواه البخاري 8: 196-197، هكذا مختصرًا، من طريق هشام، عن ابن جريج، ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج. وذكره ابن كثير 2: 549، وقال: "انفرد به البخاري دون مسلم". وذكره السيوطي 2: 203، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وسيأتي عقيب هذا، بأطول منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 10242- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، أخبرني عبد الكريم: أنه سمع مقسمًا يحدث عن ابن عباس، أنه سمعه يقول:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين" عن بدر، والخارجون إلى بدر، لما نزل غزو بدر. (1) قال عبد الله ابن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي: يا رسول الله، إنا أعميان، فهل لنا رخصة؟ فنزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة". (2) 10243- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم"، فسمع بذلك عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، فأتى رسول   (1) في المطبوعة: "لما نزلت غزوة بدر"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الحديث: 10242 - هذا هو السياق المطول للحديث السابق، وفيه قصة ابن أم مكتوم، التي مضت مرارًا من حديث البراء بن عازب، ومن حديث زيد بن أرقم، ومن حديث زيد بن ثابت - مع بعض زيادات أخر في القصة. والحديث -من هذا الوجه- رواه الترمذي 4: 91، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس". وقد نقله الحافظ في الفتح 8: 197، من رواية الترمذي، وأشار إلى رواية الطبري هنا، كما سيأتي. ونقله ابن كثير أيضا 2: 549-550، عن رواية الترمذي. ونقله السيوطي 2: 203، وزاد نسبته للنسائي، وابن المنذر، والبيهقي في سننه. ووقع في رواية الترمذي ومن نقل عنه: "وعبد الله بن جحش". بدل"وأبو أحمد بن جحش". وجزم الحافظ في الفتح بأن الصواب ما في رواية الطبري"وأبو أحمد بن جحش"، قال: "فإن عبد الله أخوه. وأما هو فاسمه: "عبد"، بغير إضافة. وهو مشهور بكنيته". و"عبد الله بن جحش" لم يكن أعمى. وقد قتل شهيدًا في غزوة أحد. وأخوه"أبو أحمد": مترجم في الإصابة 7: 3-4، وابن سعد 7 / 1 / 76-77. وجزم الحافظ في الإصابة بأن اسمه"عبد" بدون إضافة، كما قال في الفتح. وفي ابن سعد أن اسمه"عبد الله". وأخشى أن يكون خطأ طابع أو ناسخ. وقال الحافظ في الإصابة: "وكان أبو أحمد ضريرًا، يطوف بمكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وشهد بدرًا والمشاهد". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت، وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد، فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت في شأنك بشيء، وما أدري هل يكون لك ولأصحابك من رخصة! فقال ابن أم مكتوم: اللهم إني أنشدك بصري! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله" إلى قوله:"على القاعدين درجة". 10244- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فقال رجل أعمى: يا نبي الله، فأنا أحب الجهادَ ولا أستطيع أن أجاهد! فنزلت:"غير أولي الضرر". 10245- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد قال: لما نزلت هذه الآية في الجهاد:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، قال عبد الله ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إنّي ضرير كما ترى! فنزلت:"غير أولي الضرر". (1) 10246- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، عذرَ الله أهل العذر من الناس فقال:"غير أولي الضرر"، كان منهم ابن أم مكتوم="والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم".   (1) الحديث: 10245 - حصين: هو ابن عبد الرحمن السلمي. وهذا الحديث مرسل، لأن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي: تابعي من كبار التابعين وثقاتهم. ولكنه لم يذكر عمن رواه. وإن كان أصل الحديث في ذاته صحيحًا، بما ثبت في الروايات السابقة. والحديث ذكره السيوطي 2: 204 - هكذا مرسلا. ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 10247- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله" إلى قوله:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، لما ذكر فضلَ الجهاد، قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إنّي أعمى ولا أطيق الجهاد! فأنزل الله فيه:"غير أولي الضرر". 10248- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع لي زيدًا، وقل له يأتي= أو: يجيء= بالكتف والدواة= أو: اللوح والدواة= الشك من زهير= اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إن بعيني ضررًا! فنزلت قبل أن يبرَح:"غير أولي الضرر". (1) 10249- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البَرَاء بنحوه= إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدًا، وليجئني معه بكتف ودواة= أو: لوح ودواة. (2)   (1) الحديث: 10248 - هو والذي بعده من روايات حديث البراء، الذي مضى بالأسانيد: 10233-10237، كما أشرنا إليهما هناك. وهو من هذا الوجه -رواه أحمد في المسند 4: 301 (حلبي) ، عن هاشم بن القاسم، عن زهير، وهو ابن معاوية، بهذا الإسناد. (2) الحديث: 10249 - إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، راوية جده أبي إسحاق. والحديث رواه البخاري 8: 196، عن محمد بن يوسف، عن إسرائيل. ورواه البخاري أيضًا 9: 19 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 39 (بتحقيقنا) ، من طريق محمد بن عثمان العجلي، عن عبيد الله بن موسى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 10250- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون"، قال عمرو ابن أم مكتوم: يا رب، ابتليتني فكيف أصنع؟ قال: فنزلت:"غير أولي الضرر". (1) وكان ابن عباس يقول في معنى:"غير أولي الضرر" نحوًا مما قلنا. 10251- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"غير أولي الضرر"، قال: أهل الضرر. * * * القول في تأويل قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، على القاعدين من أولي الضرر، درجة واحدة= يعني: فضيلة واحدة (2) = وذلك بفضل جهاده بنفسه، فأما فيما سوى ذلك، فهما مستويان، كما:-   (1) الحديث: 10250 - زياد بن فياض الخزاعي الكوفي: مضت ترجمته وتوثيقه في: 1382. وشيخه"أبو عبد الرحمن": لم أعرف من هو، ولم أجد قرينة تعين شيخًا بعينه؟ و"أبو عبد الرحمن": كنيته واسعة فيها كثرة كثيرة. وأيا ما كان فهو -على الأكثر- من التابعين، لأن زياد بن فياض لا يرتفع في روايته فوق التابعين. فيكون الحديث مرسلا غير موصول. وهكذا ذكره السيوطي 2: 204، على هذا الوجه من الإرسال، ونسبه لابن سعد، وعبد بن حميد، والطبري. (2) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 533-536 / 7: 368. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 10252- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك: أنه سمع ابن جريج يقول في:"فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"، قال: على أهل الضرر. * * * القول في تأويل قوله: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، وعد الله الكلَّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، (1) والقاعدين من أهل الضرر="الحسنى"، ويعني جل ثناؤه: بـ "الحسنى"، الجنة، كما:- 10253- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، وهي الجنة، والله يؤتي كل ذي فضل فضلَه. 10254- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"الحسنى"، الجنة. وأما قوله:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا"، فإنه يعني: وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر، أجرًا عظيمًا، كما:- 10255- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،   (1) انظر ما قاله في"كل" فيما سلف 3: 195 / 5: 509 / 6: 210. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 عن أبي جريج:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه ومغفرة"، قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر. * * * القول في تأويل قوله: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"درجات منه"، فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة. (1) * * * واختلف أهل التأويل في معنى"الدرجات" التي قال جل ثناؤه:"درجات منه". فقال بعضهم بما:- 10256- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"درجات منه ومغفرة ورحمة"، كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد دَرَجة. * * * وقال آخرون بما:- 10257- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله تعالى:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه"،"الدرجات" هي السبع التي ذكرها في"سورة براءة": (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) فقرأ حتى بلغ:   (1) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 533، 536 / 7: 368، وما مضى ص: 95، تعليق: 2 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 (أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة التوبة: 120-121] . قال: هذه السبع الدرجات. قال: وكان أول شيء، فكانت درجة الجهاد مُجْملة، فكان الذي جاهد بماله له اسمٌ في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفصيل أخرج منها، فلم يكن له منها إلا النفقة، فقرأ: (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) ، وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً) ، قال: وهذه نفقة القاعد. * * * وقال آخرون: عنى بذلك درجات الجنة. ذكر من قال ذلك. 10258- حدثنا علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة بن سحيم. عن ابن محيريز في قوله:"فضل الله المجاهدين على القاعدين"، إلى قوله:"درجات"، قال: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المُضَمَّر سبعين سنة. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل قوله:"درجات منه"، أن يكون معنيًّا به درجات الجنة، كما قال ابن محيريز. لأن قوله تعالى ذكره:"درجات منه": ترجمة وبيان عن قوله:"أجرًا عظيمًا"، ومعلوم أن"الأجر"، إنما هو الثواب والجزاء. (2)   (1) الأثر: 10258 -"علي بن الحسين الأزدي"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة، وقد روى عنه في تاريخه في مواضع منها 1: 44، 49 / 6: 73، 143. و"الأشجعي"، هو: "عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي" مضت ترجمته برقم: 8622. و"سفيان"، هو الثوري. و"هشام بن حسان القردوسي" مضى برقم 2827، 7287. و"جبلة بن سحيم" مضى برقم: 3003. و"ابن محيريز"، هو عبد الله بن محيريز، مضى برقم: 8720. و"حضر الفرس" ارتفاعه في عدوه، "أحضر الفرس يحضر إحضارًا"، عدا عدوًا شديدًا. و"الفرس المضمر"، وهو الذي أعد إعدادًا للسباق والركض. (2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 8: 542، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 وإذْ كان ذلك كذلك، وكانت"الدرجات" و"المغفرة" و"الرحمة" ترجمة عنه، كان معلومًا أن لا وجه لقول من وجَّه معنى قوله:"درجات منه"، إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد، كما قال قتادة وابن زيد: وإذ كان ذلك كذلك، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا، فبيِّنٌ أن معنى الكلام: وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر، أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلا وهو درجات أعطاهموها في الآخرة من درجات الجنة، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله. * * * ="ومغفرة" يقول: وصفح لهم عن ذنوبهم، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها= "ورحمة"، يقول: ورأفة بهم="وكان الله غفورًا رحيمًا"، يقول: ولم يزل الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين، يصفح لهم عن العقوبة عليها (1) ="رحيما" بهم، يتفضل عليهم بنعمه، مع خلافهم أمره ونهيه، وركوبهم معاصيه. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "فيصفح" بزيادة الفاء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الجيد. (2) انظر تفسير"المغفرة"، و"الرحمة"، و"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إن الذين توفَّاهم الملائكة"، إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة (1) ="ظالمي أنفسهم"، يعني: مكسبي أنفسهم غضبَ الله وسخطه. * * * وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى قبل. (2) * * * ="قالوا فيم كنتم"، يقول: قالت الملائكة لهم:"فيم كنتم"، في أيِّ شيء كنتم من دينكم="قالوا كنا مستضعفين في الأرض"، يعني: قال الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم:"كنا مستضعفين في الأرض"، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعونا من الإيمان بالله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، معذرةٌ ضعيفةٌ وحُجَّة واهية="قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، (3) وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الأرض التي   (1) انظر تفسير"التوفي" فيما سلف 6: 455 / 8: 73. (2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة. (3) انظر تفسير"الهجرة" فيما سلف 4: 317، 318 / 7: 490. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحِّدوا الله فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيَّه؟ = يقول الله جل ثناؤه:"فأولئك مأواهم جهنم"، أي: فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم= الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم="مأواهم جهنم"، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم (1) ="وساءت مصيرًا"، يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها (2) ="مصيرًا" ومسكنًا ومأوى. (3) ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون="من الرجال والنساء والولدان"، وهم العجزة عن الهجرة= بالعُسْرة، وقلّة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق= من أرضهم أرضِ الشرك إلى أرض الإسلام، من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم: أن تكون جهنم مأواهم، للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره. (4) * * * ونصب"المستضعفين" على الاستثناء من"الهاء" و"الميم" اللتين في قوله:"فأولئك مأواهم جهنم". (5) * * * يقول الله جل ثناؤه:"فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، يعني: هؤلاء المستضعفين، يقول: لعل الله أن يعفو عنهم، للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون، فيفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة، (6) إذ لم يتركوها اختيارًا ولا إيثارًا   (1) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 7: 279، 494. (2) انظر تفسير"ساء" فيما سلف 8: 138، 358. (3) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128، 317 / 7: 366. (4) سياق هذه الجملة: "ثم استثنى الله المستضعفين ... وهم العجزة عن الهجرة ... من أرضهم ... ، من القوم ... أن تكون جهنم مأواهم"، كثر فيها تعلق حروف الجر بما سلف، فخشيت أن يتعب القارئ!! (5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 284. هذا، وقد خالف أبو جعفر نهجه هذا، وأخر الكلام في قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة" إلى آخر تفسير الآية ص: ... (6) في المطبوعة: "فيتفضل"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 منهم لدار الكفر على دار الإسلام، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النّقلة عنها (1) ="وكان الله عفوًّا غفورًا" يقول: ولم يزل الله"عفوًّا" يعني: ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده، بتركه العقوبة عليها="غفورًا"، ساترًا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. (2) * * * وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما، نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلَّفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرِض بعضهم على الفتنة فافْتُتِن، (3) وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبرًا عنهم:"قالوا كنا مستضعفين في الأرض". * * * ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا: من نزول الآية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم. 10259- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا أشعث، عن عكرمة:"إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، قال: كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله:"فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" إلى قوله:"عفوًّا غفورًا= قال ابن عباس: فأنا منهم: وأمّي منهم= قال عكرمة: وكان العباس منهم. 10260- حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم   (1) في المخطوطة: "ولكن العجز"، والذي في المطبوعة أجود. (2) انظر تفسير"عفو" و"غفور" في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة. (3) "الفتنة"، التعذيب الشديد الذي ابتلي به المؤمنون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون:"كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا"! فاستغفروا لهم، فنزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم" الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. (1) قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) [سورة العنكبوت: 10] ، إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [سورة النحل: 110] ، فكتبوا إليهم بذلك:"إن الله قد جعل لكم مخرجًا"، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقُتِل من قتل. (2) 10261- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني حيوة= أو: ابن لهيعة، الشك من يونس=، عن أبي الأسود: أنه سمع مولَى لابن عباس يقول عن ابن عباس: إن ناسًا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سَوَاد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدَهم   (1) في المطبوعة: "وأنه لا عذر لهم"، بزيادة"وأنه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير. (2) الأثر: 10260 -"أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي"، شيخ الطبري، ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو أحمد الزبيري" سلف مرارًا عديدة. و"محمد بن شريك المكي" أبو عمارة قال أحمد وابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 552 من تفسير ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور الرمادي، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 205، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه. وهو في السنن الكبرى 9: 14، من طريق سعدان بن نصر، عن سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، بغير هذا اللفظ. وقوله: "فأعطوهم الفتنة" هكذا جاء في جميع المراجع، إلا تفسير ابن كثير، فإن فيه: "فأعطوهم التقية"، وهو خطأ، والصواب ما في التفسير والمراجع. ومعناها: كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على الأثر الآتي رقم: 10266. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 فيقتله، أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" حتى بلغ"فتهاجروا فيها". 10262- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي قال: قُطع على أهل المدينة بَعْث إلى اليمن، فاكتُتِبْتُ فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس. فنهاني عن ذلك أشدَّ النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسًا مسلمين كانوا مع المشركين= ثم ذكر مثل حديث يونس، عن ابن وهب. (1) 10263- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) الأثران: 10261، 10262 - رواه البخاري (الفتح 8: 197، 198) بالإسناد الثاني: 10262، "عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة وغيره، قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن، أبو الأسود". ورواه البيهقي في السنن 9: 12 من طريق"محمد بن مسلمة الواسطي، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة ورجل قالا، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي" وقال: "رواه البخاري في الصحيح". والظاهر أن الرجل المبهم في إسناد البخاري والبيهقي هو"ابن لهيعة" كما جاء في الإسناد الأول. هذا وقد نقل الحافظ في الفتح (8: 198) أن الطبراني قال: "لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث واين لهيعة"، فقال الحافظ ابن حجر: "ورواية البخاري من طريق حيوة، ترد عليه. ورواية ابن لهيعة أخرجها ابن أبي حاتم أيضًا". "أبو عبد الرحمن المقرئ" هو"عبد الله بن يزيد العدوي" مضى برقم: 318، 5451، 6743. و"أبو الأسود" هو: "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي" وهو: "يتيم عروة"، مضى برقم: 2891. قوله: "قطع على أهل المدينة بعث"، قال الحافظ ابن حجر: "أي: جيش، والمعنى: أنهم ألزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام. وكان ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير على مكة" وأما "اكتتبت" فهي بالبناء للمجهول. هذا، وقد كان في المطبوعة بحذف"إلى اليمن"، وهي ثابتة في المخطوطة لا شك فيها، ولكنها غير موجودة في سائر روايات الخبر. وهي دالة على أن الحافظ قد أخطأ في اجتهاده، إذ زعم أن الجيش خرج لقتال أهل الشأم. وكأنه استخرج ذلك استنباطًا ليبرئ عكرمة مما نسب إليه من رأي الخوارج. قال في الفتح (8: 198) : "وفي هذه القصة دلالة على براءة عكرمة مما ينسب إليه من رأي الخوارج، لأنه بالغ في النهي عن قتال المسلمين وتكفير سواد من يقاتلهم". وهذا موضع يحتاج إلى فضل تحقيق. كتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، هم قوم تخلَّفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودُبُره. 10264- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبي العاص بن مُنبّه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف. (1) قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعِيرِ قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنْ يطلبوا ما نِيل منهم يوم نَخْلة، (2) خرجوا معهم شباب كارهين، (3)   (1) هكذا جاءت أسماؤهم في المخطوطة والمطبوعة، والدر المنثور 2: 295، واتفاقهم جميعًا جعلني أتحرج في إثبات ما أعرفه صوابًا. وهؤلاء الذين قتلوا ببدر معروفة أسماؤهم في السير، وهذا صوابها من سيرة ابن هشام 2: 295، وإمتاع الأسماع 1: 20. "أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة" "أبو قيس بن الوليد بن المغيرة" "العاص بن منبِّه بن الحجاج" وأكبر ظني أن هذا خطأ من النساخ، لا خطأ في الرواية، وانظر الأثر الآتي رقم 10266. (2) "يوم نخلة"، يعني سرية عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي إلى بطن نخلة بين مكة والطائف، سار إليها عبد الله وأصحابه حتى نزل نخلة، فمرت به عير لقريش، فيها عمرو بن الحضرمي، فقتلوا عمرًا، واستأسر من استأسر من المشركين. فأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فلما قدموا عليه قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام". انظر سيرة ابن هشام 2: 252-256، وإمتاع الأسماع 1: 55-58. (3) في المطبوعة، والدر المنثور 2: 205، 206: "بشبان كارهين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارًا، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم= قال ابن جريج، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش= قال ابن جريج، وقال عكرمة: لما نزل القرآن في هؤلاء النفر إلى قوله:"وساءت مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال: يعني الشيخَ الكبيرَ والعجوزَ والجواري الصغار والغلمان. 10265- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قال: لما أسر العباس وعقيل ونَوْفل، (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابني أخيك. (2) قال: يا رسول الله، ألم نصَلِّ قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فَخُصِمتم! (3) ثم تلا هذه الآية:"ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا"، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر، فهو كافر حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا حيلةً في المال، و"السبيل" الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم، من الوِلدان. 10266- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتلوا، فنزلت فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا"، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة   (1) يعني: العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب. (2) كان في المطبوعة والمخطوطة: "وابن أخيك" بالإفراد، وكأن الصواب بالتثنية كما أثبتها، وإفراد"أخيك" مع أنهما ابني أخويه أبي طالب والحارث، صواب أيضًا. (3) "خصم" بالبناء للمجهول: أي غلب في الخصام، وهو الجدال والاحتجاج. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 إلى المسلمين الذين بمكة. قال: فخرج ناسٌ من المسلمين، حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون، فأدركوهم، فمنهم من أعطى الفتنة، (1) فأنزل الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [سورة العنكبوت: 10] ، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا) إلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل: 110] (2) = قال ابن عيينة: أخبرني محمد بن إسحاق في قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، قال: هم خمسة فتية من قريش: علي بن أمية، وأبو قيس بن الفاكه، وزمعة ابن الأسود، وأبو العاص بن منبه، ونسيت الخامس. (3) 10267- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، حُدِّثنا أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلّموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدوِّ الله أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبلَ منهم. وقوله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، أناسٌ من أهل مكة عذَرهم الله فاستثناهم، فقال:"أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا"= قال: وكان ابن عباس يقول: كنتُ أنا وأمي من الذين   (1) "أعطوا الفتنة"، أي: كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10260. (2) انظر الأثر السالف رقم: 10260. (3) انظر الأثر السالف رقم: 10264، وجاء هنا"أبو قيس بن الفاكه"، على الصواب، وانظر التعليق على الأثر السالف. ولكن جاء أيضًا هنا: "أبو العاص بن منبه"، والصواب: "العاص بن منبه" كما أسلفت في التعليق على الأثر السالف. وأما خامسهم في رواية ابن إسحاق، فهو أبو قيس بن الوليد كما سلف. وخبر ابن إسحاق هو في سيرة ابن هشام 2: 294، 295. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. 10268- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، قال: هم أناس من المنافقين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية. 10269- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته= يعني ابن زيد= عن قول الله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" فقرأ حتى بلغ:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، فقال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وظَهر، ونَبَعَ الإيمان، نَبَع النّفاق معه. (1) فأتَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله، لولا أنّا نخاف هؤلاء القوم يُعَذبوننا، ويفعلون ويفعلون، لأسلمنا، ولكنّا نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر، قام المشركون فقالوا: لا يتخلَّفُ عنا أحد إلا هَدَمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم، فقتلت طائفة منهم وأُسرت طائفة. قال: فأما الذين قتلوا، فهم الذين قال الله فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، الآية كلها="ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم="أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا". قال: ثم عذَر الله أهلَ الصدق فقال:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدانِ لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا"، يتوجَّهون له، لو خرجوا لهلكوا="فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، إقامَتهم بين ظَهْري المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله، إنك   (1) "نبع"، من قوله: "نبع الماء"، إذا جرى وتفجر من بطن الأرض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفًا! فقال الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ، صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم= (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) خرجوا مع المشركين= (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة الأنفال: 70، 71] . 10270- حدثني محمد بن خالد بن خداش قال، حدثني أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس أنه قال: كنت أنا وأمي ممن عَذَر الله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا". (1) 10271- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال ابن عباس: أنا من المستضعفين. 10272- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، قال: من قتل من ضُعفاء كفار قريش يوم بدر.   (1) الأثر: 10270 -"محمد بن خالد بن خداش بن عجلان المهلبي". روى عن أبيه، قالوا: "وربما أغرب عن أبيه"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وقد مضى ذكره في رقم: 2378. وأبوه: "خالد بن خداش بن عجلان المهلبي". روى عن حماد بن زيد. وهو صدوق. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 8: 192) من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، ثم من طريق أبي النعمان، عن حماد بن زيد (الفتح 8: 198) ، والبيهقي في السنن 9: 13. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 10273- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 10274- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. (1) 10275- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن عبد الله - أو: إبراهيم بن عبد الله القرشي- عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر:"اللهم خَلّص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا". (2) 10276- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، قال: مؤمنون مستضعفون بمكة، فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:   (1) الأثر: 10274 -"عبيد الله بن أبي يزيد المكي"، سلف برقم: 20، 3778 وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله"، وهو خطأ لا شك فيه. والأثر رواه البخاري (الفتح 8: 192) من طريق عبد الله بن محمد عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد. والبيهقي في السنن 9: 13. (2) الأثر: 10275 -"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي". روى عن أنس وسعيد بن المسيب وغيرهم. روى عنه الحمادان والسفيانان وغيرهم. كان كثير الحديث، وفيه ضعف، ولا يحتج به. وقال أحمد: "ليس بشيء". مترجم في التهذيب. و"عبد الله" هو"عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الكناني" حليف بني زهرة، ويقال هو"إبراهيم بن عبد الله بن قارظ"، يروي عن أبي هريرة، مترجم في التهذيب. وذكر الاختلاف في اسمه. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبيد الله" وهو خطأ. وفي تفسير ابن كثير"عبد الله القرشي"، ولم يذكر الاختلاف، مع أنه رواه عن ابن جرير. وهذا الحديث ضعيف، ولكن قال ابن كثير في تفسيره 2: 554: "ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه"، يعني ما رواه البخاري (الفتح 8: 198) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل الله فيهم:"لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، الآية. 10277- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. * * * وأما قوله:"لا يستطيعون حيلة"، فإن معناه كما:- 10278- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله:"لا يستطيعون حيلة"، قال: نهوضًا إلى المدينة="ولا يهتدون سبيلا"، طريقًا إلى المدينة. 10279- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يهتدون سبيلا"، طريقًا إلى المدينة. 10280- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 10281- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الحيلة"، المال= و"السبيل"، الطريق إلى المدينة. (1) * * * وأما قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، ففيه وجهان: (2) أحدهما: أن يكون"توفاهم" في موضع نصب، بمعنى المضيِّ، لأن"فعل" منصوبة في كل حال. (3)   (1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف 1: 497، وسائر فهارس اللغة في الأجزاء السابقة، مادة (سبل) . (2) أخر الطبري على غير عادته هذا الفصل من كلامه عن موضعه، كما أسلفت في موضع آخر. (3) يعني بقوله"النصب"، الفتح. أي: أنه مبني على الفتح لأنه فعل ماض. وقوله: "فعل" أي الفعل الماضي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 والآخر: أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال، يراد به: إن الذين تتوفاهم الملائكة، فتكون إحدى"التاءين" من"توفاهم" محذوفةً وهي مرادة في الكلمة، لأن العرب تفعل ذلك، إذا اجتمعت تاءان في أول الكلمة، ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى، وربما أثبتتهما جميعًا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يهاجر في سبيل الله"، ومن يُفارق أرضَ الشرك وأهلَها هربًا بدينه منها ومنهم، إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين (2) ="في سبيل الله"، يعني: في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القَيِّم (3) ="يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله="مراغمًا كثيرًا"، وهو المضطرب في البلاد والمذْهب. * * * يقال منه:"راغم فلانٌ قومه مراغمًا ومُرَاغمة"، مصدرًا، ومنه قول نابغة بني جعدة: كَطَوْدٍ يُلاذُ بِأَرْكَانِهِ ... عَزِيزِ المُراغَمِ وَالمَهْرَبِ (4)   (1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 284. (2) انظر تفسير"الهجرة" فيما سلف ص: 100، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"سبيل الله" في مراجع اللغة. (4) ديوانه 22، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 138، اللسان (رغم) . والبيت من قصيدته التي في الديوان، ولكنه أفرد منها فلم يعرف مكانه. و"الطود": الجبل العظيم المنيف. ولست أدري على أي شيء تقع كاف التشبيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 وقوله:"وسعة"، فإنه يحتمل السِّعة في أمر دينهم بمكة، (1) وذلك منعُهم إياهم -كان- من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية. (2) * * * ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارًّا بدينه إلى الله وإلى رسوله، إن أدركته منيَّته قبل بلوغه أرضَ الإسلام ودارَ الهجرة فقال: من كان كذلك="فقد وقع أجرُه على الله"، وذلك ثوابُ عمله وجزاءُ هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه. (3) يقول جل ثناؤه: ومن يخرج مهاجرًا من داره إلى الله وإلى رسوله، فقد استوجب ثواب هجرته= إن لم يبلغ دارَ هجرته باخترام المنية إيّاه قبل بلوغه إياها (4) = على ربه="وكان الله غفورًا رحيمًا"، يقول: ولم يزل الله تعالى ذكره="غفورًا" يعني: ساترًا ذنوب عبادهِ المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها="رحيمًا"، بهم رفيقًا. (5) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب بعض من كان مقيمًا بمكة وهو مسلم،   (1) هكذا جاءت هذه العبارة في المطبوعة والمخطوطة، وهي غير مستقيمة. وظني أنه سقط من الناسخ شيء من كلام أبي جعفر، ولعله يكون هكذا: "وقوله: "وسعة"، فإنه يحتمل السَّعةَ في الرِّزق، ويحتمل السعة في أمر دينهم، من ضيعتهم في أرض أهل الشرك بمكة، وذلك منعهم .... " فقوله: "وذلك منعهم"، تفسير"الضيق"، كما هو ظاهر من تأويل أبي جعفر. وانظر ما سيأتي في تأويل معنى"السعة" ص: 122. (2) في المطبوعة. أسقط قوله: "كان" الموضوعة هنا بين الخطين، لظن الناشر أنها خطأ وزيادة. وهو كلام عربي محكم، يضعون"كان" هذا الموضع للدلالة على الماضي، فكأنه قال: "وهو ما كان من منعهم إياهم"، ولكن الناشر أخطأ معرفة معناه، فحذف"كان"، فأساء. (3) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 98، تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) "اخترمته المنية": أخذته من بين أصحابه وقطعته منهم. من"الخرم" وهو الشق والفصم، يقال: "ما خرمت منه شيئا" أي: ما نقصت وما قطعت. (5) انظر تفسير"كان"، و"غفور"، و"رحيم" في مواضعها من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 فخرج لما بلغه أن الله أنزل الآيتين قبلها، وذلك قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وكان الله عفوًّا غفورًا"، فمات في طريقه قبلَ بلوغه المدينة. ذكر الأخبار الواردة بذلك: 10282- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص - أو: العيص بن ضمرة بن زنباع- قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضًا، فأمر أهله أن يفرُشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ففعلوا، فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعيِم، فنزلت هذه الآية. (1) 10283- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، في ضمرة بن العيص بن الزنباع= أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع= حين بلغ التنعيم ماتَ، فنزلت فيه. 10284- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن العَوَّام التيمي، بنحو حديث يعقوب، عن هشيم، قال: وكان رجلا من خُزاعة. (2)   (1) الأثر: 10282 - أخرجه البيهقي في السنن 9: 14، 15، وهذه القصة قصة رجل واحد اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من عشرة أوجه، هكذا قال الحافظ ابن حجر في الإصابة. وقد ساق أبو جعفر هنا من 10282 -10295 أكثر وجوه هذا الاختلاف في اسمه واسم أبيه. فتركت لذلك الإشارة إلى هذا الاختلاف في مواضعه من الآثار التالية. و"التنعيم" موضع في الحل، بين مر وسرف، بينه وبين مكة فرسخان. ومن التنعيم يحرم من أراد العمرة من أهل مكة. (2) الأثر: 10284 -"العوام التيمي"، لم أجد له ذكرًا في كتب التراجم، وأخشى أن يكون الصواب"العوام، عن التيمي"، يعني: "العوام بن حوشب الشيباني"، وهو يروي عن"إبراهيم التيمي". و"هشيم" يروي عن"العوام بن حوشب". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 10285- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَمًا كثيرًا وسعة"، الآية، قال: لما أنزل الله هؤلاء الآيات، ورجل من المؤمنين يقال له:"ضمرة" بمكة، قال:"والله إنّ لي من المال ما يُبَلِّغني المدينة وأبعدَ منها، وإنِّي لأهتدي! أخرجوني"، وهو مريض حينئذ، فلما جاوز الحرَم قبضَه الله فمات، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله"، الآية. 10286- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، قال رجل من المسلمين يومئذٍ وهو مريض:"والله ما لي من عُذْر، إني لدليلٌ بالطريق، وإنّي لموسِر، فاحملوني"، (1) فحملوه، فأدركه الموت بالطريق، فنزل فيه (2) "ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله". 10287- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: لما أنزل الله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآيتين، قال رجل من بني ضَمْرة، وكان مريضًا:"أخرجوني إلى الرَّوْح"، (3) فأخرجوه، حتى إذا كان بالحَصْحاص   (1) قوله: "لدليل بالطريق"، أي عارف به، يقال: "دللت بهذا الطريق دلالة"، أي: عرفته، فهو"دليل بين الدلالة". (2) في المطبوعة: "فنزلت فيه"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) قوله: "أخرجوني إلى الروح" (بفتح الراء وسكون الواو) : أي: إلى السعة والراحة وبرد النسيم. هذا تفسيره، وسيأتي في رقم: 10290"لعلي أن أخرج فيصببني روح"، أي: برد النسيم، وكان يجد الحر في مكة حتى غمه، كما سيأتي في الأثر: 10294. وأما "الحصحاص"، فهو موضع بالحجاز، وقال ياقوت"جبل مشرف على ذي طوى"، يعني: بناحية مكة. ويقال فيه: "ذو الحصحاص"، قال شاعر حجازي: ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيَّرَ بَعْدَنَا ... ظِبَاءٌ بِذِي الَحصْحَاصِ نُجْلٌ عُيُونُهَا وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ قَدْ بَدَا بِهَا ... صُدُوعُ الهَوَى، لَوْ كَانَ قَيْنٌ يَقِينُهَا! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 مات، فنزل فيه:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، الآية. 10288- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المنذر بن ثعلبة، عن علباء بن أحمر اليشكري قوله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"، قال: نزلت في رجل من خزاعة. (1) 10289- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك في قول الله جل وعز:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"، قال: لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربتْ وجوهَهم وأدبارَهم الملائكةُ، قال لأهله:"أخرجوني"، وقد أدنفَ للموت. (2) قال: فاحتمل حتى انتهى إلى عَقَبة قد سماها، (3) فتوفَّي، فأنزل الله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، الآية. (4) 10290- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما سمع هذه (5) = يعني: بقوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وكان الله عفوًّا غفورًا" = ضمرةُ بن جندب   (1) الأثر: 10288 -"ثعلبة بن المنذر بن حرب الطائي". و"علباء بن أحمر اليشكري"، مضيا برقم: 7190. (2) يقال: "دنفت الشمس للمغيب" (على وزن: فرح) و"أدنفت"، إذا دنت للمغيب واصفرت، وكذلك يقال المريض: "دنف المريض وأدنف"، أي ثقل ودنا للموت. و"الدنف" (بفتحتين) المرض اللازم المخامر. (3) "العقبة" (بفتحات) : طريق في الجبل وعر= أو: هو الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه. (4) الأثر: 10289 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة. (5) في المطبوعة: "لما سمع بهذه"، غير ما في المخطوطة، لقوله بعد: "يعني: بقوله.." ولا بأس بهذا التغيير، وإن كان ما في المخطوطة صوابا أيضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 الضمري، قال لأهله، وكان وجعًا:"أرحلوا راحلتي، فإن الأخشبين قد غَمَّاني! " = يعني: جَبَلىْ مكة="لعلي أن أخرج فيصيبني رَوْح"! (1) فقعد على راحلته، ثم توجه نحو المدينة، فمات بالطريق، فأنزل الله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". وأما حين توجه إلى المدينة فإنه قال:"اللهم إني مهاجر إليك وإلى رسولك". 10291- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية= يعني قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، قال جندب بن ضمرة الجُنْدَعي."اللهم أبلغتَ في المعذرة والحجّة، ولا معذرة لي ولا حُجَّة"! قال: ثم خرج وهو شيخ كبير، فمات ببعض الطريق، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أعلى ولايةٍ أم لا! فنزلت:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". 10292- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني لَيْثٍ كان على دين النبي صلى الله عليه وسلم مقيمًا بمكة، وكان ممن عَذَر الله، كان شيخًا كبيرًا وَصِبًا، (2) فقال لأهله:"ما أنا ببائت الليلة بمكة! "، فخُرِج به، (3) حتى إذا بلغ التَّنعيم من طريق المدينة أدركه   (1) انظر التعليق السالف قريبًا: ص: 115، تعليق: 3. (2) في المطبوعة: "وضيئًا"، وليس له معنى يقبل في هذا الموضع. وفي المخطوطة: "وصيا" بالياء، وهو تصحيف ما أثبته. و"رجل وصب"، دام عليه المرض ولزمه وثبت عليه. و"الوصب" (بفتحتين) المرض الموجع الدائم. (3) في المطبوعة: "فخرجوا به مريضًا"، وكأنه تصرف من النساخ أو الناشر الأول. وفي الدر المنثور 2: 208: "فخرجوا به" ليس فيه"مريضًا". وأثبت ما في المخطوطة: "فخرج به" بالبناء للمجهول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 الموت، فنزل فيه"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله" الآية. 10293- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَمًا كثيرًا وسعة"، قال: وهاجر رجل من بني كنانة يريد النبي صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق، فسخِر به قومه واستهزؤوا به وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن! قال: فنزل القرآن:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". 10294- حدثنا أحمد بن منصور الرماديّ قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، فكان بمكة رجل يقال له"ضمرة"، (1) من بني بكر، وكان مريضًا، فقال لأهله:"أخرجوني من مكة، فإني أجد الحرّ". فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة، فنزلت هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله" إلى آخر الآية. 10295- حدثني الحارث بن أبي أسامة قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، قال: رَخَّص فيها قوم من المسلمين ممن بمكة من أهل الضرر، (2) حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين، فقالوا: قد بين الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين، ورخَّص لأهل الضرر! حتى نزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قالوا: هذه موجبة! حتى نزلت:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، فقال ضَمْرة بن العِيص   (1) في المطبوعة: "وكان بمكة" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ممن كان بمكة"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 الزُّرَقي، أحد بني ليثٍ، وكان مُصَاب البصر:"إنيّ لذو حيلة، لي مال، ولي رقيق، فاحملوني". فخرج وهو مريض، فأدركه الموت عند التنعيم، فدفن عند مسجد التنعيم، فنزلت فيه هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت" الآية. (1) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل"المراغم". (2) فقال بعضهم: هو التحول من أرض إلى أرض. *ذكر من قال ذلك: 10296- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"مراغَمًا كثيرًا"، قال: المراغَم، التحوّل من الأرض إلى الأرض. 10297- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"مراغمًا كثيرًا"، يقول: متحوَّلا. 10298- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي   (1) الأثر: 10295 -"الحارث بن أبي أسامة" منسوب إلى جده، وهو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي"، ولد في شوال سنة 186، ومات يوم عرفة ضحوة النهار سنة 282، عن ست وتسعين سنة. وهو ثقة مترجم في تاريخ بغداد 8: 218، 219. يروي عنه أبو جعفر الطبري في التفسير، وفي التاريخ 11: 57، 58. و"عبد العزيز بن أبان الأموي" من ولد"سعيد بن العاص". مترجم في التهذيب، وقال ابن معين: "كذاب خبيث يضع الأحاديث". و"قيس"، هو"قيس بن الربيع"، مضى برقم: 159، 4842، وغيرها. * * * هذا، وقد رأيت كيف اختلفوا في اسم الرجل الذي خرج مهاجرًا إلى الله ورسوله، وقد تركت التنبيه على ذلك، كما أسلفت، فإن تحقيق شيء من اسمه واسم أبيه يكاد يكون مستحيلا. (2) في المخطوطة: "في تأويل الآية"، والصواب ما في المطبوعة، سها الناسخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، قال: متحوَّلا. 10299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن أو قتادة:"مراغمًا كثيرًا"، قال: متحوَّلا. 10300- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، قال: مندوحةً عما يكره. * * * 10301- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"مراغمًا كثيرًا"، قال: مزحزحًا عما يكره. 10302- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"مراغمًا كثيرًا"، قال: متزحزحًا عما يكره. وقال آخرون: مبتغَى معيشةٍ. *ذكر من قال ذلك: 10303- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، يقول: مبتغىً للمعيشة. * * * وقال آخرون:"المراغَمُ"، المهاجر. *ذكر من قال ذلك: 10304- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 قوله:"مراغمًا"، المراغَم، المهاجَر. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا أوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل. (1) * * * واختلفوا أيضًا في معنى:"السعة" التي ذكرها الله في هذا الموضع، فقال:"وسعة". فقال بعضهم: هي: السعة في الرزق. *ذكر من قال ذلك: 10305- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"مراغمًا كثيرًا وسعة"، قال: السعة في الرزق. 10306- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"مراغمًا كثيرًا وسعة"، قال: السعة في الرزق. 10307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وسعة"، يقول: سعة في الرزق. * * * وقال آخرون في ذلك ما:- 10308- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة"، أي والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن العَيْلة إلى الغِنى. (2)   (1) انظر ما سلف ص: 112، 113. (2) "العيلة": الفقر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبرَ أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطرَبًا ومتَّسعًا. وقد يدخل في"السعة"، السعة في الرزق، والغنى من الفقر، ويدخل فيه السعة من ضيق الهمِّ والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة، وغير ذلك من معاني"السعة"، التي هي بمعنى الرَّوْح والفرَج من مكروهِ ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظَهْري المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع الله دِلالة على أنه عنى بقوله:"وسعة"، بعض معاني"السعة" التي وصفنا. فكل معاني"السعة" التي هي بمعنى الرَّوح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش، وغم جِوار أهل الشرك، وضيق الصدر بتعذّر إظهار الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والآلهة، داخلٌ في ذلك. وقد تأول قوم من أهل العلم هذه الآية= أعني قوله:"ومن يخرُج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"= أنها في حكم الغازي يخرج للغزو، فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلا فيموت، أنّ له سَهْمه من المغنَم، وإن لم يكن شهد الوقعة، كما:- 10309- حدثني المثنى قال، حدثنا يوسف بن عديّ قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن أهل المدينة يقولون:"من خرج فاصلا وجب سهمه"، وتأوّلوا قوله تبارك وتعالى:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله". (1) * * *   (1) الأثر: 10309 -"يوسف بن عدي بن زريق التيمي"، كوفي، نزل مصر، ومات بها سنة 232. ثقة. مترجم في التهذيب. و"يزيد بن أبي حبيب المصري" سلف برقم: 4348، 5493. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 القول في تأويل قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا ضربتم في الأرض"، وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، (1) ="فليس عليكم جناح"، يقول: فليس عليكم حرج ولا إثم (2) ="أن تقصروا من الصلاة"، يعني: أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعًا، اثنتين، في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلِّ عددها في حال ضربكم في الأرض= أشار إلى واحدة، في قولِ آخرين. وقال آخرون: معنى ذلك: لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة. ="إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم. (3) وفتنتهم إياهم فيها: حملهم عليهم وهم فيها ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له. (4) = ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال:"إن الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا"، يعني: الجاحدين وحدانية الله (5) ="كانوا لكم عدوَّا مبينًا"،   (1) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593 / 7: 332. (2) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 8: 180، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 8: 298، 318، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف 9: 28، تعليق: 1، والمراجع هناك. (5) في المطبوعة: "يعني: الجاحدون" بالرفع، والذي أثبت من المخطوطة، صواب محض، وهو الذي جرى عليه أبو جعفر في مثله من التفسير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 يقول: عدوًّا قد أبانوا لكم عداوتهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة. واختلف أهل التأويل في معنى:"القصر" الذي وضع الله الجُناح فيه عن فاعله. فقال بعضهم: في السفر، من الصلاة التي كان واجبًا إتمامها في الحضر أربعَ ركعات، (1) وأذِن في قصرها في السفر إلى اثنتين. *ذكر من قال ذلك: 10310- حدثني عبيد بن إسماعيل الهبَّاري قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن منية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم"، وقد أمن الناس! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدَقته. (2)   (1) في المطبوعة: "تمامها"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 10310 -"عبيد بن إسماعيل الهباري"، وهو"عبيد الله بن إسماعيل الهباري"، مضى برقم: 2890، 3185، 3325، 4888. و"ابن إدريس"، هو"عبد الله بن إدريس الأودي"، مضى برقم: 438، 2030، 2890، وغيرها. و"ابن أبي عمار"، هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشي، هو"القس" صاحب"سلامة"، التي يقال لها"سلامة القس". وهو ثقة. و"عبد الله بن بابيه" ثقة. (وهو بباء، بعدها ألف، بعدها باء مفتوحة، بعدها ياء ساكنة) . ويقال"عبد الله بن باباه". و"يعلى بن منية"، هو"يعلى بن أمية المكي"، و"منية" جدته، نسب إليها. صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان في المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه جميعًا"يعلى بن أمية"، ولكن المخطوطة في هذا الأثر وحده، كان فيها ما أثبته. وهذا الأثر رواه الإمام أحمد في مسنده رقم: 174، 244، 245، ورواه مسلم في صحيحه 5: 195، 196 بإسنادين. والبيهقي في السنن 3: 134، 140، 141، وأبو داود في سننه 2: 4، رقم: 1199، ورواه ابن ماجه رقم: 1065، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 557، 558. وسيأتي بإسنادين آخرين بعد، وهو حديث صحيح. وقال علي بن المديني: "هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه، ورجاله معروفون". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 10311- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. 10312- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن جريج قال، سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث، عن عبد الله بن بابيه يحدِّث، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: أعجبُ من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا، وقد قال الله تبارك وتعالى:"أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"! فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صَدقته. (1) 10313- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي العالية قال: سافرت إلى مكة، فكنت أصلّي ركعتين، فلقيني قُرَّاء من أهل هذه الناحية، فقالوا: كيف تصلي؟ قلت ركعتين. قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كلٌّ، سنة وقرآن، (2) [فقد] صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (3) قالوا: إنه كان في حرب! قلت: قال الله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ   (1) الأثران: 10311، 10312 - صحيحا الإسناد، وهما مكرر الذي قبله. (2) في المطبوعة: "كل ذلك سنة وقرآن"، وأثبت ما في المخطوطة، والدر المنثور، وهو الصواب. والزيادة من الناسخ أو الناشر. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "قلت صلى رسول الله ... "، وقوله"قلت" ليست في الدر المنثور، فاستظهرت قراءتها كما أثبتها بين القوسين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) [سورة الفتح: 27] ، وقال:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عيكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، فقرأ حتى بلغ:"فإذا اطمأننتم". (1) 10314- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: سأل قومٌ من التجار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بِحَوْلٍ، غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظُّهر، فقال المشركون: لقد أمْكَنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إنّ لهم أخرى مثلها في إِثرها! فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا وإذا كنت فيهم فأقمتَ لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك" إلى قوله:"إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا"، فنزلت صلاة الخوف. (2)   (1) الأثر: 10212 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 209، وقصر نسبته إلى ابن جرير وحده. (2) الأثر: 10314 - هذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 209، وابن كثير في تفسيره 2: 565، ولم ينسباه لغير ابن جرير. وفي ابن كثير: "قال ابن جرير، حدثني ابن المثنى، حدثنا إسحاق ... "، مخالفا ما في المطبوعة والمخطوطة فجعله"ابن المثنى" يعني"محمد بن المثنى"، والطبري يروي عنهما جميعًا، عن"المثنى بن إبراهيم"، وعن"محمد بن المثنى"، ولكني أرجح أن الصواب ما في المطبوعة، لكثرة رواية المثنى عن إسحاق بن الحجاج الطاحوني، كما سلف مئات من المرات. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يوسف، عن أبي روق"، والصواب"سيف" كما في تفسير ابن كثير. ومما سيأتي في كلام أبي جعفر. وهو سيف بن عمر التميمي، وهو متروك الحديث. أما "عبد الله بن هاشم"، فلم أجد له ترجمة ولا ذكرًا. وقد قال ابن كثير بعد أن ساق هذا الأثر: "وهذا سياق غريب جدًا، ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي، واسمه زيد بن الصامت"، ثم ساق الأثر الآتي برقم: 10323، من رواية أحمد وأبي داود، كما سيأتي. ورد أبي جعفر الآتي بعد، دال على تضعيفه هذا الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 قال أبو جعفر: وهذا تأويل للآية حسن، لو لم يكن في الكلام"إذا"، و"إذا" تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها. (1) ولو لم يكن في الكلام"إذا"، كان معنى الكلام - على هذا التأويل الذي رواه سيف عن أبي روق: إن خفتم، أيها المؤمنون، أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم، يا محمد، فأقمت لهم الصلاة،"فلتقم طائفة منهم معك" الآية. * * * وبعد، فإن ذلك فيما ذُكر في قراءة أبيّ بن كعب: (2) (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) . 10315- حدثني بذلك الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا الثوري، عن واصل بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب، أنه كان يقرأ: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ولا يقرأ:"إن خفتم". (3) 10316- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شرود عن الثوري، عن واصل الأحدب، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُم) ، قال بكر: وهي في"الإمام" مصحف عثمان رحمة الله عليه:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا". (4)   (1) يعني بذلك"إذا" في قوله تعالى: "وإذا كنت فيهم ... " (2) في المخطوطة: "وبعدد فإن"، وهو من غريب سهو الناسخ في كتابته. (3) الأثر: 10315 -"الحارث" هو"الحارث بن أبي أسامة" وهو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة" سلف قريبًا برقم: 10295. و"عبد العزيز" هو"عبد العزيز بن أبان الأموي" سلف برقم: 10295. و"واصل بن حيان الأحدب" مضى برقم: 10. (4) الأثر: 10316 -"بكر بن شرود" مضى برقم: 8562. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 وهذه القراءة تنبئ على أن قوله:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، مواصلٌ قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" (1) =، وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض، فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة= وأن قوله:"وإذا كنت فيهم"، قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية. وذلك أن تأويل قراءة أبيٍّ هذه التي ذكرناها عنه: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا، فحذفت"لا" لدلالة الكلام عليها، كما قال جل ثناؤه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا. ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق. * * * وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوٍّ يخشى أن يفتِنَه في صلاته. *ذكر من قال ذلك: 10317- حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد قال، حدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول في السفر: أتموا صلاتكم. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في السفر ركعتين؟   (1) في المخطوطة: "وهي في الإمام مصحف عثمان رحمة الله عليه: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" من أصل قوله: "فليس عليكم جناح" ... وأن معنى الكلام .... "، وهي عبارة فاسدة مضطربة، كأن ناسخًا غير ناسخنا، أو كأن الناشر، زاد أحدهما"وهذه القراءة.." إلخ، حتى اتصل الكلام واستقام، فتركت ما في المطبوعة على حاله، إلا أنه كتب"تنبئ على أن قوله"، فجعلتها"تنبئ عن أن قوله ... ". وتصحيحه"من أصل" فجعلها"مواصل" هو الصواب إن شاء الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟ . (1) 10318- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصْرَ صلاة الخوف، (2) ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به. (3) 10319- حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين. 10320- حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أيُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص. * * *   (1) الأثر: 10317 -"أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة. و"عبد الكبير بن عبد المجيد، أبو بكر الحنفي" مضى برقم: 6822. وأما "محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" فهو ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2: 210، "عمر" مكان"محمد"، وهو خطأ، والناسخ كثيرًا ما يكتب"محمد""عمر" كما مر في مواضع كثيرة. وأبوه: "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق"، المعروف بابن أبي عتيق. روى عن عمة أبيه عائشة، وروى عنه ابناه، عبد الرحمن ومحمد (المذكور قبل) . وهذا الأثر لم أجده في شيء من دواوين السنة التي بين يدي، وخرجه السيوطي في الدر المنثور، ولم ينسبه لغير ابن جرير. (2) في المطبوعة: "قصر الصلاة في الخوف"، وفي المخطوطة: "قصر الصلاة الخوف"، وصوابها من تفسير ابن كثير. (3) الأثر: 10318 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 561، والدر المنثور 2: 210، ولم ينسباه لغير ابن جرير. وأخرجه البيهقي في سننه 3: 136 من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. وقال البيهقي: "ورواه الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن أبي بكر، وأسنده جماعة عن ابن شهاب فلم يقيموا إسناده". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية قصر صلاة الخوف، في غير حال المُسَايفة. قالوا: وفيها نزل. *ذكر من قال ذلك: 10321- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان، والمشركون بضَجْنَان، فتواقفوا، (1) فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين= أو: أربعًا، شك أبو عاصم= ركوعهم وسجودهم وقيامهم معًا جميعًا، فهمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمْتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه:"فلتقم طائفة منهم معك"، فصلَّى العصر، فصفَّ أصحابه صَفَّين، ثم كبَّر بهم جميعًا، ثم سجد الأولون سجدة، والآخرون قيام،   (1) "تواقف الفريقان في القتال"، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة: "توافقوا" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 ثم سجد الآخرون حين قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر بهم وركعوا جميعًا، فتقدم الصف الآخر واستأخر الأوَّل، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصَرَ العصرَ إلى ركعتين. 10322- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجْنَان، فتواقفوا، (1) فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعًا، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله تبارك وتعالى:"فلتقم طائفة منهم معك"، فصلَّى بهم صلاة العصر، فصفّ أصحابه صفّين، ثم كبر بهم جميعًا، ثم سجد الأولون لسجوده، (2) والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبَّر بهم وركعوا جميعًا، فتقدم الصفُّ الآخر واستأخر الصف المقدم، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرة، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين. 10323- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزُّرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد. قال: فصلَّينا الظهر، فقال المشركون: لقد كانوا على حالٍ، لو أردنا لأصبنا غِرَّة، لأصبنا غفلة. (3) فأنزلت آية القَصر بين الظهر والعصر، فأخذ الناس السلاحَ وصفّوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مُسْتَقْبَلهم، (4) فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّروا جميعًا، ثم ركع وركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء، ثم نكصَ الصفّ الذي يليه وتقدم الآخرون، فقاموا في مقامهم، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون، ثم استووْا معه، فقعدوا جميعًا، ثم سلم عليهم جميعًا، فصلاها بعُسْفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم. (5) 10324- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان النحوي، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي= وعن إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان، ثم ذكر نحوه. (6)   (1) "تواقف الفريقان في القتال"، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة: "توافقوا" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "بسجوده" بالباء وأثبت ما في المخطوطة، وهو جيد. (3) في المطبوعة: "كانوا على حال"، أسقط "لقد"، لأن ناسخ المخطوطة كتبها"لو كانوا ... "، والصواب ما أثبت. (4) في المطبوعة والمخطوطة"مستقبلهم" (وقراءتها بضم الميم وسكون السين وفتح الباء) ، يعني: أمامهم. وكان المشركون يومئذ بينهم وبين القبلة. (5) الأثر: 10323، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق، وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10387 وهو حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده 4: 59، 60 من طريقين. من طريق عبد الرازق، عن الثوري عن منصور= ومن طريق غندر، عن شعبة عن منصور. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 191، 192 من طريق ورقاء عن منصور. ورواه النسائي في السنن 3: 176، 177، من طريق شعبة عن منصور= ومن طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن منصور. ورواه أبو داود في سننه 2: 16 رقم: 1236، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور، كإسناد أبي جعفر الأول. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 337 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال الذهبي: على شرطهما. ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3: 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3: 256، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور. قال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، وقد رواه قتيبة بن سعيد، عن جرير، فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 566، 567: "هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة". (6) الأثر: 10323، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق، وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10387 وهو حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده 4: 59، 60 من طريقين. من طريق عبد الرازق، عن الثوري عن منصور= ومن طريق غندر، عن شعبة عن منصور. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 191، 192 من طريق ورقاء عن منصور. ورواه النسائي في السنن 3: 176، 177، من طريق شعبة عن منصور= ومن طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن منصور. ورواه أبو داود في سننه 2: 16 رقم: 1236، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور، كإسناد أبي جعفر الأول. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 337 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال الذهبي: على شرطهما. ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3: 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3: 256، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور. قال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، وقد رواه قتيبة بن سعيد، عن جرير، فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 566، 567: "هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 10325- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري: أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة: أي يوم أنزل؟ أو: أيَّ يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عِير قريش آتية من الشأم، حتى إذا كنا بنخل، جاء رجلٌ من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! قال: نعم. قال: هل تخافني؟ قال: لا! قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك! قال: فسلَّ السيف، ثم هَدَّده وأوعده، ثم نادى بالرَّحيل وأخْذِ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى يحرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصَافِّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعُ ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخْذِ السلاح. (1) * * * وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف،   (1) الأثر: 10325 -"سليمان اليشكري" هو: سليمان بن قيس اليشكري. روى عن جابر، وأبي سعيد الخدري. وروى عنه قتادة، وعمرو بن دينار، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية. قال البخاري: "يقال إنه مات في حياة جابر بن عبد الله، ولم يسمع منه قتادة، ولا أبو بشر، ولا نعرف لأحد منهم سماعًا، إلا أن يكون عمرو بن دينار، سمع منه في حياة جابر". وقال أبو حاتم: "جالس جابرًا فسمع منه وكتب عنه صحيفة، فتوفى وبقيت الصحيفة عند امرأته. فروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر، وهم قد سمعوا من جابر، وأكثره من الصحيفة، وكذلك قتادة"، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 32، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 136. وهذا الخبر، رواه أحمد في مسنده 3: 364، 390، من طريق أبي عوانة عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، بغير هذا اللفظ، وبمعناه. وأشار إلى خبر سليمان بن قيس، أبو داود في سننه 2: 24، والبيهقي في السنن 3: 259، ومعاني الآثار للطحاوي 1: 187. وقال ابن كثير في تفسيره 2: 568، وذكر حديث أحمد في المسند، وقال: "تفرد به من هذا الوجه". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر لا في صلاة الإقامة. (1) قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ، كما أن صلاة الإقامة أربعُ ركعات في حال الإقامة. قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمامٌ في السفر. ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف، ركعة. *ذكر من قال ذلك: 10326- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا"، إلى قوله:"عدوًّا مبينًا"، إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهو تمام. (2) والتقصير لا يحلّ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة. والتقصير ركعة: يقوم الإمام ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدوّ، فيصلّي بمن معه ركعة، ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القَهْقرى. ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلّون لأنفسهم ركعة، ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الآخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة. والناس يقولون: لا بل   (1) في المطبوعة: "القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الإقامة" وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فهي تمام"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 هي ركعة واحدة، لا يصلي أحد منهم إلى ركعته شيئًا، تجزئه ركعة الإمام. فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة. فذلك قول الله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله:"وخذوا حذركم". 10327- حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ قال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة. (1) 10328- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: كيف تكون قصرًا وهم يصلون ركعتين؟ إنما هي ركعة. 10329- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة. (2) 10330- حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، حدثني بكر بن سوادة: أن زياد بن نافع حدثه عن كعب= وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قُطعت يده يوم اليَمامة=: أن صلاة الخوف لكل طائفة، ركعة وسجدتان. (3)   (1) الأثر: 10327 - رواه البيهقي في السنن 3: 263، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 210، وزاد نسبه إلى عبد بن حميد. وأشار إليه أبو داود في السنن 2: 23. (2) الأثر: 10329-"يزيد الفقير" هو"يزيد بن صهيب"، وهذا الأثر بهذا الإسناد، مضى برقم: 5563. (3) الأثر: 10330 -"أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري" و"عبد الله بن وهب"، مضيا، برقم: 2747. و"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري" مضى برقم: 1387، 6889. و"بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي المصري". تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. و"زيادة بن نافع التجيبي المصري"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"كعب" الأقطع، مترجم في الإصابة، والكبير للبخاري 4 / 1 / 222. وهذا الأثر ساقه الحافظ ابن حجر في ترجمة"كعب الأقطع"، وقال: "أظن في إسناده انقطاعًا، فقد علقه البخاري من طريق زياد بن نافع، عن أبي موسى الغافقي، عن جابر بن عبد الله. وقال البخاري في التاريخ، كعب قطعت يده يوم اليمامة، له صحبة. روى عنه زياد بن نافع". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 واعتل قائلو هذه المقالة من الآثار بما:- 10331- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زَهدم اليربوعي قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم يحفظ صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فأقامنا خلفه صفًّا، وصفًّا موازيَ العدو، (1) فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافِّ أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة. (2) 10332- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا   (1) في المطبوعة: "وصف موازي العدو"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لما في روايات الحديث. (2) الأثر: 10331 - وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10333. "أشعث بن أبي الشعثاء" هو: أشعث بن سليم بن أسود المحاربي، من ثقات شيوخ الكوفيين، مترجم في التهذيب. و"الأسود بن هلال المحاربي"، كان جاهليًا، أدرك الإسلام. روى عن معاذ بن جبل، وعمر، وابن مسعود. مترجم في التهذيب. و"ثعلبة بن زهدم الحنظلي"، مختلف في صحبته، روى عن حذيفة وأبي مسعود، وعامة روايته عن الصحابة. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده 5: 385، 399، 404، وأبو داود في السنن 2: 23 رقم: 1246، والنسائي في السنن 3: 167، 168 والبيهقي، في سننه 3: 261، والحاكم في المستدرك 1: 335 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. والطحاوي في معاني الآثار 1: 183. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 212، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن حبان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 سفيان، عن الرُّكين بن الربيع، عن القاسم بن حسان قال: سألت زيد بن ثابت عنه فحدثني، بنحوه. (1) 10333- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، عن حذيفة بنحوه. (2) 10334- حدثنا ابن بشار قال، حدثني يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد، فصفّ الناس خلفه صفين، صفًّا خلفه، وصفًّا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعة. ولم يَقْضوا. (3)   (1) الأثر: 10332 -"ركين بن الربيع بن عميلة الفزاري". ثقة كوفي. و"القاسم بن حسان العامري". ذكره ابن حبان في الثقات، قال الحافظ ابن حجر: في أتباع التابعين، ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت، ثم وجدته قد ذكره (يعني ابن حبان) في التابعين أيضًا". وقد ساق الخبر، البيهقي في سننه 3: 262، وفيه تصريح بسماعه عن زيد بن ثابت، قال: "عن القاسم بن حسان قال: أتيت فلان بن وديعة فسألته عن صلاة الخوف فقال: إيت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيدًا فسألته ... " وساق الخبر. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 183. (2) الأثر: 10333 - انظر التعليق على الأثر: 10331. (3) الأثر: 10334 -"أبو بكر بن أبي الجهم"، هو: "أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم العدوي" نسب إلى جده. كما في التهذيب، وفي الكنى للبخاري: 13"أبو بكر ابن أبي الجهم بن صخير"، وفي ابن أبي حاتم 4 / 2 / 338: "أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم بن صخير"، وقال الحافظ ابن حجر في التهذيب: "واسم أبي الجهم، صخير"، كان فقيهًا، ثقة، قال ابن سعد: "كان قليل الحديث". مترجم في التهذيب. وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد في شرح مسند أحمد. و"عبيد الله بن عبد الله" هو ابن عتبة بن مسعود الهذلي، تابعي، كان عالمًا ثقة كثير الحديث والعلم، تقيًا، شاعرًا محسنًا، وكان أحد فقهاء المدينة، وهو معلم عمر بن عبد العزيز. وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده: 2063، 3364، وإسناده صحيح. وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 182. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 10335- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أبي بكر بن صخير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس مثله. (1) 10336- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعةً. 10337- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (2) 10338- حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزديّ قال، حدثنا المحاربي، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (3) 10339- حدثنا يعقوب بن ماهان قال: حدثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (4)   (1) الأثر: 10335 -"أبو بكر بن صخير"، هو"أبو بكر بن أبي الجهم"، في الإسناد السابق، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن صحير" بالحاء المهملة، وهو خطأ. (2) الأثران: 10336، 10337 -"أبو عوانة" هو: "الوضاح بن عبد الله اليشكري"، مضى برقم: 4498. و"بكير بن الأخنس" كوفي ثقة وهذا الأثر رواه أحمد في المسند رقم: 2124، 2293، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم أيضًا 5: 196. (3) الأثران: 10338، 10339 -"نصر بن عبد الرحمن الأزدي" سبق برقم: 423، 875، 2859، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته"الأزدي" لا"الأودي" بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الأودي". وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض اللبس فيها، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن. ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح"الأودي" إلى"الأزدي". و"المحاربي" هو"عبد الرحمن بن محمد المحاربي" مضى برقم: 221، 875. و"أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي" ثقة، مترجم في الكبير 1 / 1 / 420. وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: 2177 من طريق القاسم بن مالك الآتي، وهو إسناد صحيح، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5: 197. وأما الأثر: 10339، ففيه"يعقوب بن ماهان" وقد مضى برقم: 4901. وأما "القاسم بن مالك المزني"، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب. (4) الأثران: 10338، 10339 -"نصر بن عبد الرحمن الأزدي" سبق برقم: 423، 875، 2859، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته"الأزدي" لا"الأودي" بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الأودي". وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض اللبس فيها، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن. ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح"الأودي" إلى"الأزدي". و"المحاربي" هو"عبد الرحمن بن محمد المحاربي" مضى برقم: 221، 875. و"أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي" ثقة، مترجم في الكبير 1 / 1 / 420. وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: 2177 من طريق القاسم بن مالك الآتي، وهو إسناد صحيح، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5: 197. وأما الأثر: 10339، ففيه"يعقوب بن ماهان" وقد مضى برقم: 4901. وأما "القاسم بن مالك المزني"، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 10340- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صفٌّ بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعةً وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ولهم ركعة. (1) 10341- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن بكر بن سوادة حدثه، عن زياد بن نافع حدثه، عن أبي موسى: أن جابر بن عبد الله حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، لكل طائفة ركعة وسجدتين. (2) 10342- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي قال، حدثنا عبد الله بن شقيق قال، حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنان وعُسْفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحبَّ إليهم من أبنائهم وأبْكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلةً واحدة. وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأمرَه أن يقسم   (1) الأثر: 10340 -"يزيد الفقير"، هو: يزيد بن صهيب، مضى برقم: 10329. وهذا الأثر، رواه النسائي في السنن 3: 174، ورواه النسائي أيضًا من طريق المسعودي، عن يزيد الفقير 3: 175، والبيهقي في السنن 3: 263، وانظر كلام البيهقي فيه، وقد أشار إلى طريق الحكم بن عتيبة، عن يزيد الفقير. وتفسير ابن كثير 2: 569. (2) الأثر: 10341 -"أبو موسى" هو: "علي بن رباح"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح 7: 324، و"هو تابعي معروف أخرج له مسلم"، وقال أيضًا إن أبا موسى في هذا الأثر: "يقال هو الغافقي: مالك بن عبادة، وهو صحابي معروف أيضًا". وقد مضى ذكر"علي بن رباح" رقم: 4747. وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7: 324) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 أصحابه شَطْرين، فيصلي ببعضهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حِذْرهم وأسلحتهم، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (1) * * * وقال آخرون: عنى به القصر في السفر، إلا أنه عنى به القصر في شدَّة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلي أن يركع ركعة إيماءً برأسه حيث توجَّه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله:"ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا". *ذكر من قال ذلك: 10343- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا ضربتم في الأرض"، الآية، قصرُ الصلاة، إن لقيت العدوَّ وقد حانت الصلاة: أن تكبر الله، وتخفض رأسك إيماء، راكبًا كنت أو ماشيًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال:"عنى بالقصر فيها، القصرَ من حدودها. وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها، مستقبلَ القبلة فيها ومستدبرَها، وراكبًا وماشيًا،   (1) الأثر: 10342 -"سعيد بن عبيد الهنائي"، قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"عبد الله بن شقيق العقيلي" مضى برقم: 196 - 199. وهذا الأثر رواه النسائي في السنن 3: 174، والترمذي في السنن، في كتاب التفسير. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 211، واقتصر على نسبته لابن جرير والترمذي. وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب من حديث عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 وذلك في حال السَّلَّة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، (1) وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) ، [سورة البقرة: 239] ، وأذِن بالصلاة المكتوبة فيها راكبًا، إيماءً بالركوع والسجود، على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، لدلالة قول الله تعالى:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، على أن ذلك كذلك. لأن إقامتها: إتمامُ حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها، دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبًة في حال الخوف. فإن ظن ظان أن ذلك أمرٌ من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم، غيرَ مقيم صلاته، لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين. وذلك قولٌ إن قاله قائل، (2) مخالف لما عليه الأمة مجمعة: من أن المسافر لا يستحق أن يقال له= إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين=:"إنه غير مقيم صلاته". وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفًا من عدوه أن يفتنه، أن يقيم صلاتَه إذا اطمأن وزال الخوف، كان معلومًا أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف. وإذْ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة: إقامة   (1) في المطبوعة: "في حال الشبكة والمسايفة"، وهو خطأ فارغ، صوابه من المخطوطة، ولم يحسن قراءتها. و"السلة": استلال السيوف، يقال: "أتيناهم عند السلة"، أي عند استلال السيوف في المعركة، إذا تدانى أهل القتال. (2) في المطبوعة: "فذلك قول" والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة: ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها، على ما بيّنّا. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 القول في تأويل قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك، يا محمد، الخائفين عدوهم أن يفتنهم="فأقمت لهم الصلاة"، يقول: فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوَّهم وتزاحف بعضهم على بعض، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها="فلتقم طائفة منهم معك"، يعني: فلتقم فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك (1) = وليكن سائرهم في وجوه العدو. = وترك ذِكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلِّية مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله، لدلالة الكلام المذكور على المراد به، والاستغناءِ بما ذكر عما ترك ذكره="وليأخذوا أسلحتهم".   (1) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 6: 500، 506. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح. فقال بعضهم: هي الطائفة التي كانت تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. (1) قال: ومعنى الكلام:"وليأخذوا"، يقول: ولتأخذ الطائفة المصلَية معك من طوائفهم="أسلحتهم"، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم، كالسيف يتقلَّده أحدهم، والسكين، والخنجر يشدُّه إلى درعه وثيابه التي هي عليه، ونحو ذلك من سلاحه. * * * وقال آخرون: بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم: الطائفةُ التي كانت بإزاء العدوِّ، دون المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك قول ابن عباس. 10344- حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإذا سجدوا"، يقول: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلِّي بصلاتك ففرغت من سجودها="فليكونوا من ورائكم"، يقول: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مُصَافيِّ العدوِّ في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصلِّ معك، ولم تدخل معك في صلاتك. * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم". فقال بعضهم: تأويله: فإذا صلَّوْا ففرغوا من صلاتهم، فليكونوا من ورائكم. * * * ثم اختلف أهل هذه المقالة. فقال بعضهم: إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة، سلمت وانصرفت   (1) في المطبوعة: "مع رسول الله" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 من صلاتها، حتى تأتي مقامَ أصحابها بإزاء العدوّ، ولا قضاء عليها. وقالوا: هم الذين عنى الله بقوله: (1) "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، أن تجعلوها -إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم- ركعة (2) ورووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفةٍ صلاة الخوف ركعة، ولم يقضوا، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه. * * * وقال آخرون منهم: بل الواجب كان على هذه الطائفة= التي أمرَها الله بالقيام مع نبيِّها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدو، وإذا فرغت من ركعتها التي أمرها الله أن تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه= (3) أن تقوم في مقامها الذي صلّت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصلي لأنفسها بقية صلاتها وتسلّم، وتأتي مصافّ أصحابها، وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبُت قائمًا في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلّت معه الركعة الأولى من بقية صلاتها، إذا كانت صلاتها التي صلّت معه مما يجوز قصرُ عددها عن الواجب الذي على المقيمين في أمن، وتذهب إلى مصاف أصحابها، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت مصافَّةً عدوَّها، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها. * * * ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون. فقالت فرقة من أهل هذه المقالة: كان على النبي صلى الله عليه وسلم إذا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهم الذين قالوا عنى الله بقوله"، أخر"قالوا" عن مكانها، وكأنه من فعل الناسخ، فرددتها إلى سياق الكلام، في أوله. (2) السياق: "أن تجعلوها ... ركعة"، تفسيرًا لقوله"أن تقصروا من الصلاة". (3) السياق"بل الواجب كان على هذه الطائفة ... أن تقوم في مقامها". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 فرغ من ركعتيه ورَفع رأسه من سجوده من ركعته الثانية، أن يقعد للتشهد، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الأولى لاشتغالها بعدوّها، أن تقوم فتقضي ركعتها الفائتة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى النبي صلى الله عليه وسلم انتظارها قاعدًا في تشهُّده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد، ثم يسلم بهم. * * * وقالت فرقة أخرى منهم: بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعدَ النبي صلى الله عليه وسلم للتشهد، أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده. فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم. (1) ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ فقضت ركعتها الفائتة. وكل قائلٍ من الذين ذكرنا قولهم، روَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارًا بأنه كما قال فَعَل. * * * ذكر من قال: انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفتين حتى قضت [كل طائفة] صلاتها، ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما. (2) 10345- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذاتِ الرِّقاع: أن طائفة صفّت معه، (3) وطائفة وجاه العدو. (4) فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم. ثم جاءت   (1) في المخطوطة: "بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعد النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم، ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ... "، سقط من الناسخ ما هو ثابت في المطبوعة، وهو الصواب إن شاء الله. (2) في المخطوطة: "حتى قضت صلاتها"، وفي المطبوعة: "حتى قضت صلاتهما" بالتثنية، أراد أن يصحح سياق المخطوطة فأساء، ووضعت ما بين القوسين اجتهادًا حتى يستقيم الكلام. (3) في المطبوعة: "أن طائفة صفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) "وجاه" (بكسر الواو وضمها) و"تجاه" (بكسر التاء وضمها) : أي حذاء العدو من تلقاء وجهه. وبجميع هذه الوجوه، روي هذا الخبر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 الطائفة الأخرى فصلى بهم، ثم ثبت جالسًا فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. (1) 10346- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني عبيد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في خوف، فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام، فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدموا وتخلّف الذين كانوا قُدَّامهم، فصلى بهم ركعة، ثم جلس حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. (2) 10347- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الخوف: تقوم طائفة بين يدي الإمام وطائفة خلفه، فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يقضوا ركعة وسجدتين، ثم يتحولون إلى مكان أصحابهم. ثم يتحول أولئك إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يصلوا ركعة وسجدتين، ثم يسلم. (3) * * * ذكر من قال:"كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم تقضي ما بقي عليه وسلم عليها بعدُ". 10348- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم قال: حدثني صالح بن خوّات بن جبير: أن سهل   (1) الأثر: 10345 -"يزيد بن رومان الأسدي" أبو روح المدني، من شيوخ مالك، كان عالمًا كثير الحديث ثقة. و"صالح بن خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري"، روى عن أبيه وخاله سهل بن أبي حثمة، وهو تابعي ثقة قليل الحديث. روى له الجماعة حديث صلاة الخوف. مترجم في الكبير 2 / 2 / 277. و"سهل بن أبي حثمة الأنصاري"، له صحبة، مات رسول الله وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه. قال الحافظ في التهذيب: "قال ابن أبي حاتم. عن أبيه، بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد كلها إلا بدرًا، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أحد. قال ابن أبي حاتم: سمعت رجلا من ولده سأله أبي عن ذلك وأخبره به". قلت: ولم أجد في الجرح والتعديل ترجمة"سهل"، ولا قول ابن أبي حاتم. ثم قال الحافظ: "وقال ابن القطان: قول أبي حاتم لا يصح عندهم البتة، والغلط الذي فيه من هذا الرجل الذي لا يدرى من هو. وإنما الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خارصًا، أبوه أبو حثمة، وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، كذا ذكره ابن جرير وغيره". و"سهل بن أبي حثمة"، مترجم في التهذيب، وفي الكبير 2 / 2 / 98، وقد مضى ذكره برقم: 9179. وهذا حديث صحيح، رواه مالك في الموطأ: 183، والشافعي في الرسالة رقم: 509، 677، وفي الأم 1: 186، والبخاري (الفتح 7: 325) ، والبخاري في التاريخ الكبير 2 / 2 / 277، ومسلم 6: 128، وأبو داود في سننه 2: 18، رقم: 1238، والنسائي 3: 171، والترمذي 2: 456 (شرح أخي السيد أحمد) ، والطحاوي في معاني الآثار 1: 184، والبيهقي في سننه 3: 252، وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي، وشرح رسالة الشافعي. والجصاص في أحكام القرآن 2: 259، 260. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 7: 326: "قوله: عمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف= قيل: إن اسم هذا المبهم، سهل بن أبي حثمة، لأن القاسم بن محمد، روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة. وهذا هو الظاهر من رواية البخاري، ولكن الراجح أنه أبوه"خوات بن جبير"، لأن أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه، فقال: عن صالح بن خوات، عن أبيه أخرجه ابن مندة في معرفة الصحابة من طريقه. وكذلك أخرجه البيهقي (3: 253) من طريق عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه. وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير، وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره". وقد أجاد الحافظ في بيان هذا بعد ذلك في الفتح (7: 329) ، ودل على أن سهل بن أبي حثمة كان صغيرًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله قبض وهو ابن ثمان سنين، فأيد بذلك أن المراد بقوله: "عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم" هو خوات بن جبير، لا سهل بن أبي حثمة. (2) الأثر: 10346 - حديث سهل بن أبي حثمة، من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، هذا والذي يليه، رواه أحمد في المسند 4: 448، والبخاري في الفتح (7: 329) ومسلم 6: 128، والبيهقي في السنن 3: 253، 254. وانظر التعليق على الأثر السالف، والأثر التالي رقم: 10351. (3) الأثر: 10347 - مكرر الذي قبله. رواه أحمد في المسند 4: 448، والبخاري في التاريخ الكبير 2 / 2 / 277. وهذا هو الحديث المرفوع الذي سيشير إليه في رقم: 10351. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 بن أبي حثمة حدّثه: أن صلاة الخوف: أن يقوم الإمام إلى القبلة يصلّي ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة أخرى مواجهة العدو، فيصلي. فيركع الإمام بالذين معه ويسجد، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ركع الذين وراءه لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا فانصرفوا، والإمام قائم، فقاموا إزاء العدوّ، وأقبل الآخرون فكبروا مكان الإمام، فركع بهم الإمام وسجد ثم سلم، فقاموا فركعوا لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا. (1) 10349- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد: أن صالح بن خوّات أخبره، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، ثم ذكر نحوه. (2) 10350- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وسأله قال، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة، ثم يركعون لأنفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم، ويذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين، فهي له ركعتان ولهم واحدة. ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين. (3) 10351- قال بندار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد،   (1) الأثران: 10348، 10349 - رواه مالك في الموطأ: 183، والبخاري (الفتح 7: 328) ، وأبو داود في سننه 2: 18 رقم: 1239. (2) الأثران: 10348، 10349 - رواه مالك في الموطأ: 183، والبخاري (الفتح 7: 328) ، وأبو داود في سننه 2: 18 رقم: 1239. (3) الأثر: 10350 -"يحيى بن سعيد" هو القطان. وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7: 328) ، والترمذي 2: 455 (شرح أخي السيد أحمد) ، والبيهقي في سننه 3: 253، والنسائي في سننه 3: 178. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 وقال لي: اكتبه إلى جنبه، فلست أحفظه، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد. (1) 10352- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات: أن الإمام يقوم فيصفّ صفين، طائفة مواجهة العدو، وطائفة خلف الإمام. فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة، ثم يقومون فيصلون لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون، ثم ينطلقون فيصفُّون. ويجيء الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة. (2) 10353- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوّات، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلاة الخوف: أن تقوم طائفة من خلف الإمام وطائفة يلون العدو، فيصلّي الإمام بالذين خلفه ركعة ويقوم قائمًا، فيصلي القوم إليها ركعة أخرى، ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم، ويجيء أصحابهم والإمام قائم، فيصلي بهم ركعة، فيسلم. ثم يقومون فيصلون إليها ركعة أخرى، ثم ينصرفون= قال عبيد الله: فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف بشيء هو أحسن عندي من هذا. (3) 10354- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،   (1) الأثر: 10351 - هذا الأثر إشارة، إلى الأثر السالف رقم: 10347، مرفوعًا. ورواه الترمذي 2: 456، والبيهقي في السنن 3: 253. وقال الترمذي: "لم يرفعه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد، وهكذا روى أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري موقوفًا. ورفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد". (2) الأثر: 10352، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله، (وهو عبيد الله بن عمر) عن القاسم، رواه البيهقي في السنن 3: 253 من حديث عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... "، فصرح فيه بأنه رواه عن أبيه، ولم يقل"عن رجل من أصحاب النبي"، وهو مخالف له في لفظه كل المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم: 10346. وكان في المطبوعة هنا: "فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن عندي من هذا" بنصب"شيئًا" وفي المخطوطة"شيء"، فرأيت أن أقرأها"بشيء". (3) الأثر: 10352، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله، (وهو عبيد الله بن عمر) عن القاسم، رواه البيهقي في السنن 3: 253 من حديث عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... "، فصرح فيه بأنه رواه عن أبيه، ولم يقل"عن رجل من أصحاب النبي"، وهو مخالف له في لفظه كل المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم: 10346. وكان في المطبوعة هنا: "فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن عندي من هذا" بنصب"شيئًا" وفي المخطوطة"شيء"، فرأيت أن أقرأها"بشيء". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، فهذا عند الصلاة في الخوف، يقوم الإمام وتقوم معه طائفة منهم، وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو. فيصلي الإمام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئته، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانيةَ والإمام جالس، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم، فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية. فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة. * * * وقال آخرون: بل تأويل قوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"، فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل في صلاته فدخلت معه في صلاته، السجدةَ الثانية من ركعتها الأولى (1) ="فليكونوا من ورائكم"، يعني: من ورائك، يا محمد، ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدو. قالوا: وكانت هذه الطائفة لا تسلِّم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بإزاء العدوّ، عليها بقية صلاتها. (2) قالوا: وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدوّ حتى تدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقية صلاته، فيصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه. قالوا: وذلك معنى قول الله عز ذكره:"ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم". * * * ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان تبقَّى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وسلامه من صلاته، على قول قائلي هذه المقالة ومتأوِّلي هذا التأويل.   (1) السياق: "فإذا سجدت الطائفة ... السجدة الثانية". (2) في المطبوعة: "وعليها بقية صلاتها" بزيادة واو. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 فقال بعضهم: كانت الطائفة الثانية التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها، إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في مقامها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، والطائفة التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدو بعدُ لم تتم. (1) فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت بقية صلاتها. ذكر الرواية بذلك: 10355- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله قال، قال عبد الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقامت طائفة منا خلفه، وطائفة بإزاء= أو مستقبلي= العدو، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذين خلفه ركعة، ثم نكصوا فذهبوا إلى مقام أصحابهم. وجاء الآخرون فقاموا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم رسول الله، ثم قام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقامَ أصحابهم مستقبلي العدوّ، ورجع الآخرون إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة. (2)   (1) في المطبوعة: "لم تتم صلاتها"، زاد"صلاتها"، وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب جيد. (2) الأثر: 10355 -"عبد الواحد بن زياد العبدي"، أحد الأعلام الثقات، مضى برقم: 2616. و"خصيف" هو: خصيف بن عبد الرحمن الجزري مضى برقم: 8136، تكلموا فيه، قال ابن حبان: "تركه جماعة من أئمتنا، واحتج به آخرون وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروي، ويتفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف فيه، قبول ما وافق الثقات في الروايات، وترك ما لم يتابع عليه، وهو من أستخير الله تعالى فيه". و"أبو عبيدة"، هو: أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، مضى برقم: 4570، 4694. و"عبد الله" هو عبد الله بن مسعود. وهذا الأثر رواه أبو داود 2: 22 رقم: 1224. والبيهقي في السنن 3: 261، من طريق عبد السلام بن حرب عن خصيف، ومن طريق الثوري عن خصيف، ومن طريق شريك عن خصيف. وهذا الأخير هو رقم: 10357. ولفظه مخالف للفظ حديث عبد الواحد بن زياد عن خصيف، قال البيهقي: "وهذا الحديث مرسل، أبو عبيدة لم يدرك أباه، وخصيف الجزري ليس بالقوي". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 10356- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر نحوه. (1) 10357- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2) وقال آخرون: بل كانت الطائفة الثانية التي صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يُسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها، فتقف موقفَ أصحابها الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى، وتجيء الطائفة الأولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها= فقال بعضهم: كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة. وقال آخرون: بل كانت تقضي بقراءة= فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هناك وسلمت، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وأقبلت الطائفة التي صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلَّت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من   (1) الأثران: 10356، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2: 22، رقم 1224. (2) الأثران: 10356، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2: 22، رقم 1224. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت الركعة الثانية صلاتها بقراءة، فإذا فرغت وسلمت، انصرفت إلى أصحابها. *ذكر من قال ذلك: 10358- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في صلاة الخوف، قال: يصف صفًّا خلفه، وصفًّا بإزاء العدو في غير مصلاه، فيصلي بالصف الذي خلفه ركعة، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك، وجاء أولئك الذين بإزاء العدو، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، (1) وقد صلى هو ركعتين، وصلى كلّ صف ركعة. ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدو، فقاموا مقامهم، وجاؤوا فقضوا الركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بإزاء العدو، وجاء أولئك فصلوا ركعة (2) = قال سفيان: فتكون لكل إنسان ركعتين ركعتين. (3) 10359- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعًا، عن سفيان قال: كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف، فذكر نحوه. 10360- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مثل ذلك. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "وجاء أولئك الذين بإزاء العدو، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم عليهم""يصلي" و"يسلم" مضارعًا، والصواب الجيد ما أثبته من المخطوطة. (2) الأثر: 10358 -"الحارث"، هو: "الحارث بن محمد بن أبي سامة" و"عبد العزيز" هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي"، مضيا برقم: 10295، 10315، وغيرهما، وسيأتي برقم: 10360. (3) في المطبوعة: "فيكون لكل إنسان ركعتان ركعتان"، والذي أثبته من المخطوطة، وهو صواب حسن جدًا. (4) الأثر: 10360 -"الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، و"عبد العزيز بن أبان الأموي"، انظر التعليق على الأثر: 10358. وزدت: "رحمة الله عليه" من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 وقال آخرون: بل كل طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها، من غير تضييع منهم بعضها. *ذكر من قال ذلك: 10361- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها. قال: فصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة، وخَلَفهم الآخرون فقاموا مقامهم، فصلى بهم ركعة ثم سلم، فقامت كل طائفة فصلت ركعًة. 10362- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي موسى، بنحوه. 10363- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي العالية ويونس بن جبير قالا صلى أبو موسى الأشعري بأصحابه بالدير من أصبهان، (1) وما بهم يومئذ خوف، (2) ولكنه أحب أن يعلمهم صلاتهم. فصفَّهم بصفَّين: (3) صفًّا خلفه، وصفًّا مواجهة العدوّ مقبلين على عدوهم. فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهبوا إلى مصافّ أصحابهم. وجاء أولئك، فصفّهم خلفه، فصلى بهم ركعة ثم سلم. فقضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض. فكانت للإمام ركعتان في جماعة، (4) ولهم ركعة ركعة. (5)   (1) في المطبوعة: "صلى أبو موسى بأصحابه بأصبهان"، غير ما في المخطوطة، وفي الدر المنثور"بالدار من أصبهان"، ولم أهتد إلى موضع يقال له"الدير" أو "الدار" من بلاد أصبهان. ومع ذلك فكثير من بلدان هذه الجهات، قد أغفلت معاجم البلدان ذكرها، وقلما تظفر بها إلا في ثنايا الأخبار المنثورة في كتب التاريخ والفتوح. (2) في الدر المنثور: "وما بهم يومئذ كبير خوف". (3) في المطبوعة"فصفهم صفين"، وهو صواب في المعنى، ولكني أثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "ركعتين"، وأثبت ما في المخطوطة. (5) الأثر: 10363، 10364 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 213، ونسبه لابن أبي شيبة وجده، بغير هذا اللفظ. وأشار إليه البيهقي في السنن 3: 252. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 10364- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن أبي موسى، بمثله. 10365- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه قال في صلاة الخوف: يصلي بطائفة من القوم ركعة، (1) وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم، ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم. فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. (2) 10366- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه. 10367- حدثني عمران بن بكَّار الكلاعي قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه صلى صلاة الخوف، فذكر نحوه. (3) 10368- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرني الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: أنه كان يحدِّث أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه. (4) 10369- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (5) 10370- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع،   (1) في المطبوعة: "يصلي طائفة"، والصواب من المخطوطة. (2) الأثر: 10365 - والآثار التي تليه: 10366، 10367، ثم 10370، 10371، خمسة أسانيد لحديث نافع، عن ابن عمر. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده برقم: 6159، وهو إسناد الطبري رقم: 10371، ثم رواه برقم: 6431، من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وانظر شرح أخي السيد أحمد في المسند على الأثر: 6159. (3) الأثر: 10367 -"عمران بن بكار الكلاعي" مضى برقم: 2071. (4) الأثران: 10368، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده: 6351، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. (5) الأثران: 10368، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده: 6351، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس فيسجدون سجدة واحدة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو، ثم ذكر نحوه. (1) 10371- حدثنا محمد بن هارون الحربي قال، حدثنا أبو المغيرة الحمصي قال، حدثنا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، ثم ذكر نحوه. (2) 10372- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله:"فليصلوا معك"، فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح، فيقبلون على العدو، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة، ثم يأخذون أسلحتهم فيستقبلون العدو، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولسائر الناس ركعة واحدة، ثم يقضون ركعة أخرى. وهذا تمام الصلاة. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف والعدو يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، إذ كان العدو بين الإمام والقبلة.   (1) الأثران: 10370، 10371 - انظر التعليق على رقم: 10365. "محمد بن هارون الحربي"، المعروف بأبي نشيط، بغدادي، ونسبته في التهذيب"الربعي"، وهي نسبة إلى القبيلة، أما "الحربي" فنسبة إلى"الحربية"، وهي محلة كبيرة ببغداد عند"باب حرب" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور، وكان يتولى شرطة بغداد، وهو"حرب بن عبد الله البلخي"، نسب إليها طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا في التفسير. و"أبو المغيرة الحمصي" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212، وصلى عليه أحمد بن حنبل. (2) الأثران: 10370، 10371 - انظر التعليق على رقم: 10365. "محمد بن هارون الحربي"، المعروف بأبي نشيط، بغدادي، ونسبته في التهذيب"الربعي"، وهي نسبة إلى القبيلة، أما "الحربي" فنسبة إلى"الحربية"، وهي محلة كبيرة ببغداد عند"باب حرب" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور، وكان يتولى شرطة بغداد، وهو"حرب بن عبد الله البلخي"، نسب إليها طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا في التفسير. و"أبو المغيرة الحمصي" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212، وصلى عليه أحمد بن حنبل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 ذكر الأخبار المنقولة بذلك: 10373- حدثنا أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ، فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض يومئذ: كان فرصة لكم، لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم! قال قائل منهم: فإنّ لهم صلاة أخرى هي أحبَّ إليهم من أهلهم وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى آخر الآية، وأعلمه ما ائتمر به المشركون. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة، فجعل المسلمين خلفه صفين، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعًا، ثم ركع وركعوا معه جميعًا. فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه، وقام الصف الذين خلفهم مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقام، سجد الصف الثاني ثم قاموا، وتأخر الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الآخرون، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ركع ركعوا معه جميعًا، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقعد الذين يلونه، سجد الصفّ المؤخر، ثم قعدوا فتشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّم عليهم جميعًا. فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردنا! (1)   (1) الأثر: 10373 -"النضر أبو عمر" هو: "نضر بن عبد الرحمن الخزاز"، مضى برقم: 718، وهو ضعيف الحديث، سئل عنه أبو نعيم فقال: "لا يسوى هذا= ورفع شيئًا من الأرض= كان يجيء فيجلس عند الحماني، وكل شيء يسأل عنه يقول: عكرمة عن ابن عباس". وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 3: 30، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وهذا عجب، فإن البخاري قال في ترجمة"النضر": "منكر الحديث"!! فكيف يكون هذا الخبر على شرطه!! ومن أجل مثل هذا لم يبال العلماء بتصحيح الحاكم غفر الله له. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 213، وزاد نسبته للبزار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 10374- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمر بن ذر قال، حدثني مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان بالماء الذي يلي مكة، فلما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهرَ فرأوه سجدَ وسجد الناس، قالوا: إذا صلى صلاة بعد هذه أغرنا عليه! فحذره الله ذلك. فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكبّر وكبر الناس معه، فذكر نحوه. 10375- حدثني عمران بن بكار قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، أخبرني عبيد الله بن عمرو، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع النبّي صلى الله عليه وسلم، فلقينا المشركين بنخل، فكانوا بيننا وبين القبلة. فلما حضرت صلاة الظهر، (1) صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جميع. فلما فرغنا، تذَامر المشركون، (2) فقالوا: لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون! فقال بعضهم: فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الآن، هي أحبّ إليهم من أبنائهم، فإذا صلوا فميلوا عليهم. قال: فجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليهما بالخبر، (3) وعلّمه كيف يصلي. فلما حضرت العصر، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم مما يلي العدوّ، وقمنا خلفه صفين، فكبر نبي الله وكبرنا معه جميعًا، ثم ذكر نحوه. (4)   (1) في المطبوعة: "فلما حضرت الظهر"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) قوله: "تذامر المشركون" أي: تلاوموا على ترك الفرصة، وقال بعضهم: "قد تكون بمعنى تحاضوا على القتال". ولكن الأجود، هو المعنى الأول، فإن"التذامر" - فيما أرى - يحمل معنى التلاوم والحض على انتهاز الفرصة من العدو. وفي الدر المنثور: "تآمر المشركون"، والصواب ما في المخطوطة والمطبوعة. وقد ذكره ابن الأثير بهذا اللفظ، ونقله صاحب اللسان"تذامر المشركون" في حديث صلاة الخوف، يعني هذا الحديث بلا شك. (3) في المطبوعة: " ... إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة."عليهما"، يعني رسول الله وجبريل. (4) الأثر: 10375 -"عمران بن بكار الكلاعي"، مضى قريبًا رقم: 10367. " يحيى بن صالح الوحاظي" ثقة من أهل الشام. مات سنة 222، روى عن عبيد الله بن عمرو الرقي، وإسماعيل بن عياش وغيرهما. و"ابن عياش" هو: إسماعيل بن عياش بن سلم العنسي. ثقة حافظ، وقد تكلموا فيه. مترجم في التهذيب. و"عبيد الله بن عمرو الرقي الجزري" أبو وهب. مضى برقم: 1566، 4964، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"عبيد الله بن عمر"، وهو خطأ لا شك فيه، فإنه هو الذي يروي عن أبي الزبير. و"أبو الزبير" هو: محمد بن مسلم بن تدرس. مضى برقم: 2029، 8025. وهذا الأثر رواه ابن جرير بثلاثة أسانيد، هذا والإسنادان التاليان. وحديث أبي الزبير عن جابر، رواه مسلم 5: 127 من طريق أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير. ورواه النسائي في السنن 3: 176 من طريق عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزبير. وأشار إليه البخاري (الفتح 7: 326) . وأفاض الحافظ ابن حجر في مواضع في بيان حديث أبي الزبير عن جابر، ورواه البخاري من طريق هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهما إسنادا أبي جعفر رقم: 10377، 10378، وأبو داود الطيالسي في مسنده: 240، من طريق هشام أيضًا. وأخرجه البيهقي في السنن 3: 258، وكلهم اختصره. وقصر السيوطي في الدر المنثور 2: 214، فاقتصر على نسبته لابن أبي شيبة وابن جرير. ورواية ابن جرير مطولة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 10376- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة، عن هشام بن أبي عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. 10377- حدثنا مؤمل بن هشام قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. 10378- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الظهر، وعلى المشركين خالد بن الوليد. فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غرة، ولقد أصبنا منهم غفلة!! فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، [ففرّقنا] = يعني فرقتين= (1) فرقة تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرقة تصلي خلفهم يحرسونهم. ثم كبر فكبروا جميعًا، وركعوا جميعًا، ثم سجد الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام فتقدم الآخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعًا، ثم سجد بالذين يلونه، حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصافِّ أصحابهم، ثم تقدم الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم. فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم. وصلى مرة أخرى في أرض بني سليم. (2) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية، على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ورووا هذه الرواية=: وإذا كنت يا محمد، فيهم= يعني: في أصحابك خائفا="فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، يعني: ممن دخل معك في صلاتك="فإذا سجدوا" يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك، ورفعت رءوسها من سجودها="فليكونوا من ورائكم"، يقول: فليَصِرْ مَنْ خلفك خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك (3) ="ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا"، يعني الطائفةَ الحارسة التي صلت معه، غير أنها لم تسجد بسجوده. فمعنى قوله:"لم يصلوا"- على مذهب هؤلاء-: لم يسجدوا بسجودك="فليصلوا معك"،   (1) في المطبوعة: "صلاة العصر يعني فرقتين"، وهو لا يكاد يستقيم، فزدت ما بين القوسين من النسائي، ونصه هناك"ففرقنا فرقتين" ليس فيه (يعني) . (2) الأثر: 10378 -"عمرو بن عبد الحميد الآملي" شيخ الطبري، مضى برقم: 3759، وقد قال أخي هناك: "لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة، ولعله محرف عن شيء لا أعرفه". والذي قاله لا يصح، فقد جاء هنا أيضًا"عمرو بن عبد الحميد"، وروى عنه أبو جعفر في التاريخ في موضع واحد 1: 184، قال: "حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي قال، حدثنا أبو أسامة"، فثبت أنه غير محرف. وخبر"أبي عياش الزرقي"، مضى من طريق منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش بثلاثة أسانيد، 10323، 10324، وطريق عبد العزيز بن عبد الصمد، هو الذي رواه النسائي في السنن 3: 177 وهذا الأثر غير موجود في المخطوطة. (3) في المخطوطة: "وليصر من خلفك وخلف الطائفة ... " بالواو في"ليصر"، وبالواو قبل"خلف الطائفة"، وصححها في المطبوعة: "فليصر من خلفك خلف" فجعل الأول فاء، وحذف الثانية، وهو الصواب إن شاء الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 يقول: فليسجدوا بسجودك إذا سجدت، ويحرُسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى= وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، يعني الحارسة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها="فليكونوا من ورائكم"، يعني: من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصلِّ معك الركعة الأولى بإزاء العدو، وبعد فراغها من بقية صلاتها (1) ="ولتأت طائفة أخرى"، وهي الطائفة التي كانت بإزاء العدو="لم يصلوا"، يقول: لم يصلوا معك الركعة الأولى="فليصلوا معك"، يقول: فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك="وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، لقتال عدوهم، بعد ما يفرغون من صلاتهم. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه فعله يوم ذات الرقاع، والخبر الذي روى سهل بن أبي حثمة. (2) وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله عز ذكره قال:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة"، وقد دللنا على أن"إقامتها"، إتمامها بركوعها وسجودها، ودَللنا مع ذلك على أن قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، إنما هو إذنٌ بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف. فإذْ صح ذلك، كان بيِّنًا أنْ لا وجه لتأويل من تأول ذلك: أن الطائفة الأولى إذا سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها، لقوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"،   (1) في المطبوعة: " ... بإزاء العدو بعد فراغها ... " بحذف الواو من"وبعد"، والصواب ما في المخطوطة. (2) يعني الخبر رقم: 10345، ثم خبر سهل بن أبي حثمة من: 10346 - 10353. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرتُ قبل= ولأنه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلَها، عُنِي به القصر من عدد الركعات. وإذ كان لا وجه لذلك، فقول من قال:"أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة، على نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان"، أبعد. (1) وذلك أنّ الله جل ثناؤه يقول:"ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك"، وكلتا الطائفتين قد كانت صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته بعسفان. ومحالٌ أن تكون التي صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم هي التي لم تصلِّ معه. فإن ظن ظان أنه أريد بقوله:"لم يصلوا"، لم يسجدوا= فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني"الصلاة"، وإنما توجه معاني كلام الله جل ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوهها، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له. وإذْ كان ذلك كذلك= ولم يكن في الآية أمر من الله تعالى ذكرهُ للطائفة الأولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته، (2) ولا على المسلمين الذين بإزاء العدوّ في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر (3) = لم يكن لأمرها بتأخير ذلك، وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها، معنًى. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها، فصلاته مجزئة عنه تامة، لصحّة الأخبار بكل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه   (1) قوله: "أبعد" خبر قوله: "فقول من قال"، والسياق: فقول من قال ... أبعد. (2) في المطبوعة: " ولم يكن في الآية أمر من الله عز ذكره للطائفة الأولى"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) قوله: "ولا على المسلمين ... " معطوف على قوله: "ولم يكن في الآية أمر ... " والمعنى: ولم يكن على المسلمين الذين بإزاء العدو ... ضرر ... في اشتغالها بقضاء ذلك. وسياق الجملة التالية: "وإذ كان ذلك كذلك ... لم يكن لأمرها بتأخير ذلك ... معنى". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 وسلم، وأنه من الأمور التي علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ثم أباح لهم العمل بأيِّ ذلك شاءوا. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله:"ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم"، فإنه يعني: تمنى الذين كفروا بالله (1) ="لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم": يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها. (2) ="فيميلون عليكم ميلة واحدة"، يقول: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم حملة واحدة، فيصيبون منكم غِرَّة بذلك، فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم. يقول جل ذكره: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدو، (3) فتمكنوا عدوّكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم، ولكن أقيموا الصلاة على ما بيّنت لكم، وخذوا من عدوكم حِذْركم وأسلحتكم. * * *   (1) انظر تفسير"ود" فيما سلف ص: 17، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"غفل" فيما سلف 2: 244، 316 / 3: 127، 184. (3) في المطبوعة هنا أيضًا: "موافقو العدو" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ، صوابه ما أثبت، وقد سلف شرح ذلك في ص: 130، تعليق: 1. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا جناح عليكم"، ولا حرج عليكم ولا إثم (1) ="إن كان بكم أذى من مطر"، يقول: إن نالكم [أذى] من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوِّكم (2) ="أو كنتم مرضى"، يقول: أو كنتم جرحى أو أعِلاء (3) ="أن تضعوا أسلحتكم"، إن ضعفتم عن حملها، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض، فخذوا من عدوكم="حذركم"، يقول: احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارّون="إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا"، يعني بذلك: أعدّ لهم عذابًا مُذِلا يبقون فيه أبدًا، لا يخرجون منه. وذلك هو عذاب جهنم. (4) * * * وقد ذكر أن قوله:"أو كنتم مرضى" نزل في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحًا.   (1) انظر تفسير"جناح" فيما سلف ص: 123، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، وكان في المطبوعة: "موافقو عدوكم"، وانظر التعليق السالف ص: 162 تعليق: 3. (3) "أعلاء" جمع"عليل". وكان في المطبوعة: "يقول: جرحى"، وأثبت الزيادة من المخطوطة. (4) انظر تفسير"مهين" فيما سلف 8: 355 تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 *ذكر من قال ذلك: 10379- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن كان بكم أذًى من مطر أو كنتم مرضى"، عبد الرحمن بن عوف، كان جريحًا. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا فرغتم، أيها المؤمنون، من صلاتكم وأنتم مواقفو عدوِّكم= التي بيّناها لكم، (1) فاذكروا الله على كل أحوالكم= قيامًا وقعودًا ومضطجعين على جنوبكم، بالتعظيم له، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم، لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة الأنفال: 45] ، وكما:- 10380- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واذكروا الله كثيرًا"، (2) يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، (3) ثم عذر أهلها في حال عذرٍ، غيرَ الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله، فقال:"فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم"، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرِّ والعلانية، وعلى كل حالٍ. * * *   (1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543 / 4: 195. وقوله: "التي بينها لكم"، صفة قوله: "من صلاتكم". وكان في المطبوعة هنا أيضًا: "موافقو عدوكم"، خطأ. انظر التعليق السالف ص163، تعليق: 2. (2) في المطبوعة: "فاذكروا الله قيامًا"، مكان قوله تعالى: "واذكروا الله كثيرًا"، وهو في ظني تصرف من الناشر، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا جعل لها جزاء معلومًا"، وهو خطأ، والصواب"حدًا" كما يدل عليه سياق الكلام، وسياق المعنى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 وأما قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معنى قوله:"فإذا اطمأننتم"، فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم (1) ="فأقيموا"، يعني: فأتموا الصلاة التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض. (2) *ذكر من قال ذلك: 10381- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم"، قال: الخروج من دارِ السفر إلى دار الإقامة. 10382- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"فإذا اطمأننتم"، يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم، فأتموا الصلاة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"فإذا استقررتم"="فأقيموا الصلاة"، أي: فأتموا حدودَها بركوعها وسجودها. *ذكر من قال ذلك: 10383- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا اطمأننتم"، قال: فإذا اطمأننتم بعد الخوف. 10384- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: فإذا اطمأننتم فصلُّوا الصلاة، لا تصلِّها راكبًا ولا ماشيًا ولا قاعدًا. (3)   (1) وانظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف 5: 492. (2) في المخطوطة: "فأقيمو الصلاة التي أذن ... " ليس فيها"يعني: فأتموا". (3) انظر تفسير"إقامة الصلاة" فيما سلف 1: 241، وفهارس اللغة في الأجزاء السالفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 10385- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: أتموها. 10386- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، تأويل من تأوّله: فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم، أيها المؤمنون، واطمأنت أنفسكم بالأمن="فأقيموا الصلاة"، فأتموا حدودَها المفروضة عليكم، (1) غير قاصريها عن شيء من حدودها. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره عرَّف عباده المؤمنين الواجبَ عليهم من فرض صَلاتهم بهاتين الآيتين في حالين: إحداهما: حالُ شدة خوف، أذن لهم فيها بقصر الصلاة، على ما بيَّنت من قصر حدودها عن التمام. والأخرى: حالُ غير شدة الخوف، أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها، على ما وصفه لهم جل ثناؤه، من معاقبة بعضهم بعضًا في الصلاة خلف أئمتهم، وحراسة بعضهم بعضًا من عدوهم. وهي حالة لا قصر فيها، لأنه يقول جل ثناؤه: لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة". فمعلوم بذلك أن قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، إنما هو: فإذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم، فأقيموها. وتلك حالة شدة الخوف، لأنه قد أمرهم بإقامتها في حالٍ غير شدة الخوف بقوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الآية. * * *   (1) في المطبوعة: "فأتموها بحدودها"، غير ما في المخطوطة مسيئًا في تغييره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة. (1) *ذكر من قال ذلك: 10387- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (2) 10388- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا،"الموقوت"، المفروض. (3) 10389- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما"كتابًا موقوتًا"، فمفروضًا. 10390- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (4) * * *   (1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 3: 364، 365، 409 / 4: 295، 297 / 5: 300، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة. (2) في المطبوعة: "كتابًا موقوتًا، قال: فريضة مفروضة"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 10388 - كان إسناد هذا الأثر في المطبوعة: "حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني علي، عن ابن عباس: إن الصلاة ... ". وأثبت الإسناد الذي في المخطوطة. ومع ذلك فالإسناد الذي في المطبوعة فيه خطأ، فإنه أسقط بين"حدثنا عبد الله بن صالح" وبين"قال حدثني علي" ما لا ينبغي إسقاطه وهو: "قال حدثني معاوية"، فهذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 10380. (4) الأثر: 10390 - هذا الأثر مقدم على الذي قبله في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا واجبًا. *ذكر من قال ذلك: 10391- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: كتابًا واجبًا. 10392- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: واجبًا. 10393- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 10394- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن معمر بن سام، عن أبي جعفر في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: مُوجَبًا. (1)   (1) الأثر: 10394 -"معمر بن سام"، يقال هو منسوب إلى جده وهو"معمر بن سام بن موسى" أو: "معمر بن يحيى بن سام"، روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وعن أخيه أبان بن يحيى بن سام، وفاطمة بنت علي. روى عنه وكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم. سئل أبو زرعة عن"معمر بن يحيى بن سام" فقال: كوفي ثقة. مترجم في التهذيب، وفي الكبير 4 / 1 / 377"معمر بن يحيى بن سام"، وفي 4 / 1 / 378"معمر بن موسى بن سام"، وهما ترجمة واحدة. وفي الجرح والتعديل 4 / 1 / 258 وسيأتي في رقم: 10396، "معمر بن يحيى". وكان في المطبوعة: "معمر بن هشام" وهو خطأ محض، وفي المخطوطة"معمر بن شام"، والصواب ما أثبت. و"أبو جعفر" هو: أبو جعفر الباقر" محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، كان ثقة كثير الحديث، وذكره النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال الزبير بن بكار: "كان يقال لمحمد: باقر العلم". وكان في المخطوطة: "موقوتا قال: موجوبا" وهي غريبة لا يجيزها الاشتقاق، وكأن الناسخ سها، وغلب عليه وزن"موقوتا"، فكتب"موجوبا"، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. أو تكون كما يجيء في الأثر رقم: 10396"موقوتًا: وجوبها" فكتبها الناسخ"موجوبا"، وقرأها كذلك خطأ أو سهوًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 10395- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، و"الموقوت"، الواجب. 10396- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا معمر بن يحيى قال، سمعت أبا جعفر يقول:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: وجوبها. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، منجَّمًا يؤدُّونها في أنجمها. (2) *ذكر من قال ذلك: 10397- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتًا كوقت الحجِّ. 10398- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن زيد بن أسلم في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: منجَّمًا، كلما مضى نجم جاء نَجْم آخر. يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر. 10399- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) الأثر: 10396 -"معمر بن يحيى" هو"معمر بن سام" الذي سلف في الأثر: 10394، وانظر التعليق السالف. (2) "النجم" هو الوقت المضروب، يقال: "جعلت مالي على فلان نجومًا منجمة، يؤدي كل نجم في شهر كذا"، وهو القسط أو الوظيفة يؤديها عند حلول وقتها مشاهرة أو مساناة. وجمع"نجم""نجوم" و"أنجم"، و"نجم المال والدين ينجمه تنجيمًا". وانظر تفسير ذلك في الأثر التالي رقم: 10398. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، بمثله. * * * قال أبو جعفر: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض. لأن ما كان مفروضًا فواجب، وما كان واجبًا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجَّم. غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة، قول من قال:"إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا منجَّمًا"، لأن"الموقوت" إنما هو"مفعول" من قول القائل:"وَقَتَ الله عليك فرضه فهو يَقِته"، ففرضه عليك"موقوت"، إذا أخرته، جعل له وقتًا يجب عليك أداؤه. (1) فكذلك معنى قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، إنما هو: كانت على المؤمنين فرضًا وقَّت لهم وقتَ وجوب أدائه، فبيَّن ذلك لهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا تهنوا"، ولا تضعفوا. * * * من قولهم:"وهَنَ فلان في هذا الأمرَ يهِن وَهْنًا ووُهُونًا". (2) * * * وقوله:"في ابتغاء القوم"، يعني: في التماس القوم وطلبهم، (3) و"القوم"   (1) في المطبوعة: "إذا أخبر أنه جعل له وقتًا ... " وهو كلام غسيل من كل معنى. وفي المخطوطة: "إذا احرانه" غير منقوطة، وبزيادة ألف بعد الراء، وصواب قراءتها ما أثبت، وهو صواب المعنى أيضًا. (2) انظر تفسير"وهن" فيما سلف 7: 234، 269، و"الوهون" مصدر لم تنص عليه أكثر كتب اللغة، ولم يذكره أبو جعفر فيما سلف 7: 234. (3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 71 تعليق: 2، والمراجع هناك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك بالله="إن تكونوا تألمون"، يقول: إن تكونوا أيها المؤمنون، تَيْجعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا، (1) ="فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: فإن المشركين يَيْجعون مما ينالهم منكم من الجراح والأذى مثل ما تَيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها="وترجون"، أنتم أيها المؤمنون = "من الله" من الثواب على ما ينالكم منهم= "ما لايرجون" هم على ما ينالهم منكم. يقول: فأنتم= إذ كنتم موقنين من ثواب الله لكم على ما يصيبكم منهم، (2) بما هم به مكذّبون= أولى وأحرَى أن تصبروا على حربهم وقتالهم، منهم على قتالكم وحربكم، وأن تجِدُّوا من طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يَهنون فيه ولا يَجِدّون، فكيف على ما جَدُّوا فيه ولم يهنوا؟ (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10400- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تيجعون، فإنهم ييجعون كما تيجعون، وترجون من الله من الأجر والثواب ما لا يرجون.   (1) يقال: "وجع الرجل يوجع وييجع وياجع وجعا"، كله صواب جيد. (2) في المطبوعة: "إن كنتم موقنين"، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة. وهذه الجملة بين الخطين، معترضة بين المبتدأ والخبر. والسياق: "فأنتم.. أولى وأحرى أن تصبروا". (3) في المطبوعة: "فإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون هم فيه ولا تجدون، فكيف على ما وجدوا فيه ولم يهنوا"، وهو كلام لا معنى له، وضع عليه ناشر الطبعة الأولى رقم (3) دلالة على اضطراب الكلام. وفي المخطوطة: "وإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون ولا يحدون، فكيف على فاحذوا فيه ولم يهنوا"! وهي أشد اضطرابًا وفسادًا لعدم نقطها. وصواب قراءتها ما أثبت. وسياق هذه العبارة كلها: "فأنتم ... أولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم ... وأن تجدوا في طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يهنون ... " أي: لكي يقاتلوهم على الأمر الذي لا يجدون فيه جدًا لا وهن معه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 10401- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، قال يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإن تكونوا تيجعون الجراحات، (1) فإنهم يَيْجعون كما تيجعون. * * * 10402- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، لا تضعفوا. 10403- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا تهنوا"، يقول: لا تضعفوا. (2) 10404- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، قال يقول: لا تضعفوا عن ابتغائهم="إن تكونوا تألمون" القتال="فإنهم يألمون كما تألمون". وهذا قبل أن تصيبهم الجراح (3) = إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه="فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون"، يقول: فلا تضعفوا في ابتغائهم بمكان القتال. (4) 10405- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تكونوا تألمون"، توجعون. 10406- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"إن تكونوا تألمون"، قال: توجعون لما يصيبكم منهم، فإنهم يوجعون   (1) في المطبوعة: "تيجعون من الجراحات" بزيادة"من"، والذي في المخطوطة صواب. (2) هذا الأثر لم يتم في المخطوطة، فقد انتهت الصحيفة بقوله تعالى"فلا تهنوا"، ثم قلب الوجه الآخر وكتب"في ابتغاء القوم ... "، وساق بقية الخبر التالي وأسقط إسناده. وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو الصواب بلا شك. (3) في المطبوعة: "قال: وهذا ... " بزيادة"قال"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "مكان القتال"، وفي المخطوطة: "لمكان القتال"، وهذا صواب قراءتها، يعني: جدهم في التماس القوم في المعركة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 كما توجعون، وترجون أنتم من الثواب فيما يصيبكم ما لا يرجون. 10407- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أُحُد، وأصابَ المسلمين ما أصاب، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال:"يا محمد، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ (1) الحرب سِجَال، يوم لنا ويوم لكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه. فقالوا:"لا سواء، لا سواء، (2) قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". فقال أبو سفيان:"عُزَّى لنا ولا عُزَّى لكم"، (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان:"أُعْلُ هُبَل، أُعْل هبل"! (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله أعلى وأجل"! فقال أبو سفيان:"موعدنا وموعدكم بدر الصغرى"، ونام المسلمون وبهم الكلوم (5) = وقال عكرمة: وفيها أنزلت: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [سورة آل عمران: 140] ، وفيهم أنزلت:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليمًا حكيمًا". (6) 10408- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"،   (1) في المطبوعة: "لا جرح إلا بجرح"، أساء قراءة المخطوطة إذ كانت غير منقوطة، فكتبها كما كتب!! ولا معنى له. وقوله: "الحرب سجال"، أي: مرة لهذا ومرة لهذا. (2) في المطبوعة، حذف"لا سواء" الثانية، لأن الناسخ كان قد كتب شيئًا ثم ضرب عليه، فاختلط الأمر على الناشر الأول، فحذف. (3) "العزى" صنم كان لقريش وبني كنانة. (4) و"هبل" صنم كان في الكعبة لقريش. وقد مضى تفسير"اعل هبل" 7: 310، وخطأ من ضبطه"أعل" بهمز الألف وسكون العين وكسر اللام، وأن الصواب أنها من"علا يعلو". (5) "الكلوم" جمع"كلم" (بفتح وسكون) : الجرح. و"الكليم": الجريح. (6) الأثر: 10407 - مضى برقم: 7098، وجاء فيه على الصواب، ومنه ومن المخطوطة صححت ما سلف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 قال: ييجعون كما تيجعون. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يتأول، (1) قوله:"وترجون من الله ما لا يرجون"، وتخافون من الله ما لا يخافون، من قول الله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) [سورة الجاثية: 14] ، بمعنى: لا يخافون أيام الله. وغير معروف صرف"الرجاء" إلى معنى"الخوف" في كلام العرب، إلا مع جحد سابق له، كما قال جل ثناؤه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [سورة نوح: 13] ، بمعنى: لا تخافون لله عظمة، وكما قال الشاعر: (2) لا تَرْتَجِي حِينَ تُلاقِي الذَّائِدَا ... أَسَبْعَةً لاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا (3) وكما قال أبو ذؤيب الهُذَليّ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ (4)   (1) في المطبوعة: "وقد ذكرنا عن بعضهم" وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "الشاعر الهذلي"، وهو خطأ نقل نسبة أبي ذؤيب في البيت بعده إلى هذا المكان. ولم أعرف هذا الراجز من يكون، وإن كنت أخشى أن يكون الرجز لأبي محمد الفقعسي. (3) معاني القرآن للفراء 1: 286، والأضداد لابن الأنباري: 9، واللسان (رجا) . (4) ديوانه: 143، ومعاني القرآن للفراء 1: 286، وسيأتي في التفسير 11: 62 / 25: 83 / 29: 60 (بولاق) . يروى: "إذا لسعته الدبر"، وتأتي روايته في التفسير"نوب عواسل" أيضًا. وهذا البيت من قصيدة له، وصف فيها مشتار العسل من بيوت النحل، فقال قبل هذا البيت: تَدَلَّى عَلَيْهَا بالحِبَالِ مُوَثَّقًا ... شَدِيدُ الْوَصَاةِ نابِلٌ وَابْنُ نِابِلِ فَلَوْ كَانَ حَبْلا مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَسَبْعِينَ بَاعًا، نَالَهَا بالأَنامِلِ يقول: تدلى على هذه النحل مشتار موثق بالحبال، شديد الوصاة والحفظ لما ائتمن عليه، حاذق وابن حاذق بما مرن عليه وجربه. ثم ذكر أنه لا يخاف لسع النحل، إذا هو دخل عليها فهاجت عليه لتلسعه. وقوله: "فخالفها"، أي دخل بيتها ليأخذ عسلها، وقد خرجت إليه حين سمعت حسه، فخالفها إلى بيوت عسلها غير هياب للسعها. ويروى"حالفها" بالحاء، أي: لازمها، ولم يخش لسعها. و"النوب" جمع"نائب" وهو صفة للنحل، أي: إنها ترعى ثم تنوب إلى بيتها لتضع عسلها، تجيء وتذهب. و"العوامل"، هي التي تعمل العسل. و"العواسل" النحل التي تصنع العسل، أو ذوات العسل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 وهي فيما بلغنا - لغةٌ لأهل الحجاز يقولونها، بمعنى: ما أبالي، وما أحْفِلُ. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) } يعني بذلك جل ثناؤه: ولم يزل الله="عليمًا" بمصالح خلقه="حكيمًا"، في تدبيره وتقديره. (2) ومن علمه، أيها المؤمنون، بمصالحكم عرّفكم= عند حضور صلاتكم وواجب فرض الله عليكم، وأنتم مواقفو عدوكم (3) = ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم، والسلامة من عدوكم. ومن حكمته بصَّركم ما فيه تأييدكم وتوهينُ كيد عدوكم. (4) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) } * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 286. (2) انظر تفسير"كان" و"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) في المطبوعة: "موافقو عدوكم"، وقد مضى مثل هذا الخطأ مرارًا فيما سلف ص: 146، تعليق: 1. (4) في المطبوعة: "بصركم بما فيه" بزيادة الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 القول في تأويل قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"،"إنا أنزلنا إليك" يا محمد="الكتاب"، يعني: القرآن="لتحكم بين الناس"، لتقضي بين الناس فتفصل بينهم="بما أراك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 الله"، يعني: بما أنزل الله إليك من كتابه="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله="خصيما" تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه="واستغفر الله"، يا محمد، وسَلْه أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره="إن الله كان غفورًا رحيمًا"، يقول: إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين، بتركه عقوبتهم عليها إذا استغفروه منها="رحيما" بهم. (1) فافعل ذلك أنت، يا محمد، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن. * * * وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه هَّم بذلك، فأمره الله بالاستغفار مما هَمَّ به من ذلك. * * * وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلَّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم: بنو أُبَيْرِق. * * * واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه، فوصفه الله بها. فقال بعضهم: كانت سرقًة سرقها. *ذكر من قال ذلك: 10409- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله"، فيما بين ذلك، في ابن أبيرق، (2) ودرعه من حديد، من يهود، التي سرق، (3)   (1) انظر تفسير"الاستغفار"، و"كان" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف في فهارس اللغة. (2) في المطبوعة: "طعمة بن أبيرق"، وسيأتي ذكر"طعمة بن أبيرق" في رقم: 10412، ولكنه في المخطوطة هنا"ابن أبيرق"، وسترى الاختلاف في الآثار في بني أبيرق هؤلاء. (3) قوله"من يهود" أثبتها من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 وقال أصحابه من المؤمنين للنبي:"اعذره في الناس بلسانك"، ورموا بالدّرع رجلا من يهود بريئًا. 10410- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. (1) 10411- حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبَشِير، ومُبَشِّر، وكان بشير رجلا منافقًا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم يقول:"قال فلان كذا"، و"قال فلان كذا"، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث! فقال: (2) أَوَ كُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَضِمُوا وَقَالُوا: ابْنُ الأبَيْرِقِ قَالَهَا! (3) قال: وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس   (1) الأثر: 10410 - هذا الأثر غير ثابت في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "إلا هذا الخبيث"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة: "نحلت وقالوا"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وقد جاء هذا البيت في المستدرك للحاكم خطأ:. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ضموا إلى بان أبيرق قالها والذي هنا هو صوابه، وأنشد بعده هناك: مُتَخَمِّطِينَ كأنَّنِي أَخْشَاهُم ... جَدَعَ الإِلهُ أُنُوفَهُمْ فَأَبَانَهَا هكذا جاء على الإقواء، على الخلاف بين القافية في"قالها" و"أبانها" وهو عيب جاء مثله في الشعر، لتقارب مخرج اللام والنون، وأعانه على ذلك وجود الهاء والألف صلة للقافية. وقوله: "أضموا" أي: غضبوا عليه وحقدوا. وقوله: "متخمطين"، قد غضبوا وهدروا وثاروا وأجلبوا. رجل متخمط: شديد الغضب له ثورة وجلبة. وفي المستدرك: "متخطمين" بتقدم الطاء على الميم، وهو خطأ، صوابه ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 إنما طعامهم بالمدينة التمر والشَّعير، وكان الرجل إذا كان له يَسَار فقدمت ضَافِطة من الشأم بالدَّرْمك، (1) ابتاع الرجل منها فخصَّ به نفسه. (2) فأما العِيال، فإنما طعامهم التمر والشَّعير. فقدمت ضافطة من الشأم، فابتاع عمي رِفاعة بن زيد حملا من الدَّرمك، فجعله في مَشْرُبة له، (3) وفي المشربة سلاح له: دِرْعَان وسيفاهما وما يصلحهما. فعُدِي عليه من تحت الليل، (4) فنُقِبَت المشربة، وأُخِذَ الطعام والسّلاح. فلما أصبح، أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، تعلَّم أنه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه، (5) فنقبت مشرُبتنا، فذُهِب بسلاحنا وطعامنا! قال: فتحسّسنا في الدار، (6) وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم. = قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل! = رجلا منا له صلاح وإسلام. (7) فلما سمع بذلك لبيد، اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: (8) والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتُبَيّننَّ هذه   (1) الضافطة: كانوا قومًا من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما. ثم قالوا للذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري الذي يكري الأحمال"الضافطة" و"الضفاط". و"الدرمك" هو الدقيق النقي الحواري، الأبيض. (2) في المطبوعة: "ابتاع الرجل منهم"، وفي المخطوطة: "منا"، وأثبت ما في المراجع. (3) "المشربة" (بفتح الميم وسكون الشين وفتح الراء أو ضمها) : وهي الغرفة، أو العلية، أو الصفة بين يدي الغرفة. والمشارب: العلالي. (4) في المراجع الأخرى: "من تحت البيت"، وكأن الذي في الطبري هو صواب الرواية. (5) "تعلم" (بتشديد اللام) ، بمعنى: اعلم. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "فتجسسنا" بالجيم، وهي صواب، وأجود منها بالحاء، كما في سائر المراجع."تحسس الخبر": تطلبه وتبحثه، وفي التنزيل: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه". و"الدار" هنا: المحلة التي تنزلها القبيلة أو البطن منها، ويعني بها القبيلة أو البطن، كما جاء في الحديث: "ألا أنبئكم بخير دور الأنصار؟ دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، وفي كل دور الأنصار خير". يعني القبيلة المجتمعة في محلة تسكنها. (7) في المطبوعة: "رجل" بالرفع، كأنه استنكر النصب! وهو صواب محض عال. (8) "اخترط سيفه": سله من غمده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له! = قال قتادة: فأتيت رَسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهلَ جفاءٍ، (1) عَمَدُوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشرُبة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظر في ذلك. (3) فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له:"أسير بن عروة"، فكلموه في ذلك. واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عَمَدوا إلى أهل بيت منا أهلَ إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بَيِّنةٍ ولا ثَبَت. (4) = قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عَمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت!! قال: فرجعت ولوِددْتُ أنِّي خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رَسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان! = فلم نلبث أن نزل القرآن:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يعني: بني أبيرق="واستغفر الله"، أي: مما قلت لقتادة="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون   (1) "الجفاء" غلظ الطبع. (2) في المخطوطة: "فلا حاجة لنا به"، وهما سواء. (3) في المطبوعة: "سأنظر في ذلك"، وفي الترمذي وابن كثير: "سآمر في ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) "الثبت" (بفتحتين) : الحجة والبينة والبرهان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 أنفسهم"، أي: بني أبيرق="إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا يستخفون من الناس إلى قوله:"ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم="ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يَرْم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، قولهم للبيد="ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك"، يعني: أسيرًا وأصحابه="وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرُّونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة" إلى قوله:"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا". فلما نزل القرآن، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة. = قال قتادة: فلما أتيتُ عمي بالسلاح، وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، (1) وكنت أرى إسلامه مَدْخولا (2) فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن، لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيد، (3) فأنزل الله فيه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ   (1) "عسا في الجاهلية" أي: كبر وأسن، من قولهم: "عسا العود" أي: يبس واشتد وصلب. (2) "المدخول"، من"الدخل" (بفتحتين) وهو العيب والفساد والغش، يعني أن إيمانه كان فيه نفاق. ورجل مدخول: أي في عقله دخل وفساد. (3) في المطبوعة: "سلافة بنت سعد بن سهل"، وفي المخطوطة: " ... بنت سعد بن سهيل"، وفي الترمذي وابن كثير"بنت سعد بن سمية" وفي المستدرك: "سلامة بنت سعد بن سهل، أخت بني عمرو بن عوف، وكانت عند طلحة بن أبي طلحة بمكة". والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته، وقد جاءت على الصواب في الدر المنثور، ثم جاءت كذلك في ديوان حسان بن ثابت. و"سلافة بنت سعد بن شهيد" أنصارية من بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس، استظهرت نسبها: "سلافة بنت سعد بن شهيد بن عمرو بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس". وذلك من جمهرة الأنساب لابن حزم، ص: 314، إذ ذكر"عويمر بن سعد بن شهيد بن عمرو ... " وقال: "له صحبة، ولاه عمر فلسطين". ولم أجد في تراجم الصحابة وسائر المراجع"عويمر بن سعد بن شهيد". هذا، ولكن نقل ابن حزم صحيح بلا شك. فإن يكن ذلك، فعويمر هذا أخو سلافة هذه. و"سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية" معروفة غير منكورة، فهي زوج طلحة بن أبي طلحة، وهي أم مسافع، والجلاس، وكلاب، بنو طلحة بن أبي طلحة (ابن هشام 3: 66) ، وقد قتلوا يوم أحد هم وأبوهم، قتل مسافعًا والجلاس، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، حمى الدبر، فنذرت سلافة: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر! فمنعته الدبر (النحل) حين أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة (ابن هشام 3: 180) . فهذا تحقيق اسمها إن شاء الله، يصحح به ما في الترمذي والمستدرك ومن نقل عنهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا) . فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، (1) فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمتْ به في الأبطح، (2) ثم قالت: أهديتَ إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير! (3)   (1) شعر حسان هذا في ديوانه: 271 يقول في أوله يذكر سلافة بالسوء من القول، قال: وَمَا سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ إنْ كُنْتَ ذاكِرًا ... بذي كَرَمٍ من الرجالِ أُوَادِعُهْ فَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ، فأَصْبَحَتْ ... يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِها وَتُنَازِعُهْ (2) في المطبوعة: "فرمته بالأبطح"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في الترمذي. و"الأبطح"، هو أبطح مكة، أو: بطحاء مكة، وهو مسيل واديها. (3) الأثر: 10411 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب عبد الله بن مسلم الأموي" أبو مسلم الحراني. من أهل حران، سكن بغداد. قال الخطيب: "ثقة مأمون". وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يغرب". روى عن محمد بن سلمة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 2، وتاريخ بغداد 7: 266. وهذا الأثر رواه الترمذي في السنن، في تفسير هذه الآية، بإسناد الطبري نفسه، أعني عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. ورواه الحاكم في المستدرك 4: 385، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 574-576، والسيوطي في الدر 2: 214، 215، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. وإسناد الحاكم في المستدرك: "حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، حدثني محمد بن إسحاق ... "، وساق إسناده مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان، كما في التفسير والترمذي. وأشار الخطيب البغدادي إلى هذا الخبر بإسناده: "أخبرنا عثمان بن محمد بن يوسف العلاف، أخبر محمد بن عبد الله الشافعي قال، حدثنا عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب (وهو أبو شعيب) ، حدثنا جدي وأبي جميعًا فقالا، حدثنا محمد بن سلمة" وساقه كإسناد أبي جعفر. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب أن أبا مسلم الحراني (الحسن بن أحمد) روى عن أبيه وجده، وأخشى أن يكون وهم، وجاءه الوهم من هذا الإسناد لقوله"حدثني جدي وأبي جميعًا"، وإنما قائل ذلك هو عبد الله بن الحسن بن أحمد، لا الحسن بن أحمد. ثم قال الخطيب البغدادي: "قال أبو شعيب: "قال أبي (يعني الحسن بن أحمد) : سمعه مني يحيى بن معين ببغداد في مسجد الجامع، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن أبي إسرائيل". وأما في ابن كثير، فقائل هذا: "محمد بن سلمة"، وهو الصواب. وقال الحاكم في المستدرك (ولفظه مخالف لفظ الطبري) : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". أما الترمذي فقد قال: "هذا حديث غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، مرسلا، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده". غير أن الحاكم: رواه كما ترى من طريق يونس بن بكير، مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 10412- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل الله عليك وبيَّن لك="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، فقرأ إلى قوله:"إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا". ذُكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طُعْمة بن أبيرق، وفيما همَّ به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيَّه وحذّره أن يكون للخائنين خصيمًا. = وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعًا لعمّه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم، (1) يقال له:"زيد بن السمين". (2) فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف، (3) فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم،   (1) في المخطوطة والدر المنثور: "فقدمها" والصواب ما في المطبوعة. (2) في أسباب النزول للواحدي: 134: "زيد بن السمير" بالراء، وسائر الكتب كما هنا في المطبوعة والمخطوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "يهتف" بالتاء، كأنه أراد يصيح ويدعو رسول الله ويناشده. ولكني رجحت قراءتها بالنون، من قولهم: "أهنف الصبي إهنافًا"، إذا تهيأ للبكاء وأجهش. ويقال للرجال: "أهنف الرجل"، إذا بكى بكاء الأطفال من شدة التذلل. وهذا هو الموافق لسياق القصة فيما أرجح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ بعُذْره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" إلى قوله:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"، يعني بذلك قومه="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، وكان طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) . 10413- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، وذلك أن نفرًا من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظَنَّ بها رجلا من الأنصار، (1) فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى السارق ذلك، عَمَد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيَّبْتُ الدرعَ وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلا (2) فقالوا: يا نبيّ الله، إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطْنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك! (3) فقام رسول الله صلى الله   (1) "ظننت الرجل، وأظننته"، اتهمته. و"الظنة" (بالكسر) : التهمة. (2) "ليلا" غير موجودة في المخطوطة، ولكن سيأتي بعد أسطر ما يدل على صواب إثباتها. (3) في المطبوعة: "إن لم يعصمه الله"، والذي في المخطوطة، صواب عريق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب="واستغفر الله إنّ الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" الآية. ثم قال للذين أتوا رسول الله عليه السلام ليلا"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائن= ثم قال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب (1) = ثم قال:"ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، يعني: السارقَ والذين يجادلون عن السارق. 10414- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" الآية، قال: كان رجل سرق درعًا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيرانٌ يبرِّئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! قال: حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" بما قلت لهذا اليهودي="إن الله كان غفورًا رحيمًا"= ثم أقبل على جيرانه فقال:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" فقرأ حتى بلغ"أم من يكون عليهم وكيلا". قال: ثم عرض التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم   (1) في المطبوعة، سقط من الناشر من أول قوله: "يجادلون عن الخائن" إلى قوله: "بالكذب"، فأثبتها من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه"، فما أدخلكم أنتم أيها الناس، على خطيئة هذا تكلَّمون دونه="وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، وإن كان مشركًا="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، فقرأ حتى بلغ:"لا خير في كثير من نجواهم"، (1) فقرأ حتى بلغ:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى". قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرَض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتًا يسرقه، (2) فهدمه الله عليه فقتله. فذلك قول الله تبارك وتعالى (3) "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى"، فقرأ حتى بلغ"وساءت مصيرًا"= ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلا في بني ظَفر. * * * وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، جحودُه وديعة كان أودِعها. *ذكر من قال ذلك: 10415- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، قال: أما"ما أراك الله"، فما أوحى الله إليك. قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، استودعه رجل من اليهود درعًا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها. فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها. فلما جاء اليهودي يطلب درعه، كافره عنها، (4) فانطلق إلى ناس من   (1) سقط من المطبوعة: "فقرأ حتى بلغ: لا خير في كثير من نجواهم"، وزاد في التي بعدها: "حتى بلغ إلى قوله". وأثبت نص المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ليسرقه"، والذي في المخطوطة صواب معرق. (3) في المطبوعة: "فذلك قوله"، وأثبت نص المخطوطة. (4) "كافره حقه": جحده، و"كافره عنه"، عربي صريح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف موضع الدرع. فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري. فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبُّوه، وقال: أتخوِّنونني! فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع. وقال طعمة: أخذها أبو مليل! وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له يَنْضَح عني ويكذِّب حجة اليهودي، (1) فإني إن أكذَّب كذب على أهل المدينة اليهودي! فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي. فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فأنزل الله عليه:"ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" مما أردت="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيما"= ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول"، يقول: يقولون ما لا يرضى من القول (2) ="ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"= ثم دعا إلى التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"= ثم ذكر قوله حين قال:"أخذها أبو مليل" فقال:"ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه" ="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا" = ثم ذكر الأنصار وإتيانها إياه: (3) أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه، فقال:"لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة"، يقول: النبوة= ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذِّبوا عن طعمة، فقال:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس". فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه، ونزل على الحجاج بن عِلاط السُّلَمي، فنقب بيت الحجاج، فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعةَ جلودٍ كانت عنده، (4) فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابنَ عمي وأردتَ أن تسرقني!! فأخرجه، فمات بحرَّة بني سُلَيم كافرًا، (5) وأنزل الله فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى" إلى"وساءت مصيرًا". 10416- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الأنصار طعمةَ بن أبيرق مشرُبة له فيها درع، (6) وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاري فتح مشربته، فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين: فتعلَّق صاحب الدرع بطُعمة في درعه. فلما رأى ذلك قومه، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدْرأ عنه، فهمّ بذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا * واستغفر الله إن الله كان غفورًا رحيمًا * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: طعمة بن أبيرق وقومه= "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في   (1) "نضح عنه": أي ذب عنه ودفع بحجة تنفي عنه ما اتهم به. (2) قوله: "يقول: يقولون ما لا يرضى من القول"، غير موجودة في المخطوطة، وأخشى أن تكون زيادة من ناسخ. وسيأتي معنى"التبيت" على وجه الدقة فيما يلي ص: 191، 192. (3) في المطبوعة: "وإتيانهم إياه"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) "الخشخشة": صوت حركة، تكون من السلاح إذا احتك، والثوب الجديد، ويبيس النبات. و"القعقعة": أشد من الخشخشة، صوت يكون من الجلد اليابس، والسلاح إذا ارتطم بعضه ببعض. (5) "حرة بني سليم" في عالية نجد. و"الحرة" أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار. (6) المشربة: الغرفة، كما أسلفت في التعليق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا"، محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة= "ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، محمد وطعمة وقومه= قال:"ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه" الآية، طعمة="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، يعني زيد بن السمين="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، طعمة بن أبيرق="ولولا فضل الله عليك ورحمته" يا محمد="لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء"، قوم طعمة بن أبيرق="وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا" يا محمد (1) ="لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف"، حتى تنقضي الآية للناس عامة="ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرَ سبيل المؤمنين" الآية. قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق، لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشرُبة للحجاج بن عِلاط البَهْزِيّ ثم السُّلمي، (2) حليفٌ لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فلَحِج. (3) فلما أصبح أخرجوه من مكة. فخرجَ فلقي ركبًا من بَهْرَاء من قضاعة، فعرض لهم فقال: ابن سبيل مُنْقَطَعٌ به! فحملوه، حتى إذا جنَّ عليه الليل عَدَا عليهم فسرقهم، ثم انطلق. فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات= قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، أنزلت في طعمة بن أبيرق= ويقولون: إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخَزْرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان. 10417- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استُودع درعًا فجحد صاحبها، فخوّنه رجال من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، فغضب له قومه، وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: خوَّنوا صاحبنا، وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبي الله وازْجُر عنه! فقام نبي الله فعذره وكذَّب عنه، وهو يرى أنه بريء، وأنه مكذوب عليه، فأنزل الله بيان ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، فبين الله خيانته، فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" إلى قوله:"وساءت مصيرًا". * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية، قول من قال: كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية، جحودَه ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني"الخيانات" في كلام العرب. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل، أولى من غيره. * * *   (1) في المطبوعة: "محمد صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة"البهري"، وهو تصحيف. ولا يعجبني هذا، بل الصحيح أن يقال: "السلمي ثم البهزي" بالتقديم والتأخير، فإنه"بهز بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور"، فبهز بطن من سليم بن منصور. (3) "لحج بالمكان": نشب فيه ولزمه وضاق عليه أن يخرج منه. و"لحج السيف": نشب في الغمد فلم يخرج. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 القول في تأويل قوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تجادل" يا محمد، فتخاصم="عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: يخوّنون أنفسهم، يجعلونها خَبوَنة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه مالَه، وهم بنو أبيرق. يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم وما خانوه فيه من أموالهم="إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا"، يقول: إنّ الله لا يحب من كان من صفته خِيَانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرَّمه الله عليه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: وقد تقدم ذكر الرواية عنهم. 10418- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، قال: اختان رجل عمًّا له درعًا، فقذف بها يهوديًا كان يغشاهم، فجادل عمُّ الرجل قومه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره. ثم لحق بأرض الشرك، فنزلت فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" الآية. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 القول في تأويل قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يستخفون من الناس"، يستخفي هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، ما أتَوْا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية (1) ="من الناس"، الذين لا يقدرون لهم على شيء، إلا ذكرهم بقبيح ما أتَوْا من فعلهم، (2) وشنيع ما ركبوا من جُرْمهم إذا اطلعوا عليه، حياءً منهم وحذرًا من قبيح الأحدوثة="ولا يستخفون من الله" الذي هو مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وبيده العقاب والنَّكال وتعجيل العذاب، وهو أحق أن يُستحى منه من غيره، وأولى أن يعظَّم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه="وهو معهم"، يعني: والله شاهدهم="إذ يبيتون ما لا يرضى من القول"، يقول: حين يسوُّون ليلا ما لا يرضى من القول، فيغيِّرونه عن وجهه، ويكذبون فيه. * * * وقد بينا معنى"التبييت" في غير هذا الموضع، وأنه كل كلام أو أمرٍ أصلح ليلا. (3) وقد حكى عن بعض الطائيين أن"التبييت" في لغتهم: التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل: (4)   (1) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا"، والصواب من المخطوطة. (3) انظر ما سلف 8: 562، 563. (4) في المطبوعة والمخطوطة: " ... بن جرير"، والصواب ما أثبت، والأسود بن عامر بن جوين الطائي، أبو عامر بن جوين الطائي، الذي نزل به امرؤ القيس (الأغاني 8: 90، 95) ، وقد ذكرهما ابن دريد في الاشتقاق: 233 وقال: "كانا سيدين رئيسين"، وذكرهما ابن حزم في الجمهرة: 379، وقال في الأسود بن عامر: "شاعر"، ثم قال: "فولد الأسود هذا: قبيصة بن الأسود، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 وَبَيَّتَّ قَوْلِيَ عَبْدَ الْمَلِيكِ ... قاتلَكَ الله عَبْدًا كَنُودًا!! (1) بمعنى: بدَّلت قولي. * * * وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله:"يبيتون"، يؤلّفون. 10419- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين:"إذ يبيتون ما لا يرضى من القول"، قال: يؤلِّفون ما لا يرضى من القول. 10420- حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا أبو يحيى الحماني، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بنحوه. 10421- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي رزين، مثله. (2) * * * قال أبو جعفر: وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه. وذلك أن"التأليف" هو التسوية والتغيير عما هو به، وتحويلُه عن معناه إلى غيره. * * * وقد قيل: عنى بقوله:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله"، الرهطَ الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن ابن أبيرق والجدال عنه، (3) على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره. * * * ="وكان الله بما يعملون محيطًا" يعني جل ثناؤه: وكان الله بما يعمل هؤلاء   (1) لم أجد البيت في مكان، وكنت أعرفه ولكن غاب عني مكانه، فأرجو أن أجده وألحق به بيانه في طبعة أخرى، أو في كتاب آخر. (2) الآثار: 10419 - 10421 -"أبو رزين" هو"أبو رزين الأسدي": "مسعود بن مالك"، مضى برقم: 4291 - 4294 ثم: 4791 - 4793. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "بني أبيرق"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 المستخفون من الناس، فيما أتَوْا من جرمهم، حياءً منهم، من تبييتهم ما لا يرضى من القول، وغيره من أفعالهم="محيطًا"، محصيًا لا يخفى عليه شيء منه، حافظًا لذلك عليهم، حتى يجازيهم عليه جزاءهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا"، ها أنتم الذين جادلتم، (2) يا معشر من جادل عن بني أبيرق="في الحياة الدنيا"= و"الهاء" و"الميم" في قوله:"عنهم" من ذكر الخائنين. ="فمن يجادل الله عنهم"، يقول: فمن ذا يخاصم الله عنهم="يوم القيامة"، أي: يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، (3) فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك: إنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلُّ بهم من أليم العذاب ونَكال العقاب. = وأما قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة= أي: ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة. * * * وقد بينا معنى:"الوكالة"، فيما مضى، وأنها القيام بأمر من توكل له. (4) * * *   (1) انظر تفسير"الإحاطة" و"محيط" فيما سلف 2: 284 / 5: 396 / 7: 158. (2) انظر ما قاله: في"ها أنتم أولاء" و"ها أنتم هؤلاء" فيما سلف 7: 150، 151. (3) انظر تفسير"يوم القيامة" فيما سلف 2: 518 / 8: 592. (4) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405 / 8: 566. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل ذنبًا، وهو"السوء" (1) ="أو يظلم نفسه"، بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله="ثم يستغفر الله"، يقول: ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظُلْم نفسه، ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبَه وتذهب جرمه="يجد الله غفورًا رحيمًا"، يقول: يجد ربه ساترًا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبة جرمه، رحيمًا به. (2) * * * واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم". * * * وقال آخرون: بل عني بها الذين كانوا يجادلون عن الخائنين، (3) الذين قال الله لهم:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا"، وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنه عنى بها كل من عمل سوءًا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرَهم في الآيات قبلها. * * *   (1) انظر تفسير"السوء" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"استغفر"، "غفور"، "رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) في المطبوعة"الذين يجادلون عن الخائنين"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10422- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال، قال عبد الله: كانت بنو إسرائيل إذا أصابَ أحدهم ذنبًا أصبح قد كُتِب كفارة ذلك الذنب على بابه. وإذا أصاب البولُ شيئًا منه، قَرَضه بالمقراض. (1) فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرًا! فقال عبد الله: ما آتاكم الله خيرٌ مما آتاهم، جعل الله الماءَ لكم طهورًا وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران: 135] ، وقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا". 10423- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا ابن عون، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفّل، فسألته عن امرأة فَجرت فَحبِلت، فلما ولدتْ قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل: ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرَك إلا أحدَ أمرين:"من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، قال: فَمَسحت عينها ثم مضت. (2) 10424- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم   (1) "قرضه": قصه. و"المقراض": المقص. (2) الأثر: 10423 -"حبيب بن أبي ثابت الأسدي" مضى برقم: 9012، 9035. و"عبد الله بن مغفل المزني" من مشاهير الصحابة، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك. وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس بالبصرة. وهذا الخبر من محاسن الأخبار الدالة على عقل الفقيه، وبصره بأمر دينه، ونصيحته للناس في أمور دنياهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، قال: أخبر الله عبادَه بحلمه وعفوه وكرمه، وسعةِ رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يأت ذنبًا على عَمْدٍ منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وَبَال ذلك الذنب وضُرَّه وخِزْيه وعاره على نفسه، دون غيره من سائر خلق الله. (1) يقول: فلا تجادلوا، أيها الذين تجادلون، عن هؤلاء الخونة، فإنكم وإن كنتم لهم عشيرةً وقرابةً وجيرانًا، برآء مما أتوه من الذنب ومن التَّبِعة التي يُتَّبعون بها، وإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم، (2) كنتم مثلَهم، فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا. = وأما قوله:"وكان الله عليمًا حكيمًا"، فإنه يعني: وكان الله عالمًا بما تفعلون، أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم، في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالِكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها="حكيمًا" يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم وتدبير جميع خلقه. (3) * * * وقيل: نزلت هذه الآية في بني أبيرق. وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل. (4) * * *   (1) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 8: 267 تعليق: 1، والمراجع هناك= وتفسير"الإثم" فيما سلف 4: 328، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإنكم متى دافعتم ... " والسياق يقتضي"وإنكم". (3) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) يعني الآثار السالفة من 10409 - 10418. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل خطيئة، وهي الذنب="أو إثمًا"، وهو ما لا يحلّ من المعصية. (1) * * * وإنما فرق بين"الخطيئة" و"الإثم"، لأن"الخطيئة"، قد تكون من قبل العَمْد وغير العمد، و"الإثم" لا يكون إلا من العَمْد، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما فقال: ومن يأت"خطيئة" على غير عمد منه لها="أو إثمًا" على عمد منه. * * * ="ثم يرم به بريئًا"، (2) يعني: ثم يُضيف ماله من خطئه أو إثمه الذي تعمده (3) ="بريئًا" مما أضافه إليه ونحله إياه="فقد احتمل بُهتانًا وإثمًا مبينًا"، يقول: (4) فقد تحمّل بفعله ذلك فريَة وكذبًا وإثمًا عظيمًا= يعني، وجُرْمًا عظيمًا، على علم منه وعمدٍ لما أتى من معصيته وذنبه. * * * واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:"بريئًا"، بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريءَ من الإثم الذي كان أتاه، ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل.   (1) انظر تفسير"خطيئة" فيما سلف 2: 110، 284، 285. (2) في المطبوعة زيادة حذفتها، كان الكلام: "ثم يرم به بريئًا، يعني بالذي تعمده بريئًا، يعني ... " وهو فساد في التفسير، فحذفته لذلك وتابعت المخطوطة. (3) في المطبوعة: "ثم يصف ما أتى من خطئه ... " وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. (4) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف 5: 432 / 8: 124. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 فقال بعضهم: عنى الله عز وجل بالبريء، رجلا من المسلمين يقال له:"لبيد بن سهل". (1) * * * وقال آخرون: بل عنى رجلا من اليهود يقال له:"زيد بن السمين"، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. (2) * * * وممن قال:"كان يهوديًّا"، ابنُ سيرين. 10425- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا غندر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين:"ثم يرم به بريئًا"، قال: يهوديًّا. 10426- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين، مثله. (3) * * * وقيل:"يرم به بريئًا"، بمعنى: ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن، من هو بريء مما رماه به= فـ"الهاء" في قوله:"به" عائدة على"الإثم". ولو جعلت كناية من ذكر"الإثم" و"الخطيئة"، كان جائزًا، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها، فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعلٌ. (4) * * * = وأما قوله:"فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، فإن معناه: فقد تحمل - هذا الذي رمَى بما أتى من المعصية وركب من الإثم الخطيئة، مَنْ هو بريء مما رماه به   (1) انظر الأثر رقم: 10411. (2) انظر رقم: 10412، 10416. (3) الأثر: 10426 -"بدل بن المحبر بن المنبه التميمي اليربوعي" روى عن شعبة، والخليل بن أحمد صاحب العروض، وغيرهما. وروى عنه البخاري، والأربعة بواسطة محمد بن بشار. ثقة. و"بدل" بفتحتين. (4) هذا مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 286، 287. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 من ذلك="بهتانًا"، وهو الفرية والكذب (1) ="وإثمًا مبينًا"، يعني وِزْرًا"مبينًا"، يعني: أنه يبين عن أمر متحمِّله وجراءته على ربه، (2) وتقدّمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمرَه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولولا فضل الله عليك ورحمته"، ولولا أن الله تفضل عليك، يا محمد، (3) فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحق عن حقهم قِبَله="لهمت طائفة منهم"، يقول: لهمت فرقة منهم، (4) يعني: من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم="أن يضلوك"، يقول: يزلُّوك عن طريق الحق، (5) وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادعى عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال الله تبارك وتعالى: وما يضل هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درعَ جاره،"إلا أنفسهم". * * *   (1) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف ص: 197، تعليق: 4. (2) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 3، تعليق: 1، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: "يبين عن أمر عمله"، والصواب من المخطوطة. (3) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 141، تعليق: 1، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير"الإضلال" فيما سلف 8: 507، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسَهم؟ قيل: وجهُ إضلالهم أنفسهم: أخذُهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذَ بها فيه من سبله. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان تقدّم إليهم فيما تقدّم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه، بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان، والأمر بالتعاون على الحق. فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، معاونة من ظلموه، دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم. فكان سعيهم في معونتهم، دون معونة من ظلموه، أخذًا منهم في غير سبيل الله. وذلك هو إضلالهم أنفسهم الذي وصفه الله فقال:"وما يضلون إلا أنفسهم". * * * ="وما يضرونك من شيء"، وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلُّوك عن الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته="من شيء"، لأن الله مثبِّتك ومسدِّدك في أمورك، ومبيِّن لك أمر من سعوا في إضلالك عن الحق في أمره وأمرهم، ففاضِحُه وإياهم. = وقوله:"وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة"، يقول: ومن فضل الله عليك، يا محمد، مع سائر ما تفضَّل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك"الكتاب"، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء وهدًى وموعظة="والحكمة"، يعني: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، وأحكامه، ووعده ووعيده (1) ="وعلمك ما لم تكن تعلم" من خبر الأولين والآخرين، وما كان وما هو كائن، فكل ذلك من فضل الله عليك، يا محمد، مُذْ خلقك، (2) فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك، بالتمسك بطاعته،   (1) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88، 211 / 5: 15، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وما كان وما هو كائن قبل ذلك من فضل الله عليك"، وهو غير مستقيم، والصواب ما أثبت، "فكل" مكان"قبل". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن. ولا أحد دونه ينقذك من سوء إن أراد بك، إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه، واتبعت هوى من حاول صدَّك عن سبيله. * * * وهذه الآية تنبيهٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على موضع خطئه، (1) وتذكيرٌ منه له الواجبَ عليه من حقه. * * *   (1) في المطبوعة: "موضع حظه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها موافقا لسياق القصة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 القول في تأويل قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لا خير في كثير من نجواهم"، لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا="إلا من أمر بصدقة أو معروف"، و"المعروف"، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير، (1) ="أو إصلاح بين الناس"، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما،   (1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371 / 7: 105، وغيرهما من المواضع في فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة، على ما أذن الله وأمر به. = ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاةِ الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس="ابتغاء مرضاة الله"، يعني: طلب رضى الله بفعله ذلك (1) ="فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لما فعل من ذلك عظيمًا، (2) ولا حدَّ لمبلغ ما سمى الله"عظيمًا" يعلمه سواه. (3) * * * واختلف أهل العربية في معنى قوله:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة". فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم، إلا في نجوى من أمر بصدقة= كأنه عطف بـ "مَنْ" على"الهاء والميم" التي في"نجواهم". (4) وذلك خطأ عند أهل العربية، لأن"إلا" لا تعطف على"الهاء والميم" في مثل هذا الموضع، من أجل أنه لم ينله الجحد. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون"مَنْ" في موضع خفض ونصب. أما الخفض، فعلى قولك: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. فتكون"النجوى" على هذا التأويل، هم الرجال المناجون، كما قال جل ثناؤه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ) [سورة المجادلة: 7] ، وكما قال (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [سورة الإسراء: 47] .   (1) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 170، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 113، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"عظيم" فيما سلف 6: 518. (4) في المطبوعة: "كأنه عطف من" بحذف الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 وأما النصب، فعلى أن تجعل"النجوى" فعلا (1) فيكون نصبًا، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعًا، لأن"مَنْ" خلاف"النجوى"، (2) فيكون ذلك نظير قول الشاعر. (3) ...... وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ... إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُها ...... (4) وقد يحتمل"مَنْ" على هذا التأويل أن يكون رفعًا، كما قال الشاعر: (5) وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ ... إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ (6) * * *   (1) قوله: "فعلا" أي مصدرًا. (2) في المطبوعة: "لأنه من خلاف النجوى"، والصواب المحض من المخطوطة. (3) هو النابغة الذبياني. (4) مضى الشعر وتخريجه وتمامه فيما سلف 1: 183، 523، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 288. (5) هو جران العود النميري. (6) ديوانه: 52، سيبويه 1: 133، 365، معاني القرآن للفراء 1: 288، ومجالس ثعلب: 316، 452، الخزانة 4: 197، والعيني (هامش الخزانة) 3: 107، وسيأتي في التفسير: 12: 28 / 27: 39 (بولاق) ، ثم في مئات من كتب النحو والعربية. ورواية هذا الشعر في ديوانه: قَدْ نَدَعُ المَنْزِلَ يا لَمِيسُ ... يَعْتَسُّ فيه السَّبُعُ الجَرُوسُ الذِّئْبُ، أو ذُو لِبَدٍ هَمُوسُ ... بَسَابِسًا، لَيْسَ بِهِ أَنِيسُ إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ ... وَبَقَرٌ مُلَمَّعٌ كُنُوسُ كَأَنَّمَا هُنَّ الجَوَارِي المِيسُ "يعتس": يطلب ما يأكل، "الجروس" هنا الشديد الأكل، وأخطأ صاحب الخزانة فقال: "من الجرس، وهو الصوت الخفي"، وليس ذلك من صفات الذئب، وحسبه عواؤه إذا جاع، نفيًا لوصفه بخفاء الصوت! ، وقد بين في البيت الثالث أنه يعني"الذئب". و"ذو لبد" هو الأسد و"اللبدة" ما بين كتفيه من الوبر."هموس" من صفة الأسد، يقال تارة: هو الذي يمشي مشيًا يخفيه، فلا يسمع صوت وطئه. ويقال تارة أخرى: شديد الغمز بضرسه في أكله. وهذا هو المراد هنا، فإنه أراد ذكر خلاء هذه الديار، وما فيها من المخاوف."بسابس" قفار خلاء. وأما رواية: "وبلدة" فإن"البلدة" هنا: هي الأرض القفر التي يأوى إليها الحيوان. و"اليعافير" جمع"يعفور"، وهو الظبي في لون التراب. و"العيس" جمع"أعيس" وهو الظبي الأبيض فيه أدمة."كنوس" جمع"كانس"، وهو الظبي أو البقر إذا دخل كناسه، وهو بيته في الشجر يستتر فيه. و"الميس" جمع"ميساء"، وهي التي تتبختر وتختال كالعروس في مشيتها. ثم انظر الخزانة، ومجالس ثعلب. وانظر ما سلف كله في معاني القرآن للفراء 1: 287، 288. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، أن تجعل"من" في موضع خفض، بالردِّ على"النجوى"= وتكون"النجوى" بمعنى جمع المتناجين، خرج مخرج"السكرى" و"الجرحى" و"المرضى". وذلك أن ذلك أظهر معانيه. فيكون تأويل الكلام: لا خير في كثير من المتناجين، يا محمد، من الناس، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، معاديًا له، فيفارقه على العداوة له (1) ="من بعد ما تبين له الهدى"، يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم="ويتبع غير سبيل المؤمنين"، يقول: ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير   (1) انظر تفسير"الشقاق" فيما سلف 3: 115، 116، 336 / 8: 319. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم="نولّه ما تولّى"، يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام، (1) وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئًا، ولا تنفعه، كما:- 10427- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"نوله ما تولى"، قال: من آلهة الباطل. 10428- حدثني ابن المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * ="ونصله جهنم"، يقول: ونجعله صِلاءَ نار جهنم، (2) يعني: نحرقه بها. * * * وقد بينا معنى"الصلى" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * ="وساءت مصيرًا"، يقول وساءت جهنم (4) ="مصيرًا"، موضعًا يصير إليه من صار إليه. (5) * * * ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو طعمة بن الأبيرق، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدًّا، مفارقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه. * * *   (1) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص: 17، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "صلى" بتشديد الياء، والصواب من المخطوطة. و"الصلاء" (بكسر الصاد) : الشواء، لأنه يصلى بالنار. (3) انظر ما سلف في تفسير"الإصلاء" 8: 27-29، 231، 484. (4) انظر تفسير"ساء" فيما سلف ص 101، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير"مصير" فيما سلف ص: 101، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (116) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه بالله، ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به="ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، يقول: ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء. يعني بذلك جل ثناؤه: أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه، لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه= وكذلك حكم كل من اجترم جُرْمًا، فإلى الله أمره، إلا أن يكون جرمه شركًا بالله وكفرًا، فإنه ممن حَتْمٌ عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه (1) = فأما إذا مات على شركه، فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار. * * * وقال السدي في ذلك بما:- 10429- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين. * * * وأما قوله:"ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا"، فإنه يعني: ومن يجعل لله في عبادته شريكًا، فقد ذهب عن طريق الحق وزال عن قصد السبيل،   (1) هذه العبارة التي وضعتها بين الخطين، معترضة في سياق الجملة، وسياقها: أن طعمة لولا أنه مات على شركه. لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه ... فإما إذا مات على شركه ... " ولما أخطأ ناشر المطبوعة الأولى قراءة هذه العبارة، فقد كتب هكذا: "فإنه حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه، فإذا مات على شركه ... " فصار الكلام كله لغوًا وخلطًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 ذهابًا بعيدًا وزوالا شديدًا، وذلك أنه بإشراكه بالله في عبادته قد أطاع الشيطان وسلك طريقه، (1) وترك طاعة الله ومنهاج دينه. فذاك هو الضلال البعيد والخُسران المبين. * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى وَمناة، فسماهن الله"إناثًا"، بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث. *ذكر من قال ذلك: 10430- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: اللات والعزى ومناة، كلها مؤنث. 10431- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك بنحوه= إلا أنه قال: كلهنَّ مؤنث. 10432- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: يسمونهم"إناثًا": لاتٌ ومَنَاة وعُزَّى. 10433- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: آلهتهم، اللات والعزى ويَسَاف   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقد أطاع الشيطان" بزيادة الفاء، ولا معنى لها هنا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 ونائلة، (1) إناث، يدعونهم من دون الله. وقرأ:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا". * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مَواتًا لا رُوح فيه. *ذكر من قال ذلك: 10434- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: مَيْتًا. 10435- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، أي: إلا ميتًا لا رُوح فيه. (2) 10436- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: و"الإناث" كل شيء ميت ليس فيه روح: خشبة يابسة أو حجر يابس، قال الله تعالى:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا" إلى قوله:"فليبتكن آذان الأنعام". * * * وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون:"الملائكة بنات الله". (3) *ذكر من قال ذلك: 10437- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا   (1) "إساف" (بكسر الهمزة وفتحها) و"يساف" (بكسر الياء وفتحها) واحد. زعموا أن إساف بن عمرو، ونائلة بنت سهل، من جرهم، وجدا خلوة في الكعبة، ففجرا فيها، فمسخهما الله حجرين، عبدتهما قريش بعد. ويقال: صنمان وضعهما عمرو بن لحي على الصفا والمروة، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة. (2) في المخطوطة: "لا أرواح فيه" بالجمع. (3) في المطبوعة: "إن الملائكة ... " وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: الملائكة، يزعمون أنهم بنات الله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم"إناثًا"، فأنزل الله ذلك كذلك. ذكر من قال ذلك: (1) 10438- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن نوح بن قيس، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم، يسمونها:"أنثى بني فلان"، (2) فأنزل الله"إن يدعون من دونه إلا إناثًا". 10439- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس قال، حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحُدَّاني قال، سمعت الحسن يقول: كان لكل حي من العرب، فذكر نحوه. (3) * * * وقال آخرون:"الإناث" في هذا الموضع، الأوثان. *ذكر من قال ذلك: 10440- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إناثًا" قال: أوثانًا.   (1) من أول الأثر رقم: 10437، إلى هذا الموضع، ساقط من المخطوطة. (2) في كتاب المحتسب لابن جني، في المسألة رقم: 143 (وهو مخطوط عندي) عن الحسن: "وهو اسم صنم لحي من العرب، كانوا يعبدونها ويسمونها: أنثى بني فلان". فأخشى أن يكون سقط من الناسخ هنا [كانوا يعبدونها] . (3) الأثران: 10438، 10439 -"أبو رجاء"، "محمد بن سيف الحداني"، أدرك أنسًا، وروى عن الحسن، وابن سيرين، ومطر الوراق، وعكرمة، وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"الحراني" بالراء، والصواب من المخطوطة، بضم الحاء والدال المشددة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 10441- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10442- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة: (إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أَوْثَانًا) . * * * قال أبو جعفر: روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أُثُنًا) بمعنى جمع"وثن" فكأنه جمع"وثنًا""وُثُنًا"، (1) ثم قلب الواو همزة مضمومة، كما قيل:"ما أحسن هذه الأجُوه"، بمعنى الوجوه= وكما قيل: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [سورة المرسلات: 11] ، بمعنى: وُقِّتت. (2) * * * وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أُنُثًا) كأنه أراد جمع"الإناث" فجمعها"أنثا"، كما تجمع"الثمار""ثُمُرًا". (3) * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز القراءة بغيرها، (4) قراءة من قرأ: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا) ، بمعنى جمع"أنثى"، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك، إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت، تأويل من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء، (5) كاللات والعُزَّى ونائلة ومناة، وما أشبه ذلك.   (1) "أثن" (بضم الهمزة والثاء) و"وثن" بجمع"وثنا" (بضم فسكون) و"ووثنا" (بضمتين) ، و"أوثان". (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 288. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 289. و"الثمر" بضم الثاء والميم. (4) في المطبوعة: "لا أستجيز"، وأثبت ما في المخطوطة. (5) في المطبوعة: "ويسمونها بالإناث"، وما في المخطوطة أجود عربية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأظهر من معاني"الإناث" في كلام العرب، ما عُرِّف بالتأنيث دون غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه. * * * وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونُصْله جهنم وساءت مصيرًا * إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: ما يدعو الذين يشاقّون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئًا="من دون الله"، بعد الله وسواه، (1) ="إلا إناثًا"، يعني: إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزى وما أشبه ذلك. يقول جل ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجّة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثًا ويدعونها آلهة وأربابًا، والإناث من كل شيء أخسُّه، فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودة، على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودة للذي له ملك كل شيء، وبيده الخلق والأمر. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها =   (1) انظر تفسير"دون" فيما سلف 2: 489 / 6: 313. (2) في المطبوعة: "بالعبودية" و"العبودية"، في الموضعين وأثبت ما في المخطوطة. و"العبودة" هي العبادة، وقد سلف استعمال الطبري لهذه اللفظة على هذا البناء، وتغيير الناشر لها في كل مرة. انظر 3: 347، تعليق: 1 / 6: 271، تعليق: 1، 404 تعليق: 2، 549: 2، 564، تعليق: 3 / 8: 592، تعليق: 2. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 "إلا شيطانًا مريدًا"، يعني: متمردًا على الله في خلافه فيما أمره به، وفيما نهاه عنه، كما:- 10443- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، تمرَّد على معاصي الله. * * * القول في تأويل قوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لعنه الله"، أخزاه وأقصاه وأبعده. * * * ومعنى الكلام:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، قد لعنه الله وأبعده من كل خير. * * * ="وقال لأتخذن"، يعني بذلك: أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه:"لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا". = يعني بـ "المفروض"، المعلوم، (1) كما:- * * * 10444- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك:"نصيبًا مفروضًا"، قال: معلومًا. * * * فإن قال قائل: وكيف يتّخذ الشيطانُ من عباد الله نصيبًا مفروضًا. قيل: يتخذ منهم ذلك النصيب، بإغوائه إياهم عن قصد السبيل، ودعائه   (1) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف 4: 206 / ثم 8: 58: تعليق: 4، والمراجع هناك= وتفسير: "الفرض" فيما سلف 4: 121 / 5: 120 / 7: 597-599 / 8: 50. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 إياهم إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلالَ والكفر حتى يزيلهم عن منهج الطريق، فمن أجاب دعاءَه واتَّبع ما زينه له، فهو من نصيبه المعلوم، وحظّه المقسوم. * * * وإنما أخبر جل ثناؤه في هذه الآية بما أخبر به عن الشيطان من قيله:"لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا"، ليعلم الذين شاقُّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، أنهم من نصيبِ الشيطان الذي لعنه الله، المفروضِ، (1) وأنهم ممن صدق عليهم ظنّه. (2) * * * وقد دللنا على معنى"اللعنة" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: مخبرًا عن قيل الشيطان المريد الذي وصف صفته في هذه الآية:"ولأضلنهم"، ولأصدّن النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال، ومن الإسلام إلى الكفر="ولأمنينهم"، يقول: لأزيغنَّهم -بما أجعل في نفوسهم من الأماني- عن طاعتك وتوحيدك، إلى طاعتي والشرك بك، ="ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، يقول: ولآمرن النصيبَ المفروض لي من عبادك، بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد   (1) "المفروض" صفة قوله: "نصيب الشيطان". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنه ممن صدق ... " والسياق يقتضي"وأنهم". (3) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ص: 57، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 حتى يَنْسُكوا له، (1) ويحرِّموا ويحللوا له، ويشرعوا غيرَ الذي شرعته لهم، فيتبعوني ويخالفونك. * * * و"البتك"، القطع، وهو في هذا الموضع: قطع أذن البَحِيرة ليعلم أنها بَحِيرة. (2) وإنما أراد بذلك الخبيثُ أنه يدعوهم إلى البحيرة، فيستجيبون له، ويعملون بها طاعةً له. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10445- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فليبتكن آذان الأنعام"، قال: البتك في البحيرة والسَّائبة، كانوا يبتّكون آذانها لطواغِيتهم. 10446- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قوله:"ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، أما"يبتكن آذان الأنعام"، فيشقونها، فيجعلونها بَحيرة. 10447- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن عكرمة:"فليبتكن آذان الأنعام"، قال: دينٌ شرعه لهم إبليس، كهيئة البحائر والسُّيَّب. (3) * * *   (1) "نسك ينسك"، إذا ذبح نسيكة، أي ذبيحة. وانظر تفسير ذلك فيما سلف 3: 75-80 / 4: 86، 195. (2) "البحيرة" من الأنعام، من عقائد أهل الجاهلية، أبطلها الإسلام، وذلك الشاة أو الناقة تشق أذنها، ثم تترك فلا يمسها أحد. (3) "السائبة" أم"البحيرة"، وذلك أن الرجل كان ينذر نذرًا: إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجاه شيء من مشقة أو حرب فيقول: "ناقتي هذه سائبة"، أي: تسيب فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وجمع"سائبة""سيب" (بضم السين والياء المشددة المفتوحة) مثل"نائم ونوم"، و"نائحة ونوح". وهكذا جاءت على الصواب في المخطوطة، ولكن ناشر المطبوعة جعلها"السوائب" كأنه استنكر هذا الجمع، فأساء غاية الإساءة في تبديل الصواب، وإن كانت"السوائب" صوابًا أيضًا، فإن هذه الآثار حجة في اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 القول في تأويل قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"فليغيرن خلق الله". فقال بعضهم: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم، بإخصائهم إياها. (1) *ذكر من قال ذلك: 10448- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: أنه كره الإخصاء وقال: فيه نزلت:"ولآمرنهم فليغِّيرُن خلقَ الله". 10449- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس: أنه كره الإخصاء وقال: فيه نزلت:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله". 10450- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال: هو الإخصاء، يعني قول الله:"ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله". 10451- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف قال:   (1) "خصى الفحل يخصيه خصاء" (بكسر الخاء) : سل خصييه. والفقهاء القدماء يقولون: "الإخصاء" ولم تذكره كتب اللغة، وقال المطرزي في المغرب 1: 159"خصاء على فعال، والإخصاء في معناه، خطأ". وهذا موضع إشكال، فإنك ستراه مستفيضًا في الآثار التالية، وهي نص صحيح في جواز"الإخصاء"، وبمثل هذه الآثار احتج أصحاب معاجم اللغة، وكيف لا يحتج به، وقد جاء في كلام ابن عباس، كما ترى في الأثر: 10451. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 حدثنى رجل، عن ابن عباس قال: إخصاء البهائم مُثْلَةٌ! ثم قرأ:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله". 10452- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: من تغيير خلق الله، الإخصاءُ. 10453- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرني شبيل: أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الآية:"فليغيرن خلق الله"، قالالخِصَاء، قال: فأمرت أبا التَّيَّاح فسأل الحسن عن خِصَاء الغنم، فقال: لا بأس به. (1) 10454- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عمي وهب بن نافع، عن القاسم بن أبي بزة قال: أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله:"فليغيرن خلق الله"، فسألته، فقال: هو الخصاء. 10455- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن عبد الجبار بن ورد، عن القاسم بن أبي بزة قال، قال لي مجاهد: سل عنها عكرمة:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فسألته فقال: الإخصاء= قال مجاهد: ما له، لعنة الله! فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء= ثم قال: سله، فسألته فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) .   (1) الأثر: 10453 -"جعفر بن سليمان الضبعي" مضى برقم: 2905، 6461. و"شبيل" هو"شبيل بن عزرة بن عمير الضبعي"، يروي عن شهر بن حوشب وروى عنه جعفر بن سليمان. ثقة. روى له أبو داود حديثًا واحدًا. وكان شبيل من أئمة العربية، وهو ختن قتادة. وذكره الجاحظ في البيان 1: 343 فقال: "ومن علماء الخوارج شبيل بن عزرة الضبعي، صاحب الغريب، وكان راوية خطيبًا، وشاعرًا ناسبًا، وكان سبعين سنة رافضيًا، ثم انتقل خارجيًا صفريًا". وقال البلاذري: "لم يكن خارجيًا، وإنما كان يقول أشعارًا في ذلك على سبيل التقية". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "شبل" وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. و"أبو التياح"، هو: "يزيد بن حميد الضبعي"، روى عن أنس والحسن البصري. وهو ثبت ثقة معروف. مترجم في التهذيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 [سورة الروم: 30] ؟ قال: لدين الله= فحدَّثت به مجاهدًا فقال: ما له أخزاه الله!. (1) 10456- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ليث قال، قال عكرمة:"فليغيرن خلق الله"، قال: الإخصاء. 10457- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا مطر الوراق قال: سئل عكرمة عن قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: هو الإخصاء. 10458- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: الإخصاء. 10459- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: منه الخصاء. 10460- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، بمثله. 10461- حدثنا ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، بمثله. (2) 10462- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي،   (1) الأثر: 10455 -"عبد الجبار بن الورد بن أغر بن الورد المخزومي"، ثقة، لا بأس به. مترجم في التهذيب. وقد مضى في الإسناد رقم: 4631، ولم يترجم هناك. وقول مجاهد في عكرمة: "ماله لعنه الله"، و"ماله أخزاه الله"، أراد مجاهد اضطراب عكرمة في روايته، وكان مجاهد سيئ الرأي فيه، كما كان مالك ابن أنس سيئ الرأي فيه، يقول: "لا أرى لأحد أن يقبل حديثه". وقد قيل إنه كان مضطرب الحديث، وأنه كان قليل العقل!! روى الحافظ في التهذيب 7: 269"قال الأعمش عن إبراهيم: لقيت عكرمة فسألته عن: البطشة الكبرى. قال: يوم القيامة. فقلت: إلا عبد الله، كان يقول: يوم بدر. فأخبرني من سأله بعد ذلك فقال: يوم بدر". وهذا شبيه بهذا الخبر الذي بين أيدينا. وانظر أيضًا الأثر التالي رقم: 10469. وانظر ترجمة عكرمة البربري في التهذيب، فقد استوفى الحافظ القول في عدالته وتوثيقه، ورواية الأئمة عنه. (2) الأثر: 10461 - هو من تتمة الأثر السالف، ولكنه جرى مفردًا في الترقيم خطأ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 عن قتادة، عن عكرمة: أنه كره الإخصاء، قال: وفيه نزلت:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله". * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن دينَ الله. *ذكر من قال ذلك: 10463- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. 10464- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد قالا حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. 10465- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله. 10466- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله. 10467- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 10468- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عمي، عن القاسم بن أبي بزة قال، أخبرت مجاهدًا بقول عكرمة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. 10469- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا مطر الوراق قال: ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 "فليغيرن خلق الله"، فقال: كذب العبْدُ! "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. (1) 10470- حدثنا ابن وكيع وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد وعكرمة قالا دين الله. 10471- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وحفص، عن ليث، عن مجاهد قال: دين الله. ثم قرأ: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، [سورة الروم: 30] . 10472- حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: الفطرة دين الله. 10473- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فليغيرن خلق الله"، قال: الفطرة، الدين. 10474- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. 10475- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، أي: دين الله، في قول الحسن وقتادة. 10476- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. 10477- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الملك، عن عثمان بن الأسود، عن القاسم بن أبي بزة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.   (1) الأثر: 10469 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10455. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 10478- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: أما"خلق الله"، فدين الله. 10479- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله، وهو قول الله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، [سورة الروم: 30] ، يقول: لدين الله. 10480- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. وقرأ: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، قال: لدين الله. 10481- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا قيس بن مسلم، عن إبراهيم:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. 10482- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا عمران بن حدير، عن عيسى بن هلال قال: كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فكتب:"إنه دين الله". (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" بالوشم. *ذكر من قال ذلك: 10483- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،   (1) الأثر: 10482 -"معاذ بن معاذ بن نصر حسان العنبري" الحافظ. وكان في المطبوعة: "معاذ"، وحذف بقية الاسم، وهو ثابت في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: الوشْم. 10484- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد، عن نوح بن قيس، عن خالد بن قيس، عن الحسن:"فليغيرن خلق الله"، قال: الوشم. (1) 10485- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره، عن الحسن:"فليغيرن خلق الله"، قال: الوشم. 10486- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هلال الراسبي قال: سأل رجل الحسنَ: ما تقول في امرأة قَشَرت وجهها؟ قال: ما لها، لعنها الله! غَيَّرت خلقَ الله! (2) 10487- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لعن الله المُتَفَلِّجات والمُتَنَمِّصات والمُسْتَوْشِمَات المغِّيرات خلق الله. 10488- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لعن الله الوَاشِرَات والمُسْتَوْشِمَات والمُتَنَمِّصات والمُتَفَلِّجات للحسن المغِّيرات خلق الله. 10489- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،   (1) الأثر: 10484 -"يزيد"، هو"يزيد بن هارون" مضى مرارًا. و"نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني"، مضى برقم: 1218. و"خالد بن قيس بن رباح الأزدي الحداني"، أخو"نوح بن قيس". ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "حدثنا يزيد بن نوح، عن قيس، عن خالد بن قيس" وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة. (2) "قشر الوجه": دواء قديم بالغمرة تعالج به المرأة وجهها أو وجه غيرها، وكأنها تقشر أعلى الجلد. و"الغمرة" (بضم فسكون) ، قالوا: هو الزعفران، وقالوا: هو الجص. وقالوا: هو تمر ولبن يطلى به وجه المرأة ويداها، حتى ترق بشرتها ويصفو لونها. والظاهر أنه كان يخلط به شيء يقشر أعلى البشرة، ومن أجل ذلك نهى عنه، وفي الحديث: "لعنت القاشرة والمقشورة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لعن الله المُتَنَمِّصات والمتَفَلِّجات= قال شعبة: وأحسبه قال: المغِّيرات خلق الله. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قولُ من قال: معناه:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، [سورة الروم: 30] . وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه: من خِصَاءِ ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه وَوشْرِه، وغير ذلك من المعاصي= ودخل فيه ترك كلِّ ما أمر الله به. لأن الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته. فذلك معنى أمره نصيبَه المفروضَ من عباد الله، بتغيير ما خلق الله من دينه. * * * قال أبو جعفر: فلا معنى لتوجيه من وجَّه قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، إلى أنه وَعْد الآمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض، أو بعض ما   (1) الآثار: 10487 - 10489 - هو حديث صحيح، رواه البخاري (الفتح 10: 313، 317) من طريق منصور عن إبراهيم، ورواه به أحمد في المسند مطولا: 4129، 4230، 4434. وفي الإسناد الأول 10487 لم يذكر علقمة، فقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند". وطريق محمد بن جعفر، عن شعبة (10489) رواه أحمد: 4434، ونصه"لعن الله المتوشمات والمتنمصات ... "، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ"المتوشمات". و"المتفلجة" التي تصنع الفلج بأسنانها إذا كانت متلاصقة، وذلك بأن تحك ما بينهما بالمبرد حتى يتسع ما بين أسنانها. و"المتنمصة" و"النامصة" التي تزيل شعر حاجبها بالمنقاش حتى ترققه وترفعه وتسويه. و"المستوشمة" و"الواشمة"، و"الوشم" أن تغرز إبرة في الجلد حتى يسيل الدم، ثم يحشى بالنورة أو غيرها فيخضر. ويقال: "هو أن تجعل خالا في وجهها بالكحل". ويفعلونه أيضًا في الشفاه واللثات، وكل ذلك داخل في الذي نهى الله عنه، ولعن عليه. = و"الواشرة" التي تحدد أسنانها وترققها بالمنشار، وهو المبرد. وكل هذا الذي لعن الله فاعله، تفعله نساؤنا المسلمات اليوم، متبرجات به، موغلات فيه، مقلدات لمن كفر بالله ورسوله. فمن أجل عصيانهن واستخفافهن - بل من أجل عصياننا جميعًا أمر الله - أحل الله بنا العقوبة التي أنذرنا بها رسول الله، بأبي هو وأمي، فجعل الله بأسنا بيننا، وسلط علينا شرارنا، وجمع علينا الأمم لتأكلنا. فاللهم اهد ضالنا، وخذ بنواصي عصاتنا، واغفر لنا وارحمنا، عليك نتوكل، وبك نستجير، وإليك نلجأ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 أمر به دون بعض. فإن كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره، (1) إنما فعل ذلك لأن معناه كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام، (2) فإن في قوله جل ثناؤه إخبارًا عن قيل الشيطان:"ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، ما ينبئ أن معنى ذلك على غير ما ذهب إليه. لأن تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وَعْد الآمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسَّرًا، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملا (3) إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يُترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر، وبالخاص عن العام، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل، وبالعام عن الخاص. وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام، أولى من توجيهه إلى غيره، ما وجد إليه السبيل. * * *   (1) في المطبوعة: "فإذا كان الذي وجه ... " والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "عنى به" بزيادة"به"، وهو فساد، والصواب من المخطوطة. (3) سقط سطر من المخطوطة، فكان فيها: "وقد مضى الخبر عنه مجملا، إذ كان الفصيح"، وهو مضطرب، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. ولا أدري أهو اجتهاد من ناسخ أو ناشر، أم هذا كلام أبي جعفر كما كتبه؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (120) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن حال نصيب الشيطان المفروضِ الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى. (1) يقول الله: ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره، ويواليه فيتخذه وليًّا لنفسه ونصيرًا من دون الله (2) ="فقد خسر خسرانًا مبينًا"، يقول: فقد هلك هلاكًا، وبخس نفسه حظَّها فأوبقها بخسًا"مبينًا" = يبين عن عَطَبه وهلاكه، (3) لأن الشيطان لا يملك له نصرًا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمرَه، بل يخذُله عند حاجته إليه. وإنما حاله معه ما دام حيًّا ممهَلا بالعقوبة، كما وصفه الله جل ثناؤه بقوله:"يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا"، يعني بذلك جل ثناؤه: يعد الشيطان المَرِيد أولياءه الذين هم نصيبُه المفروض: أن يكون لهم نصيرًا ممن أرادهم بسوء، وظهيرًا لهم عليه، يمنعهم منه ويدافع عنهم، ويمنيهم الظفر على من حاول مكروههم والفَلَج عليهم. (4) = ثم قال:"وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا" يقول: وما يعد الشيطان أولياءَه الذين اتخذوه وليًّا من دون الله="إلا غرورًا" يعني: إلا باطلا. (5) وإنما جعل عِدَته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم"غرورًا"، لأنهم كانوا يحسبون   (1) في المطبوعة: "من الذين شاقوا ... " بزيادة"من"، والصواب حذفها كما في المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: "ونصيرًا دون الله" بإسقاط"من"، وهو سهو من الناسخ في عجلته، فزدتها لدلالة الآية على مكانها. (3) انظر تفسير"خسر" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572 / 6: 570 / 7: 276= وتفسير"مبين" فيما سلف ص: 199 تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) "الفلج" (بفتحتين) : الظفر والفوز والعلو على الخصم. (5) انظر تفسير"الغرور" فيما سلف 7: 453. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 أنهم في اتخاذهم إياه وليًّا على حقيقةٍ من عِدَاته الكذب وأمانيه الباطلة، (1) حتى إذا حصحص الحق، وصاروا إلى الحاجة إليه، قال لهم عدوّ الله: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ) ، [سورة إبراهيم: 22] . وكما قال للمشركين ببدر، وقد زيَّن لهم أعمالهم: (لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ) ، وحصحص الحقّ، وعاين جِدّ الأمر ونزول عذاب الله بحزبه (2) =: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ، [سورة الأنفال: 48] ، فصارت عِدَاته، عدُوَّ الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورًا (3) (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) . [سورة النور: 39] . * * * القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليًّا من دون الله="مأواهم جهنم"، يعني: مصيرهم الذين يصيرون إليه جهنم، (4)   (1) في المطبوعة: "على حقيقته"، والصواب من المخطوطة. وفي المطبوعة: "عداته الكاذبة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "حد الأمر" بالحاء: أي شدته وبأسه. ولو قرئ"جد" لكان صوابًا أيضًا، بل هو الأرجح، ولذلك أثبته. (3) قوله: "عدو الله" منصوب على الذم، وفصل به بين المصدر ومفعوله. (4) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 7: 279، 494. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 ="ولا يجدون عنها محيصًا"، يقول: لا يجدون عن جهنم -إذا صيّرهم الله إليها يوم القيامة- مَعْدِلا يعدِلون إليه. * * * يقال منه:"حاص فلان عن هذا الأمر يَحِيص حَيْصًا وحُيُوصًا"، إذا عدل عنه. ومنه خبر ابن عمر أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرِيّة كنت فيهم، فلقينا المشركين فحِصْنا حَيْصة، (1) = وقال بعضهم:"فجاضوا جيضَة". و"الحَيص" و"الجَيْض"، متقاربا المعنى. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "بعثنا رسول الله"، والصواب من المخطوطة. ولم أستطع أن أقف على بقية خبر ابن عمر، وإن كنت أظنه مشهورًا. (2) في المطبوعة والمخطوطة: أساء نقط"جاض وحاص"، فرددتها إلى صوابها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا (122) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات"، والذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا له بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوة="وعملوا الصالحات"، يقول: وأدَّوا فرائض الله التي فرضها عليهم (1) ="سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يقول: سوف ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله، جزاءً بما عملوا في الدنيا من الصالحات="جنات"، يعني:   (1) انظر تفسير"عملوا الصالحات" فيما سلف: 8: 488. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 بساتين (1) ="تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين في هذه الجنات التي وصفها (2) ="أبدًا"، دائمًا. = وقوله:"وعد الله حقًّا"، يعني: عِدَةٌ من الله لهم ذلك في الدنيا="حقًّا"، يعني: يقينًا صادقًا، (3) لا كعدة الشيطان الكاذبة التي هي غرور مَنْ وُعِدها من أوليائه، ولكنها عدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب، (4) ولا يخلف وعده. وإنما وصف جل ثناؤه وعده بالصدق والحق في هذه، لما سبق من خبره جل ثناؤه عن قول الشيطان الذي قصه في قوله:"وقال لأتّخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، ثم قال جل ثناؤه:"يعِدُهم ويمنيهم وما يَعِدهم الشيطان إلا غرورًا"، ولكن الله يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، وعدًا منه حقًّا، لا كوعد الشيطان الذي وَصَف صفته. فوصف جل ثناؤه الوعدَين والوَاعِدَيْن، وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما، تنبيهًا منه جل ثناؤه خلقَه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والمعطبة، (5) لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته، فيفوزوا بما أعدّ لهم في جنانه من ثوابه. ثم قال لهم جل ثناؤه:"ومن أصدق من الله قيلا"، يقول: ومن أصدق، أيها الناس، من الله قيلا أي: لا أحد أصدق منه قيلا! فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، وتكفرون به وتخالفون أمره، وأنتم تعلمون أنه لا أحد أصدق منه قيلا وتعملون   (1) انظر تفسير"جنات" في مادة (جنن) فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"الحق" فيما سلف 7: 97. (4) في المطبوعة: "ولكن عدة ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (5) في المطبوعة: "والعطب"، وهي صواب، وفي المخطوطة: "والعطبة"، فآثرت كتابتها كما رجحت قراءتها، والمعطب والمعطبة، جمعها معاطب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 بما يأمركم به الشيطان رجاءً لإدراك ما يعدُكم من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة، وقد علمتم أن عداته غرورٌ لا صحة لها ولا حقيقة، وتتخذونه وليًّا من دون الله، وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فتكونوا له أولياء؟ * * * ومعنى"القيل" و"القول" واحدٌ. * * * القول في تأويل قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب". فقال بعضهم: عُني بقوله:"ليس بأمانيكم"، أهل الإسلام. *ذكر من قال ذلك: 10490- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهلُ الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! قال: فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أمانِّي أهل الكتاب". 10491- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: لما نزلت:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قال: أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء! فنزلت هذه الآية:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن". 10492- حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: احتجَّ المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم! وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قال: ففَلَج عليهم المسلمون بهذه الآية: (1) "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، إلى آخر الآيتين. 10493- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبيُّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ بِه"، إلى قوله:"ومن أحسنُ دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفًا"، فأفلج الله حُجَّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان. 10494- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: التقى ناس من اليهود والنصارى، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا! وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا! فردّ الله عليهم قولهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجزَ به"، ثم فضل الله   (1) "الفلج": الفوز والظفر والعلو على الخصم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 المؤمنين عليهم فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا". 10495- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا أول كتاب وخيرُها، ونبينا خيرُ الأنبياء! وقال أهل الإنجيل نحوًا من ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا دين الإسلام، وكتابنا نَسَخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم! فقضى الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، ثم خَّير بين أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" إلى قوله:"واتخذ الله إبراهيم خليلا". 10496- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، إلى:"ولا نصيرًا"، تحاكم أهل الأديان، (1) فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، (2) أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء! وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا! فقضى الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، وخيَّر بين أهل الأديان فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا واتخذ الله إبراهيم خليلا." 10497- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يَعلى بن عبيد   (1) "التحاكم" و"المحاكمة": التخاصم والمخاصمة. (2) في المطبوعة: "خير من الكتب"، والصواب ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 وأبو زهير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به". ثم خصّ الله أهل الإيمان فقال:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن". 10498- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور فتفاخروا (1) فقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! (2) فأنزل الله:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا". 10499- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: افتخر أهل الأديان، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله، ونبينا أكرم الأنبياء على الله، موسى كلَّمه الله قَبَلا (3) وخَلا به نجيًّا، وديننا خير الأديان! وقالت النصارى: عيسى ابن مريم خاتم الرسل، وآتاه الله التوراة والإنجيل، ولو أدركه موسى لاتّبعه، وديننا خير الأديان! وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الأديان وخيرها! وقال المسلمون: محمد نبينا خاتم النبيين   (1) زاد في المطبوعة: "وأهل الإيمان"، وليست في المخطوطة وحذفتها، لأن السياق لا يحتاج إليها كما سترى في التعليق التالي. (2) في المطبوعة، حذف"وقال هؤلاء: نحن أفضل" الثالثة، وهي ثابتة في المخطوطة، والفرق التي تفاخرت ثلاث فرق، كما رأيت قبل. (3) "قبلا" (بفتحتين) و"قبلا" (بكسر وفتح) و"قبيلا"، أي: عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب. وقد مضت هذه الكلمة في الآثار: 711، 4039، وفسرت هناك. وكان في المطبوعة: "قيلا" بالياء المثناة التحتية، وهي في المخطوطة غير منقوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 وسيد الأنبياء، والفُرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله، وهو أمين على كل كتاب، والإسلام خير الأديان! فخيَّر الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب". وقال آخرون: بل عنى الله بقوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، أهلَ الشرك به من عَبَدة الأوثان. *ذكر من قال ذلك: 10500- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: قريش، قالت:"لن نُبْعث ولن نعذَّب". 10501- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليس بأمانيكم"، قال: قالت قريش:"لن نبعث ولن نعذب"، فأنزل الله:"من يعمل سوءًا يجزَ به". 10502- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قالت العرب:"لن نبعث ولن نعذَّب"، وقالت اليهود والنصارى: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [سورة البقرة: 111] ، أو قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) ، [سورة البقرة: 80] = شك أبو بشر. (1) 10503- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قريشٌ   (1) الأثر: 10502 -"أبو بشر" هو"ابن علية"، وهو: "إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي"، سيد المحدثين، الثقة المشهور. سلف مرارًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 وكعبُ بن الأشرف (1) ="من يعمل سوءًا يجز به". 10504- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى آخر الآية، قال: جاء حُيَيّ بن أخطب إلى المشركين فقالوا له: يا حُيَيّ، إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: نحن وأنتم خير منه! (2) فذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) إلى قوله: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) [سورة النساء: 51، 52] . ثم قال للمشركين:"ليس بأمانيِّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، فقرأ حتى بلغ:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه="فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا"، قال: ووعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، وقرأ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة العنكبوت: 7] . (3) 10505- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قالت قريش:"لن نُبعث ولن نعذَّب"! (4) * * *   (1) في المطبوعة: "قال قريش وكعب بن الأشرف"، فحذفت"قال"، كما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "كعب بن الأشرف نحوه"، ولم أجد لهذه الزيادة معنى، ولا وجهًا في التحريف أو التصحيف أهتدي إليه. (2) في المطبوعة: "أنتم خير منه"، وفي المخطوطة: "نحن خير منه"، وأثبت الصواب من الأثر السالف رقم: 9794. (3) الأثر: 10504 - مضى مختصرًا برقم: 9794. (4) الأثر: 10505 - كان في المطبوعة: "حدثنا أبو كريب"، مكان"حدثنا ابن حميد"، والذي في المخطوطة هو الصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 وقال آخرون: عُني به أهل الكتاب خاصَّة. *ذكر من قال ذلك: 10506- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال، سمعت الضحاك يقول:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب" الآية، قال: نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد: من أنه عُني بقوله:"ليس بأمانيكم"، مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله:"ليس بأمانيكم"، وإنما جرى ذكر أمانيِّ نصيب الشيطان المفروضِ، وذلك في قوله:"ولأمنينَّهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، وقوله:"يعدهم ويمنيهم"، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه:"ليس بأمانيكم" بما قد جرى ذكره قبل، أحقُّ وأولى من ادِّعاء تأويلٍ فيه، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذًا: ليس الأمر بأمانيكم، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه، التي يمنيكموها وليُّكم عدوّ الله، من إنقاذكم ممن أرادكم بسوءٍ، ونصرتكم عليه وإظفاركم به= ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارًا بالله وبحلمه عنهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) و (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاءَ عمله، مَن يعمل منكم سوءًا، ومن غيركم، يجز به، ولا يجدْ له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.   (1) الأثر: 10506 - في المطبوعة: "حدثنا أبي، عن أبي أسيد"، ولا أدري من أين جاء بهذا!! وفي المخطوطة: "حدثنا أبي سفيان"، والصواب"عن سفيان"، وهو الثوري. وهذا إسناد مضى مثله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 ومما يدلّ أيضًا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله:"ليس بأمانيكم" مشركو العرب، كما قال مجاهد: إن الله وصف وعدَ الشيطان ما وعدَ أولياءهُ وأخبَر بحال وعده، ثم أتبع ذلك بصفة وعدِه الصادق بقوله:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وعد الله حقًّا"، وقد ذكر جل ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه، تمنيتَه إياهم الأمانيّ بقوله: (1) "يعدهم ويمنيهم"، كما ذكر وعده إياهم. فالذي هو أشبهُ: أن يتبع تمنيتَه إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عِدَته إياهم به من الصفة. وإذ كان ذلك كذلك، صحَّ أن قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به" الآية، إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان، وما إليه صائرة أمانيهم= مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرةٌ أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمَّ جل ثناؤه أهلَ الكتاب إلى المشركين في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنِّيهموها بقوله:"ولأضلنهم ولأمنينّهم ولآمرنهم". القول في تأويل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى بـ "السوء" كل معصية لله. وقالوا: معنى الآية: من يرتكب صغيرةً أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله، يجازه الله بها. *ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "وتمنيته" بالواو، والصواب حذفها كما في المخطوطة. وذلك أن معنى الكلام ذكر تمنيتهم مع وصف وعد الشيطان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 10507- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن الربيع بن زياد سأل أبي بن كعب عن هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، فقال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! النكبةَ والعودَ والخدْش. (1) 10508- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا قتادة، عن الربيع بن زياد قال: قلت لأبي بن كعب: قول الله تبارك وتعالى:"من يعمل سوءًا يجز به"، والله إن كان كل ما عملنا جُزينا به هلكنا! قال: والله إن كنتُ لأراك أفقهَ مما أرى! لا يصيب رجلا خدشٌ ولا عثرةٌ إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللَّدغة والنَّفْحة. (2) 10509- حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية:"ليس   (1) الأثر: 10507 -"الربيع بن زياد بن أنس الحارثي"، روى عن أبي بن كعب، وكعب الأحبار. روى عنه أبو مجلز، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وحفصة بنت سيرين. ولم يذكر ابن أبي حاتم ولا الحافظ ابن حجر رواية قتادة عنه. وذكرها البخاري فقال: "ربيع بن زياد، سمع أبي بن كعب (من يعمل سوءًا يجز به) . قال معاذ بن فضالة، عن هشام، عن قتادة أن الربيع= وقالت حفصة عن الربيع بن زياد: سمع كعبًا". ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وكان الربيع عامل معاوية على خراسان. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 245، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 460. وكان في المطبوعة والمخطوطة، والدر المنثور: "زياد بن الربيع"، وهو خطأ، سيأتي على الصواب في الأثر التالي، وتبين ذلك بما رواه البخاري في الكبير أيضًا. فصححته من أجل ذلك. وهذا الأثر أشار إليه البخاري كما رأيت، ونسبه السيوطي في الدر المنثور 2: 227، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، والبيهقي. و"النكبة" هي ما يصيب الرجل إذا ناله حجر اصطدم به. وفي الحديث: "إنه نكبت إصبعه"، أي نالتها الحجارة وأصابتها. (2) الأثر: 10508 -"الربيع بن زياد"، انظر التعليق على الأثر السالف. وهذا الخبر هو الذي أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير، كما ذكرت في التعليق السالف. و"النفحة" بالحاء المهملة، كأنه من"نفحت الدابة برجلها" إذا رمحت بها، وفي حديث شريح: "إنه أبطل النفح"، أراد نفح الدابة برجلها، وهو الرفس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا. (1) 10510- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني خالد: أنه سمع مجاهدًا يقول في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: يجز به في الدنيا. قال قلت: وما تبلُغ المصيبات؟ قال: ما تكره. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءًا من أهل الكفر، يجز به. *ذكر من قال ذلك: 10511- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: الكافر، ثم قرأ: (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) [سورة سبأ: 17] ، قال: من الكفار.   (1) الأثر: 10509 -"القاسم بن بشر بن معروف" شيخ للطبري، وستأتي روايته عنه برقم: 10531 وروى عنه مرارًا في التاريخ 1: 12، 23، 28، 29، 32، 106 / 2: 19، وفي هذا الموضع من التاريخ قال: "حدثني القاسم بن بشر بن معروف، عن سليمان بن حرب". ولم أجد له ترجمة في غير تاريخ بغداد 12: 427"القاسم بن بشر بن أحمد بن معروف، أبو محمد البغدادي"، سمع يحيى بن سليم الطائفي، وسفيان بن عيينة، وأبا داود الطيالسي. روى عنه عبد الله بن أبي سعد الوراق، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري. ثم لم يذكر رواية أبي جعفر الطبري عنه. وأخشى أن يكون هو شيخ الطبري، وأرجو أن يأتي بعد ما يدل على وجه الصواب. وكان في المطبوعة والمخطوطة، هنا"القاسم بن بشر بن معرور"، دل على صوابه إسناد أبي جعفر في مخطوطة التفسير فيما سيأتي رقم: 10531، وفي التاريخ. و"سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي" سكن مكة، وكان قاضيها. روى عن شعبة، ومحمد بن طلحة بن مصرف، والحمادين، وجرير بن حازم. روى عنه البخاري وأبو داود، وروى له الباقون بواسطة أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن نصر الجهضمي، وعمرو بن علي الفلاس، وغيرهم. مترجم في التهذيب. و"أبو المهلب" هو"معاوية بن عمرو" أو "عمرو بن معاوية"، مختلف في اسمه، وهو عم أبي قلابة الجرمي، روى عن عمر وعثمان وأبي بن كعب، وغيرهم من الصحابة. مترجم في التهذيب. وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 308 من طريق سليمان بن حرب، ووضع الذهبي علامة (خ، م) ، أنه على شرط مسلم والبخاري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 10512- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل، عن حميد، عن الحسن، مثله. 10513- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أنه كان يقول:"من يعمل سوءًا يجز به"، و (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) ، [سورة سبأ: 17] ، يعني بذلك الكفار، لا يعني بذلك أهلَ الصلاة. 10514- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: والله ما جازى الله عبدًا بالخير والشر إلا عذَّبه. (1) قال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ، [سورة النجم: 31] . قال: أما والله لقد كانت لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم ولم يجازهم بها، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب، إذًا توبقه ذنوبه. 10515- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك= يعني: المشركين. 10516- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: إنما ذلك لمن أراد الله هَوَانه، فأما من أراد كرامته، فإنه من أهل الجنة: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) ، [سورة الأحقاف: 16] 10517- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"من يعمل سوءًا يجز به"، يعني بذلك: اليهود والنصارى   (1) هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة: "إلا عدبه" غير منقوطة. وأنا في شك منها. ولكن ربما وجه معناها إلى أن الله تعالى لو جازى العبد المؤمن بالخير، وجازاه بالشر، لكان جزاء الشر مفضيًا إلى طول عذابه، فما من امرئ إلا وله ذنوب، والذنوب توبق أصحابها، وعسى أن لا يقوم لها ما قدم العبد من الخير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 والمجوس وكفار العرب="ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا". * * * وقال آخرون: معنى"السوء" في هذا الموضع: الشرك. قالوا: وتأويل قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، من يشرك بالله يجزَ بشركه="ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا". *ذكر من قال ذلك: 10518- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، يقول: من يشرك يجز به= وهو"السوء"="ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا"، إلا أن يتوب قبل موته، فيتوب الله عليه. 10519- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: الشرك. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية، التأويلُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب وعائشة: وهو أن كل من عمل سوءًا صغيرًا أو كبيرًا من مؤمن أو كافر، جوزي به. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية: لعموم الآية كلَّ عامل سوء، من غير أن يُخَصَّ أو يستثني منهم أحد. فهي على عمومها، إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها، ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. * * * فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) . [سورة النساء: 31] ؟ وكيف يجوز أن يجازِي على ما قد وعد تكفيره؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 قيل: إنه لم يعد بقوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، تركَ المجازاة عليها، وإنما وعدَ التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم، كما فضح أهلَ الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها، ليوافوه ولا ذنب لهم يستحقون المجازاة عليه، فإنما وفَى لهم بما وعدهم بقوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ، [سورة النساء: 122] . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك: تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الأخبار الواردة بذلك: 10520- حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ونصر بن علي وعبد الله بن أبي زياد القطواني قالوا، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، شقَّت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قاربوا وسدِّدوا، ففي كل ما يصابُ به المسلم كفارةٌ، حتى النكبةُ ينْكبها، أو الشَّوكة يُشاكها. (1) 10521- حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي قالا حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي قال، حدثنا   (1) الأثر: 10520 -"نصر بن علي" هو الجهضمي، مضى برقم: 2861، 2376 و"عبد الله بن أبي زياد القطواني" مضى برقم: 5796. و"ابن محيصن" هو: عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي القرشي، من أهل مكة. وانظر بقية ترجمته ومراجعها في شرح مسند أحمد. و"محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف"، تابعي ثقة. وانظر شرح المسند. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "محمد بن قيس عن مخرمة" وهو خطأ محض. وهذا الأثر رواه بهذا الإسناد أحمد في مسنده: 7380، واستوفى أخي السيد أحمد التعليق عليه، وأزيد أن البيهقي خرجه في السنن 3: 373. "النكبة": هي إصابة الحجر الإصبع، إذا عثر الرجل عثرة، أو ما كانت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر قال: لما نزلت:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نَعْمل نؤاخذ به؟ فقال: يا أبا بكر، أليس يُصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارته. (1) 10522- حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال، حدثني عبد الله بن عمر: أنه سمع أبا بكر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من يعمل سوءًا يجز به" في الدنيا. (2) 10523- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا نبي الله، كيف الصلاح بعد   (1) الأثر: 10521 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني" سلف في رقم: 10520. و"أحمد بن منصور الرمادي"، مضت ترجمته رقم: 10260. و"زيد بن حباب العكلي" مضى برقم: 2185، 5350، 8165، وكان في المطبوعة: "يزيد بن حيان"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة. و"عبد الملك بن الحسن بن أبي حكيم الحارثي"، ويقال: "الجاري"، "أبو مروان الأحول". قال أحمد: "لا بأس به"، وقال ابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب. و"محمد بن زيد بن قنفذ" هو: "محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي الجدعاني القرشي" رأى ابن عمر رؤية، وابن عمر مات سنة 73، وعائشة أم المؤمنين ماتت سنة 58، فهو لم يرها بلا شك، فحديثه عنها منقطع. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 84، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 255. وهذا الأثر ذكره ابن كثير في التفسير 2: 587، والسيوطي في الدر المنثور 2: 266، ولم ينسباه لغير ابن جرير. (2) الأثر: 10522 -"إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري"، مضى برقم: 3355، 3959. و"عبد الوهاب بن عطاء الخفاف" مضى برقم: 5429، 5432. و"زياد بن أبي زياد الجصاص"، ضعيف جدًا، ليس بشيء. و"علي بن زيد" هو ابن جدعان. ثقة، سيئ الحفظ. مضى برقم: 40، 4897، 6495. وهذا الأثر رواه أحمد في المسند: 23، وقال أخي السيد أحمد: "إسناده ضعيف". وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 587، مطولا عن أبي بكر بن مردويه، عن محمد بن هشام بن جهيمة، عن يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب بن عطاء، ثم قال: "ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل، عن عبد الوهاب بن عطاء، به مختصرًا". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 266، وزاد نسبته للخطيب في المتفق والمفترق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 هذه الآية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيّة آية؟ قال يقول الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، فما عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تُصيبك اللأواء؟ قال: فهو ما تجزون به! (1) 10524- حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد= قال: أظنه عن أبي بكر الثقفي، عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: كيف الصلاح؟ = ثم ذكر نحوه، إلا أنه زاد فيه: ألست تُنْكب؟ (2) 10525- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير: أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح؟ فذكر مثله. (3) 10526- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال، قال أبو بكر: يا رسول الله، فذكر نحوه= إلا أنه قال: فكل سوء عملناه جُزينا به؟ وقال أيضًا: ألست تمرض؟ ألست تَنْصب؟ (4) ألست تحزن؟ أليس تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: هو ما تجزون به! 10527- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن   (1) الأثر: 10523 - هذا الأثر وما يليه إلى رقم: 10528، ستة أسانيد لخبر واحد، وسيأتي الكلام عليها في آخرها. "اللأواء": الشدة وضيق المعيشة والمشقة. (2) الأثر: 10524 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة. و"نكب الرجل ينكب" بالبناء للمجهول، أصابه حجر فثلم إصبعه أو ظفره. (3) في المطبوعة: "فذكر نحوه"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) "نصب الرجل ينصب نصبًا" (المصدر بفتحات) : أعيى وتعب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال: لما نزلت هذه الآية:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، وإنا لنجزى بكل شيء نعمله؟ قال: يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا مما تجزون به. 10528- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا ابن أبي خالد قال، (1) حدثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبي بكر، (2) فذكر مثله. (3) 10529- حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"؟ قال: يا أبا بكر، إنّ المصيبة في الدنيا جزاء. (4)   (1) في المخطوطة: "قال حدثنا أبي عن خالد"، وهو خطأ صوابه ما في المطبوعة. (2) في المطبوعة: "فذكر مثل ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الآثار: 10523 -10528 - خبر واحد، "أبو بكر بن أبي زهير الثقفي"، من صغار التابعين، وهو مستور، لم يذكر بجرح ولا تعديل. ولذلك قال أخي السيد أحمد في المسند رقم: 68، "إسناده ضعيف لانقطاعه"، ثم قال: "وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو عجب منهما، فإن انقطاع إسناده بين". رواه أحمد في المسند: 68 -71، والبيهقي في السنن 3: 373، والحاكم في المستدرك 3: 74، 75، وخرجه ابن كثير في تفسيره: 2: 587، والسيوطي في الدر المنثور 2: 266، وزاد نسبته إلى هناد، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن حبان، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والبيهقي في شعب الإيمان. (4) الأثر: 10529 -"أبو معاوية" هو"محمد بن خازم التميمي" أبو معاوية الضرير، مضى برقم: 2783. و"الأعمش" هو"سليمان بن مهران" مضى: 2918، 3295، 8207، 8208. و"مسلم" هو: "مسلم بن صبيح الهمداني" مضى برقم: 5424، 7216، 8206. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 588 عن ابن مردويه: "حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري، قال حدثنا محمد بن عامر السعدي، قال حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا فضيل بن عياض، عن سليمان بن مهران، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال قال أبو بكر"، وساق الحديث بأطول مما هنا، وبغير هذا اللفظ. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 226، 227 بلفظ ابن مردويه، عن مسروق عن أبي بكر، ونسبه لابن جرير، وأبي نعيم في الحلية، وهناد، وسعيد بن منصور. بيد أن خبر الطبري ليس فيه ذكر"مسروق"، وهو"مسروق بن الأجدع الوداعي الهمداني"، مضى برقم: 242، 7216، فأخشى أن يكون سقط من النساخ ذكر"مسروق" في هذا الإسناد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 10530- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت، قلت: إني لأعلم أيُّ آية في كتاب الله أشدُّ؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ آية؟ فقلت:"من يعمل سوءًا يجز به"! قال:"إن المؤمن ليجازى بأسوإِ عمله في الدنيا"، ثم ذكر أشياء منهن المرض والنَّصبُ، فكان آخره أنه ذكر النكبة، (1) فقال:"كلُّ ذي يجزى به بعمله، يا عائشة، (2) إنه ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا يعذَّب". فقلت: أليسَ يقول الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ، [سورة الانشقاق: 8] ؟ فقال: ذاك عند العرض، إنه من نُوقش الحسابَ عُذِّب (3) = وقال بيده على إصبعه، (4) كأنه يَنْكُته. (5)   (1) في المطبوعة: "أن ذكر النكبة"، وأثبت ما في المخطوطة. و"النكبة" كما أسلفت: إصابة الحجر إصبع المرء أو ظفره. (2) في المطبوعة: "يجزى بعمله"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) "ناقشه الحساب مناقشة": استقصى في محاسبته حتى لا يترك منه شيء، من قولهم: "نقش الشوكة": إذا استقصى استخراجها من جسمه. (4) "قال بيده": أشار بها وأومأ. و"القول" لفظ مستعمل في معاني عدة. وفي المطبوعة: "كأنه ينكت" بغير هاء في آخره، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما يأتي في التفسير 30: 84 (بولاق) حيث روي هذا الأثر مختصرًا. (5) الأثر: 10530 -"روح بن عبادة القيسي"، ثقة، مضت ترجمته برقم: 3015، 3355، 3912. "أبو عامر الخزاز"، هو: "صالح بن رستم المزني"، مضى برقم: 5458، 6371، 6383، 6384، 6387، 6614. و"الخزاز" بمعجمات، وكان في المطبوعة: "الخراز"، وفي المخطوطة غير منقوطة. و"ابن أبي مليكة" هو: "عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة" سمع عائشة وغيرها من الصحابة. مضى برقم: 6605، 6610. وهذا الأثر رجاله جميعًا ثقات. وسيأتي برقم: 10532، من طريق هشيم عن أبي عامر الخزاز، بغير هذا اللفظ مختصرًا. ورواه البخاري بغير هذا اللفظ من طريق سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة عن عائشة (الفتح 1: 176) . ثم رواه (الفتح 8: 535) بغير هذا اللفظ من ثلاث طرق: من طريق يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. ثم من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. ثم من طريق يحيى، عن أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. ثم عاد فرواه (الفتح 11: 347، 348) من سبع طرق، واستوفى الحافظ ابن حجر الكلام فيه في هذه المواضع الثلاثة من صحيح البخاري. ورواه مسلم في صحيحه (17: 208) من أربع طرق: من طريق ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة. ومن طريق حماد بن زيد، عن أيوب، بهذا الإسناد نحوه. ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن أبي يونس القشيري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة. ومن طريق يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، بمثل حديث أبي يونس. ثم رواه أبو داود في السنن 3: 250 رقم: 3093، بغير هذا اللفظ من طريق عثمان بن عمر، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. ثم رواه الترمذي مختصرًا في (باب ما جاء في العرض) وفي (تفسير سورة الانشقاق) من طريق عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وسيأتي في تفسير أبي جعفر، بعدة طرق في تفسير سورة الانشقاق: 30: 74 (بولاق) وسنتكلم في أسانيدها هناك. وخرجه مختصرًا ابن كثير في تفسيره 2: 589، والسيوطي في الدر المنثور 2: 227، وقصرا في نسبته، وزاد السيوطي نسبته لابن أبي حاتم، والبيهقي. وقوله: "ينكته" من قولهم: "نكت الأرض بقضيب أو بإصبع": أي ضرب بطرفه في الأرض حتى يؤثر فيها. وهو إشارة مناقشة الحساب، وهو كما أسلفنا استقصاء الحساب، كأن المحاسب ينقش عن شوكة استخفت تحت الجلد فهو يستخرجها من باطن اللحم. يقول صلى الله عليه وسلم: هكذا يفعل بالمرء إذا نوقش واستقصيت ذنوبه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 10531- حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية قالت: سألت عائشة عن هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ، [سورة البقرة: 284] ، و"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به". قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها (1)   (1) في مسند أحمد 6: 218"عنهما"، وهي أجود، ولكن ثبت في المخطوطة: "عنها" بالإفراد ولا بأس بذلك في العربية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 فقال: يا عائشة، ذاك مَثَابَةُ الله للعبد بما يصيبه من الحمَّى والكِبر، (1) والبِضَاعة يضعها في كمه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في كمه، (2) حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْر الأحمر من الكِير. (3) 10532- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو عامر الخزاز قال، حدثنا ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إني لأعلم أشدَّ آية في القرآن! فقال: ما هي يا عائشة؟ قلت: هي هذه الآية يا رسول الله:"من يعمل سوءًا يجز به"، فقال: هو ما يصيب العبدَ المؤمن، حتى النكبة يُنْكبها. (4) 10533- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن الربيع بن صبيح، عن عطاء قال: لما نزلت:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب   (1) في المطبوعة: "مثابة الله العبد" بغير لام في"العبد" وأثبت ما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "مثابة" منقوطة ظاهرة. وقد مضت في الأثر: 6495"متابعة الله العبد"، ومثلها في المسند 6: 218، وفي الطيالسي: 221"معاتبة". فإن صح ما في المخطوطة، وكأنه صواب جيد. فإن"المثابة" من"ثاب إليه يثوب"، أي: رجع، يقول: فذاك رجوع الله العبد بالمغفرة. وذلك معنى"الثواب"، وهو الجزاء أيضًا. أي: فهذا جزاء الله عبده. وقد سلف في رقم: 6495، تفسير"المتابعة" و"المعاتبة" فراجعه. (2) هكذا هنا"فيجدها في كمه" وفي الأثر: 6495، "في ضبنه"، وفي الطيالسي: 221"في جيبه"، وهي قريب من قريب. وفي سائر الأثر اختلاف في بعض اللفظ. (3) الأثر: 10531-"القاسم بن بشر بن معروف"، مضى برقم: 10509، وكان هنا في المطبوعة: "بن معرور" بالراء في آخره، كما كان هناك في المخطوطة والمطبوعة، ولكن جاء هنا في المخطوطة على الصواب"بن معروف" بالفاء. و"سليمان بن حرب" مضى أيضًا برقم: 10509. وهذا الأثر رواه الطبري آنفًا برقم 6495، من طريق الربيع، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، بمثله، مع خلاف يسير في لفظه، وقد خرجه أخي السيد أحمد هناك مستوفى، وشرحت هناك ألفاظه وغريبه. (4) الأثر: 10532 - سلف تخريج هذا الأثر برقم: 10530. وكان هنا أيضًا في المطبوعة: "الخراز"، بالراء، وصوابه ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية؟ قال: يا أبا بكر، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يُصيبك أذًى، فذاك بذاك. (1) 10534- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: لما نزلت قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات في الدنيا. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يجد الذي يعمل سوءًا من معاصي الله وخلاف ما أمره به="من دون الله"، يعني: من بعد الله، وسواه (3) ="وليًّا" يلي أمره، (4) ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله (5) ="ولا نصيرًا"، يعني: ولا ناصرًا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نَكاله. (6) * * *   (1) الأثر: 10533 - هذا أثر مرسل، عطاء بن أبي رباح، لم يسمع أبا بكر."الربيع بن صبيح السعدي"، مضت ترجمته برقم: 6403، 6404، 7482، 7603، وهو ضعيف. وترجم له البخاري في الكبير 2 / 1 / 254. وكان في المطبوعة والمخطوطة"بن صبح"، وهو خطأ محض. (2) الأثر: 10534 - هذا أثر مرسل. ولم أجده في مكان. (3) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ص: 211، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) في المخطوطة: "وليا، ولي يلي أمره"، بزيادة"ولي". (5) انظر تفسير: "ولي" فيما سلف ص: 205، تعليق: 1، والمراجع هناك. (6) انظر تفسير"نصير" فيما سلف ص: 18، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين قال لهم:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، يقول الله لهم: إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الآخرة، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم، وذكور عبادي وإناثهم، وهو مؤمن بي وبرسولي محمدٍ، مصدق بوحدانيتي وبنبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عندي= لا أنتم أيها المشركون بي، المكذبون رسولي، فلا تطمعوا أن تحلّوا، وأنتم كفار، محلَّ المؤمنين بي، وتدخلوا مداخلهم في القيامة، وأنتم مكذِّبون برسولي، كما:- 10535- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، قال: أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، وأبَى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان. * * * وأما قوله:"ولا يظلمون نقيرًا"، فإنه يعني: ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثوابِ عملهم، مقدارَ النُّقرة التي تكون في ظهر النَّواة في القلة، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأكثر؟ وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه عبادَه أنه لا يبخَسهم من جزاء أعمالهم قليلا ولا كثيرًا، ولكن يُوفِّيهم ذلك كما وعدهم. (1) * * *   (1) انظر تفسير"النقير" فيما سلف: 8: 472-475. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 وبالذي قلنا في معنى"النقير"، قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10536- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"ولا يظلمون نقيرًا"، قال: النقير، الذي يكون في ظهر النواة. 10537- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية قال: النقير، الذي في وسط النواة. (1) * * * فإن قال لنا قائل: ما وجه دخول:"مِن" في قوله:"ومن يعمل من الصالحات"، ولم يقل:"ومن يعمل الصالحات"؟ قيل: لدخولها وجهان: أحدهما: أن يكون الله قد علم أن عبادَه المؤمنين لن يُطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال الصالحات، فأوجب وَعده لمن عمل ما أطاق منها، ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزتْ عن عمله منها قوّته. (2) والآخر منهما: أن يكون تعالى ذكره أوجب وعدَه لمن اجتنب الكبائر وأدَّى الفرائض، وإن قصر في بعض الواجب له عليه، تفضلا منه على عباده المؤمنين، إذ كان الفضل به أولى، والصفح عن أهل الإيمان به أحرَى. * * * وقد تقوّل قوم من أهل العربية، (3) أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف،   (1) من أول قوله: "وبالذي قلنا في معنى النقير" إلى آخر هذا الأثر، ساقط من المخطوطة. وهذان الأثران: 10536، 10537، لم يذكرا هناك (8: 472-475) في الآثار التي جاء فيها تفسير"النقير". وهذا أحد ضروب اختصار أبي جعفر تفسيره. (2) في المخطوطة: "منها قوله"، وفوق"قوله""كذا"، دليلا على أنها كانت كذلك في الأصل الذي نقل الناسخ عنه. وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المطبوعة: "قواه" بالجمع، وهي أيضًا حسنة. (3) ليس في المخطوطة: "قوم"، وإثباتها لا بأس به، وهذا الذي سيسوقه رأي بعض أهل البصرة، كما أشار إليه مرارًا فيما سلف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 ويتأوّله: ومن يعمل الصالحاتِ من ذكر أو أنثى وهو مؤمن. (1) وذلك عندي غير جائز، لأن دخولها لمعنًى، فغير جائز أن يكون معناها الحذف. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} قال أبو جعفر: وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلِها، يقول الله:"ومن أحسن دينًا" أيها الناس، وأصوبُ طريقًا، وأهدى سبيلا="ممن أسلم وجهه لله"، يقول: ممن استسلم وجهه لله فانقاد له بالطاعة، مصدقًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه (2) ="وهو محسن"، يعني: وهو عاملٌ بما أمره به ربه، محرِّم حرامه ومحلِّل حلاله (3) ="واتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا"، يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به (4) ="حنيفًا"، يعني: مستقيمًا على منهاجه وسبيله. * * * وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى"الحنيف"، والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. (5) * * *   (1) انظر زيادة"من" في الجحد والإثبات فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586 / 6: 551 / 7: 489. (2) انظر تفسير"أسلم وجهه" فيما سلف 2: 510 -512 / 6: 280. (3) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"ملة" فيما سلف 2: 563 / 3: 104. (5) انظر تفسير"حنيف" فيما سلف 3: 104-108 / 6: 494. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل: وممن قال ذلك أيضًا الضحاك. 10538- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: فضّل الله الإسلام على كل دين فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" إلى قوله:"واتخذ الله إبراهيم خليلا"، وليس يقبل فيه عملٌ غير الإسلام، وهي الحنيفيّة. * * * القول في تأويل قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتخذ الله إبراهيم وليًّا. * * * فإن قال قائل: وما معنى"الخُلَّة" التي أعطِيها إبراهيم؟ قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام: العداوةُ في الله والبغض فيه، والولاية في الله والحب فيه، على ما يعرف من معاني"الخلة". وأما من الله لإبراهيم، فنُصرته على من حاوله بسوءٍ، كالذي فعل به إذْ أراده نمرود بما أرادَه به من الإحراق بالنار فأنقذَه منها، أو على حجته عليه إذ حاجّه= وكما فعل بملك مصر إذ أراده عن أهله (1) = وتمكينه مما أحب= وتصييره إمامًا لمن بعدَه من عباده، وقدوةً لمن خلفه في طاعته وعبادته. فذلك معنى مُخَالَّته إياه. وقد قيل: سماه الله"خليلا"، من أجل أنه أصابَ أهلَ ناحيته جدْبٌ، فارتحل إلى خليلٍ له من أهل الموصل= وقال بعضهم: من أهل مصر= في امتيار طعام لأهله من قِبله، فلم يصب عنده حاجته. فلما قرَب من أهله مرَّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل، (2) لئلا أغُمَّ أهلي برجوعي إليهم   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ملك مصر" بغير باء، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) "الغرائر" جمع"غرارة" (بكسر الغين) : وهي الجوالق الذي يوضع في التبن والقمح وغيرهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 بغير مِيرَة، وليظنوا أنّي قد أتيتهم بما يحبون! ففعل ذلك، فتحوَّل ما في غرائره من الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام. وقام أهله، ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا، فعجنوا منه وخبزوا. فاستيقظ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك! فعلم، فقال: نعم! هو من خليلي الله! قالوا: فسماه الله بذلك"خليلا". (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"واتخذ الله إبراهيم خليلا"، لطاعته ربَّه، وإخلاصه العبادة له، والمسارعةِ إلى رضاه ومحبته، لا من حاجةٍ به إليه وإلى خُلَّته. وكيف يحتاج إليه وإلى خلَّته، وله ما في السموات وما في الأرض من قليل وكثير مِلْكًا، والمالك الذي إليه حاجة مُلْكه، دون حاجته إليه؟ يقول: (2) فكذلك حاجة إبراهيم إليه، لا حاجته إليه فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلا ولكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه ومحبته. يقول: فكذلك فسارعوا إلى رضايَ ومحبتي لأتخذكم لي أولياء="وكان الله بكل شيء محيطًا"، ولم يزل الله محصيًا لكل ما هو فاعله عبادُه من خير وشرّ، عالمًا بذلك، لا يخفى عليه شيء منه، ولا يعزب عنه منه مثقال ذرَّة. (3) * * *   (1) هذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره في مواضع، كما قيل في ترجمته. فلولا الاختصار، لساق أخبار إبراهيم عليه وعلى نبينا صلى الله عليهما السلام. وقد سلفت أخبار إبراهيم في مواضع متفرقة من التفسير. (2) قوله: "يقول" ليست في المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة. (3) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل، فيما سلف في فهارس اللغة (كون) = وتفسير"الإحاطة" و"محيط" فيما سلف ص: 193، تعليق: 1. والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 القول في تأويل قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ويستفتونك في النساء"، ويسألك، يا محمد، أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهن وعليهن= فاكتفى بذكر"النساء" من ذكر"شأنهن"، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه. ="قل الله يفتيكم فيهن"، قل لهم: يا محمد، الله يفتيكم فيهن، يعني: في النساء="وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن". * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب". فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما يتلى عليكم"، قل الله يفتيكم فيهن، وفيما يتلى عليكم. قالوا: والذي يتلى عليهم، هو آيات الفرائض التي في أول هذه السورة. *ذكر من قال ذلك: 10539- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون المولود حتى يكبر، ولا يورِّثون المرأة. فلما كان الإسلام، قال:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 السورة في الفرائض= اللاتي لا تؤتونهن ما كتب الله لهن. (1) 10540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قالت: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل، لعلها أن تكون شريكتَه في ماله، وهو أولى بها من غيره، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضُلها لمالها، ولا يُنكحها غيره كراهيةَ أن يشركه أحد في مالها. (2) 10541- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: كانوا لا يورِّثون في الجاهلية النساءَ والفتى حتى يحتلم، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء"، في أول"سورة النساء" من الفرائض. (3) 10542- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة قال: كانوا في الجاهلية لا يورِّثون اليتيمة، ولا ينكحونها ويَعْضلونها، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن" إلى آخر الآية. 10543- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني الحجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في   (1) الأثر: 10539 -"عمرو بن أبي قيس الرازي" الأزرق، مضى برقم 6887، وفي الأسانيد: 8611، 9346. و"عطاء"، هو"عطاء بن السائب"، مضى مرارًا. وسيأتي هذا الأثر من طريق أخرى رقم: 10541. (2) الأثر: 10540 - حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، روي من وجوه. رواه البخاري (الفتح 8: 179، 199) ، ومضى مثله في التفسير رقم: 8457. (3) الأثر: 10541 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 308، مرفوعًا إلى ابن عباس بغير هذا اللفظ، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وكان في المطبوعة: "النساء والصبي"، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي في الأثر التالي: "الرجل الصغير"، وهو الفتى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتِب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، الآية، قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، لا يرث الرجل الصغير ولا المرأة. فلما نزلت آية المواريث في"سورة النساء"، شَقَّ ذلك على الناس وقالوا: يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال! فرجوا أن يأتي في ذلك حَدَثٌ من السماء، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حَدَث قالوا: لئن تمَّ هذا، إنه لواجبٌ ما منه بدٌّ! ثم قالوا: سَلُوا. فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول السورة="في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن". قال سعيد بن جبير: وكان الوليّ إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم يَنْكِحها. (1) 10544- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمةً دميمةً لم يعطوها ميراثَها، وحبسوها عن التزويج حتى تموت، فيرثوها. فأنزل الله هذا. 10545- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن"، قال: كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدَّمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه، ولها مال. قال: فلا يتزوَّجها ولا يزوِّجها، حتى تموت فيرثها. قال: فنهاهم الله عن ذلك. 10546- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل،   (1) الأثر: 10543 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 231، وزاد نسبته لابن المنذر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 عن السدي، عن أبي مالك:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانت المرأة إذا كانت عند وليّ يرغب عنها، حبسها إن لم يتزوجها، ولم يدع أحدًا يتزوَّجها. 10547- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان شيئًا، كانوا يقولون: لا يغزُون ولا يغنَمون خيرًا! ففرض الله لهن الميراث حقًّا واجبًا ليتنافس= أو: لِيَنْفس= الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة. (1) 10548- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. 10549- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، يعني: الفرائض التي افترض في أمر النساء="اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانت اليتيمة تكون في حِجْر الرجل فيرغبُ أن ينكحها أو يجامعها، (2) ولا يعطيها مالها، رجاءَ أن تموت فيرثها. وإن ماتَ لها حَمِيمٌ لم تعط من الميراث شيئًا. (3) وكان ذلك في الجاهلية، فبيَّن الله لهم ذلك.   (1) في المطبوعة: "إن تكن حسنة"، أسقط"لم" ففسد الكلام، وهي ثابتة في المخطوطة. قوله: "ليتنافس في مال يتيمته"، كأنه استعمل"يتنافس" لازمًا على وجه المفرد. وهو صواب في العربية. والمنافسة والتنافس: الرغبة في الشيء للانفراد به، على وجه المغالبة. وأما "لينفس الرجل في مال يتيمته" فهو من قولهم: "نفس بالشيء" إذا ضن به واستأثر، و"نفس فيه": رغب في الاستئثار به. ويقال: "هذا أمر منفوس فيه"، أي: مرغوب فيه. (2) قوله: "يرغب أن ينكحها"، هو على حذف"عن" أي: يرغب عن أن ينكحها."رغب عن الشيء"، تركه متعمدًا، وزهد فيه، وكرهه ولم يرده. وحذف حرف الجر، هنا جائز، لدلالة الكلام عليه. (3) "الحميم": القريب الداني القرابة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 10550- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن" حتى بلغ"وترغبون أن تنكحوهن"، فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دَمَامة، ولها مال، فكان يرغب عنها أن يتزوّجها، ويحبسها لمالِها، فأنزل الله فيه ما تسمعون. 10551- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن"، قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة، فيرغب عنها أن ينكحها، ولا يُنكحها رغبةً في مالها. 10552- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، إلى قوله:"بالقسط"، قال: كان جابر بن عبد الله الأنصاري ثم السُّلَمي له ابنة عَمّ عمياء، وكانت دميمة، وكانت قد ورثت عن أبيها مالا فكان جابرٌ يرغب عن نكاحها، ولا يُنكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك= وكان ناس في حجورهم جوارٍ أيضًا مثل ذلك= فجعل جابر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أترثُ الجارية إذا كانت قبيحة عمياء؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: نعم!! فأنزل الله فيهن هذا. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، في آخر"سورة النساء"، وذلك قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) إلى آخر السورة [سورة النساء: 176] .   (1) الأثر: 10552 - انظر خبر جابر بن عبد الله وابنة عمه، على غير هذا الوجه، فيما سلف، الأثر رقم: 4939. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 *ذكر من قال ذلك: 10553- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سلام بن سليم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون الولدان حتى يحتلموا، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء"، إلى قوله"فإن الله كان به عليمًا". قال: ونزلت هذه الآية: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، [سورة النساء: 176] ، الآية كلها. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب= يعني: في أول هذه السورة، وذلك قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [سورة النساء: 3] *ذكر من قال ذلك: 10554- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال، أخبرني عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، قالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وَلِيِّها، (2) تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليُّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنَّ، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق. وأمروا   (1) الأثر 10553 -"الحارث" هو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، مضى برقم: 10295، وما بعده. و"عبد العزيز"، هو"عبد العزيز بن أبان الأموي" مضى أيضًا رقم: 10295، وما بعده. وكان في المخطوطة: "كان أهل الجاهلية الولدان" وفي هامشها (ط) ، دلالة على الخطأ، وقد أحسن ناشر المطبوعة الأولى فيما زاد. (2) في المطبوعة: "في حجر وليها"، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كانت (الرجل) غير موجودة في هذا الأثر حيث رواه أبو جعفر برقم: 8457. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن". قالت: والذي ذكر الله أنه يُتلى في الكتاب: الآية الأولى التي قال فيها: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) . (1) 10555- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة مثله. (2) * * * قال أبو جعفر: فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها،"ما" التي في قوله:"وما يتلى عليكم"، في موضع خفض بمعنى العطف على"الهاء والنون" التي في قوله:"يفتيكم فيهن". فكأنهم وجَّهوا تأويل الآية: قل الله يفتيكم، أيها الناس، في النساء، وفيما يتلى عليكم في الكتاب. (3) * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه، سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم الله فيما سألوا عنه، وفيما تركوا المسألة عنه. ذكر من قال ذلك: 10556- حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع= قال سفيان، حدثنا عبد الأعلى= وقال ابن المثنى، حدثني عبد الأعلى= قال، حدثنا داود، عن   (1) الأثر: 10554 - رواه أبو جعفر مختصرًا فيما سلف برقم: 8457، وخرجه أخي السيد أحمد هناك. (2) الأثر: 10555 - مضى برقم: 8459، إحالة على الأثر السالف. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 290. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 محمد بن أبي موسى في هذه الآية:"ويستفتونك في النساء"، قال: استفتوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم في النساء، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه. قال: كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق، فنزلت:"قل الله يفتيكم في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال:"والمستضعفين من الولدان"، قال: كانوا يورِّثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر. ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه فقال:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ"= ولفظ الحديث لابن المثنى. (1) قال أبو جعفر: فعلى هذا القول:"الذي يتلى علينا في الكتاب"، الذي قال الله جل ثناؤه:"قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم":"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، الآية. والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء: اللاتي كانوا لا يؤتونهن ما كتب الله لهن من الميراث عمَّن ورثته عنه. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل، قول من قال: معنى قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، وما يتلى عليكم من آيات الفرائضِ في أول هذه السورة وآخرها.   (1) الأثر: 10556 -"محمد بن أبي موسى" ترجم البخاري في الكبير 1 / 1 / 236، لرجل بهذا الاسم، ظاهر أنه قد روى عنه داود بن أبي هند. وقال: "قال لنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن محمد بن أبي موسى، عن ابن عباس. وقال في التهذيب"محمد بن أبي موسى، عن ابن عباس قوله ... وعنه أبو سعيد البقال"قلت [القائل ابن حجر] : في طبقته: محمد بن أبي موسى، روى عن زياد الأنصاري، عن أبي بن كعب. وعنه داود بن أبي هند". كأنهما عنده رجلان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الصَّداق ليس مما كُتب للنساء إلا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَل أحد. وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحدٍ، لم يكن مما كتب لها. وإذا لم يكن مما كتب لها، لم يكن لقول قائل: (1) عنى بقوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، الإقساطَ في صدقات يتامى النساء (2) = وَجْهٌ. لأن الله قال في سياق الآية، مبيِّنًا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء، أمرُ اليتيمة المَحُولِ بينها وبين ما كتب الله لها. (3) والصداق قبل عقد النكاح، ليس مما كتب الله لها على أحد. فكان معلومًا بذلك أن التي عنيت بهذه الآية، هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله. فإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه. * * * فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى، (4) فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل، بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التنزيل. وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، هو:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا". وإذا وجِّه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله، صار الكلام مبتدأ من قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، ترجمةً بذلك عن قوله:"فيهن"، (5) ويصير معنى الكلام: قل الله يفتيكم فيهن، في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن= ولا دلالة   (1) سقط من المخطوطة، بين كلامين، كان فيها: "فما لم تنكح فلا صداق لها قبل أحد، وإذا لم يكن ذلك لها لم يكن لقول قائل ... "، فتركت ما في المطبوعة على حاله. (2) سياق الجملة: " لم يكن لقول قائل ... وجه". (3) في المطبوعة والمخطوطة: "المحولة بينها"، والصواب ما أثبت، يعني: التي قد حيل بينهما وبين ما كتب الله لها. (4) يعني الأثر السالف رقم: 10556. (5) "الترجمة"، البدل والبيان والتفسير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 في الآية على ما قاله، ولا أثر عمن يُعلم بقوله صحةُ ذلك، وإذ كان ذلك كذلك، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى، ما وُجِد إليه سبيل. فإذ كان الأمر على ما وصفنا، فقوله:"في يتامى النساء"، بأن يكون صلةً لقوله:"وما يتلى عليكم"، أولى من أن يكون ترجمة عن قوله:"قل الله يفتيكم فيهن"، لقربه من قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، وانقطاعه عن قوله:"يفتيكم فيهن". * * * وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما كتب لهن= يعني: ما فرض الله لهن من الميراث عمن ورثنه، (1) كما:- 10557- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: لا تورِّثونهن. 10558- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: من الميراث. قال: كانوا لا يورِّثون النساء="وترغبون أن تنكحوهن". * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"وترغبون أن تنكحوهن". فقال بعضهم: معنى ذلك: وترغبون عن نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك، وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم. 10559- حدثنا حميد بن مسعدة السَّامي قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبيد الله بن عون، عن الحسن:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: ترغبون عنهن. (2)   (1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 8: 548، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) الأثر: 10559 -"حميد بن مسعدة السامي"، نسبه إلى"سامة بن لؤي" بالسين، مضى برقم: 196، 5842. وكان في المطبوعة بالشين"الشامي" وهو خطأ. وهذه النسبة ليست في المخطوطة. و"عبد الله بن عون بن أرطبان" مضى برقم: 4003، 7776، وكان في المطبوعة: "عبيد الله"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 10560- حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، مثله. 10561- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة قال: قالت عائشة في قول الله:"وترغبون أن تنكحوهن"، رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهوا أن ينكحوا من رَغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهنّ. (1) 10562- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله= يعني ابن صالح= قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب قال، قال عروة، قالت عائشة، فذكر مثله. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وترغبون في نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل، ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم. 10563- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، عن عبيدة:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: وترغبون فيهن.   (1) الأثر: 10561 - هذا تتمة الأثر السالف: 8457، ثم نظيره رقم: 10554، وقد رواه البخاري بعقبه بإسناده (الفتح 8: 179، 180) . (2) الأثر: 10562 - هو الأثر السالف: 8459، ثم نظيره رقم: 10555. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 10564- حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: ترغبون فيهن. 10565- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبَه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدًا. فإن كانت جميلة وهَوِيها، تزوّجها وأكل مالها. وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدًا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها. فحرَّم الله ذلك ونهى عنه. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك،"وترغبون عن أن تنكحوهن". لأن حبسهم أموالهن عنهن مع عضّلهم إياهن، إنما كان ليرثوا أموالهن، دون زوج إن تزوجن. ولو كان الذين حبسوا عنهن أموالهن، إنما حبسوها عنهن رغبة في نكاحهن، لم يكن للحبس عنهن وجهٌ معروف، لأنهم كانوا أولياءهن، ولم يكن يمنعهم من نكاحهن مانع، فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها، ليتّخذ حبسها عنها سببًا إلى إنكاحها نفسها منه. * * * القول في تأويل قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن= وفيما يتلى عليكم في الكتاب= وفي المستضعفين من الولدان= وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى، والذين   (1) الأثر: 10565 - انظر خبر ابن عباس فيما سلف، بمثل هذا الإسناد رقم: 8882. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث، (1) لأنهم كانوا لا يورِّثون الصغار من أولاد الميت، وأمرهم أن يقسطوا فيهم، فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه، كما:- 10566- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"والمستضعفين من الولدان"، كانوا لا يورّثون جارية ولا غلامًا صغيرًا، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط. و"القسط": أن يعطى كل ذي حق منهم حقه، ذكرًا كان أو أنثى، الصغير منهم بمنزلة الكبير. 10567- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: لا تورّثوهن مالا="وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، قال: فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث، ونسخت المواريث ذلك الأول. 10568- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، أمروا لليتامى بالقسط، بالعدل. 10569- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 10570- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، قال: كانوا لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر. 10571- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والمستضعفين من الولدان"، فكانوا في الجاهلية   (1) في المطبوعة: "والذي أفتاهم في أمر المستضعفين"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 لا يورّثون الصغار ولا البنات، فذلك قوله:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، فنهى الله عن ذلك، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه، فقال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [سورة النساء: 11، 176] ، صغيرًا كان أو كبيرًا. 10572- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف شيئًا، فأمر الله أن يعطَى نصيبه من الميراث. 10573- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليُّ اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال له عمر: زوِّجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك. وإذا كانت بها دمامة ولا مال لها، قال: تزوجها فأنت أحق بها! 10574- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يونس بن عبيد، عن الحسين بن الفرج قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين، ما أمري وما أمرُ يتيمتي؟ قال: في أيّ بالكما؟ (1) قال: ثم قال علي: أمتزوّجها أنت غنيةً جميلةً؟ قال: نعم، والإله! قال: فتزوّجها دميمة لا مال لها! ثم قال علي: خِرْ لها (2) فإن كان غيرك خيرًا لها فألحقها بالخير. (3)   (1) "البال": الشأن والأمر والحال، ومنه الحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر"، و"أمر ذو بال" أي: ذو شأن، شريف يحتفل له ويهتم به. (2) في المطبوعة: "ثم قال علي: تزوجها إن كنت خيرًا لها"، لم يفهم ما في المخطوطة فغيره وبدله، وبئس ما فعل! وقوله: "خر لها" من قولهم: "خار له"، أي اختار له خير الأمرين، ومنه قولهم: "خار الله لك"، أي: أعطاك ما هو خير لك. (3) الأثر: 10574 -"يونس بن عبيد بن دينار العبدي"، مضى برقم: 2616، 4931، 8047. أما "الحسين بن الفرج" فلم أجد في طبقته من الرواة من يقال له: "الحسين بن الفرج"، وكان في المطبوعة مكانه"الحسن"، يعني الحسن البصري. وأظنه تصرفًا من ناسخ أو ناشر. ونعم، يروي يونس بن عبيد عن الحسن البصري، ولكن أرجح ذلك عندي أن في اسمه تصحيفًا، وأخشى أن يكون هو: "الحصين بن أبي الحر"، وهو"الحصين بن مالك بن الخشخاش العنبري"، روى عنه يونس بن عبيد. مترجم في التهذيب. ونرجو أن يأتي في التفسير ما يدل على الصواب من ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 قال أبو جعفر: فقيامهم لليتامى بالقسط، كانَ العدلَ فيما أمرَ الله فيهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومهما يكن منكم، (1) أيها المؤمنون، من عدل في أموال اليتامى، التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط، والانتهاء إلى أمر الله في ذلك وفي غيره وإلى طاعته=" فإن الله كان به عليمًا"، لم يزل عالمًا بما هو كائن منكم، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، حافظ له، حتى يجازيكم به جزاءكم يوم القيامة. (2) * * *   (1) انظر"ما" بمعنى"مهما" فيما سلف 6: 551. (2) انظر تفسير"كان" و"عليم" فيما سلف في فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 القول في تأويل قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها، يقول: علمت من زوجها (1) ="نشوزًا"، يعني: استعلاءً بنفسه عنها إلى غيرها،   (1) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 4: 550 / ثم تفسيره بمعنى: العلم فيما سلف 8: 298، 299. وانظر تفسير"بعل" فيما سلف 4: 526. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 أثَرةً عليها، وارتفاعًا بها عنها، إِما لبغْضة، وإما لكراهة منه بعض أسبابها (1) إِما دَمامتها، وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها (2) ="أو إعراضًا"، يعني: انصرافًا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه (3) ="فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، يقول: فلا حرج عليهما، يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها (4) ="أن يصلحا بينهما صلحًا"، وهو أن تترك له يومها، أو تضعَ عنه بعض الواجب لها من حقّ عليه، تستعطِفه بذلك وتستديم المُقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح= يقول:"والصلح خير"، يعني: والصلح بترك بعض الحقّ استدامةً للحُرْمة، وتماسكًا بعقد النكاح، خيرٌ من طلب الفرقة والطلاق. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10575- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا أتى عليًّا رضي الله عنه يستفتيه في امرأة خافتْ من بعلها نشوزًا أو إعراضًا، فقال: قد تكون المرأة عند الرجل فتنبُو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو فقرها، فتكره فراقه. فإن وضعت له من   (1) في المطبوعة: "بعض أشياء بها"، وهو كلام سخيف، لم يحسن فهم ما في المخطوطة. و"الأسباب" جمع"سبب"، وأصله الحبل، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء. ثم استعمله أهل القرنين الثاني والثالث وما بعدهما بمعنى: كل ما يتصل بشيء أو يتعلق به. وقد مضى في مواضع من كلام أبي جعفر أخشى أن أكون أشرت إليها في التعليق، ثم غابت عني الآن. (2) انظر تفسير"النشوز" فيما سلف 3: 475، 476 / 8: 299. (3) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299 / 6: 291 / 8: 88، 566. (4) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف ص: 163، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 مهرها شيئًا حَلَّ له، وإن جعلت له من أيامها شيئًا فلا حرج. 10576- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال: سئل علي رضي الله عنه:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، قال: المرأة الكبيرة، أو الدميمة، أو لا يحبها زوجها، فيصطلحان. 10577- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه، بنحوه. 10578- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا سأل عليًّا رضي الله عنه عن قوله:"فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، قال: تكون المرأة عند الرجل دميمة، فتنبو عينُه عنها من دمامتها أو كبرها، فإن جعلت له من أيامها أو مالها شيئًا فلا جناح عليه. (1) 10579- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر فسأله عن آية، فكره ذلك وضربه بالدِّرّة، فسأله آخر عن هذه الآية:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فقال: عن مثل هذا فَسلوا! ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، (2) فيتزوج المرأة الشابَّة يلتمس ولدَها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائزٌ. 10580- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"وإن امرأة   (1) في المطبوعة: "فليس عليه جناح"، وهما سواء، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "هذه الامرأة" وهو الأصل في إدخال التعريف على"امرأة"، ولكنه قل في كلامهم، وحكاه أبو علي الفارسي، وهذا شاهده. ولم أثبته، وتركت ما في المطبوعة، لئلا أغرب على القارئ!! و"خلا من سنها"، أي: كبرت ومضى معظم عمرها. من قولهم: "خلا قرن وزمان" أي: مضى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر، فيريد أن يتزوج عليها، فيتصالحان بينهما صلحًا، (1) على أن لها يومًا، ولهذه يومان أو ثلاثة. (2) 10581- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس، بنحوه= إلا أنه قال: حتى تلد أو تكبر= وقال أيضًا: فلا جناح عليهما أن يَصَّالحا على ليلة والأخرى ليلتين. 10582- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير قال: هي المرأة تكون عند الرجل قد طالت صحبتها وكبرت، فيريد أن يستبدل بها، فتكره أن تفارقه، ويتزوج عليها فيصالحها على أن يجعل لها أيامًا، (3) وللأخرى الأيام والشهر. 10583- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون عند الرجل فيريد أن يفارقها، فتكره أن يفارقها، ويريد أن يتزوج فيقول:"إنّي لا أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها"، فتصالحه على أن يكون لها في الأيام يوم، فيتراضيان على ذلك، فيكونان على ما اصطلحا عليه. 10584- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما   (1) في المطبوعة: "فيتصالحا"، والصواب من المخطوطة. (2) الأثر: 10580 -"عمران بن عيينة بن أبي عمران الهلالي" أخو"سفيان بن عيينة" قال ابن معين وأبو زرعة: "صالح الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو صدوق. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه لأنه يأتي بالمناكير". مترجم في التهذيب. وقد مضى في رقم: 4189، بمثل هذا الإسناد. (3) في المطبوعة: "فيتزوج عليها فيصالحا على أن يجعل ... "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ"، قالت: هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله أن يكون يستكبر منها، ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة، (1) فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلً من شأني. (2) 10585- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قالت: هذا الرجل يكون له امرأتان: إحداهما قد عجزت، أو هي دميمة وهو لا يستكثر منها، فتقول: لا تطلِّقني، وأنت في حلِّ من شأني. 10586- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن   (1) في المطبوعة: "فلعله لا يكون تستكثر منها، ولا يكون لها ولد ولها صحبة"، غير ما في المخطوطة. وأثبت ما في المخطوطة، لأنه صواب في معناه، قوله: "يستكبر منها" أي: يرى أنها بلغت من السن والكبر مبلغًا، يحمله على طلب الشواب. وقوله: "ولا يكون لها ولد يكون لها صحبة"، أي: ولد يدعوه إلى صحبتها وترك مفارقتها. والذي دعا الناشر أن يصححه هو أن حديث عائشة في روايات أخرى، تقول: "الرجل عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها"، وهو لفظ البخاري، وكما سيأتي في الأثر التالي: 10585. ولكن ذلك ليس داعية إلى مثل هذا التغيير، فإن المعنى الذي ذكرته، قد جاء عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في الأثر: 10585، 10588، وهو: "في المرأة إذا دخلت في السن". فلا معنى لتغيير رواية إلا بعد التحقق من خطأ معناها، أو صواب روايتها في مكان آخر. وانظر تخريج هذا الأثر في التعاليق التالية. (2) الأثر: 10584 - خبر هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق متتابعة، ومن طريق مفردة رقم: 10588. ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 9: 266) من طريق ابن سلام، عن أبي معاوية، عن هشام. ثم رواه بلفظ آخر (الفتح 8: 199) . ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 8: 199) من طريق محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن هشام عن عائشة وهو إسناد أبي جعفر رقم: 10586. ثم رواه بلفظ آخر (الفتح 9: 266) من طريق ابن سلام، عن أبي معاوية، عن هشام. ورواه مسلم (18: 157) من طريق أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، ولفظه أقرب إلى اللفظ الذي أقره ناشر المطبوعة الأولى، وذلك: "نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلعله أن لا يستكثر منها، وتكون لها صحبة وولد، فتكره أن يفارقها" الحديث. وأخرجه البيهقي في السنن 7: 296 بلفظ آخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بنحوه= غير أنه قال: فتقول: أجعلك من شأني في حل! فنزلت هذه الآية في ذلك. (1) 10587- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فتلك المرأة تكون عند الرجل، لا يرى منها كبير ما يحبُّ، (2) وله امرأة غيرها أحبّ إليه منها، فيؤثرها عليها. فأمره الله إذا كان ذلك، أن يقول لها:"يا هذه، إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي، (3) وإن كرهت خلَّيت سبيلك! "، فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن يخيِّرها فلا جناح عليه، وهو قوله:"والصلح خيرٌ"، وهو التخيير. 10588- حدثنا الربيع بن سليمان وبحر بن نصر قالا حدثنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أنزل الله هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السنّ، (4) فتجعل يومها لامرأة أخرى. قالت ففي ذلك أنزلت:"فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا". (5) 10589- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قول الله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون مع زوجها، فيريد أن يتزوج   (1) الأثران - 10585، 10586 - هما مكرر الأثر السالف من طريقين. (2) في المطبوعة: "كثير ما يحب"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها كما أثبت. (3) "المواساة" من"الأسوة"، أصلها الهمزة، فقلبت واوا تخفيفًا. وهي المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق. (4) قولها: "دخلت في السن"، أي: كبرت وارتفعت سنها. (5) الأثر: 10588 -"بحر بن نصر بن سابق الخولاني" المصري، ثقة صدوق. روى عن ابن وهب، والشافعي، وأسد بن موسى. روى عنه أبو جعفر الطحاوي. مترجم في التهذيب. هذا، والإسناد في المخطوطة، ليس فيه"بحر بن نصر"، بل هو مفرد بذكر الربيع. ولم أجد الخبر من هذا الوجه في مكان آخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 عليها، فتصالحه من يومها على صلح. قال: فهما على ما اصطلحا عليه. فإن انتقضت به، (1) فعليه أن يعدِل عليها، أو يفارقها. 10590- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول ذلك. 10591- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن مجاهد: أنه كان يقول ذلك. 10592- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا" إلى آخر الآية، قال: يصالحها على ما رضيت دون حقها، فله ذلك ما رضيت. فإذا أنكرت، أو قالت:"غِرْت"، فلها أن يعدل عليها، أو يرضيها، أو يطلِّقها. 10593- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد قال: سألت عبيدة عن قول الله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هو الرجل تكون له امرأة قدْ خلا من سنها، (2) فتصالحه عن حقها على شيء، فهو له ما رضيت. فإذا كرهت، فلها أن يعدل عليها، أو يرضيها من حقها، أو يطلقها. 10594- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا"، فذكر نحو ذلك= إلا أنه قال: فإن سخطت، فله أن يرضيها، أو يوفيها حقَّها كله، أو يطلقها.   (1) في المطبوعة: "انتقصت به" بالصاد، وأنا في شك لازم منها، وهي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها كما أثبت، من قولهم: "نقض الأمر بعد إبرامه، وانتقض وتناقض"، واستعمال"به" مع"انتقضت" عربي جيد، كأنه يحمل معنى"خاص به"، أي نقضه. (2) "خلا من سنها"، كبرت ومضى أطيب عمرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 10595- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال، قال إبراهيم: إذا شاءت كانت على حقها، وإن شاءت أبت فردّت الصلح، فذاك بيدها. فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها على حقها. (1) 10596- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما"، قال قال علي: تكون المرأة عند الرجل الزّمان الكثير، فتخاف أن يطلِّقها، فتصالحه على صلح ما شاء وشاءت= يبيت عندها في كذا وكذا ليلة، وعند أخرى، ما تراضيا عليه= وأن تكون نفقتها دون ما كانت. وما صالحته عليه من شيء فهو جائز. 10597- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن عبد الملك، عن أبيه، عن الحكم:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون عند الرجل، فيريد أن يخلِّي سبيلها. فإذا خافت ذلك منه، فلا جناح عليهما أن يصطلحا بينهما صلحًا، تدع من أيامها إذا تزوج. (2) 10598- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، إلى قوله:"والصلح خير"، وهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فينكح عليها المرأة الشابة، فيكره أن يفارق أم ولده، فيصالحها على عطيَّةٍ من ماله ونفسه فيطيب له ذلك الصلح. 10599- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن   (1) الأثر: 10595 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة. (2) الأثر: 10597 -"يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الخزاعي" أبو زكرياء: ثقة. مترجم في التهذيب. وأبوه: "عبد الملك بن حميد بن أبي غنية" وهو"ابن أبي غنية"، مضى برقم: 8535. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 قتادة قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فقرأ حتى بلغ"فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، وهذا في الرجل تكون عنده المرأة قد خَلا من سنها، وهان عليه بعض أمرها، فيقول:"إن كنت راضيةً من نفسي ومالي بدون ما كنت ترضَيْنَ به قبل اليوم! "، (1) فإن اصطلحا من ذلك على أمر، فقد أحلَّ الله لهما ذلك، وإن أبت، فإنه لا يصلح له أن يحبسها على الخَسْف. (2) 10600- حدثت عن الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: أنّ رافع بن خديج كان تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها. فأبت امرأته الأولى أن تقيم على ذلك، فطلقها تطليقة. حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرتِ على الأثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك! قالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة! فراجعها، ثم آثر عليها، فلم تصبر على الأثرة، فطلَّقها أخرى وآثر عليها الشابة. قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا". = قال الحسن قال، عبد الرزاق قال، معمر، وأخبرني أيوب، عن ابن سيرين عن عبيدة، بمثل حديث الزهري= وزاد فيه: فإن أضرَّ بها الثالثة، فإنّ عليه أن يوفِّيها حقها، أو يطلّقها. (3)   (1) جواب الشرط محذوف، لدلالة الكلام عليه، أي: إن كنت راضية بذلك، فذلك، وإلا فارقتك. (2) "على الخسف": أي على النقيصة، وتحميلها ما تكره. (3) الأثر: 10600 - هذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 2: 308 بهذا اللفظ من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، مرفوعًا إلى رافع بن خديج. وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن 7: 296 من طريق أخرى مطولا، من طريق أبي اليمان، عن شعيب بن أبي جمرة، عن الزهري. ورواه مالك في الموطأ: 548"عن ابن شهاب، عن رافع بن خديج: أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصاري" الحديث، وهو قريب من لفظ معمر، عن الزهري. وروى الشافعي خبر رافع بن خديج، مختصرًا من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري (الأم 5: 171) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 10601- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: قول الرجل لامرأته:"أنت كبيرة، وأنا أريد أن أستبدل امرأة شابَّة وضيئة، فقَرِّي على ولدك، فلا أقسم لك من نفسي شيئًا". فذلك الصلح بينهما، وهو أبو السَّنابل بن بَعْكك. (1) 10602- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح:"من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، ثم ذكر نحوه= قال شبل: فقلت له: فإن كانت لك امرأة فتقسم لها ولم تقسم لهذه؟ قال: إذا صالحتْ على ذلك، (2) فليس عليه شيء. 10603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: سألت عامرًا عن الرجل تكون عنده المرأة يريد أن يطلقها، فتقول:"لا تطلقني، واقسم لي يومًا، وللتي تَزَّوَّج يومين"، قال: لا بأس به، هو صلح. 10604- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير"، قال: المرأة ترى   (1) الأثر: 10601 -"أبو السنابل بن بعكك بن الحارث بن عميلة بن السباق بن عبد الدار القرشي"، هو صحابي من مسلمة الفتح، أخرج له الترمذي، والنسائي وابن ماجه. و"بعكك" (بفتح فسكون ففتح) على وزن"جعفر". (2) في المطبوعة: "إذا صالحته"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 من زوجها بعض الحطّ، (1) وتكون قد كبرت، أو لا تلد، فيريد زوجها أن ينكح غيرها، فيأتيها فيقول:"إني أريد أن أنكح امرأة شابة أشبَّ منك، (2) لعلها أن تَلِدَ لي وأوثرها في الأيام والنفقة"، فإن رضيت بذلك، وإلا طلقها، فيصطلحان على ما أحبَّا. 10605- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: نشوزًا عنها، غَرِضَ بها. (3) الرجل تكون له المرأتان="أو إعراضًا"، بتركها="فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، إما أن يرضيها فتحلله، وإما أن ترضِيَه فتعطِفُه على نفسها. 10606- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، يعني: البغض. 10607- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فيتزوج عليها المرأة الشابة، فيميل إليها، وتكون أعجب إليه من الكبيرة، فيصالح الكبيرة على أن يعطيها من ماله ويقسم لها من نفسه نصيبًا معلومًا. 10608- حدثنا عمرو بن علي وزيد بن أخزم قالا حدثنا أبو داود قال،   (1) في المطبوعة: "بعض الجفاء"، غير ما في المخطوطة. و"الحط" الوضع والإنزال. ويريد: بعض البخس من حقها، والفتور في مودتها. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أنسب منك"، وهو تصحيف، صواب قراءته ما أثبت. (3) "غرض بها" (بالغين المفتوحة وكسر الراء) : ضجر بها وملها. وفي المخطوطة والمطبوعة بالعين المهملة، وهو خطأ صوابه ما أثبت. ثم قوله بعد ذلك: "الرجل تكون له المرأتان"، يعني: أن ذلك في الرجل تكون له المرأتان. وهو كلام مبتدأ لا يتعلق بالفعل الذي قبله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خشيت سَوْدة أن يطلِّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلِّقني على نسائك، ولا تَقسم لي. ففعل، فنزلت:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا". (1) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أن يصلحا بينهما صلحًا" (2) فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح"الياء" وتشديد"الصاد"، بمعنى: أن يتصالحا بينهما صلحًا، ثم أدغمت"التاء" في"الصاد"، فَصُيِّرتا"صادًا" مشددة. (3) * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) ، بضم"الياء" وتخفيف"الصاد"، بمعنى: أصلح الزوج والمرأة بينهما. * * *   (1) الأثر: 10608 -"زيد بن أخزم الطائي النبهاني" الحافظ، روى عن أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي عامر العقدي. روى عنه الجماعة، سوى مسلم. قال النسائي: "ثقة". ذبحه الزنج في الفتنة سنة 257. مترجم في التهذيب. و"أخزم" بالخاء المعجمة، والزاي. وكانا في المطبوعة: "أخرم"، وهو خطأ. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة. والأثر في مسند أبي داود: 349 رقم: 2683، وفي الترمذي في كتاب التفسير، والبيهقي في السنن 3: 297، واتفقت روايتهم جميعًا: " ... فقالَتْ: لا تُطَلِّقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة. ففعل، فنزلت هذه الآية: وَإن امرأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أو إعراضًا، الآية، فما اصطلحا عليه من شَيءٍ فهو جائز". فلا أدري من أين جاء هذا الاختلاف في لفظ الخبر؟ وأرجو أن لا يكون تصرفًا من ناسخ سابق. وقال الترمذي بعقب روايته: "هذا حديث حسن صحيح غريب". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يصالحا بينهما" بالألف، وصواب كتابتها ما أثبت، على رسم المصحف، حتى يحتمل الرسم القراءتين جميعًا. (3) هكذا رسم هذه القراءة: (أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 قال أبو جعفر: وأعجب القراءتين في ذلك إليَّ قراءة من قرأ: (أن يصالحا بينهما صلحا) ، (1) بفتح"الياء" وتشديد"الصاد"، بمعنى: يتصالحا. لأن"التصالح" في هذا الموضع أشهر وأوضح معنى، وأفصح وأكثرُ على ألسن العرب من"الإصلاح". و"الإصلاح" في خلاف"الإفساد" أشهر منه في معنى"التصالح". فإن ظن ظان أن في قوله:"صلحًا"، دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك (يُصْلِحَا) بضم"الياء" أولى بالصواب، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن"الصلح" اسم وليس بفعل، فيستدلّ به على أولى القراءتين بالصواب في قوله:"يصلحا بينهما صلحًا". * * * القول في تأويل قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهم. (2) *ذكر من قال ذلك: 10609- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: نصيبها منه. 10610- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد= وحدثنا ابن وكيع قال،   (1) في المخطوطة والمطبوعة معًا: "إلا أن يصالحا"، زاد الناسخ"إلا" سهوًا، وتابعه الناشر. (2) في المطبوعة: "وأموالهن"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 حدثنا ابن يمان= قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في الأيَّام. 10611- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في الأيام والنفقة. 10612- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي وابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: في النفقة. 10613- حدثنا ابن وكيع.. قال، حدثنا روح، عن ابن جريج، عن عطاء قال: في النفقة. (1) 10614- وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في الأيام. (2) 10615- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: نفس المرأة على نصيبها من زوجها، من نفسه وماله. 10616- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، بمثله. 10617- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مثله. 10618- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير: في النفقة.   (1) الأثر: 10613 - أخشى أن يكون صواب إسناده"حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا روح" سقط منه"حدثنا أبي قال". (2) الأثر: 10614 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 10619- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن سعيد بن جبير قال: في الأيام والنفقة. 10620- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: في الأيام والنفقة. 10621- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: المرأة تشحُّ على مال زوجها ونفسه. 10622- حدثنا المثنى قال، أخبرنا حبّان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: جاءت المرأة حين نزلت هذه الآية:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قالت:"إني أريد أن تقسم لي من نفسك"! وقد كانت رضيت أن يدَعها فلا يطلِّقها ولا يأتيها، فأنزل الله:"وأحضرت الأنفس الشحَّ". 10623- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: تطّلع نفسها إلى زوجها وإلى نفقته. قال: وزعم أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سودة بنت زمعة: كانت قد كبرت، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلِّقها، فاصطلحا على أن يمسكها، ويجعل يومها لعائشة، فشحَّت بمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفسُ كل واحدٍ من الرجل والمرأة، الشحَّ بحقه قِبَل صاحبه. *ذكر من قال ذلك: 10624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 يقول في قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: لا تطيب نفسُه أن يعطيها شيئًا، فتحلله= ولا تطيب نفسُها أن تعطيه شيئًا من مالها، فتعطفه عليها. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: أحضرت أنفس النساء الشحَّ بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة. * * * و"الشح": الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع: إفراط حرصِ المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها. * * * فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءَهن، من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضَرائرهن. * * * وبنحو ما قلنا في معنى"الشح" ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: 10625- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، والشح، هواه في الشيء يحرِص عليه. * * * وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، من قول من قال:"عُني بذلك: وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشح"، على ما قاله ابن زيد= لأن مصالحة الرجل امرأته بإعطائه إياها من ماله جُعْلا على أن تصفح له عن القسم لها، غير جائزة. وذلك أنه غير معتاض عوضًا من جُعْله الذي بذله لها. والجُعل لا يصح إلا على عِوض: إما عين، وإما منفعة. والرجل متى جعل للمرأة جُعْلا على أن تصفح له عن يومها وليلتها، فلم يملك عليها عينًا ولا منفعة. وإذْ كان ذلك كذلك، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل. وإذْ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال:"عنى بذلك الرجل والمرأة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 فإن ظن ظانّ أن ذلك إذْ كان حقًّا للمرأة، ولها المطالبة به، فللرجل افتداؤه منها بجُعل، فإن شفعة المستشفع في حصة من دارٍ اشتراها رجل من شريك له فيها حق، له المطالبة بها، فقد يجب أن يكون للمطلوب افتداءُ ذلك منه بجُعل. وفي إجماع الجميع على أن الصلح في ذلك على عِوض غيرُ جائز، إذ كان غير مُعتاض منه المطلوب في الشفعة عينًا ولا نفعًا= ما يدل على بُطول صلح الرجل امرأته على عوض، على أن تصفح عن مطالبتها إياه بالقسمة لها. وإذا فسد ذلك، صَح أن تأويل الآية ما قلنا. وقد أبان الخبر الذي ذكرناه عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار (1) أنّ قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، الآية: نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوج عليها شابة، فآثر الشابَّة عليها، فأبت الكبيرة أن تَقِرَّ على الأثرة، فطلقها تطليقة وتركها. فلما قارب انقضاء عِدَّتها خيَّرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة، فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة. فراجعها وآثر عليها، فلم تصبر، فطلقها. ففي ذلك دليل واضحٌ على أن قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، إنما عُني به: وأحضرت أنفس النساء الشحَّ بحقوقهن من أزواجهن، على ما وصفنا. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله"وإن تحسنوا وتتقوا"، فإنه يعني: وإن تحسنوا، أيها الرجال، في أفعالكم إلى نسائكم، (2) إذا كرهتم منهن دَمامة أو خُلُقًا أو بعضَ ما تكرهون منهن بالصبر عليهن، وإيفائهن حقوقهن وعشرتهن بالمعروف"وتتقوا"، يقول: وتتقوا الله فيهن بترك الجَوْر منكم عليهن فيما يجب لمن كرهتموه منهن عليكم، من القسمة له، والنفقة، والعشرة بالمعروف (3) ="فإن الله كان   (1) هو الأثر رقم: 10600. (2) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"التقوى" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 بما تعملون خبيرًا"، يقول: فإن الله كان بما تعلمون في أمور نسائكم، أيها الرجال، من الإحسان إليهن والعشرة بالمعروف، والجور عليهن فيما يلزمكم لهنّ ويجب="خبيرًا"، يعني: عالمًا خابرًا، لا يخفي عليه منه شيء، بل هو به عالم، وله محصٍ عليكم، حتى يوفِّيكم جزاءَ ذلك: المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء"، لن تطيقوا، أيها الرجال، أن تسوُّوا بين نسائكم وأزواجكم في حُبِّهن بقلوبكم حتى تعدِلوا بينهنّ في ذلك، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثلُ ما لصواحبها، لأن ذلك مما لا تملكونه، وليس إليكم="ولو حرصتم"، يقول: ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك، كما:- 10626 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: واجبٌ، أن لا تستطيعوا العدل بينهن. * * * ="فلا تميلوا كلَّ الميل"، يقول: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهن كلَّ الميل، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق: في القسم لهن، والنفقة عليهن، والعشرة بالمعروف (2) =   (1) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"الميل" فيما سلف 8: 212. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 "فتذروها كالمعلقة" يقول: فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها="كالمعلقة"، يعني: كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيِّمٌ. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ما قلنا في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". 10627 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: بنفسه في الحب والجماع. 10628- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: بنفسه. 10629- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، فقال: في الجماع 10630- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: في الحب والجماع. 10631 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل، عن عمرو، عن الحسن: في الحب. 10632 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: في الحب والجماع. 10633- حدثنا الحسن بن يحيى قال، قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"ولن تستطيعوا أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: في المودة، كأنه يعني الحبّ. 10634- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، يقول: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت. 10635 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة= قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم أمَّا قلبي فلا أملك! وأما سِوَى ذلك، فأرجو أن أعدل! 10636 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، يعني: في الحب والجماع. 10637- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب= قالا جميعًا، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك، فلا تَلُمني فيما تَملك ولا أملك. (1)   (1) الأثر: 10637 - هذا الأثر رواه أبو داود في سننه 2: 326 رقم: 2134 من طريق حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد (الخطمي) ، عن عائشة، وانظر التعليق على الأثر رقم: 10657. ورواه من هذه الطريق أيضا مرفوعا، النسائي في السنن 7: 63، 64. وبه أيضًا، ابن ماجه من سننه 1: 634، رقم: 1971. وبه أيضًا، الترمذي في سننه (باب ما جاء في التسوية بين الضرائر) . ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 298. وسيرويه أبو جعفر بإسنادين آخرين، أحدهما من طريق حماد بن زيد مرسلا، وهو رقم: 10656، مع اختلاف يسير في اللفظ. والآخر، من طريق عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، مرفوعًا، كما في السنن الأربعة، وهو رقم: 10657. وأشار إليه الحافظ في الفتح (9: 274) وقال: "وقد روى الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم". وقال الترمذي بعقبه: "حديث عائشة، هكذا رواه غير واحد: عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم= ورواه حماد بن زيد وغير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم= وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة". وزاد الطبري هنا طريقين في روايته مرسلا: ابن علية، عن أيوب= وعبد الوهاب، عن أيوب. ثم قال الترمذي ومعنى قوله: "لا تلمني فيما تملك ولا أملك"= إنما يعني به الحب والمودة، كذا فسره بعض أهل العلم". وقال أبو داود في سننه: "يعني القلب". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 10638 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الآية في عائشة:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء". 10639 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، قال: في الشهوة والجماع. 10640 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: في الجماع. 10641 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال، قال سفيان في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: في الحب والجماع. 10642- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: ما يكون من بدنه وقلبه، فذلك شيء لا يستطيع يَمْلكه. (1) * * * ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله:"فلا تميلوا كلَّ الميل". 10643 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا   (1) حذفت"أن"، وسياقه"لا تستطيع أن تملكه". وحذف"أن" قبل المضارع، جائز صحيح، كثير في كلام العرب، وكثير في كلام القدماء من العلماء والكتاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: بنفسه. 10644- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، مثله. 10645 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"فلا تميلوا كل الميل"، قال هشام: أظنه قال: في الحب والجماع. 10646- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"كل الميل"، قال: بنفسه. 10647 - حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال، حدثنا بشر بن بكر قال، أخبرنا الأوزاعي، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قول الله:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: بنفسه. (1) 10648 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: في الغشيان والقَسْم. (2) 10649 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، لا تعمَّدوا الإساءة. 10650 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10651- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج   (1) الأثر: 10647 -"بحر بن نصر الخولاني"، مضى قريبًا برقم: 10588. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة. (2) الأثر: 10648 -"سهل بن يوسف الأنماطي"، ثقة، من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، وقد مضى في الأسانيد: 2966، 3260، 4876، 8765. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 قال: بلغني عن مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: يتعمد أن يسيء ويظلم. (1) 10652 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10653- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: هذا في العمل في مبيته عندها، وفيما تصيب من خيره. 10654 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تميلوا كل الميل"، يقول: يميل عليها، فلا ينفق عليها، ولا يقسم لها يومًا. 10655 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: يتعمد الإساءة، يقول:"لا تميلوا كل الميل"، قال: بلغني أنه الجماع. 10656 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذه قِسْمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك! (2) 10657- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله. (3)   (1) الأثر: 10651 -"محمد بن بكر بن عثمان البرساني"، ثقة. مضى برقم: 5438. (2) الأثر: 10656 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10637. (3) الأثر: 10657 -"عبد الله بن يزيد" هو: رضيع عائشة. روى عن عائشة. وعنه أبو قلابة الجرمي. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن زيد"، وهو خطأ كما سترى. هذا وقد جاء في سنن أبي داود وحدها"عبد الله بن يزيد الخطمي"، والآخرون لم يقولوا: "الخطمي"، اقتصروا على اسمه وحده. وهذا هو الصواب، فإن"عبد الله بن يزيد بن زيد الخطمي"، لم يذكر في تراجمه أنه روى عن عائشة، ولا أن أبا قلابة الجرمي قد روى عنه. والذي يروي عن عائشة: عبد الله بن يزيد، رضيع عائشة. وقد نص الحافظ ابن حجر في ترجمته في التهذيب (6: 80) أنه له عند الأربعة: "اللهم هذا قسمي فيما أملك"، فثبت على اليقين، أن الذي في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود، خطأ محض، وأن الصواب حذف"الخطمي" من إسنادها. والله الموفق للصواب. كتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 10658 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له امرأتان يَميل مع إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة أحدُ شِقَّيه ساقط. (1) * * * ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله:"فتذروها كالمعلقة". 10659 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فتذروها كالمعلقة"، قال: تذروها لا هي أيّم، ولا هي ذات زوج. (2) 10660- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر   (1) الأثر: 10658 - هذا الأثر، رواه أبو داود الطيالسي عن همام، في مسنده: 322 رقم: 2454، باختلاف يسير في لفظه. ورواه أبو داود في السنن 2: 326، رقم: 2133، من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن همام، ولفظه: "وشقه مائل". ورواه النسائي 7: 63، من طريق عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن همام، ولفظه: "أحد شقيه مائل". ورواه ابن ماجه في سننه 1: 633 رقم: 1969، من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، بلفظ الطبري. ورواه الترمذي في السنن، في باب (ما جاء في التسوية بين الضرائر) ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن همام. ورواه البيهقي 7: 297 من طرق. قال الترمذي: "وإنما أسند هذا الحديث همام بن يحيى، عن قتادة. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة، قال: "كان يقال". ولا نعرف هذا الحديث مرفوعًا إلا من حديث همام". (2) في المطبوعة: "ولا ذات روج"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 ، عن سعيد بن جبير:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيِّمًا ولا ذات بعل. 10661 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا مطلقة ولا ذات بعل. 10662- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن، مثله. 10663 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فتذروها كالمعلقة"، أي كالمحبوسة، أو كالمسجونة. 10664- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، قال: كالمسجونة. (1) 10665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، يقول: لا مطلقة ولا ذات بعل. 10666- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله:"فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة"، لا مطلقة ولا ذات بعل. (2) 10667- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيما ولا ذات بعل.   (1) في المخطوطة، "كالمسجونة، كالمحبوسة"، ووضع فوق الأولى حرف (ط) وفوق الأخرى (كذا) ، ولا أدري ما الذي أراد باستشكاله هذا. أما المطبوعة، فقد حذفت"كالمحبوسة" واقتصرت على واحدة، وكأنه ظن أنه أراد حذف التي عليها (ط) ، وإبقاء الأخرى، ولعله أصاب، فتركت ما في المطبوعة على حاله. وأراد بقوله: "المسجونة" و"المحبوسة"، أن زوجها سجنها، أو حبسها فلم يرسلها، ولم يسرحها بالطلاق. (2) الأثر: 10666 - عبد الرحمن بن سعد: هو: "عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن عثمان الرازي". روى عن أبيه، وأبي خيثمة، وعمرو بن أبي قيس الرازي، وأبي جعفر الرازي. ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 10668 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح:"فتذروها كالمعلقة"، ليست بأيم ولا ذات زوج. 10669- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وأبو خالد وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، قال: لا تدعها كأنها ليس لها زوج. 10670- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيِّمًا ولا ذات بعل. 10671 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، قال:"المعلقة"، التي ليست بمُخَلاة ونفسها فتبتغي لها، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها، لا هي عند زوجها، ولا مفارقة، فتبتغي لنفسها. فتلك"المعلقة". * * * قال أبو جعفر: وإنما أمر الله جل ثناؤه بقوله:"فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة"، الرجالَ بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهن من القسمة بينهن، والنفقة، وترك الجور في ذلك بإرسال إحداهن على الأخرى فيما فرض عليهم العدلَ بينهن فيه، إذ كان قد صفح لهم عمَا لا يطيقون العدلَ فيه بينهنّ مما في القلوب من المحبة والهوى. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وإن تصلحوا" أعمالكم، أيها الناس، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم، وما فرض الله لهن عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف، فلا تجوروا في ذلك="وتتقوا"، يقول: وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 عنه، بأن تميلوا لإحداهن على الأخرى، فتظلموها حقها مما أوجبَه الله لها عليكم="فإن الله كان غفورًا"، يقول: فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهن قبل ذلك، بتركه عقوبتكم عليه، ويغطِّي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل="رحيمًا"، يقول: وكان رحيمًا بكم، إذ تاب عليكم، فقبل توبَتكم من الذي سلف منكم من جوركم في ذلك عليهن، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن، بصفحهن عن حقوقهن لكم من القَسْم على أن لا يطلَّقن. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أبت المرأة التي قد نشز عليها زوجها= إذ أعرض عنها بالميل منه إلى ضرّتها لجمالها أو شبابها، أو غير ذلك مما تميل النفوس له إليها (2) = الصلحَ بصفحها لزوجها عن يومها وليلتها، (3) وطلبت حقَّها منه من القسم والنفقة، وما أوجب الله لها عليه= وأبى الزوج الأخذَ عليها بالإحسان الذي ندبه الله إليه بقوله:"وإن تُحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، وإلحاقَها في القسم لها والنفقة والعشرة بالتي هو إليها مائل، (4) فتفرقا   (1) انظر تفسير"التقوى" و"غفور"، و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) في المطبوعة: "أو أعرض عنها ... مما تميل النفوس به إليها"، غير"إذ"، و"له"، وهما نص المخطوطة، وهو الصواب. ويعني: مما تميل النفوس من أجله إلى هذه المرأة التي وصف. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "الصلح لصفحها" والصواب ما أثبت، وقوله: "الصلح" منصوب، مفعول به لقوله: "فإن أبت المرأة ... الصلح"، هكذا السياق. (4) قوله: "وإلحاقها" معطوف في السياق على قوله: "وأبى الزوج الأخذ عليها بالإحسان ... وإلحاقها ... ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 بطلاق الزوج إياها="يُغْنِ الله كلا من سعته"، يقول: يغن الله الزوجَ والمرأة المطلقة من سعة فضله. أما هذه، فبزوج هو أصلح لها من المطلِّق الأول، أو برزق أوسع وعصمة. وأما هذا، فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة، (1) أو عفة="وكان الله واسعًا"، يعني: وكان الله واسعًا لهما، في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه (2) ="حكيمًا"، فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها، وفي غير ذلك من أحكامه وتدبيره وقضاياه في خلقه. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10672- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته"، قال: الطلاق. (4) 10673 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * *   (1) انظر تفسير"السعة" فيما سلف ص: 121. وقوله: "أو عفة" يعني: فبرزق واسع ... أو بعفة. (2) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 2: 537 / 5: 516، 575 / 6: 517. (3) انظر تفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) في المطبوعة: "قال: الطلاق، يغني الله كلا من سعته"، وليس ذلك كله في المخطوطة بل سقط منها بقية الخبر. فاقتصرت على ما جاء في الدر المنثور 2: 234، عن مجاهد وهو: "قال: الطلاق"، كما أثبته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولله جميع مُلْك ما حوته السموات السبع والأرَضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله:"وإن يتفرَّقا يغن الله كلا من سعته"، تنبيهًا منه خلقَه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوَحْشة بفراق سَكنه وزوجته= وتذكيرًا منه له أنه الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء، فغير متعذّر عليه أن يغنيَه وكلَّ ذي فاقة وحاجة، ويؤنس كلَّ ذي وحشة. * * * ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعى في أمر بني أبيرق وتوبيخهم، ووعيدِ من فعل ما فعل المرتدّ منهم، فقال (1) "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم"، يقول: ولقد أمرنا أهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل="وإياكم"، يقول: وأمرناكم وقلنا لكم ولهم:"اتقوا الله"، يقول: احذروا الله أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه (2) ="وإن تكفروا"، يقول: وإن تجحدوا وصيته إياكم، أيها المؤمنون، فتخالفوها="فإنّ لله ما في السموات وما في الأرض"، يقول: فإنكم لا تضرُّون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تَعْدُون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثالَ اليهود والنصارى، في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حلَّ بهم إذ بدَّلوا عهده ونقضوا ميثاقه، فغيَّر بهم ما كانوا فيه من خَفض   (1) انظر تفسير الآيات السالفة، من الآية: 105 - 116. (2) انظر تفسير"وصى" فيما سلف 3: 93-96: 405 / 8: 30، 68 وانظر مقالته في"أن" مع"وصى" فيما سلف 3: 94، 95. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 العيش وأمن السِّرب، (1) وجعل منهم القردة والخنازير. وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض، لا يمتنع عليه شيء أراده بجميعه وبشيء منه، من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله، وغير ذلك من الأمور كلها، لأن الخلق خلقه، بهم إليه الفاقة والحاجة، وبه قواهم وبقاؤهم، وهلاكهم وفناؤهم= وهو"الغني" الذي لا حاجة تحلّ به إلى شيء، ولا فاقة تنزل به تضطرُّه إليكم، أيها الناس، ولا إلى غيركم (2) ="والحميدُ" الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمدَ بصنائعه الحميدة إليكم، وآلائه الجميلة لديكم. (3) فاستديموا ذلك، أيها الناس، باتقائه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه، كما: 10674 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن علي رضي الله عنه:"وكان الله غنيًّا حميدًا"، قال: غنيًّا عن خلقه="حميدًا"، قال: مستحمدًا إليهم. * * *   (1) في المطبوعة: "وأمن الشرب" بالشين المعجمة، وهو خطأ صرف، وهو في المخطوطة على الصواب. و"السرب" (بكسر السين وسكون الراء) : النفس والمال والأهل والولد. يقال: "أصبح فلان آمنًا في سربه" أي في نفسه وأهله وماله وولده. وتفتح السين، فيقال: "أصبح آمنًا في سربه"، أي: في مذهبه ووجهه حيث سار وتوجه. و"خفض العيش": لينه وخصبه. (2) انظر تفسير"الغني" فيما سلف 5: 521، 570. (3) انظر تفسير"حميد" فيما سلف 5: 570. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (132) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولله ملك جميع ما حوته السموات والأرض، وهو القيِّم بجمعيه، والحافظ لذلك كله، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يؤوده حفظه وتدبيره، كما:- 10675 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة:"وكفى بالله وكيلا"، قال: حفيظًا. (1) * * * فإن قال قائل: وما وجه تكرار قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض" في آيتين، إحداهما في إثر الأخرى؟ قيل: كرّر ذلك، لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض في الآيتين. وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين: ذكرُ حاجته إلى بارئه، وغنى بارئه عنه - وفي الأخرى: حفظ بارئه إياه، وعلمه به وتدبيره. (2) فإن قال: أفلا قيل:"وكان الله غنيًّا حميدًا"، وكفى بالله وكيلا؟ قيل: إن الذي في الآية التي قال فيها:"وكان الله غنيًّا حميدًا"، مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف الله بالغنى وأنه محمود، ولم يذكر فيها ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير. فلذلك كرّر قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض". * * *   (1) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405 / 8: 566 / 9: 193. (2) في المطبوعة: "حفظ بارئه إياه به، وعلمه به وتدبيره"، والصواب كله من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 القول في تأويل قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن يشأ الله، أيها الناس، ="يذهبكم"، أي: يذهبكم بإهلاككم وإفنائكم="ويأت بآخرين"، يقول: ويأت بناس آخرين غيركم لمؤازرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته="وكان الله على ذلك قديرًا"، يقول: وكان الله على إهلاككم وإفنائكم واستبدال آخرين غيركم بكم="قديرًا"، يعني: ذا قدرة على ذلك. (1) * * * وإنما وبخ جل ثناؤه بهذه الآيات، الخائنين الذين خانوا الدِّرع التي وصفنا شأنها، الذين ذكرهم الله في قوله: (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [سورة النساء: 105] = وحذر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم، وأن يفعلوا فعل المرتدِّ منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين = وعرَّفهم أن من فعل فعله منهم، فلن يضر إلا نفسه، ولن يوبق برِدَّته غير نفسه، لأنه المحتاج -مع جميع ما في السموات وما في الأرض- إلى الله، والله الغني عنهم. ثم توعَّدهم في قوله:"إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين"، بالهلاك والاستئصال، إن هم فعلوا فعل ابن أبيرق طُعْمة المرتدِّ (2) = وباستبدال آخرين غيرهم بهم، لنصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته ومؤازرته على دينه، كما قال في الآية الأخرى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) ، [سورة محمد: 38] .   (1) انظر تفسير"القدير" فيما سلف 1: 361 / 2: 484، 504. (2) "طعمة" هو اسم"ابن أبيرق" كما سلف في الأثر رقم: 10416. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت، ضرب بيده على ظهر سَلْمان فقال:"هم قوم هذا"، يعني عجم الفرس= كذلك:- 10676- حُدِّثت عن عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1) * * * وقال قتادة في ذلك بما:- 10677 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله"إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرًا"، قادرٌ واللهِ ربُّنا على ذلك: أن يهلك من يشاء من خلقه، ويأتي بآخرين من بعدهم. * * * القول في تأويل قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"من كان يريد"، ممن أظهرَ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق، (2) الذين يستبطنون الكفر   (1) الأثر: 10676 -"عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي". متكلم فيه. مترجم في التهذيب. و"سهيل بن أبي صالح". متكلم فيه. مترجم في التهذيب. و"أبوه: "ذكوان السمان"، "أبو صالح"، ثقة ثبت في حديثه عن أبي هريرة. مترجم في التهذيب، مضى برقم: 304، 3226، 5387. وهذا الأثر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 6: 67، ونسبه لابن جرير، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وسيأتي بأسانيد أخرى في تفسير"سورة محمد"، في آخرها 26: 42 (بولاق) سنتكلم عنها هناك. (2) في المطبوعة: "لمحمد صلى الله عليه وسلم"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 وهم مع ذلك يظهرون الإيمان="ثواب الدنيا"، يعني: عَرَض الدنيا، (1) بإظهارهِ مَا أظهر من الإيمان بلسانه. (2) ="فعند الله ثواب الدنيا"، يعني: جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها، وهو ما يصيبُ من المغنم إذا شَهِد مع النبي مشهدًا، (3) وأمنُه على نفسه وذريته وماله، وما أشبه ذلك. وأما ثوابه في الآخرة، فنارُ جهنم. * * * فمعنى الآية: من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثوابَ الدنيا وجزاءَها من عمله، فإن الله مجازيه به جزاءَه في الدنيا من الدنيا، (4) وجزاءه في الآخرة من الآخرة من العقاب والنكال. وذلك أن الله قادر على ذلك كله، وهو مالك جميعه، كما قال في الآية الأخرى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة هود: 15-16] . * * * وإنما عنى بذلك جل ثناؤه: الذين تَتَيَّعُوا في أمر بني أبيرق، (5) والذين وصفهم في قوله: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [سورة النساء: 107، 108] ، ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم. * * *   (1) انظر تفسير"ثواب" فيما سلف 2: 458 / 7: 262، 304، 490. (2) في المطبوعة: "بإظهار" بغير هاء، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "وثوابه فيها هو ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (4) قوله: "مجازيه به"، كان في المخطوطة: "مجازيه بها"، وفي المطبوعة، حذف"بها"، والصواب ما أثبت. (5) في المطبوعة: "الذين سعوا في أمر بني أبيرق"، وفي المخطوطة، كما كتبتها غير منقوطة. يقال: "تتيع فلان في الأمر وتتايع": إذا أسرع إليه وتهافت فيه من غير فكر ولا روية. ولا يكون ذلك إلا في الشر، لا يقال في الخير. والذي في المطبوعة صواب في المعنى والسياق والخبر، ولكني تبعت رسم المخطوطة، فهو موافق أيضًا لسياق قصتهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 وقوله:"وكان الله سميعًا بصيرًا"، يعني: وكان الله سميعًا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لَقُوا المؤمنين، وقولهم لهم:"آمنًا" (1) ="بصيرًا"، يعني: وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين، (2) فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغش والغِلّ الذي في صدورهم لهم. (3) * * *   (1) انظر تفسير"سميع" فيما سلف 6: 363، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"بصير" فيما سلف 6: 283، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة، حذف"لهم" من آخر هذه الجملة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} وهذا تقدُّم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله (1) أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرقٍ أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه، وذَبَّهم عنهم، وتحسينَهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر. يقول الله لهم:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط"، يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط (2) =يعني: بالعدل="شهداء لله". * * * = و"الشهداء" جمع"شهيد". (3) * * *   (1) يقال: "تقدم إليه في كذا" أي أمره بأمر أو نهي، وأراد هنا معنى النهي. (2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف 6: 77، 270 / 7: 541. (3) انظر تفسير"شهيد" و"شهداء" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 ونصبت"الشهداء" على القطع مما في قوله:"قوامين" من ذكر"الذين آمنوا"، (1) ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم= أو: حين شهادتكم. ="ولو على أنفسكم"، يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والدين لكم أو أقربيكم، (2) فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحّتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغنيٍّ لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ، فتجوروا. فإن الله الذي سوَّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم، أيها الناس، من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل="أولى بهما"، وأحق منكم، (3) لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كلّ واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما="فلا تتبعوا الهوى أن تَعْدِلوا"، يقول: فلا تتبعوا أهواءَ أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها -لغني على فقير، أو لفقير على غني- إلا أحد الفريقين، فتقولوا غير الحق، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدُّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها، بالعدل لمن شهدتم له وعليه. * * * فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهدُ بالقسط؟ وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ (4) قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه. * * * قال أبو جعفر: وهذه الآية عندي تأديبٌ من الله جل ثناؤه عبادَه المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذَروا بني أبيرق= في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا   (1) "القطع"، باب من الحال، انظر ما سلف في فهارس المصطلحات. (2) في المطبوعة: "أو على والديكم"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر تفسير"أولى" فيما سلف 6: 497. (4) في المطبوعة: "وهل يشهد الشاهد"، وفي المخطوطة: "وبما يشهد". وأرجح أن ما في المطبوعة هو الصواب، لقوله في جوابه"نعم"، وكدت أقرؤها: "وبم يشهد الشاهد"، لولا أن جواب أبي جعفر دل على غير ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 ممن ذكرنا قبل (1) = عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقولوا فيها بالعدل، (2) ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، ولا يحملنكم غِنَى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورَحِمُه منكم، (3) على الشهادة له بالزور، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها. * * * وقد قيل إنها نزلت تأديبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. *ذكر من قال ذلك: 10678- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله"، قال: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم، واختصم إليه رجلان: غنيٌّ وفقير، وكان ضِلَعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيَّ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، الآية. * * * وقال آخرون: في ذلك نحو قولنا: إنها نزلت في الشهادة، أمرًا من الله المؤمنين أن يسوُّوا -في قيامهم بشهاداتهم- لمن قاموا بها، (4) بين الغني والفقير.   (1) في المطبوعة: "وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله ... "، وهو كلام فاسد، غير ما في المخطوطة، وهو كما أثبت، إلا أنه كتب"من ذكرنا قبل" ووضع فتحة على الميم من"من"، وهو خطأ في نسخ الناسخ ونقله، إنما هذه الفتحة ميم أخرى في"ممن" أساء قراءتها، فأساء نقلها. وقد مضى مثل هذا في مثل هذا الحرف، مرارًا فيما سلف ونبهت إليه. (2) في المطبوعة: "فقوموا فيها بالعدل"، والذي في المخطوطة صواب محض. (3) في المطبوعة"فلا يحملنكم"، والجيد ما أثبت من المخطوطة. (4) في المطبوعة: "لمن قاموا له بها" زاد"له"، وهي مفسدة للكلام، غمض عليه السياق. وإنما سياق الكلام: أمرًا من الله المؤمنين ... لمن قاموا بها" أي: لمن قام من المؤمنين بالشهادة، وذكرها معترضة في كلام آخر، وهو قوله: "في قيامهم بشهاداتهم". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 *ذكر من قال ذلك: 10679- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين"، قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقَّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا يحابوا غنيًّا لغناه، ولا يرحموا مسكينًا لمسكنته، وذلك قوله:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، فتذروا الحق، فتجوروا. 10680- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة قال: كان ذلك فيما مضى من السُّنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما" الآية، فلم يكن يُتَّهَمُ سلفُ المسلمين الصالحُ في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دَخِلَ الناسُ بعد ذلك، (1) فظهرت منهم أمور حملت الولاةَ على اتهامهم، فتركت شهادةُ من يتهم، إذا كانت من أقربائهم. وصار ذلك من الولد والوالد، والأخ والزوج والمرأة، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان. (2) 10681- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" إلى آخر الآية، قال: لا يحملك فقرُ هذا على أن ترحَمه فلا تقيم عليه الشهادة. قال: يقول هذا للشاهد.   (1) "دخل" على وزن"فرح"، يقالك: "دخل أمره دخلا (بفتحتين) ": أي فسد، و"الدخل" (بفتحتين) : الغش والفساد. و"فلان مدخول الإسلام"، إذا كان فيه غش وفساد، وهو النفاق. (2) فليت شعري ما كان يقول ابن شهاب لو أدرك زماننا الذي نحن فيه!! نسأل السلامة، ونستهديه في القيام بما أمرنا به في كتابه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 10682- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" الآية، هذا في الشهادة. فأقم الشهادة، يا ابن آدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو شَرَفِ قومك. (1) فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزانُ الله في الأرض، به يردُّ الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق. وبالعدل يصدِّق الصادقَ، ويكذِّب الكاذبَ، ويردُّ المعتدي ويُرَنِّخُه، (2) تعالى ربنا وتبارك. وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم="إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما"، يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله موسى عليه السلام قال:"يا ربِّ، أي شيء وضعت في الأرض أقلّ؟ "، قال:"العدلُ أقلُّ ما وضعت في الأرض". فلا يمنعك غِنى غنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن ذلك عليك من الحق، وقال جل ثناؤه:"فالله أولى بهما". * * * وقد قيل:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا"، الآية، أريد: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير. لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال:"بهما"، ولم يقل"به". * * * وقال آخرون: إنما قيل:"بهما"، لأنه قال:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا"، فلم يقصد فقيرًا بعينه ولا غنيًّا بعينه، وهو مجهول. وإذا كان مجهولا جاز الردُّ منه بالتوحيد والتثنية والجمع. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "أو أشراف قومك"، كأنه ظن"شرفًا" خطأ، وهو محض صواب، يجمع"شريف" على"أشراف" و"شرفاء" و"شرف" (بفتح الشين والراء) . كما قالوا: "رجل كريم" و"قوم كرم". ولو قيل: وهو وصف بالمصدر مثل"عدل" لكان صوابًا. (2) في المطبوعة: "ويوبخه" والتوبيخ لا معنى له هنا. وفي المخطوطة غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "رنخ الرجل": ذلَّله. ولو قرئت"يريخه" بالياء لكان صوابًا، يقال: "ضربوا فلانًا حتى ريخوه"، أي أوهنوه وأذلوه. هذا وقتادة السدوسي، كان يكثر في كلامه غريب اللغة. (3) في المطبوعة: "الرد عليه بالتوحيد ... "، والذي أثبت من المخطوطة هو محض الصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 وذكر قائلو هذا القول، أنه في قراءة أبيّ: (فالله أولى بهم) . * * * وقال آخرون:"أو" بمعنى"الواو" في هذا الموضع. (1) * * * وقال آخرون: جاز تثنية قوله:"بهما"، لأنهما قد ذكرا، كما قيل. (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) [سورة النساء: 12] . * * * وقيل: جاز، لأنه أضمر فيه"مَن"، كأنه قيل: إن يكن مَن خاصم غنيًّا أو فقيرًا= بمعنى: غنيين أو فقيرين="فالله أولى بهما". * * * وتأويل قوله:"فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، أي: عن الحق، فتجوزوا بترك إقامة الشهادة بالحق. ولو وُجِّه إلى أن معناه: فلا تتَّبعوا أهواء أنفسكم هربًا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط، لكان وجهًا. (2) * * * وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا= كما يقال:"لا تتبع هواك لترضيَ ربك"، بمعنى: أنهاك عنه، كما ترضي ربّك بتركه. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى:"وإن تلووا"، أيها الحكام، في الحكم لأحد الخصمين   (1) انظر "أو" بمعنى"الواو" فيما سلف 1: 336، 337 / 2: 237. (2) في المطبوعة: "كان وجها"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 291. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 على الآخر="أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا". ووجهوا معنى الآية إلى أنها نزلت في الحكام، على نحو القول الذي ذكرنا عن السدِّي من قوله: إن الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل. (1) *ذكر من قال ذلك: 10683- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُه لأحدهما على الآخر. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا، أيها الشهداء، في شهاداتكم فتحرِّفوها ولا تقيموها= أو تعرضوا عنها فتتركوها. *ذكر من قال ذلك: 10684- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة، أو تعرضوا عنها. 10685- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" إلى قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، يقول: تلوي   (1) هو الأثر السالف رقم: 10678. (2) الأثر: 10683 -"قابوس بن أبي ظبيان الجنبي"، روى عن أبيه"حصين بن جندب" وآخرين. قال ابن معين: "ثقة، ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المرسل، وأسند الموقوف. وأبوه ثقة". وانظر ما سلف رقم: 9745. وأبوه: "أبو ظبيان"، هو: "حصين بن جندب". روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود. ثقة، انظر ما سلف رقم: 9745. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 لسانك بغير الحق، وهي اللَّجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. و"الإعراض"، الترك. 10686- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن تلووا"، أي تبدّلوا الشهادة="أو تعرضوا"، قال: تكتموها. 10687- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا"، قال: بتبديل الشهادة، و"الإعراض" كتمانها. 10688- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: إن تحرفوا أو تتركوا. 10689- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: تلجلجوا، أو تكتموا. وهذا في الشهادة. 10690- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن تلووا أو تعرضوا"، أما"تلووا"، فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها= وأما"تعرضوا" فتعرض عنها فتكتمها، وتقول: ليس عندي شهادة! 10691- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن تلووا"، فتكتموا الشهادة، يلوى ببعض منها (1) = أو يُعرض عنها فيكتمها، فيأبى أن يَشهد عليه، يقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحَمُه! فيقول: لا أقيم الشهادة عليه. ويقول: هذا غنيٌّ أبقّيه وأرجو ما قِبَله، فلا أشهد عليه! فذلك قوله:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا".   (1) في المطبوعة: "تلوى تنقص منها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب جيد. من قولهم: "لوى عنه الخبر"، إذا طواه، أو أخبره به على غير وجهه. وكان سياق الكلام في المطبوعة بالتاء على معنى الخطاب، "تلوى""تعرض" الخ، فأثبت ما هو في المخطوطة منقوطًا كذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 10692- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا"، تحرّفوا="أو تعرضوا"، تتركوا. (1) 10693- حدثنا محمد بن عمارة قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"وإن تلووا"، قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها="أو تعرضوا"، قال: تتركوها. (2) 10694- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: إن تلووا في الشهادة، أن لا تقيمها على وجهها (3) ="أو تعرضوا"، قال: تكتموا الشهادة. 10695- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثنا شيبان، عن قتادة: أنه كان يقول:"وإن تلووا أو تعرضوا"، يعني: تلجلجوا="أو تعرضوا"، قال: تدعها فلا تشهد. 10696- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، أما"تلووا"، فهو أن يلوي الرجل لسانَه بغير الحق. يعني: في الشهادة. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويلُ من تأوله، أنه لَيُّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك تحريفه إياها بلسانه، (4) وتركه إقامتها، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له، وعمن شهد عليه. (5)   (1) في المخطوطة: "تحرفوا أو تحرفوا" مكررة، لا أظنه تحريفًا. (2) في المطبوعة: "فتتركوها"، والجيد ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "أن لا تقيموها" بالجمع، والذي في المخطوطة حسن جيد. (4) في المطبوعة: "لسانه" بغير باء، والصواب من المخطوطة. (5) انظر تفسير"اللي" فيما سلف 6: 535-537 / 8: 435. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 وأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءَها والقيام بها، فلا يشهد بها. (1) وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه قال:"كونوا قوامين بالقسط شهداء الله"، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء. وأظهر معاني"الشهداء"، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وإن تلووا". فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة: (وَإِنْ تَلْوُوا) بواوين، من:"لواني الرجل حقي، والقوم يلوونني دَيْني"= وذلك إذا مطلوه="ليًّا". * * * وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (وإن تلوا) بواو واحدة. * * * ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان: أحدهما: أن يكون قارئها أراد همز"الواو" لانضمامها، ثم أسقط الهمز، فصار إعراب الهمز في اللام إذْ أسقطه، وبقيت واو واحدة. كأنه أراد:"تَلْؤُوا" ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه، كان معناه معنى من قرأ:"وإن تلووا"، بواوين، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب. وذلك أن"الواو" الثانية من قوله:"تلووا" واو جمع، وهي علم لمعنى، فلا يصح همزها، ثم حذفها بعد همزها، فيبطل علَم المعنى الذي له أدخلت"الواو" المحذوفة. (2) والوجه الآخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: أن"تلوا" من"الولاية"، فيكون معناه: وأن تلوا أمور الناس وتتركوا. وهذا معنى= إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا، إليه= خارج عن معاني أهل التأويل، وما وجّه إليه أصحاب رسول الله صلى   (1) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف ص: 268، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) هذا موضع وهم غريب من مثل أبي جعفر، فإن الهمز في"تلؤوا" على واو الفعل، وهي عين الفعل"لوى"، والحذف بعد طرح الهمزة، واقع بواو الفعل لا بواو الجماعة، وهي أصل، لم تدخل لمعنى. فكيف أخطأ أبو جعفر فظنها واو الجماعة!! وانظر معاني القرآن للفراء 1: 291. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 الله عليه وسلم والتابعون، تأويلَ الآية. * * * قال أبو جعفر: فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) ، بمعنى:"اللي" الذي هو مطل. * * * فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيامُ له بها، فتغيروها وتبدلوا، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرجل دينَ الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له، (1) كما قال الأعشى: يَلْوِينَني دَيْنِي النَّهارَ، وأَقْتَضِي ... دَيْنِي إذَا وَقَذَ النُّعَاسُ الرُّقَّدَا (2) * * * وأما تأويل قوله:"فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، فإنه أراد:"فإن الله كان بما تعملون"، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها، وإعراضكم عنها   (1) انظر مراجع تفسير"اللي" فيما سلف ص: 309، تعليق: 5 وفي المطبوعة"على ما أوجب عليه"، والصواب من المخطوطة. (2) ديوانه: 151، واللسان (لوى) و (وقذ) ، من أبيات، جياد أولها فيما قبله: وَأَرَى الغَوَانِي حِينَ شِبْتُ هَجَرْنَنِي ... أَنْ لا أَكُونَ لَهُنّ مِثْلِيَ أَمْرَدَا إنَّ الغَوَانِي لا يُوَاصِلْنَ امْرَءًا ... فَقَدَ الشَّبَابَ، وَقَدْ يَصِلْنَ الأَمْرَدَا بَلْ لَيْتَ شِعْرِي! هَلْ أَعُودَنْ نَاشِئًا ... مِثْلِي زُمَيْنَ أَحُلُّ بُرْقَةَ أَنْقَدَا إذْ لِمَّتِي سَوْدَاءُ أَتْبَعُ ظِلَّهَا ... دَدَنًا قُعُودَ غَوَايَةٍ أَجْرِي دَدَا يَلْوِينَنِي دَيْنِي ............... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هذا، ورواية الديوان: "وأجتزى ديني"، يقال: "اجتزى دينه" أي: تقاضاه، ومثله"تجازى دينه". و"وقذه": ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. و"وقذه النعاس" مجاز منه، أي صاروا كأنهم سكارى قد استرخوا وهمدوا من النعاس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 بكتمانكموها="خبيرًا"، يعني ذا خبرة وعلم به، يحفظ ذلك منكم عليكم، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. يقول: فاتقوا ربكم في ذلك. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أيها الذين آمنوا"، بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدَّقوا بما جاؤوهم به من عند الله="آمِنوا بالله ورسوله"، يقول: صدّقوا بالله وبمحمد رسوله، أنه لله رسولٌ، مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم="والكتاب الذي نزل على رسوله"، يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه، وذلك القرآن="والكتاب الذي أنزل من قبل"، يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة والإنجيل. * * * فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه، وقد سماهم"مؤمنين"؟ قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمِّهم"مؤمنين"، وإنما وصفهم بأنهم"آمنوا"، وذلك وصف لهم بخصوصٍ من التصديق. وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين   (1) انظر تفسير"الخبير" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما= وصنف أهل إنجيل، وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، فقال جل ثناؤه لهم:"يا أيها الذين آمنوا"، يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل= "آمنوا بالله ورسوله" محمد صلى الله عليه وسلم= "والكتاب الذي نزل على رسوله"، فإنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، تجدون صفته في كتبكم= وبالكتاب الذي أنزل من قبلُ الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم محمدًا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله:"يا أيها الذين آمنوا". (1) * * * وأما قوله:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته فقد ضلَّ ضلالا بعيدًا. وإنما قال تعالى ذكره:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، ومعناه: ومن يكفر بمحمد وبما جاء به من عند الله (2) = لأن جحود شيء من   (1) كان ينبغي أن يذكر أبو جعفر هنا، اختلاف المختلفين في قراءة"أَنْزَلَ" و"أُنْزِلَ"= و"نَزَّلّ" و"نُزِّلَ"، وظاهر أنه نسي أن يذكرها هنا، فأخرها إلى موضع الآتي في ص: 323، تعليق: 1. (2) كان في المطبوعة: "ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوته، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لأن جحود شيء من ذلك ... "، أسقط من نص المخطوطة ما أثبت، لأنه قد وقع في المخطوطة خطأ اضطرب معه الكلام، فلم يحسن الناشر تصحيحه، فحذف حتى يصل بعض الكلام ببعض، فأساء غاية الإساءة. والخطأ الذي كان في المخطوطة هو أنه ساق الجملة كما كتبتها، إلا أن كتب: "وإنما قال تعالى ذكره: ومن يكفر بالله فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله" وبين أن"فهو يكفر" سبق قلم من الناسخ، والصواب إسقاطها فيستقيم الكلام كما أثبته. وسياق الجملة: "وإنما قال تعالى ذكره كذا وكذا ... ومعناه ... كذا وكذا، لأن جحود شيء من ذلك بمعنى جحود جميعه". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 ذلك بمعنى جحود جميعه، ولأنه لا يصح إيمان أحدٍ من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، (1) والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، بعقب خطابه أهل الكتاب وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، تهديدًا منه لهم، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، سِوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان. * * * وأما قوله:"فقد ضل ضلالا بعيدًا"، فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل، وجار عن محجَّة الطريق، إلى المهالك= ذهابًا وجورًا بعيدًا. لأن كفر من كفر بذلك، خروجٌ منه عن دين الله الذي شرعه لعباده. والخروج عن دين الله، الهلاك الذي فيه البوار، والضلال عن الهدى هو الضلال. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا= يعني: النصارى= بعيسى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد="لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا".   (1) لما أدخل الناشر الأول ذلك الحذف على الكلام، اضطر في هذا الموضع أن يجعل العبارة: "وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق ... " فزاد"ذلك" في الكلام. (2) انظر تفسير"الضلال البعيد" فيما سلف ص: 206، 207 ومعنى"الضلال" 1: 195 / 2: 495، 496، وغيرهما في فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 *ذكر من قال ذلك: 10697- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، وهم اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وكفرهم به: تركهم إياه= ثم ازدادوا كفرًا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله:"لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا"، يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدًى، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. 10698- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا"، قال: هؤلاء اليهود، آمنوا بالتوراة ثم كفروا. ثم ذكر النصارى، ثم قال:"ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك أهل النفاق، أنهم آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرًا بموتهم على الكفر. (1) *ذكر من قال ذلك: 10699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، قال: كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في ذلك من كان مثلهم="ثم ازدادوا كفرًا"، قال: تَمُّوا على كفرهم حتى ماتوا. (2)   (1) في المطبوعة: "على كفرهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "نموا على كفرهم" بالنون، والصواب ما أثبت. و "تم على الشيء": أقام عليه ولزمه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 10700- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: ماتوا. (1) 10701- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: حتى ماتوا. (2) 10702- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا" الآية، قال: هؤلاء المنافقون، آمنوا مرتين، وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك. (3) * * * وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين، التوراة والإنجيل، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا، فلم تقبل منهم التوبة فيها، مع إقامتهم على كفرهم. * * * *ذكر من قال ذلك: 10703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، قال: هم اليهود والنصارى، أذنبوا في شركهم ثم تابوا، فلم تقبل توبتهم. ولو تابوا من الشرك لقُبِل منهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياه، ثم أقرّ من أقرَّ منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره. وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية، لأن الآية قبلها في قصص   (1) يعني بقوله: "ماتوا"، أي: ماتوا عليه، وهذا من الاختصار في الحديث. (2) في المخطوطة: "حين ماتوا"، أي: حين ماتوا عليه، وهي صواب أيضًا. (3) انظر تفسير"ثم ازدادوا كفرًا" فيما سلف 6: 579-582. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 أهل الكتابين= أعني قوله:"يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله"= ولا دلالة تدلُّ على أن قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا"، منقطع معناه من معنى ما قبله، فإلحاقه بما قبله أولى، حتى تأتي دلالة دالَّة على انقطاعه منه. * * * وأما قوله:"لم يكن الله ليغفر لهم"، فإنه يعني: لم يكن الله ليسترَ عليهم كفرهم وذنوبهم، بعفوه عن العقوبة لهم عليه، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد="ولا ليهديهم سبيلا" يقول: ولم يكن ليسدِّدهم لإصابة طريق الحق فيوفقهم لها، ولكنه يخذلهم عنها، عقوبة لهم على عظيم جُرمهم، وجرأتهم على ربهم. * * * وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يُستتاب ثلاثًا، انتزاعًا منهم بهذه الآية، (1) وخالفهم على ذلك آخرون. ذكر من قال: يستتاب ثلاثًا. 10704- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي عليه السلام قال: إن كنتُ لمستتيبَ المرتدّ ثلاثًا. ثم قرأ هذه الآية:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا". 10705- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن علي رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم قرأ:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"،. 10706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن رجل، عن ابن عمر قال: يستتاب المرتد ثلاثًا. * * * وقال آخرون: يستتابُ كلما ارتدّ. *ذكر من قال ذلك:   (1) يقال: "انتزع معنى آية من كتاب الله"، إذا استنبطه واستخرجه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 10707- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتدّ. * * * قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرَّة الأولى، الدليل الواضح على أن حكم كلِّ مرة ارتدّ فيها عن الإسلام حكمُ المرة الأولى، في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه حَقَن له دمه. لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامُه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه مَحْقُونًا في الحالة الأولى، ثم يكون دمه مباحًا مع وجودها، إلا أن يفرِّق بين حكم المرة الأولى وسائر المرات غيرها، ما يجب التسليم له من أصل محكمٍ، فيخرج من حكم القياس حينئذ. * * * القول في تأويل قوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) } قال أبو جعفر: يعني بقوله (1) جل ثناؤه:"بشر المنافقين"، أخبر المنافقين. * * * وقد بينَّا معنى"التبشير" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2) * * * ="بأن لهم عذابًا أليمًا"، يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم="عذابًا أليمًا"، وهو المُوجع، وذلك عذاب جهنم (3) * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك"، والصواب ما أثبت. (2) انظر ما سلف 1: 383 / 2: 393 / 3: 221 / 6: 287، 369، 370، 411. (3) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) } قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه:"الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني"أولياء"= يعني: أنصارًا وأخِلاء (1) ="من دون المؤمنين"، يعني: من غير المؤمنين (2) ="أيبتغون عندهم العزة"، يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة، (3) باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي؟ ="فإن العزة لله جميعًا"، يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاءَ العزة عندهم، هم الأذلاء الأقِلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزَّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يُعِزّ من يشاء ويذل من يشاء، فيعزُّهم ويمنعهم؟ * * * وأصل"العزة"، الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة،"عَزَاز". وقيل:"قد استُعِزَّ على المريض"، (4) إذا اشتدَّ مرضه وكاد يُشفى. ويقال:"تعزز اللحمُ"، إذا اشتد. ومنه قيل:"عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا"، بمعنى: اشتد عليَّ. (5) * * *   (1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف ص: 247، تعليق: 5، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ص: 247، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 202، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) "استعز" بالبناء للمجهول، وفي الحديث: "أنه استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه"، أي: اشتد به المرض وغلبه وأشرف على الموت. وقوله: "وكاد يشفى"، أي: يشرف على الهلاك، أشفى يشفى إشفاء. (5) انظر تفسير"العزة" و"عزيز" فيما سلف 3: 88 / 4: 244 / 6: 168، 271، 476. هذا، ولم يفسر أبو جعفر معنى"العزة" تفسيرًا مطولا إلا في هذا الموضع، وهذا دليل آخر على طريقته في اختصار تفسيره هذا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 القول في تأويل قوله: {وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"بشر المنافقين"= الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ="وقد نزل عليكم في الكتاب"، يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارًا وأولياءَ بعد ما نزل عليهم من القرآن،"أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، يعني: بعد ما علموا نَهْي الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآيِ كتابه ويستهزئون بها="حتى يخوضوا في حديث غيره"، يعني بقوله:"يخوضوا"، يتحدثوا حديثًا غيره="بأن لهم عذابًا أليمًا". (1) وقوله:"إنكم إذًا مثلهم"، يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثله= يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه. * * *   (1) أراد أبو جعفر بهذه الفقرة أن يبين أن قوله في الآية الأولى: "بأن لهم عذابًا أليمًا"، مقدم ومعناه التأخير، فلذلك قال في أول الكلام"بشر المنافقين" ثم استطرد في ذكر الآيتين بعدها، ثم ختمها بختام الأولى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم. * * * وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون، (1) تأوُّلا منهم هذه الآية أنه مرادٌ بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه. *ذكر من قال ذلك: 10708- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبي وائل، قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكَذب ليُضحك بها جلساءَه، فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله:"أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم"؟ 10709- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن العلاء بن المنهال، عن هشام بن عروة قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قومًا على شرابٍ فضربهم، وفيهم صائم، فقالوا: إنّ هذا صائم! فتلا"فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلُهم". 10710- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها"، وقوله: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، [سورة الأنعام: 153] ، وقوله: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [سورة الشورى: 13] ، ونحو هذا من القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف   (1) في المطبوعة: "كان جماعة من الأمة الماضية"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمِراء والخصومات في دين الله. * * * وقوله:"إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا"، يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفِّق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين، وتوَازرُوا على التخذيل عن دين الله= وعن الذي ارتضاهُ وأمر به= وأهلِه. (1) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وقد نزل عليكم في الكتاب". فقرأ ذلك عامة القرأة بضم"النون" وتثقيل"الزاي" وتشديدها، على وجْه ما لم يُسَمَّ فاعله. * * * وقرأ بعض الكوفيين بفتح"النون" وتشديد"الزاي"، على معنى: وقد نزل الله عليكم. * * * وقرأ بعض المكيين: (وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ) بفتح"النون"، وتخفيف"الزاي"، بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم. * * * قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام. غير أن الذي أختارُ القراءة به، قراءة من قرأ: (وَقَدْ نُزِّلَ) بضم"النون" وتشديد"الزاي"، على وجه ما لم يسم فاعله. لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل، (2) على معنى:"الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"="وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها" إلى قوله:"حديث غيره"="أيبتغون عندهم العزة". فقوله:"فإن العزة لله جميعًا"، يعني التأخير،   (1) قوله: "وأهله" مجرور معطوف على قوله"عن دين الله" والسياق: "عن دين الله ... وعن أهله". (2) انظر ما سلف ص: 320 وتعليق: 1. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 فلذلك كان ضم"النون" من قوله:"نزل" أصوب عندنا في هذا الموضع. * * * وكذلك اختلفوا في قراءة قوله (1) "والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل". فقرأه بفتح (نزلَ) و (أَنزلَ) أكثر القرأة، بمعنى: والكتاب الذي نزل الله على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل. * * * وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما، (2) بمعنى ما لم يسم فاعله. * * * وهما متقاربتا المعنى. غير أن الفتح في ذلك أعجبُ إليَّ من الضم، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله:"آمنوا بالله ورسوله". * * *   (1) في المطبوعة: "وكذا اختلفوا"، وأثبت ما في المخطوطة. وذكر هذه القراءة، كان ينبغي أن يكون في موضعه عند آخر تفسير الآية، كما جرى عليه منهجه في كل ما سلف. وانظر ص: 313 تعليق: 1. (2) في المطبوعة: "كلاهما"، والصواب في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا (141) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين يتربصون بكم"، الذين ينتظرون، أيها المؤمنون، (1) بكم="فإن كان لكم فتح من الله"، يعني: فإن فتح الله   (1) انظر تفسير"التربص" فيما سلف 4: 456، 515 / 5: 79. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 عليكم فتحًا من عدوكم، فأفاء عليكم فَيْئًا من المغانم="قالوا" لكم="ألم نكن معكمْ"، نجاهد عدوّكم ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبًا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم="وإن كان للكافرين نصيب"، يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ منكم، بإصابتهم منكم (1) ="قالوا"، (2) يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين="ألم نستحوذ عليكم"، ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين="ونمنعكم" منهم، بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا="فالله يحكم بينكم يوم القيامة"، يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل، (3) بإدخال أهل الإيمان جنّته، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار ناره="ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، يعني: حجة يوم القيامة. (4) وذلك وعدٌ من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلَهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخَل المنافقين، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم، إن أدخلوا مدخلهم: ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءَنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار، فجمع بينكم وبين أوليائنا! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا؟ فذلك هو"السبيل" الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10711- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"فإن كان لكم فتح من الله". قال: المنافقون يتربَّصون بالمسلمين="فإن كان لكم فتح"، قال: إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة   (1) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف ص 212، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة وحدها: "وقالوا ألم نكن معكم"، وهو سهو من الناشر الأول. (3) انظر تفسير"الحكم" فيما سلف ص: 175. (4) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 قال المنافقون:"ألم نكن معكم"، قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون="وإن كان للكافرين نصيب"، يصيبونه من المسلمين، قال المنافقون للكافرين:"ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين"، قد كنا نثبِّطهم عنكم. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ألم نستحوذ عليكم". فقال بعضهم: معناه: ألم نغلب عليكم. *ذكر من قال ذلك: 10712- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ألم نستحوذ عليكم"، قال: نغلب عليكم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ألم نبيِّن لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه. *ذكر من قال ذلك: 10713- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ألم نستحوذ عليكم"، ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه. * * * قال أبو جعفر: وهذان القولان متقاربا المعنى. وذلك أن من تأوله بمعنى:"ألم نبين لكم"، إنما أراد -أن شاء الله-: ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنا معكم. * * * وأصل"الاستحواذ" في كلام العرب، فيما بلغنا، الغلبة، ومنه قول الله جل ثناؤه: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) ، [سورة المجادلة: 19] ، بمعنى: غلب عليهم. يقال منه:"حاذ عليه واستحاذ، يحيذ ويستحيذ، وأحاذ (1)   (1) قوله: "أحاذ يحيذ"، لم أجده في معاجم اللغة، وهو صحيح في العربية، وقالوا مكانه: "أحوذ ثوبه" إذا ضمه، وجاءوا ببيت لبيد الآتي شاهدا عليه. وانظر ما سيأتي بعد بيت لبيد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 يحيذ". ومن لغة من قال:"حاذ"، قول العجاج في صفة ثور وكلب: يَحُوذُهُنَّ وَلَهُ حُوذِيّ (1) وقد أنشد بعضهم: يَحُوزُهُنَّ وَلَهُ حُوزِيُّ (2) وهما متقاربا المعنى. ومن لغة من قال"أحاذ"، قول لبيد في صفة عَيْرٍ وأتُنٍ: (3) إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا ... وَأَوْرَدَها عَلَى عُوجٍ طِوَالِ (4) يعني بقوله:"وأحوذ جانبيها"، غلبها وقهرَها حتى حاذ كلا جانبيها، فلم يشذّ منها شيء. وكان القياس في قوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) أن يأتي:"استحاذ عليهم"، لأن"الواو" إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن، جعلت العرب حركتها في"فاء" الفعل قبلها، وحوَّلوها"ألفًا"، متبعة حركة ما قبلها، كقولهم:"استحال هذا الشيء عما كان عليه"، من"حال يحول"= و"استنار   (1) ديوانه: 71، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 141، واللسان (حوذ) (حوز) ، ورواية الديوان: يَحُوذُها وَهْوَ لَهَا حُوذِيُّ ... خَوْفَ الخِلاطِ فَهْوَ أَجْنَبِيُّ كَمَا يَحُوذُ الفِئَةَ الكَمِيُّ وفسروا"يحوذها": يسوقها سوقًا شديدًا، ومثله"يحوزها" في الرواية الآتية. (2) انظر اللسان (حوذ) و (حوز) . (3) "العير" حمار الوحش، و"الأتن" جمع"أتان"، وهي أنثاه. (4) ديوانه: القصيدة: 17، البيت: 39، واللسان (حوذ) ، وقوله: "إذا اجتمعت" يعني إناث حمار الوحش حين دعاها إلى الماء، فضمها من جانبيها، يأتيها من هذا الجانب مرة، ومن هذا مرة حتى غلبها ولم شتاتها، و"العوج الطوال" قوائمه، وبعد البيت: رَفَعْنَ سُرَادِقًا في يَوْمِ رِيحٍ ... يُصَفَّقُ بين مَيْلٍ واعْتِدالِ يعني غبارها، ارتفع كأنه سرادق تصفقه الريح وتميله مرة هكذا ومرة هكذا، فهو يميل ويعتدل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 فلان بنور الله"، من"النور"= و"استعاذ بالله" من"عاذ يعوذ". وربما تركوا ذلك على أصله كما قال لبيد:"وأحوذ"، ولم يقل"وأحاذ"، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) . * * * وأما قوله:"فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، فلا خلاف بينهم في أن معناه: ولن يجعل الله للكافرين يومئذ على المؤمنين سبيلا. ذكر الخبر عمن قال ذلك: 10714- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ذَرّ، عن يُسَيْع الحضرمي قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ: ادْنُه، ادْنُهْ! ثم قال:"فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، يوم القيامة. 10715- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن ذَرّ، عن يسيع الكندي في قوله:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذه الآية:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"؟ فقال علي: ادْنُهْ،"فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله"، يوم القيامة،"للكافرين على المؤمنين سبيلا". 10716- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن ذر، عن يُسيع الحضرمي، عن علي بنحوه. 10717- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن شعبة قال: سمعت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 سليمان يحدّث، عن ذر، عن رجل، عن عليّ رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: في الآخرة. (1) 10718- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، يوم القيامة. * * * 10719- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: ذاك يوم القيامة. وأما"السبيل"، في هذا الموضع، فالحجة، (2) كما:- 10720- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: حجةً. * * *   (1) الآثار: 10714 - 10717-"ذر" (بفتح الذال) هو: "ذر بن عبد الله المرهبي" ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 2918. و"يسيع بن معدان الحضرمي، والكندي"، تابعي ثقة. مضى برقم: 2918. وكان في المطبوعة هنا: "نسيع" بالنون، وهو خطأ صرف. (2) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف قريبًا ص: 324، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (142) } قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على معنى"خداع المنافق ربه"، ووجه"خداع الله إياهم"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، مع اختلاف المختلفين في ذلك. (1) * * * فتأويل ذلك: إنّ المنافقين يخادعون الله، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكَم فيهم من منع دِمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفرَ، استدراجًا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نارَ جهنم، كما:- 10721- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: يعطيهم يوم القيامة نورًا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم، ويُضرب بينهم بالسُّور. 10722- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النعمان، (2) وفي المنافقين="يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: مثل قوله في"البقرة": (يُخَادِعُونَ اللَّهَ   (1) انظر ما سلف 1: 272 - 277، ثم: 301 -306، تضمينًا. (2) "أبو عامر بن النعمان"، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة، وأظنه قد أسقط الناسخ من اسمه ما أنا مثبته، فإن المذكور مع عبد الله بن أبي بن سلول في المنافقين هو: "أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان، أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو الذي يقال له"أبو عامر الراهب"، وهو أبو"حنظلة الغسيل" يوم أحد. وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وكان في قومه من الأوس شريفًا مطاعًا. فلما جاء الله بالإسلام، أبى إلا الكفر والفراق لقومه الأوس، فخرج مفارقًا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: "لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا: الفاسق". انظر سيرة ابن هشام 2: 234، 235. هذا، ولم أجد أحدًا غيره في المنافقين أو غيرهم يقال له: "أبو عامر بن النعمان"، فثبت عندي أن ما قلته هو الصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) [سورة البقرة: 9] . (1) قال: وأما قوله:"وهو خادعهم"، فيقول: في النور الذي يعطَى المنافقون مع المؤمنين، فيعطون النور، فإذا بلغوا السور سُلب، وما ذكر الله من قوله (2) (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [سورة الحديد: 13] . قال قوله:"وهو خادعهم". 10723- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: يُلقَى على كل مؤمن ومنافق نورٌ يمشونَ به، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طَفِئ نورُ المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم، فينادونهم: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) إلى قوله: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) [سورة الحديد: 13، 14] . قال الحسن: (3) فذلك خديعة الله إياهم. (4) * * * وأما قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"، فإنه يعني: أن المنافقين لا يعملون شيئًا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرُّب بها إلى الله، لأنهم غير موقنين بمعادٍ ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا   (1) في المطبوعة: "وما يخادعون إلا أنفسهم"، وهي إحدى قراءتين، وأثبت قراءتنا في مصحفنا، وهي أيضًا القراءة التي أوجب لها الصحة أبو جعفر فيما سلف 1: 277. (2) في المخطوطة: "وما ذكر منه انظرونا نقتبس من نوركم"، وهو ناقص، والذي في المطبوعة مقارب للصواب. (3) في المطبوعة: "فتلك خديعة الله"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. (4) الأثر: 10723 -"سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي"، مضى برقم: 3471، 3879، 6462. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 من الأعمال الظاهرة إبقاءً على أنفسهم، (1) وحذارًا من المؤمنين عليها أن يُقتلوا أو يُسلبوا أموالهم. فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة، قاموا كسالى إليها، رياءً للمؤمنين ليحسبوهم منهم وليسوا منهم، لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى، (2) كما:- 10724- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى"، قال: والله لولا الناسُ ما صَلَّى المنافق، ولا يصلِّي إلا رياء وسُمْعة. 10725- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"، قال: هم المنافقون، لولا الرياء ما صلُّوا. * * * وأما قوله:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟. قيل له: إن معنى ذلك= بخلاف ما ذهبت=: ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء، (3) ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلبَ الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية. فلذلك سماه الله"قليلا"، لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغًي به التقرّب إلى الله، ولا مرادٌ به ثواب الله وما عنده. فهو، وإن كثر، من وجه نَصَب عامله وذاكره، (4) في معنى السراب الذي له ظاهرٌ بغير حقيقة ماء. * * *   (1) في المطبوعة: "بقاء على أنفسهم"، والصواب ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الرياء" فيما سلف 5: 521، 522 / 8: 356. (3) في المطبوعة: "إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرًا رياء"، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه صواب، وقوله: "بخلاف ما ذهبت" اعتراض في الكلام، وضعته بين خطين. (4) "النصب" (بفتحتين) : التعب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10726- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلَّ لأنه كان لغير الله. 10727- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلّ ذكر المنافق، لأن الله لم يقبله. وكل ما رَدَّ الله قليل، وكل ما قبلَ الله كثير. * * * القول في تأويل قوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (143) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"مذبذبين"، مردّدين. * * * وأصل"التذبذب"، التحرك والاضطراب، كما قال النابغة: أَلم تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ (1) * * * وإنما عنى الله بذلك: أن المنافقين متحيِّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارَى بين ذلك، فمثلهم المثلُ الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:-   (1) مضى البيت وتخريجه وشرحه، في 1: 105. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 10728- حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَثَلُ المنافق كمثل الشَّاة العائرة بين الغنمين، تَعِير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيَّهُما تَتْبع! 10729- وحدثنا به محمد بن المثنى مرة أخرى، عن عبد الوهاب، فَوقفه على ابن عمر، ولم يرفعه قال، حدثنا عبد الوهاب مرتين كذلك. (1) 10730- حدثني عمران بن بكار قال، حدثنا أبو روح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (2) * * *   (1) الأثران: 10728، 10729 - إسناده صحيح. "عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي" ثقة. مضى مرارًا كثيرة. "عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم" ثقة، مضى مرارًا. وهذا الأثر رواه مسلم 17: 128، من طريق محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، بلفظه، إلا أنه لم يذكر فيه: "لا تدري أيهما تتبع". ورواه أيضًا من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله. ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبد الله. ورواه أحمد في المسند: 5079، من طريق إسحاق بن يوسف، عن عبيد الله، مع اختلاف يسير في لفظه. ورواه أيضًا في المسند: 5790، من طريق محمد بن عبيد، عن عبيد الله، بمثل لفظ أبي جعفر. ورواه بمعناه في المسند، الآثار رقم: 472، 5359، 5546، 5610. واستوفى تخريجه أخي السيد أحمد في شرح المسند، وزاد في تخريجه الحافظ ابن كثير في تفسيره 2: 611، فراجعه هناك. وكان في المطبوعة: "لا تدري أيتهما تتبع"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية أحمد في المسند. "الشاة العائرة": هي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع. من قولهم: "عار الفرس والكلب وغيرهما يعير عيارًا"، ذهب كأنه منفلت من صاحبه، فهو يتردد هنا وهنا. وقوله: "تعير إلى هذه مرة"، أي: تذهب في ترددها إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة. (2) الأثر: 10730 - مكرر الأثرين السالفين."عمران بن بكار الكلاعي" شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 2071، وروى عنه الطبري في مواضع كثيرة سالفة. و"أبو روح" هو: "الربيع بن روح الحمصي"، أبو روح الحضرمي ثقة. مضى برقم: 8164. و"ابن عياش": هو: "إسماعيل بن عياش الحمصي"، مضى برقم 5445، 8164. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن عباس"، وهو خطأ. وطريق ابن عياش، عن عبيد الله، مرفوعًا، أشار إليها الحافظ ابن كثير في تفسيره 2: 611. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10731- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، يقول: ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك، وليسوا بمؤمنين. 10732- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرِّحين بالشرك. قال: وذُكر لنا أن نبيّ الله عليه السلام كان يضرب مَثَلا للمؤمن والمنافق والكافر، كمثل رَهْط ثلاثة دَفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقَطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر: أن هلم إليَّ، فإنيّ أخشى عليك! وناداه المؤمن: أن هلم إليّ، فإن عندي وعندي! يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردَّد بينهما حتى أتى عليه آذيٌّ فغرَّقه. (1) وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: مثل المنافق كمثل ثاغِيَة بين غنمين، (2) رأت غَنمًا على نَشَزٍ   (1) في المطبوعة: "حتى أتى عليه الماء فغرقه"، وفي المخطوطة: "حتى أتى عليه أذى يغرقه"، وصواب ذلك كله ما أثبت. "الآذى": الموج الشديد. وقال ابن شميل: "آذى الماء"، الأطباق التي تراها ترفعها من متنه الريح، دون الموج. (2) "الثاغية": الشاة."ثغت الشاة تثغو ثغاء": صاحت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 فأتتها فلم تعرف، (1) ثم رأت غنمًا على نَشَزٍ فأتتها وشامَّتها فلم تعرف. (2) 10733- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"مذبذبين"، قال: المنافقون. 10734- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، يقول: لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى هؤلاء اليهود. 10735- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله:"مذبذبين بين ذلك"، قال: لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين، وليسوا مع أهل الشرك. 10736- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"مذبذبين بين ذلك"، بين الإسلام والكفر="لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء". * * * وأما قوله:"ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا"، فإنه يعني: من يخذُله الله عن طريق الرشاد، وذلك هو الإسلام الذي دعا الله إليه عباده. يقول: من يخذله الله عنه فلم يوفقه له="فلن تجد له"، يا محمد="سبيلا"، يعني: طريقًا يسلُكه إلى الحق غيره. وأيّ سبيل يكون له إلى الحق غير الإسلام؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه: أنه من يبتغ غيره دينًا فلن يُقبل منه، ومن أضله الله عنه فقد غَوَى فلا هادي له غيره. (3) * * *   (1) "النشز": المتن المرتفع من الأرض أو الوادي، كأنه رابية. (2) "شامتها": دنت إليها وشمتها لتعرف أهي أخواتها أم غيرها. ومنه قيل"شاممت فلانًا" إذا قاربته، ابتغاء أن تعرف ما عنده بالاختبار والكشف. وهو"مفاعلة" من"الشم". (3) انظر تفسير: "الضلال"، و"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) } قال أبو جعفر: وهذا نهي من الله عبادَه المؤمنين أن يتخلَّقوا بأخلاق المنافقين، الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه. يقول لهم جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا توالوا الكفَّار فتؤازروهم من دون أهل ملَّتكم ودينكم من المؤمنين، فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين. ثم قال جل ثناؤه: متوعدًا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إن هو لم يرتدع عن موالاته، وينزجر عن مُخَالَّته (1) = أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابًا أليمًا=:"أتريدون"، أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ممن قد آمن بي وبرسولي="أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا"، يقول: حجة، (2) باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهلُ النفاق الذين وصف لكم صفتهم، وأخبركم بمحلّهم عنده="مبينًا"، (3) يعني: يبين عن صحتها وحقيقتها. (4) يقول: لا تعرَّضوا لغضب الله، بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهلِ الكفر به. * * *   (1) السياق: "ثم قال جل ثناؤه متوعدًا ... أن يلحقه ... " (2) انظر تفسير"سلطان" فيما سلف 7: 279. (3) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص224، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) في المطبوعة: "عن صحتها وحقيتها"، والصواب من المخطوطة. وكأن الناشر كان يستنكر أن تكون"الحقيقة" بمعنى أنها حق!! ولكنها صواب بلا شك، ومن أجل هذا كان الناشر يضع مكان"حقيقتها""حقيتها" في كثير من المواضع، أشرت إليها فيما سلف من التعليقات. وانظر ما سيأتي ص: 360، تعليق: 4. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10737- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا"، قال: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول: عذرًا مبينًا. 10738- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة قال: ما كان في القرآن من"سلطان"، فهو حجّة. 10739- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"سلطانًا مبينًا"، قال: حُجَّة. 10740- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، إن المنافقين في الطَّبَق الأسفل من أطباق جهنم. * * *   (1) هذه الآثار في بيان معنى"السلطان"، هنا، دالة على أن أبا جعفر كان يختصر تفسيره، فإن تفسير"سلطان" بمعنى"حجة" قد سلف 7: 279، فلم يأت كعادته بالأخبار الدالة على تفسيره كذلك هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 وكل طبَق من أطباق جهنم:"درك". وفيه لغتان،"دَرَك"، بفتح"الراء" و"دَرْك" بتسكينها. فمن فتح"الراء"، جمعه في القلة"أدْرَاك"، وإن شاء جمعه في الكثرة"الدروك". ومن سكن"الراء" قال:"ثلاثة أدرُك"، وللكثير"الدروك". * * * وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة (فِي الدَّرَكِ) بفتح"الراء". * * * وقرأته عامة قرأة الكوفة بتسكين"الراء". قال أبو جعفر: وهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنى ذلك، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام. غير أني رأيت أهل العلم بالعربيّة يذكرون أن فتح"الراء" منه في العرب، أشهر من تسكينها. وحكوا سماعًا منهم:"أعطني دَرَكًا أصل به حبلي"، (1) وذلك إذا سأل ما يصل به حَبْله الذي قد عجز عن بلوغ الركيَّة. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10741- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، قال: في توابيت من حديد مُبْهَمة عليهم. (3) 10742- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة،   (1) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 142. وعجيب من أبي جعفر أن يستدل بهذا، ويجعله أشهر في كلام العرب. فإن"الدرك" هنا بمعنى: الحبل، لأنه يدرك به قعر البئر، وهو عن معنى"الدرك"، وهو الطبق، بمعزل!! (2) "الركية": البئر. (3) "مبهمة": مصمتة مغلقة، لا يهتدي لمكان فتحها، أو إلى مخرج منها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 عن سلمة، عن خيثمة، عن عبد الله قال: إن المنافقين في توابيتَ من حديد مقفلةٍ عليهم في النار. 10743- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عاصم، عن ذكوان، عن أبي هريرة:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، قال: في توابيت تُرْتَجُ عليهم. (1) 10744- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، يعني: في أسفل النار. 10745- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عبد الله بن كثير قوله:"في الدرك الأسفل من النار"، قال: سمعنا أن جهنم أدْراك، منازل. (2) 10746- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، قال، توابيت من نار تُطْبَقُ عليهم. * * * وأما قوله:"ولن تجد لهم نصيرًا"، فإنه يعني: ولن تجد لهؤلاء المنافقين، يا محمد، من الله= إذا جعلهم في الدرك الأسفل من النار= ناصرًا ينصرهم منه، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليمَ عقابه. (3) * * *   (1) "أرتج الباب يرتجه": أغلقه إغلاقًا وثيقًا. (2) قوله: "منازل" تفسير"أدراك" جمع"درك". (3) انظر تفسير"نصير" فيما سلف ص: 247، تعليق: 6، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) } قال أبو جعفر: وهذا استثناء من الله جل ثناؤه، استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا، وأخلصوا الدين لله وحده، وتبرءوا من الآلهة والأنداد، وصدَّقوا رسوله، أن يكونوا مع المصرِّين على نِفاقهم حتى تُوافيهم مناياهم - في الآخرة، (1) وأن يدخلوا مدَاخلهم من جهنم. بل وعدهم جل ثناؤه أن يُحلَّهم مع المؤمنين محلَّ الكرامة، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة. (2) ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيلَ من العطاء فقال:"وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا". * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية:"إلا الذين تابوا"، أي: راجعوا الحق، (3) وآبوا إلا الإقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه من نفاقهم (4) ="وأصلحوا"، يعني: وأصلحوا أعمالهم، فعملوا بما أمرهم الله به، وأدَّوا فرائضه، وانتهوا عما نهاهم عنه، وانزجروا عن معاصيه (5) ="واعتصموا بالله"، يقول: وتمسَّكوا بعهد الله. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى يوفيهم مناياهم"، وهو كلام بلا معنى."وافته منيته": أتته وأدركته وبلغته، وسياق هذه الجملة: "أن يكونوا مع المصرين ... في الآخرة". (2) في المطبوعة: "يسكنهم" بغير واو، وهو سهو من ناسخ أو طابع. (3) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف 1: 547 / 2: 72، 73، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة. (4) في المطبوعة: "وأبو إلا الإقرار"، وهو لا شيء، وإنما الصواب ما أثبت من المخطوطة."آبوا": رجعوا. (5) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف 8: 88، وما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 وقد دللنا فيما مضى قبل على أن"الاعتصام" التمسك والتعلق. (1) فالاعتصام بالله: التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه، من طاعته وترك معصيته. * * * ="وأخلصوا دينهم لله"، يقول: وأخلصوا طاعتَهم وأعمالهم التي يعملونها لله، فأرادوه بها، ولم يعملوها رئاءَ الناس، ولا على شك منهم في دينهم، وامتراءٍ منهم في أن الله محصٍ عليهم ما عملوا، فمجازي المحسن بإحسانه، (2) والمسيء بإساءته= ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه، وجزاء المسيء على إساءته، أو يتفضَّل عليه ربه فيعفو= متقرِّبين بها إلى الله، مريدين بها وجه الله. فذلك معنى:"إخلاصهم لله دينهم". = ثم قال جل ثناؤه:"فأولئك مع المؤمنين"، يقول: فهؤلاء الذين وصف صفتَهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم= أي: مع المؤمنين في الجنة، (3) لا مع المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم، الذين أوعدهم الدَرَك الأسفل من النار. = ثم قال:"وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا"، يقول: وسوف يُعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم، (4) على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم له، وعلى إيمانهم، (5) ثوابًا عظيمًا (6) = وذلك: درجات في الجنة، كما أعطى الذين ماتوا على النِّفاق منازل في النار، وهي السفلى منها. لأن الله جل ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك، كما أوعد المنافقين على نفاقهم   (1) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف 8: 62، 63، 70. (2) في المطبوعة: "فيجازي" وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "وإخلاصهم له مع المؤمنين.."، وأثبت الصواب من المخطوطة، ولا معنى لتبديله. (4) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "على إيمانهم" بغير واو، والصواب إثباتها. (6) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 202، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 ما ذكر في كتابه. * * * وهذا القول هو معنى قول حذيفة بن اليمان، الذي:- 10747- حدثنا به ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال، قال حذيفة: ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد الله: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة، ثم قام فتنحَّى. فلما تفرّقوا، مرَّ به علقمة فدعاه فقال: أمَا إنّ صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ:"إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا". * * * القول في تأويل قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم"، ما يصنع الله، أيها المنافقون، بعذابكم، إن أنتم تُبتم إلى الله ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادِكم، بالإنابة إلى توحيده، والاعتصام به، وإخلاصكم أعمالَكم لوجهه، وترك رياء الناس بها، وآمنتم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم فصدَّقتموه، وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به؟ يقول: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدَّرك الأسفل من النار، إن أنتم أنبتم إلى طاعته، وراجعتم العمل بما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه. لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعًا، ولا يدفع عنها ضُرًّا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه، جزاءٌ منه له على جرَاءته عليه، وعلى خلافه أمره ونهيه، وكفرانِه شكر نعمه عليه. فإن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 أنتم شكرتم له على نعمه، وأطعتموه في أمره ونهيه، فلا حاجة به إلى تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعةٍ له وشكر، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم، ولم تبلغه آمالكم (1) ="وكان الله شاكرا" لكم ولعباده على طاعتهم إياه، بإجزاله لهم الثوابَ عليها، وإعظامه لهم العِوَض منها="عليمًا" بما تعملون، أيها المنافقون، وغيركم من خير وشر، وصالِح وطالح، محصٍ ذلك كله عليكم، محيط بجميعه، حتى يجازيكم جزاءَكم يوم القيامة، المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. وقد:- 10748- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا"، قال: إن الله جل ثناؤه لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا. * * *   (1) في المطبوعة: "فلم تبلغه" بالفاء، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 القول في تأويل قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار بضم"الظاء". * * * وقرأه بعضهم: (إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، بفتح"الظاء". * * * ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضم"الظاء" في تأويله. فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب الله تعالى ذكره أن يجْهر أحدُنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو"الجهر بالسوء إلا من ظلم"، يقول: إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 *ذكر من قال ذلك: 10749- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، يقول: لا يحب الله أن يدعوَ أحدٌ على أحد، إلا أن يكون مظلومًا، فإنه قد أرخَص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله:"إلا من ظلم"، وإن صبر فهو خير له. 10750- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، فإنه يحب الجهر بالسوء من القول. 10751- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعًا عليمًا"، عذر الله المظلوم كما تسمعون: أن يدْعو. 10752- حدثني الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدْعُ عليه، ولكن ليقل:"اللهم أعنِّي عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حُلْ بينه وبين ما يريد"، (1) ونحوه من الدعاء. * * * = فـ"مَنْ"، على قول ابن عباس هذا، في موضع رفع. لأنه وجَّهه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه. فكان معنى الكلام على قوله: لا يحب الله أن يُجْهر بالسوء من القول، إلا المظلوم، فلا حرج عليه في الجهر به. وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية. وذلك أن"مَن" لا يجوز   (1) في المخطوطة: "اللهم حل بيني وبين ما يريد"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 أن يكون رفعًا عندهم بـ "الجهر"، لأنها في صلة"أنْ" ولم ينله الجحد، فلا يجوز العطف عليه. (1) من خطأٍ عندهم أن يقال: (2) "لا يعجبني أن يقوم إلا زيد". وقد يحتمل أن تكون"من" نصبًا، على تأويل قول ابن عباس، ويكون قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، كلامًا تامًّا، ثم قيل:"إلا من ظلم فلا حرج عليه"، فيكون من استثناء من الفعل، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه، كما قال جل ثناؤه: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) ، [سورة الغاشية: 22-23] ، وكقولهم:"إني لأكره الخصومة والمِراء، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك"، ولم يذكر قبله شيء من الأسماء. (3) * * * و"مَن"، على قول الحسن هذا، نصبٌ، على أنه مستثنى من معنى الكلام، لا من الاسم، كما ذكرنا قبل في تأويل قول ابن عباس، إذا وُجِّه"مَن"، إلى النصب، وكقول القائل:"كان من الأمر كذا وكذا، اللهم إلا أن فلانًا جزاه الله خيرًا فَعَل كذا وكذا". * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول، إلا من ظُلم فيخبر بما نِيلَ منه. *ذكر من قال ذلك: 10753- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده فيقول: أساءَ ضيافتي ولم يُحسن! 10754- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) في المطبوعة: "لأنها في صلة"أن"، و"أن" لم ينله الجحد"، بزيادة"أن"، وما في المخطوطة صواب محض. (2) في المطبوعة: "من الخطأ عندهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 293، 294. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 ابن جريج، عن مجاهد:"إلا من ظلم"، قال: إلا من أثَر ما قيل له. (1) 10755- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال: هو الضيف المحوَّل رحلُه، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول. * * * وقال آخرون: عنى بذلك، الرجلَ ينزل بالرجل فلا يقريه، فينالُ من الذي لم يقرِه. *ذكر من قال ذلك: 10756- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا من ظلم"، قال: إلا من ظلم فانتصر، يجهر بالسوء. 10757- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، مثله. 10758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد= وعن حميد الأعرج، عن مجاهد:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه، فقد رخص الله له أن يقول فيه. (2)   (1) في المطبوعة: "آثر" بمد الهمزة، وهو خطأ."أثر الحديث يأثره": حكاه ورواه وتحدث به. ومنه: "قول مأثور"، أي: يخبر الناس به بعضهم بعضًا، وينقله خلف عن سلف. (2) الأثر: 10758 -"إبراهيم بن أبي بكر المكي الأخنسي"، سمع طاوسا ومجاهدًا. وروى عنه ابن أبي نجيح وابن جريج مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة: "إبراهيم عن أبي بكير"، وفي الإسناد الذي يليه: 10759: "إبراهيم ابن أبي بكير". وهذا اختلاف مشكل. ففي الإسناد الأول كما في المخطوطة، لم أعرف من يكون"إبراهيم". أما "أبو بكير"، ففيهم"أبو بكير مرزوق التيمي الكوفي"، يروي عن مجاهد، مضى برقم: 4305، وليس هذا فيما أرجح. وأما "إبراهيم بن أبي بكير" في الإسناد الثاني، فمنهم: "إبراهيم بن أبي بكير" ذكره البخاري في الكبير 1 / 1 / 277 في ترجمة"إبراهيم أبو بكير"، وكأنه خطأ من ناسخ حذف"بن"= و"إبراهيم بن أبي بكير بن إبراهيم" مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 1 / 90، وكلاهما لم يذكر لأحد منها رواية عن مجاهد. فمن أجل هذا صح عندي أنه الذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله؛ لرواية"إبراهيم بن أبي بكر" عن مجاهد، ورواية ابن نجيح عنه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 10759- وحدثني أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد،"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال: هو في الضيافة، يأتي الرجل القوم، فينزل عليهم، فلا يضيفونه. رخَّص الله له أن يقول فيهم. (1) 10760- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" الآية، قال: ضاف رجل رجلا فلم يؤدِّ إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال:"ضفتُ فلانًا فلم يؤدّ حق ضيافتي"! فذلك جهرٌ بالسوء إلا من ظلم، حين لم يؤدِّ إليه ضيافته. 10761- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: إلا من ظلم فانتصر، يجهر بسوء. قال مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاةٍ من الأرض فلم يضفه، فنزلت:"إلا من ظلم"، ذكر أنه لم يضفه، لا يزيد على ذلك. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظلم فانتصر من ظالمه، فإن الله قد أذن له في ذلك.   (1) الأثر: 10759 - كان في المخطوطة: "إبراهيم بن أبي بكير". وانظر التعليق على الأثر السالف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 *ذكر من قال ذلك: 10762- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، يقول: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحدٍ من الخلق، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظُلم، فليس عليه جناح. = فـ"مَن"، على هذه الأقوال التي ذكرناها، سوى قول ابن عباس، في موضع نصب على انقطاعه من الأول. والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد"إلا" في الاستثناء المنقطع. * * * فكان معنى الكلام على هذه الأقوال، سوى قول ابن عباس: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نٍيل منه، أو ينتصر ممن ظلمه. * * * وقرأ ذلك آخرون بفتح"الظاء": (إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، وتأولوه: لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول، إلا من ظلم فلا بأس أن يُجْهر له بالسوء من القول. *ذكر من قال ذلك: 10763- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان أبي يقرأ: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، قال ابن زيد: يقول: إلا من أقام على ذلك النفاق، فيُجهر له بالسوء حتى ينزع. قال: وهذه مثل: (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ) ، أن تسميه بالفسق= (بَعْدَ الإيمَانِ) ، بعد إذ كان مؤمنًا= (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) ، من ذلك العمل الذي قيل له= (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، [سورة الحجرات: 11] ، قال: هو شرٌّ ممن قال ذلك. (1)   (1) في المطبوعة: "هو أشر ممن قال ذلك له"، والذي في المخطوطة صواب محض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 10764- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظَلم"، فقرأ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ) حتى بلغ (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) . ثم قال بعد ما قال: هم في الدرك الأسفل من النار= (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) ، (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، قال: لا يحب الله أن يقول لهذا:"ألست نافقت؟ ألست المنافق الذي ظلمتَ وفعلت وفعلت؟ "، من بعد ما تاب="إلا من ظلم"، إلا من أقام على النفاق. قال: وكأن أبي يقول ذلك له، ويقرأها: (إِلا مَنْ ظَلَمَ) . * * * = فـ"مَنْ" على هذا التأويل نَصْبٌ لتعلقه بـ "الجهر". * * * وتأويل الكلام، على قول قائل هذا القول: لا يحب الله أن يجهر أحد لأحد من المنافقين بالسوء من القول، إلا من ظلم منهم فأقام على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: (إِلا مَنْ ظُلِمَ) بضم"الظاء"، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح. * * * فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب، فالصواب في تأويل ذلك: لا يحب الله، أيها الناس، أن يجهر أحدٌ لأحد بالسوء من القول="إلا من ظلم"، بمعنى: إلا من ظلم، فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء عليه. (1) وإذا كان ذلك معناه، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ، أو أسيء قراه، أو نيل بظلم   (1) في المطبوعة: "أسيء إليه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب لأنه أراد أن يضمن"يسيء"، معنى"يبغي عليه"، فألحق بها حرف الثانية، كأنه قال: بما أسيء إليه بغيًا عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 في نفسه أو ماله= غيرَه من سائر الناس. (1) وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم: أن ينصره الله عليه، لأن في دعائه عليه إعلامًا منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له. * * * وإذْ كان ذلك كذلك، فـ"مَن" في موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها، فهو نظير قوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [سورة الغاشية: 22-23] . * * * وأما قوله:"وكان الله سميعًا عليمًا"، فإنه يعني:"وكان الله سميعًا"، لما تجهرون به من سوء القول لمن تجهرون له به، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم="عليمًا"، بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به فلا تجهرون له به، محص كل ذلك عليكم، حتى يجازيكم على ذلك كله جزاءَكم، المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه (3) "إن تبدوا" أيها الناس="خيرًا"، يقول: إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن إليكم، فتظهروا ذلك شكرًا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم (4) =،"أو تخفوه"، يقول: أو تتركوا إظهار ذلك   (1) في المطبوعة: "عنوة من سائر الناس"، وهو لا معنى له. والصواب ما في المخطوطة. وقوله: "غيره" منصوب مفعول به للمصدر"إخبار"، وسياق الكلام: دخل فيه إخبار من لم يقر ... غيره من سائر الناس"، أي يخبر غيره من سائر الناس بما أصابه ونيل منه. (2) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت. (4) انظر تفسير"الإبداء" فيما سلف 5: 582. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 فلا تبدوه (1) ="أو تعفوا عن سوء"، يقول: أو تصفحوا لمن أساءَ إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي قد أذنت لكم أن تجهروا له به="فإن الله كان عفوًّا"، يقول: لم يزل ذا عفوٍ عن خلقه، يصفح عمن عصَاه وخالف أمره (2) ="قديرًا"، يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم. (3) وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إيّاه. يقول: فاعفوا، أنتم أيضًا، أيها الناس، عمن أتى إليكم ظلمًا، ولا تجهروا له بالسوء من القول، وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره. * * * وفي قوله جل ثناؤه:"إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوًا قديرًا"، الدلالةُ الواضحةُ على أن تأويل قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، بخلاف التأويل الذي تأوله زيد بن أسلم، (4) في زعمه أن معناه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لأهل النفاق، إلا من أقام على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول. وذلك أنه جل ثناؤه قال عَقِيب ذلك:"إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء"، ومعقولٌ أن الله جل ثناؤه لم يأمر المؤمنين بالعفو عن المنافقين على نفاقهم، ولا نهاهم أن يسمُّوا من كان منهم معلنَ النفاق"منافقًا". بل العفو عن ذلك، مما لا وجه له معقول. لأن"العفو" المفهوم،   (1) انظر تفسير"الإخفاء" فيما سلف 5: 582. (2) انظر تفسير"عفا" و"عفو" فيما سلف 2: 503 / 3: 371 / 7: 215، 327 / 8: 426 / 9: 102. وفي المطبوعة والمخطوطة: "يصفح لهم عمن عصاه"، والصواب حذف"لهم"، إذ لا مكان لها. (3) انظر تفسير"قدير" فيما سلف ص: 298، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر الأثران رقم: 10763، 10764. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 إنما هو صفح المرء عما له قبل غيره من حق. وتسمية المنافق باسمه ليس بحق لأحد قِبَله، فيؤمر بعفوه عنه، وإنما هو اسم له. وغير مفهوم الأمرُ بالعفو عن تسمية الشيء بما هو اسمه. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن الذين يكفرون بالله ورسله"، من اليهود والنصارى="ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله"، بأن يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه، ويزعموا أنهم افتروا على ربهم. (1) وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بين الله ورسله، بنِحْلتهم إياهم الكذب والفريةَ على الله، وادِّعائهم عليهم الأباطيل="ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض"، يعني (2) أنهم يقولون:"نصدِّق بهذا ونكذِّب بهذا"، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم. وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم="ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا"، يقول: ويريد المفرِّقون بين الله ورسله، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أن يتخذوا بين أضعاف   (1) في المطبوعة: "ويزعمون أنهم ... " والصواب من المخطوطة. (2) "ونكفر ببعض" تمام الآية، لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة، ولكن سياقه يقتضي إثباتها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 قولهم:"نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض"="سبيلا"، يعني: طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها، يدعون أهل الجهل من الناس إليه. (1) فقال جل ثناؤه لعباده، منبهًا لهم على ضلالتهم وكفرهم:"أولئك هم الكافرون حقًّا"، يقول: أيها الناس، هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم، هم أهل الكفر بي، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقًّا. فاستيقنوا ذلك، ولا يشككنَّكم في أمرهم انتحالهم الكذب، ودعواهم أنهم يقرُّون بما زعموا أنهم به مقرُّون من الكتب والرسل، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كَذَبَةٌ. وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل، هو المصدّق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن. فأما من صدّق ببعض ذلك وكذَّب ببعض، فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاء به جاحد، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء، وزعموا أنهم مصدقون ببعض، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم، فهم بالله وبرسله= الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون= كافرون، (2) فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوّة أنبيائه حق الجحود، المكذبون بذلك حق التكذيب. فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم، فإنا قد أعتدنا لهم عذابًا مهينًا. * * * وأما قوله:"وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"، فإنه يعني:"وأعتدنا" لمن جحد بالله ورسوله جحودَ هؤلاء الذين وصفت لكم، أيها الناس، أمرَهم من أهل الكتاب، ولغيرهم من سائر أجناس الكفار (3) ="عذابًا"، في الآخرة="مهينًا"،   (1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) سياق هذه الجملة: "فهم بالله وبرسله ... كافرون"، وما بينها فصل في صفة هؤلاء الرسل. (3) انظر تفسير"أعتد" فيما سلف 8: 103، 355. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 يعني: يهين من عُذِّب به بخلوده فيه. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10765- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقًّا وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رُسله. 10766- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله"، يقولون: محمد ليس برسولٍ لله! وتقول اليهود: عيسى ليس برسولٍ لله! (2) فقد فرَّقوا بين الله وبين رسله="ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض"، فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. 10767- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"إن الذين يكفرون بالله ورسله" إلى قوله:"بين ذلك سبيلا"، قال: اليهود والنصارى. آمنت اليهود بعُزَير وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزَير. وكانوا يؤمنون بالنبيّ ويكفرون بالآخر="ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا"، قال: دينًا يدينون به الله. * * *   (1) انظر تفسير"مهين" فيما سلف: ص163، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة: "برسول الله"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والذين صدقوا بوحدانية الله، وأقرّوا بنبوة رسله أجمعين، وصدّقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه="ولم يفرقوا بين أحد منهم"، يقول: ولم يكذّبوا بعضهم ويصدقوا بعضهم، ولكنهم أقرُّوا أن كل ما جاءوا به من عند ربهم حق="أولئك"، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله="سوف يؤتيهم"، يقول: سوف يعطيهم (1) ="أجورهم"، يعني: جزاءهم وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه، وما جاءت به من عند الله (2) ="وكان الله غفورًا"، يقول: ويغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه، فيستر عليه بعفوه له عنه، وتركه العقوبة عليه، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غفورًا="رحيمًا"، يعني ولم يزل بهم رحيمًا، بتفضله عليهم بالهداية إلى سبيل الحق، وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رِقابهم من النار. (3) * * *   (1) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 341، تعليق: 6، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يسألك" يا محمد="أهل الكتاب"، يعني بذلك: أهل التوراة من اليهود="أن تنزل عليهم كتابًا من السماء". * * * واختلف أهل التأويل في"الكتاب" الذي سألَ اليهودُ محمدًا صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء. فقال بعضهم: سألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء مكتوبًا، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبةً من عند الله. *ذكر من قال ذلك: 10768- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، قالت اليهود: إن كنت صادقًا أنك رسول الله، فآتنا كتابًا مكتوبًا من السماء، كما جاء به موسى. 10769- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن موسى جاء بالألواحِ من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك! فأنزل الله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، إلى قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا". * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل عليهم كتابًا، خاصَّة لهم. *ذكر من قال ذلك: 10770- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، أي كتابًا، خاصةً="فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة". وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبًا بالأمر بتصديقه واتّباعه. *ذكر من قال ذلك: 10771- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، وذلك أن اليهود والنصارى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:"لن نتابعك على ما تدعونا إليه، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان (1) أنك رسول الله، وإلى فلان بكتاب أنك رسول الله"! قال الله جل ثناؤه:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة". قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، آيةً معجزةً جميعَ الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق، آمرة لهم باتباعه. وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابًا مكتوبًا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم= وجائز أن يكون ذلك كتبًا إلى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولى   (1) في المخطوطة: "من عبد الله، من الله إلى فلان"، والذي في المطبوعة هو الصواب، إلا أن يكون الناسخ كتب"من عند الله" ثم، غيرها"من الله"، ثم لم يضرب على أولاهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 بظاهر التلاوة، أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لتنزيل الكتاب الواحد إلى جماعتهم، (1) لذكر الله تعالى في خبره عنهم"الكتاب" بلفظ الواحد بقوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، (2) ولم يقل"كتبًا". * * * وأما قوله:"فقد سألوا موسى أكبر من ذلك"، فإنه توبيخ من الله جل ثناؤه سائلي الكتابَ الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزله عليهم من السماء، في مسألتهم إياه ذلك= وتقريعٌ منه لهم. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا يعظُمَنَّ عليك مسألتهم ذلك، فإنهم من جهلهم بالله وجراءَتهم عليه واغترارهم بحلمه، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل واتخذوه إلهًا يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أرَاهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم، لأنهم لن يعدُوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم. * * * ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصَّ، يقول الله:"فقد سألوا موسى أكبرَ من ذلك"، يعني: فقد سأل أسلافُ هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام، أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء، فقالوا له:"أرنا الله جهرة"، أي: عِيانًا نعاينه وننظر إليه. * * * وقد أتينا على معنى"الجهرة"، بما في ذلك من الرواية والشواهد على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك، بما:-   (1) في المطبوعة: "لينزل الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يقول: يسألك ... "، والصواب من المخطوطة. (3) انظر تفسير"جهرة" فيما سلف 2: 80-82. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 10772- حدثني به الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، حدثنا حجاج، عن هارون بن موسى، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن ابن عباس في هذه الآية قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، إنما قالوا جهرةً:"أرنا الله". قال: هو مقدّم ومؤخر. * * * وكان ابن عباس يتأول ذلك: أن سؤالهم موسى كان جهرة. (1) * * * وأما قوله:"فأخذتهم الصاعقة"، فإنه يقول:"فصُعقوا"="بظلمهم" أنفسهم. وظلمهم أنفسهم، كان مسألَتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته. * * * وقد بينا معنى:"الصاعقة"، فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها، والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب. (2) * * * وأما قوله:"ثم اتخذوا العجل"، فإنه يعني: ثم اتخذ= هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرةً، بعد ما أحياهم الله فبعثهم من صعقتهم= العجلَ الذي كان السامريُّ نبذ فيه ما نبذ من القبْضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام= إلهًا يعبدونه من دون الله. (3) * * * وقد أتينا على ذكر السبب الذي من أجله اتخذوا العجل، وكيف كان أمرهم وأمره، فيما مضى بما فيه الكفاية. (4) * * *   (1) هذا القول الذي نسب إلى ابن عباس، لم يمض مثله في تفسير آية سورة البقرة 2: 80-82، وهذا أحد الأدلة على اختصار هذا التفسير. (2) انظر تفسير"الصاعقة" فيما سلف 2: 82-84. (3) سياق هذه الفقرة: ثم اتخذ هؤلاء ... العجل ... إلها ... ". (4) انظر ما سلف 2: 63-68. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 وقوله:"من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني: من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا، البينات من الله، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانًا جهارًا. وإنما عنى بـ "البينات": أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة. (1) وكانت تلك الآيات البينات لهم على أن ذلك كذلك: إصعاقُ الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة، ثم إحياءه إياهم بعد مماتهم، مع سائر الآيات التي أراهم الله دلالةً على ذلك. * * * = يقول الله، مقبِّحًا إليهم فعلهم ذلك، وموضحًا لعباده جهلهم ونقصَ عقولهم وأحلامهم: ثم أقرُّوا للعجل بأنه لهم إله، وهم يرونه عيانًا، وينظرون إليه جِهَارًا، بعد ما أراهم ربهم من الآيات البينات ما أراهم: أنهم لا يرون ربهم جهرة وعِيانًا في حياتهم الدنيا، فعكفوا على عبادته مصدِّقين بألوهته!! * * * وقوله:"فعفونا عن ذلك"، يقول: فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم إياه، (2) وللمصدقين منهم بأنه إلههم بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الآيات ما أراهم= عن تصديقهم بذلك، (3) بالتوبة التي تابوها إلى ربّهم بقتلهم أنفسهم، وصبرهم في ذلك على أمر ربهم="وآتينا موسى سلطانًا مبينًا"، يقول: وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه، وحقيقة نبوّته، (4) وتلك الحجة هي: الآيات البينات التي آتاه الله إياها. (5) * * *   (1) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 7: 450، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف ص: 351، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) السياق: "فعفونا لعبدة العجل ... عن تصديقهم بذلك". (4) في المطبوعة: "وحقية نبوته"، غير ما في المخطوطة عن وجهه، ظنًا منه أنه خطأ، وقد أشرنا إلى مثل ذلك من فعله فيما سلف ص: 336، تعليق: 4، وما سيأتي بعد قليل ص: 363، تعليق 2. (5) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف من فهارس اللغة. وتفسير"السلطان" فيما سلف 7: 279 / 9: 336، 337. وتفسير"مبين" فيما سلف ص: 336 تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 القول في تأويل قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ورفعنا فوقهم الطور"، يعني: الجبل، (1) وذلك لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى فيها="بميثاقهم"، يعني: بما أعطوا الله الميثاق والعهد: لنعملن بما في التوراة (2) ="وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا"، يعني"باب حِطّة"، حين أمروا أن يدخلوا منه سجودًا، فدخلوا يزحفون على أستاههم (3) ="وقلنا هم لا تعدوا في السبت"، يعني بقوله:"لا تعدوا في السبت"، لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما لم يبح لكم، (4) كما: 10773- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا"، قال: كنا نحدّث أنه باب من أبواب بيت المقدس. (5) * * * ="وقلنا لهم لا تعدوا في السبت"، أمر القوم أن لا يأكلوا الحِيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها، وأحل لهم ما وراء ذلك. (6) * * *   (1) انظر تفسير"الطور" فيما سلف 2: 157-159. (2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: 41، 44، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة" فيما سلف 2: 103-109. (4) انظر تفسير"السبت"، و"اعتداؤهم في السبت" فيما سلف 2: 166-174. (5) هذا الأثر لم يذكر في تفسير"الباب" فيما سلف 2: 103-109، وهو أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره، ومنهجه في الاختصار. (6) انظر تفسير"السبت"، و"اعتداؤهم في السبت" فيما سلف 2: 166-174. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام: (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) ، بتخفيف"العين" من قول القائل:"عدوت في الأمر"، إذا تجاوزت الحق فيه،"أعدُ وعَدْوًا وعُدُوًّا وعدوانًا وعَدَاءً". (1) * * * وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُّوا) بتسكين"العين" وتشديد"الدال"، والجمع بين ساكنين، بمعنى: تعتدوا، ثم تدغم"التاء" في"الدال" فتصير"دالا" مشددة مضمومة، كما قرأ من قرأ (أَمْ مَنْ لا يَهْدِّي) [سورة يونس: 35] ، بتسكين"الهاء". * * * وقوله:"وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا"، يعني: عهدًا مؤكدًا شديدًا، بأنهم يعملون بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم الله عنه، مما ذكر في هذه الآية، ومما في التوراة. (2) * * * وقد بينا فيما مضى، السببَ الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدًا، وما كان من أمرهم في ذلك وخبرهم وقصتهم= وقصة السبت، وما كان اعتداؤهم فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * *   (1) انظر تفسير"عدا" فيما سلف 2: 142، 167، 307 / 3: 573، 582 / 7: 117، والمراجع هناك. وقد أسقط في المطبوعة هنا"وعدوا" (بضم العين والدال مشددة الواو) ، وهي ثابتة في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف ص361، التعليق رقم: 2. وتفسير"غليظ" فيما سلف 8: 127. (3) انظر التعليقين السالفين ص: 361، تعليق: 3، 4. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 القول في تأويل قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم من أهل الكتاب="ميثاقهم"، يعني: عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة (1) ="وكفرهم بآيات الله"، يقول: وجحودهم="بآيات الله"، يعني: بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله (2) وحقيقة ما جاءوهم به من عنده (3) ="وقتلهم الأنبياء بغير حق"، يقول: وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوّتهم="بغير حق"، يعني: بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها (4) ="وقولهم قلوبنا غلف"، يعني: وبقولهم"قلوبنا غلف"، يعني: يقولون: عليها غِشاوة وأغطِية عما تدعونا إليه، فلا نفقَه ما تقول ولا نعقله. * * * وقد بينا معنى:"الغلف"، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل. (5) * * * ="بل طبع الله عليها بكفرهم"، يقول جل ثناؤه: كذبوا في قولهم:"قلوبنا غلف"، ما هي بغلف، ولا عليها أغطية، ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعًا بكفرهم بالله. * * *   (1) انظر تفسير"الميثاق" آنفًا ص: 362، تعليق: 2. (2) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أيي) . (3) في المطبوعة: "وحقية ما جاؤوهم به"، بدل ما في المخطوطة. وانظر التعليق السالف ص: 360، تعليق: 2. (4) انظر تفسير"قتل الأنبياء بغير حق" فيما سلف 7: 116، 117، 446. (5) انظر تفسير"غلف" فيما سلف 2: 324-328. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 وقد بينا صفة"الطبع على القلب"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * ="فلا يؤمنون إلا قليلا"، يقول: فلا يؤمن -هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، لطبعه على قلوبهم، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله- إلا إيمانًا قليلا يعني: تصديقًا قليلا وإنما صار"قليلا"، (2) لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به، ولكن صدَّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب، وكذبوا ببعض. فكان تصديقهم بما صدَّقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه، فهم به مكذبون من وجه آخر، وذلك من وجه تكذيبهم من كذَّبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله، ورسلُ الله يصدِّق بعضهم بعضًا. وبذلك أمر كل نبي أمته. وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضًا، ويحقق بعض بعضًا. فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها، من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقرّ بصحته. فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10774- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم"، يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم="وقولهم قلوبنا غلف"، أي لا نفقه=،"بل طبع الله عليها بكفرهم"، ولعنهم حين فعلوا ذلك. * * *   (1) انظر تفسير"الطبع" فيما سلف 1: 258. ولم يمض ذكر"الطبع" بهذا اللفظ في آية قبل هذه الآية، ولكنه نسي، إنما الذي مضى ما هو في معناه وهو"ختم الله على قلوبهم"، و"الختم" هو"الطبع". (2) انظر تفسير"قليل" فيما سلف 2: 329-331 / 8: 439، 577. (3) تفسير"قليل" فيما سلف من الآيات التي أشرنا إليها، فهو أجود مما هنا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 واختلف في معنى قوله:"فبما نقضهم"، الآية، هل هو مواصلٌ لما قبله من الكلام، أو هو منفصل منه. (1) فقال بعضهم: هو منفصل مما قبله، ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم. (2) *ذكر من قال ذلك: 10775- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فلا يؤمنون إلا قليلا"، لما ترك القوم أمرَ الله، وقتلوا رسله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم. * * * وقال آخرون: بل هو مواصل لما قبله. قالوا: ومعنى الكلام: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم= فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم الأنبياء بغير حق، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا: فتبع الكلام بعضه بعضًا، ومعناه: مردود إلى أوله. وتفسير"ظلمهم"، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله، بما فسر به تعالى ذكره، من نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء، وسائر ما بيَّن من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم" وما بعده، منفصل معناه من معنى ما قبله، وأن معنى الكلام: فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبكذا وبكذا، لعناهم وغضبنا عليهم= فترك ذكر"لعناهم "،   (1) وانظر زيادة"ما" في قوله"فبما نقضهم ميثاقهم" فيما سلف 7: 340. وترك أبي جعفر بيان ذلك هنا، أحد الأدلة على منهاجه في اختصار هذا التفسير. (2) في المطبوعة: "بل طبع الله عليها" كنص الآية، وهو لا يستقيم، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 لدلالة قوله:"بل طبع الله عليها بكفرهم"، على معنى ذلك. إذ كان من طبع على قلبه، فقد لُعِن وسُخِط عليه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الذين أخذتهم الصاعقة، إنما كانوا على عهد موسى= والذين قتلوا الأنبياء، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا:"قتلنا المسيح"، كانوا بعد موسى بدهر طويل. ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى، ولا من صُعق من قومه. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنّ الذين أخذتهم الصاعقة، لم تأخذهم عقوبةً لرميهم مريم بالبهتان العظيم، ولا لقولهم:"إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم". وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن القوم الذين قالوا هذه المقالة، غير الذين عوقبوا بالصاعقة. وإذ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا انفصال معنى قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم"، من معنى قوله:"فأخذتهم الصاعقة بظلمهم". * * * القول في تأويل قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم="وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، يعني: بفريتهم عليها، ورميهم إياها بالزنا، وهو"البهتان العظيم"، لأنهم رموها بذلك، وهي مما رموها به بغير ثَبَتٍ ولا برهان بريئة، فبهتوها بالباطل من القول. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف 5: 432 / 8: 124 / 9، 197. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 10776- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، يعني: أنهم رموها بالزنا. 10777- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، حين قذفوها بالزنا. 10778- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عُبَيد، عن جويبر في قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، قال: قالوا:"زنت". * * * القول في تأويل قوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. ثم كذبهم الله في قيلهم، فقال:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، يعني: وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن شبه لهم. * * * واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى. فقال بعضهم: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعًا حُوِّلوا في صورة عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره منهم، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى. *ذكر من قال ذلك: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 10779- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه قال: أُتِي عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، وأحاطوا بهم. فلما دخلوا عليهم صوَّرهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا! لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعًا! فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا! فخرج إليهم، فقال: أنا عيسى= وقد صوّره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثَمَّ شُبِّه لهم، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. * * * وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول، وهو ما:- 10780- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا، جزع من الموت وشقَّ عليه، فدعا الحواريِّين فصنع لهم طعامًا، (1) فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشَّاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضِّئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا مَن ردَّ علي شيئًا الليلة مما أصنع، فليس مني ولا أنا منه! فأقرُّوه، حتى إذا فرغ من ذلك قال: أمَّا ما صنعت بكم الليلة، مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أنّي خيركم، فلا يتعظَّم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه، كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي التي استعنتكم عليها، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء: أن يؤخِّر أجلي. فلما نَصَبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى   (1) في المطبوعة: "وصنع" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 لم يستطيعوا دعاءً. فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! (1) قالوا: والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السَّمَر، وما نطيق الليلة سمرًا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال: يُذْهَب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعَى به نفسه. ثم قال: الحقَّ، ليكفرنَّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنِّي أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني! فخرجوا فتفرقوا، (2) وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه! فجحد وقال: ما أنا بصاحبه! فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك. ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه، فلما أصبح أتى أحدُ الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلَّهم عليه. وكان شبِّه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجّي نفسك من هذا الحبل؟! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبِّه لهم، فمكث سبعًا. = ثم إنّ أمَّه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب، (3) فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ قالتا: عليك! فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبِّه لهم،   (1) في المطبوعة: "أما تصبرون"، وأثبت ما في التاريخ والمخطوطة. (2) في المطبوعة: "وتفرقوا" بالواو، وأثبت ما في التاريخ والمخطوطة. (3) في المطبوعة"حيث كان المصلوب"، وفي التاريخ: "عند المصلوب"، وفي المخطوطة "حيث" غير منقوطة، وعليها حرف (ط) ، كأن الناسخ عدها خطأ، لقلة إضافة"حيث" إلى الاسم المفرد، لأنها تضاف إلى الجملة الفعلية والجملة الإسمية، ولكن لإضافتها إلى المفرد شواهد كثيرة، منها قول الشاعر: وَنَحْنُ سَقَيْنَا المَوْتَ بِالسَّيْفِ مَعْقِلا ... وقَدْ كانَ مِنْهُمْ حَيْثُ ليُّ العَمَائِمِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 فأْمُرَا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقَد الذي كان باعه ودلَّ عليه اليهود، (1) فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه. فقال: لو تابَ لتابَ الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له: يُحَنَّى (2) فقال: هو معكم، فانطلقوا، فإنه سيصبح كلّ إنسان منكم يحدِّث بلغة قوم، فلينذِرْهم وَلْيدعهم. (3) * * * وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شَبهه، فانتدب لذلك رجل، فألقي عليه شبهه، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام. *ذكر من قال ذلك: 10781- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه" إلى قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، أولئك أعداء الله اليهود ائتمروا بقتل عيسى ابن مريم رسول الله، (4) وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذكر لنا أن نبي الله عيسى ابن مريم قال لأصحابه: أيكم يُقْذف عليه شبهي، فإنه مقتول؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا نبي الله! فقتل ذلك الرجل، ومنع الله نبيه ورفعه إليه. 10782- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، قال: ألقي شبهه على رجل من الحواريين فقتل. وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم، فقال: أيكم ألقي شبهي عليه، وله الجنة؟ فقال رجل: عليَّ.   (1) "فقده" و"افتقده": لم يجده، فسأل عنه. (2) في التاريخ: "يقال له يحيى". (3) الأثر: 10780 - رواه أبو جعفر في التاريخ 2: 22، 23. (4) في المطبوعة: "اشتهروا بقتل عيسى"، ولا معنى لها هنا، وهي في المخطوطة غير بينة الحروف، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 10783- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء. فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صُعِد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدَة، ويرون صورة عيسى فيهم، فشكّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه. فذلك قول الله تبارك وتعالى:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، إلى قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا". 10784- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن القاسم بن أبي بزة: أن عيسى ابن مريم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا رسول الله! فألقي عليه شبهه فقتلوه. فذلك قوله:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم". 10785- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله، رجلا منهم يقال له داود. فلما أجمعوا لذلك منه، لم يَفْظَعْ عبدٌ من عباد الله بالموت= فيما ذكر لي= فظَعَه، (1) ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءَه، حتى إنه ليقول، فيما يزعمون:"اللهم إن كنت صارفًا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني! "، وحتى إن جلده من كَرْب ذلك ليتفصَّد دمًا. فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى. فلما أيقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين (2) = وكانوا اثني عشر رجلا   (1) "فظع بالأمر يفظع فظعًا (مثل فرح، يفرح، فرحا) : كرهه واستبشعه ورآه فظيعًا. (2) قول المسيح لأصحابه من الحواريين، سيأتي في الفقرة التي تلي الفقرة الآتية، وذلك قوله: "يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة". وما بين الكلامين، فصل فيه ذكر عدة الحواريين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 فطرس، (1) ويعقوب بن زبدي، ويحنس أخو يعقوب، وأندراييس، (2) وفيلبس، وأبرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلفيا، (3) وتداوسيس، وقنانيا، (4) ويودس زكريا يوطا. (5) = قال ابن حميد، قال سلمة، قال ابن إسحاق: وكان فيهم، فيما ذكر لي، رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى، جحدتْه النصارى، وذلك أنه هو الذي شبِّه لليهود مكان عيسى. قال: فلا أدري ما هو؟ من هؤلاء الاثني عشر، أم كان ثالث عشر، فجحدوه حين أقرُّوا لليهود بصلب عيسى، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر. = حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني رجل كان نصرانيًّا فأسلم: أن عيسى حين جاءَه من الله:"إني رافعك إليَّ" قال: يا معشر الحواريين، أيُّكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنة، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني؟ (6) فقال سرجس: أنا، يا روح الله! قال: فاجلس في مجلسي.   (1) في المطبوعة: "بطرس"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "أندراوس"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "حلقيا"، وفي المخطوطة بالفاء. (4) في المطبوعة: "فتاتيا"، والمخطوطة أشبه بأن تكون كما نقطتها. (5) سأذكر هذه الأسماء، كما هي في كتب القوم، من الإصحاح العاشر من إنجيل متى، على تتابعها هنا، وهي كما يلي: (بطرس) ، و (يعقوب بن زبدي) ، و (يوحنَّا) أخو يعقوب، و (أندارَاوس) - أخو بطرس -، و (فيلبس) ، و (برثولماوس) ، و (متى) ، و (توما) ، و (يعقوب بن حلفي) و (لباوس) ، الملقب (تدَّاوس) ، و (سمعان القانوي) ، و (يهوذا الأسخريوطي) . (6) في المطبوعة: "حتى يشبه للقوم"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 فجلس فيه، ورُفع عيسى صلوات الله عليه. فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشُبِّه لهم به. وكانت عِدّتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم وأحصوا عدّتهم. (1) فلما دخلوا عليه ليأخذوه، وجدوا عيسى فيما يُرَوْن وأصحابه، وفقدوا رجلا من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهمًا على أن يدلَّهم عليه ويعرِّفهم إياه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه، فإني سأقبله، وهو الذي أقبِّل، فخذوه. فلما دخلوا عليه وقد رُفع عيسى، رأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشكِّك أنه هو عيسى، (2) فأكبَّ عليه فقبَّله، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه. وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه. وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم، فصلبوه وهو يقول:"إني لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه"! والله أعلم أيُّ ذلك كان. 10786- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه: أيُّكم ينتدب فيُلقَى عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا نبي الله. فألقي عليه شبهه فقتل، ورفع الله نبيّه إليه. 10787- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"شبه لهم"، قال: صلبوا رجلا غير عيسى، يحسبونه إيّاه. 10788- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولكن شبه لهم"، فذكر نحوه. (3)   (1) في المطبوعة: "فأحصوا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فلم يشك"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فذكر مثله". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 10789- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: صلبوا رجلا شبَّهوه بعيسى، يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى حيًّا. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، أحدُ القولين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه: (1) من أن شَبَه عيسى ألقي على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك. ولكن ليخزي الله بذلك اليهود، وينقذ به نبيه عليه السلام من مكروهِ ما أرادوا به من القتل، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من عباده في قِيله في عيسى، وصدق الخبر عن أمره. = أو: القول الذي رواه عبد الصمد عنه. (2) وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب، لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريين، لو كانوا في حال ما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على من ألقي عليه شَبَهه، كانوا قد عاينوا وهو يرفع من بينهم، (3) وأثبتوا الذي ألقي عليه شبهه، وعاينوه متحوِّلا في صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضَرٍ منهم، لم يخفَ ذلك من أمر عيسى وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم، مع معاينتهم ذلك كله، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم، وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى، وأن عيسى رفع من بينهم حيًّا. وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم، وقد سمعوا من عيسى مقالته:"من يلقى عليه شبهي، ويكون رفيقي في الجنة"، إن كان قال لهم ذلك، وسمعوا   (1) هو الأثر رقم: 10779. (2) هو الأثر رقم: 10780، وكان في المخطوطة"الذي رواه عبد العزيز عنه"، وليس في الرواة عن ابن منبه فيما سلف"عبد العزيز" بل"عبد الصمد بن معقل"، وكأنه سهو من الناسخ، وعجلة أخذته. (3) في المطبوعة: "عاينوا عيسى وهو يرفع" بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة، فهو مستقيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 جواب مُجيبه منهم:"أنا"، وعاينوا تحوُّل المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه؟ ولكن ذلك كان= إن شاء الله= على نحو ما وصف وهب بن منبه: إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه، حوَّلهم الله جميعًا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه، فلم يثبتوا عيسى معرفةً بعينه من غيره لتشابه صور جميعهم، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم يُرَونه بصورة عيسى، ويحسبونه إياه، لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك. وظنّ الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود، لأنهم لم يميِّزوا شخصَ عيسى من شخص غيره، لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت. فاتفقوا جميعهم= يعني: اليهود والنصارى (1) = من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى، ولم يكن به، ولكنه شُبِّه لهم، كما قال الله جل ثناؤه:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم". = أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه: أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت، تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود، وبقي عيسى، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم غيرَ عيسى، وغيرَ الذي ألقي عليه شَبهه. ورفع عيسى، فقتل الذي تحوّل في صورة عيسى من أصحابه، وظن أصحابُه واليهود أن الذي قتل وصلب هو عيسى، لما رأوا من شبهه به، وخفاء أمر عيسى عليهم. لأن رفعه وتحوّل المقتول في صورته، كان بعد تفرق أصحابه عنه، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعَى نفسه، ويحزن لما قد ظنَّ أنه نازل به من الموت، فحكوا ما كان عندهم حقًّا، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا. فلم يستحق الذين حكوا ذلك من حواريّيه أن يكونوا كذبة، إذ حكوا ما كان حقًّا عندهم في الظاهر، (2)   (1) في المطبوعة: "أعني"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "أو حكوا"، وفي المخطوطة: "إذا حكوا"، والصواب ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 وإن كان الأمر كان عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكوا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإنّ الذين اختلفوا فيه"، اليهودَ الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم، فيما ذكر. فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدًا منهم، فالتبس أمرُ عيسى عليهم بفقدهم واحدًا من العدَّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى. وهذا التأويل على قول من قال: لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع ودخل عليهم اليهود. * * * وأما تأويله على قول من قال: تفرَّقوا عنه من الليل، فإنه:"وإن الذين اختلفوا"، في عيسى، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدَّة التي كانت فيه، أم لا؟ ="لفي شك منه"، يعني: من قتله، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه، فشكوا في الذي قتلوه: هل هو عيسى أم لا؟ من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه، ولكنهم قالوا:"قتلنا عيسى"، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة. يقول الله جل ثناؤه:"ما لهم به من علم"، يعني: أنهم قتلوا من قتلوه على شك منهم فيه واختلافٍ، هل هو عيسى أم هو غيره؟ من غير أن يكون لهم   (1) في المخطوطة: "وإن كان الأمر عند الله"، حذف"كان" الثانية، وقد أثبتها ناسخ المخطوطة في هامش النسخة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 بمن قتلوه علم، من هو؟ هو عيسى أم هو غيره؟ ="إلا اتباع الظن"، يعني جل ثناؤه: ما كان لهم بمن قتلوه من علم، ولكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه، ظنًّا منهم أنه عيسى، وأنه الذي يريدون قتله، ولم يكن به="وما قتلوه يقينًا"، يقول: وما قتلوا -هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى- يقينًا أنه عيسى ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه على ظنّ وشبهةٍ. * * * وهذا كقول الرجل للرجل:"ما قتلت هذا الأمر علمًا، وما قتلته يقينًا"، إذا تكلَّم فيه بالظن على غير يقين علم. فـ"الهاء" في قوله:"وما قتلوه"، عائدة على"الظن". (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 10790- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وما قتلوه يقينًا"، قال: يعني لم يقتلوا ظنَّهم يقينًا. 10791- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن جويبر في قوله:"وما قتلوه يقينًا"، قال: ما قتلوا ظنهم يقينًا. * * * وقال السدي في ذلك ما:- 10792- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما قتلوه يقينًا"، وما قتلوا أمره يقينًا أن الرجل هو عيسى،"بل رفعه الله إليه". * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 294. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 القول في تأويل قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) } قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه:"بل رفعه الله إليه"، فإنه يعني: بل رفع الله المسيح إليه. يقول: لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن الله رفعه إليه فطهَّره من الذين كفروا. * * * وقد بيّنا كيف كان رفع الله إياه إليه فيما مضى، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك، والصحيحَ من القول فيه بالأدلة الشاهدة على صحته، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وأما قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، فإنه يعني: ولم يزل الله منتقمًا من أعدائه، (2) كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه الذين قصّ قصتهم بقوله:"فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله"="حكيمًا"، يقول: ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقَه في قضائه. (3) يقول: فاحذروا أيها السائلون محمدًا أن ينزل عليكم كتابًا من السماء، من حلول عقوبتي بكم، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي، وقد:- 10793- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرُّؤَاسيّ، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، قال: معنى ذلك: أنه كذلك. (4) * * *   (1) انظر ما سلف 6: 455 - 460. (2) انظر تفسير"عزيز" و"عزة" فيما سلف ص: 319، تعليق: 5، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) الأثر: 10793 -"محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرؤاسي"، لم أعرف له ترجمة، ولا وجدت له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف. وقول ابن عباس في تفسير الآية"معنى ذلك أنه كذلك"، يريد أن الله كان ولم يزل عزيزًا حكيمًا. وعند هذا الموضع انتهى الجزء السابع من مخطوطتنا وفي آخرها ما نصه: "نَجَز الجزء السابع من كتاب البيان، بحمد الله وعونه وحُسن توفيقه، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. الحمد لله ربّ العالمين يتلوه في أول الثامن إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وكان الفراغ منه في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبعمائة. غفر الله لمؤلفه ولصاحبه، ولكاتبه، ولمن طالعَ فيه ودعا لهم بالمغفرة ورضى الله تعالى والجنة، ولجميع المسلمين. آمين، ياربّ العالمين". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 (1) القول في تأويل قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك: فقال بعضهم: معنى ذلك:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به"، يعني: بعيسى="قبل موته"، يعني: قبل موت عيسى= يوجِّه ذلك إلى أنّ جميعهم يصدِّقون به إذا نزل لقتل الدجّال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفيّة، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم.   (1) هذا بدء الجزء الثامن من المخطوطة، وأوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" "رَبِّ يَسِّر برَحْمَتِك يا كَرِيم". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 *ذكر من قال ذلك: 10794- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى ابن مريم. 10795- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى. 10796- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به. (1) 10797- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال:"قبل موته"، قال: قبل أن يموت عيسى ابن مريم. 10798- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى. والله إنه الآن لحيٌّ عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. 10799- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، يقول: قبل موت عيسى. 10800- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى. (2)   (1) الأثر: 10796 - في المخطوطة، هذا الأثر مبتور، مع جريانه في سياق الكتابة. (2) الأثر: 10800 - هذا الأثر مكرر الذي يليه مختصرًا، وليس في المخطوطة، فأخشى أن يكون من سهو الناسخ، كتب، ثم وقف، ثم أعاد الكتابة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 10801- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى، إذا نزل آمنت به الأديان كلها. 10802- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن قال: قبل موت عيسى. 10803- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال عيسى، ولم يمت بعدُ. 10804- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك قال: لا يبقى أحدٌ منهم عند نزول عيسى إلا آمن به. 10805- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك قال: قبل موت عيسى. 10806- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال، لم يبق يهوديٌّ في الأرض إلا آمن به. قال: فذلك حين لا ينفعهم الإيمان. (1) 10807- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، يعني: أنه سيدرك أناسٌ من أهل الكتاب حين يبعث عيسى، فيؤمنون به،"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا". 10808- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في هذه الآية:"وإن من أهل   (1) في المطبوعة: "وذلك حين.."، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"= قال أبو جعفر: أظنه إنما قال: إذا خرج عيسى آمنت به اليهود. * * * وقال آخرون: يعني بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى، قبل موت الكتابي. يوجِّه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل، (1) لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسُه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه. [ذكر من قال ذلك] : (2) 10809- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى. 10810- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى، وإن غرق، أو تردَّى من حائط، أو أيّ ميتة كانت. 10811- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، كل صاحب كتاب ليؤمنن به، بعيسى، قبل موته، موتِ صاحب الكتاب. (3) 10812- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليؤمنن به"، كل صاحب كتاب، يؤمن بعيسى =   (1) في المطبوعة: "ذكر من كان يوجه ذلك ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر التعليق التالي. (2) زدت هذه الزيادة بين القوسين، على نهج أبي جعفر في سائر تفسيره. (3) في المخطوطة: "قبل موته صاحب صاحب كتاب"، اجتهد الناشر الأول، ولو كتب"قبل موت كل صاحب كتاب"، لكان صوابًا أيضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 "قبل موته"، قبل موت صاحب الكتاب= قال ابن عباس: لو ضُربت عنقه، لم تخرج نفسُه حتى يؤمن بعيسى. 10813- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أنّ عيسى عبد الله ورسوله، ولو عُجِّل عليه بالسِّلاح. 10814- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: هي في قراءة أبيّ: (قبل موتهم) ، ليس يهودي يموت أبدًا حتى يؤمن بعيسى. قيل لابن عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهُوِيِّ. (1) فقيل: أرأيت إن ضربَ عنق أحد منهم؟ (2) قال: يُلجلج بها لسانُهُ. (3) 10815- حدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. قال: وإن ضُرب بالسيف، يتكلم به. قال: وإن هوى، يتكلم به وهو يَهْوِي. (4) 10816- وحدثني ابن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا   (1) "الهوي" (بضم الهاء، وكسر الواو، والياء المشددة) ، مصدر"هوى يهوي"، إذا سقط من فوق إلى أسفل. (2) في المطبوعة: "إن ضربت عنقه"، و"العنق" يذكر ويؤنث، وأثبت ما في المخطوطة. (3) "لجلج" أي تردد بها وأدارها على لسانه. وفي المطبوعة: "يتلجلج" بزيادة التاء، وهي بمعناها. (4) في المطبوعة، غير ما في المخطوطة وزاد فيها، وجعل ذلك سؤالا وجوابًا، وكتب: "قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال: يتكلم به. قيل: وإن هوى؟ قال: يتكلم به وهو يهوي"، وأجود ذلك ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لو أن يهوديًّا وقع من فوق هذا البيت، لم يمت حتى يؤمن به= يعني: بعيسى. (1) 10817- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن مولى لقريش قال: سمعت عكرمة يقول: لو وقع يهوديٌّ من فوق القَصر، لم يبلغ إلى الأرض حتى يؤمن بعيسى. 10818- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم الرماني، عن مجاهد:"ليؤمنن به قبل موته"، قال: وإن وقع من فوق البيت، لا يموت حتى يؤمن به. (2) 10819- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته". قال: لا يموت رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به، وإن غرق، أو تردَّى، أو مات بشيء. 10820- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن به.   (1) الأثر: 10816 -"أبو هارون الغنوي"، هو: "إبراهيم بن العلاء". روى عن عكرمة، وأبي مجلز، وحطان بن العلاء. وروى عنه شعبة، وحماد بن سلمة، ويزيد بن إبراهيم، ويزيد بن زريع، وابن المبارك، مترجم في الكبير 1 / 1 / 307، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 120، ولم يذكرا فيه جرحًا. وأشار إليه الحافظ ابن حجر في باب الكنى من تهذيب التهذيب، وقال: "تقدم"، ولم أجده في الأعلام، فكأن في التهذيب نقصًا. (2) الأثر: 10818 -"أبو هاشم الرماني الواسطي"، قيل اسمه: "يحيى بن دينار" وقيل: "ابن الأسود"، وقيل: "ابن أبي الأسود"، وقيل: "ابن نافع". رأى أنسًا، وروي عن أبي وائل، وأبي مجلز، وأبي العالية، وعكرمة، وغيرهم. كان فقيهًا صدوقًا، ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 10821- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحدهم حتى يؤمن به= يعني: بعيسى= وإن خَرَّ من فوق بيت، يؤمن به وهو يهوِي. 10822- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال: ليس أحدٌ من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن بعيسى. 10823- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت= [يعني: اليهود والنصارى] . (1) 10824- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن فرات، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت. (2) 10825- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا الحكم بن عطية، عن محمد بن سيرين:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: موتِ الرجل من أهل الكتاب. (3) 10826- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قال ابن عباس: ليس من يهودي [يموت] حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. (4)   (1) في المطبوعة: "حتى يؤمن بعيسى، يعني اليهود والنصارى"، وأثبت ما في المخطوطة، ولكن ليس فيها: "يعني اليهود والنصارى"، فتركتها على حالها من المطبوعة، ووضعتها بين قوسين. (2) الأثر: 10824 - هذا الأثر غير موجود في المخطوطة. (3) الأثر: 10825 -"الحكم بن عطية العيشي". متكلم فيه، روى عن عاصم الأحول، والحسن، وابن سيرين، وروى عنه ابن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو نعيم، وغيرهم. مترجم في التهذيب. (4) في المطبوعة: "ليس من يهودي ولا نصراني يموت حتى يؤمن"، وفي المخطوطة: " ليس من يهودي ولا نصراني حتى يؤمن"، وضرب الناسخ على"ولا نصراني"، وليس في المخطوطة"يموت"، فتركتها على حالها من المطبوعة، ووضعتها بين قوسين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 فقال له رجل من أصحابه: كيف، والرجل يغرق، أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار، أو يأكله السَّبُع؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى. 10827- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحد من اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله= صلى الله عليه وسلم. 10828- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى، عن جويبر في قوله:"ليؤمنن به قبل موته"، قال: في قراءة أبيّ: (قبل موتهم) . (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم، قبل موت الكتابي. *ذكر من قال ذلك: 10829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد قال، قال عكرمة: لا يموت النصراني واليهوديُّ حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم= يعني في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته". * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة والصواب، قول من قال: تأويل ذلك:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى". وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان، في الموارثة والصلاة عليه،   (1) الأثر: 10828 - انظر الأثر السالف رقم: 10814. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة. فلو كان كل كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على مِلّته إلا أولاده الصغار، أو البالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم. وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغٌ مسلم، كان ميراثه مصروفًا حيث يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغَسْله وتقبيره. (1) لأن من مات مؤمنًا بعيسى، فقد مات مؤمنًا بمحمد وبجميع الرسل. وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله عليهم، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله. كما أن المؤمن بمحمد، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله. فغير جائز أن يكون مؤمنًا بعيسى من كان بمحمد مكذِّبًا. * * * فإن ظن ظانٌّ أنّ معنى إيمان اليهودي بعيسى الذي ذكره الله في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، إنما هو إقراره بأنه لله نبيٌّ مبعوث، دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله= فقد ظن خطأ. وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبًا إلى الإقرار بنبوّة نبي، من كان له مكذبًا في بعض ما جاء به من وحْي الله وتنزيله. بل غير جائز أن يكون منسوبًا إلا الإقرار بنبوة أحد من أنبياء الله، لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله. فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمّته من عند الله، مكذِّب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين الله عبادَ الله. وإذْ كان ذلك كذلك= وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن كلَّ كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله   (1) قوله: "وتقبيره" أي دفنه حيث يدفن، وكأنه من ألفاظ الفقهاء على عهد أبي جعفر، والذي في اللغة"قبره يقبره" دفنه، و"أقبره" جعل له قبرًا. أما "قبر يقبر تقبيرًا" بهذا المعنى، فلم أجدها في معاجم اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 عليه وما جاء به من عند الله، (1) محكوم له بحكم الملّة التي كان عليها أيام حياته، (2) غيرُ منقولٍ شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته، عما كان عليه في حياته= دلَّ الدليل على أن معنى قول الله: (3) "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، إنما معناه: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاصٍ من أهل الكتاب، ومعنيٌّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نزوله، كالذي:- 10830- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثني يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة: أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، أمهاتهم شتى ودينهم واحدٌ. وإنيّ أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبيٌّ. وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربُوع الخَلق، إلى الحمرة والبياض، سَبْط الشعر، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلل، بين ممصَّرتين، فيدُقّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلَّها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضلالة الكذابَ الدجال، وتقع الأمَنَة في الأرض في زمانه، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغِلمان= أو: الصبيان= بالحيات، لا يضرُّ بعضهم بعضًا. ثم يلبث في الأرض ما شاء الله= وربما قال: أربعين سنة= ثم يتوفَّى،   (1) في المطبوعة: "وإذ كان ذلك كذلك كان في إجماع الجميع من أهل الإسلام على أن كل كتابي.." غير ما في المخطوطة، ليصلح الخطأ الذي وقع فيها. كما سترى في التعليق: 3. (2) في المطبوعة: "بحكم المسألة التي كان عليها ... "، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "أدل الدليل على معنى قول الله"، والصواب يقتضي ما أثبت. وسياق العبارة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين ... دل الدليل على أن معنى قول الله ... إنما معناه ... ". فهذا هو السياق الذي يدل على صواب ما صححته في المطبوعة والمخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. (1) * * * وأما الذي قال: عنى بقوله:"ليؤمنن به قبل موته"، ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبلَ موت الكتابي - فمما لا وجه له مفهوم، لأنه= مع فساده من الوجه الذي دَللنا على فساد قول من قال:"عنى به: ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي"= يزيده فسادًا أنه لم يجر لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبلَ ذلك ذكر، فيجوز صرف"الهاء" التي في قوله:"ليؤمنن به"، إلى أنها من ذكره. وإنما قوله:"ليؤمنن به"، في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود. فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول تقوم به حُجَّة. فأما الدَّعاوى، فلا تتعذر على أحد. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية= إذْ كان الأمر على ما وصفنا (2) =: وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن بعيسى، قبل موت عيسى= وحذف"مَن" بعد"إلا"، لدلالة الكلام عليه، فاستغنى بدلالته عن إظهاره، كسائر ما قد تقدم من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها. * * *   (1) الأثر: 10830 - هذا الحديث، مضى برقم: 7145، من طريق ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، بمثله، إلا بعض اختلاف يسير جدًا في لفظه. وهو حديث صحيح، خرجه أخي السيد أحمد في موضعه هناك، وأشار إلى طريق الطبري هذه في هذا الموضع، فراجعه هناك. (2) في المطبوعة: "ما وصفت"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 القول في تأويل قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويوم القيامة يكون عيسى على أهل الكتاب"شهيدًا"، يعني: شاهدًا عليهم بتكذيب من كذَّبه منهم، وتصديق من صدقه منهم، فيما أتاهم به من عند الله، وبإبلاغه رسالة ربه، (1) كالذي:- 10831- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا"، أنه قد أبلغهم ما أُرسل به إليهم. (2) 10832- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا"، يقول: يكون عليهم شهيدًا يوم القيامة على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه. * * * القول في تأويل قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فحرَّمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه= طيباتٍ من المآكل وغيرها، كانت لهم   (1) انظر تفسير"شهيد" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) في المطبوعة: "أرسله به"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 حلالا عقوبة لهم بظلمهم، الذي أخبر الله عنهم في كتابه، (1) كما:- 10833- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" الآية، عوقب القوم بظلم ظلموه وبَغْيٍ بَغَوْه، حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم. * * * وقوله:"وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا"، يعني: وبصدّهم عبادَ الله عن دينه وسبله التي شرعَها لعباده، صدًّا كثيرًا. (2) وكان صدُّهم عن سبيل الله: بقولهم على الله الباطل، وادعائهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله، وتحريف معانيه عن وجوهه. وكان من عظيم ذلك: جحودهم نبوة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم بيانَ ما قد علِموا من أمره لمن جَهِل أمره من الناس. (3) * * * وبنحو ذلك كان مجاهد يقول: 10834- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا"، قال: أنفسَهم وغيرَهم عن الحق. 10835- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وقوله:"وأخذهم الربا"، وهو أخذهم ما أفضلوا على رءوس أموالهم، لفضل تأخير في الأجل بعد مَحِلِّها، وقد بينت معنى"الربا" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (4) * * *   (1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف 2: 143، 507، 508. وتفسير"الطيبات" فيما سلف 3: 301 / 5: 555 / 6: 361 / 7: 424 / 8: 409. (2) في المطبوعة: "التي شرحها لعبادة" وهو خطأ ظاهر. (3) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53 / 8: 482، 513 وتفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"الربا" فيما سلف 6: 7، 8، 13، 15، 22. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 ="وقد نهوا عنه" يعني: عن أخذ الربا. * * * وقوله:"وأكلهم أموالَ الناس بالباطل"، يعني ما كانوا يأخذون من الرُّشَى على الحكم، كما وصفهم الله به في قوله: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة المائدة: 62] . وكان من أكلهم أموال الناس بالباطل، ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون:"هذا من عند الله"، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة. فعاقبهم الله على جميع ذلك، بتحريمه ما حرَّم عليهم من الطيبات التي كانت لهم حلالا قبل ذلك. وإنما وصفهم الله بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك بالباطل، (1) لأنهم أكلوه بغير استحقاق، (2) وأخذوا أموالهم منهم بغير استيجاب. * * * وقوله:"وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا"، (3) يعني: وجعلنا للكافرين بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود، (4) العذاب الأليم= وهو الموجع (5) = من عذاب جهنم عنده، (6) يصلونها في الآخرة، إذا وردوا على ربهم، فيعاقبهم بها. * * *   (1) انظر تفسير"أكل الأموال بالباطل" فيما سلف 3: 548 / 7: 528، 578 / 8: 216. (2) في المطبوعة: "بأنهم أكلوه ... "، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فقوله: ... "، والصواب من المخطوطة. (4) انظر تفسير"أعتد" فيما سلف 8: 103، 355 / 9: 353. (5) انظر تفسير"الأليم" فيما سلف من فهارس اللغة. (6) في المطبوعة: "من عذاب جهنم عدة يصلونها ... " والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 القول في تأويل قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) } قال أبو جعفر: هذا من الله جل ثناؤه استثناء، استثنَى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات التي مضت، من قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تُنزل عليهم كتابًا من السماء". ثم قال جل ثناؤه لعباده، مبينًا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده: ما كلُّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم،"لكن الراسخون في العلم منهم"، وهم الذين قد رَسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه، وأتقنوا ذلك، وعرفوا حقيقته. * * * وقد بينا معنى"الرسوخ في العلم"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * ="والمؤمنون" يعني: والمؤمنون بالله ورسله، هم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك، يا محمد، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل، ولا يسألونك كما سألك هؤلاء الجهلة منهم: (2) أن تنزل عليهم كتابًا من السماء، لأنهم قد علموا بما قرأوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم، أنك لله رسول، واجبٌ عليهم اتباعك، لا يَسعهم غير ذلك، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من إخبار أنبيائهم إياهم   (1) انظر تفسير"الراسخون في العلم" فيما سلف 6: 201 - 208. (2) في المطبوعة: "كما سأل هؤلاء"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 بذلك، وبما أعطيتك من الأدلّة على نبوتك، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه، يؤمنون بك وبما أنزل إليك من الكتاب، وبما أنزل من قبلك من سائر الكتب، كما:- 10836- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، استثنى الله أُثْبِيَّةً من أهل الكتاب، (1) وكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم، وما أنزل على نبي الله، يؤمنون به ويصدّقون، ويعلمون أنه الحق من ربهم. * * * ثم اختلف في"المقيمين الصلاة"، أهم الراسخون في العلم، أم هم غيرهم؟. فقال بعضهم: هم هم. * * * ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب"الراسخون في العلم" وهما من صفة نوع من الناس. فقال بعضهم: ذلك غلط من الكاتب، (2) وإنما هو: لكن الراسخون في العلم منهم والمقيمون الصلاة. *ذكر من قال ذلك: 10837- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن الزبير قال: قلت لأبان بن عثمان بن عفان: ما شأنها كتبت:   (1) في المطبوعة: "ثنية"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة كما كتبتها، ولكن أخطأ في نقطها، ووضع الألف قبلها مضطربة، كأنه شك في قراءة الكلمة. و"الأثبية" (بضم الألف وسكون الثاء، وكسر الباء، بعدها ياء مفتوحة مشددة) و"الثبة" (بضم الثاء، وفتح الباء) : الجماعة من الناس، وجمع الأولى"أثابي" (بتشديد الياء) ، وجمع الثانية"ثبات" (بضم الثاء) و"ثبون" (بضم الثاء وكسرها) . (2) انظر رد أبي جعفر هذه المقالة فيما سيأتي ص: 397، 398، وهو من أحكم الردود التي احتكم فيها إلى حسن التمييز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 "لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة"؟ قال: إن الكاتب لما كتب:"لكن الراسخون في العلم منهم"، حتى إذا بلغ قال: ما أكتب؟ قيل له: اكتب:"والمقيمين الصلاة"، فكتب ما قيلَ له. 10838- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنه سأل عائشة عن قوله:"والمقيمين الصلاة"، وعن قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) [سورة المائدة: 69] ، وعن قوله: (إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) [سورة طه: 63] ، فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكاتب، (1) أخطئوا في الكتاب. * * * وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: (والمقيمون الصلاة) . * * * وقال آخرون، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة:"والمقيمون الصلاة"، من صفة"الراسخين في العلم"، ولكن الكلام لما تطاول، واعترض بين"الراسخين في العلم"،"والمقيمين الصلاة" ما اعترض من الكلام فطال، نصب"المقيمين" على وجه المدح. قالوا: والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته، إذا تطاولت بمدح أو ذم، خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحيانًا، ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله. وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه. وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب. واستشهدوا لقولهم ذلك بالآيات التي ذكرتها في قوله: (2) (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) (3) [سورة البقرة: 177] .   (1) في المطبوعة: "عمل الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (2) في المطبوعة: "بالآيات التي ذكرناها"، وهو خطأ محض، والصواب من المخطوطة، ومن مراجعة المرجع الذي أشار إليه. (3) انظر ما سلف 3: 352-354. ثم انظر معاني القرآن الفراء 1: 105-108. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 وقال آخرون: بل"المقيمون الصلاة" من صفة غير"الراسخين في العلم" في هذا الموضع، وإن كان"الراسخون في العلم" من"المقيمين الصلاة". * * * وقال قائلو هذه المقالة جميعًا: موضع"المقيمين" في الإعراب، خفض. فقال بعضهم: موضعه خفض على العطف على"ما" التي في قوله:"يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة. * * * ثم اختلف متأوّلو ذلك هذا التأويل في معنى الكلام. (1) فقال بعضهم: معنى ذلك:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، وبإقام الصلاة. قالوا: ثم ارتفع قوله:"والمؤتون الزكاة"، عطفًا على ما في"يؤمنون" من ذكر"المؤمنين"، كأنه قيل: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، هم والمؤتون الزكاة. * * * وقال آخرون: بل"المقيمون الصلاة"، الملائكة. قالوا: وإقامتهم الصلاة، تسبيحهم ربَّهم، واستغفارهم لمن في الأرض. قالوا: ومعنى الكلام:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، وبالملائكة. * * * وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، هم والمؤتون الزكاة، كما قال جل ثناؤه: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة: 61] . * * * وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون:"المقيمين" منصوبًا على المدح. وقالوا: إنما تنصب العربُ على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره. قالوا: وخبر   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "متأولو ذلك في هذا التأويل"، و"في" زائدة من الناسخ بلا شك عندي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 "الراسخين في العلم" قوله:"أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا". قال: فغير جائز نصب"المقيمين" على المدح، وهو في وسط الكلام، ولمّا يتمَّ خبر الابتداء. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة. وقالوا: موضع"المقيمين"، خفض. * * * وقال آخرون: معناه: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، وإلى المقيمين الصلاة. * * * قال أبو جعفر: وهذا الوجه والذي قبله، منكرٌ عند العرب، ولا تكاد العرب تعطف بظاهر على مكنيٍّ في حال الخفض، (1) وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب، أن يكون"المقيمين" في موضع خفض، نسَقًا على"ما"، التي في قوله:"بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"= وأن يوجه معنى"المقيمين الصلاة"، إلى الملائكة. فيكون تأويل الكلام:"والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك"، يا محمد، من الكتاب="وبما أنزل من قبلك"، من كتبي، وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة. ثم يرجع إلى صفة"الراسخين في العلم"، فيقول: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بالكتب والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر. * * * وإنما اخترنا هذا على غيره، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، وكذلك هو في مصحفه، فيما ذكروا. فلو كان ذلك خطأ من الكاتب، لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف= غير مصحفنا الذي   (1) في المطبوعة: "لظاهر" باللام، والصواب من المخطوطة. (2) انظر ما سلف 7: 519، 520. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه= بخلاف ما هو في مصحفنا. وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك، ما يدل على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخطِّ، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقَّنوه الأمة تعليمًا على وجه الصواب. (1) وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً، على ما هو به في الخط مرسومًا، أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب. (2) * * * وأما من وجَّه ذلك إلى النصب على وجه المدح لـ"الراسخين في العلم"، = وإن كان ذلك قد يحتمل على بُعدٍ من كلام العرب، لما قد ذكرت قبل من العلة، (3) وهو أن العرب لا تعدِل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نَعْته إلا بعد تمام خبره. وكلام الله جل ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو [أولى] به من الفصاحة. (4) * * * وأما توجيه من وجّه ذلك إلى العطف به على"الهاء" و"الميم" في قوله:"لكن الراسخون في العلم منهم"= أو: إلى العطف به على"الكاف" من قوله:"بما أنزل إليك"= أو: إلى"الكاف" من قوله:"وما أنزل من قبلك"، فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح، لما قد ذكرت قبل من قُبْح ردِّ الظاهر على المكنيّ في الخفض. * * *   (1) في المطبوعة: "ولقنوه للأمة" باللام، وهو تغيير سيء قبيح. (2) هذه الحجة التي ساقها إمامنا أبو جعفر رضي الله عنه، هي حجة فقيه بمعاني الكلام، ووجوه الرأي. وهي حجة رجل عالم محيط بأساليب العلم، عارف بما توجبه شواهد النقل، وأدلة العقل. وقد تناول ذلك جمهور من أئمتنا، ولكن لا تزال حجة أبي جعفر أقوم حجة في رد هذه الرواية التي نسبت إلى عائشة أم المؤمنين. (3) في المطبوعة: "لما قد ذكرنا ... "؛ وأثبت ما في المخطوطة. (4) الزيادة بين القوسين، يستوجبها السياق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 وأما توجيه من وجه"المقيمين" إلى"الإقامة"، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل، ولا خبر تثبت حجته. وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان. * * * وأما قوله:"والمؤتون الزكاة"، فإنه معطوف به على قوله:"والمؤمنون يؤمنون"، وهو من صفتهم. * * * وتأويله: والذين يعطون زكاة أموالهم مَن جعلها الله له وصرفها إليه="والمؤمنون بالله واليوم الآخر"، يعني: والمصدّقون بوحدانية الله وألوهته، (1) والبعث بعد الممات، والثواب والعقاب="أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا"، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم="سنؤتيهم"، يقول: سنعطيهم="أجرًا عظيمًا"، يعني: جزاءً على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره، وثوابًا عظيمًا، وذلك الجنة. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "وألوهيته"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الإيتاء" و"الأجر" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 القول في تأويل قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح"، إنا أرسلنا إليك، يا محمد، بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح، وإلى سائر الأنبياء الذين سَمَّيتهم لك من بعده، والذين لم أسمِّهم لك، (1) كما:-   (1) انظر تفسير"أوحى" فيما سلف 6: 405، 406. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 10839- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن منذرٍ الثوري، عن الربيع بن خُثَيم في قوله:"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده"، قال: أوحى إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله. (1) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن بعض اليهود لما فضحهم الله بالآيات التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم= وذلك من قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"= فتلا ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء بعد موسى"! فأنزل الله هذه الآيات، تكذْيبًا لهم، وأخبر نبيَّه والمؤمنين به أنه قد أنزل عليه بعد موسى وعلى من سماهم في هذه الآية، وعلى آخرين لم يسمِّهم، كما:- 10840- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة= عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير= أو عكرمة، عن ابن عباس قال، قال سُكَين وعدي بن زيد: يا محمد، ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى! فأنزل الله في ذلك من قولهما:"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده" إلى آخر الآيات. (2) * * *   (1) الأثر: 10839 -"منذر الثوري" هو"منذر بن يعلى الثوري" أبو يعلى. روى عن محمد بن علي بن أبي طالب، والربيع بن خثيم، وسعيد بن جبير، وغيرهم. روى عنه ابنه الربيع بن المنذر، والأعمش، وفطر بن خليفة وغيرهم. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 10840 - سيرة ابن هشام 2: 211، وهو تابع الآثار التي آخرها قديمًا: 9792 وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عدي بن ثابت"، وهو خطأ بلا شك، ففي سيرة ابن هشام وغيرها"عدي بن زيد"، ولم أجد في أسماء الأعداء من يهود"عدي بن ثابت". و"سكين بن أبي سكين"، و"عدي بن زيد" من بني قينقاع، ذكرهم ابن هشام في السيرة في الأعداء من يهود 2: 161. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 وقال آخرون: بل قالوا= لما أنزل الله الآيات التي قبل هذه في ذكرهم=:"ما أنزل الله على بشر من شيء، ولا على موسى، ولا على عيسى"! فأنزل الله جل ثناؤه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ، [سورة الأنعام: 91] ، ولا على موسى ولا على عيسى. *ذكر من قال ذلك: 10841- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء" إلى قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، فلما تلاها عليهم= يعني: على اليهود= وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله، وقالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء، ولا على موسى ولا على عيسى!! وما أنزل الله على نبي من شيء"! قال: فحلَّ حُبْوَته وقال: (1) ولا على أحد!! فأنزل الله جل ثناؤه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام: 91] * * * وأما قوله:"وآتينا داود زبورًا"، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام، غير نفر من قرأة الكوفة: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ، بفتح"الزاي" على التوحيد، بمعنى: وآتينا داود الكتاب المسمى"زبورًا". * * * وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زُبُورًا) ، بضم"الزاي" جمع"زَبْرٍ". كأنهم وجهوا تأويله: وآتينا داود كتبًا وصحفًا مَزْبورة. * * *   (1) "الحبوة" (بضم الحاء وفتحها، وسكون الباء) : الثوب الذي يحتبى به. و"الاحتباء": أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها. وقد يكون"الاحتباء" باليدين عوض الثوب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 = من قولهم:"زَبَرت الكتاب أزْبُره زَبْرًا" و"ذَبُرته أذْبُره ذَبْرًا"، إذا كتبته. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءة من قرأ: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ، بفتح"الزاي"، على أنه اسم الكتاب الذي أوتيه داود، كما سمى الكتاب الذي أوتيه موسى"التوراة"، والذي أوتيه عيسى"الإنجيل"، والذي أوتيه محمد"الفرقان"، لأن ذلك هو الاسم المعروف به ما أوتي داود. وإنما تقول العرب:"زَبُور داود"، بذلك تعرف كتابَه سائرُ الأمم. * * * القول في تأويل قوله: {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل قد قصصناهم عليك، ورسل لم نقصصهم عليك. * * * فلعل قائلا يقول: فإذ كان ذلك معناه، فما بال قوله:"ورسلا" منصوبًا غير مخفوض؟ قيل: نصب ذلك إذ لم تعد عليه"إلى" التي خفضت الأسماء قبله، وكانت الأسماء قبلها، وإن كانت مخفوضة، فإنها في معنى النصب. لأن معنى الكلام: إنا أرسلناك رسولا كما أرسلنا نوحًا والنبيين من بعده، فعُطفت"الرسل" على معنى الأسماء قبلها في الإعراب، لانقطاعها عنها دون ألفاظها، إذ لم يعد عليها ما خفضها، كما قال الشاعر. (2)   (1) انظر تفسير"الزبور" فيما سلف 7: 450، 451، وبين هنا ما أجمله هناك، وهذا من ضروب اختصاره التفسير. (2) لم أعرف قائله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 لَوْ جِئْتَ بِالْخُبْزِ لَهُ مُنَشَّرَا ... وَالْبَيْضَ مَطْبُوخًا مَعًا والسُّكَّرَا ... لَمْ يُرْضِهِ ذلِكَ حَتَّى يَسْكَرَا (1) * * * وقد يحتمل أن يكون نصب"الرسل"، لتعلق"الواو" بالفعل، بمعنى: وقصصنا رسلا عليك من قبل، كما قال جل ثناؤه: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [سورة الإنسان: 31] . (2) * * * وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ (ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم عليك) ، فرفعُ ذلك، إذ قرئ كذلك، بعائد الذكر في قوله:"قصصناهم عليك". (3) * * * وأما قوله:"وكلم الله موسى تكليمًا"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وخاطب الله بكلامه موسى خطابًا، وقد:- 10842- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا نوح بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليمًا؟ فقال: مشافهة. (4) * * *   (1) في المخطوطة: "لو جيت لنا بالخير مبشرًا"، وهو فاسد جدًا، والصواب ما في المطبوعة. وقوله: "منشرًا" أي مبسوطًا بسطًا، كما يبسط الثوب، كأنه يعني الرقاق بعضه على بعض. (2) قد بين أبو جعفر ذلك في تفسير"سورة الإنسان" 29: 140 (بولاق) فقال: و"نصب (الظالمين) لأن الواو ظرف ل"أعد". والمعنى: وأعد للظالمين عذابًا أليمًا". (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 295. (4) الأثر: 10842 -"نوح بن أبي مريم"، أبو عصمة القرشي، قاضي مرو. كان أبوه مجوسيًا ويقال له: "نوح الجامع"، وسمي"الجامع"، لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن حجاج بن أرطاة وطبقته، والتفسير عن الكلبي ومقاتل، والمغازي عن ابن إسحاق، وكان مع ذلك عالمًا بأمور الدنيا. وكان شديدًا على الجهمية والرد عليهم، تعلم منه نعيم بن حماد الرد على الجهمية. ولكنه كان مع ذلك كله ذاهب الحديث، ليس بثقة، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن حبان: "نوح الجامع: جمع كل شيء إلا الصدق"!! مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 111، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 484. وفي المخطوطة إشكال، وذلك أن فيها: "نوح بن أبي هند"، واضحة الكتابة جدًا، ولكني لم أجد"نوح بن أبي هند"، ولم أستطع أن أجد له تصحيفًا أو تحريفًا. فأبقيت ما في المطبوعة على حاله، وأثبت هذا الذي في المخطوطة، عسى أن أوفق بعد إلى الصواب في هذا الإسناد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 وقد:- 10843- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن مبارك، عن معمر ويونس، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، أخبرني جزى بن جابر الخثعمي قال: سمعت كعبًا يقول: إن الله جل ثناؤه لما كلم موسى، كلمه بالألسنة كلها قبل كلامه= يعني: كلام موسى= فجعل يقول: يا رب، لا أفهم! حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة، فقال: يا رب هكذا كلامك؟ قال: لا ولو سمعت كلامي= أي: على وجهه= لم تك شيئًا! = قال ابن وكيع: قال أبو أسامة (!!) : وزادني أبو بكر الصغاني في هذا الحديث أن موسى قال: يا رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما تسمع الناسُ من الصواعق. (1)   (1) الأثر: 10843 -"أبو أسامة"، هو: "حماد بن زيد بن أسامة" مضى برقم: 5265، والاختلاف في اسمه. و"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام"، مضت ترجمته رقم: 2351، 7820. و"جزى بن جابر الخثعمي"، ترجم له البخاري في الكبير 1 / 2 / 254، 255، باسم"جرز بن جابر الخثعمي" وقال: "قاله أبو اليمان، عن شعيب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن". ثم قال: "وقال عبد الرزاق، عن معمر: جريز بن جابر الخثعمي" [قلت: الصواب"جزى"، كما في مخطوطة الطبري، وكما نص عليه ابن أبي حاتم كما سيأتي] . ثم قال البخاري: "وقال يونس وابن أخي الزهري والزبيدي: جزء". ثم قال أيضًا: "وقال إسماعيل، عن أخيه سليمان عن ابن أبي عتيق: جرو بن جابر" [قلت: وهو الإسناد الآتي رقم: 10846] . أما ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 546، 547، فقد ترجم له باسم: "جزء بن جابر الخثعمي"، وقال: "في رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري"، فدل هذا على أن ترجمة البخاري له، جائز أن تكون باسم"جزء بن جابر"، بل أرجح أن ذلك هو الصواب إن شاء الله. ثم قال ابن أبي حاتم: "وفي رواية معمر: جزى بن جابر، وهو وهم تابعه عليه الزبيدي"، فوافق البخاري في رواية معمر، وخالفه في متابعة الزبيدي، فإن البخاري قال عنه في روايته"جزء". ثم قال أيضًا: "ويقال: حزن بن جابر" سمعت أبي يقول ذلك"، وأخشى أن يكون في نسخة ابن أبي حاتم تحريف، وأن يكون صوابها كما في البخاري: "جرو" بالراء، أو "جزو" بالزاي. وكل هذا مشكل لا يهتدي فيه إلى اليقين، إنما هو النقل. ثم انظر الآثار من رقم: 10845 - 10847. وكان في المطبوعة: "جزء من جابر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب الذي يدل عليه كلام البخاري وابن أبي حاتم، لأن هذه هي رواية معمر. ثم يأتي إشكال آخر، ففي المخطوطة: "قال ابن كعب، قال أبو أسامة، وزادني أبو بكر الصغاني ... ". أما "ابن كعب"، فخطأ ظاهر لا شك فيه، إنما هو كما في المطبوعة: "ابن وكيع"، وسها الناسخ، لذكر"كعب الأحبار" في الخبر، فضللته الكافات في"وكيع" و"كعب" حتى نسي فكتب"ابن كعب". وأما الإشكال، فإن"أبا بكر الصغاني"، هو"محمد بن إسحاق بن جعفر" الحافظ الرحلة، وهو شيخ الطبري، مضت روايته عنه في مواضع، انظر رقم: 4074، وفيها ترجمته، ورقم: 4330 وروى عنه في المنتخب من ذيل المذيل (الملحق بتاريخه) ص: 104، كما أشرت إليه. ولا شك في أن"أبا أسامة حماد بن زيد"، لم يرو عنه قط. فواضح أن القائل: "وزادني أبو بكر الصغاني" هو أبو جعفر محمد بن جرير نفسه. وإذن، فما قوله: "قال ابن وكيع، قال أبو أسامة"؟ لا أدري على التحقيق، فإما أن يكون سقط من الناسخ شيء. وإما أن يكون المملي (أبو جعفر، أو غيره) ، أراد أن ينتقل إلى الإسناد التالي رقم: 10844، فأملى صدر الإسناد، ثم عاد لما فاته من تتمة كلام أبي جعفر في الخبر 10843، وهو قوله: "وزادني أبو بكر الصغاني"، ولم ينتبه الكاتب عنه لما وقع فيه المملي من التردد. هذا غاية ما أجد من تفسير ذلك. هذا، والمخطوطة لا يعتمد عليها في هذا الموضع كل الاعتماد، لأن فيها خرمًا أو حذفًا كما سترى في الأسانيد: 10845 - 10847، ولله وحده العلم. وكتبه: محمود محمد شاكر. وقد كان في المطبوعة: "أشد ما تسمع"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 10844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر قال، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: سئل موسى: ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال موسى: الرعد الساكب. (1) 10845- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الله بن وهب   (1) الأثر: 10844 -"عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، مضى برقم: 7819. وقد كان في المخطوطة: " ... عبد الله بن عمرو"، وهو خطأ بين. وقوله: "الرعد الساكب"، هكذا قرأتها، وفي المخطوطة والمطبوعة: "الرعد الساكن" بالنون في آخره، ولست أجد لها معنى يعقل. أما "الساكب"، فإنه الوصف المعقول في صفة شدة صوت الرعد، وذلك تتابعه وانسياحه. وفي الحديث: "فإذا سكب المؤذن بالأولى من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين"، وذلك صفة المؤذن إذا أذن، فأطال في أذانه وردده ورجعه، وأصله من"سكب الماء"، ثم استعير"السكب" للإفاضة في الكلام أو غيره من الأصوات، كما يقال: "أفرغ في أذني حديثًا"، أي: ألقى وصب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن: أنه أخبره عن جزء بن جابر الخثعمي قال: لما كلّم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق يقول: والله يا رب، ما أفقه هذا!! حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة بمثل صوته، فقال موسى: يا ربِّ هذا كلامك؟ قال: لا. قال: هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشد ما يسمع الناس من الصواعق. (1) 10846- حدثني أبو يونس المكي قال، حدثنا ابن أبي أويس قال، أخبرني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أنه أخبره جزء بن جابر الخثعمي: أنه سمع [كعب] الأحبار يقول: لما كلم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق موسى يقول: أي رب، والله ما أفقه هذا!! حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته، فقال موسى: أي رب، أهكذا كلامك؟ فقال: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال: أي رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ فقال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدّ ما يسمع من الصواعق. (2)   (1) الأثر: 10845 -"جزء بن جابر الخثعمي"، هذا هو الصواب، لأنه رواية يونس عن ابن شهاب الزهري، التي أشار إليها البخاري، كما أثبته في التعليق على الأثر رقم: 10843. (2) الأثر: 10846 -"أبو يونس المكي" شيخ الطبري، لم أعرفه، ولم أجده، ولم تمر بي قبل ذلك له رواية عنه. و"ابن أبي أويس" هو: "إسماعيل عبد الله بن أويس بن مالك الأصبحي" مضت ترجمته برقم: 45. و"أخوه" هو: "أبو بكر: عبد الرحمن بن عبد الله بن أويس"، مضى أيضًا برقم: 45. و"سليمان"، هو: "سليمان بن بلال التيمي القرشي". مضى برقم: 4333، 4923. و"ابن أبي عتيق" أو "محمد بن أبي عتيق"، هو: "محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق"، مضت ترجمته برقم: 4923، 10317. وهذا هو الإسناد الذي أشار إليه البخاري، كما ذكرت في التعليق على الأثر رقم: 10843، وأن روايته فيه"جرو بن جابر"، وذكره ابن أبي حاتم أيضًا، فانظر ما قلت فيه هناك. وكان في المطبوعة هنا: "أنه سمع الأحبار تقول"، ولكن تدل الروايات السالفة والآتية، وما أشار إليه البخاري وابن أبي حاتم، أن صواب ذلك"كعب الأحبار"، فزدت"كعب" بين القوسين، وهو الصواب المحض إن شاء الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 10847- حدثنا ابن عبد الرحيم قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا زهير، عن يحيى، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن جزء بن جابر: أنه سمع كعبًا يقول: لما كلم الله موسى بالألسنة قبل لسانه، طفق موسى يقول: أي رب، إني لا أفقه هذا!! حتى كلمه الله آخر الألسنة بمثل لسانه، فقال موسى: أي رب، هذا كلامك؟ قال الله: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال، يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما يسمع من الصواعق. (1) * * * القول في تأويل قوله: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ومن ذكر من الرسل (2) ="رسلا"، فنصب"الرسل" على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم (3) ="مبشرين"، يقول: أرسلتهم رسلا إلى خلقي وعبادي، مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدَّق رسلي، ومنذرين   (1) الأثر: 10847 - هذا إسناد لم يشر إليه البخاري، ولا ابن أبي حاتم. هذا، والأخبار الثلاثة الأخيرة من رقم: 10845 - 10847، ليست في المخطوطة. فكأن الناسخ قد اختصر في كتابه. ومهما يكن من أمر هذا الخبر، فإن صفة ربنا تعالى وتقدست أسماؤه، مما لا يؤخذ عن كعب الأحبار وأشباهه، بل الأمر فيها لله وحده، هو كما يثني على نفسه، وكما بلغ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كعب الأحبار ومن لف لفه. (2) في المخطوطة: "ومن ذكر الرسل"، بإسقاط"من"، والصواب ما في المطبوعة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فنصب به الرسل"، بزيادة"به"، والصواب حذفها. انظر معنى"القطع" فيما سلف من فهارس المصطلحات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 عقابي من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي="لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردتُ عقابه: (لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) [سورة طه: 134] . فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10849- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسلا. * * * ="وكان الله عزيزًا حكيمًا"، يقول: ولم يزل الله ذا عِزة في انتقامه ممن انتقم [منه] من خلقه، (1) على كفره به، ومعصيته إياه، بعد تثبيته حجَّتَه عليه برسله وأدلَّتَه="حكيمًا"، في تدبيره فيهم ما دبّره. (2) * * *   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. (2) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف: ص408، تعليق: 2، والمراجع هناك= وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 القول في تأويل قوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن يكفر بالذي أوحينا إليك، يا محمد، اليهود الذين سألوك أن تنزل عليهم كتابًا من السماء، وقالوا لك:"ما أنزل الله على بشر من شيء" فكذبوك، فقد كذبوا. ما الأمر كما قالوا: لكن الله يشهد بتنزيله إليك ما أنزل من كتابه ووحيه، أنزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خِيرَته من خلقه، وصفِيُّه من عباده، ويشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك تكذيبُ من كذَّبك، وخلافُ من خالفك="وكفى بالله شهيدًا"، يقول: وحسبك بالله شاهدًا على صدقك دون ما سواه من خلقه، فإنه إذا شهد لك بالصدق ربك، لم يَضِرْك تكذيب من كذَّبك. وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباعه، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوّته، فجحدوا نبوَّته وأنكروا معرفته. ذكر الخبر بذلك: 10850- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير= أو عكرمة= عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من يهود، فقال لهم: إني والله أعلم إنكم لتعلمون أنيّ رسول الله! فقالوا: ما نعلم ذلك! فأنزل الله:"لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا". 10851- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عِصابة من اليهود، ثم ذكر نحوه. (1)   (1) الأثران: 10850، 10851 - سيرة ابن هشام 2: 211 مع اختلاف في لفظه، وهو تابع الأثر السالف رقم: 10840. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 10852- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا"، شهودٌ والله غير مُتَّهمة. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا (167) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا، يا محمد، نبوتك بعد علمهم بها، من أهل الكتاب الذين اقتصصت عليك قصتهم، وأنكروا أن يكون الله جل ثناؤه أوحى إليك كتابه="وصدوا عن سبيل الله"، يعني: عن الدين الذي بعثَك الله به إلى خلقه، وهو الإسلام. وكان صدهم عنه، قِيلُهم للناس الذين يسألونهم عن محمد من أهل الشرك:"ما نجد صفة محمد في كتابنا! "، وادعاءهم أنهم عُهِد إليهم أن النبوّة لا تكون إلا في ولد هارون ومن ذرية داود، وما أشبه ذلك من الأمور التي كانوا يثبِّطون الناس بها عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق به وبما جاء به من عند الله. * * * وقوله:"قد ضلُّوا ضلالا بعيدًا"، يعني: قد جاروا عن قصد الطريق جورًا شديدًا، وزالوا عن المحجّة. (1) وإنما يعني جل ثناؤه بجورهم عن المحجة وضلالهم عنها، إخطاءَهم دين الله الذي ارتضاه لعباده، وابتعث به رسله. يقول: من جحد رسالة محمد صلى الله   (1) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: 391، تعليق: 3، والمراجع هناك. وانظر تفسير"سبيل الله" في فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 عليه وسلم، وصدَّ عما بُعث به من الملة من قَبِل منه، فقد ضلّ فذهب عن الدين الذي هو دين الله الذي ابتعث به أنبياءه، ضلالا بعيدًا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا بالله بجحود ذلك، وظلموا بمُقامهم على الكفر على علم منهم، بظلمهم عبادَ الله، وحسدًا للعرب، وبغيًا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم="لم يكن الله ليغفر لهم"، يعني: لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم عليها، ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم عليها (2) ="ولا ليهديهم طريقًا"، يقول: ولم يكن الله تعالى ذكره ليهدي هؤلاء الذين كفروا وظلموا، الذين وصفنا صفتهم، فيوفقهم لطريق من الطرق التي ينالون بها ثوابَ الله، ويصلون بلزومهم إياه إلى الجنة، ولكنه يخذلهم عن ذلك، حتى يسلكوا طريق جهنم. وإنما كنى بذكر"الطريق" عن الدين. وإنما معنى الكلام: لم يكن الله ليوفقهم للإسلام، ولكنه يخذلهم عنه إلى"طريق جهنم"، وهو الكفر، يعني: حتى يكفروا بالله ورسله، فيدخلوا جهنم="خالدين فيها أبدًا"، يقول: مقيمين فيها أبدًا="وكان ذلك على الله يسيرًا"، يقول: وكان تخليدُ هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم،   (1) انظر تفسير"ضل ضلالا بعيدًا" فيما سلف ص: 314، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "إياهم عليهم"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 على الله يسيرًا، لأنه لا يقدر من أراد ذلك به على الامتناع منه، ولا له أحد يمنعه منه، ولا يستصعب عليه ما أراد فعله به من ذلك، وكان ذلك على الله يسيرًا، لأن الخلق خلقُه، والأمرَ أمرُه. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"يا أيها الناس"، مشركي العرب، وسائرَ أصناف الكفر="قد جاءكم الرسول"، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم="بالحق من ربكم"، يقول: بالإسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينًا، يقول:="من ربكم"، يعني: من عند ربكم (1) ="فآمنوا خيرًا لكم"، يقول: فصدِّقوه وصدّقوا بما جاءكم به من عند ربكم من الدين، فإن الإيمان بذلك خير لكم من الكفر به="وإن تكفروا"، يقول: وإن تجحدوا رسالتَه وتكذّبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به، لن يضرَّ غيركم، وإنما مكروهُ ذلك عائدٌ عليكم، دون الذي أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، (2) وذلك أن لله ما في السموات والأرض، ملكًا وخلقًا، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره، وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه، من ملكه وسلطانه شيئًا (3) ="وكان الله عليمًا حكيمًا"، يقول:"وكان الله عليمًا"، بما   (1) انظر تفسير"من ربكم" بمثله، فيما سلف 6: 440. (2) في المطبوعة: "دون الله الذي أمركم ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (3) السياق: لا ينقص كفركم ... من ملكه وسلطانه شيئًا". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ومعصيته في ذلك، على علم منه بذلك منكم، أمركم ونهاكم (1) ="حكيمًا" يعني: حكيمًا في أمره إياكم بما أمركم به، وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه. (2) * * * واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله:"خيرًا لكم". فقال بعض نحويي الكوفة: نصب"خيرًا" على الخروج مما قبله من الكلام، (3) لأن ما قبله من الكلام قد تمَّ، وذلك قوله:"فآمنوا". وقال: قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان تامًّا، ثم اتصل به كلام بعد تمامه، على نحو اتصال"خير" بما قبله. فتقول:"لتقومن خيرًا لك" و"لو فعلت ذلك خيرًا لك"، و"اتق الله خيرًا لك". قال: وأما إذا كان الكلام ناقصًا، فلا يكون إلا بالرفع، كقولك:"إن تتق الله خير لك"، و (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة النساء: 25] . * * * وقال آخر منهم: جاء النصب في"خير"، لأن أصل الكلام: فآمنوا هو خيرٌ لكم، فلما سقط"هو"، الذي [هو كناية] ومصدرٌ، (4) اتّصل الكلام بما قبله، والذي قبله معرفة، و"خير" نكرة، فانتصب لاتصاله بالمعرفة لأن الإضمار من الفعل"قم فالقيام خير لك"، (5) و"لا تقم فترك القيام خير لك". فلما سقط اتصل   (1) في المطبوعة: "وعلى علم ... " بزيادة الواو، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر"الخروج" فيما سلف من فهارس المصطلحات. (4) في المطبوعة: "الذي هو مصدر"، وفي المخطوطة"الذي مصدر"، ورجحت أن الصواب ما أثبت، لأن تأويل الكلام، على مذهبه هذا: فالإيمان خير لكم، فالضمير"هو" كناية عن"الإيمان"، وهو مصدر. (5) أخشى أن يكون سقط قبل قوله: "لأن الإضمار من الفعل: "قم فالقيام خير لك ... " إلى آخر الكلام، ما يصلح أن يكون هذا تابعًا له، كأنه ضرب مثلين هما: "قم خير لك" و"لا تقم خير لك". ومع ذلك فقد تركت الكلام على حاله، ووضعت بينه نقطًا للدلالة على ذلك .... الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 بالأول. وقال: ألا ترى أنك ترى الكناية عن الأمر تصلح قبل الخبر، فتقول للرجل:"اتق الله هو خير لك"، أي: الاتقاء خير لك. وقال: ليس نصبه على إضمار"يكن"، لأن ذلك يأتي بقياس يُبْطل هذا. ألا ترى أنك تقول:"اتق الله تكن محسنًا"، ولا يجوز أن تقول:"اتق الله محسنًا"، وأنت تضمر"كان"، ولا يصلح أن تقول:"انصرنا أخانا"، وأنت تريد:"تكن أخانا"؟ (1) وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في"أفعل" خاصة، (2) فتقول:"افعل هذا خيرًا لك"، و"لا تفعل هذا خيرًا لك"، و"أفضل لك".، ولا تقول:"صلاحًا لك". وزعم أنه إنما قيل مع"أفعل"، لأن"أفعل" يدل على أن هذا أصلح من ذلك. * * * وقال بعض نحويي البصرة: نصب"خيرًا"، لأنه حين قال لهم:"آمنوا"، أمرهم بما هو خيرٌ لهم، فكأنه قال: اعملوا خيرًا لكم، وكذلك: (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) [سورة النساء: 171] . قال: وهذا إنما يكون في الأمر والنهي خاصة، ولا يكون في الخبر= لا تقول:"أن أنتهي خيرًا لي"؟ (3) ولكن يرفع على كلامين، لأن الأمر والنهي يضمر فيهما= فكأنك أخرجته من شيء إلى شيء، لأنك حين قلت له:"انته"، (4) كأنك قلت له:"اخرج من ذا، وادخل في آخر"، (5) واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:   (1) من أول قوله: "ألا ترى أنك ترى الكناية ... " إلى هذا الموضع، هو نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 295، 296. فظاهر إذن أن هذه مقالة الفراء، ما قبل هذا، وما بعده. إلا أني لم أجده في هذا الموضع من معاني القرآن، فلعل أبا جعفر جمعه من كتابه في مواضع أخر، عسى أن أهتدي إليها فأشير إليها بعد. (2) في المخطوطة: "أفعال خاصة"، وهو خطأ ظاهر. (3) في المطبوعة: "أنا أنتهي" والصواب من المخطوطة. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "اتقه" بالقاف، والصواب"انته"، لأن المثال قبله: "أن أنتهي خيرًا لي". (5) في المخطوطة"وأخرج في آخر"، خطأ ظاهر. وهذا القول الذي ذكره هو قول سيبويه في الكتاب 1: 143، وبسط القول فيه، واختصره أبو جعفر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ ... أوِ الرُّبَى بَيْنَهُمَا أَسْهَلا (1) كما تقول:"واعديه خيرًا لك". قال: وقد سمعت نصبَ هذا في الخبر، تقول العرب:"آتي البيت خيرًا لي، وأتركه خيرًا لي"، وهو على ما فسرت لك في الأمر والنهي. (2) وقال آخر منهم: نصب"خيرًا"، بفعل مضمر، واكتفى من ذلك المضمر بقوله: (3) "لا تفعل هذا" أو"افعل الخير"، وأجازه في غير"أفعل"، فقال:"لا تفعل ذاك صلاحًا لك". * * * وقال آخر منهم: نصب"خيرًا" على ضمير جواب"يكن خيرًا لكم". (4) وقال: كذلك كل أمر ونهي. (5) * * *   (1) ديوانه: 131، سيبويه 1: 143، الخزانة 1: 280 وغيرها كثير، وبعد البيت: وَلْيِأْتِ إِنْ جَاءَ عَلَى بَغْلَةٍ ... إِنِّي أَخَافُ الْمُهْرَ أَنْ يَصْهَلا! وقوله: "أسهلا"، أي: ائت أسهل الأمرين عليك. هذا تفسيره على مقالة سيبويه. (2) هذا تمام كلام سيبويه، ولكن أعياني أن أجد مكانه في الكتاب. (3) في المطبوعة: "كقوله: لا تفعل هذا"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) قوله: "ضمير" هو، الإضمار، مصدر - لا بمعنى مضمر في اصطلاح سائر النحاة. وانظر ما سلف 1: 427، تعليق: 1 / 2: 107، تعليق: 1 / 8: 273، تعليق: 1. (5) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 143. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب"، يا أهل الإنجيل من النصارى="لا تغلوا في دينكم"، يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله، قول منكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 على الله غير الحق. لأن الله لم يتخذ ولدًا فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنًا="ولا تقولوا على الله إلا الحق". * * * وأصل"الغلو"، في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه. يقال منه في الدين:"قد غلا فهو يغلو غلوًّا"، و"غَلا بالجارية عظمها ولحمها"، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِدَاتها="يغلو بها غُلُوًّا، وغَلاءً"، ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي: خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُها ... رُؤْدُ الشَّبَابِ غَلا بِهَا عَظْمُ (1) * * * وقد:- 10853- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،   (1) الأغاني 9: 226، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 143، اللسان (غلا) . وفي الأغاني"علا" بالعين المهملة، وهو خطأ يصحح. وقد مضى بيت من هذه القصيدة في 1: 116، تعليق: 3، وذكرت خبرها هناك، وهو من أبيات يذكر فيها صاحبته وما مضى من أيامه وأيامها: إِذْ وُدُّهَا صَافٍ، وَرُؤْيَتُهَا ... أُمْنِيّةٌ، وَكَلامُهَا غُنْمُ لَفَّاءُ مَمْلُوءُ مُخَلْخَلُهَا ... عَجْزاءُ لَيْسَ لِعَظْمِهَا حَجْمُ خُمْصَانَةٌ ................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَكَأَنَّ غَالِيَةً تُبَاشِرُها ... تَحْتَ الثِّيَابِ، إِذَا صَغَا النَّجْمُ وهو شعر جيد، وصفة حسنة للمرأة."لفاء"، ملتفة الفخذين، مكتنز لحمها، وهو حسن في النساء، قبيح في الرجال."مملوء مخلخلها"، موضع خلخالها، خفيت عظامها تحت اللحم، وهو صفة حسنة، لم تظهر عظامها كأنها دقت بالمسامير."عجزاء": حسنة العجيزة."خمصانة" (بفتح الخاء وضمها) : ضامرة البطن."قلق موشحها"، قد استوى خلقها، فالوشاح يجول عليها من ضمورها، لم يمتلئ لحمًا يجعلها لحمة واحدة!! "رؤد الشباب": شابة حسنة تهتز من النعمة وإشراق اللون. و"الغالية": ضرب من الطيب."صغا النجم": مال للمغيب، وذلك في مطلع الفجر، حين تتغير أفواه البشر وأبدانهم، وتظهر لها رائحة لا تستحب. وقل في الناس من يكون بهذه الصفة!! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 عن أبيه، عن الربيع قال: صاروا فريقين: فريق غلَوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه، وفريق منهم قصَّروا عنه، ففسقوا عن أمر ربهم. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قال أبو جعفر: يعني ثناؤه بقوله:"إنما المسيح عيسى ابن مريم"، ما المسيح، أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب، بابن الله، كما تزعمون، ولكنه عيسى ابن مريم، دون غيرها من الخلق، لا نسب له غير ذلك. ثم نعته الله جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته فقال: هو رسول الله أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه. * * * وأصل"المسيح"،"الممسوح"، صرف من"مفعول" إلى"فعيل". وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب. وقيل: مُسِح من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه، فيطهر منه. ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله:"المسيح"، الصدّيق. (1) * * * وقد زعم بعض الناس أنّ أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية"مشيحا"، فعربت فقيل:"المسيح"، كما عرب سائر أسماء الأنبياء التي في القرآن مثل:   (1) انظر ما سلف 6: 414، فهناك تجد قول مجاهد هذا. وقد علقت هناك، وأشرت إلى اختصار أبي جعفر، ورجحت ما في الكلام نقص. وهذا الموضع من كلامه يدل على أن أبا جعفر نفسه هو الذي اختصر الكلام اختصارًا هناك، من النسيان فيما أرجح، أو لأنه ألف تفسيره على فترات تباعدت عليه. ولولا ذلك لأشار هنا -كعادته- إلى الموضع السالف الذي فسر فيه معنى"المسيح". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 "إسماعيل" و"إسحاق" و"موسى" و"عيسى". * * * قال أبو جعفر: وليس ما مثَل به من ذلك لـ"المسيح" بنظير. وذلك أن"إسماعيل" و"إسحاق" وما أشبه ذلك، أسماء لا صفات، و"المسيح" صفة. وغير جائز أن تخاطب العرب، وغيرها من أجناس الخلق، في صفة شيء إلا بمثل ما تفهم عمَّن خاطبها. ولو كان"المسيح" من غير كلام العرب، ولم تكن العرب تعقل معناه، ما خوطبت به. وقد أتينا من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) * * * وأما"المسيح الدجال"، فإنه أيضًا بمعنى: الممسوح العين، صرف من"مفعول" إلى"فعيل". فمعنى:"المسيح" في عيسى صلى الله عليه وسلم: الممسوح البدن من الأدناس والآثام= ومعنى:"المسيح" في الدجال: الممسوح العين اليمنى أو اليسرى، كالذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. (2) * * * وأما قوله:"وكلمته ألقاها إلى مريم"، فإنه يعني: بـ "الكلمة"، الرسالة التي   (1) انظر ما سلف 1: 13-24. (2) هو ما جاء في الأحاديث الصحاح عن جماعة من الصحابة في صفة المسيح الدجال، أعاذنا الله من فتنته. من ذلك حديث حذيفة (مسلم 18: 60) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدَجَّالُ أعورُ العَيْنِ اليُسْرَى، جُفَال الشَّعَرَ، معهُ جنَّةٌ ونارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وجَنَّتُه نارٌ) . وحديث ابن عمر: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الدجّال بين ظَهْرَانَي الناس فقال: إِنَّ الله ليسَ بأَعْور، أَلا وإنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العين اليُمْنَى، كأَن عينه عِنَبَةٌ طَافيةٌ) . وأحاديث الدجال كثيرة، مختلفة الألفاظ، مختصرة ومطولة. فاللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 أمرَ الله ملائكته أن تأتي مريم بها، بشارةً من الله لها، التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [سورة آل عمران: 45] ، يعني: برسالة منه، وبشارة من عنده. * * * وقد قال قتادة في ذلك ما:- 10854- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وكلمته ألقاها إلى مريم"، قال: هو قوله:"كن"، فكان. * * * وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وقوله:"ألقاها إلى مريم"، يعني: أعلمها بها وأخبرها، كما يقال:"ألقيت إليك كلمة حسنة"، بمعنى: أخبرتك بها وكلّمتك بها. (2) * * * وأما قوله:"وروح منه"، فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معنى قوله:"وروح منه"، ونفخة منه، لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في دِرْع مريم بأمر الله إياه بذلك، (3) فنسب إلى أنه"روح من الله"، لأنه بأمره كان. قال: وإنما سمي النفخ"روحًا"، لأنها ريح تخرج من الرُّوح، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها:   (1) انظر تفسير"الكلمة" فيما سلف 6: 411، 412. (2) هذا معنى يقيد في كتب اللغة، فإنك قلما تصيبه فيها، وهو بيان واضح جدًا. (3) "درع المرأة": قميصها الذي يحميها أعين الفساق، كما تحمي الدرع لابسها. وبعيد أن يسمى شيء من لباس المرأة اليوم"درعًا"، فإنها لا تدرع من شيء، والرجل لا يتورع عن شيء!! والله المستعان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 فَلَمَّا بَدَتْ كَفَّنْتُها، وَهْيَ طِفْلَةٌ ... بِطَلْسَاءَ لَمْ تَكْمُلْ ذِرَاعًا وَلا شِبْرَا (1)   (1) ديوانه: 176، واللسان (روح) ، والمزهر 1: 556، وغيرها. هذا، وليس في المخطوطة غير الأبيات الثلاثة الأولى، وزادت المطبوعة، بيتًا رابعًا، لكن قبله في شعر ذي الرمة بيت، فزدته من ديوانه، ووضعته بين قوسين، لأنه من تمام معنى الأبيات. وقبل هذه الأبيات، أبيات في صفة استخراج سقط النار من الزند بالقدح، فلما اقتدحها كفنها كما ذكر في سائر الشعر. فقوله: "فلما بدت"، أي بدا سقط النار من الزند الأعلى عند القدح، "كفنها" ضمنها خرقة وسخة، لم تبلغ ذراعًا ولا شبرًا، وهي التي سماها"طلساء"، لسوادها من وسخها. وكانت"طفلة" لأنها سقطت من أمها لوقتها فتلقاها في الخرقة التي جعلها لها كفنًا. وإنما جعلها"كفنًا": لها، لأن السقط يسقط من الزند يزهر ويضيء حيًا، فإذا وقع في قلب القطنة، لم تر له ضوءًا، فكأنه السقط قد مات. ولكنه عاد يتابع السقط حتى يحييه مرة أخرى فقال لصاحبه: "ارفعها إليك"، أي خذها بيدك، وارفعها إلى فمك، ثم"أحيها بروحك"، أي انفخ لها نفخًا يسيرًا، "واقتته لها قيتة قدرًا"، يأمره بالرفق والنفح القليل شيئًا فشيئًا، كأنه جعل النفخ قوتًا لهذا الوليد، يقدر له تقديرًا، شيئًا بعد شيء حتى يكتمل. ثم لما فرغ من ذلك، ونمت النار بعض النمو، قال له: "ظاهر لها من يابس الشخت"، أي اجعل دقيق الحطب اليابس بعضه على بعض، وأطعم هذا الوليد= و"الشخت": الدقيق من كل شيء، = وذلك لتكون النار فيه أسرع. ثم يقول له: استقبل بها ريح الصبا ليكون ذلك لها نماء، "واجعل يديك لها سترًا"، أي: ليسترها من النواحي الأخرى حتى تضربها الصبا، فلا تموت مرة أخرى. ثم عاد فوصف نموها يقول: "ولما تنمت" وارتفعت، "تأكل الرم"، تأكل ما يبس من أعواد الشجر، لم تدع بعد ذلك يابسًا ولا أخضر مما ظلوا يجمعونه لها، وذلك حين استوت وبلغت أشدها. فلما رأوا النار تجري بعد ذلك في"الجزل" - وهو ما غلظ من الحطب ويبس - كأن ضوءها سنا البرق، رفعوا أيديهم شكرًا للذي خلقهم وخلق النار. وهذا شعر جيد مستقيم على النهج. ومما يقيد هنا، ما رواه السيوطي في المزهر، عن أبي عبيد في الغريب المصنف أن الأصمعي قال: أخبرني عيسى بن عمر، قال: أنشدني ذو الرمة: وَظَاهِرْ لَهَا من يَابِس الشَّخْتِ ثم أنشد بعد هذا: مِنْ بَائِسِ الشَّخْتِ قال أبو عبيد: فقلت له: إنك أنشدتني"من يابس الشخت"؟ فقال: اليبس من البؤس. قال السيوطي: وذلك إسناد متصل صحيح، فإن أبا عبيد سمعه من الأصمعي. وكان في المطبوعة: "جرت للجزل" و"لخالقها"، وأثبت رواية الديوان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 وَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ، وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ، وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا ... وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِس الشَّخْتِ، وَاسْتَعِنْ ... عَلَيْهَا الصَّبَا، وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا ... [وَلَمَّا تَنَمَّتْ تَأْكُلُ الرِّمَّ لَمْ تَدَعْ ... ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ ولا خُضْرَا] ... فَلَمَّا جَرَتْ في الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ ... سَنَا البَرْقِ، أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا وقالوا: يعني بقوله:"أحيها بروحك"، أي: أحيها بنفخك. * * * وقال بعضهم يعني بقوله:"وروح منه" إنه كان إنسانًا بإحياء الله له بقوله:"كن". قالوا: وإنما معنى قوله:"وروح منه"، وحياة منه، بمعنى إحياءِ الله إياه بتكوينه. * * * وقال آخرون: (1) معنى قوله:"وروح منه"، ورحمة منه، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [سورة المجادلة: 22] . قالوا: ومعناه في هذا الموضع: ورحمة منه. (2) قالوا: فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدّقه، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها، فصيَّرها الله تعالى روحَ عيسى عليه السلام. * * * *ذكر من قال ذلك: 10855- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد قال، أخبرني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ، [سورة الأعراف: 172] ، قال: أخذهم فجعلهم أرواحًا، ثم صوَّرهم، ثم   (1) في المطبوعة: "وقال بعضهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "قال" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخِذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها، فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام. (1) * * * وقال آخرون: معنى"الروح" ههنا، جبريل عليه السلام. قالوا: ومعنى الكلام: وكلمته ألقاها إلى مريم، وألقاها أيضًا إليها روح من الله. قالوا: فـ"الروح" معطوف به على ما في قوله:"ألقاها" من ذكر الله، بمعنى: أنّ إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله، ثم من جبريل عليه السلام. * * * قال أبو جعفر: ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيدٍ من الصواب. * * * القول في تأويل قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فآمنوا بالله ورسله"، فصدِّقوا، يا أهل الكتاب، بوحدانية الله وربوبيته، وأنه لا ولد له، وصدِّقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له، ولا صاحبة له، لا ولد له ="ولا تقولوا ثلاثة"، يعني: ولا تقولوا: الأربابُ ثلاثة. * * *   (1) في المطبوعة: "فحملت، والذي خاطبها هو روح عيسى ... " حذف، الواو من آخر الجملة، وأثبتها في أولها، فرددته إلى أصله في المخطوطة، وهو الصواب. ويعني قوله تعالى في سورة مريم 24: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) . وهذا الأثر لم يرد في تفسير آية الأعراف في موضعه هناك، وهو أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره، وأحد وجوه منهجه في الاختصار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 ورفعت"الثلاثة"، بمحذوف دلّ عليه الظاهر، وهو"هم". ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنما جاز ذلك، لأن"القول" حكاية، والعرب تفعل ذلك في الحكاية، ومنه قول الله: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، [سورة الكهف: 22] . وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد"القول" لا رافع معه، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم. * * * ثم قال لهم جل ثناؤه: متوعدًا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه في الله:"انتهوا"، أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، عما تقولون من الزور والشرك بالله، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِيله، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قِيلكم ذلك، إن أقمتم عليه، ولم تُنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم بالإنابة إليه= والآجلِ في معادكم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171) } قال أبو جعفر: يعني بقوله:"إنما الله إله واحد"، ما الله، أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، كما تقولون، لأن من كان له ولد، فليس بإله. وكذلك من كان له صاحبة، فغير جائز أن يكون إلهًا معبودًا. ولكن الله الذي له الألوهة والعبادة، إله واحد معبود، لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك. ثم نزه جل ثناؤه نفسه وعظَّمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكَفرة به فقال:"سبحانه أن يكون له ولد"، يقول: علا الله وجل وعز وتعظمَّ وتنزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. (2)   (1) قوله: "والآجل في معادكم" معطوف على قوله: "من العقاب العاجل لكم ... " (2) انظر تفسير"سبحان" فيما سلف 1: 474-476، 495 / 2: 537. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 ثم أخبر جل ثناؤه عباده: أن عيسى وأمَّه ومن في السموات ومن في الأرض، عبيدُه وإماؤه وخلقه، (1) وأنه رازقهم وخالقهم، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه= احتجاجًا منه بذلك على من ادّعى أن المسيح ابنه، وأنه لو كان ابنه كما قالوا، لم يكن ذا حاجة إليه، ولا كان له عبدًا مملوكًا، فقال:"له ما في السموات وما في الأرض"، يعني: لله ما في السموات وما في الأرض من الأشياء كلها ملكًا وخلقًا، وهو يرزقهم ويَقُوتهم ويدبِّرهم، فكيف يكون المسيح ابنًا لله، وهو في الأرض أو في السموات، غيرُ خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن؟ وقوله:"وكفى بالله وكيلا"، يقول: وحسب ما في السموات وما في الأرض بالله قَيِّمًا ومدبِّرًا ورازقًا، من الحاجة معه إلى غيره. (2) * * * القول في تأويل قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} يعني جل ثناؤه بقوله:"لن يستنكف المسيح"، لن يأنف ولن يستكبر المسيح="أن يكون عبدًا لله"، يعني: من أن يكون عبدًا لله، كما:- 10856- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون"، لن يحتشم المسيح أن يكون عبدًا الله ولا الملائكة. * * *   (1) في المطبوعة: "وملكه وخلقه"، وفي المخطوطة: "وإماله وخلقه" فرجحت قراءتها كما أثبتها. (2) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف: ص: 297، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 وأما قوله:"ولا الملائكة المقربون"، فإنه يعني: ولن يستنكف أيضًا من الإقرار لله بالعبودة والإذعان له بذلك، رسلُه"المقربون"، الذين قرَّبهم الله ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه. * * * وروي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك، ما:- 10857- حدثني به جعفر بن محمد البزوري قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن الأجلح قال: قلت للضحاك: ما"المقربون"؟ قال: أقربهم إلى السماء الثانية. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: ومن يتعظّم عن عبادة ربه، ويأنفْ من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم، ويستكبر عن ذلك="فسيحشرهم إليه جميعًا"، يقول: فسيبعثهم يوم القيامة جميعًا، فيجمعهم لموعدهم عنده. (2) * * *   (1) الأثر: 10857 -"جعفر بن محمد البزوري" لم أجده بهذه النسبة، والذي وجدته في تهذيب التهذيب، ممن يروى عن يعلى بن عبيد"جعفر بن محمد الواسطي الوراق"، نزيل بغداد مات سنة 265، وهو خليق أن يروي عنه أبو جعفر. ثم راجع تاريخ بغداد، ففي"جعفر بن محمد" كثرة، ولكن لم أجد بينهم"البزوري". وعسى أن تكشف الأسانيد الآتية عن الذي يعنيه أبو جعفر. و"الأجلح"، هو"الأجلح بن عبد الله بن حجية الكندي"، "أبو حجية"، قيل اسمه"يحيى" و"الأجلح" لقب. سمع عبد الله بن الهذيل، وابن بريدة والشعبي، وعكرمة. روى عنه الثوري، وابن المبارك. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 68. (2) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف 4: 228 / 6: 229. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأما المؤمنون المقرّون بوحدانية الله، الخاضعون له بالطاعة، المتذلِّلون له بالعبودية، والعاملون الصالحات من الأعمال، وذلك: أن يَرِدُوا على ربهم قد آمنوا به وبرسله، وعملوا بما أتاهم به رسله من عند ربهم، من فعل ما أمرهم به، واجتناب ما أمرهم باجتنابه="فيوفِّيهم أجورهم"، يقول: فيؤتيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة وافيًا تامًّا (1) ="ويزيدهم من فضله"، يعني جل ثناؤه: ويزيدهم على ما وعدهم من الجزاء على أعمالهم الصالحة والثواب عليها، من الفضل والزيادة ما لم يعرّفهم مبلغه، (2) ولم يحدّ لهم منتهاه. وذلك أن الله وعد من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة الواحدة عشرَ أمثالها من الثواب والجزاء. فذلك هو أجر كلِّ عامل على عمله الصالح من أهل الإيمان المحدود مبلغه، والزيادة على ذلك تفضُّل من الله عليهم، وإن كان كل ذلك من فضله على عباده. غيرَ أن الذي وعد عبادَه المؤمنين أن يُوفيهم فلا ينقصهم من الثواب على أعمالهم الصالحة، هو ما حَدُّ مبلغه من العَشْر، والزيادة على ذلك غير محدود مبلغها، فيزيد من شاء من خلقه على ذلك قدر ما يشاء، لا حدّ لقَدْره يوقف عليه. * * * وقد قال بعضهم: الزيادة إلى سبعمائة ضعف. وقال آخرون: إلى ألفين.   (1) انظر تفسير"يوفيهم أجورهم" فيما سلف 6: 465 / 7: 364. (2) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 وقد ذكرت اختلاف المختلفين في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وقوله:"وأما الذين استنكفوا واستكبروا"، فإنه يعني: وأما الذين تعظَّموا عن الإقرار لله بالعبودة، والإذعان له بالطاعة، واستكبروا عن التذلّل لألوهته وعبادته، وتسليم الربوبيّة والوحدانية له="فيعذبهم عذابًا أليمًا"، يعني: عذابًا موجعًا="ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا"، يقول: ولا يجد المستنكفون من عبادته والمستكبرون عنها، إذا عذبهم الله الأليم من عذابه، سوى الله لأنفسهم وليًّا ينجيهم من عذابه وينقذهم منه="ولا نصيرًا"، يعني: ولا ناصرًا ينصرهم فيستنقذهم من ربهم، ويدفع عنهم بقوّته ما أحلَّ بهم من نقمته، كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم غيرهم من أهل الدنيا في الدنيا بسوء، من نصرتهم والمدافعة عنهم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم"، يا أيها الناس من جميع أصناف الملل، يهودِها ونصاراها ومشركيها، الذين قص الله جل ثناؤه قَصَصهم في هذه السورة="قد جاءكم برهان من ربكم"، يقول: قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بُطُولَ ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم، (3) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله عليكم حجة قطع بها   (1) انظر ما سلف 5: 512-516. (2) انظر تفسير"ولي" و"نصير" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"البرهان" فيما سلف 2: 509. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 عذركم، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله إليكم، مع تعريفه إياكم صحة نبوته، وتحقيق رسالته="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"، يقول: وأنزلنا إليكم معه"نورًا مبينًا"، يعني: يبين لكم المحجَّة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله وأليم عقابه، إن سلكتموها واستنرتم بضوئه. (1) وذلك"النور المبين"، هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10858- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"برهان من ربكم"، قال: حجة. 10859- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10860- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم"، أي: بينة من ربكم="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"، وهو هذا القرآن. 10861- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قد جاءكم برهان من ربكم"، يقول: حجة. 10862- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"برهان"، قال: بينة="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"، قال: القرآن. * * *   (1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 360، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين صدَّقوا الله وأقرّوا بوحدانيته، وما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل="واعتصموا به"، يقول: وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزله إلى نبيه، (1) كما:- 10863- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"واعتصموا به"، قال: بالقرآن. * * * ="فسيدخلهم في رحمة منه وفضل"، يقول: فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، (2) ويلحَقهم من فضله ما لَحِق أهل الإيمان به والتصديق برسله (3) ="ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا"، يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه، ويسدِّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته، ولاقتفاء آثارهم واتباع دينهم. وذلك هو"الصراط المستقيم"، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام. (4) * * * ونصب"الصراط المستقيم" على القطع من"الهاء" التي في قوله:"إليه". (5) * * *   (1) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف 7: 62، 70 / 9: 341. (2) قوله: "وجنته" ليست في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "ما ألحق أهل الإيمان"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170- 177 / 3: 140، 141 / 6: 441 / 8: 529. (5) "القطع" الحال، أو باب منه، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 القول في تأويل قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} يعني تعالى ذكره بقوله:"يستفتونك"، يسألونك، يا محمد، أن تفتيهم في الكلالة. (1) * * * وقد بينا معنى:"الكلالة" فيما مضى بالشواهد الدالة على صحته، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيه، فأغنى ذلك عن إعادته، وبيّنا أن"الكلالة" عندنا: ما عدا الولد والوالد. (2) * * * ="إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، يعني بقوله:"إن امرؤ هلك"، إن إنسان من الناس مات، (3) كما:- 10864- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن امرؤ هلك"، يقول: مات. * * * ="ليس له ولد" ذكر ولا أنثى="وله أخت"، يعني: وللميت أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه="فلها نصف ما ترك"، يقول: فلأخته التي تركها بعده بالصفة التي وَصَفنا، نصف تركته ميراثًا عنه، دون سائر عصبته. وما بقي فلعصبته. * * * وذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَّمهم شأن الكلالة، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها هذه الآية.   (1) انظر تفسير"يستفتي" فيما سلف ص: 253. (2) انظر ما سلف في"الكلالة" 8: 53-61. (3) انظر تفسير"المرء" فيما سلف 2: 446. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 *ذكر من قال ذلك: 10865- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، فسألوا عنها نبيَّ الله، فأنزل الله في ذلك القرآن:"إن امرؤ هلك ليس له ولد"، فقرأ حتى بلغ:"والله بكل شيء عليم". قال: وذكر لنا أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا إنّ الآية التي أنزل الله في أول"سورة النساء" في شأن الفرائض، أنزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها"سورة النساء"، أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم. والآية التي ختم بها"سورة الأنفال"، أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرَّت الرحِم من العَصَبة. (1) 10866- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: سأل عمر بن الخطاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال: أليس قد بيَّن الله ذلك؟ قال: فنزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2) 10867- حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي= أو: سبْع، أنا أشكّ (3) = فدخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي، فأفقت وقلت: يا رسول الله، ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ (4) قال: أحسن! قلت: الشطر؟ قال: أحسن! ثم خرج وتركني، ثم رجع إليّ فقال:   (1) الأثر: 10865- هذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6: 31، وذكره ابن كثير في التفسير 2: 42، والدر المنثور 2: 251. (2) الأثر: 10866- ذكره ابن كثير في تفسيره 2: 42، ولم ينسبه لغير ابن جرير. (3) في المطبوعة: "أبو جعفر الذي يشك"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "بالثلث"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لرواية البيهقي، أما رواية أبي داود في سننه، فهي التي أثبتت في المطبوعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 يا جابر، إنِّي لا أُرَاك ميتًا من وجعك هذا، (1) وإن الله قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين. قال: فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2) 10868- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام= يعني الدستوائي= عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (3) 10869- حدثني المثنى قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: مرضت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودُني هو وأبو بكر وهما ماشيان، فوجدوني قد أغمي عليّ، (4) فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صبَّ عليّ من وَضوئه، فأفقت فقلت: يا رسول الله، كيف أقضي في مالي= أو: كيف أصنع في مالي؟ وكان له تسع أخوات، ولم يكن له والد ولا ولد.   (1) "لا أراك" بالبناء للمجهول (بضم الهمزة) : أي لا أظنك. (2) الأثر: 10867-"مؤمل بن هشام اليشكري"، هو"أبو هشام". روى عن إسمعيل بن علية، وكان صهره. روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. مترجم في التهذيب. و"إسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي" هو"ابن علية" سلف مرارًا كثيرة و"أبو الزبير" المكي، هو: "محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي"، مضى برقم: 2029، 3581، 8205. وهذا الأثر رواه أبو داود في السنن 3: 164 من طريق كثير بن هشام، عن هشام الدستوائي بلفظه. ورواه البيهقي في السنن 6: 231 من طرق، مطولا مختصرًا. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 240، مختصرًا وفيه"الثلثين" كما في مخطوطة الطبري. وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250، وزاد نسبته لابن سعد والنسائي. (3) الأثر: 10868- هو مكرر الأثر السالف، من طريق ابن أبي عدي، عن هشام. وهذا الخبر رواه الواحدي في أسباب النزول: 139، وساق لفظه، مع اختلاف يسير عن لفظ الأثر السالف. (4) قوله: "فوجدوني" هكذا ثبت في المطبوعة والمخطوطة، وهي في ألفاظ أخر"فوجدني". والذي في المخطوطة والمطبوعة صواب، لأنه يعني أبا بكر ورسول الله، ومن كان معهما، أو من كان في البيت. ولو حمله على الجمع وهو مثنى، لكان له وجه في العربية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 قال: فلم يجبني شيئًا حتى نزلت آية الميراث:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" إلى آخر السورة= قال ابن المنكدر: قال جابر: إنما أنزلت هذه الآية فيّ. (1) * * * وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه الآية هي آخر آية نزلت من القرآن. *ذكر من قال ذلك: 10870- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: سمعته يقول: إن آخر آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2)   (1) الأثر: 10869- خبر"محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله"، روي من طرق كثيرة، مضى من طريق شعبة، عن محمد بن المنكدر، مختصرًا برقم: 8730، ثم من طريق ابن جريج، عن محمد بن المنكدر رقم: 8731، بغير هذا اللفظ، مختصرًا، وانظر تخريجهما هناك. أما هذا، فرواه البخاري (الفتح 12: 2) بمثله، مع خلاف يسير في لفظه، وقد بين الحافظ ابن حجر في شرحه، ما فيه من الاختلاف. ورواه مسلم من طرق كثيرة، منها طريق سفيان، في صحيحه 11: 54-56. ورواه أبو داود في سننه 3: 164 من طريق أحمد بن حنبل، عن سفيان. ورواه الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح، رواه غير واحد، عن محمد بن المنكدر". ثم ساقه من طريق"الفضل بن صباح البغدادي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر"، ثم قال: "وفي حديث الفضل بن صباح كلام أكثر من هذا". وحديث الفضل بن صباح، رواه الترمذي قبل ذلك في (كتاب الفرائض) مطولا، وقال: "هذا حديث صحيح". ورواه البيهقي في السنن 6: 223، 224، ثم قال البيهقي: "وجابر بن عبد الله الذي نزلت فيه آية الكلالة، لم يكن له ولد ولا والد، لأن أباه قتل يوم أحد. وهذه الآية نزلت بعده". وذكره ابن كثير في تفسيره 2: 41، والسيوطي في الدر 2: 249، وزاد نسبته لابن سعد. وابن ماجه، وابن المنذر. (2) الأثر: 10870- يأتي برقم: 10871، 10873، من طريق أبي إسحق، عن البراء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 10871- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (1) 10872- حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال، حدثنا مالك بن مغول، عن أبي السفر، عن البراء قال: آخر آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2) 10873- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة"براءة"، وآخر آية، نزلت خاتمة"سورة النساء":"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (3) * * *   (1) الأثر: 10871- رواه مسلم في صحيحه 11: 58 عن علي بن خشرم، عن وكيع، بمثله. ثم ساقه من طرق أخرى، عن أبي إسحق عن البراء. والبيهقي في السنن 6: 224. (2) الأثر: 10872-"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 126، 6534. و"عبد الصمد بن النعمان البزاز". ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/51، 52 وقال، "سئل أبي عنه فقال: صالح الحديث صدوق". و"مالك بن مغول"، ثقة، مضى برقم: 5431. و"أبو السفر" هو: "سعيد بن يحمد الثوري" أو "سعيد بن أحمد"، مضى برقم: 3010. والخبر رواه مسلم 11: 59 من طريق عمرو الناقد، عن أبي أحمد الزبيري، عن مالك بن مغول. ورواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبد بن حميد، عن أبي نعيم، عن مالك بن مغول، وقال: "هذا حديث حسن". (3) الأثر: 10873- مكرر الأثرين السالفين: 10870، 10871. "هرون بن إسحق الهمداني" شيخ الطبري، مضى برقم: 3001. و"مصعب بن المقدام الخثعمي"، مضى برقم: 1291، 3001. وهذا الأثر من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 12: 22) . وفي المخطوطة هنا"خاتم سورة البقرة"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 واختلف في المكان الذي نزلت فيه الآية. فقال جابر بن عبد الله: نزلت في المدينة. وقد ذكرت الرواية بذلك عنه فيما مضى، بعضها في أول السورة عند فاتحة آية المواريث، وبعضها في مبتدإ الأخبار عن السبب الذي نزلت فيه هذه الآية. (1) * * * وقال آخرون: بل أنزلت في مسيرٍ كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. *ذكر من قال ذلك: 10874- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: نزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، والنبيّ في مسير له، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان، فبلَّغها النبي صلى الله عليه وسلم حُذيفة، وبلّغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه. فلما استُخلف عمر سأل عنها حذيفة، ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدِّثك فيها بما لم أحدِّثك يومئذ! فقال عمر: لم أرِد هذا، رحمك الله! 10875- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فقال له حذيفة: والله إنك لأحمق إن ظننتَ. 10876- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: كانوا في مسير، ورأسُ راحلة حذيفة عند رِدْف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ورأس راحلة عمر عند رِدْف   (1) يعني ما سلف رقم: 8730، 8731، ثم ما سلف قريبًا من: 10867- 10869. (2) "ردف الراحلة": كفل الدابة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 راحلة حذيفة. قال: ونزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، فلقَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة، فلقّاها حذيفة عمر. فلما كان بعد ذلك، سأل عمرُ عنها حذيفةَ فقال: والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقّانيها رسول الله فلقَّيْتُكها كما لقَّانيها، (1) والله لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا! قال: وكان عمر يقول: اللهم مَن كنتَ بيّنتها له، (2) فإنها لم تُبَيَّن لي. (3) * * * واختلف عن عمر في الكلالة، فروي عنه أنه قال فيها عند وفاته:"هو من لا ولد له ولا والد". وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في أول هذه السورة في آية الميراث. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "فلقنتكها" من"التلقين"، وهو صواب في المعنى، ولكن السياق يقتضي ما أثبته من المخطوطة، وهي فيها منقوطة. و"لقاه الآية": علمه الآية، ولقنه إياها. (2) في المطبوعة وابن كثير"إن كنت"، وأثبت ما في المخطوطة والدر المنثور، وهي صواب محض، وانظرها كذلك في الأثر الآتي رقم: 10892. (3) الآثار: 10874- 10876، ذكر الأثر الأخير منها ابن كثير في تفسيره 3: 44، ثم قال: "كذا رواه ابن جرير، ورواه أيضًا عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، كذلك بنحوه. وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة. وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا يوسف بن حماد المعنى، ومحمد بن مرزوق، قالا، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه قال: نزلت آية الكلالة.." وساق الخبر، ثم قال: "قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه إلا حذيفة، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى". قال ابن كثير: "وكذا رواه ابن مردويه". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 13، وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عبيدة بن حذيفة، ووثقه ابن حبان". وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250 قال: "أخرج العدني والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في الفرائض، بسند صحيح عن حذيفة" ثم ذكر الخبر. وعاد فخرجه في 2: 251، ونسبه لابن جرير، وعبد الرزاق، وابن المنذر، عن ابن سيرين، منقطعًا. (4) انظر رقم: 8745-8748، 8767 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 وروي عنه أنه قال قبل وفاته: هو ما خلا الأب. (1) *ذكر من قال ذلك: 10877- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال، قال عمر بن الخطاب: ما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم= أو: ما نازعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما نازعته في آية الكلالة، حتى ضرب صَدري وقال: يكفيك منها آية الصيف التي أنزلت في آخر"سورة النساء": (2) "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، وسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ ومن لا يقرأ، هو ما خلا الأب= كذا أحسب قال ابن عرفة= قال شبابة: الشك من شعبة. (3) * * * وروي عنه أنه قال:"إني لأستحيي أن أخالف فيه أبا بكر"، وكان أبو بكر يقول:"هو ما خلا الولد والوالد". وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه فيما مضى في أول السورة (4) * * * وروي عنه أنه قال عند وفاته:"قد كنت كتبت في الكلالة كتابًا،   (1) انظر رقم: 8745-8748، 8767. (2) قوله: "التي أنزلت في آخر سورة النساء" غير ثابت في المخطوطة، وهو ثابت في روايات الحديث التي ستأتي في التخريج. (3) الأثر: 10877- خبر سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن عمر سيرويه أبو جعفر من أربع طرق أخرى فيما سيأتي من رقم: 10884- 10887. وروى هذا الخبر من طريق شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة، مسلم في صحيحه 11: 57، إشارة. ورواه البيهقي في السنن 6: 224 بلفظه، وقال: "رواه مسلم عن زهير بن حرب". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 251، ولم ينسبه لغير ابن جرير، فقصر في نسبته. وانظر تخريج الآثار التالية التي أشرت إليها. (4) انظر ما سلف رقم: 8745-8749. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 وكنت أستخير الله فيه، وقد رأيت أن أترككم على ما كنتم عليه"، وأنه كان يتمنى في حياته أن يكون له بها علم. *ذكر من قال ذلك: 10878- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد المعمري، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب في الجدّ والكلالة كتابًا، فمكث يستخير الله فيه يقول:"اللهم إن علمت فيه خيرًا فأمضه"، حتى إذا طُعِن، دعا بكتاب فَمُحي، (1) فلم يدر أحدٌ ما كتب فيه، فقال:"إني كنت كتبت في الجدّ والكلالة كتابًا، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه". (2) 10879- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، بنحوه. (3) 10880- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال، حدثنا عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني قال، قال عمر: ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنهن لنا، أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، وأبواب الربا. (4)   (1) في المطبوعة: "بالكتاب فمحي"؛ بالتعريف، وهو كذلك في الدر المنثور، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لرواية ابن كثير في تفسيره. (2) الأثر: 10878- ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45 عن هذا الموضع من التفسير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 250، ونسبه لعبد الرزاق، ولم ينسبه لابن جرير، وقد رواه الطبري بنحوه في الأثر التالي: 10879. (3) الأثر: 10878- ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45 عن هذا الموضع من التفسير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 250، ونسبه لعبد الرزاق، ولم ينسبه لابن جرير، وقد رواه الطبري بنحوه في الأثر التالي: 10879. (4) الأثر: 10880- رواه أبو داود الطيالسي من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، مع اختلاف يسير في لفظه، مطولا. ورواه البيهقي في السنن من طريق أبي داود الطيالسي 6: 225. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 304 من طريق سفيان، عن عمرو بن مرة، بلفظ الطبري، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45، ولم ينسبه لغير الحاكم. وخرجه السيوطي في الدر 2: 251، 252، وزاد نسبته لعبد الرزاق، والعدني، وابن ماجه، والساجي. وقوله: "أبواب الربا"، أي: وجوه الربا وطرقه، وهذا اللفظ ليس فيما ذكرت من المراجع، فيها جميعًا"والربا". وانظر الأثر الآتي: 10883، والتعليق عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 10881- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش قال: سمعتهم يذكرون، ولا أرى إبراهيم إلا فيهم، عن عمر قال: لأن أكون أعلم الكلالة، أحبُّ إليّ من أن يكون لي مثل جزية قصور الروم. (1) 10882- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أخذ عمر كتِفًا وجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاءً تحدَّثُ به النساء في خدورهن! فخرجت حينئذ حيَّة من البيت، فتفرَّقوا، فقال: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمَّه. (2) 10883- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيان قال، حدثني الشعبي، عن ابن عمر قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب على منبر المدينة، فقال: أيها الناس، ثلاثٌ ودِدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارِقنا حتى يعهد إلينا فيهن عهدًا يُنتهى إليه: الجدّ، والكلالة، وأبواب الربا. (3)   (1) الأثر: 10881- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 251، ولم ينسبه لغير ابن جرير، وفيه"قصور الشأم"، وهما سواء في المعنى، ولكن العجب أنه نقله عن هذا الموضع من التفسير، وكتب مكان"الروم""الشأم". (2) الأثر: 10882- رواه البيهقي في السنن 6: 245، من طريق جرير عن الأعمش. مع اختلاف في لفظه. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 44، 45، ثم قال: "وهذا إسناد صحيح". وخرجه السيوطي 2: 250، ولم ينسبه لغير ابن جرير. وفي المخطوطة: "النساء في خدورها"، وهما سواء. (3) الأثر: 10883-"أبو حيان" هو: "يحيى بن سعيد التيمي"، مضى برقم: 5382، 5383، 6318، 8155. وهذا الخبر رواه البخاري مطولا (الفتح 10: 39-43) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن أبي حيان التيمي. ورواه مسلم في صحيحه 18: 165 من أربع طرق، من طريق علي بن مسهر، عن أبي حيان، ومن طريق ابن إدريس عن أبي حيان، ومن طريق ابن علية عن أبي حيان، ومن طريق عيسى بن يونس عن أبي حيان. ورواه البيهقي في السنن 6: 245/8: 289. وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 249، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن المنذر. وفي جميع المراجع: "وأبواب من أبواب الربا"، وانظر شرح ذلك في التعليق على الأثر: 10880 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 10884- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب قال: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألت عن الكلالة، حتى طَعَن بإصبعه في صدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر"سورة النساء". (1) 10885- حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن عمر قال: لن أدع شيئًا أهمَّ عندي من أمر الكلالة، فما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في صدري= أو قال: في جنبي= فقال: تكفيك الآية التي أنزلت في آخر"النساء". (2)   (1) الأثر: 10884- خبر سالم بن أبي الجعد، عن معدان، مضى برقم: 10877 من طريق شعبة عن قتادة. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11: 57 من طريق ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. ورواه أحمد في المسند رقم: 341 من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مطولا. ورواه أيضًا مطولا رقم: 89 من طريق عفان، عن همام بن يحيى، عن قتادة. ورواه مختصرًا رقم: 179 من طريق إسمعيل، عن سعيد بن أبي عروبة. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 241 من هذه الأخيرة من مسند أحمد، ولم يذكر شيئًا عن الطرق الأخرى، بل قال: "هكذا رواه مختصرًا، وأخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا"، مع أن أحمد أخرجه في مواضع مطولا كما ترى، وكما سيأتي في التعليق على رقم: 10887. (2) الأثر: 10885-"إبراهيم بن سعيد الجوهري"، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 3355، 3959. و"عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي"، ثقة صدوق مأمون، من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم: 8284، وهذا طريق آخر للأثر السالف. وفي المطبوعة: "لم أدع"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 10886- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة فقال: إنيّ والله ما أدع بعدي شيئًا هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن في نحري وقال:"تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء"، وإن أعِش أقض فيها بقضية لا يختلف فيها أحدٌ قرأ القرآن. (1) 10887- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن عمر بن الخطاب بنحوه. (2) 10888- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي يقول، أخبرنا أبو حمزة، عن جابر، عن الحسن بن مسروق، عن أبيه قال: سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لي وَرِث كلالة، فقال: الكلالة، الكلالة، الكلالة!! وأخذ بلحيته، ثم قال: والله لأن أعلمَها أحبَّ إلي من أن يكون لي ما على الأرض من شيء، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف؟ فأعادها ثلاث مرات. (3)   (1) الأثر: 10886- هذه طريق أخرى للأثرين السالفين، طريق سعيد بن أبي عروبة. (2) الأثر: 10887- رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه 11: 56. ورواه أحمد مطولا في المسند برقم: 186، وانظر التعليق على الآثار السالفة. (3) الأثر: 10888-"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق" ثقة، مضى برقم: 1591، 2575. وأبوه "علي بن الحسن بن شقيق" ثقة، مضى أيضًا برقم: 1591، 1909. و"أبو حمزة" هو السكري: "محمد بن ميمون" ثقة إمام، مضى برقم: 1591. و"جابر" هو"جابر الجعفي": جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، مضى برقم: 764، 858، 2340، ومواضع أخرى كثيرة. وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. أما "الحسن بن مسروق"، فلم أجد في الرواة من يسمى بهذا الاسم، وأما أبوه فكأنه يعني: "مسروق بن الأجدع الهمداني الوداعي". أحد المقرئين والمفتين.. روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة. وليس في الرواة عن مسروق من اسمه"الحسن"، ولا وجدت له ولدًا يقال"الحسن له ابن مسروق". ففي هذا الإسناد ما فيه من البلاء. وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 251، عن الحسن بن مسروق، عن أبيه كما هنا، ونسبه للطبري وحده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 10889- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة، فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) إلى آخر الآية؟ (1) 10890- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا إسحاق بن عيسى قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير: أن رجلا سأل عُقبة عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ يسألني عن الكلالة، وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة! (2) * * *   (1) الأثر: 10889-"أبو أسامة" هو: "حماد بن أسامة بن زيد الكوفي"، مضى برقم: 29، 51، 223، 2995، 5265. و"زكريا" هو: "زكريا بن أبي زائدة" مضى برقم: 112، 1219. و"أبو إسحق" هو السبيعي. و"أبو سلمة" هو: "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394. وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6: 224، من طريق يحيى بن آدم، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وقال: "حديث أبي إسحق عن أبي سلمة منقطع، وليس بمعروف". (2) الأثر: 10890-"إسحق بن عيسى بن نجيح" هو أبو يعقوب، ابن الطباع، مضى برقم: 2836. و"ابن لهيعة" مضى مرارًا. و"يزيد بن أبي حبيب المصري" ثقة مضى برقم: 4348، 5493. و"أبو الخير" هو: "مرثد بن عبد الله اليزني" الفقيه المصري، روى عن عقبة بن عامر الجهني، وكان لا يفارقه، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم من الصحابة. تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. وهذا الأثر رواه الدارمي في سننه 2: 366، من طريق عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب. وفي النسخة المطبوعة من الدارمي خطأ قال فيها"عن يزيد بن عبد الله اليزني"، والصواب"مرثد بن عبد الله"، وهو أبو الخير، كما سلف. وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. "أعضل الأمر" و"أعضل به الأمر": ضاق وأشكل، وضاق به ذرعًا لإشكاله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله جل ثناؤه:"وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة= ما خلا ابن عباس وابن الزبير رحمة الله عليهما= على أن الميت لو ترك ابنةً وأختًا، أن لابنته النصف، وما بقي فلأختِه، إذا كانت أخته لأبيه وأمه، أو لأبيه؟ وأين ذلك من قوله:"إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، وقد ورَّثوها النصف مع الولد؟ قيل: إنّ الأمر في ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه. إنما جعل الله جل ثناؤه بقوله:"إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى، وكان موروثًا كلالة، النصفَ من تركته فريضةً لها مسمَّاة. فأما إذا كان للميت ولد أنثى، فهي معها عصبة، يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها، لو لم تكن. وذلك غير محدود بحدٍّ، ولا مفروض لها فرضَ سهام أهل الميراث بميراثهم عن ميِّتهم. ولم يقل الله في كتابه:"فإن كان له ولد فلا شيء لأخته معه"، فيكون لما روي عن ابن عباس وابن الزبير في ذلك وجهٌ يوجَّه إليه. وإنما بيَّن جل ثناؤه، مبلغ حقِّها إذا وُرث الميت كلالةً، وترك بيان ما لها من حق إذا لم يورث كلالةً في كتابه، وبيَّنه بوحيه على لسان رسوله صلى الله عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 وسلم، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت. وذلك معنًى غير معنى وراثتها الميت، إذا كان موروثًا كلالةً. * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأخو المرأة يرثها إن ماتت قبله، إذا وُرِثت كلالة، (1) ولم يكن لها ولد ولا والد. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن كانتا اثنتين"، فإن كانت المتروكة من الأخوات لأبيه وأمه أو لأبيه="اثنتين" فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الميت، إذا لم يكن له ولد، وورث كلالة="وإن كانوا إخوة"، يعني: وإن كان المتروكون من إخوته="رجالا ونساء فللذكر" منهم بميراثهم عنه من تركته="مثل حظ الأنثيين"، يعني: مثل نصيب اثنتين من أخواته. (2) وذلك إذا ورث كلالةً، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه، أو: لأبيه. * * *   (1) في المطبوعة: "إذا ورث كلالة"، والصواب ما أثبت من المخطوطة. (2) انظر تفسير"مثل حظ الأنثيين" فيما سلف: 8: 30-34. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 القول في تأويل قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يبين الله لكم قسمة مواريثكم، وحكم الكلالة، وكيف فرائضهم="أن تضلوا"، بمعنى: لئلا تضلوا في أمر المواريث وقسمتها، أي: لئلا تجوروا عن الحق في ذلك وتخطئوا الحكم فيه، فتضلّوا عن قصد السبيل، (1) كما:- 10891- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يبين الله لكم أن تضلوا"، قال: في شأن المواريث. 10892- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد المعمري= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق= قالا جميعًا، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان عمر إذا قرأ:"يبين الله لكم أن تضلوا" قال: اللهم مَنْ بَيَّنت له الكلالة، فلم تُبَيَّن لي. (2) * * * قال أبو جعفر: وموضع"أن" في قوله:"يبين الله لكم أن تضلوا"، نصبٌ، في قول بعض أهل العربية، لاتصالها بالفعل. * * * وفي قول بعضهم: خفضٌ، بمعنى: يبين الله لكم بأن لا تضلوا، ولئلا تضلوا= وأسقطت"لا" من اللفظ وهي مطلوبة في المعنى، لدلالة الكلام عليها. والعرب تفعل ذلك، تقول:"جئتك أن تلومني"، بمعنى: جئتك أن لا تلومني، كما قال القطامي في صفة ناقة:   (1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) الأثر: 10892- انظر الأثر السالف رقم: 10876. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 رَأَيْنَا مَا يَرَى البُصَراءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْها أَنْ تُبَاعَا (1) بمعنى: أن لا تباع. * * * القول في تأويل قوله: {وَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله بكل شيء" من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها، وجميع الأشياء="عليم"، يقول: هو بذلك كله ذو علم. (2) * * * (آخر تفسير سورة النساء) والحمد الله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم * * *   (1) ديوانه 43، وقد سلف من هذه القصيدة أبيات في 1: 116/7: 557، يصف ناقته لما بلغت مبلغها واستوت كما وصفها، فيقول: لما رأينا كرمها وحسنها حلفنا عليها أن لا تباع، لنفاستها علينا. (2) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 تفسير سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين * * * القول في تأويل قوله عز ذكره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا"، يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهة (1) وصدَّقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه ="أوفوا بالعقود"، يعني: أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربَّكم، والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا، فأتمُّوها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكُثُوها فتنقضوها بعد توكيدها. (2) * * * واختلف أهل التأويل في"العقود" التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية، بعد إجماع جميعهم على أن معنى"العقود"، العهود. فقال بعضهم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضًا على النُّصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءًا، وذلك هو معنى"الحلف" الذي كانوا يتعاقدونه بينهم. ذكر من قال: معنى"العقود"، العهود. 10893- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) في المطبوعة: "الألوهية"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"أوفى" فيما سلف 1: 557/3: 348/6: 526. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أوفوا بالعقود"، يعني: بالعهود. 10894- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود. 10895- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10896- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. (1) 10897- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرّف بن الشخِّير وعنده رجل يحدثهم، فقال:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود. (2) 10898- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود. 10899- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود. 10900- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"أوفوا بالعقود"، بالعهود.   (1) الأثر: 10896- في المخطوطة: "حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن أبي سفيان، عن رجل ... " وهو خطأ وسهو، وهو إسناد دائر في التفسير: سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن سفيان الثوري. (2) الأثر: 10897-"عبيد الله"، هو"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي""باذام"، مضت ترجمته برقم: 2092، 2219، 5796، 7758. وكان في المطبوعة هنا: "عبيد الله عن ابن أبي جعفر الرازي"، وهو خطأ سيأتي على الصواب في الأسانيد التالية رقم: 10935، 10957، 10963. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 10901- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"أوفوا بالعقود"، قال: بالعهود. 10902- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود. 10903- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، سمعت الثوري يقول:"أوفوا بالعقود"، قال: بالعهود. 10904- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. * * * قال أبو جعفر: و"العقود" جمع"عَقْدٍ"، وأصل"العقد"، عقد الشيء بغيره، وهو وصله به، كما يعقد الحبل بالحبلِ، إذا وصل به شدًّا. يقال منه:"عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا، فهو يعقده"، ومنه قول الحطيئة: قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا (1)   (1) ديوانه: 6، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 145، اللسان (كرب) (عنج) ، من قصيدته التي قالها في الزبرقان بن بدر، وبغيض بن عامر من بني أنف الناقة، فمدح بغيضًا وقومه فقال: قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ، وَالأَذْنَابُ غَيْرهُمُ، ... وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا! قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ العَيْنِ جَارُهُمُ ... إذَا لَوَى بقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا ........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هذا مثل ضربه يقول: إذا عقدوا للجار عقدًا وذمامًا، أحكموا على أنفسهم العقد، حتى يكون أقر عينًا بنصرتهم له، وحمايتهم لعرضه وماله. وضرب المثل بالدلو، التي يستقي بها وينتفع. و"العناج": خيط يشد في أسفل الدلو، ثم يشد في عروتها، أو في أحد آذانها، فإذا انقطع حبل الدلو، أمسك العناج الدلو أن تقع في البئر. و"الكرب" الحبل الذي يشد على الدلو بعد"المنين" وهو الحبل الأول، فإذا انقطع المنين بقي الكرب. فهذا هو المثل، استوثقوا له بالعهد، كما استوثقوا لدلوه بالحبل بعد الحبل حتى تكون بمأمن من القطع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 وذلك إذا وَاثقه على أمر وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده عليه، من أمان وذِمَّة، أو نصرة، أو نكاح، أو بيع، أو شركة، أو غير ذلك من العقود. * * * ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله:"أوفوا بالعقود". 10905- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، أي: بعقد الجاهلية. ذُكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام. وذكر لنا أن فرات بن حيَّان العِجلي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسأل عن حِلْف لخْمٍ وتَيْم الله؟ فقال: نعم، يا نبي الله! قال: لا يزيده الإسلام إلا شدة. 10906- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"أوفوا بالعقود"، قال: عقود الجاهلية: الحلف. * * * وقال آخرون: بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته، فيما أحل لهم وحرم عليهم. *ذكر من قال ذلك: 10907- حدثني المثنى قال، أخبرنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أوفوا بالعقود"، يعني: ما أحل وما حرّم، وما فرض، وما حدَّ في القرآن كله، فلا تغدِروا ولا تنكُثوا. ثم شدَّد ذلك فقال: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إلى قوله: (سُوءُ الدَّارِ) [سورة الرعد: 35] . 10908- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أوفوا بالعقود"، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرَّم عليهم. * * * وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، ويعقدها المرء على نفسه. *ذكر من قال ذلك: 10909- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: العقود خمس: عُقدة الأيمان، وعُقدة النكاح، وعقدة العَهد، وعقدة البيع، وعقدة الحِلْف. 10910- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي = أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة، نحوه. 10911- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: عقد العهد، وعقد اليمين وعَقد الحِلْف، وعقد الشركة، وعقد النكاح. قال: هذه العقود، خمس. 10912- حدثني المثنى قال، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال، حدثنا أبي في قول الله جل وعز:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: العقود خمس: عقدة النكاح، وعقدة الشركة، وعقد اليمين، وعقدة العهد، وعقدة الحلف. (1) * * * وقال آخرون: بل هذه الآية أمرٌ من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله.   (1) الأثر 10912-"عتبة بن سعيد الحمصي" مضى برقم: 8966. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 *ذكر من قال ذلك: 10913- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب: أن يعملوا بما جاءهم. 10914- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال، قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نَجْران (1) فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، فيه:"هذا بيان من الله ورسوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، فكتب الآيات منها حتى بلغ"إن الله سريع الحساب". (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبَهَا عليكم، وعقدها فيما أحلَّ لكم وحرم عليكم، وألزمكم فرضه، وبيَّن لكم حدوده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيانَ عما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أوجب عليهم من فرائضه. فكان معلومًا بذلك أن قوله:"أوفوا بالعقود"، أمرٌ منه عبادَه بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك، ونَهْيٌ منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه، مع أن قوله:"أوفوا بالعقود"، أمرٌ منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه، فغير جائز أن يخصَّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذْ كان الأمر في ذلك كما وصفنا، فلا معنى لقول من وجَّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمرَ الله بالوفاء بها دون بعض. * * *   (1) في المطبوعة: "بعثه إلى نجران"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 10914- روى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو جعفر في التاريخ 3: 157، وهو في سيرة ابن هشام 4: 241، وفتوح البلدان للبلاذري: 77، وغيرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 وأما قوله:"أوفوا" فإن للعرب فيه لغتين: إحداهما:"أوفوا"، من قول القائل:"أوفيت لفلان بعهده، أوفي له به". والأخرى من قولهم:"وفيت له بعهده أفي". (1) و"الإيفاء بالعهد"، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة. * * * القول في تأويل قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"بهيمة الأنعام" التي ذكر الله عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا. فقال بعضهم: هي الأنعام كلها. *ذكر من قال ذلك: 10915- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن قال: بهيمة الأنعام، هي الإبل والبقر والغنم. 10916- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها. 10917- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا ابن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها. 10918- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها. (2) 10920- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،   (1) انظر تفسير"أوفى" فيما سلف 1: 557-559/3: 348/6: 526. (2) سقط من الترقيم، رقم: 10919. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بهيمة الأنعام"، هي الأنعام. * * * وقال آخرون: بل عنى بقوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها -إذا نحرت أو ذبحت- ميتةً. *ذكر من قال ذلك: 10921- حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري، عن عطية العوفي، عن ابن عمر في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام". قال: ما في بطونها. قال قلت: إن خرج ميتًا أكله؟ قال: نعم. 10922- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إدريس الأودي، عن عطية، عن ابن عمر نحوه = وزاد فيه قال: نعم، هو بمنزلة رئتها وكبدها. 10923- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الجنين من بهيمة الأنعام، فكلوه. 10924- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر = وسفيان، عن قابوس = عن أبيه، عن ابن عباس: أن بقرة نحرت فوُجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنَب الجنين فقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أحلّت لكم. 10925- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هو من بهيمة الأنعام. 10926- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن قابوس، عن أبيه قال: ذبحنا بقرة، فإذا في بطنها جنين، فسألنا ابن عباس فقال: هذه بهيمة الأنعام. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: عنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 بقوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، الأنعام كلها: أجنَّتها وسِخَالها وكبارها. (1) لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك"بهيمة وبهائم"، ولم يخصص الله منها شيئًا دون شيء. فذلك على عمومه وظاهره، حتى تأتى حجة بخصوصه يجب التسليم لها. * * * وأما"النعم" فإنها عند العرب، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة، كما قال جل ثناؤه: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ، [سورة النحل: 5] ، ثم قال: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [سورة النحل: 8] ، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان. (2) وأما"بهائمها"، فإنها أولادها. وإنما قلنا يلزم الكبار منها اسم"بهيمة"، كما يلزم الصغار، لأن معنى قول القائل:"بهيمة الأنعام"، نظير قوله:"ولد الأنعام". فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر. * * * وقد قال قوم:"بهيمة الأنعام"، وحشيُّها، كالظباء وبقر الوحش والحُمُر. (3) * * * القول في تأويل قوله: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله:"إلا ما يتلى عليكم". فقال بعضهم: عنى الله بذلك: أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم، إلا ما بيَّن الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) ، الآية [سورة المائدة: 3] . *ذكر من قال ذلك: 10927- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) "السخال" جمع"سخلة" (بفتح فسكون) : وهي ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرًا كان أو أنثى. (2) انظر تفسير"الأنعام" فيما سلف 6: 254. (3) هي مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 298. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، إلا الميتة وما ذكر معها. 10928- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، أي: من الميتة التي نهى الله عنها، وقدَّم فيها. 10929- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا ما يتلى عليكم"، قال: إلا الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه. 10930- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا ما يتلى عليكم"، الميتة والدم ولحم الخنزير. 10931- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، الميتة ولحم الخنزير. 10932- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، هي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به. * * * وقال آخرون: بل الذي استثنى الله بقوله:"إلا ما يتلى عليكم"، الخنزير. ذكر من قال ذلك. 10933- حدثني عبد الله بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"إلا ما يتلى عليكم"، قال: الخنزير. 10934- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، يعني: الخنزير. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من قال:"عنى بذلك: إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرّم عليكم بقوله:"حرمت عليكم الميتة"، الآية. لأن الله عز وجل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام، ما حرَّم عليهم منها. والذي حرّم عليهم منها، ما بيّنه في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ) [سورة المائدة: 3] . وإن كان حرَّمه الله علينا، فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها. فاستثناء ما حرَّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء، أشبهُ من استثناء ما حرَّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء. * * * القول في تأويل قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" ="غير محلي الصيد وأنتم حرم" ="أحلت لكم بهيمة الأنعام" فذلك، على قولهم، من المؤخر الذي معناه التقديم. فـ"غير" منصوب = على قول قائلي هذه المقالة = على الحال مما في قوله:"أوفوا" من ذكر"الذين آمنوا". وتأويل الكلام على مذهبهم: أوفوا، أيها المؤمنون، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه، لا محلّين الصيد وأنتم حرم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر ="غير محلي الصيد"، غير مستحلِّي اصطيادها، وأنتم حرم إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 ما يتلى عليكم". فـ"غير"، على قول هؤلاء، منصوب على الحال من"الكاف والميم" اللتين في قوله:"لكم"، بتأويل: أحلت لكم، أيها الذين آمنوا، بهيمة الأنعام، لا مستحلِّي اصطيادها في حال إحرامكم. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ="إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد، فلا يحل لكم وأنتم حرم. فكأن من قال ذلك، وجَّه الكلام إلى معنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ="إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما يبين لكم من وحشيها، غيرَ مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم. فتكون"غير" منصوبة، على قولهم، على الحال من"الكاف والميم" في قوله:"إلا ما يتلى عليكم". *ذكر من قال ذلك: 10935- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخير، وعنده رجل، فحدّثهم فقال:"أحلت لكم بهيمة الأنعام" صيدًا ="غير محلي الصيد وأنتم حرم"، فهو عليكم حرام. يعني: بقر الوحش والظباءَ وأشباهه. (2) 10936- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم"، قال: الأنعام كلها حِلٌّ، إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد، فلا يحل إذا كان مُحْرِمًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب = على ما تظاهر به تأويل   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 298. (2) انظر الإسناد السالف رقم: 10897، وكان هناك عن"ابن أبي جعفر الرازي"، وهذا هو الإسناد الصحيح، صححت ذلك عليه. وسيأتي برقم: 10957، 10963. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 أهل التأويل في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، من أنها الأنعام وأجنَّتها وسخالها، وعلى دلالة ظاهر التنزيل = قولُ من قال: معنى ذلك: أوفوا بالعقود، غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم، وما أهل لغير الله به. وذلك أن قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، لو كان معناه:"إلا الصيد"، لقيل:"إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه". وفي ترك الله وَصْلَ قوله:"إلا ما يتلى عليكم" بما ذكرت، وإظهار ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد"، أوضحُ الدليل على أن قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، خَبَرٌ متناهية قصته، وأن معنى قوله:"غير محلي الصيد"، منفصل منه. وكذلك لو كان قوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) ، مقصودًا به قصد الوحش، لم يكن أيضًا لإعادة ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد" وَجْهٌ، وقد مضى ذكره قبل، ولقيل:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلِّيه وأنتم حرم". وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد"، أبينُ الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك. * * * فإن قال قائل: فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه؟ قيل: ذلك من فعلها ضرورة شعر، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم. وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته، أولى = ما وُجد إلى ذلك سبيل = من صرفه إلى غير ذلك. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم وأحلّ، لا محلين الصيد في حرمكم، ففيما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها، متَّسع لكم ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله يقضي في خلقه ما يشاء (1) من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه = فأوفوا، أيها المؤمنون، له بما عقدَ عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرّم عليكم، وغير ذلك من عقوده، فلا تنكثوها ولا تنقضوها. كما:- 10937- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الله يحكم ما يريد"، إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبيّن لعباده، وفرض فرائضه، وحدَّ حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله:"لا تحلوا شعائر الله". فقال بعضهم معناه: لا تحلوا حُرُمات الله، ولا تتعدَّوا حدوده = كأنهم وجهوا"الشعائر" إلى المعالم، وتأولوا"لا تحلوا شعائر الله"، معالم حدود الله، وأمرَه ونهيَه وفرائضَه. [ذكر من قال ذلك] : (2) 10938- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا حبيب المعلم، عن عطاء: أنه سئل عن"شعائر الله" فقال: حُرُمات الله، اجتناب سَخَطِ الله، واتباع طاعته، فذلك"شعائر الله". * * *   (1) انظر تفسير"حكم" فيما سلف: ص 324: تعليق: 3. (2) ما بين القوسين زيادة ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وأثبتها على نهج أبي جعفر في تفسيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 وقال آخرون: معنى ذلك: (1) لا تحلوا حَرَم الله = فكأنهم وجهوا معنى قوله:"شعائر الله"، أي: معالم حرم الله من البلاد. *ذكر من قال ذلك: 10939- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال: أما"شعائر الله"، فحرَم الله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلّوا مناسك الحج فتضيعوها = وكأنهم وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حدَّها لكم في حجِّكم. *ذكر من قال ذلك: 10940- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قال: مناسك الحج. 10941- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال: كان المشركون يحجّون البيت الحرام، ويهدُون الهدايا، ويعظِّمون حرمة المشاعر، ويتَّجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يُغَيِّروا عليهم، فقال الله عز وجل:"لا تحلوا شعائر الله". 10942- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"شعائر الله"، الصفا والمروة، والهَدْي، والبُدْن، كل هذا من"شعائر الله".   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "معنى قوله"، وهو لا يستقيم، وما أثبت أشبه بالصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 10943- حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا ما حرَّم الله عليكم في حال إحرامكم. *ذكر من قال ذلك: 10944- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قال:"شعائر الله"، ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرِم. * * * = وكأن الذين قالوا هذه المقالة، وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حرّمها عليكم في إحرامكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بقوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قول عطاء الذي ذكرناه (1) من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه. * * * لأن"الشعائر" جمع"شعيرة"،"والشعيرة""فعيلة" من قول القائل:"قد شعر فلان بهذا الأمر"، إذا علم به. فـ"الشعائر"، المعالم، من ذلك. (2) * * * وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: لا تستحلوا، أيها الذين آمنوا، معالم الله = فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج: من تحريم ما حرَّم الله إصابته فيها على المحرم، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفيما حرَّم من استحلال حُرمات حَرَمه، وغير ذلك من حدوده وفرائضه، وحلاله وحرامه، لأن   (1) هو الأثر السالف رقم: 10938. (2) انظر تفسير"شعائر الله" فيما سلف 3: 226-228. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أماراتٍ بين الحق والباطل، يُعْلَم بها حلالُه وحرامه، وأمره ونهيه. وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى:"لا تحلوا شعائر الله"، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها نهيًا عامًّا، من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء، فلم يَجُز لأحد أن يوجِّه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك كذلك. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا الشهر الحرام"، ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءَكم من المشركين (1) وهو كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [سورة البقرة: 217] . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره. *ذكر من قال ذلك: 10945- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا الشهر الحرام"، يعني: لا تستحلوا قتالا فيه. 10946- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. * * *   (1) في المطبوعة: "بقتالكم به"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 وأما"الشهر الحرام" الذي عناه الله بقوله:"ولا الشهر الحرام"، فرجب مُضَر، وهو شهر كانت مضر تحرِّم فيه القتال. * * * وقد قيل: هو في هذا الموضع"ذو القعدة". *ذكر من قال ذلك: 10947- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: هو ذو القعدة. * * * وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى، وذلك في تأويل قوله:"يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه". (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} قال أبو جعفر:"أما الهدي"، فهو ما أهداه المرء من بعيرٍ أو بقرة أو شاة أو غير ذلك، إلى بيت الله، تقرُّبا به إلى الله، وطلبَ ثوابه. (2) * * * يقول الله عز وجل: فلا تستحلوا ذلك، فتغصبوه أهله غَلَبةً (3) ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلُغوا به المحِلَّ الذي جعله الله جل وعزّ مَحِلَّه من كعبته.   (1) انظر ما سلف في"الشهر الحرام" 4: 229، 300، وما بعدها، وهو الموضع الذي ذكره، ثم قبله 3: 575-579. وتفسير"الشهر" فيما سلف 3: 440. (2) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف 4: 24، 25. (3) في المطبوعة: "فتغصبوا أهله عليه"، وفي المخطوطة كما كتبتها، إلا أن كتب"عليه" بالياء، ووضع فتحة على العين، وفتحة على اللام، وظاهر أن"الياء" إنما هي"باء"، وأن الناسخ لما رآها مضبوطة في النسخة الأم نقل الشكل، ووضع الإعجام من عند نفسه. هذا وصواب الكلام يقتضي أيضًا ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 وقد روي عن ابن عباس أن"الهدي" إنما يكون هديًا ما لم يُقَلَّد. 10948- حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا الهدي"، قال: الهدي ما لم يقلَّد، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلِّده. * * * وأما قوله:"ولا القلائد"، فإنه يعني: ولا تحلوا أيضًا القلائد. * * * ثم اختلف أهل التأويل في"القلائد" التي نهى الله عز وجل عن إحلالها. فقال بعضهم: عنى بـ "القلائد"، قلائدَ الهدي. وقالوا: إنما أراد الله جل وعز بقوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، ولا تحلوا الهدايا المقلَّدات منها وغير المقلَّدات. فقوله:"ولا الهدي"، ما لم يقلّد من الهدايا ="ولا القلائد"، المقلّد منها. قالوا: ودلّ بقوله:"ولا القلائد"، على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلّدة. *ذكر من قال ذلك: 10949- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا القلائد"، القلائد، مقلَّدات الهدي. وإذا قلَّد الرجل هديه فقد أحرم. فإن فعل ذلك وعليه قميصه، فليخلَعْه. * * * وقال آخرون: يعني بذلك: القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة، من لِحَاء السَّمُر (1) = وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، من الشَّعَر.   (1) "لحاء الشجرة" (بكسر اللام) : قشرها. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم) : ضرب من الشجر، صغار الورق، قصار الشوك، وله برمة صفراء يأكلها الناس، وليس في العضاء شيء أجود خشبًا منه. ينقل إلى القرى، فتغمى به البيوت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 *ذكر من قال ذلك: 10950- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، قال: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلَّد من السَّمُر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلَّد قِلادة شَعَر، فلم يعرض له أحد. * * * وقال آخرون: بل كان الرجل منهم يتقلّد = إذا أراد الخروج من الحرم، أو خرج = من لحاء شجر الحرم، فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء. *ذكر من قال ذلك: 10951- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مالك بن مغول، عن عطاء:"ولا القلائد"، قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم، فنزلت:"لا تحلوا شعائر الله"، الآية،"ولا الهدي ولا القلائد". 10952- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا القلائد"، قال:"القلائد"، اللحاء في رقاب الناس والبهائم، أمْنٌ لهم. 10953- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10954- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، قال: إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، فأراد أن يرجع إلى أهله، قلَّد نفسه وناقته من لحاء الشجر، فيأمن حتى يأتي أهله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 10955- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ولا القلائد"، قال:"القلائد"، كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم، فيتقلدها، ثم يذهب حيث شاء، فيأمن بذلك. فذلك"القلائد". * * * وقال آخرون: إنما نهى الله المؤمنين بقوله:"ولا القلائد"، أن ينزعوا شيئًا من شجر الحرم فيتقلّدوه، كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم. *ذكر من قال ذلك: 10956- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لحاء السَّمُر، فيتقلدونها، فيأمنون بها من الناس. فنهى الله أن ينزع شجرها فَيُتَقَلَّد. 10957- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مُطرِّف بن الشخير، وعنده رجل فحدّثهم في قوله:"ولا القلائد"، قال: كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لِحاء السمر، فيتقلدون، فيأمنون بها في الناس. فنهى الله عز ذكره أن يُنزع شجرها فيتقلَّد. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله:"ولا القلائد" = إذ كانت معطوفة على أول الكلام، ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء = أن يكون معناه: ولا تُحِلّوا القلائد. فإذا كان ذلك بتأويله أولى، فمعلوم أنه نَهْيٌ من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلَّد، هديًا كان ذلك أو إنسانًا، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة، على ما ذكرنا من حرمة المقلَّد، فاجتزأ بذكره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 "القلائد" من ذكر"المقلد"، إذ كان مفهومًا عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به. * * * فمعنى الآية = إذ كان الأمر على ما وصفنا =: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا المقلِّد نفسَه بقلائد الحرم. (1) * * * وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأوَّل"القلائد" أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلَّدونه، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلَّدا ذلك: (2) أَلَمْ تَقْتُلا الْحِرْجَيْنِ إذْ أَعْوَراكُمَا ... يُمِرَّانِ بِالأيْدِي اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا (3) و"الحرجان"، المقتولان كذلك. ومعنى قوله:"أعوراكما"، أمكناكما من عورتهما. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "ولا المقلد بقسميه"، وهو لا معنى له، والصواب ما في المخطوطة. يعني: الذي يقلد نفسه قلادة من شجر أو شعر، ليأمن، كما ذكر آنفًا، وانظر الفقرة التالية. (2) القائل هو حذيفة بن أنس الهذلي. (3) أشعار الهذليين 3: 19، والمعاني الكبير: 1120، واللسان (حرج) . و"الحرج" (بكسر الحاء وسكون الراء) : الودعة، قالوا: عنى بالحرجين: رجلين أبيضين كالودعة، فإما أن يكون البياض لونهما، وإما أن يكون كنى بذلك عن شرفهما. وقال شارح ديوانه: "ويكون أيضًا الحرجان، رجلين يقال لهما: الحرجان". و"أمر الحبل يمره": فتله. و"اللحاء"، قشر الشجر. و"المضفر" الذي جدل ضفائر. هذا وقد ذكر أبو جعفر أن الشعر في رجلين قتلا رجلين، وروى"ألم تقتلا"، والذي في المراجع"ألم تقتلوا"، وهو الذي يدل عليه سياق الشعر، فإن أوله قبل البيت: ألا أبْلِغَا جُلَّ السَّوَارِي وَجابرًا ... وَأَبْلِغْ بَني ذِي السَّهْم عَنِّي وَيَعْمَرَا وَقُولا لَهُمْ عَنِّي مَقَالَةَ شَاعِرٍ ... أَلَمّ بقَوْلٍ، لَمْ يُحَاوِلْ لِيَفْخَرَا لَعَلَّكُمْ لَمَّا قَتَلْتُمْ ذَكَرْتُمُ ... وَلَنْ تَتْرُكُوا أَنْ تَقْتُلُوا، مَنْ تَعَمَّرَا فالشعر كله بضمير الجمع. وسببه أن جندبًا، أخو البريق بن عياض اللحياني، قتل قيسًا وسالمًا ابني عامر بن عريب الكنانيين، وقتل سالم جندبًا، اختلفا ضربتين. (4) رواية أبي جعفر كما شرحها"أعوراكما"، ورواية الديوان"أعورا لكم"، وهي في سياق لمشعر، ورواية اللسان: "أعرضا لكم"، ويروي"عورا لكم" بتشديد الواو. هذا على أن هذه الرواية: "أعور" متعديًا، والذي كتب في اللغة"أعور لك الشيء فهو معور". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 القول في تأويل قوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} (1) قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره:"ولا آمين البيت الحرام"، ولا تحلُّوا قاصدي البيت الحرام العامدية. (2) * * * تقول منه:"أممت كذا"، إذا قصدته وعمدته، وبعضهم يقول:"يَمَمْته" (3) كما قال الشاعر: (4) إنِّي كَذَاكَ إذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ ... يَمَمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا (5) * * * "والبيت الحرام"، بيت الله الذي بمكة، وقد بينت فيما مضى لم قيل له"الحرام". (6) * * * ="يبتغون فضلا من ربهم"، يعني: يلتمسون أرباحًا في تجاراتهم من الله   (1) كان في المطبوعة والمخطوطة: "ولا آمين البيت الحرام"، ولم يأت بقية ما شرح من الآية في هذا الموضع. فزدت ما شرحه هنا. هذا على أنه سيعود إلى شرحه مرة أخرى في ص: 479. وهذا غريب جدًا، لا أدري كيف وقع لأبي جعفر، فلعله نسي، أو أخذه ما يأخذه الناس من التعب عند هذا الموضع، ثم عاد إليه فلم يغير، ثم ابتدأ الكلام في تفسير بقية الآية، وترك ما مضى. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا تحلوا قاصدين البيت"، وهو خطأ، كما يدل عليه السياق. والصواب ما أثبته. (3) انظر تفسير"أم يؤم" فيما سلف 5: 558/8: 407. وقوله: "يممته" ثلاثي، بفتح الياء والميم الأولى وسكون الثانية: مثل"ضربت". (4) لم أعرف قائله. (5) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 146. (6) انظر ما سلف 3: 44-51. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 ="ورضوانًا"، يقول: وأن يرضى الله عنهم بنسكهم. * * * وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له:"الحُطَمُ". *ذكر من قال ذلك: 10958- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أقبل الحُطم بن هند البكري، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة (1) حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وخَلَّف خيله خارجة من المدينة. فدعاه، فقال: إلام تدعو؟ فأخبره = وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان! = فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال: انظر، ولعلّي أسلم (2) ولي من أشاوره. فخرج من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعَقِب غادرٍ! فمرَّ بسَرْح من سَرْح المدينة فساقه، فانطلق به وهو يرتجز (3)   (1) "الحطم" لقب، واسمه: "شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، من بكر بن وائل" (جمهرة الأنساب: 301) ، وهذا"الحطم"، خرج في الردة، في السنة الحادية عشرة، فيمن تبعه من بكر بن وائل، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرًا، فخرج بهم حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط، ومن فيها من الزط والسيابجة. وحاصر المسلمين حصارًا شديدًا. فتجمع المسلمون جميعًا إلى العلاء بن الحضرمي، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم. ثم بيتهم المسلمون وقتلوا الحطم ومن معه في خبر طويل (انظر تاريخ الطبري 3: 254-260) . وقوله هنا: "الحطم بن هند"، أتى بذكر أمه من الشعر الآتي، واسم أبيه هو ما مر بك آنفًا، وهي: "هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد" (رغبة الآمل 4: 75) . (2) في المطبوعة والمخطوطة: "انظروا لعلي أسلم"، وليس بشيء، والصواب ما أثبت، ويؤيده كلامه الآتي في الخبر التالي. (3) اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافًا كثيرًا، فنقل التبريزي في شرح الحماسة (1: 185) خبر رشيد بن رميض العنزي (بفتح العين، وسكون النون) من بني عنز بن وائل، بلا شك عندي في ذلك. قال التبريري: "قالها في غارة الحطم، وهو شريح بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد، أغار على اليمن، فقتل وليعة بن معد يكرب، أخا قيس، وسبى بنت قيس بن معد يكرب، أخت الأشعث بن قيس، فبعث الأشعث يعرض عليه في فدائها، بكل قرن من قرونها (ضفائرها) مئة من الإبل. فلم يفعل الحطم، وماتت عنده عطشًا. (وانظر غير ذلك في الأغاني 14: 44) . ونسبت أيضًا للأغلب العجلي، وللأخنس بن شهاب، ولجابر بن حني التغلبي. وانظر ذلك في تحقيق أستاذنا الراجكوتي، سمط اللآلئ: 729. ولعل"الحطم" أنشده مدحًا لنفسه فيما فعل من سوق السرح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ ... لَيْسَ بِرَاعِي إبِلٍ وَلا غَنَم ... وَلا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ الوَضَمْ ... بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ ... بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلامٌ كَالزَّلَمْ ... خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ (1) ثم أقبل من عام قابلٍ حاجًّا قد قلَّد وأهدى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية، حتى بلغ:"ولا آمين البيت الحرام". قال له ناس من أصحابه: يا رسول الله، خلِّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا! قال: إنه قد قلَّد! قالوا: إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم، فنزلت هذه الآية. 10959- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: قدم الحُطَم، أخو بني ضُبيعة بن ثعلبة البكري، المدينةَ في عِير له يحمل طعامًا، فباعه. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم   (1) البيان والتبيين 2: 308، الأغاني 14: 44، حماسة أبي تمام 1: 184، حماسة ابن الشجري: 38، الكامل 1: 224 (ونسبه للحطم في ص: 227) ، الخيل لابن الأعرابي 86، واللسان (حطم) وغيرها، وقبل هذا الرجز: هذَا أوانُ الشَّدِّ، فَاشْتَدِّي زِيَمْ و"زيم" اسم فرس. وقوله: "حطم" شديد الحطم، فقالوا: للسائق الذي لا يبقى شيئًا من السير والإسراع"حطم". و"الوضم" ما يوقي به اللحم عند تقطيعه من خشب أو غيره. و"الزلم" (بفتح الزاي واللام، أو بضم الزاي) ، واحد"الأزلام"، وهي قداح الميسر. يعني: هو كالقدح في صلابته ونحافته وملاسته. و"خدلج الساقين": ممتلئ الساقين، وهذا غير حسن في الرجال، وإنما صواب روايته ما رواه ابن الأعرابي: مُهَفْهَفُ الْكَشْحَيْنِ خَفَّاقُ القَدَمْ أي ضامر الخصر. و"خفاق القدم"، لأقدامه خفق متتابع على الأرض من سرعته وهو يحدو بالإبل. ورواية أبي جعفر"ممسوح القدم": أي ليس لباطن قدمه أخمص، فأسفل قدمه مستو أملس لين، ليس فيهما تكسر ولا شقاق. وقد جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مسيح القدمين". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 فبايعه وأسلم. فلما ولى خارجًا، نظر إليه فقال لمن عنده: لقد دخل عليّ بوجهٍ فاجرٍ، وولّى بقفا غادرٍ! فلما قدم اليمامة ارتدَّ عن الإسلام، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة. فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهيَّأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عِيره، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، الآية، فانتهى القوم. = قال ابن جريج قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: ينهى عن الحجاج أن تُقطع سبلهم. قال: وذلك أن الحطم قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر، فقال: إني داعية قوم (1) فاعرض عليّ ما تقول. قال له: أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلتُ معهم، وإن أدبروا كنت معهم. قال له: ارجع. فلما خرج قال: لقد دخل عليّ بوجه كافرٍ، وخرج من عندي بعَقِبَى غادر، وما الرجل بمسلم! فمرَّ على سَرْح لأهل المدينة فانطلق به، فطلبه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتهم، وقدم اليمامة، وحضر الحج، فجهّز خارجًا، وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقَّوه ويأخذوا ما معه، فأنزل الله عز وجل:"لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام". 10960- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا آمين البيت الحرام" الآية، قال: هذا يوم الفتح، جاء ناسٌ يؤمُّون البيت من المشركين يُهِلُّون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون كمثل هؤلاء (2) فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم. فنزل القرآن:"ولا آمين البيت الحرام". 10961- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) في المطبوعة: "داعية قومي"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء. (2) في المطبوعة: "فمثل هؤلاء"، وصواب قراءتها من المخطوطة، كما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا آمين البيت الحرام"، يقول: من توجَّه حاجًّا. 10962- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، يعني: الحاج. (1) 10963- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخّير وعنده رجل، فحدثهم فقال:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: الذين يريدون البيت. * * * ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية، بعد إجماعهم على أن منها منسوخًا. فقال بعضهم: نسخ جميعها. *ذكر من قال ذلك: 10964- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن عامر، قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد". 10965- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، نسختها، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، [سورة التوبة: 5] . 10966- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) الأثر: 10962-"عمرو بن عون بن أوس الواسطي"، مضت ترجمته برقم: 5435، ومضى في آثار أخرى كثيرة، رواية المثنى عنه، عن هشيم فيما سلف، مثل: 3159، 3879. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عمرو بن عوف"، وهو تحريف. وسيأتي على الصواب قريبًا برقم: 10969. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 الثوري، عن بيان، عن الشعبي قال، لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله". 10967- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" الآية، قال: منسوخ. قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرم، ولا عند البيت، فنسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . (1) 10968- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك:"لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: نسختها"براءة": (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . 10969- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن الضحاك، مثله. 10970- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد"، قال: هذا شيء نهي عنه، فترك كما هو. (2) 10971- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، قال: هذا كله منسوخ، نسخ هذا أمرُه بجهادهم كافة. (3) * * *   (1) الأثر: 10967- هو تمام الأثر السالف رقم: 10950 وسيأتي برقم: 10976، خبرًا واحدًا، ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 115. (2) الأثر: 10970-"جرير"، هو"جرير بن عبد الحميد الضبي"، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة: "جويبر"، وهو خطأ فاحش، والصواب من المخطوطة. (3) يعني قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سورة التوبة: 36] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 وقال آخرون: الذي نسخ من هذه الآية قوله:"ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام". *ذكر من قال ذلك: 10972- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: نسخ من"المائدة":"آمين البيت الحرام"، نسختها"براءة" قال الله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وقال: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [سورة التوبة: 17] ، وقال: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [سورة التوبة: 27] ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، فنادى فيه بالأذان. (1) 10973- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" الآية، قال: فنسخ منها:"آمين البيت الحرام"، نسختها"براءة"، فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، فذكر نحو حديث عبدة. 10974- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نزل في شأن الحُطم:"ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، ثم نسخه الله فقال: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (2) [سورة البقرة: 191] . 10975- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن   (1) في المخطوطة: "فنادى عليه بالأذان" وفوق"عليه""فيه". ويعني بالأذان، قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الناسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ منَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، [سورة التوبة: 2] . (2) انظر خبر"الحطم" فيما سلف رقم: 10958، 10959. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 علي، عن ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله:"ولا آمين البيت"، [فكان المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت] جميعًا، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدًا أن يحجّ البيت أو يعرضوا له، من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، وقال: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) ، وقال: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة التوبة: 18] ، فنفى المشركين من المسجد الحرام. (1) 10976- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، الآية، قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلَّد من السَّمُر فلم يعرض له أحد. وإذا رجع، تقلَّد قلادة شَعَرٍ فلم يعرض له أحد. وكان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت. وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرُم، ولا عند البيت، فنسخها قوله:"فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". (2) * * * وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلَّدونها من لِحَاء الشجر. *ذكر من قال ذلك: 10977- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، الآية، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هذا كله من عمل الجاهلية فِعله وإقامته، فحرَّم الله ذلك كله بالإسلام، إلا لحاء القلائد، فترك   (1) الأثر: 10975- ما بين القوسين، زيادة من رواية أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 115، حيث روى هذا الأثر بهذا الإسناد نفسه، والكلام بغيرها لا يستقيم. (2) الأثر: 10976- هو ما جاء في الأثرين السالفين: 10950، 10967. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 ذلك (1) ="ولا آمين البيت الحرام"، فحرم الله على كل أحد إخافتهم. 10978- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: نسخ الله من هذه الآية قوله:"ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها. وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قَلَّد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك له أمانًا من القتل، إذا لم يكن تقدَّم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان = وقد بينا فيما مضى معنى"القلائد" في غير هذا الموضع. (2) وأما قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، فإنه محتمل ظاهره: ولا تحلوا حُرْمة آمِّين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام، لعموم جميع من أمَّ البيت. وإذا احتمل ذلك، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم، فلا شك أن قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، ناسخٌ له. لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلُهم، أمُّوا البيت الحرام أو البيت المقدس، في أشهر الحرم وغيرها = ما يُعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخٌ. ومحتمل أيضًا: ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك. وأكثر أهل التأويل على ذلك. وإن كان عُني بذلك المشركون من أهل الحرب، فهو أيضًا لا شك منسوخ. * * *   (1) يعني فجعلها الله إحلالها حرامًا في الإسلام إلا لحاء القلائد، فإنه قد نسخ. (2) انظر ما سلف ص: 467-470. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 وإذْ كان ذلك كذلك = وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر، وكان ما كان مستفيضًا فيهم ظاهرًا حجةً = فالواجب، وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا، التسليمُ لما استفاض بصحته نقلهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يبتغون"، يطلبون ويلتمسون = و"الفضل" الأرباح في التجارة = و"الرضوان"، رضَى الله عنهم، فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلَّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم، بحجّهم بيتَه. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10979- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: هم المشركون، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دُنياهم. 10980- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، والفضل والرضوان اللذان يبتغون: أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجَّل لهم العقوبة فيها.   (1) سياق هذه الفقرة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا اختلاف ... فالواجب ... التسليم لما استفاض بصحته نقلهم". (2) مضى تفسير هذه الآية ص: 471، 472، كما أسلفت في التعليق: 1، ص: 471 وانظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 9: 319، تعليق: 3، والمراجع هناك. وتفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة. وتفسير"الرضوان" فيما سلف 6: 262. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 10981- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن ابن عباس:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، يعني: أنهم يترضَّون الله بحجهم. 10982- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشِّخِّير، وعنده رجل فحدثهم في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: التجارة في الحج، والرضوان في الحج. 10983- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة قال، قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعًا، قال: لا بأس به = وتلا هذه الآية:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا". (1) 10984- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: يبتغون الأجر والتجارة. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تُحِلُّوه وأنتم حرم. يقول: فلا حرج عليكم في اصطياده، واصطادوا إن شئتم حينئذ، لأن المعنى الذي من أجله كنت حرَّمته عليكم في حال إحرامكم قد زال. * * *   (1) الأثر: 10983-"أبو أميمة التيمي" وهو"أبو أمامة التيمي"، قال ابن معين: "ثقة، لا يعرف اسمه"، وقال البخاري في الكنى: "أبو أمامة، قال شعبة: أبو أميمة سمع ابن عمر. روى عنه العلاء، وشعبة. يقال اسمه: عمرو بن أسماء". مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 4، وابن أبي حاتم في باب"أبو أمامة"، و"أبو أميمة". ترجمتان 4/2/330، 331. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 10985- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن مجاهد أنه قال: هي رخصة = يعني قوله:"وإذا حللتم فاصطادوا". 10986- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن القاسم، عن مجاهد قال: خمس في كتاب الله رخصة، وليست بعَزْمة، فذكر:"وإذا حللتم فاصطادوا"، قال: من شاء فعل، ومن شاء لم يفعل. 10987- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن عطاء، مثله. 10988- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن مجاهد:"وإذا حللتم فاصطادوا"، قال: إذا حلّ، فإن شاء صاد، وإن شاء لم يصطد. 10989- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن رجل، عن مجاهد: أنه كان لا يرى الأكل من هَدْي المتعة واجبًا، وكان يتأول هذه الآية:"وإذا حللتم فاصطادوا" = (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ) [سورة الجمعة: 10] . (1) * * *   (1) يعني بقوله: "يتأول هذه الآية"، أي يفسرها كتفسير الآية الأخرى: فإذا قضيت الصلاة، فمن شاء خرج من المسجد، ومن شاء جلس، رخصة من الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 القول في تأويل قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا يجرمنكم"، ولا يحملنكم، كما:- 10990- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، يقول: لا يحملنكم شنآن قوم. 10991- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، أي: لا يحملنكم. * * * وأما أهل المعرفة باللغة فإنهم اختلفوا في تأويلها. فقال بعض البصريين: معنى قوله:"ولا يجرمنكم"، لا يُحِقَّنَّ لكم، لأن قوله: (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) [سورة النحل: 62] ، هو: حقٌّ أن لهم النار. (1) * * * وقال بعض الكوفيين: معناه: لا يحملنَّكم. وقال: يقال:"جرمني فلان على أن صنعت كذا وكذا"، أي: حملني عليه. * * * واحتج جميعهم ببيت الشاعر: (2) وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا (3)   (1) هذه مقالة الأخفش، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب، مادة (جرم) . (2) هو أبو أسماء بن الضّريبة. ويقال: هو لعطية بن عفيف، ونسبه سيبوبه للفزاري مجهلا. (3) سيبويه 1: 469، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 147، مشكل القرآن: 418، والفاخر: 200، الجواليقي: 163، البطليوسي: 313، الخزانة 4: 310، اللسان (جرم) . وسبب الشعر أن كرزًا العقيلي، قتل أبا عيينة حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يوم حاجر، فلما قتل كرز، قال الشاعر يرثيه ويخاطبه: يَا كُرزُ، إنَّكَ قَدْ قُتِلْتَ بِفَارِسٍ ... بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ وَجَبَّبُوا "جبب الرجل تجبيبًا": إذا فر ومضى مسرعًا. وروى البكري في معجم ما استعجم أنه قال: يَا كُرْزُ إنَّكَ قد فَتَكْتَ بِفَارِسٍ ... بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ مُجَرَّبِ وكأنه شعر غير هذا الشعر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوله من القرآن. فقال الذين قالوا:"لا يجرمنكم"، لا يُحِقَّن لكم = معنى قول الشاعر:"جرمت فزارة"، أحقَّت الطعنةُ لفزارة الغضبَ. وقال الذين قالوا: معناه: لا يحملنكم = معناه في البيت:"جرمت فزارة أن يغضبوا"، حملت فزارة على أن يغضبوا. * * * وقال آخر من الكوفيين: معنى قوله:"لا يجرمنكم"، لا يكسبنكم شنآن قوم. وتأويل قائل هذا القول قولَ الشاعر في البيت:"جرمت فزارة"، كسبت فزارة أن يغضبوا. قال: وسمعت العرب تقول:"فلان جريمة أهله"، بمعنى: كاسبهم ="وخرج يجرمهم"، يكسبهم. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، متقاربة المعنى. وذلك أن من حمل رجلا على بغض رجل، فقد أكسبه بغضه. ومن أكسبه بغضه، فقد أحقَّه له. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف، ما قاله ابن عباس وقتادة، وذلك توجيههما معنى قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، ولا يحملنكم شنآن قومٍ على العدوان. * * *   (1) قائل هذا هو الفراء في معاني القرآن 1: 299. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح"الياء" من:"جَرَمْتُه أجْرِمُه". * * * وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين (1) وهو يحيى بين وثّاب، والأعمش: ما:- 10992- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش أنه قرأ: (وَلا يُجْرِمَنَّكُمْ) مرتفعة"الياء"، من:"أجرمته أجرمه، وهو يُجْرِمني". * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءتين، قراءة من قرأ ذلك: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح"الياء"، لاستفاضة القراءة بذلك في قرأة الأمصار، وشذوذ ما خالفها، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب، وإن كان مسموعًا من بعضها:"أجرم يُجْرم" على شذوذه. وقراءة القرآن بأفصح اللغات، أولى وأحق منها بغير ذلك. ومن لغة من قال"جَرَمْتُ"، قول الشاعر: (2) يَا أَيُّهَا المُشْتَكِي عُكْلا وَمَا جَرَمَتْ ... إلى القَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ، وإبْآسُ (3) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 299. (2) ينسب للفرزدق، وليس في ديوانه. (3) مجالس ثعلب: 49، 50، والأضداد لابن الأنباري: 85، والبيت مرفوع القافية وبعد البيت: إنّا كَذَاكَ، إذَا كانَتْ هَمَرَّجَةٌ ... نَسْبِي ونَقْتُلُ حَتَّى يُسْلِمَ النَّاسُ "همرجة": اختلاط وفتنة. وروى ثعلب هذين البيتين. ثم قال، ولم يبين لمن كان هذا الخبر: "قلت له (يعني: للفرزدق) : لم قلت: من قتل، وإبآس؟ قال: كيف أصنع وقد قلت: حتى يسلم الناس؟ قال قلت: فيم رفعته؟ قال: بما يسوءك وينوءك! ". ثم قال أبو العباس ثعلب: "وإنما رفعه، لأن الفعل لم يظهر بعده، كما تقول: ضربت زيدًا وعمرو = لم يظهر الفعل فرفعت، وكما تقول: ضربت زيدًا وعمرو مضروب". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 القول في تأويل قوله: {شَنَآنُ قَوْمٍ} اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (شَنَآنُ) بتحريك"الشين والنون" إلى الفتح، بمعنى: بغض قوم، توجيهًا منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على"فَعَلان"، نظير"الطيران" و"النَّسَلان" و"العَسَلان" و"الرَّمَلان". * * * وقرأ ذلك آخرون: (شَنْآنُ قَوْمٍ) بتسكين"النون" وفتح"الشين" بمعنى: الاسم، توجيهًا منهم معناه إلى: لا يحملنكم بَغِيض قوم (1) فيخرج"شَنْآن" على تقدير"فَعْلان"، لأن"فَعَل" منه على"فَعِلَ" (2) كما يقال:"سكران" من"سكر"، و"عطشان" من"عطش"، وما أشبه ذلك من الأسماء. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: (شَنَآنُ قَومٍ) بفتح"النون" محركة، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه: بغض قوم = وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم. وإذْ كان ذلك موجَّهًا إلى معنى المصدر، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على"الفَعلان" بفتح"الفاء"، تحريك ثانيه دون تسكينه، كما وصفت من قولهم:"الدَّرَجَان" و"الرَّمَلان"، من"درج" و"رمل"، فكذلك"الشنآن" من"شنئته أشنَؤُه شنآنًا"، ومن العرب من يقول:"شَنَانٌ" على تقدير"فعال"، ولا أعلم قارئًا قرأ ذلك كذلك، ومن ذلك قول الشاعر: (3)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بغض قوم"، والصواب ما أثبت، كما يدل عليه السياق. (2) قوله: "فعل" الأولى، يعني الفعل الماضي، أما الثانية، فهي الميزان الصرفي، على وزن"سكر" بكسر العين. (3) هو الأحوص بن محمد الأنصاري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 وَمَا العَيْشُ إلا مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... وَإنْ لامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا (1) وهذا في لغة من ترك الهمز من"الشنآن"، فصار على تقدير"فعال" وهو في الأصل"فَعَلان". * * * ذكر من قال من أهل التأويل:"شنآن قوم"، بغض قوم. 10993- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يحملنكم بغض قوم. 10994- وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده، عن ابن عباس فقال: لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا. 10995- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يجرمنكم بغض قوم. 10996- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، قال: بغضاؤهم، أن تعتدوا. * * * القول في تأويل قوله: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرأة الكوفيين: (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح"الألف "   (1) طبقات فحول الشعراء: 539، الأغاني 13: 151-153، مصارع العشاق: 62، 75، والشعر والشعراء: 501، واللسان (شنأ) ، وقلما يخلو منه كتاب بعد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 من"أن"، بمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم بصدِّهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. * * * وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك: (ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم) ، بكسر"الألف" من"إن"، بمعنى: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدًّا عن المسجد الحرام أن تعتدوا = فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود: (إن يصدوكم) ، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارًا بقراءته. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قرأة الأمصار، صحيح معنى كل واحدة منهما. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صُدَّ عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية، وأنزلت عليه"سورة المائدة" بعد ذلك، فمن قرأ (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح"الألف" من"أن"، فمعناه: لا يحملنكم بغض قوم، أيها الناس، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام، أن تعتدوا عليهم. ومن قرأ: (إن صدوكم) بكسر"الألف"، فمعناه: لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله. لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة، قد حاولوا صَدَّهم عن المسجد الحرام. فتقدم الله إلى المؤمنين = في قول من قرأ ذلك بكسر"إن" = بالنهي عن الاعتداء عليهم، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام، قبل أن يكون ذلك من الصادِّين. غير أن الأمر، وإن كان كما وصفت، فإن قراءة ذلك بفتح"الألف"، أبينُ معنى. لأن هذه السورة لا تَدَافُعَ بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحديبية.   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 300. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 وإذْ كان ذلك كذلك، فالصدُّ قد كان تقدم من المشركين، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادِّين من أجل صدِّهم إياهم عن المسجد الحرام. (1) * * * وأما قوله:"أن تعتدوا"، فإنه يعني: أن تجاوزوا الحدَّ الذي حدَّه الله لكم في أمرهم. (2) * * * فتأويل الآية إذًا: ولا يحملنكم بغض قوم، لأن صدوكم عن المسجد الحرام، أيها المؤمنون، أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم. * * * وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذُحول الجاهلية. (3) *ذكر من قال ذلك: 10997- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أن تعتدوا"، رجل مؤمن من حلفاء محمد، قتل حليفًا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة، لأنه كان يقتل حلفاء محمد، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: لعن الله من قتل بذَحْل الجاهلية. 10998- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وقال آخرون: هذا منسوخ *ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: 410، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) "الذحول" جمع"ذحل" (بفتح فسكون) : وهو الثأر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 10999- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا"، قال: بغضاؤهم، حتى تأتوا ما لا يحل لكم. وقرأ:"أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا"، وقال: هذا كله قد نسخ، نسخه الجهاد. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول مجاهد أنه غير منسوخ، لاحتماله: أن تعتدوا الحقَّ فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك، لم يجز أن يقال:"هو منسوخ"، إلا بحجة يجب التسليم لها. * * * القول في تأويل قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وتعاونوا على البر والتقوى"، وليعن بعضكم، أيها المؤمنون، بعضًا ="على البر" =، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به (1) ="والتقوى"، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. (2) * * * وقوله:"ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، يعني: ولا يعن بعضكم بعضًا ="على الإثم"، يعني: على ترك ما أمركم الله بفعله ="والعدوان"، يقول: ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم. (3)   (1) انظر تفسير"البر" فيما سلف 2: 8/3: 336-338، 556/4: 425/6: 587. (2) انظر تفسير"التقوى" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (وقى) . (3) انظر تفسير"الإثم" و"العدوان" فيما سلف من فهارس اللغة (أثم) (عدا) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 وإنما معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولكن ليعن بعضكم بعضًا بالأمر بالانتهاء إلى ما حدَّه الله لكم في القوم الذين صدُّوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم، والانتهاء عما نهاكم الله أن تَأتوا فيهم وفي غيرهم، وفي سائر ما نهاكم عنه، ولا يعن بعضكم بعضًا على خلاف ذلك. * * * وبما قلنا في"البر والتقوى" قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11000- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وتعاونوا على البر والتقوى"،"البر" ما أمرت به، و"التقوى" ما نهيت عنه. 11001- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"وتعاونوا على البر والتقوى" قال:"البر" ما أمرت به، و"التقوى" ما نهيت عنه. * * * القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) } قال أبو جعفر: وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهدُّدٌ لمن اعتدى حدّه وتجاوز أمره (1) يقول عز ذكره:"واتقوا الله"، يعني: واحذروا الله، أيها المؤمنون، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدَّه فيما حدَّ لكم، وخالفتم أمره فيما أمركم به، أو نهيه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا أليم عذابه. ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره: إن الله شديدٌ عقابه لمن عاقبه من خلقه، لأنها نار   (1) في المطبوعة: "وتهديد لمن اعتدى"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 لا يطفأ حَرُّها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها ومن عمل يقرِّبنا منها. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 القول في تأويل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: حرَّم الله عليكم، أيها المؤمنون، الميتة. * * * و"الميتة": كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره، مما أباح الله أكلها، أهليَّها ووحشيَّها، فارقتها روحها بغير تذكية. (1) وقد قال بعضهم:"الميتة"، هو كل ما فارقته الحياة من دوابِّ البر وطيره بغير تذكية، مما أحل الله أكله. (2) وقد بيّنا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك، في كتابنا (كتاب لطيف القول في الأحكام) . (3) * * * وأما"الدم"، فإنه الدم المسفوح، دون ما كان منه غير مسفوح، لأن الله جل ثناؤه قال: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ) [سورة الأنعام: 145] ، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم، كالكبد والطحال، وما كان في اللحم غير   (1) "التذكية": الذبح. (2) انظر تفسير"الميتة" فيما سلف 3: 318، 319. (3) مر اسم هذا الكتاب مرارًا، ومر في بعضها باسم"اللطيف في أحكام شرائع الإسلام"، 1: 109، وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة: "كتاب اللطيف القول في الأحكام"، وهو غير مستقيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 منسفح، فإن ذلك غير حرام، لإجماع الجميع على ذلك. * * * وأما قوله:"ولحم الخنزير"، فإنه يعني: وحُرِّم عليكم لحم الخنزير، أهليُّه وبَرِّيّه. فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم، والمراد منهما الخصوص. وأما لحم الخنزير، فإن ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، حرام جميعه، لم يخصص منه شيء. * * * وأما قوله:"وما أهلَّ لغير الله به"، فإنه يعني: وما ذكر عليه غير اسم الله. * * * وأصله من"استهلال الصبي"، وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه. ومنه"إهلال المحرم بالحج"، إذا لبّى به (1) ومنه قول ابن أحمر: يُهلُّ بالفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ (2) * * * وإنما عنى بقوله:"وما أهل لغير الله به"، وما ذبح للآلهة وللأوثان، يسمى عليه غير اسم الله. (3) * * *   (1) انظر تفسير"الإهلال" فيما سلف 3: 319، 320. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 150، الجمهرة 2: 387، اللسان (عمر) (هلل) . يصف مفازة لا يهتدي فيها. و"المعتمر"، المعتم بعمامة. و"الفرقد"، أراد"الفرقدان"، وهما كوكبان من بنات نعش الصغرى، أو هما نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوفان بالجدي. وفي شرح البيت قولان. قال الأصمعي: "إذا انجلى لهم السحاب عن الفرقد، أهلوا، أي: رفعوا أصواتهم بالتكبير، كما يهل الراكب الذي يريد عمرة الحج، لأنهم كانوا يهتدون بالفرقد". وقال غيره: "يريد أنهم في مفازة بعيدة من المياه، فإذا رأوا فرقدًا = وهو ولد البقرة الوحشية = أهلوا، أي: كبروا، لأنهم قد علموا أنهم قد قربوا من الماء". قلت: والعرب تتخذ"الفرقدين" دليلا في الاهتداء بهما، لأنهما لا يطلبان في وقت من الليل إلا وجدا، قال الراعي: لا يَتَّخِذْنَ إذَا عَلَوْنَ مَفَازةً ... إلا بَيَاضَ الفَرْقَدَينِ دَليلا (3) انظر ما سلف 3: 321. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة"الانخناق" الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله:"والمنخنقة". فقال بعضهم بما:- 11002- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمنخنقة"، قال: التي تدخل رأسها بين شُعْبتين من شجرة، فتختنق فتموت. 11002م- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك في المنخنقة، قال: التي تختنق فتموت. 11003- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"والمنخنقة"، التي تموت في خِنَاقها. (2) * * * وقال آخرون: هي التي توثق فيقتلها بالخناق وَثَاقها. *ذكر من قال ذلك: 11004- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والمنخنقة"، قال: الشاة توثق، فيقتلها خِنَاقها، فهي حرام. * * *   (1) انظر الآثار السالفة من رقم: 2468- 2477. (2) "الخناق" (بكسر الخاء) : الحبل الذي يخنق به، وأراد الحبل الذي ربطت فيه من عند عنقها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 وقال آخرون: بل هي البهيمة من النَّعم، كان المشركون يخنقونها حتى تموت، فحرَّم الله أكلها. *ذكر من قال ذلك: 11005- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والمنخنقة" التي تُخنق فتموت. (1) 11006- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمنخنقة"، كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها. (2) * * * وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال:"هي التي تختنق، إما في وثاقها، وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه، فتختنق حتى تموت". وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره، لأن"المنخنقة"، هي الموصوفة بالانخناق، دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيًّا بذلك أنها مفعول بها، لقيل:"والمخنوقة"، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا. * * * القول في تأويل قوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والموقوذة"، والميتة وقيذًا. * * * يقال منه:"وقَذَهُ يَقِذُه وقْذًا"، إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك، ومنه قول الفرزدق:   (1) في المطبوعة: "تختنق فتموت"، وهو خطأ صرف مفسد لاستدلال الطبري، والصواب من المخطوطة. (2) الأثر: 11006-"بشر بن معاذ"، مضى، ومضى إسناده هذا مئات من المرات، أقربه رقم: 10995، ولكن كان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "حدثنا أنس قال، حدثنا يزيد" وهو خطأ صرف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 شَغَّارَةٍ تَقِذُ الفَصِيلَ بِرِجْلِهَا ... فَطَّارَةٍ لِقَوَادِمِ الأبْكَارِ (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11007- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والموقوذة"، قال: الموقوذة، التي تضرب بالخشب حتى توقَذَ بها فتموت. (2) 11008- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والموقوذة"، كان أهل الجاهلية يضربونها بالعِصيّ، حتى إذا ماتت أكلوها. 11009- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة، عن قتادة في قوله:"والموقوذة"، قال: كانوا يضربونها حتى يقذوها، ثم يأكلونها.   (1) ديوانه: 452، النقائض: 332، من هجائه جريرًا، قبله: كَمْ خَالَةٍ لَكَ، يا جَرِيرُ، وعَمّةٍ ... فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَى عِشَارِي كُنَّا نُحَاذِرُ أَنْ تُضِيعَ لِقَاحَنَا ... وَلَهًا، إذَا سَمِعَتْ دُعاءَ يَسَارِ يقول: عماته وخالاته رعاة أجلاف، واستجاد لهن شر الصفات، فزعمها"فدعاء"، أي في الرسغ من أقدامها ميل وعوج، من المهنة في العمل منذ ولدت. وزعم أنهن كن عنده يحلبن"عشاره"، وهي النوق الحديثة العهد بالولادة، وأنفس الإبل عند أهلها إذا كانت عشارًا، وهي"اللقاح" أيضًا. و"يسار" اسم راع من عبيدة. يقول: إذا سمعت صوت يسار ساورها الشبق إليه، فطاش عقلها ولهًا وصبابة، فكانوا يخافون أن تهمل اللقاح حتى تهلك وتضيع. ثم وصفها بالغلظة، بأقبح وصف، فزعم أنها إذا قامت تحلب الناقة، ثم دنا الفصيل من أمه، شغرت برجلها = رفعتها، كما يرفع الكلب رجله وهو يبول إلى خلف = فضربته ضربة يشرف بها على الهلاك، كأن ساقها رمح أو هراوة. وأما قوله: "فطارة لقوادم الأبكار"، فالأبكار جمع"بكر"، وهي الناقة التي ولدت بطنًا واحدًا، فأخلافها صغار قصار، لا يستمكن الحالب أن يحلبها ضبًا، وهو الحلب بالكف كلها، بل تحلب فطرًا، أي بالسبابة والوسطى، ويستعان بطرف الإبهام. و"القوادم" من النوق، لكل ناقة"قادمان"، وهما خلفا الضرع المقدمان. (2) في المطبوعة: "حتى تقذها فتموت"، وفي المخطوطة: "حتى توقذها فتموت"، وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "بها" أي بالخشبة، وانظر الآثار التالية، فهي دالة على صواب هذه القراءة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 11010- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والموقوذة"، التي توقذ فتموت. 11011- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"الموقوذة"، التي تضرب حتى تموت. 11012- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والموقوذة"، قال: هي التي تضرب فتموت. 11013- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والموقوذة"، كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم، حتى يقتلوها فيأكلوها. 11014- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني عقبة بن علقمة، حدثني إبراهيم بن أبي عبلة. قال، حدثني نعيم بن سلامة، عن أبي عبد الله الصنابحي قال: ليست"الموقوذة" إلا في مالك، وليس في الصيد وقيذ. (1) * * *   (1) الأثر: 11014-"العباس بن الوليد بن مزيد الآملي"، شيخ الطبري، مضى برقم: 891. و"عقبة بن علقمة بن حديج المعافري"، من أصحاب الأوزاعي، كان خيارًا ثقة. مترجم في التهذيب. و"إبراهيم بن أبي عبلة بن شمر، بن يقظان الرملي". روى عنه مالك، والليث، وابن المبارك. ثقة. قال ضمرة بن ربيعة: "ما رأيت أفصح منه"، وكان يقول الشعر الحسن. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/1/310. و"نعيم بن سلامة الأزدي"، ويقال: "نعيم بن سلامان". كان على خاتم سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. لم يذكروا فيه جرحًا. مترجم في الكبير 4/2/98، وابن أبي حاتم 4/1/462، وتعجيل المنفعة: 423. و"أبو عبد الله الصنابحي"، هو: "عبد الرحمن بن عسيلة بن عسل بن عسال المرادي". رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده قد مات قبله بخمس ليال أو ست. كان ثقة قليل الحديث. أخرج الطبراني من طريق ابن محيريز قال: "عدنا عبادة بن الصامت، فأقبل أبو عبد الله الصنابحي، فقال عبادة: من سره أن ينظر إلى رجل عرج به إلى السماء، فنظر إلى أهل الجنة وأهل النار، فرجع وهو يعمل على ما رأى، فلينظر إلى هذا". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 القول في تأويل قوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وحرمت عليكم الميتة تردِّيًا من جبل أو في بئر، أو غير ذلك. * * * و"تردِّيها"، رميُها بنفسها من مكان عالٍ مشرف إلى سُفْله. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11015- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والمتردية"، قال: التي تتردَّى من الجبل. 11016- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمتردية"، كانت تتردى في البئر فتموت، فيأكلونها. 11017- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمتردية"، قال: التي تردَّت في البئر. 11018- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"والمتردية"، قال: هي التي تَرَدَّى من الجبل، أو في البئر، فتموت. 11019- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 عن الضحاك:"والمتردية"، التي تردَّى من الجبل فتموت. 11020- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والمتردية"، قال: التي تَخِرُّ في ركيٍّ، أو من رأس جبل، فتموت. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَالنَّطِيحَةُ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"النطيحة"، الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية. فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين، إن لم يدركوا ذكاته قبل موته. * * * وأصل"النطيحة"،"المنطوحة"، صرفت من"مفعولة" إلى"فعيلة". * * * فإن قال قائل: وكيف أثبتت"الهاء" هاء التأنيث فيها، وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت"الهاء" في نظائرها إذا صرفوها صرف"النطيحة" من"مفعول" إلى"فعيل"، إنما تقول:"لحية دهين" و"عين كحيل" و"كف خضيب"، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة؟ (2) قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك. فقال بعض نحويي البصرة: أثبتت فيها"الهاء" = أعني في"النطيحة" = لأنها جعلت كالاسم مثل:"الطويلة" و"الطريقة". فكأن قائل هذا القول، وجه"النطيحة" إلى معنى"الناطحة".   (1) "الركي": البئر. (2) انظر ما سلف 2: 328، 401/6: 414، ومواضع أخرى غابت عني. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 فتأويل الكلام على مذهبه: وحرمت عليكم الميتة نطاحًا، كأنه عنى: وحرمت عليكم الناطحة التي تموت من نِطاحها. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: إنما تحذف العرب"الهاء" من"الفعيلة" المصروفة عن"المفعول"، إذا جعلتها صفة لاسم قد تقدَّمها، فتقول:"رأينا كفًّا خضيبًا، وعينًا كحيلا"، فأما إذا حذفت"الكف" و"العين" والاسم الذي يكون"فعيل" نعتًا لها، واجتزأوا بـ "فعيل" منها، أثبتوا فيه هاء التأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر، فتقول:"رأينا كحيلةً وخضيبة" و"أكيلة السبع". قالوا: ولذلك أدخلت"الهاء" في"النطيحة"، لأنها صفة المؤنث، ولو أسقطت منها لم يُدْرَ أهي صفة مؤنث أو مذكر. * * * وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب، لشائع أقوال أهل التأويل (1) بأن معنى:"النطيحة"، المنطوحة. *ذكر من قال ذلك: 11021- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن أبي عباس قوله:"والنطيحة"، قال: الشاة تنطح الشاة. 11022- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: كان يقرأ: (وَالمَنْطُوحَةُ) . 11023- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"والنطيحة"، الشاتان ينتطحان فيموتان. 11024- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والنطيحة"، هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت.   (1) في المطبوعة: "بالصواب الشائع من أقوال أهل التأويل"، وهو عبث وتغيير فاسد، والصواب من المخطوطة. وانظر شبيهة هذه العبارة فيما سلف ص: 486 سطر: 11، "لشائع تأويل أهل التأويل"، وهذا التعبير، هو الثاني فيما مر عليّ من تفسير أبي جعفر فيما سلف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 يقول: هذا حرام، لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه. (1) 11025- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والنطيحة"، كان الكبشان ينتطحان، فيموت أحدهما، فيأكلونه. 11026- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والنطيحة"، الكبشان ينتطحان، فيقتل أحدهما الآخر، فيأكلونه. 11027- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله:"والنطيحة"، قال: الشاة تنطح الشاة فتموت. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما أكل السبع"، وحرّم عليكم ما أكل السبع غير المعَلَّم من الصوائد. * * * وكذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11028- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أكل السبع"، يقول: ما أخذ السبع. 11029- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"وما أكل السبع"، يقول: ما أخذ السبع. 11030- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:   (1) الأثر: 11024- يأتي بتمامه برقم: 11047. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 "وما أكل السبع"، قال: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي. 11031- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن عطاء بن السائب، عن أبي الربيع، عن ابن عباس أنه قرأ: (وأكيل السبع) . * * * القول في تأويل قوله: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إلا ما ذكَّيتم"، إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورًا. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله:"إلا ما ذكيتم". فقال بعضهم: استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه من قوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع". *ذكر من قال ذلك: 11032- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"إلا ما ذكيتم"، يقول: ما أدركتَ ذكاته من هذا كله، يتحرّك له ذنب، أو تطرِف له عين، فاذبح واذكر اسم الله عليه، فهو حلال. 11033- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن:"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، قال الحسن: أيَّ هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 أدركتَ ذكاته فذكِّه وكُلْ. فقلت: يا أبا سعيد، كيف أعرف؟ قال: إذا طرَفت بعينها، أو ضربت بذَنبها. 11034- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إلا ما ذكيتم"، قال: فكلُّ هذا الذي سماه الله عز وجل ههنا، ما خلا لحم الخنزير، إذا أدركتَ منه عينًا تطرف، أو ذنبًا يتحرك، أو قائمة تركض (1) فذكّيته، فقد أحلّ الله لك ذلك. 11035- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا ما ذكيتم"، من هذا كله. فإذا وجدتها تطرف عينها، أو تحرك أذنها من هذا كله، فهي لك حلال. 11036- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم وعباد قالا أخبرنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها. 11037- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا معمر، عن إبراهيم قال: إذا أكل السبع من الصيد، أو الوقيذة أو النطيحة أو المتردية، فأدركت ذكاته، فكُل. 11038- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام التميمي قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال: إذا ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، وحركت ذنبها، فقد أجزأ. (2)   (1) "الركض": حركة الرجل واضطرابها، أو الضرب بها. و"ارتكض الشيء": إذا اضطرب. (2) الأثر: 11038-"مصعب بن سلام التميمي" مضت ترجمته برقم: 5382. و"جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، هو"جعفر الصادق"، مضت ترجمته برقم: 2003. و"أبوه": "محمد بن علي بن الحسين"، وهو"محمد الباقر" مضى برقم: 5123، 5463. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 11039- حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه قال: إذ ذبحت فَمَصَعَت بذنبها، أو تحركت، فقد حلَّت لك = أو قال: فَحَسْبه. (1) 11040- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن قال: إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصَع بذنبها، فاذبح وكُل. 11041- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن قتادة، بمثله. 11042- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع عبيد بن عمير يقول: إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذنبها، أو تحركت، فقد حلَّت لك. 11043- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا، فحرَّم الله في الإسلام إلا ما ذُكِّي منه، فما أُدرك فتحرّك منه رجل أو ذنب أو طَرف، فذكِّي، فهو حلال. 11044- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير"، وقوله:"والمنخنقة والموقوذة والمتردِّية والنطيحة"، الآية"وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، قال: هذا كله محرّم، إلا ما ذكيّ من هذا. * * * فتأويل الآية على قول هؤلاء: حرمت الموقوذة والمتردِّية، إن ماتت من التردِّي والوقذ والنطح وفَرْس السبع، إلا أن تدركوا ذكاتها، فتدركوها قبل موتها، فتكون حينئذ حلالا أكلُها. * * *   (1) "مصعت بذنبها": حركته وضربت به. وكان في المطبوعة: "أو قال: فحسب"، والصواب من المخطوطة، أي: ذلك حسبه وكافيه ومجزئه، يعني من أراد أكلها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 504 وقال آخرون: هو استثناء من التحريم، وليس باستثناء من المحرَّمات التي ذكرها الله تعالى في قوله:"حرمت عليكم الميتة"، لأن الميتة لا ذكاة لها، ولا للخنزير. قالوا: وإنما معنى الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك، إلا ما ذكيتم مما أحلَّه الله لكم بالتذكية، فإنه لكم حلال. وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة. ذكر بعض من قال ذلك: 11045- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك، وسئل عن الشاة التي يخرِق جوفها السبع حتى تخرجَ أمعاؤها، فقال مالك: لا أرى أن تذكَّى، ولا يؤكل أي شيء يذكَّى منها. 11046- حدثني يونس، عن أشهب قال: سئل مالك عن السبع يَعْدُو على الكبش فيدقُّ ظهره، أترى أن يذكَّى قبل أن يموت فيؤكل؟ قال: إن كان بلغ السَّحْر (1) فلا أرى أن يؤكل. وإن كان إنما أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدقَّ ظهره؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ قال: إذا شق بطنها، فلا أرى أن تؤكل. * * * وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله:"إلا ما ذكيتم"، استثناء منقطعًا. = فيكون تأويل الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكرنا، ولكن ما ذكيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، القول الأول، وهو أن قوله:"إلا ما ذكيتم" استثناء من قوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع"، لأن كل ذلك مستحق الصفة التي   (1) "السحر" (بفتح فسكون) : هو الرئة، أو ما التزق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 505 هو بها قبل حال موته (1) فيقال لما قرَّب المشركون لآلهتهم فسموه لهم:"هو ما أهل لغير الله به"، بمعنى سمى قربانًا لغير الله. وكذلك"المنخنقة"، إذا انخنقت وإن لم تمت، فهي منخنقة. وكذلك سائر ما حرمه الله جل وعز بعد قوله:"وما أهل لغير الله به"، إلا بالتذكية، فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته، فحرمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة، دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفًا. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وحرم عليكم ما أهل لغير الله به والمنخنقة وكذا وكذا وكذا، إلا ما ذكيتم من ذلك. فـ"ما" = إذ كان ذلك تأويله = في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها. وقد يجوز فيه الرفع. وإذ كان الأمر على ما وصفنا، فكل ما أدركت ذكاتُه من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه، ومفارقة روحه جسدَه، فحلال أكله، إذا كان مما أحلَّه الله لعباده. * * * فإن قال لنا قائل: فإذ كان ذلك معناه عندك، فما وجه تكريره ما كرّر بقوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية"، وسائر ما عدَّد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله:"حرمت عليكم الميتة"؟ وقد علمت أن قوله:"حرمت عليكم الميتة"، شامل كل ميتة، كان موته حتف أنفه من علة به من غير جناية أحد عليه، أو كان موته من ضرب ضاربٍ إياه، أو انخناق منه، أو انتطاح، أو فَرْس سبع؟ وهلا كان قوله = إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك، من أنه معنيٌّ بالتحريم في كل ذلك: الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك، دون أن يكون معنيًّا به تحريمه إذا تردّى أو انخنق أو فرسه السبع، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة (2)   (1) في المخطوطة: "موتها"، وهما سواء. (2) سياق هذه العبارة المطولة: "وهلا كان قوله..: حرمت عليكم الميتة، مغنيًا من تكرير ما كرر.. وتعداده ما عدد"، وما بينهما فصل وضعته بين خطين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 506 "حرمت عليكم الميتة"، مغنيًا من تكرير ما كرر بقوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة"، وسائر ما ذكر مع ذلك، وتَعْدادِه ما عدَّد؟ قيل: وجه تكراره ذلك = وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف، وقد تقدم بقوله:"حرمت عليكم الميتة" = أن الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا لا يعدُّون"الميتة" من الحيوان، إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردِّي والانتطاح وفرس السبع. فأعلمهم الله أن حكم ذلك، حكم ما مات من العلل العارضة = وأن العلة الموجبة تحريم الميتة، ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به (1) كالذي:- 11047- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، يقول: هذا حرام، لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدّونه ميتًا، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع. فحرمه الله عليهم، إلا ما ذكروا اسم الله عليه، وأدركوا ذكاته وفيه الروح. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وما ذبح على النصب"، وحرم عليكم أيضًا الذي ذبح على النُّصُب. فـ"ما" في قوله:"وما ذبح"، رفْعٌ، عطفًا على"ما" التي في قوله:"وما أكل السبع".   (1) في المطبوعة: "من أحل ذبيحته"، والصواب ما في المخطوطة، وهي فيها منقوطة. ويعني: من أجل أن تكون ذبيحة له ياكلها. (2) الأثر: 11047- هو تمام الأثر السالف رقم: 11024. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 507 و"النصب"، الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقرِّبون لها، وليست بأصنام. وكان ابن جريج يقول في صفته ما:- 11048- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"النصب" ليست بأصنام،"الصنم" يصوَّر وينقش، وهذه حجارة تنصب، ثلثمئة وستون حجرًا (1) منهم من يقول ثلثمئة منها لخزاعة (2) = فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت (3) وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. (4) فقال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحقُّ أن نعظمه! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك، فأنزل الله: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا) [سورة الحج: 37] . * * * ومما يحقق قول ابن جريج في أن"الأنصاب" غير"الأصنام"، ما:- 11049- حدثنا به ابن وكيع قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما ذبح على النصب"، قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية. 11050- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"النصب"، قال: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.   (1) قوله: "ثلثمئة وستون حجرًا"، يعني عدة الأنصاب التي كانت حول الكعبة، انظر ابن سعد 2/1/98: "وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحول الكعبة ثلثمئة وستون صنما"، ولكن هذه أصنام لا أنصاب كما ترى. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "بخزاعة" بالباء، والصواب ما أثبت. (3) "نضح الدم أو الماء": رشه به. (4) "شرح اللحم"، وهو أن يقطع بضعة من اللحم ويرققها، حتى تشف من رقتها. و"الشريحة": القطعة المرققة منه كذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 508 11051- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11052- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما ذبح على النصب"، و"النصب": حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك. 11053- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما ذبح على النصب"، يعني: أنصابَ الجاهلية. 11054- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وما ذبح على النصب"، و"النصب"، أنصاب كانوا يذبحون ويُهِلُّون عليها. 11055- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله:"وما ذبح على النصب"، قال: كان حول الكعبة حجارة كان يَذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجر هو أحبّ إليهم منها. 11056- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"الأنصاب"، حجارة كانوا يهلّون لها، ويذبحون عليها. 11057- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما ذبح على النُّصب"، قال:"ما ذبح على النصب" و"ما أهل لغير الله به"، وهو واحد. (1) * * *   (1) في المطبوعة: "هو واحد"، بغير واو، والذي في المخطوطة أجود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 509 القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، وأن تطلبوا علم ما قُسِم لكم أو لم يقسم، بالأزلام. * * * وهو"استفعلت" من"القَسْم" قَسْم الرزق والحاجات. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو نحو ذلك، أَجال القداح = وهي"الأزلام" وكانت قِداحًا مكتوبًا على بعضها:"نهاني ربّي"، وعلى بعضها:"أمرني ربّي" = فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه:"أمرني ربي"، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك. وإن خرج الذي عليه مكتوب:"نهاني ربي"، كفّ عن المضي لذلك وأمسك، فقيل:"وأن تستقسموا بالأزلام"، لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يَقْسِمن لهم، ومنه قول الشاعر مفتخرًا بترك الاستقسام بها: (1) وَلَمْ أَقْسِمْ فَتَرْبُثَنِي القُسُومُ (2) * * * وأما"الأزلام"، فإن واحدها"زَلَم"، ويقال:"زُلَم"، وهي القداح التي وصفنا أمرها. (3) * * *   (1) أعياني أن أعرف قائله، وهو شبيه بكلام أمية بن أبي الصلت، وليس في ديوانه. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 152، وقوله"لم أقسم"، من"قسمت أمري أقسمه قسما"، أي: قدرته ونظرت، وميلت فيه أن أفعله أو لا أفعله. وقالوا: "تركت فلانًا يقتسم، وتركته يستقسم": أي يفكر ويروي بين أمرين. وكذلك فعل من يستقسم بالأزلام، فاستعمل"أقسم" بمعنى"الاستقسام بالأزلام" في هذا البيت. و"القسوم" جمع"قسم" (بكسر القاف وسكون السين) : الحظ، وجمعه"أقسام"، ولكنه جمع على"قسوم"، كجمع"حلم" على"حلوم" و"أحلام". (3) "زلم" (بفتحتين) و"زلم" (بضم الزاي وفتح اللام) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 510 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11058- حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحًا للجلوس والخروج. فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا. 11059- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: حصًى بيضٌ كانوا يضربون بها. = قال أبو جعفر: قال لنا سفيان بن وكيع: هو الشطرنج. (1) 11060- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عباد بن راشد البزّار، عن الحسن في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كانوا إذا أرادوا أمرًا أو سفرًا، يعمَدون إلى قداح ثلاثة، على واحد منها مكتوب:"أؤمرني"، وعلى الآخر:"انهني"، ويتركون الآخر محلَّلا بينهما ليس عليه شيء. ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه"أؤمرني" مضوا لأمرهم. وإن خرج الذي عليه"انهني" كفُّوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. (2) 11061- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها"القِداح".   (1) هذا قول في غاية الغرابة!! كأنه كان يجهل ما الشطرنج = أو كأنه كان يرى أنهم يفعلون ذلك بقطع الشطرنج، دون أن يكون هذا الفعل هو اللعب بالشطرنج. (2) الأثر: 11060-"عباد بن راشد التميمي البزار"، ابن أخت داود بن أبي هند. روى عن ثابت البناني، والحسن البصري، وداود بن أبي هند، وقتادة. روى عنه هشيم، وعبد الرزاق، وأبو عامر العقدي، وغيرهم. ذكره البخاري في الضعفاء، وروى له مقرونًا بغيره، متكلم فيه. مترجم في التهذيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 511 11062- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"بالأزلام"، قال: القداح، يضربون لكل سفر وغزوٍ وتجارة. 11063- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11064- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كِعابُ فارس التي يقمُرون بها، وسهام العرب. 11065- حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها. 11066- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرًا، كتب في قدح:"هذا يأمرني بالمكث" و"هذا يأمرني بالخروج"، وجعل معهما منيحة. (1) شيء لم يكتب فيه شيئًا، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج. فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القِدْحين. 11067- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأن تستقسموا بالأزلام"، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجًا، أخذ   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "معها"، والصواب التثنية. وفي المطبوعة: "منيحًا"، وهو صواب في المعنى. ولكني أثبت ما في المخطوطة. وذلك أن"المنيح" -كما في المطبوعة- هو القدح المستعار من قداح الميسر، وهو الغفل الذي لا نصيب له، إلا أن يمنح صاحبه شيئًا، فيستعار ويتيمن به. وأما "المنيحة"، فهي الناقة أو الشاة المعارة أيضًا، فنظر إلى معنى المستعار فسمى هذا الشيء الذي لا أمر له في الاستقسام"منيحة"، كما سموا شبيهه في الميسر"منيحًا" وهو المستعار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 512 قدحًا فقال:"هذا يأمر بالخروج"، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرًا، ويأخذ قِدحًا آخر فيقول:"هذا يأمر بالمكوث"، فليس يصيب في سفره خيرًا، و"المنيح" بينهما. فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. 11068- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كانوا يستقسمون بها في الأمور. 11069- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الأزلام"، قداح لهم. كان أحدهم إذا أراد شيئًا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد، فيضرب بها، فأي قدح خرج = وإن كان أبغض تلك = ارتكبه وعمل به. 11070- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال:"الأزلام"، قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة، فإذا أراد الرجل أن يسافر، أو يتزوج، أو يحدث أمرًا، أتى الكاهن فأعطاه شيئًا، فضرب له بها. فإن خرج منها شيء يعجبه، أمره ففعل. وإن خرج منها شيء يكرهه، نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطلب على زمزم، وعلى عبد الله والإبل. (1) 11071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنّ أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظَّعْن والإقامة أو الشيء يريدونه، فيخرج سهم الظعن فيظعنون، والإقامة فيقيمون. * * * وقال ابن إسحاق في"الأزلام"، ما:- 11072- حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:   (1) انظر خبر عبد المطلب وعبد الله في سيرة ابن هشام 1: 160-164. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 513 كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئْر هي التي يجمع فيها ما يُهدي للكعبة. وكانت عند هبل سبعة أقْدُح (1) كل قِدْح منها فيه كتاب. قدح فيه:"العقل" (2) إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، [فإن خرج العقل، فعلى من خرج حمله] (3) وقدح فيه:"نعم" للأمر إذا أرادوه، يضرب به، فإن خرج قدح"نعم" عملوا به. وقدح فيه:"لا"، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر. وقِدْح فيه:"منكم". وقدح فيه:"مُلْصَق". (4) وقدح فيه:"من غيركم". وقدح فيه:"المياه"، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا (5) أو أن ينكحوا مَنكحًا، أو أن يدفنوا ميتًا، أو شكوا في نسب واحد منهم (6) ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم، وبجَزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا:"يا إلهنا، هذا فلان بن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه". ثم يقولون لصاحب القداح:"اضرب"، فيضرب، فإن -[خرج عليه"منكم" كان وسيطًا. وإن] خرج عليه:"من غيركم"، كان حليفًا (7) وإن خرج"ملصق" كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به"نعم"، عملوا به. وإن خرج"لا"، أخّروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى. ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. (8) 11073- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، يعني: القداح، كانوا يستقسمون بها في الأمور. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلكم"، هذه الأمور التي ذكرها، وذلك: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله، والاستقسام بالأزلام، ="فسق"، يعني: خروج عن أمر الله عز ذكره وطاعته، إلى ما نهى عنه وزجر، إلى معصيته. (9) كما:- 11074- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ذلكم فسق"، يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق. * * *   (1) في المطبوعة: "أقداح"، وأثبت ما في المخطوطة، وجمع"قدح": أقداح، وقداح، وأقدح، كله صواب. (2) "العقل" الدية. (3) هذه الزيادة بين القوسين من ابن هشام، ولا بد من زيادتها لتمام الكلام. (4) في المخطوطة: "يلصق"، وفوقها"كذا"، أي هو كذلك في التي نسخ عنها، والصواب ما في المطبوعة، وسيرة ابن هشام. (5) في المطبوعة: "أن يجتبوا غلامًا"، وهو لا معنى له، والمخطوطة غير منقوطة، والصواب، في سيرة ابن هشام، كما أثبتها. (6) في المطبوعة: "أو يشكوا" مضارعًا، وأثبت ما في سيرة ابن هشام. (7) ما بين القوسين زيادة من ابن هشام، وهي السياق بغير شك. و"الوسيط": هو الخالص النسب، الشريف في قومه. (8) الأثر: 11072- سيرة ابن هشام 1: 160، 161. (9) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف 1: 409، 410/2: 118، 399/4: 135-137/6: 91، 92/7: 107. وفي المطبوعة: "وزجر، وإلى معصيته" بزيادة الواو، وكلتاهما صواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 514 القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود، أيها المؤمنون، ="من دينكم"، يقول: من دينكم أن تتركوه فترتدُّوا عنه راجعين إلى الشرك، كما:- 11075- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدًا. 11076- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال: أظنُّ، يئسوا أن ترجعوا عن دينكم. (1) * * * فإن قال قائل: وأيُّ يوم هذا اليوم الذي أخبرَ الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين؟ قيل: ذكر أن ذلك كان يوم عرفة، عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام. *ذكر من قال ذلك: 11077- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"،"اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا حين فعلت. قال ابن جريج: وقال آخرون (2) ذلك يوم   (1) أنا في شك من قوله: "أظن" هنا، وهي في المخطوطة غير منقوطة. (2) قوله: "وقال آخرون" هو من قول ابن جريج فيما أرجح، ولذلك جعلته في الخبر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 516 عرفة، في يوم جمعة، لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير إلا موحِّدًا، ولم ير مشركًا، حمد الله، فنزل عليه جبريل عليه السلام:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، أن يعودوا كما كانوا. 11078- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال: هذا يوم عرفة. * * * القول في تأويل قوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} قال أبو جعفر: يعني بذلك: فلا تخشوا، أيها المؤمنون، هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم، فيقهروكم ويردُّوكم عن دينكم ="واخشون"، يقول: ولكن خافونِ، إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي، وتعدَّيتم حدودي، أن أُحِلَّ بكم عقابي، وأنزل بكم عذابي. (1) كما:- 11079- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فلا تخشوهم واخشون"، فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم. * * * القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، اليوم   (1) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 1: 559، 560/2: 239، 243/8: 548. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 517 أكملت لكم، أيها المؤمنون، فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوَدَاع. وقالوا: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض، ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة. *ذكر من قال ذلك: 11080- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطه أبدًا. 11081- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. فقالت أسماء بنت عُمَيس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير، إذ تجلّى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الرَّاحلة، فلم تطق الراحلة من ثِقْل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجَّيت عليه برداء كان علي. (1) 11082- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) "سجاه بالثوب تسجية": غطاه به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 518 ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية، إحدى وثمانين ليلة، قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم". 11083- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: لما نزلت:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت. (1) 11084- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن أبي وكيع، عن أبيه، فذكر نحو ذلك. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"اليوم أكملت لكم دينكم"، حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحُجُّونه، أنتم أيها المؤمنون، دون المشركين، لا يخالطكم في حَجِّكم مشرك. *ذكر من قال ذلك: 11085- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي غَنِيَّة، عن أبيه، عن الحكم:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: أكمل لهم دينهم: أن حجوا ولم يحجَّ معهم مشرك. (3)   (1) إنما عنى بنقصان الدين، أهل الدين، فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد، قست قلوبهم، وقل تمسك بعضهم بما أمر به. ومعاذ الله أن يعني عمر، نقصان الدين نفسه. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء". (2) الأثر: 11084-"أحمد بن بشير الكوفي"، مضى برقم: 7819. و"هرون بن أبي وكيع"، هو: "هرون بن عنترة بن عبد الرحمن" الماضي في الأثر قبله، ومضت ترجمته برقم: 405. وأبوه: "عنترة بن عبد الرحمن" وكنيته"أبو وكيع"، مضى أيضًا برقم: 405. (3) الأثر: 11085-"يحيى بن أبي غنية" هو: "يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية"، مضى برقم: 10597، وهو هذا الإسناد نفسه. وأبوه"عبد الملك بن حميد بن أبي غنية"، مضى أيضا برقم: 8535، 10597. و"الحكم" هو"الحكم بن عتيبة" مضى مرارًا. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يحيى بن أبي عتيبة"، وهو تصحيف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 519 11086- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: أخلص الله لهم دينهم، ونفى المشركين عن البيت. 11087- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا قيس، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: تمام الحج، ونفي المشركين عن البيت. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم = يوم أنزل هذه الآية على نبيه = دينَهم، بإفرادهم بالبلدَ الحرام (1) وإجلائه عنه المشركين، حتى حجَّه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدّي ما ذكرنا عنهما قبل. (2) وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [سورة النساء: 176] . (3) = ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن   (1) في المطبوعة: "بإفرادهم بالبلد الحرام" بالباء، وهو الذي تقوله كتب اللغة، وأما الذي في المخطوطة، وهو ما أثبته. فله وجه صحيح في العربية، فيما أرى، فتركته على حاله. وظني أني قرأته كذلك متعديًا في بعض كتب أبي جعفر أو غيره، فإن عثرت عليه أثبته إن شاء الله. (2) يعني ما سلف رقم: 11080، 11081. (3) انظر ما سلف رقم: 10870- 10873. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 520 قُبِض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعًا. فإذ كان ذلك كذلك = وكان قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) آخرَها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض = كان معلومًا أن معنى قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، على خلاف الوجه الذي تأوَّله من تأوَّله = أعني: كمال العبادات والأحكام والفرائض. فإن قال قائل: فما جعل قولَ من قال:"قد نزل بعد ذلك فرض"، أولى من قول من قال:"لم ينزل"؟ قيل: لأن الذي قال:"لم ينزل"، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال:"نزل". وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي، أيها المؤمنون، بإظهاركم على عدوِّي وعدوكم من المشركين، ونفيِي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11088- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجُّون جميعًا، فلما نزلت"براءة"، فنفى المشركين عن البيت، وحجَّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 521 أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة:"وأتممت عليكم نعمتي". 11089- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" الآية، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، يوم جمعة، حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجَّهم. 11090- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية بعرفات، حيث هدم مَنار الجاهلية (1) واضمحلَّ الشرك، ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك. 11091- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي"، قال، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات، وقد أطاف به الناس، وتهدَّمت مَنار الجاهلية ومناسكهم، واضمحلّ الشرك، ولم يَطُف حول البيت عُرْيان، فأنزل الله:"اليوم أكملت لكم دينكم". 11092- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه. * * * القول في تأويل قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ورضيت لكم الاستسلام لأمري، والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه (2) ="دينًا"، يعني بذلك: طاعة منكم لي. (3) * * *   (1) "المنار": علم الطريق، وحدود الأرض. وأراد به شرائع أهل الجاهلية. (2) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (سلم) . (3) انظر تفسير"الدين" فيما سلف 1: 155، 221/3: 571، 572/6: 273-275، 564، 570. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 522 فإن قال قائل: أوَ ما كان الله راضيًا الإسلامَ لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؟ قيل: لم يزل الله راضيًا لخلقه الإسلام دينًا، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرِّف نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية:"ورضيت لكم الإسلام" بالصفة التي هو بها اليوم (1) والحال التي أنتم عليها اليوم منه ="دينًا" فالزموه ولا تفارقوه. * * * وكان قتادة يقول في ذلك، ما:- 11093- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يَمْثُل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير، حتى يجيء الإسلام فيقول:"رب، أنت السلام وأنا الإسلام"، فيقول:"إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي". (2) * * * = وأحسب أن قتادة وجّه معنى"الإيمان" بهذا الخبر إلى معنى التصديق والإقرار باللسان، لأن ذلك معنى"الإيمان" عند العرب (3) = ووجَّه معنى"الإسلام" إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد، وانقياد الجسد له بالطاعة   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ورضيت لكم الإسلام دينًا، بالصفة.."، والصواب حذف"دينًا" من هذا الموضع، لأنها ستأتي بعد، وهو سهو من عجلة الناسخ. (2) الأثر: 11093- روى أبو داود الطيالسي في مسنده: 324 من حديث أبي هريرة: "حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا أبو هريرة ونحن إذ ذاك في المدينة قال: يجيء الإسلام يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: "أنت الإسلام وأنا السَّلام، اليومَ بك أُعْطِي وبك آخُذ". (3) انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أمن) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 523 فيما أمر ونهى، فلذلك قيل للإسلام:"إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي". * * * ذكر من قال: نزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 11094- حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدًا! فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: أنزلت يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة = قال سفيان: وأشك، كان يوم الجمعة أم لا ="اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا. " (1) 11095- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال، قال يهودي لعمر: لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، لو نعلم ذلك اليوم، اتخذنا ذلك اليوم عيدًا! فقال عمر: قد علمت اليوم الذي نزلت فيه، والساعة، وأين رسول   (1) الأثر: 11094- رواه أحمد في المسند رقم: 272 عن عبد الرحمن، عن سفيان بمثله. ورواه البخاري (الفتح 8: 203) عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن، كطريق أبي جعفر، ورواه مسلم 18: 152، عن محمد بن المثنى وزهير بن حرب، عن عبد الرحمن. وفيها جميعًا"لأعلم حيث أنزلت"، و"وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت"، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح. وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 2: 67، وزاد نسبته للترمذي والنسائي. ثم قال: "وشك سفيان رحمه الله. إن كان في الرواية فهو تورع، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا. وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا مالا إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا الفقهاء. وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 524 الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت: نزلت ليلة الجمعة، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات = لفظ الحديث لأبي كريب، وحديث ابن وكيع نحوه. (1) 11096- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق، عن عمر، نحوه. (2) 11097- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن سلمة، عن عمار مولى بني هاشم قال: قرأ ابن عباس:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وعنده رجل من أهل الكتاب فقال: لو علمنا أيَّ يوم نزلت هذه الآية، لاتخذناه عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نزلت يوم عرفة، يوم جمعة. (3) 11098- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا حماد بن   (1) الأثر: 11095- رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه 18: 153، عن أبي بن أبي شيبة وأبي كريب، عن عبد الله بن إدريس. وفيه: "نزلت ليلة جمع". قال النووي في شرحه: "هكذا هو في النسخ، الرواية: ليلة جمع = وفي نسخة ابن ماهان: ليلة جمعة. وكلاهما صحيح. فمن روى"ليلة جمع"، فهي ليلة المزدلفة، وهو المراد بقوله: "ونحن بعرفات" في يوم جمعة، لأن ليلة جمع، هي عشية يوم عرفات، ويكون المراد بقوله: "ليلة جمعة"، يوم جمعة. ومراد عمر رضي الله عنه: إنا قد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا من وجهين، فإنه يوم عرفة، ويوم جمعة، وكل واحد منهما عيد لأهل الإسلام". (2) الأثر: 11096- هذا الحديث، رواه البخاري (الفتح 1: 97) من طريق الحسن بن الصباح، عن جعفر بن عون، عن أبي العميس. ورواه أحمد في المسند رقم: 188، من طريق جعفر بن عون، عن أبي عميس. ورواه مسلم في صحيحه 18: 154، من طريق عبد بن حميد، عن جعفر بن عون، والنسائي في السنن 8: 114. هذا، وقد بين الحافظ ابن حجر في الفتح (1: 97) أن هذا الرجل من اليهود: "هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة، عن عبادة بن نسي (بضم النون، وفتح المهملة) ، عن إسحق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن كعب". وهذا هو الأثر الآتي رقم: 11100 (انظر التعليق عليه، وما فيه من الخطأ) وأشار في الموضع الآخر (الفتح 8: 203) إلى احتمال أن سؤال كعب وقع قبل إسلامه، لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. (3) الأثر: 11097- خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده: 353، رواه عن حماد، عن عمار بن أبي عمار، وسيأتي بطريق أخرى في الذي يليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 525 سلمة، عن عمار: أن ابن عباس قرأ:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا، لاتخذنا يومها عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد، ويوم جمعة. (1) 11099- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، نحوه. 11100- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا رجاء بن أبي سلمة قال، أخبرنا عبادة بن نسيّ قال، حدثنا أميرنا إسحاق = قال أبو جعفر: إسحاق، هو ابن خَرَشة = عن قبيصة قال، قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه! فقال عمر: أيُّ آية يا كعب؟ فقال:"اليوم أكملت لكم دينكم". فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه: يوم جمعة، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ. (2)   (1) الأثر: 11098- خرجه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبد بن حميد، عن يزيد بن هرون، عن حماد، وفيه: "نزلت في يوم عيدين، في يوم الجمعة، ويوم عرفة". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس". وأشار إليه السيوطي في الدر المنثور 2: 258، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي في الدلائل. (2) الأثر: 11100-"رجاء بن أبي سلمة مهران"، "أبو المقدام" الفلسطيني. روى عن عمر بن عبد العزيز، وعمرو بن شعيب والزهري وغيرهم. وروى عنه ابن عون، وهو من شيوخه، والحمادان، وابن علية. ثقة، كان من أفاضل أهل زمانه. مترجم في التهذيب. و"عبادة بن نسي الكندي"، الشامي الأردني، قاضي طبرية. روى عن أوس بن أوس الثقفي، وشداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عجرة، وغيرهم. روى عنه رجاء بن أبي سلمة، وغيره. قال ابن سعد في تابعي أهل الشام: "ثقة". وقال البخاري: "عبادة بن نسى الكندي" سيدهم. قال مسلمة بن عبد الملك: "إن في كندة لثلاثة نفر، إن الله لينزل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء: عبادة بن نسي، ورجاء بن حيوة، وعدي بن عدي". مات سنة 118. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/96. و"نسي" بضم النون، وفتح السين، والياء المشددة". وأما "إسحق"، فإن أبا جعفر زعم أنه ابن خرشة، ولم أجد في الرواة ولا في الأمراء"إسحق بن خرشة". وأما "ابن خرشة"، فهو: "عثمان بن إسحق بن خرشة (بفتح الخاء والراء) القرشي" روى عنه الزهري، ولم يذكر لعبادة بن نسي رواية عنه، ولا هو كان أميرًا. ونسبه كما رواه ابن سعد 5: 180 هو: "عثمان بن إسحق بن عبد الله بن أبي خرشة بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي"، ونسبه أيضًا المصعب في نسب قريش: 432، وقال: "روى عنه ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب حديث الجدة"، وهو الحديث الذي رواه أصحاب السنن الأربعة (سنن أبي داود 3: 167 رقم: 2894) ، من طريق مالك في الموطأ: 513 بروايته عن"ابن شهاب، عن عثمان بن إسحق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب". فلست أشك أن أبا جعفر قد وهم، فأراد تعريف"إسحق" في إسناده هذا، فسبق إلى وهمه"ابن خرشة"، وهو"عثمان بن إسحق بن خرشة" لا"إسحق بن خرشة". أما "إسحق" في هذا الخبر، فلست أشك أنه"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب"، يرويه عن أبيه"قبيصة بن ذؤيب". وذلك، أولا: لأن"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي"، يروي عن أبيه، وعن كعب الأحبار. ثانيا: أن"عبادة بن نسي" الأردني، قاضي طبرية، مذكور في ترجمته، وأنه يروي عن إسحق بن قبيصة بن ذؤيب. ثالثًا: أن"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب" هو الذي كان أميرًا، كان عامل هشام على الأردن، كما قال أبو زرعة الدمشقي. وقال ابن سميع: "كان على ديوان الزمني في أيام الوليد". وعبادة بن نسي قاض من قضاة الأردن كما ذكرت. فالذي لا شك فيه عندي، أن"إسحق" في هذا الإسناد: هو إسحق بن قبيصة بن ذؤيب، يروي عن أبيه، وأن أبا جعفر قد وهم في بيانه، وخلط. وقد أشرت في التعليق على الأثر رقم: 11096، ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1: 97) ، نقلا عن هذا الموضع من الطبري، ولكنه نسبه أيضًا إلى مسدد في مسنده، وإلى الطبراني في الأوسط، وليسا عندي، ولكن إذا كان ذلك في واحد منهما، فإن الخطأ فيه، أقدم من أبي جعفر. وكتبه محمود محمد شاكر. وفي المطبوعة هنا: "وكلاهما بحمد الله"، وفي المخطوطة: "وكليهما"، ولها وجه في العربية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 526 11101- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عيسى بن جارية الأنصاري قال: كنا جلوسًا في الديوان، فقال لنا نصراني: يا أهل الإسلام، لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا، لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدًا ما بقي منا اثنان:"اليوم أكملت لكم دينكم"! فلم يجبه أحد منا، فلقيت محمد بن كعب القرظي، فسألته عن ذلك فقال: ألا رددتم عليه؟ فقال: قال عمر بن الخطاب: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 527 عرفة، فلا يزال ذلك اليوم عيدًا للمسلمين ما بقي منهم أحد. (1) 11102- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، عشيَّة عرفة، وهو في الموقف. 11103- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود قال: قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه؟ فقال عامر: أو ما حفظته؟ قلت له: فأيّ يوم؟ قال: يوم عرفة، أنزل الله في يوم عرفة. 11104- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: بلغنا أنها نزلت يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة. 11105- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن حبيب، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب قال: نزلت"سورة المائدة" يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة. 11106- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ليث، عن شهر بن حوشب قال: نزلت"سورة المائدة" على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة على راحلته، فتنوَّخَتْ لأن يُدَقَّ ذراعها. (2)   (1) الأثر: 11101-"حكام" هو"حكام بن سلم الكناني"، ثقة، روى عنه الطبري فأكثر فيما سلف، و"عنبسة" هو: عنبسة بن سعيد بن الضريس الأسدي، مضى مرارًا أيضًا، ترجم في رقم: 224، 3356، 5385. و"عيسى بن جارية الأنصاري"، روى عن جرير البجلي، وجابر بن عبد الله، وابن المسيب، وغيرهم، وروى عنه يعقوب القمي، وعنبسة بن سعيد. تكلم فيه ابن معين قال: "عنده مناكير". وقال أبو داود: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/273. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عيسى بن حارثة"، وهو خطأ. (2) "أنخت البعير فاستناخ"، و"نوخته، فتنوخ": أي برك. قال ابن الأعرابي: "يقال تنوخ البعير، ولا يقال: ناخ، ولا أناخ". وقوله: "لأن يدق ذراعها"، أي: مخافة أن يدق ذراعها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 528 11107- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت"سورة المائدة" جميعًا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء. قالت: فكادت من ثقلها أن يُدَقَّ عضد الناقة. (1) 11108- حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني قال، حدثنا هشام بن عمار قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عمرو بن قيس السكوني: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم"، حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة. (2) * * *   (1) الأثر: 11107-"أسماء بنت يزيد بن السكن" الأنصارية الأشهلية، "أم سلمة"، كانت فيمن جهز عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزفها، وكانت تخدم النبي، وبايعته، وشهدت اليرموك. وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده 6: 455 من طريق أبي النضر، عن شيبان، عن ليث. وفيه: "وكادت من ثقلها تدق.." ليس فيه"أن". ثم رواه أيضًا ص: 458 من طريق إسحق بن يوسف، عن سفيان، عن ليث، وفيه: "إن كادت من ثقلها لتكسر الناقة". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 13، وقال: "رواه أحمد والطبراني، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وقد وثق"، وقد مضى مرارًا توثيق أخي السيد أحمد لشهر. (2) الأثر: 11108-"إسمعيل بن عمرو السكوني"، أبو عامر، الحمصي المقرئ، إمام مسجد حمص. روى عن علي بن عياش، والربيع بن روح، ويحيى بن صالح الوحاظي، قال ابن أبي حاتم: "سمعت منه، وهو صدوق". مترجم في ابن أبي حاتم 1/1/190. و"هشام بن عمار بن نصير السلمي"، أبو الوليد الدمشقي. روى عند البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب. و"ابن عياش"، هو: إسمعيل بن عياش، مضى مرارًا. و"عمرو بن قيس بن ثور بن مازن بن خيثمة الكندي السكوني"، أبو ثور الشامي الحمصي. روى عن جده"مازن بن خيثمة"، وله صحبة، وعن عبد الله بن عمرو، ومعاوية ووفد عليه مع أبيه. قال إسمعيل بن عياش: و"أدرك سبعين من الصحابة أو أكثر". ثقة، صالح الحديث. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا، ثم قال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وقوله: "انتزع بهذه الآية"، أي تمثل بها وقرأها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 529 وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية = أعني قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم" = يوم الاثنين. وقالوا: أنزلت"سورة المائدة" بالمدينة. *ذكر من قال ذلك: 11109- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت:"سورة المائدة" يوم الاثنين:"اليوم أكملت لكم دينكم"، ورفع الذكر يوم الاثنين. (1)   (1) الأثر: 11109-"محمد بن حرب الخولاني" الأبرش. قال أحمد: "ليس به بأس"، وقال ابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب. و"ابن لهيعة" هو"عبد الله بن لهيعة"، مضى برقم: 160، 2941، 5355، 5518، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له. و"خالد بن أبي عمران التجيبي"، قاضي إفريقية. ثقة، وثقه ابن سعد والعجلي، وغيرهما. و"حنش" هو: "حنش بن عبد الله السبائي الصنعاني" مضى برقم: 1914، وهو تابعي ثقة. وهذا الخبر استوهاه الطبري كما سيأتي في آخر كلامه، وذلك لما قالوا من ضعف ابن لهيعة، وترك بعضهم الاحتجاج به. وروى هذا الخبر أحمد في مسنده برقم: 2506 من طريق موسى بن داود، عن ابن لهيعة، ونصه: "ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنئ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين". وقال أخي السيد أحمد في التعليق عليه: "إسناده صحيح. والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 2: 259، 260، عن هذا الموضع، وقال: "تفرد به أحمد"، وهو في مجمع الزوائد 1: 196، ونسبه لأحمد والطبراني في الكبير وقال الهيثمي: "وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف! وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح". وليس في خبر أحمد"وأنزلت سورة المائدة.."، ولذلك لما ذكره ابن كثير في تفسيره، 2: 68، عن هذا الموضع من تفسير الطبري ونسبه للطبراني وابن مردويه، ثم قال: "أثر غريب، وإسناده ضعيف، وقد رواه الإمام أحمد.." ثم ساق حديث أحمد، ثم قال: "هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين، فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت"يوم عيدين اثنين، كما تقدم (يعني في الأثر رقم: 11098) ، فاشتبه على الراوي". وهذا توجيه غير مرتضى، وربما كان الأرجح أنه غلط من أحد الرواة عن ابن لهيعة، فإن رواية أحمد، لا شك في قوتها وضبطها. وقوله: "رفع الذكر يوم الاثنين"، يعني وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، وانقطاع الوحي من بعد قبضه ولحاقه بالرفيق الأعلى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 530 11110- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة قال:"المائدة" مدنيّة. * * * وقال آخرون: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع. *ذكر من قال ذلك: 11112- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: نزلت"سورة المائدة" على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسير في حجة الوداع، وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها. (1) * * * وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، وإنما معناه: اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم. *ذكر من قال ذلك: 11113- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اليوم أكملت لكم دينكم"، يقول: ليس بيوم معلوم يعلمه الناس. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القولُ الذي روي عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، وَوَهْيِ أسانيد غيره. (2) * * *   (1) سقط من الترقيم رقم: 11111. (2) قوله: "ووهي أسانيد غيره". سلف في 8: 80 تعليق 1، أن الذي في المخطوطة هناك. "وهاء"، ولذلك أثبتها، لأني وجدتها أيضًا في تهذيب الآثار للطبري"وهاء"، ثم هذه مرة أخرى، أجد في المخطوطة"وهي"، فاختلفت المخطوطة كما ترى في كتابتها في موضع آخر. راجع ما كتبته في التعليق هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 531 القول في تأويل قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقول:"فمن اضطر"، فمن أصابه ضُرٌّ (1) ="في مخمصة"، يعني: في مجاعة. * * * = وهي"مفعلة"، مثل"المجبنة" و"المبخلة" و"المنجبة"، من"خَمَصِ البطنِ"، وهو اضطماره، وأظنه هو في هذا الموضع معنيٌّ به: اضطماره من الجوع وشدة السَّغَب. وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارا من غير الجوع والسَّغب، ولكن من خلقة، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخَمَص البطن: (2) وَالبَطنُ ذُو عُكَنٍ خَمِيصٌ لَيِّنٌ ... وَالنَّحْرُ تَنْفُجُهُ بثَدْيٍ مُقْعَدِ (3)   (1) انظر تفسير"اضطر" فيما سلف 3: 56، 321. (2) "خمص" (بفتح الخاء والميم) . وهذا تفصيل جيد في معنى"الخمص" و"المخمصة"، لا تصيب مثله في معاجم اللغة. (3) ديوانه: 66 واللسان (قعد) وروايته: "لطيف طيه"، ولا شاهد فيه عندئذ. وهو من قصيدته التي استجاد فيها صفة المتجردة، صاحبة النعمان بن المنذر، والتي أفضت إلى ما كان بينهما من المهاجرة. و"العكن": أطواء البطن لا من السمن فحسب، كما يقول أصحاب اللغة، فإن هذا البيت شاهد على خلافه. وإنما"العكن" هنا ما تثنى من أطواء البطن من رقة جلدها ونعومته، ورخاصة جسدها ولينه، فلذلك يتثنى. ولو كان ذلك من"السمن"، كما يقول أهل اللغة، لم يقل بعد"خميص لين"، ويصفه بالضمور والرقة (في رواية أبي جعفر) ، ولا"لطيف طيه"، وهو كناية عن الضمور والرقة أيضًا، وذلك من صفتها ضد السمن. فمن شرح"العكن" في هذا البيت وأشباهه بأنها من السمن، فقد أخطأ، وأحال معاني الشعر عن وجوهها. وقوله: "والنحر تنفجه"، "النحر": أعلى الصدر، وهو موضع القلادة منها. وكل ما ارتفع فقد"نفج وانتفج وتنفج"، و"نفجه الرجل ينفجه نفجًا". ويقال: "نفج ثدي المرأة قميصها": إذا رفعه. وأسند إليها أنها تنفج نحرها بثدييها، وإن كان ذلك خلقة لا فعل لها فيه، لأنه نظر إلى ما يساور المرأة حين تختال لتفتن الناظرين، فتتخذ سمتًا وهيأة تنهب بحلم الحليم. فأصاب النابغة غاية الإصابة في الإشارة إلى سر المرأة في حركتها وشمائلها. ولكن الذين تعرضوا لتفسير مثل هذا الشعر، أساءوا إليه من حيث أرادوا الإحسان، فقال الوزير أبو بكر في شرحه ديوان النابغة: "ويروى: والإتب تنفجه، -والإتب ثوب تلبسه- وهو أليق بالمعنى، لأن الثدي ينفخ الثوب، أي يرفعه ويعظمه". ثم قال أيضًا: "وروي: والنحر تنفجه" أي ترفعه عن الثوب"، وهذا مثل على الخلط في فهم الشعر، وإفساد لمعانيه. والذي استحسنه الوزير، معنى مغسول سخيف في مثل هذا الموضع من شعر النابغة، أضاع به تعب الشاعر في شعره. و"ثدي مقعد": ناتئ على النحر، إذا كان ناهدًا لم ينثن بعد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 532 فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله:"خميص" بالهزال والضرّ من الجوع، ولكنه أراد وصفها بلطافة طيِّ ما على الأوراك والأفخاذ من جسدها، لأن ذلك مما يحمد من النساء. ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضر من ذلك، قول أعشى بني ثعلبة: تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا (1) يعني بذلك: يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضرّ. فمن هذا المعنى قوله:"في مخمصة". * * * وكان بعض نحويي البصرة يقول:"المخمصة"، المصدر من"خَمَصَه الجوع". * * *   (1) ديوانه: 109، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 153، من إحدى قصائده التي قالها في خبر المنافرة بين علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل (الأغاني 15: 50) ، وبعد البيت: يُراقِبْنَ مِنْ جُوعٍ خِلالَ مَخَافةٍ ... نُجُومَ الشِّتَاء العَاتِمَاتِ الغوامِصَا "غرثى"، جياع، ويروى"جوعى". ووصف النجوم بقوله: "العاتمات" أراد أنها تظلم من الغبرة التي في السماء، وذلك في الجدب (وهو الشتاء) ، لأن نجوم الشتاء أشد إضاءة لنقاء السماء، فهن يلتمسن وقت خفائها. و"الغوامص" يعني: التي قل ضوءها من الغبرة. وقال شارح ديوانه: "يبتن جياعًا خائفات ينتظرن طلوع النجوم السحرية، ليخرجن يطلبن شيئًا، كيلا يعرفن". وقوله: "خلال مخافة" من أحسن الكلام في هذا البيت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 533 وكان غيره من أهل العربية يرى أنها اسم للمصدر، وليست بمصدر، ولذلك تقع"المفعلة" اسمًا في المصادر للتأنيث والتذكير. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11114- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن عباس:"فمن اضطر في مخمصة"، يعني: في مجاعة. 11115- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اضطر في مخمصة"، أي: في مجاعة. * * * 11116- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. (1) 11117- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن اضطر في مخمصة"، قال: ذكر الميتة وما فيها، فأحلها في الاضطرار (2) ="في مخمصة"، يقول: في مجاعة. 11118- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله:"فمن اضطر في مخمصة"، قال، المخمصة، الجوع. * * *   (1) الأثر: 11116- في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا معمر" وهو إسناد ناقص، سقط منه"قال أخبرنا عبد الرزاق"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 11104. (2) في المطبوعة: "وأحلها" بالواو، وفي المخطوطة: "فأكلها"، وهو تحريف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 534 القول في تأويل قوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن اضطر في مخمصة إلى أكل ما حَرَّمتُ عليه منكم، أيها المؤمنون، من الميتة، والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرمت عليه بهذه الآية ="غير متجانف لإثم"، يقول: لا متجانفًا لإثم. (1) = فلذلك نصب"غير" لخروجها من الاسم الذي في قوله:"فمن اضطر" (2) وهي بمعنى:"لا"، فنصب بالمعنى الذي كان به منصوبًا"المتجانف"، لو جاء الكلام:"لا متجانفًا". (3) * * * وأما"المتجانف لإثم"، فإنه المتمايل له، المنحرف إليه. وهو في هذا الموضع مراد به المتعمِّد له، القاصد إليه، من"جَنَف القوم عليّ"، إذا مالوا. وكل أعوج فهو"أجنف"، عند العرب. * * * وقد بينا معنى"الجنف" بشواهده في قوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا) [سورة البقرة: 182] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) * * * وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين   (1) في المطبوعة: "إلا متجانفًا" فأفسد المعنى إفسادًا، والصواب من المخطوطة، وفيها: "لا متجانف"، والصواب ما أثبت. (2) "الخروج"، الحال، كما سلف في فهارس المصطلحات. (3) في هذين الموضعين أيضًا في المطبوعة: "وهي بمعنى: إلا" ثم: "لو جاء الكلام: إلا متجانفًا"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبته من المخطوطة. وانظر تفسير"غير" بمعنى"لا" فيما سلف 3: 322، في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة: 173: "غير باغ ولا عاد"، بمعنى: لا باغيًا ولا عاديًا = منصوبًا على الحال. (4) انظر تفسير"الجنف" فيما سلف 3: 405-408. = وتفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أثم) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 535 بهذه الآية، للإثم في حال أكله (1) فهو: تعمده أكل ذلك لغير دفع الضرورة النازلة به (2) ولكن لمعصية الله، وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11119- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم"، يعني: إلى ما حُرِّم، مما سمَّى في صدر هذه الآية ="غير متجانف لإثم"، يقول: غير متعمد لإثم. 11120- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم. قال: إلى حِرْم الله، ما حَرّم (3) رخّص للمضطر إذا كان غير متعمد لإثم، أن يأكله من جهد. فمن بَغَى، أو عدا، أو خرج في معصيةٍ لله، فإنه محرم عليه أن يأكله. 11121- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"غير متجانف لإثم"، أي: غير متعرِّض لمعصية. 11122- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم، غير متعرِّض. 11123- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"غير متجانف لإثم"، يقول: غير متعرض لإثم، أي: يبتغي فيه شهوة، أو يعتدي في أكله.   (1) السياق: "وأما تجانف آكل الميتة ... للإثم في حال أكله ... ". (2) في المطبوعة: "فهو تعمده الأكل لغير دفع الضرورة"، غير ما في المخطوطة بلا معنى. (3) "حرم الله" (بكسر الحاء، وسكون الراء) ، هو الحرام نقيض الحلال. وقوله بعد ذلك: "ما حرم"، تفسير لقوله: "حرم الله". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 536 11124- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد فى قوله:"غير متجانف لإثم"، لا يأكل ذلك ابتغاءَ الإثم، ولا جراءة عليه. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) } قال أبو جعفر: وفي هذا الكلام متروك، اكتفى بدلالة ما ذكر عليه منه. وذلك أن معنى الكلام: فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية، غير متجانف لإثم فأكله، فإن الله غفور رحيم = فترك ذكر"فأكله"، وذكر"له" (1) لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما. * * * وأما قوله:"فإن الله غفور رحيم"، فإن معناه: فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله، في مخمصة، غير متجانف لإثم ="غفور رحيم"، يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك، بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه وعن عقوبته عليه ="رحيم"، يقول: وهو به رفيق. ومن رحمته ورفقه به (2) أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه من كَلَب الجوع وضُرِّ الحاجة العارضة ببدنه. * * * فإن قال قائل: وما الأكل الذي وعد الله المضطر إلى الميتة وسائر المحرَّمات معها بهذه الآية، غفرانَهُ إذا أكل منها؟ قيل: ما:-   (1) يعني بقوله: "وذكر: له"، معطوف على قوله: "وترك ذكر: فأكله"، والمعنى: وترك ذكر: "إلى ما حرمت عليه فأكله". وكان الأجود عندي أن يبين ذلك فيذكره كما ذكرته. وأما قوله: "وذكر: له"، يعني في قوله: "فإن الله له غفور ... ". (2) في المطبوعة: "من رحمته" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 537 11125- حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي قال: قلنا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. (1)   (1) الأثر: 11125- خبر الأوزاعي، عن حسان بن عطية، يرويه الطبري بعد برقم: 11132، عن الأوزاعي، عن حسان مرسلا. ثم يرويه برقم: 11133، عن الأوزاعي، عن حسان، عن رجل قد سمى له. وهي خبر واحد. "عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي"، شيخ الطبري، روى له الترمذي، والنسائي، وأبو حاتم. قال أبو حاتم: "صدوق"، وقال النسائي: "ثقة". مترجم في التهذيب. و"محمد بن القاسم الأسدي" رمي بالكذب والوضع. قال أبو داود: "غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة"، وتكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه، روى محمد بن القاسم، عن الأوزاعي. مترجم في التهذيب. و"الأوزاعي" هو الإمام المشهور. و"حسان بن عطية المحاربي"، كان من أفاضل أهل زمانه، وثقه أحمد، وابن معين، والعجلي، روى عن أبي أمامة، وعنبسة بن أبي سفيان، وسعيد بن المسيب. ونصوا على أنه أرسل عن أبي واقد الليثي، وكأنهم يعنون هذا الخبر بعينه. و"أبو واقد الليثي" قيل اسمه: "الحارث بن مالك"، وقيل: "الحارث بن عوف"، وقيل: "عوف بن الحارث بن أسد"، من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، من كنانة. صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر. وروى عنه ابناه عبد الملك وواقد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء بن يسار، وعروة بن الزبير، وغيرهم. وإسناد أبي جعفر هذا، إسناد ضعيف، لضعف محمد بن القاسم، ولكنه روي من وجه صحيح، كما سترى في التخريج. فرواه أحمد في مسنده 5: 218 (حلبي) عن محمد بن القاسم، عن الأوزاعي، وهو نفس إسناد الطبري، فهو ضعيف. ثم رواه مرة أخرى في نفس الصفحة، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي. (قلت: في المسند: حدثنا الوليد، حدثنا مسلم، حدثنا الأوزاعي = وهو خطأ لا شك فيه، صوابه: الوليد بن مسلم، كما نقله عن هذا الموضع من المسند، ابن كثير في تفسيره 2: 69) . وقال ابن كثير بعد نقله هذا الخبر الثاني من خبري أحمد: "تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين". ولكن الهيثمي خرجه في مجمع الزوائد 4: 165، وقال: "رواه أحمد بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح [يعني الحديث الثاني من حديثي أحمد] ، إلا أن المزي قال: لم يسمع حسان بن عطية من أبي واقد، والله أعلم". ثم خرجه الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد 5: 165 وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". ولم يذكر مقالة المزي، ولا انقطاع الخبر. ورواه الحاكم في المستدرك 4: 125، من طريق أبي قلابة الرقاشي، عن أبي عاصم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد، بمثله. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع"، إشارة ما قاله المزي، فيما رواه صاحب مجمع الزوائد. ورواه البيهقي في السنن 9: 356 من ثلاث طرق: محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، كرواية أحمد والطبري. ومن طريق أبي عبيد، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن حسان، عن أبي واقد. ثم رواه من طريق الوليد بن مسلم (وهو طريق أحمد الثاني) ، ولكن فيه زيادة، وذلك أنه رواه عن إسحق بن إبراهيم الحنظلي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن ابن مرثد = أو أبي مرثد = عن أبي واقد الليثي. وإلى هذه الطريق أشار ابن كثير في تفسيره 3: 69، بعد أن روى حديث أحمد في المسند فقال: "ولكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد، به، ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد = أو أبي مرثد = عن أبي واقد، به"، فخالف ما في سنن البيهقي، قال: "مرثد"، والذي فيها"ابن مرثد". ولم أجد ذكرًا في كتب الرجال لمسلم بن يزيد، أو مرثد، أو ابن مرثد. فإسناد هذه الخبر، كما ترى، هو على صحته منقطع. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 259، ولم ينسب لغير أحمد والحاكم. * * * وقوله: "إذا لم تصطبحوا"، أي: إذا لم تجدوا صبوحًا، و"الصبوح" (بفتح الصاد) : هو ما يحلب من اللبن بالغداة ويشرب عندئذ. و"اصطبح القوم": شربوا الصبوح. و"صبح الرجل ضيفه": سقاه الصبوح بالغداة. وقوله: "أو تغتبقوا"، أي: إذا لم تجدوا غبوقًا، و"الغبوق" (بفتح الغين) : هو ما يحلب من اللبن بالعشي، ويشرب عندئذ."غبق الرجل ضيفه"، سقاه غبوقًا. و"اغتبق القوم": شربوا الغبوق بالعشي. أما "تحتفئوا"، فسيأتي تفسيرها بعد الأثر رقم: 11133، ص: 542، تعليق: 2. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 538 11126- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن الخصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى متى يحلُّ لي الحرام؟ قال فقال: إلى أن يروَى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم". (1)   (1) الأثر: 11126-"الخصيب بن زيد التميمي"، سمع عن الحسن، مرسل، روى عنه هشيم، هكذا قال البخاري في الكبير 2/1/201. وفي التهذيب: "وثقه أحمد"، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي ابن أبي حاتم 1/2/396، كتب"خصيب بن بدر التميمي"، والصواب"خصيب بن زيد" كما قال البخاري. و"الميرة" (بكسر الميم) : هو جلب الطعام. وفي المخطوطة: "وتجيء" بالواو، وأثبت ما في المطبوعة، وابن كثير 3: 69. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 539 11127- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا خصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله = إلا أنه قال: أو تُجْبَى ميرتهم. (1) 11128- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عمن حدثه: أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرّم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تحل لك الطيبات، وتحرُم عليك الخبائث، إلا أن تفتقر إلى طعام [لا يحل لك] ، (2) فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال الرجل: وما فقري الذي يُحِلّ لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنت ترجو نتاجًا، فتبلَّغ بلحوم ماشيتك إلى نِتاجك، أو كنت ترجو غنًى تطلبه، فتبلَّغ من ذلك شيئًا، (4) فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي: ما غِناي الذي أدعه إذا وجدته؟   (1) في المطبوعة: "أو تحيا ميرتهم"، من"الحياة"، وفي المخطوطة: "تجبى" غير منقوطة، فرأيت أن أقرأها كذلك، من"جبى الماء في الحوض يجيبه": جمعه، و"جبى الخراج" جمعه. ولو قرئت: "يجني" من"جنى يجني"، كما تجنى الثمرة، لكان مجازا. وللذي في المطبوعة: "يحيى"، وجه. ولكني رجحت ما أثبت. ولم أجد الخبر في مكان آخر بهذه الرواية. (2) الزيادة بين القوسين، لا يتم الكلام إلا بها، من مجمع الزوائد. (3) نص ما رواه في مجمع الزوائد: "ما فقري، وما الذي آكل من ذلك إذا بلغته؟ وما غناي الذي يغنيني عنه". (4) "تبلغ بشيء من الطعام أو غيره": اكتفى به. وقوله: "شيئا"، أي: قليلا، غير مفرط فيه. وانظر تفسير"شيء" بمعنى"قليل" فيما سلف 6: 448، تعليق 2/8: 403، تعليق: 1. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 540 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرويت أهلك غَبُوقًا من الليل. (1) فاجتنب ما حرَّم الله عليك من طعام. [وأمّا] مالُك (2) فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام. " (3) 11129- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه، وكان فيه: ويُجْزي من الاضطرار غَبُوق أو صَبُوح. (4) 11130- حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن عون قال: قرأت في كتاب سَمُرة بن جندب: يكفي من الاضطرار = أو: من الضرورة = غبوقٌ أو صبوح. (5) 11131- حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب قالا حدثنا عبد الله بن إدريس، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إذا اضطر الرجل إلى الميتة، أكل منها قوتَه = يعني: مُسْكَتَه. (6)   (1) في مجمع الزوائد: "غبوقًا من اللبن"، وما في الطبري أجود. (2) الزيادة بين القوسين، لا يتم الكلام إلا بها، زدتها من مجمع الزوائد، ومن الدر المنثور. وأما قوله بعد: "ميسور كله"، أي: موسع عليك فيه. (3) الأثر: 11128- خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا، من"حديث سمرة بن جندب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل من الأعراب"، ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير، والبزار باختصار. وفي إسناد الطبراني مساتير، وإسناد البزار ضعيف". وذكره ابن كثير من تفسيره 3: 70 عن هذا الموضع من التفسير، وفيه: "عروة بن الزبير، عن جدته"، والصواب ما في الطبري، والدر المنثور، وبما تبين من أن الخبر من حديث سمرة بن جندب. وخرجه في الدر المنثور 2: 260، ولم ينسبه لغير الطبري. (4) الأثر: 11129-"سمرة"، هو"سمرة بن جندب بن هلال الفزاري"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتابه هذا هو رسالته إلى بنيه، قال ابن سيرين: "في رسالة سمرة إلى بنيه، علم كثير". وانظر الأثر التالي. (5) الأثر: 11130- هذا الأثر، رواه البيهقي في السنن عن أبي عبيد، عن معاذ، عن ابن عون: قال: "رأيت عند الحسن كتب سمرة لبنيه: أنه يجزئ من الاضطرار - أو الضارورة.." و"الضرورة" و"الضارورة"، واحد، وهما اسم لمصدر"الاضطرار". (6) "المسكة" (بضم الميم وسكون السين) : هي ما يمسك الأبدان من الطعام والشراب. وكذلك"القوت": هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام، وما يمسك الرمق من الرزق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 541 11132- حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: قال رجل: يا رسول الله، إنا بأرض مَخْمصة، فما يحلّ لنا من الميتة؟ ومتى تحلّ لنا الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. (1) 11133- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن رجل قد سمي لنا: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نكون بأرض مخمصة، فمتى تحل لنا الميتة؟ قال: إذا لم تغتبقوا، ولم تصطبحوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها. (2) * * * قال أبو جعفر: يروى هذا على أربعة أوجه:"تحتفئوا" بالهمزة ="وتحتفيوا" بتخفيف"الياء" و"الحاء" = و"تحتفّوا"، بتشديد الفاء = و"تحتفوا" بالحاء، والتخفيف، ويحتمل الهمز (3) . * * *   (1) الأثران: 11132، 11133- هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم: 11125، وانظر التعليق عليه هناك. (2) الأثران: 11132، 11133- هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم: 11125، وانظر التعليق عليه هناك. (3) ما ذكره أبو جعفر هو روايات هذا الحرف بالحاء، ولكنه روي أيضًا بالجيم مهموزًا: "تجتفئوا" من قولهم: "جفأ البقل يجفؤه جفأ، واجتفأ": إذا اقتلعه من أصله. وروي بالجيم غير مهموز"تجتفوا"، بمعنى المهموز: "جفيت البقل واجتفيته". وروي بالخاء المعجمة: "تختفوا" من"أخفى الشيء" إذا أظهره بعد خفائه، كأنه قد أزال خفاءه. وأما ما رواه الطبري بالحاء، فتفسير"تحتفئوا" من"الحفأ" وهو البردي. يقال: "احتفا الحفأ": اقتلعه من منبته. وأما "تحتفيوا" (بكسر الفاء وضم الياء) من قولهم: "احتفى الحفأ، البقل" إذا اقتلعه من وجه الأرض بالأظافير، وأصله الهمز. وأما "تحتفوا" بتشديد الفاء، فمن قولهم: "احتف الطعام" إذا أكل جميع ما في القدر، ومن قولهم: "احتفت المرأة": أزالت شعر وجهها نتفًا بخيطين، فكأنهم ينتفون البقل من وجه الأرض لصغره. وأما "تحتفوا" فمن"احتفى البقل": إذا اقتلعه، وهو غير مهموز. هذا، وقد قال الأزهري: "قال أبو سعيد: صوابه: تحتفوا، بتخفيف الفاء من غير همز. وكل شيء استؤصل فقد احتفى، ومنه: إحفاء الشعر. قال: واحتفى البقل: إذا أخذه من وجه الأرض بأطراف أصابعه من قصره وقلته = قال: ومن قال: تحتفئوا، بالهمز، من الحفأ، البردي، فهو باطل، لأن البردي ليس من البقل. والبقول: ما نبت من العشب على وجه الأرض مما لا عرق له. قال: ولا بردي في بلاد العرب = ويروى: ما لم تجتفئوا، بالجيم. قال: والاجتفاء أيضًا بالجيم باطل، لأن الاجتفاء: كب الآنية إذا جفأتها = ويروى: ما لم تحتفوا، بتشديد الفاء، من: احتففت الشيء، إذا أخذته كله، كما تحف المرأة وجهها من الشعر". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 542 القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك، يا محمد، أصحابك: ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل؟ فقل لهم: أحِل لكم منها ="الطيبات"، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح (1) وأحل لكم أيضًا مع ذلك، صيدُ ما علّمتم من"الجوارح"، وهن الكَواسب من سباع البهائم. * * * والطير سميت"جوارح"، لجرحها لأربابها، وكسبها إيّاهم أقواتَهم من الصيد. يقال منه:"جرح فلان لأهله خيرًا"، إذا أكسبهم خيرًا، و"فلان جارِحَة أهله"، يعني بذلك: كاسبهم، و"لا جارحة لفلانة"، إذا لم يكن لها كاسب (2) ومنه قول أعشى بني ثعلبة. ذاتَ حَدٍّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهَا ... تُذْكِرَ الجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ (3)   (1) انظر تفسير"الطيبات" فيما سلف 3: 301/ 5: 555/6: 361 / 8: 409 / 9: 391. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 154. (3) ديوانه: 164، وهي من قصيدة له طويلة، مجد فيها إياس بن قبيصة الطائي، ملك الحيرة. ثم ختم القصيدة بذكر الخمر، وذكر شبابه وما كان فيه من لهو ومروءة وبأس، فقال يصف لاذع قوله فيمن يعاديه (برواية الديوان) : وَلَقَدْ أَمْنَحُ مَنْ عَادَيْتُهُ ... كَلِمًا يَحْسِمْنَ مِنْ داءِ الكَشَحْ وقطَعْتُ نَاظِرَيْهِ ظاهِرًا ... لا يكونُ مِثْلَ لَطْمٍ وكَمَحْ ذَا حَبَارٍ مُنْضِجٍ مِيسَمُهُ ... يُذْكِرُ الجَارِمَ مَا كَانَ اجتَرَحْ قوله: "كلما" جمع"كلمة"، يعني به: هجاءه وشعره. وفي الديوان: "كلما" مضبوطة بضم الكاف وتشديد اللام المفتوحة، ونقل عن الديوان"كل ما"، وهو خطأ فيما أرجح. و"حسم الداء يحسمه": قطعه بالدواء. و"حسم العرق": قطعه، ثم كواه لئلا يسيل دمه. و"الكشح" (بفتح الكاف والشين) : داء يصيب الإنسان في كشحه فيكوى."الكشح" (بفتح فسكون) : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وهما كشحان في الإنسان. و"طوى فلان كشحه": أي أعرض وولاك كشحه، من البغض والعداوة. وأراد بقوله: "داء الكشح"، العداوة والبغضاء. يقول: أهجوه هجاء يشفيه من داء البغض! وقوله: "وقطعت ناظريه" أي: كويته كية ظاهرة في وسط جبينه، بين عينيه إلى أنفه: وقوله: "ظاهرًا" صفة لمحذوف، أي كيا ظاهر الأثر. ليس أثره كأثر اللطم أو الكمح. و"الكمح" (بفتحتين) : هو أثر كمح الفرس باللجام، أي رده وجذبه باللجام ليقف، فيترك ذلك أثرًا حيث موقع اللجام. وهو حرف لم تذكره كتب اللغة، وشرحته من سياق معنى الشعر. يقول: أثر اللطم غير بين فهو يزول، وأثر كمح اللجام سهل يأتي متتابعًا فلا يؤذي، أما هذا الظاهر فهو مكواة من النار (كما يبينه البيت الثالث) . وأنا في شك من رواية هذا البيت. وقوله: "ذا حبار"، أي ذا أثر، صفة ثانية لقوله: "ظاهرًا"، و"الحبار" (بفتح الحاء) الأثر في الجلد من ضرب أو كي أو غيرها. ومثله"الحبر" (بكسر فسكون) . وفي الديوان"ذا جبار" (بضم الجيم) ، وهو لا معنى له، صواب إنشاده ما أثبت. و"الميسم": الحديدة التي يكوى بها. يشبه هجاه بالمكواة الحامية تنضج الجلد، وتبقي فيه أثرًا لا يزول، ولا تزال تذكره بما اجترم. وأما رواية أبي جعفر، فهي في المخطوطة: "ذات حد" (بالحاء المفتوحة) ، فإن صحت كذلك فهي صفة لقوله: "كلما يحسمن"، و"الحد": صلابة الشيء وشدته ونفاذه، كما يقال"حد الظهيرة"، أي: أشد حرها. وإن صحت روايته كما كان في المطبوعة: "ذات خد"، (بالخاء المعجمة) : من"الخد" و"الأخدود"، وهو الشق، و"خدت الضربة جلده" إذا شقته وتركت فيه خدًا. و"أخاديد السياط"، آثارها في الجلد. وكلتاهما جيدة المعنى. * * * تنبيه: ديوان الأعشى المطبوع في أوربة، ديوان كثير الخطأ والتحريف والتصحيف، فمن أجل ذلك اجتهدت في تصحيح هذا الشعر، وفي كثير غيره مما سلف من شعر الأعشى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 543 يعني: اكتسب. وترك من قوله:"وما علمتم"،"وصيد" ما علمتم من الجوارح، اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما تُرِك ذكره. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 544 وذلك أن القوم، فيما بلغنا، كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب، عما يحلّ لهم اتخاذه منها وصَيْده، فأنزل الله عز ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية. فاستثنى مما كان حرّم اتخاذه منها، وأمر بقُنْيَة كلاب الصيد (1) وكلاب الماشية، وكلاب الحرث، وأذن لهم باتخاذ ذلك. ذكر الخبر بذلك: 11134- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب العكلي قال، حدثنا موسى بن عبيدة قال، أخبرنا أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنَّا لك يا رسول الله! (2) قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب! قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته. فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"يسألونك ماذا أحِل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علَّمتم من الجوارح مكلبين". (3)   (1) "القنية" (بضم القاف، أو بكسرها، وسكون النون) : اقتناء الأشياء واتخاذها لما ينتفع بها فيه. (2) يعني بقوله: "رسول الله"، جبريل رسول الله بوحيه إلى النبي صلى الله عليهما. (3) الأثر: 11134-"زيد بن الحباب العكلي"، مضى برقم: 2185، 5350، 8165، وهو ثقة، من شيوخ أحمد. و"موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، مضى برقم: 1875، 1876، 3291، 8361، وهو ضعيف جدًا. قال أحمد: "منكر الحديث، لا تحل الرواية عنه". وفي تفسير ابن كثير: "يونس بن عبيدة"، وهو خطأ يصحح. و"أبان بن صالح بن عمير بن عبيد"، ثقة. مضى برقم: 4337، 4338، وكان في المطبوعة هنا: "حدثنا موسى بن عبيدة، قال أخبرنا صالح، وفي المخطوطة: "قال أنا صالح"، وهو خطأ في كلتيهما، والصواب ما أثبته، عن الحاكم، والبيهقي، وابن كثير. و"القعقاع بن حكيم الكناني"، تابعي ثقة، مضى برقم: 304. و"سلمى أم رافع"، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زوجة أبي رافع، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن فاطمة الزهراء. و"أبو رافع" مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإسناد هذا الخبر ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة الربذي. ورواه ابن أبي حاتم أيضًا من طريق حجاج بن حمزة، عن زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، كما نقله ابن كثير في تفسيره 3: 72، 73. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 42، 43، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف". أما البيهقي في السنن 9: 235، والحاكم في المستدرك 2: 311، فقد روياه مختصرًا من طريق معلى بن منصور، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحق، عن أبان بن صالح، وهو أصح من إسناد أبي جعفر وابن أبي حاتم. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقد روي حديث أبي رافع، بغير هذا اللفظ، من طرق. انظر الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 42، 43، ومسند أحمد 6: 8-10، 391. وقوله: "عندها كلب ينبح عليها"، أي: يرد عنها بنباحه ما تخاف من سبع، وينذرها بمجيء ضيف إن استروح رائحته. وجاء بيانه في الأثر الذي رواه أحمد في مسنده 6: 391: "قالت: إني امرأة مضيعة، وإن هذا الكلب يطرد عني السبع، ويؤذنني بالجائي". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 545 11135- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب، فقتل حتى بلغ العَوالي (1) فدخل عاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعويم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحلَّ لنا يا رسول الله؟ فنزلت:"يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلِّبين". 11136- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثونا عن محمد بن كعب القرظي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، قالوا: يا رسول الله، فماذا يحل لنا من هذه الأمة؟ فنزلت:"يسألونك ماذا أحل لهم"، الآية. * * *   (1) "العوالي": أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية أميال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 546 ثم اختلف أهل التأويل في"الجوارح" التي عنى الله بقوله:"وما علمتم من الجوارح". فقال بعضهم: هو كل ما عُلِّم الصيدَ فتعلّمه، من بهيمة أو طائر. *ذكر من قال ذلك: 11137- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن في قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: كل ما عُلِّم فصادَ، من كلب أو صقر أو فهدٍ أو غيره. 11138- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن:"مكلبين"، قال: كل ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره. 11139- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في صيد الفهد قال: هو من الجوارح. 11140- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: الطير والكلاب. 11141- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج، عن عطاء، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، مثله. 11142- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن حميد، عن مجاهد:"مكلِّبيين"، قال: من الكلاب والطير. 11143- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"من الجوارح مكلبين"، قال: من الطير والكلاب. 11144- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 547 11145- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة = ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة =، عن الهيثم، عن طلحة بن مصرف قال، قال خيثمة بن عبد الرحمن: هذا ما قد بيَّنت لك: أن الصقر والبازي من الجوارح. (1) 11146- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت الهيثم يحدث، عن طلحة الإيامي، عن خيثمة قال: بيّنت لك: (2) أن الصقر والباز والكلب من الجوارح. (3) 11147- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن علي بن حسين قال: الباز والصقر من الجوارح. 11148- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر قال: الباز والصقر من"الجوارح المكلِّبين". (4) . 11149- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، يعني بـ "الجوارح"، الكلابَ الضواريَ والفهود والصقور وأشباهها. 11150- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: من الكلاب، وغيرها من الصقور والبِيزان (5) وأشباهِ ذلك مما يعلّم.   (1) الأثر: 11145، 11146-"الهيثم" هو: "الهيثم بن حبيب"، وهو"الهيثم بن أبي الهيثم" الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد وقال: "ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها". مترجم في التهذيب. و"طلحة بن مصرف الإيامي"، مضى برقم: 5431. و"خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي" تابعي ثقة، مضى برقم: 8267. (2) في المطبوعة: "أنبئت أن الصقر"، وفي المخطوطة: "أتيت لك أن الصقر"، وكأن الصواب ما أثبت، استظهارًا من الأثر السالف. (3) الأثر: 11145، 11146-"الهيثم" هو: "الهيثم بن حبيب"، وهو"الهيثم بن أبي الهيثم" الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد وقال: "ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها". مترجم في التهذيب. و"طلحة بن مصرف الإيامي"، مضى برقم: 5431. و"خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي" تابعي ثقة، مضى برقم: 8267. (4) في المطبوعة: "من الجوارح المكلبين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. (5) "البيزان" (بكسر الباء) جمع"باز"، بغير ياء في آخره، ويجمع أيضًا على"أبواز". وقولهم"باز" لغة في"بازي" وجمع"بازي""بزاة" و"بواز" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 548 11151- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، الجوارح: الكلاب والصقور المعلَّمة. 11152- حدثني سعيد بن الربيع الرازيّ قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمع عبيد بن عمير يقول في قوله:"من الجوارح مكلبين"، قال: الكلاب والطير. * * * وقال آخرون: إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، الكلابَ دون غيرها من السِّباع. *ذكر من قال ذلك: 11153- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك:"وما علمتم من الجوار مكلبين"، قال: هي الكلاب. 11154- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، يقول: أحل لكم صيد الكلاب التي علَّمتوهن. 11155- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمَّا ما صاد من الطير = والبُزاةُ من الطير = فما أدركت فهو لك، وإلا فلا تطعمه. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال:"كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وأنّ صيد جميع ذلك حلال إذا صادَ بعد التعليم"،   (1) في المطبوعة: "فلا تطمعه"، وهو خطأ في الطباعة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 549 لأن الله جل ثناؤه عم بقوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، كلَّ جارحة، ولم يخصص منها شيئًا. فكل"جارحة"، كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع، فحلال أكل صيدها. * * * وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ما قلنا في ذلك خبَرٌ، مع ما في الآية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك، وهو ما:- 11156- حدثنا به هناد قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فَكُل. (1) * * *   (1) الأثر: 11156-"هناد" هو"هناد بن السري بن مصعب الدارمي"، ثقة. مضى برقم: 2058، 2758، 2998، 3960. و"عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي"، الفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه، ثقة حافظ رضي، مات سنة 187. مترجم في التهذيب. و"مجالد" هو: "مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني"، مضى برقم: 1614، 2987، 2988 وقد مضى أنه ثقة، ضعفه بعض الأئمة، وأن الراجح في شأنه، تصحيح حديث القدماء عنه، وأن أعدل ما قيل فيه، قول عبد الرحمن بن مهدي: "حديث مجالد عند الأحداث، يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء. ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم، وهؤلاء القدماء"، وقول ابن أبي حاتم: "يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره. مات سنة 144". وخبر الشعبي عن عدي بن حاتم، رواه مسلم والبخاري عن طريق زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، أن عديا سأل رسول الله عن صيد الكلب. فقال: أمسك عليك فكل، الحديث (انظر سنن البيهقي 9: 235، 236) . ورواه الأئمة أيضًا من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، = ومن طريق عاصم الأحول، عن الشعبي = ومن طريق بيان عن الشعبي. ورووه أيضًا من طرق عن عدي بن حاتم، وليس فيها ذكر"الباز". (انظر السنن الكبرى للبيهقي 9: 235-238) ، وانظر ما سيأتي رقم: 11210. ثم روى البيهقي بإسناده عن عبد الله بن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسك عليك، الحديث. ثم قال البيهقي: ".. إلا أن ذكر البازي في هذه الرواية، لم يأت به الحفاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد، والله أعلم". ورواية عيسى بن يونس، عن مجالد، تعد من رواية القدماء عن مجالد قبل أن يتغير حفظه. وعيسى بن يونس ثقة ثبت، فكأن أبا جعفر صحح هذا الحديث واحتج به، لأنه رواية ثقة، عن ثقة قبل تغيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 550 = فأباح صلى الله عليه وسلم صيد البازي وجعله من الجوارح. ففي ذلك دِلالة بيِّنة على فساد قول من قال:"عنى الله بقوله:"وما علمتم من الجوارح"، ما علمنا من الكلاب خاصة، دون غيرها من سائر الجوارح". * * * فإن ظن ظانّ أن في قوله:"مكلبين"، دلالةً على أن الجوارح التي ذكرت في قوله:"وما علمتم من الجوارح"، هي الكلاب خاصة، فقد ظن غير الصواب. وذلك أن معنى الآية: قل أحِلَّ لكم، أيها الناس، في حال مصيركم أصحابَ كلاب = الطيباتُ، وصيدُ ما علمتوه الصيد من كواسب السباع والطير. فقوله:"مكلبين"، صفة للقانص، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه. وهو نظير قول القائل يخاطب قومًا:"أحلّ لكم الطيباتُ وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين". فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك، إخبارَ القوم أنّ الله جل ذكره أحل لهم، في حال كونهم أهلَ إيمان، الطيبات وصيد الجوارح التي أعلَمهم أنه لا يحل لهم منه إلا ما صادوه به (1) فكذلك قوله:"أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين" لذلك نظيره، في أن التكليب للقانص = بالكلاب كان صيده أو بغيرها = لا أنه إعلام من الله عز ذكره أنه لا يحل من الصيد إلا ما صادته الكلاب. * * *   (1) في المطبوعة: "ما صادوه بها"، وما في المخطوطة صواب أيضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 551 القول في تأويل قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"تعلمونهن"، تؤدِّبون الجوارح فتعلمونهن طلب الصيد لكم ="مما علمكم الله"، يعني بذلك: من التأديب الذي أدَّبكم الله، والعلم الذي علمكم. (1) * * * وقد قال بعض أهل التأويل: معنى قوله:"مما علمكم الله"، كما علمكم الله. *ذكر من قال ذلك: 11157- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"تعلمونهن مما علمكم الله"، يقول: تعلمونهن من الطَّلب كما علمكم الله. * * * = ولسنا نعرف في كلام العرب"من" بمعنى"الكاف"، لأن"من" تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض، و"الكاف" بمعنى التشبيه. وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره، إذا تقارب معنياهما. فأما إذا اختلفت معانيهما، فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عَقِيب الآخر. وكتاب الله وتنزيله أحرَى الكلام أن يجنَّب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل بلسانه ........... . (2)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 302. (2) أرجح أنه قد سقط قبل هذا الخبر، كلام من كلام أبي جعفر، وذلك بدلالة قوله بعد: "قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك". والذي أستظهره من كلامه في آخر سياقه هذه الأقوال من اختلاف الأئمة (ص: 564) ، أن أبا جعفر ساق سؤالا كعادته، عن معنى"تعليم الجوارح"، ثم أجاب عنه بذكر اختلاف أهل التأويل. ولم أستجز أن أضع شيئًا مكان النقط التي وضعتها للدلالة على هذا السقط، لأني أخشى ان أخطئ في وصل الكلام بالخبر الذي رواه بعده برقم: 11158"انظر ص: 553، تعليق: 2، 3. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 552 11158- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل بن صُبيح قال، حدثنا أبو هانئ عمر بن بشير قال، حدثنا عامر: أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية:"تعلمونهن مما علمكم الله". (1) * * * قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. (2) فقال بعضهم (3) : هو أن يَسْتَشْلِي لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه (4)   (1) الأثر: 11158-"إسمعيل بن صبيح اليشكري"، ثقة مضى برقم: 2996، 8640. و"أبو هانئ""عمر بن بشير الهمداني"، قال أحمد: "صالح الحديث". وقال يحيى بن معين: "ضعيف". وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم الرازي: "ليس بقوي، يكتب حديثه، وجابر الجعفي أحب إلي منه". وذكره ابن شاهين، والعقيلي في الضعفاء. مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/100، ولسان الميزان 4: 287، ومضى أيضًا برقم: 4422. وكان في المطبوعة: "حدثنا أبو هانئ عن أبي بشر"، وهو خطأ محض، وتغيير سيئ لما كان في المخطوطة: "حدثنا أبو هانئ عمر بن بشر"، والصواب ما أثبت. و"عامر" هو الشعبي. وهو حديث ضعيف لضعف"أبي هانئ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 260، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، والقصة فيه: "أن عدي بن حاتم الطائي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم". (2) انظر التعليق السالف ص: 552، تعليق: 2، والتعليق التالي. (3) في المخطوطة: "فقال بعضهم هو جوارحًا صيدها، فقال لنا: وما علمتم من الجوارح مكلبين أن يستشلى ... "، ووضع الناسخ بين"هو" و"جوارحًا" من فوق حرف"لا" وبعد"مكلبين" من فوق، حرف"إلى"، وهي طريقتهم قديمًا إذا أرادوا حذف ما بين"لا" و"إلى"، والظاهر أن قوله: "جوارحا صيدها، فقال لنا: من الجوارح مكلبين" هو بعض الجملة التي سقطت في موضع النقط التي وضعتها آنفًا، وأشرت إليها في التعليق السالف، وما قبله: ص 552، تعليق: 2. (4) قوله: "يستشلي"، بالبناء للمعلوم، أراد به هنا: أن يغري بطلب الصيد. وقد ذكر أهل اللغة: "أشلى الكلب واستشلاه" إذا دعاه باسمه، وقد أنكر ثعلب أن"أشلى الكلب" بمعنى أغراه بالصيد، وأجازه غيره. ومن أجازه فقد أصاب، وقد قال الشافعي في الأم 2: 191: "الكلب المعّلم: الذي إذَا أُشْلِيَ اسْتَشْلَى" فاستعمل"استشلى" مطاوعًا لقوله: "أشلى الكلب" بمعنى: أغراه بالصيد. ثم عاد الشافعي فاستعمل"استشلى الكلب" بمعنى: "أشلى الكلب" غير مطاوع، فقال في الأم 2: 192: "وتعليمُ الطائر كلِّه واحد، البازي والصقر والشاهين وغيرها: وهو أن يجمع أن يُدْعَى فيجيب، ويُسْتَشْلَى فيطير". ثم عاد فاستعمل"استشلى" بالمعنيين جميعًا، مطاوعًا وغير مطاوع، في جملة طويلة في الأم 2: 193 أثبت بعضها.: " ... وإذا اسْتَشْلَى الرجُل كلبه على الصَّيْد -قريبًا كان منه أو بعيدًا- فانزجَرَ واسْتَشْلَى باستشلائه ... ". فصح بذلك ما استعمله أبو جعفر، هذا بخلاف ما جاء في الشعر، مما يسقط اعتراض ثعلب على"أشلى" بمعنى: أغرى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 553 ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه، ويستجيب له إذا دعاه، ولا يفرُّ منه إذا أراده. فإذا تتابع ذلك منه مرارًا كان"معلَّمًا". وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق. *ذكر من قال ذلك: 11159- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلَّم ويُمسك ويصيد، فهو ميتة. ولا يكون قتله إياه ذكاة، حتى يعلَّم ويُمسك ويصيد. فإن كان ذلك ثم قتل، فهو ذكاته. 11160- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن المعلم من الكلاب: أن يمسك صيدَه فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه. فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده. 11161- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 554 11162- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أبو المعلى، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: إذا أرسل الرجل الكلبَ فأكل من صيده فقد أفسده، وإن كان ذكر اسم الله حين أرسله = فزعم أنه إنما أمسك على نفسه (1) = والله يقول:"من الجوارح مكلّبين تعلمونهن مما علمكم الله"، فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلَّم، وأنه ينبغي أن يُضرب ويعلَّم حتى يترك ذلك الخُلُق. (2) 11163- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر الرقي، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا أخذ الكلب فقَتل فأكل، فهو سَبُع. (3) 11164- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: لا يأكل منه، فإنه لو كان معلَّمًا لم يأكل منه، ولم يتعلم ما علَّمتَه. إنما أمسك على نفسه، ولم يُمسك عليك. 11165- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود، عن الشعبي، عن ابن عباس، بنحوه. 11166- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل. (4)   (1) قوله: "فزعم أنه إنما أمسك على نفسه"، هذا من قول سعيد بن جبير، حكاية لقول ابن عباس. و"زعم" في هذا الموضع بمعنى: قال. لا بمعنى"زعم" فيما يذم من القول والظن. وهو يأتي كثيرًا في كلامهم، فاحفظه. (2) الأثر: 11162-"أبو المعلى" العطار، هو: "يحيى بن ميمون الضبي"، ثقة كثير الحديث مترجم في التهذيب، وقد مضى في الإسنادين رقم: 8346، 8347. (3) الأثر: 11163-"معمر الرقي"، هو: "معمر بن سلمان النخعي، الرقي". وثقه أحمد. مترجم في التهذيب. (4) في المطبوعة: "إذا أكلت الكلاب" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان الناسخ كتب أولا: "أكلت" ثم عاد فمجمج الحروف حتى جعل اللام والتاء في"أكلت""أكل". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 555 11167- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن ابن عباس، بمثله. 11168- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: قلت لعامر الشعبي: الرجل يرسل كلبَه فيأكل منه، أنأكل منه؟ قال: لا لم يتعلَّم الذي علَّمته. 11169- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: إذا أكل الكلب من صيده فاضربه، فإنه ليس بمعلَّم. 11170- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: إذا أكل الكلب فهو ميتة، فلا تأكله. 11171- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير = وسَيَّار، عن الشعبي = ومغيرة، عن إبراهيم = أنهم قالوا في الكلب إذا أكل من صيده: فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. 11172- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد، فما وجدتَه ميتًا فدعه، فإنه مما لم يمسك عليك صيدًا. إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك، وإن كان قد عُلِّم. 11173- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، بنحوه. * * * وقال آخرون نحو هذه المقالة، غير أنهم حَدُّوا لمعرفة الكلاب بأن كلبه قد قَبِل التعليم وصار من الجوارح الحلال صيدها (1) أن يفعل ذلك كلبه مرات   (1) "الكلاب" (بتشديد اللام) : هو صاحب الكلاب. و"المكلب" (بتشديد اللام المكسورة) : هو الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد. ولكنه وضع"الكلاب" هنا موضع"المكلب". وهو جيد صحيح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 556 ثلاثًا. وهذا قول محكيٌّ عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن. * * * وقال آخرون ممن قال هذه المقالة: لا حدَّ لعلم الكلاب بذلك من كلبه، أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم. قالوا: فإذا فعل ذلك فقد صار معلَّمًا حلالا صيده. وهذا قول بعض المتأخرين. وفرَّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة وتعليم الكلب وضاري السبِّاع الجارحة، فقال: جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد. قالوا: وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلِي، ويجيب إذا دُعِي، ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذَه. قالوا: وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد. *ذكر من قال ذلك: 11174- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم وحجاج، عن عطاء قال: لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه. 11175- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس أنه قال في الطير: إذا أرسلتَه فقتل، فكُل. فإن الكلبَ إذا ضربته لم يَعُدْ. وإن تعليم الطير أن يرجع إلى صاحبه، وليس يضرب إذا أكل من الصيد ونتف من الريش. (1) 11176- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن جابر، عن الشعبي قال: ليس البازي والصقر كالكلب، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك، فكل منه.   (1) في المطبوعة: "فإذا أكل من الصيد ونتف من الريش فكل"، بزيادة"فكل"، عن المخطوطة، وكان فيها مثل ما في المطبوعة: "فإذا أكل ... "، ورجحت أن الصواب"إذا أكل ... ، " بحذف الفاء، ويستقيم الكلام على ما في الترجمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 557 11177- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زُبَيْد، عن مطرف، عن حماد، قال إبراهيم: كُلْ صيد البازي وإن أكل منه. 11178- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم = وجابر، عن الشعبي، قالا كُلْ من صيد البازِ وإن أكل. (1) 11179- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: إذا أكل البازي والصقر من الصيد، فكُل، فإنه لا يعلَّم. (2) 11180- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم قال: لا بأس بما أكل منه البازي. 11181- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد: أنه قال في البازي إذا أكل منه، قال: كُلْ. (3) * * * وقال آخرون منهم: سواء تعليم الطير والبهائم والسباع، لا يكون نوع من ذلك معلَّمًا إلا بما يكون به سائر الأنواع معلَّمًا. وقالوا: لا يحل أكل شيء من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه (4) كائنة ما كانت تلك الجارحة، بهيمةً، أو طائرًا. (5) قالوا: لأن من شروط تعليمها الذي يحل به صيدها: أن تمسك ما صادت على صاحبها، فلا تأكل منه. *ذكر من قال ذلك: 11182- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "صيد البازي" بالياء آخره، والذي في المخطوطة صواب. وانظر ما سلف ص: 548، تعليق: 4. (2) يعني: فإنه لا يعلم أن لا يأكل من الصيد كما يعلم الكلب. (3) في المطبوعة: "إذا أكل منه فكل"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض. (4) في المخطوطة: "لا يجعل كل شيء من الصيد.."، والصواب ما في المطبوعة. (5) في المخطوطة: "بهيمة أو طائر" بالرفع، والصواب، ما في المطبوعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 558 محمد بن سالم، عن عامر قال: قال علي: إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل. (1) 11183- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن جعفر، عن شعبة، عن مجاهد بن سعيد، عن الشعبي قال: إذا أكل البازي منه فلا تأكل. 11184- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. 11185- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمر بن الوليد الشنيّ قال: سمعت عكرمة قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. (2) 11186- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: الكلب والبازي كلُّه واحد، لا تأكل ما أكل منه من الصيد، إلا أن تدرك ذَكاته فتذكِّيه. قال: قلت لعطاء: البازي ينتف الريش؟ قال: فما أدركته ولم يأكل فكل. قال ذلك غير مرَّة. * * * وقال آخرون: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد. قالوا: وتعليمه الذي يحلُّ به صيده: أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشلي ويأخذ الصيد (3) ويدعوه صاحبه فيجيب، ولا يفرّ منه إذا أخذه. (4) قالوا: فإذا فعل الجارح ذلك كان"معلمًا" (5)   (1) الأثر: 11182-"محمد بن سالم الهمداني"، أبو سهل الكوفي. ضعيف الحديث متروك. مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم: 4824. (2) الأثر: 11185-"عمر بن الوليد الشني"، أبو سلمة العبدي، من عبد القيس. روى عن عكرمة، وشهاب بن عباد العصري. روى عنه وكيع، وأبو نعيم. قال أبو حاتم: "ما أرى بحديثه بأسًا، وعامة حديثه عن عكرمة فقط، ما أقل ما يجاوز به إلى ابن عباس". وقال يحيى القطان: "ليس هو عندي ممن أعتمد عليه، ولكنه لا بأس به". مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/139، ولسان الميزان 4: 337. وكان في المطبوعة: "عمرو بن الوليد السهمي"، وليس صوابًا، غير ما في المخطوطة وهو الذي أثبت. (3) انظر ما سلف ص: 553، تعليق: 4. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "أولا يفر منه"، والصواب بالواو كما أثبته. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بالإفراد، والذي قبله والذي بعده يقتضي أن تكون"قالوا". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 559 داخلا في المعنى الذي قال الله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم". قالوا: وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد. قالوا: وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه، وهو يؤدَّب بأكله؟ *ذكر من قال ذلك: 11187- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد = أو سعد =، عن سلمان قال: إذا أرسلت كلبك على صيد، وذكرتَ اسم الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل ما بقي. (1) 11188- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا حميد قال، حدثني القاسم بن ربيعة، عمن حدثه، عن سلمان = وبكر بن عبد الله، عمن حدثه، عن سلمان =: أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه، قال: كل، وإن أكل ثلثيه، إذا أرسلته وذكرت اسم الله، وكان معلمًا. (2) 11189- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال،   (1) الأثر: 11187-"سعيد" الأول، هو"سعيد بن أبي عروبة". و"سعيد" الثاني، هو"سعيد بن المسيب". و"سلمان"، هو ابن الإسلام، "سلمان الخير الفارسي"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان في المخطوطة في هذا الأثر، والذي يليه"سليمان"، ثم استقامت المخطوطة على الصواب. وسيأتي بعد الأثر رقم 11211، في تعقيب أبي جعفر أن سعيد بن المسيب، غير معلوم له سماع من سلمان الفارسي. أما قوله: "أو سعد"، فلم أعرف ما أراد به، ولم أعرف من يكون"سعد" الذي يروي عنه قتادة، والذي يروي عن سلمان. وسيأتي في الآثار التالية، رواية مثل ذلك عن"سعد بن أبي وقاص". فأخشى أن يكون في الإسناد تقديم وتأخير: "قتادة، عن سعيد، عن سلمان، أو سعد". وأنا في شك من ذلك أيضًا. وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن 9: 237. (2) الأثر: 11188-"بكر بن عبد الله المزني"، مضى برقم: 4877، 4878، 8936، 9732. وكان في هذا الموضع من المخطوطة أيضًا"سليمان"، وانظر التعليق على الأثر السالف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 560 حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: كل وإن أكل ثلثيه = يعني: الصيدَ إذا أكل منه الكلب. 11190- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، نحوه. 11191- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد العزيز بن عبد الصمد، عن شعبة = ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة = جميعًا، عن سعيد، عن قتادة: عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسمَ الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل. (1) . 11192- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، عن سلمان، نحوه. 11193- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد، عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم: أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه. 11194- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو بازَك، فسميَّت فأكل نصفه أو ثلثيه، فكل بقيَّته. (2) 11195- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي: أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْية - يعني: بَضْعة. (3)   (1) في المطبوعة: "فأكل ثلثه فكل"، أسقط من الكلام ما ثبت في المخطوطة. (2) الأثر: 11194-"داود بن أبي الفرات" هو"داود بن عمر بن الفرات الكندي". ثقة، يروي عن"محمد بن زيد بن علي الكندي". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/215. و"محمد بن زيد بن علي الكندي" ويقال"العبدي"، قاضي مرو، ثقة صالح الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/84. (3) الأثر: 11195-"مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج"، مضى برقم: 3359. وأبوه"بكير بن عبد الله بن الأشج"، أو "بكير بن الأشج"، مضى برقم: 2747، و"حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي" أو: "حميد بن عبد الله بن مالك" وسيأتي كذلك في الأثرين: 11207، 11208، تابعي ثقة، روى عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص. مترجم في التهذيب. و"الحذية" و"الحذوة" (بكسر الحاء) : هو ما قطع من اللحم طولا، أو القطعة الصغيرة من اللحم. وأما "البضعة" فهي بفتح الباء وسكون الضاد. وكان في المخطوطة: "يعني بعضه"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 561 11196- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج يحدّث، عن سعد قال: كُل، وإن أكل ثلثيه. (1) 11197- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج، عن سعيد بن المسيب = قال شعبة: قلت: سمعته من سعيد؟ قال: لا = قال: كل وإن أكل ثلثيه = قال: ثم إن شعبة قال في حديثه: عن سعد. قال: كل، وإن أكل نصفه. 11198- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن أبي هريرة قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل. 11199- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، بنحوه. 11200- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، نحوه. 11201- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني سالم بن نوح العطار، عن عمر= يعني: ابن عامر = عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان قال: إذا   (1) الأثر: 11169-"عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري"، روى عن جده قيس بن عمرو. ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 562 أرسلت كلبك المعلَّم فأخذ فقتل، فكل، وإن أكل ثلثيه. (1) 11202- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عبيد الله (2) = ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر= عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل. 11203- حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه. 11204- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي ذئب: أن نافعًا حدَّثهم: أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأكل الصيد بأسًا، إذا قتله الكلب أكل منه. 11205- حدثني يونس به مرة أخرى فقال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمرو، ابن أبي ذئب، وغير واحد: أن نافعًا حدَّثهم، عن عبد الله بن عمر، فذكر نحوه. 11206- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يرى بأسًا بما أكل الكلبُ الضاري. 11207- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن حميد بن عبد الله، عن سعد قال: قلت لنا: كلاب ضوارٍ يأكلن ويبقين؟ قال: كل، وإن لم يبق إلا بَضْعة. 11208- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن أبي   (1) الأثر: 11201-"سالم بن نوح العطار" = و"عمر بن عامر السلمي"، مضيا برقم: 2852. (2) في المطبوعة: "عبد الله"، والصواب من المخطوطة، وهي غير منقوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 563 ذئب، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن حميد قال: سألت سعدًا، فذكر نحوه. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله:"تعلمونهن مما علمكم الله": أن"التعليم" الذي ذكره الله في هذه الآية للجوارح، إنما هو أن يعلِّم الرجل جارحَه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد (2) وطلبه إياه إذا أغرى، أو إمساكه عليه، إذا أخذه من غير أن يأكل منه شيئًا، وألا يفرّ منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه. فذلك، هو تعليم جميع الجوارح، طيرها وبهائمها. فإن أكل من الصيد جارحةُ صائد (3) فجارحه حينئذ غير معلَّم. (4) فإن أدرك صيده صاحبُه حيًّا فذكّاه، حلَّ له أكله. وإن أدركه ميتًا، لم يحلَّ له أكله، لأنه مما أكله السَّبُع الذي حرمه الله تعالى بقوله: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) ، ولم يدرك ذكاته. وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما:- 11209- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: إذا أرسلتَ كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أدركته وقد قتل وأكل منه فلا تأكل منه شيئًا، فإنما أمسكَ على نفسه. " (5)   (1) الأثران: 11207، 11208-"حميد بن عبد الله"، هو"حميد بن مالك بن خثيم" الذي مضى في الأثر: 11195، وانظر التعليق عليه هناك. و"يعقوب بن عبد الله بن الأشج" أخو"بكير بن عبد الله بن الأشج" الذي سلف برقم: 11195 وهو ثقة. مترجم في التهذيب. (2) انظر القول في"الإشلاء" و"الاستشلاء" فيما سلف ص: 553، تعليق: 4. (3) في المطبوعة: "وإن أكل ... " بالواو، والجيد ما في المخطوطة، بالفاء. (4) في المطبوعة: "فجارحه" بغير تاء التأنيث، والجيد ما في المخطوطة. (5) الأثر: 11209- حديث صحيح. رواه البخاري (الفتح 9: 527) ، ومسلم 13: 78، 79، وأحمد في المسند 4: 257، 379، وأبو داود في سننه 3: 145 رقم: 2849، والبيهقي في السنن 9: 236، 238، 242، 244 من طرق، مطولا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 564 11210- حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا محمد بن فضيل، عن بيان بن بشر، عن عامر، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب؟ فقال: إذا أرسلت كلابَك المعلَّمة وذكرت اسم الله عليها، فكل ما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلبُ، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما حَبَسه على نفسه. " (1) * * * فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثك به:- 11211- عمران بن بكّار الكلاعي قال، حدثنا عبد العزيز بن موسى قال، حدثنا محمد بن دينار، عن أبي إياس، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي. (2)   (1) الأثر: 11210- حديث صحيح. رواه البخاري من طريق قتيبة بن سعيد، عن محمد بن فضيل (الفتح 9: 527، 528) ، ومسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل 13: 75، وأحمد في مسنده 4: 258، والبيهقي في السنن 9: 236، 237، وأبو داود في سنن 3: 145، رقم: 2848 مطولا. (2) الأثر: 11211-"عمران بن بكار الكلاعي"، شيخ الطبري. مضى برقم: 149، 2071. و"عبد العزيز بن موسى بن روح اللاحوني"، أبو روح، البهراني الحمصي. قال أبو حاتم: "صدوق ثقة مأمون". مترجم في التهذيب. و"محمد بن دينار الأزدي الطاحي"، وهو"ابن أبي الفرات"، و"أبو بكر بن أبي الفرات" قال النسائي: "ليس به بأس"، وقال في موضع آخر: "ضعيف"، وقال أبو داود: "تغير قبل أن يموت"، وقال الدارقطني: "ضعيف"، وقال مرة: "متروك". مترجم في التهذيب. و"أبو إياس"، هو"معاوية بن قرة بن إياس المزني"، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر قد تكلم الطبري في إسناده فيما يلي، ونقل ابن كثير في تفسيره 3: 75، ما قاله الطبري، ثم عقب عليه بقوله: "وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، ولكن قد روي هذا المعنى مرفوعًا من وجوه أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ... " وساق حديث أبي داود في سننه 3: 147، رقم: 2857، ثم قال ابن كثير: "هكذا رواه أبو داود، وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود من طريق يونس بن سيف، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة ... " ثم ساق حديث أبي داود في سننه 3: 147، رقم: 2856، ثم قال: "وهذان إسنادان جيدان". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 565 قيل: هذا خبر في إسناده نظر، فإن"سعيدًا" غير معلوم له سماع من"سلمان"، والثقات من أهل الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان، ويروونه عنه من قِبَله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والحفَّاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفردٌ ليس له حفظهم، كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم. (1) * * * قال أبو جعفر: وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرتُ: من أنه إذا أكل من الصيد فغيرُ معلَّم، فكذلك حكم كل جارحة: في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلَّم، لا يحل له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته. * * * القول في تأويل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، فكلوا، أيها الناس، مما أمسكت عليكم جوارحكم. * * * واختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله، حلال أكل كلِّ ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلَّمة من الصيد الحلال أكله، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه، أدركتْ ذكاته فذُكِّي أو لم تدرَك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جَرْح.   (1) انظر التعليق على الأثر السالف، رقم: 11211. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 566 وهذا قول الذين قالوا:"تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلَّم الاستشلاء على الصيد، وطلبه إذا أشْليت عليه، وأخذه، وترك الهرب من صاحبها، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته". وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفًا. (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك على الخصوص دون العموم. قالوا: ومعناه: فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضًا وأمسكت بعضًا، فالذي أمسكت منه غير جائز أكلُه وقد أكلت بعضه، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه، على أنفسها لا علينا، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كلَ ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، دون ما أمسكته على أنفسها. وهذا قول من قال:" تعليم الجوارح الذي يحلُّ به صيدها: أن تَستشلى للصيد إذا أشليت، فتطلبه وتأخذه، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئًا، ولا تفر من صاحبها". وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة (2) ونذكر منهم جماعة أخَر في هذا الموضع. (3) 11212- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، يقول: كلوا مما قتلن = قال علي: وكان ابن عباس يقول: إن قتل وأكل فلا تأكل، وإن أمسك فأدركته حيًّا فذكِّه. 11213- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،   (1) انظر ما سلف من الآثار من رقم: 11187، وما بعده. (2) انظر ما سلف من الآثار، من رقم: 11182، وما بعده. (3) في المطبوعة: "جماعة آخرين"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 567 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن أكل المعلَّم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده. 11214- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، إذا صادَ الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه، فهو حِلٌّ. فإن أكل منه، فيقال: إنما أمسك على نفسه. (1) فلا تأكل منه شيئًا، إنه ليس بمعلَّم. 11215- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يسألونك ماذا أحل لهم" إلى قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه"، قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو طيرك أو سهمك، فذكرت اسم الله، فأخذ أو قتل، فكل. 11216- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله، فأمسك أو قتل، فهو حلال. فإذا أكل منه فلا تأكله، فإنما أمسكه على نفسه. 11217- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي، عن عديّ قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، قال: قلت يا رسول الله، إن أرضي أرضُ صيد؟ قال:"إذا أرسلت كلبك وسميت، فكل مما أمسك عليك كلبُك وإن قتل. فإن أكل فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه. (2)   (1) في المخطوطة: "إنما أمسك فلا تأكل ...... " أسقط"على نفسه"، والصواب إثباتها كما في المطبوعة. (2) الأثر: 11217- حديث صحيح، أخرجه البخاري (الفتح 9: 527) ، نحوًا من لفظه. ورواه بهذا اللفظ مطولا، أحمد في مسنده 4: 257، وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 11209. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 568 وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبلُ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره. (1) * * * فإن قال قائل: وما وجه دخول"من"، في قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلالِ، و"من" إنما تدخل في الكلام مبعِّضَة لما دخلت فيه؟ قيل: قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية. فقال بعض نحويي البصرة: دخلت"من" في هذا الموضع لغير معنًى، كما تدخله العرب في قولهم:"كان من مطر" و"كان من حديث". قال: ومن ذلك قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [سورة البقرة: 271] ، وقوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) [سورة النور: 43] ، قال: وهو فيما فسِّر: وينزل من السماء جبالا فيها برد. قال: وقال بعضهم: و"ينزل من السماء من جبال فيها من برد"، أي: من السماء من برد، بجعل"الجبال من برد" في السماء، وبجعل الإنزال منها. (2) * * * وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول: لم تدخل"من" إلا لمعنى مفهوم، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به. وذلك أنها دالة على التبعيض. وكان يقول: معنى قولهم"قد كان من مطر" و"كان من حديث"؛ هل كان من مَطَرِ مَطَرَ عندكم؟ وهل من حديث حُدِّث عندكم؟ (3) ويقول: معنى: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، أي: ويكفر عنكم من سيِّئاتكم ما يشاء ويريد = وفي قوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) ، فيجيز   (1) انظر ما سلف ص: 564. (2) انظر ما سلف 2: 126، 127 / 5: 586/6: 551/7: 489. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "حديث حديث عندكم"؛ والصواب ما أثبت. ويعني قائل ذلك أن قوله"قد كان من مطر" إلخ، إنما هو جواب لقول القائل: هل كان من مطر مطر عندكم؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 569 حذف"من" من"من برد" (1) ولا يجيز حذفها من"الجبال"، ويتأول معنى ذلك: وينزل من السماء أمثالَ جبالٍ بردٍ، ثم أدخلت"من" في"البرد"، لأن"البرد" مفسَّر عنده من"الأمثال" (2) أعني:"أمثال الجبال"، وقد أقيمت"الجبال" مقام"الأمثال"، و"الجبال" وهي"جبال برد" فلا يجيز حذف"من" من"الجبال"، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد، أمثالُ جبال بردٍ. وأجاز حذف"من" من"البرد"، لأن"البرد" مفسَّر عن"الأمثال"، كما تقول:"عندي رطلان زيتًا" و"عندي رطلان من زيت"، وليس عندك"الرطل"، وإنما عندك المقدار. فـ"من" تدخل في المفسِّر وتخرج منه. وكذلك عند قائل هذا القول: من السماء، من أمثال جبال، وليس بجبال. وقال: وإن كان:"أنزل من جبال في السماء من برد جبالا"، ثم حذف"الجبال" الثانية، و"الجبال" الأول في السماء، جاز. تقول:"أكلت من الطعام"، تريد: أكلت من الطعام طعامًا، ثم تحذف"الطعام" ولا تسقط"من". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن"من" لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة، لدلالة ما يظهر من الكلام عليها. فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها، فذلك قد بيَّنا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صحّ من الكلام. (3) ومعنى دخولها في قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، للتبعيض، إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه، وحرَّم عليهم فَرْثه ودمَه، فقال جل ثناؤه:"فكلوا" = مما أمسكتْ عليكم جوارحكم (4) = الطيبات التي أحللت   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "حذف من من برد"، والصواب زيادة"من" الثالثة كما أثبتها. (2) "المفسر": المميز. و"التفسير": التمييز. وانظر فهارس المصطلحات. (3) انظر المواضع السالفة التي أشرنا إليها في التعليق: 2، ص 569. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "مما أمسكن عليكم جوارحكم"، والصواب الجيد ما أثبت، إنما خلط النساخ بين (النون) ، و"التاء". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 570 لكم من لحومها، دون ما حرمت عليكم من خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك، مما لم أطيبه لكم. فذلك معنى دخول"من" في ذلك. وأما قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1) وأما دخولها في قوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ) ، فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله. (2) . * * * القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (واذكروا اسم الله عليه) (3) على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد. كما:- 11218- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"واذكروا اسم الله عليه"، يقول: إذا أرسلت جوارحك فقل:"بسم الله"، وإن نسيت فلا حَرَج. 11219- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"واذكروا اسم الله عليه"، قال: إذا أرسلته فسَمِّ عليه حين ترسله على الصيد. * * *   (1) انظر ما سلف 5: 586، والمواضع الأخرى في التعليق السالف ص: 569، رقم: 2. (2) انظر ج 18: 118، 119 (بولاق) من هذا التفسير، ولم يف أبو جعفر بما وعد، فلم يبينه بيانًا كافيًا حيث أشار إليه. وقد كان في المطبوعة هنا: "إن شاء الله تعالى". وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "واذكروا اسم الله على ما أمسكت ... " والصواب إثبات"عليه" من تمام الآية، وما بعده تفسير قوله: "عليه". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 571 القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها الناس، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلَّمة، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تطعَمُوا ما لم يسمَّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صادَه أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحِّد الله من خلقه، أو ذبحوه، فإن الله قد حرَّم ذلك عليكم فاجتنبوه. ثم خوَّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره. فقال: اعلموا أن الله سريعٌ حسابه لمن حاسبه على نِعَمه عليه منكم (1) وشكرِ الشاكر منكم ربَّه على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم، فيحيط به، لا يخفى عليه منه شيء، فيجازي المطيعَ منكم بطاعته، والعاصيَ بمعصيته، وقد بيَّن لكم جزاء الفريقين. (2) * * * القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"اليوم أحل لكم الطيبات"، اليوم أحل لكم، أيها المؤمنون، الحلالُ من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها. وقوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم"، وذبائحُ أهل الكتاب من   (1) في المطبوعة: "على نعمته ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"سريع الحساب" فيما سلف 7: 501، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 572 اليهود والنصارى = وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل وأنزل عليهم، فدانُوا بهما أو بأحدهما ="حل لكم" (1) يقول: حلالٌ لكم، أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام. فإن من لم يكن منهم مِمَّن أقرَّ بتوحيد الله عزَّ ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرام عليكم ذبائحهم. * * * ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب"، من أهل الكتاب. فقال بعضهم: عنى الله بذلك ذبيحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل، أو ممن دخل في مِلَّتهم فدان دينهم، وحرَّم ما حرَّموا، وحلَّل ما حللوا، منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم. *ذكر من قال ذلك: 11220- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا عكرمة قال، سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقرأ هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ) إلى قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، الآية [سورة المائدة: 51] . (2) 11221- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان: عن عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. 11222- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشر، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبائح نصارى   (1) انظر تفسير"حل" و"حلال" فيما سلف 3: 300، 487. (2) الأثر: 11220- هذا الأثر مؤخر بعد الذي يليه في المخطوطة، فلا أدري أهو مؤخر، أم سقط قبل الأثر رقم 11221، أثر آخر، فاجتهد ناشر الكتاب أو ناسخ سابق، فقدم وأخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 573 بني تغلب، وبتزوُّج نسائهم، ويتلوان: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) . 11223- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبيحة نصارى بني تغلب. 11224- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي: أنه كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وقرأ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ، [سورة مريم: 64] . 11225- حدثني ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب، قال. تؤكل من أجل أنهم في الدين أهلُ كتاب، ويذكرون اسمَ الله. 11226- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: إنما يقرُّون بدين ذلك الكتاب. (1) 11227- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقالوا: لا بأس بها. قال: وقرأ الحكم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ) ، [سورة البقرة: 78] . 11228- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوَّجوا من نسائهم، فإن الله قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [سورة المائدة: 51] ، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية، لكانوا منهم.   (1) في المطبوعة: "إنما يقرأون ذلك الكتاب"، وفي المخطوطة: "إنما يقرون بين ذلك" ورأيت أن صواب قراءتها كما أثبت، أي: أنهم يدينون بدين ذلك الكتاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 574 11229- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: أن الحسن كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وكان يقول: انتحلوا دينًا، فذاك دينهم. * * * وقال آخرون: إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية، الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل، فلم يعن بهذه الآية، وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه، لأنه ليس ممن أوتي الكتاب من قَبْل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله = حدثنا بذلك عنه الربيع = ويتأول في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين. (1) * * * ذكر من حرَّم ذبائح نصارى العرب. 11230- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة قال، قال علي رضوان الله عليه: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. (2) 11231- حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. 11232- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا عبد الله بن بكر قال، حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليًّا عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا تؤكل ذبائحهم، فإنهم لم يتعلَّقوا من دينهم إلا بشرب الخمر. 11233- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن عابس،   (1) انظر الأم 2: 196. (2) الأثر: 11230- رواه الشافعي في الأم 2: 196، والبيهقي في السنن 9: 284، وأشار إليه الحافظ ابن حجر في (الفتح 9: 549) ، وقال: "أخرجه الشافعي وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 575 عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري قال: نهانا عليٌّ عن ذبائح نصارى العرب. (1) 11234- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي حمزة القصاب قال: سمعت محمد بن علي يحدث، عن علي: أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب. 11235- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب، وذبائح نصارى أرْمينية. * * * قال أبو جعفر: وهذه الأخبار عن عليّ رضوان الله عليه، إنما تدل على أنه كان ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب، من أجل أنهم ليسوا على النصرانية، لتركهم تحليل ما تحلِّل النصارى، وتحريم ما تُحَرّم، غير الخمر. ومن كان منتحلا (2) ملّة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها. (3) فلذلك نهى عليٌّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل. فإذ كان ذلك كذلك، وكان إجماعًا من الحجة أن لا بأس بذبيحة كل نصرانيّ ويهوديّ دان دين النصرانيّ أو اليهودي (4) فأحل ما أحلُّوا، وحرَّم ما حرموا،   (1) الأثر: 11233-"علي بن سعيد بن مسروق الكندي"، مضى برقم: 1184، 2784. و"علي بن عابس الأسدي"، ضعيف، يعتبر به. مترجم في التهذيب. و"أبو البختري"، هو: "سعيد بن فيروز الطائي" مضى برقم: 175، 1497. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "من كان منتحلا ... " بغير واو في أوله الكلام، وهو فساد، والصواب إثباتها. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللحاق ... "، بإسقاط"منه"، وهو اختلال شديد، والصواب إثباتها. (4) في المطبوعة: "وكان إجماعًا من الحجة إحلال ذبيحة كل نصراني ويهودي انتحل دين النصارى أو اليهودي، فأحل ... "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فوضع مكان ما حذف منها ما وضع. وكان في المخطوطة: "وكان إجماعًا من الحجة ألا بأس فذبيحة كل نصراني ويهودي دان دين النصراني أو اليهودي"، وظاهر أن صواب قراءة صدر هذه الجملة هو ما أثبته، وهو مطابق لما جاء في الآثار السالفة من 11222-11229. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 576 من بني إسرائيل كان أو من غيرهم = (1) فبيِّنٌ خطأ ما قال الشافعي في ذلك، وتأويله الذي تأوّله في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم"، أنه ذبائح الذين أوتوا الكتابَ التوراةَ والإنجيلَ من بني إسرائيل = (2) وصوابُ ما خالف تأويله ذلك، وقولِ من قال: إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحتُه، من أيِّ أجناس بني آدم كان. * * * وأمَّا"الطعام" الذي قال الله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب"، فإنه الذبائح. * * * وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: 11236- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم"، قال: الذبائح. 11237- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم. 11238- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. 11239- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. 11240- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. (3)   (1) السياق: وإذ كان ذلك كذلك، وكان إجماعًا من الحجة ... فبين خطأ ما قال الشافعي ... (2) السياق: فبين خطأ ما قال الشافعي ... وصواب ما خالف تأويله ذلك. (3) الأثر: 11240-"إسحق بن سليمان الرازي العبدي، سلف برقم: 6456. و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان الشيباني"، مضى برقم: 175. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 577 11241- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11242- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبيحة أهل الكتاب. 11243- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم. 11244- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، بمثله. 11245- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 11246- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 11247- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 11248- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم. 11249- حدثني المثنى قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن يونس، عن الحسن، مثله. (1)   (1) الأثر: 11249-"المعلى بن أسد العمي" الحافظ الثقة، روى عنه البخاري، والباقون بالواسطة. مترجم في التهذيب، ومضى غير مترجم برقم: 7232. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 578 11250- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، أي: ذبائحهم. 11251- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، أما طعامهم، فهو الذبائح. 11252- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: أحل الله لنا طعامهم ونساءَهم. 11253- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أما قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، فإنه أحلَّ لنا طعامهم ونساءهم. 11254- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته = يعني ابن زيد = (1) عما ذبح للكنائس وسُمِّي عليها، فقال: أحل الله لنا طعام أهل الكتاب، ولم يستثن منه شيئًا. 11255- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني معاوية، عن أبي الزاهرية حدير بن كريب، = عن أبي الأسود، عن عُمَير بن الأسود: أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذُبح لكنيسة يقال لها"جرجس"، أهدوه لها، أنأكل منه؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوًا! إنما هم أهل كتاب، طعامهم حلٌّ لنا، وطعامنا حل لهم! وأمره بأكله. (2)   (1) في المطبوعة: "يعني ابن يزيد"، وهو خطأ، محض، وهو إسناد دائر في التفسير. (2) الأثر: 11255-"معاوية"، هو"معاوية بن صالح بن حدير الحمصي الحضرمي"، مضى برقم: 186، 187، 2072، 8472. و"أبو الزاهرية"، وهو"حدير بن كريب الحضرمي = أو الحميري". روى عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة. روى عنه معاوية بن صالح، وغيره. قال ابن سعد: "وكان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/91. وفي هذا الإسناد إشكال. فإن ظاهره أن أبا الزاهرية حدير بن كريب، روى الأثر عن"أبي الأسود، عن عمير بن الأسود"، وهذا محال. فإن أبا الزاهرية يروي مباشرة عن أبي الدرداء. فأكبر ظني أن في أصول التفسير سقطًا أو خرمًا في هذا الموضع، وأن الإسناد انتهى عند قوله"حدير بن كريب" وسقط أثر حدير بن كريب عن أبي الدرداء، وبدأ إسناد آخر -لا ندري ما هو- ينتهي إلى أبي الأسود عن عمير بن الأسود، أنه سأل أبا الدرداء ... إلخ. وسيظهر صواب ذلك فيما يأتي. و"أبو الأسود" في هذا الإسناد التالي، لم أعرف من يكون فيمن يكنى بأبي الأسود. وأما "عمير بن الأسود العنسي"، فزعم ابن حجر، أنه هو"عمرو بن الأسود" وبذلك ترجم له في التهذيب (8: 4) وأنهما رجل واحد، وقال: روى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من الصحابة. وقال ابن أبي حاتم 3/1/375: "عمير بن الأسود العنسي الشامي"، سمع عبادة، وأبا الدرداء، وأم حرام. روى عنه خالد بن معدان، سمعت أبي يقول ذلك". وترجم أيضًا"عمرو بن الأسود القيسي"، وقال: "روى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعبادة بن الصامت. روى عنه مجاهد، وخالد بن معدان ... "، ففرق تفريقًا ظاهرًا بين"عمرو بن الأسود القيسي"، و"عمير بن الأسود العنسي". وكذلك فعل ابن سعد في الطبقات 7/2/153، ففرق بينهما قال: "عمير بن الأسود: سأل أبا الدرداء عن طعام أهل الكتاب. وروى عن معاذ بن جبل، وكان قليل الحديث ثقة". ثم عقد ترجمة أخرى: "وعمرو بن الأسود السكوني: روى عن عمر ومعاذ، وله أحاديث". فلا أدري من أين جعلهما الحافظ ابن حجر، رجلا واحدًا!! وقد ثبت بما رواه ابن سعد، أن هذا الأثر، إنما هو من حديث عمير بن الأسود، أنه سأل: أبا الدرداء، وأنه حديث آخر، غير حديث حدير بن كريب أبي الزاهرية. هذا، ولم أجد هذا الأثر -أو هذين الأثرين- في مكان آخر، وقد أغفل ابن كثير روايته في تفسيره، وأغفله أيضًا السيوطي في الدر المنثور. وكتبه: محمود محمد شاكر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 579 وأما قوله:"وطعامكم حل لهم"، فإنه يعني: ذبائحكم، أيها المؤمنون، حِلٌّ لأهل الكتاب. * * * الجزء: 9 ¦ الصفحة: 580 القول في تأويل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والمحصنات من المؤمنات"، أحل لكم، أيها المؤمنون، المحصنات من المؤمنات = وهن الحرائر منهن (1) = أن تنكحوهن ="والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: والحرائر من الذين أعطوا الكتاب (2) وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم، أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس، أن تنكحوهن أيضًا ="إذا آتيتموهن أجورهن"، يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتِكم ومحصناتهم (3) ="أجورهن"، وهي مهورُهن. (4) * * * واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم". فقال بعضهم: عنى بذلك الحرائر خَاصة، فاجرةً كانت أو عفيفةً. وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرة، مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى، من أيِّ أجناس الناس كانت (5) بعد أن تكون كتابية، فاجرة كانت أو عفيفةً.   (1) انظر تفسير"المحصنات"، و"الإحصان" فيما سلف 8: 151-169/ ثم 8: 185-190. (2) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"الأجور" فيما سلف من فهارس اللغة. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "من أي أجناس كانت"، وزدت"الناس"، لأن السياق يقتضيها اقتضاء لا شك فيه. ولو قلت مكانها: "من أي أجناس اليهود والنصارى كانت"، لكان صوابا أيضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 581 وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يُتَزَوَّجن بكل حال (1) لأن الله جل ثناؤه شرطَ من نكاح الإماء الإيمانَ بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) ، [سورة النساء: 25] . *ذكر من قال ذلك: 11256- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، قال: من الحرائر. 11257- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: من الحرائر. 11258- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا طلَّق امرأته وخُطِبَت إليه أخته، وكانت قد أحدثت، فأتى عمر فذكر ذلك له منها، فقال عمر: ما رأيت منها؟ قال: ما رأيت منها إلا خيرًا! فقال: زوِّجها ولا تُخْبِر. 11259- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا عامر قال: زنت امرأة منَّا من همدان، قال: فجلدها مُصَدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدَّ (2) ثم تابت. فأتوا عمر فقالوا:   (1) في المطبوعة: "أن نتزوجهن"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) "المصدق" هو العامل على الصدقات، يجمعها من أهلها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 582 نزوّجها، وبئسَ ما كان من أمرها! قال عمر: لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئًا من ذلك، لأعاقبنكم عقوبةً شديدة. 11260- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا أراد أن يزوِّج أخته، فقالت: إني أخشى أن أفضَح أبي، فقد بَغَيْتُ! فأتى عمر، فقال: أليس قد تابت؟ قال: بلى! قال: فزوّجها. 11261- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن نُبَيْشة، امرأةً من همدان، بغتْ، فأرادت أن تذبح نفسها، قال: فأدركوها، فداووها فبرئت، فذكروا ذلك لعمر، فقال: انكحوها نكاحَ العفيفة المسلمة. 11262- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من أهل اليمن أصابت أختُه فاحشة، فأمرَّت الشَّفرة على أوداجها، فَأُدْرِكت، فدُووِي جُرْحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونَسَكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلِّسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك! إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إيّاه. 11263- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن جارية باليمن يقال لها:"نبيشة"، أصابت فاحشة، فذكر نحوه. 11264- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر قال: أتى رجل عمر فقال: إن ابنةً لي كانت وُئِدت في الجاهلية، فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركت الإسلام، فلما أسلمت أصابت حدًّا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 583 حدود الله، فعمدتْ إلى الشفرة لتذبح بها نفسها، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها حتى برئت، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلَيّ يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه! والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نَكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاحِ العفيفة المسلمة. (1) 11265- حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا مروان، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى عمر، فذكر نحوه. 11266- حدثنا مجاهد قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير: أن رجلا خطب من رجل أخته، فأخبره أنها قد أحدثتْ. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فضرب الرجل وقال: ما لك والخبر! أنكح واسكُت. (2) 11267- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحدًا أصابَ فاحشة في الإسلام أن يتزوج مُحْصنة! فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب! * * * وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، العفائفَ من الفريقين، إماءً كنَّ أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاحَ إماء أهل الكتاب الدائنات دينَهم بهذه الآية،   (1) "الأوداج" جمع"ودج" (بفتحتين) : وهو عرق متصل من الرأس إلى النحر، والأوداج: عروق تكتنف الحلقوم. (2) هذه الأخبار السالفة، أدب من آداب هذا الدين عظيم، وهدي من هدي أهل الإيمان، أمروا به، ومضوا عليه. حتى خلفت من بعدهم الخلوف، فجهلوا أمر دينهم، وغالوا غلوا فاحشًا في استبشاع زلة من زل من أهل الإيمان، فقتل الرجل منهم بنته وأخته ومن له عليها الولاية. وما فعلوا ذلك، إلا بعد أن فارقوا جادة الإيمان في سائر ما أمرهم الله به، فاستمسكوا بالغلو الفاحش، وظنوا ذلك من تمام ديانتهم ومروءتهم. وهذا دليل على أن كل تفريط في الدين، يقابله في الجانب الآخر غلو في التدين بغير دين! ورحم الله عمر بن الخطاب، ما كان أبصره بالناس وأرحمه بهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 584 وحرَّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب. *ذكر من قال ذلك: 11268- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: العفائف. 11269- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله. 11270- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتَسِل من الجنابة. 11271- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجَها. 11272- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مطرف، عن رجل، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة. 11273- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مطرف، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصانها: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها من الزنا. 11274- حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، قال، أخبرنا مطرف، عن عامر، بنحوه. 11275- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) ، قال: العفائف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 585 11276- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: أما"المحصنات"، فهنّ العفائف. 11277- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن امرأة اتخذت مملوكها (1) وقالت: تأوّلت كتابَ الله:"وما ملكت أيمانكم"، قال: فأتى بها عمر بن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأوّلت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال فغَرَّب العبد وجزَّ رأسه. (2) وقال: أنتِ بعده حرام على كل مسلم. 11278- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم أنه قال: في التي تزني قبل أن يُدْخل بها (3) قال: ليس لها صداق، ويفرَّق بينهما. 11279- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، في البكر تفجُر (4) قال: تضرب مئة سوط، وتنفى سنة، وترُدّ على زوجها ما أخذت منه. 11280- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، مثل ذلك. 11281- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا أشعث عن الحسن، مثل ذلك.   (1) قوله: "اتخذت مملوكها"، أي أمكنته من نفسها، وتسرت به كأنه زوج لها. (2) في المطبوعة: "فقرب العبد" بالقاف، وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. و"التغريب": النفي. و"جز رأسه": أي قص شعره. ولم يرد القتل. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "تسرى قبل أن يدخل بها"، وكأن الصواب ما أثبت. انظر الأثر التالي. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "في البكر تهجر"، ولا معنى لذلك، والصواب ما أثبت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 586 11282- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشةً فاستيقن، فإنه لا يمسكها. 11283- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي ميسرة قال: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم. * * * ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، أعام أم خاصٌّ؟ فقال بعضهم: هو عامٌّ في العفائف منهن، لأن"المحصنات"، العفائف. وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابيةٍ، حربيةً كانت أو ذميَّةً. واعتلُّوا في ذلك بظاهر قوله تعالى:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، وأن المعنيَّ بهن العفائف، كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بـ "المحصنات" في هذا الموضع: العفائف. * * * وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، الحرائرَ منهن، والآية عامة في جميعهن. فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيّات كنّ أو ذميات، من أيِّ أجناس اليهود والنصارى كنَّ. وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين. *ذكر من قال ذلك: 11284- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن: أنهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنصارى، وقالا أحلَّه الله على علم. * * * وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك نكاحَ بني إسرائيل الكتابياتِ منهن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 587 خاصة، دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله. (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك معنىٌّ به نساءُ أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمَّة وعهدٌ. فأما أهل الحرب، فإن نساءهم حرام على المسلمين. *ذكر من قال ذلك: 11285- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عقبة، قال، حدثنا الفزاري، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: من نساء أهل الكتاب من يحلُّ لنا، ومنهم من لا يحلُّ لنا، ثم قرأ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ، [سورة التوبة: 29] . فمن أعطى الجزية حلَّ لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه = قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم، فأعجبه. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال:   (1) انظر الأم 5: 6 قوله: "ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين اليهودية والنصرانية، لأن أصل دينهم كان الحنيفية، ثم ضلوا بعبادة الأوثان، وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة والإنجيل فضلوا عنهما وأحدثوا فيها، إنما ضلوا عن الحنيفية، ولم يكونوا كذلك، لا تحل ذبائحهم، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان، ولم يكن من أهل الكتابين المشهورين التوراة والإنجيل، فدان دينهم، لم يحل نكاح نسائهم". وانظر سنن البيهقي 7: 173. (2) الأثر: 11285-"محمد بن عقبة بن المغيرة الشيباني"، "أبو عبد الله الطحان". روى عن أبي إسحق الفزاري، وسوار بن مصعب، وغيرهما. روى عنه البخاري وأبو كريب وغيرهما. قال البخاري"معروف الحديث"، وقال أبو حاتم"ليس بالمشهور"، وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر: "وماله في البخاري سوى حديثين: أحدهما في الجمعة، متابعة. والآخر في الاعتصام، مقرونًا". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/200. و"الفزاري"، هو"أبو إسحق الفزاري": "إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري"، الإمام الثقة. مضى برقم: 3833. و"سفيان بن حسين الواسطي"، مضى برقم: 3471، 6462. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 588 عنى بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، حرائرَ المؤمنين وأهل الكتاب. لأن الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرارِ في الحال التي أباحهن لهم، إلا أن يكنَّ مؤمنات، فقال عز ذكره: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [سورة النساء: 25] ، فلم يبح منهن إلا المؤمنات. فلو كان مرادًا بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، العفائفَ، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات، وإن كن قد أتين بفاحشة بقوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [سورة النور: 32] . وقد دللنا على فساد قول من قال:"لا يحلُّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين"، في موضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) = فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذميةً كانت أو حربيّةً، بعد أن تكون بموضع لا يخافُ الناكح فيه على ولده أن يُجْبر على الكفر، بظاهر قول الله جل وعز:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم". * * * فأما قول الذي قال:"عنى بذلك نساء بني إسرائيل، الكتابيّات منهن خاصة" (2) فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه، لشذوذه والخروج عما عليه علماء الأمة، من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى. وقد دللنا على فساد قول قائل   (1) انظر ما سلف 8: 189، 190. (2) يعني قول الشافعي فيما سلف ص 587، 588: تعليق: 1. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 589 هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته. (1) * * * وأما قوله:"إذا آتيتموهن أجورهن"، فإن"الأجر": العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر. (2) كما:- 11286- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"آتيتموهن أجورهن"، يعني: مهورهن. * * * القول في تأويل قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان. ويعني بقوله جل ثناؤه:"محصنين"، أعفَّاء ="غير مسافحين"، يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة، وهو الفجور ="ولا متخذي أخدان"، يقول: ولا منفردين ببغيّة واحدة، قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها. * * * وقد بينا معنى"الإحصان" ووجوهه = ومعنى"السفاح" و"الخدن" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (3) وهو كما:-   (1) انظر ما سلف 4: 362-369. (2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"الإحصان" فيما سلف 8: 151-169/ ثم 8: 185-190 = وتفسير"السفاح" فيما سلف 8: 174، 175، 193-195 = وتفسير"الخدن" فيما سلف 8: 193-195. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 590 11287- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"محصنين غير مسافحين"، يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة (1) غير مسافحين متعالنين بالزنا ="ولا متخذي أخدان"، يعني: يسرُّون بالزنا. 11288- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: أحل الله لنا محصنتين: محصنة مؤمنة، ومحصنة من أهل الكتاب ="ولا متخذي أخدان": ذات الخدان، ذات الخليل الواحد. 11289- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن الحسن قال: سأله رجل: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لَمَح الرجل، إليها بعينه اتّبعته. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان"، ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به، من توحيد الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به   (1) "البينة"، سلف ذكرها في الأثرين رقم 9002، 9008 (انظر 8: 161، تعليق: 1 = ثم ص: 162 تعليق: 2) . وقد بدا لي هنا أنه عنى بقوله"البينة"، إعلان النكاح. فراجع ما كتبته هناك، فإني في شك من ذلك كله. (2) الأثر: 11289-"سليمان بن المغيرة القيسي"، "أبو سعيد البصري"، روى عن أبيه، وثابت البناني، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. روى عنه الثوري وشعبة، وماتا قبله، ثم جماعة كثيرة من الثقات، من ثقات أهل البصرة. مترجم في التهذيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 591 من عند الله = وهو"الإيمان"، الذي قال الله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان فقد حَبِطَ عمله" = يقول: فقد بَطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله. (1) ="وهو في الآخرة من الخاسرين"، يقول: وهو في الآخرة من الهالكين، الذين غَبَنوا أنفسَهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد، وعملهم بغير طاعة الله. (2) * * * وقد ذكر أن قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، عنى به أهل الكتاب، وأنه أنزل على رسول الله صلى عليه وسلم من أجل قوم تحرَّجوا نكاح نساءِ أهل الكتاب لما قيل لهم:"أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم". *ذكر من قال ذلك: 11290- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم = يعني: نساء أهل الكتاب = وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين"، فأحل الله تزويجهن على علم. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل"الإيمان" قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 11291- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال:"الله"، الإيمان. (3)   (1) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317/6: 287. (2) انظر تفسير"الخاسر"، و"الخسران" فيما سلف 9: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "قال: بالإيمان، بالله"، غير ما في المخطوطة، وهو صواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 592 11292- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن واصل، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان"، قال:"الإيمان"، التوحيد. 11293- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: بالله. 11294- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. 11295- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: من يكفر بالله. 11296- حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: من يكفر بالله. 11297- حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: الكفر بالله. 11298- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة. قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11299- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: أخبر الله سبحانه أن"الإيمان" هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا يحرِّم الجنة إلا على من تركه. * * * فإن قال لنا قائل: وما وجه تأويل مَنْ وجَّه قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، إلى معنى: ومن يكفر بالله؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 593 قيل: وجه تأويله ذلك كذلك، أن"الإيمان" هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، و"الكفر" جحود ذلك. قالوا: فمعنى"الكفر بالإيمان"، هو جحود الله وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة. فإن قال قائل: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها؟ قيل: تأويلها: ومن يأبَ الإيمان بالله، ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله. وذلك أن"الكفر" هو الجحود في كلام العرب، و"الإيمان" التصديق والإقرار. ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به، فهو من الكافرين (1) فذلك تأويل الكلام على وجهه. * * *   (1) انظر تفسير"الكفر" و"الإيمان" في فهارس اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 594 القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق. * * * ثم اختلف أهل التأويل في قوله:"إذا قمتم إلى الصلاة"، أمرادٌ به كلَّ حال قام إليها، أو بعضها؟ وأيّ أحوال القيام إليها؟ فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، من أنه معنيٌّ به بعضُ أحوال القيام إليها دون كل الأحوال، وأنّ الحال التي عُني بها، حالُ القيام إليها على غير طُهْر. ذكر من قال ذلك: 11300 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا عبيد الله قال: سئل عكرمة عن قول الله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، فكلَّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلا من حَدَثٍ. 11301 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة قال: كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 سعد بن أبي وقاص يُصلِّي الصلوات بوضوءٍ واحد. (1) 11302 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي، عن عكرمة قال: كان سعد بن أبي وقاص يقول: صلّ بطهورك ما لم تحدث. (2) 11303 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: أخبرنا سليم بن أخضر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يوجب الوضوء؟ قال: الحدَث. 11304 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن يزيد بن طريف= أو: طريف بن يزيد=: أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطئ دجلة، فتوضأوا فصلوا الظهر، فلما نودي بالعصر، قام رجال يتوضأون من دجلة، فقال: إنه لا وضوء إلا على من أحدث. 11305 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن طريف بن زياد= أو: زياد بن طريف= عن واقع بن سحبان: أنه شهد أبا موسى صلى بأصحابه الظهر، ثم جلسوا حِلَقًا على شاطئ دجلة، فنودي بالعصر، فقام رجال يتوضأون، فقال أبو موسى: لا وضوء إلا على من أحدث.   (1) الأثر: 11301 -"مسعود بن على الشيباني"، قال البخاري: "سمع عكرمة، مرسل. روى عنه يحيى القطان وقال: لم يكن به بأس". وقال ابن أبي حاتم: "روى عنه شعبة، ويحيى بن سعيد القطان". الكبير للبخاري 4/ 1 / 423، وابن أبي حاتم: 4 / 1 / 283. وسيأتي في الأثر التالي. وفي الأثرين رقم: 11322، 11323. وفي الأثر التالي. والأثر: 11322، أنه قد روى عنه"سفيان بن حبيب". وانظر التعليق على الأثر التالي. (2) الأثر: 11302 -"سفيان بن حبيب البصري"، كان عالما بحديث شعبة وابن أبي عروبة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/91، وابن أبي حاتم 2/1/228، ولم يذكر في ترجمته أنه روى عن"مسعود بن علي الشيباني". وخبر مسعود هذا من رواية شعبة، كما مر في الأثر السالف، فأخشى أن يكون إسناده"سفيان بن حبيب، عن شعبة، عن مسعود بن علي". وانظر التعليق على الأثر السالف، وتعليق الأثر الآتي: 11322. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 11306 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد= أو: يزيد بن طريف= قال: كنت مع أبي موسى بشاطئ دجلة، فذكر نحوه. 11307 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد =أو: يزيد بن طريف=، عن أبي موسى، مثله. (1) 11308 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا أبو خالد قال، توضأت عند أبي العالية الظهرَ أو العصر، فقلت: أصلي بوضوئي هذا، فإني لا أرجع إلى أهلي إلى العَتَمة؟ قال أبو العالية: لا حرج. وعلّمنا:   (1) الآثار 11304 - 11307 - أربعة أسانيد لخبر واحد، اتفقت ثلاثة منها في الراوي عن أبي موسى، وهو"طريف بن يزيد"، على ما في اسمه من الاختلاف، وانفرد رقم: 11305، فجعل الراوي عن أبي موسى هو"واقع بن سحبان"، وكأنه إسناد مقلوب، إذ جعل الراوي عن أبي موسى هو الراوي عن"طريف بن يزيد" في الأسانيد الثلاثة الأخرى. وأما "واقع بن سحبان"، فقد ترجم له البخاري في الكبير 4/2/189، وقال: "يعد في البصريين، أبو عقيل. روى عنه قتادة، وثابت البناني"، ولم يزد. وأما ابن أبي حاتم 4/2/49، فإنه قال: "روى عن أسير بن جابر. روى عنه قتادة، وثابت البناني، وحميد الطويل. وكان ابن المبارك يقول: "واقع بن سحبا"، بغير نون، ولا يقول: سحبان. سمعت أبي يقول ذلك". وأما "طريف بن يزيد الحنفي"، فقد ترجم له في لسان الميزان 3: 209، والبخاري في الكبير 2/2/358، لم يزد على أن قال: "طريف بن يزيد الحنفي، عن أبي موسى". وترجم له ابن أبي حاتم 2/1/493، وفي ترجمته بياض مكانه نقط، قال: "روى عن أبي موسى، روى عنه ... سمعت أبي يقول: هما مجهولان". وقال الحافظ في لسان الميزان: "طريف بن يزيد، عن أبي موسى" مجهول، وكذا شيخه. انتهى. وذكره ابن حبان في الثقات في التابعي، فقال: الحنفي، روى عنه أهل اليمامة. فمقتضى ذكره في التابعين، أن يكون شيخه أبو موسى، هو الأشعري. وليس في كتاب ابن أبي حاتم أن شيخ طريف"مجهول". واعتراض ابن حجر صحيح، فإن المجهول هو الراوي عن طريف، لا شيخه. ولم يذكر في سائر الكتب الاختلاف في اسمه"يزيد بن طريف"، أو "طريف بن زياد" أو" زياد بن طريف"، فهذه مما أفادها تفسير أبي جعفر. وقد تبين من كتب التراجم أن الإسناد: 11305، مقلوب لا شك فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 إذا توضأ الإنسان فهو في وضوئه حتى يحدث حدثا. 11309 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. (1) 11310 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود، قال حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن سعيد، مثله. (2) 11311 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال: رأيت إبراهيم صلَّى بوضوء واحد، الظهرَ والعصرَ والمغربَ. 11312 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش قال: كنت مع يحيى، فأصلّي الصلوات بوضوء واحد. قال: وإبراهيم مثل ذلك. 11313 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم قال: سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال: لا بأس به ما لم يُحْدث. 11314 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك، قال: يصلِّي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث. 11315 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن عمارة قال: كان الأسود يصلي الصلوات بوضوء واحد. (3) 11316 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط،   (1) الأثر: 11309، 11310 - هذان الأثران، ذكرهما ابن كثير في تفسيره 3: 84 قال: "وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء = فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا، فقد دلت السنة على ذلك". (2) الأثر: 11309، 11310 - هذان الأثران، ذكرهما ابن كثير في تفسيره 3: 84 قال: "وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء = فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا، فقد دلت السنة على ذلك". (3) الأثر: 11315 -"الأعمش" هو: "سليمان بن مهران"، مضى مرارا كثيرة. و"عمارة"، هو: "عمارة بن عمير التيمي"، مضى برقم: 3294، 5789. و"الأسود" هو: "الأسود بن يزيد النخعي"، مضى برقم: 3299، 4888، 8267. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" يقول: قمتم وأنتم على غير طهر. 11317 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن الأسود: أنه كان له قَعبٌ قدرَ رِيِّ رجل (1) ، فكان يتوضأ ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها. 11318 - حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي قال، حدثنا الفضل بن المبشر قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدثَ، توضأ ومسح بفضل طَهوره الخفين. فقلت: أبا عبد الله، أشيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة. ذكر من قال ذلك: 11319 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني من سمع مالك بن أنس،   (1) "القعب": قدح صغير من خشب مقعر، وهو يروي الرجل. (2) الأثر: 11318 -"محمد بن عباد بن موسى الختلي"، شيخ الطبري. روى عن هشام بن محمد الكلبي، والوليد بن صالح، روى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا. مترجم في ابن أبي حاتم 4/1/15. روى عنه أبو جعفر في التاريخ 6: 21. و"زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي". قال أحمد: "ليس به بأس، حديثه حديث أهل الصدق". وقال وكيع: "هو أشرف من أن يكذب". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/329. و"الفضل بن المبشر الأنصاري"، سمع جابر بن عبد الله، وسالم بن عبد الله بن عمر. قال ابن معين: "ضعيف"، وقال ابن عدي: "عامة أحاديثه لا يتابع عليها". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/114، وابن أبي حاتم 3/2/66. والحديث رواه ابن ماجه 1: 170 رقم: 511، عن إسمعيل بن توبة، عن زياد بن عبد الله، به. وانظر ابن كثير في تفسيره 3: 83. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 يحدث عن زيد بن أسلم، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" قال: يعني: إذا قمتم من النوم. 11320 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب: أن مالك بن أنس أخبره عن زيد بن أسلم، بمثله. (1) 11321 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" قال فقال، قمتم إلى الصلاة من النوم. * * * وقال آخرون: بل ذلك معنيٌّ به كل حال قيام المرء إلى صلاته، أن يجدِّد لها طُهرًا. ذكر من قال ذلك: 11322 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي قال، سألت عكرمة، قال قلت: يا أبا عبد الله، أتوضأ لصلاة الغداة، ثم آتي السوق فتحضر صلاة الظهر، فأصلي؟ قال: كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق". (2) 11323 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة يقول: كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم   (1) الأثران: 11319، 11320 - انظر الموطأ ص: 21. (2) الأثر: 11322 -"سفيان بن حبيب" و"مسعود بن علي الشيباني". انظر التعليق على الأثرين السالفين: 11301، 11302. وقوله في جواب السؤال: "قال كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ... "، وتلاوته الآية بعد ذلك، دون أن يذكر فعل علي، جائز في مثل هذا السياق. كأنه قال: كان علي بن أبي طالب يفعل مثل ذلك ويقرأ هذه الآية. وانظر الأثر التالي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" ... الآية. (1) 11324 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضأون لكل صلاة. 11325 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال، توضأ عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجوٌّز خفيفًا، فقال، هذا وضوء من لم يحدث. (2) 11326 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال، قال، رأيت عليًّا صلى الظهر ثم قعد للناس في الرَّحْبة، ثم أتِيَ بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مَسَح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدِث. (3) 11327 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن   (1) الأثر: 11323 -"مسعود بن علي الشيباني" انظر التعليق على الأثر السالف. وهذا الأثر ساقه ابن كثير في تفسيره 3: 83، 84، وساق معه الأثرين 11326، 11327، وقال: "هذه طرق جيدة عن علي، يقوي بعضها بعضا". (2) الأثر: 11325 -"ابن أبي عدي"، هو: "محمد بن إبراهيم بن أبي عدي"، مضى برقم: 5440، 6497. و"حميد"، هو"حميد الطويل"، مضى مرارا كثيرة. و"أنس"، هو أنس بن مالك. وهذا الأثر، نقله ابن كثير في تفسيره 3: 84، عن هذا الموضع من الطبري، وقال: "هذا إسناد صحيح". (3) الأثر: 11326 -"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد"، ثقة، من صغار التابعين، مضى برقم: 503، 504. و"النزال"، هو: "النزال بن سبرة الهلالي"، مختلف في صحبته. روى عن رسول الله -يقال هو مرسل- وعن عثمان، وعلي، وابن مسعود وغيرهم. ثقة من كبار التابعين. وهذا خبر إسناده صحيح، وانظر التعليق على الأثر السالف: 11323. خرجه ابن كثير في تفسيره 3: 83، 84. ورواه أحمد في مسنده من طرق، بالأرقام: 583، 1005، 1173، 1174، 1222، 1315، 1366، وخرجه أخي السيد أحمد هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 إبراهيم: أن عليًّا اكتالَ من حُبٍّ فتوضأ وضوءًا فيه تجوُّزٌ، فقال: هذا وضوء من لم يحدث. (1) * * * وقال آخرون: بل كان هذا أمرًا من الله عز ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به: أن يتوضَّأوا لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك بالتخفيف. ذكر من قال ذلك: 11328 - حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري =ثم المازني، مازن بني النجار= فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمَّن هو؟ قال: حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب: أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، الغسيل حدَّثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه، فأمِر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلا من حدّث. فكان عبد الله يرى أنّ به قوة عليه، فكان يتوضأ. (2)   (1) الأثر: 11327 - انظر التعليق على الأثر السالف: 11323. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 84. "اكتال"، مأخوذ من"كيل الطعام وغيره"، وأراد به هنا أنه أخذ من الماء مقدار ما يكفي في وضوئه. وهو عربي صحيح المجاز. و"الحب" (بضم الحاء) : هو الجرة الضخمة، أو الجابية التي يجعل فيها الماء. (2) الأثر: 11328 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني"، هو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد"، مضى برقم: 2247، 5796. و"يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، مضى برقم: 4314، 5493. وأبوه"إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري"، مضى برقم: 4314، وكان من أكثر أهل المدينة حديثا في زمانه. قال البخاري: "قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحق، نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي". مترجم في التهذيب. و"ابن إسحق" هو: "محمد بن إسحق" صاحب المغازي، مضى مرارا، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، صوابه من سنن أبي داود، وابن كثير. و"محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري المازني"، فقيه ثقة كثير الحديث، روى له الأئمة. مترجم في التهذيب. و"عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة قليل الحديث، يقال إنه كان أسن من أخيه"عبد الله بن عبد الله بن عمر"، لم يذكروا في ترجمته أنه روى عن أسماء بنت زيد بن الخطاب، ولا أن محمد بن يحيى بن حبان روى عنه، بل ذكروا ذلك في ترجمته أخيه"عبد الله" كما سترى في التخريج. وأما أخوه"عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب" فقد روى عن أسماء بنت زيد بن الخطاب، وروى عنه محمد بن يحيى بن حبان. قال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث"، وقيل: كان أكبر ولد"عبد الله بن عمر" وكان من أشراف قريش. ووجوهها. مترجم في التهذيب. وأما "أسماء بنت زيد بن الخطاب" فقد روت عن"عبد الله بن حنظلة"، وروى عنها: "عبد الله بن عبد الله بن عمر". وكانت زوج ابن عمها"عبد الله بن عمر بن الخطاب". فلما قتل، لم تتزوج بعده حتى ماتت. وذكرها ابن حبان وابن مندة في الصحابة. ولكن الحافظ ابن حجر رد ذلك، وانظر ترجمتها في الإصابة في القسم الثاني من تراجم النساء. مترجمة في التهذيب. و"عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب"، فأبوه"حنظلة"، هو غسيل الملائكة، غستله يوم قتل في أحد. وكان الأجود أن يقال، " ... بن حنظلة بن أبي عامر، ابن الغسيل". فإن أبا عامر هو الراهب، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم"الفاسق". و"عبد الله بن حنظلة" مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة والمطبوعة: عبد الله بن زيد بن حنظلة ... " بزيادة"ابن زيد"، وهو خطأ محض، لعله سهو من الناسخ. وأما "عبد الله" المذكور في هذا الأثر غير منسوب، والمسئول عن وضوئه، فهو"عبد الله بن عمر بن الخطاب"، صاحب رسول الله. وهذا الأثر، رواه أبو داود في سننه 1: 43، رقم: 48، من طريق محمد بن عوف الطائي، عن أحمد بن خالد، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر. ثم قال أبو داود: "إبراهيم بن سعد، رواه عن محمد بن إسحق قال: عبيد الله بن عبد الله". يعني هذه الرواية التي رواها أبو جعفر في هذا الإسناد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر. وأخرجه البيهقي في سننه 1: 37، 38. وقد خرجه ابن كثير في تفسيره 3: 83 من رواية أحمد بن حنبل، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن سعد، بمثل رواية الطبري: "عبيد الله بن عبد الله بن عمر"، وساق رواية أبي داود"عبد الله بن عبد الله بن عمر" ثم قال: "وأيا ما كان، فهو إسناد صحيح، وقد صرح فيه ابن إسحق بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر رواه سلمة بن الفضل، وعلي بن مجاهد، عن ابن إسحق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن محمد بن يحيى بن حبان، به. والله أعلم". وهذا الإسناد الذي الذي ذكره ابن عساكر، هو الإسناد التالي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 11329 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال: قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، ثم ذكر نحوه. (1) 11330 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة. فلما كان عام الفتح، صلَّى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله! قال،"عمدا فعلته. (2)   (1) الأثر: 11329 - مكرر الذي قبله. "محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف". قال أبو داود وابن معين: "ثقة"، وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". مترجم في التهذيب. انظر التعليق على الأثر السالف. (2) الأثر: 11330 -"يحيى"، هو: "يحيى بن سعيد القطان". و"عبد الرحمن"، هو"عبد الرحمن بن مهدي". و"سفيان"، هو الثوري. و"علقمة بن مرثد الحضرمي"، روى عن زر بن حبيش، وطارق بن شهاب، وسليمان بن بريدة وغيرهم. روى عنه شعبة، وسفيان الثوري، ومسعر. ثقة ثبت في الحديث. مترجم في التهذيب. و"سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي". أخو"عبد الله بن بريدة". روى عن أبيه، وعمران بن حصين، وعائشة. روى عنه علقمة بن مرثد، ومحارب بن دثار، وغيرهم. قال أحمد: عن وكيع: "يقولون إن سليمان بن بريدة كان أصح حديثا من أخيه وأوثق". ثقة، مترجم في التهذيب. وأبوه: "بريدة بن الحصيب الأسلمي"، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد خيبر وفتح مكة. استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه. وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، فمات بها. وهذا الأثر، سيرويه أبو جعفر من طريق أخرى رقم: 11333. رواه أحمد في مسنده 5: 350، من طريق يحيى بن سعيد، عن سفيان به و 5: 358، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان بمثله، ورواه أيضا 5: 351، من طريق وكيع عن سفيان، بمثله. ورواه مسلم 3: 176، 177، من طريق عبد الله بن نمير، عن سفيان = ومن طريق محمد بن حاتم = واللفظ له، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، بمثله. ورواه أبو داود في سننه 1: 82، رقم: 172، من طريق مسدد، عن يحيى بن سعيد، بمثله. ورواه النسائي 1: 86، من طريق عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، بمثله. ورواه البيهقي في السنن 1: 162 من طريق ابن وهب، عن سفيان، بمثله ومن طريق الضحاك بن مخلد، عن سفيان. ثم رواه أيضا 1: 271 من طريق أبي داود في سننه. ومن طريق علي بن قادم، عن سفيان. ورواه الترمذي في السنن 1: 89، 90 (شرح أخي السيد أحمد) ، وعلق عليه الترمذي، وذكر اختلاف الرواة فيه، كما سيأتي. ولكن حديث الثوري عن علقمة بن مرثد، مرفوع موصول، لم يختلف فيه أحد من الرواة، وإنما اختلفوا في حديث الثوري، عن محارب بن دثار، كما سيأتي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 11331 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. فلما كان يوم فتح مكة، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. (1) 11332 - حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان،   (1) الأثر: 11331 -"محارب بن دثار بن كردوس السدوسي". ثقة، روى له الأربعة. قال سماك بن حرب: "كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه: الحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والبيان، والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف. وقد كملن في هذا الرجل - يعني محارب بن دثار". وهذا الأثر، رواه أبو جعفر مرفوعا موصولا من طريقين، هذا، ورقم: 11334. ورواه ابن ماجه 1: 170، رقم: 510، من طريق وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، مرفوعا موصولا. وتكلم في رواية سفيان، عن محارب بن دثار، الترمذي في سننه 1: 89، 90، فأشار إلى روايتها مرفوعة موصولة، ومرسلة من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره عن سفيان، عن محارب ابن دثار، مرفوعا موصولا. وتكلم في وراية سفيان، عن محارب بن دثار، الترمذي في سننه 1: 89، 90، فأشار إلى روايتها مرفوعة موصولة ومرسلة، من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره، عن سفيان، عن محارب بن دثار، وقال، "وهذا أصح من حديث وكيع". وزاد الطبري في الأثر 11334، روايته من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، مرفوعا موصولا. و"معاوية بن هشام"، ثقة. قال أخي السيد أحمد: "وهذه الرواية جعلها الترمذي مرجوحة، ورأى أن رواية من رواه عن الثوري، عم محارب، عن سليمان مرسلا -: أصح. ولسنا نوافقه على ذلك، لأن الحديث معروف عن سليمان عن أبيه. ووكيع ثقة حافظ. فالظاهر أن الثوري كان تارة يروي الحديث عن محارب موصولا، كما رواه عنه وكيع، وتارة مرسلا، كما رواه عنه غيره". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ، فذكر نحوه. (1) 11333 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال،"عمدا فعلته يا عمر. (2) 11334 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما فتح مكة، صلى الظهرَ والعصرَ والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (3) 11335 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظُهَير، عن مِسْعر، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (4) * * *   (1) الأثر: 11332 - هذه هي الرواية المرسلة للأثر السالف، والتي أشار إليها الترمذي كما أسلفنا. (2) الأثر: 11333 - هذه طريق أخرى للأثر السالف رقم: 11330، وقد أشرنا إليها في التخريج هناك. و"معاوية بن هشام الأسدي القصار"، مضى برقم: 2997، ثقة، وثقه أبو داود وابن حبان. وقال أحمد: "هو كثير الخطأ". (3) الأثر: 11334 - هذه طريق أخرى، لحديث وكيع، عن سفيان، التي خرجناها في رقم: 11331، وأشرنا إليها هناك. (4) الأثر: 11335 - حديث ضعيف الإسناد جدا. "الحكم بن ظهير الفزاري"، مضى برقم: 249، 5523، 5792. رمى بوضع الحديث، تركوه. قال ابن حبان: "كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات". و"مسعر"، هو"مسعر بن كدام"، ثقة معروف، أحد الأعلام. مضى برقم: 503، 504، 1974، 5729، 6172. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال: إن الله عنى بقوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا" جميعَ أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمرُ فرضٍ بغسل ما أمر الله بغسله القائمَ إلى صلاته، بعد حَدَثٍ كان منه ناقضٍ طهارتَه، وقبل إحداث الوضوء منه= وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته. ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلىّ يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعةً منه إلى ما ندبه إليه ربّه= لا على أن ذلك كان عليه فرضًا واجبًا. فإن ظنّ ظانٌّ أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة (1) دلالةً على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه السلام وأصحابه، وخُيِّل إليه أن ذلك كان على الوجوب= فقد ظنّ غير الصواب. (2) وذلك أن قول القائل:"أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا"، محتملٌ من وجوه لأمر الإيجاب، والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق. وإذ كان محتملا ما ذكرنا من الأوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة، دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقيقة مدَّعيه. (3) . وقد أجمعت الحجة على أن الله عز وجل لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده فرضَ   (1) انظر الأثر رقم: 11328. (2) سياق هذه الجملة: فإن ظن ظان ... وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب، فقد ظن غير الصواب". (3) قوله: "حقيقة مدعيه"، أي: حق مدعيه. واستعمال"حقيقة" بمعنى"حق"، قد سار عليه أبو جعفر في كتابه هذا، وسار الناشرون على تغيير"حقيقة"، إلى"حقية"، كما جاء هنا في المطبوعة، مخالفا للمخطوطة. وانظر ما سلف 8: 568، تعليق: 1 = ثم: 592، تعليق: 7= ثم 9: 336، تعليق: 4 = ثم: 360، تعليق: 4. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 الوضوء لكل صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما قلنا: من أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك، كان على ما وصفنا، من إيثاره فعلَ ما ندبه الله عز ذكره إلى فعله وندبَ إليه عباده المؤمنين بقوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" ... الآية، وأن تركه في ذلك الحال الذي تركه، (1) كان ترخيصا لأمته، وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلا من حدَثٍ يوجب نقضَ الطهر. * * * وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار: 11336 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقَعْبٍ صغير فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم! قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد. (2) .   (1) في المخطوطة: "في ذلك الحال التي تركه"، والصواب ما أثبته، يريد: وأن تركه الذي تركه، كان ترخيصا ... (2) الأثر: 11336 -"عمرو بن عامر الأنصاري"، روى عن أنس بن مالك. وعنه أبو الزناد، وشعبة، وسفيان الثوري، ومسعر، وشريك. ثقة صالح الحديث. روى له الأربعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/249. وانظر بقية التعليق. وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 1: 272، 273) ، من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن عامر = ومن طريق مسدد، عن يحيى، عن سفيان الثوري. ورواه أبو داود في السنن 1: 81، رقم: 171، من طريق محمد بن عيسى، عن شريك، عن عمرو بن عامر البجلي = قال محمد: هو أبو: "أسد بن عمرو" = قال سألت أنس، بمثله. هذا، و"عمرو بن عامر البجلي" هو غير"عمرو بن عامر الأنصاري"، وكأن محمد بن عيسى قد أخطأ. وانظر التهذيب في"عمرو بن عامر البجلي". ورواه الترمذي 1: 88 (شرح أخي السيد أحمد) من طريق محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمرو بن عامر، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه النسائي في سننه 1: 85، من طريق خالد، عن شعبة، عن عمرو بن عامر كمثل طريق أبي جعفر هذا. ورواه ابن ماجه 1: 170، رقم: 509، من طريق شريك، عن عمرو بن عامر. والبيهقي في السنن 1: 162 من طريق الفريابي، عن سفيان. ورواه أحمد من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمرو بن عامر الأنصاري، انظر تفسير ابن كثير (3: 84) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 11337 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقّي، حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن أبي غطيف، قال: صليت مع ابن عمر الظهر، فأتى مجلسا في داره فجلس وجلست معه. فلما نُودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ، ثم خرج إلى الصلاة، ثم رجع إلى مجلسه. فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ، فقلت: أسنة ما أراك تَصنع؟ قال، لا وإن كان وَضوئي لصلاة الصبح كافيَّ للصلوات كلها ما لم أحدِث، (1) ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من توضأ على طهرٍ كتب له عشر حسنات"، (2) ، فأنا رغبت في ذلك. (3)   (1) في المطبوعة"كاف للصلوات كلها"، غير ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة"فأنا رغبت"، غير ما في المخطوطة. (3) الأثر: 11337 -"سليمان بن عمر بن خالد الرقي، الأقطع"، مضت ترجمته برقم: 6254. و"عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي"، رأى جده أبا إسحق، روى عن أبيه وأخيه، وعن كثير. ثقة، روى له الأئمة. مترجم في التهذيب. و"عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري الإفريقي"، هو"ابن أنعم"، و"الإفريقي"، مضى برقم: 2195، 10180، تكلم فيه بعض العلماء، ولكن وثقه أخي السيد أحمد في رقم: 2195. و"أبو غطيف الهذلي"، ويقال: "غطيف"، ويقال: "غضيف". قال أبو زرعة: "لا يعرف اسمه". ضعفه الترمذي. مترجم في التهذيب. وهذا الحديث، رواه أبو داود في سننه 1: 48، رقم: 62، من طريق محمد بن يحيى ابن فارس، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، ومن طريق مسدد، عن عيسى بن يونس، جميعا عن عبد الرحمن بن زياد، مختصرا. ورواه ابن ماجه 1: 170، 171، رقم: 512، من طريق محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، مطولا. والبيهقي في السنن 1: 162. والترمذي في السنن 1: 87، 88 (شرح أخي السيد أحمد) ، وقد ضعف الترمذي هذا الإسناد، وقال البخاري في حديث أبي غطيف هذا: "لم يتابع عليه". وانظر شرح السنن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 11338 - حدثني أبو سعيد البغدادي، قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن هريم، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. (1) * * * وقد قال قوم: إن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلِّها حتى يتوضأ، فأذن الله بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عَدَا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها. ذكر من قال ذلك: 11339 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة. فقلنا: يا رسول الله، نكلمك فلا تكلمنا، ونسلم عليك فلا ترد علينا؟ قال: حتى نزلت آية الرخصة:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة"، الآية. (2) * * *   (1) الأثر: 11338 -"أبو سعيد البغدادي، مضى برقم: 6684، "أبو سعيد بن يوشع البغدادي" ولم أجد له ترجمة، ثم مضى برقم: 6690"أبو سعيد البغدادي" كالذي هنا. و"إسحق بن منصور السلولي". ثقة، مضت ترجمته برقم: 4925، ومضت رواية أبي سعيد البغدادي عنه في: 6684: 6690. و"هريم بن سفيان البجلي"، ثقة. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر مختصر الأثر السالف. ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 84، عن هذا الموضع من التفسير. (2) الأثر: 11339 - هذا خبر مشكل، وهو مع إشكاله ضعيف الإسناد، لضعف جابر بن يزيد الجعفي، فهو ضعيف جدا، رمي بالكذب، كما بينه أخي السيد أحمد في رقم: 2340. أول ذلك أن إسناده في المطبوعة كان هكذا: "معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه". وفي المخطوطة: "معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه". فخالفت المطبوعة المخطوطة، فجعلت مكان"شيبان"، "سفيان" = ومكان"عبد الله بن علقمة الفغواء"، عبد الله بن علقمة بن وقاص"، ولا أدري من أين أتى به ناسخ تفسير أبي جعفر، فإن ابن كثير في تفسيره قد نقله ولا شك عن نسخة من تفسير أبي جعفر، وفيها"عبد الله بن علقمة بن وقاص". وسأبدأ بذكر ما وجدته فيما بين يدي من الكتب، من ذكر هذا الخبر وإسناده. 1 = فرواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 53 بروايته عن ابن أبي داود قال: "حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر، عن عبد الله بن محمد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... " 2 = ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 84، من تفسير ابن جرير فقال: "حدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه ... " ثم قال: " ورواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن مسلم، عن أبي كريب، به نحوه". 3 = ورواه الجصاص في أحكام القرآن 2: 329، فقال: "روى سفيان الثوري عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة، عن أبيه ... ". 4 = وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"علقمة بن الفغواء الخزاعي"، فقال: "أخرجه مطين، والطحاوي، والدراقطني من طريق جابر الجعفي، عن عبد الله بن محمد بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... " 5 = وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 4: 14 في ترجمة"علقمة بن الفغواء الخزاعي" فقال: "روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... " 6 = وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 276 فقال: "وعن علقمة بن الفغواء ... رواه الطبراني في الكبير، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف". 7 = وذكره أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 119 قال: "حديث علقمة بن الفغواء، عن أبيه أنه قال، ... "، وهذا خطأ لا شك فيه، فإن المطبوع من الناسخ والمنسوخ ردئ الطبع جدا. والصواب"حديث عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... ". وفي المطبوعة: "علقمة بن القعوى"، وهو تحريف لا شك فيه خطئه. 8 = وخرجه السيوطي في الدر المنثور فقال: "وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، بسند ضعيف، عن علقمة بن صفوان ... ". فهذا، كما ترى، اختلاف شديد جدا في أسانيد هذا الأثر. فالاختلاف الأول: في الذي روى عنه معاوية بن هشام، ففي المطبوعة، وابن كثير، وأحكام القرآن للجصاص أنه رواه عن"سفيان"، وهو الثوري كما صرح به الجصاص. وفي المخطوطة، ومعاني الآثار للطحاوي أنه رواه عن"شيبان"، وهو النحوي. ومعاوية بن هشام يروي عنهما جميعا. وسفيان الثوري، وشيبان النحوي، يرويان جميعا عن جابر بن يزيد الجعفي. فجائز أن يكون معاوية بن هشام رواه عنهما جميعا، عن جابر، مرة عن هذا، ومرة عن هذا. والاختلاف الثاني: في الذي رواه عنه"سفيان" أو "شيبان". ففي المطبوعة والمخطوطة: "جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم"، وهو خطأ لا شك فيه، لأن الحديث مداره على"جابر بن يزيد الجعفي"، كما جاء في المراجع جميعا. والاختلاف الثالث: في الذي رواه عنه"جابر الجعفي"، فذكر الطحاوي في معاني الآثار. أنه عن: "عبد الله بن محمد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" فكأن جابرا رواه عن"عبد الله بن محمد" هذا، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كما قال ابن الأثير في أسد الغابة، وأما ما نقله ابن كثير عن نسخة من تفسير أبي جعفر من أنه: "عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم" فاتفق مع ما جاء في أحكام القرآن للجصاص، وفي الإصابة لابن حجر - مع اختلاف لا يضر في اختصار اسمه. فانفرد الطحاوي بأن زاد"عبد الله بن محمد" في هذا الإسناد، ولا ندري من يكون. فأخشى أن يكون في النسخة المطبوعة من معاني الآثار، خطأ. والاختلاف الرابع: متعلق بالاختلاف الثالث، في الراوي عن"عبد الله بن علقمة بن الفغواء" أهو: "عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" = كما جاء في تفسير ابن كثير، وفي أحكام القرآن للجصاص، والإصابة = أم هو أبوه"أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، كما جاء في إسناد الطحاوي، وكما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة؟ والاختلاف الخامس: فإن المطبوعة وابن كثير في تفسيره، جعلا التابعي الراوي عن أبيه"عبد الله بن علقمة بن وقاص"، وانفرد السيوطي في الدر المنثور بأن جعل أباه الصحابي هو"علقمة بن صفوان"، وكلاهما خطأ لا شك فيه، بدليل إجماع سائر الرواة على أن هذا الخبر من حديث"علقمة بن الفغواء الخزاعي". من أجل ذلك كله، غيرت ما في المطبوعة، فجعلت"شيبان" مكان"سفيان"، مطابقا لما في المخطوطة ومعاني الآثار. وجعلت"جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم"، مطابقا لما في تفسير ابن كثير، وأحكام القرآن للجصاص، والإصابة لابن حجر. وجعلت"عبد الله بن علقمة بن الفغواء"، مكان"عبد الله بن علقمة بن وقاص" مطابقا لما في سائر الأخبار، سوى ابن كثير، والسيوطي. أما رجال الإسناد فهم: "معاوية بن هشام الأسدي القصار"، ثقة. مضى برقم: 2997. و"سفيان" - كما أسلفنا في الاختلاف الأول - هو سفيان الثوري الإمام الثقة، مضى مرارا. وأما "شيبان"، فهو"أبو معاوية، شيبان النحوي"، وهو"شيبان بن عبد الرحمن التميمي"، إمام ثقة. مضى مرارا، رقم: 2340، 4898، 5280، 9222، 9223، 9456. وأما "جابر"، فهو: "جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي"، ضعيف جدا، رمي بالكذب. مضى برقم: 764، 858، 2340، 3074، 5423، 7350. و"عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، ثقة. مضى برقم: 4808. وأما أبوه: "أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، ثقة. مضى برقم: 2031. و"عبد الله بن علقمة بن الفغواء الخزاعي"، روى عن أبيه. روى عنه زيد بن أسلم، ومسلم بن نبهان. مترجم في ابن أبي حاتم 2/2/121. وأبوه: "علقمة بن الفغواء الخزاعي"، دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. سمع النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر. روى عنه ابنه عبد الله. مترجم في الإصابة، وأسد الغابة، وطبقات ابن سعد 4/2/32 ثم 5: 340، والكبير للبخاري 4/1/39، وابن أبي حاتم 3/1/404. ومضى تخريج الأثر فيما سلف مما كتبناه، وهو بمثل لفظ الطبري، إلا في بعض حروف يسيرة، وإلا ما جاء في رواية الجصاص في أحكام القرآن. كتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في حدّ"الوجه" الذي أمر الله بغسله، القائمَ إلى الصلاة بقوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 فقال بعضهم: هو ما ظهر من بَشرة الإنسان من قُصَاص شعر رأسه، (1) منحدرا إلى منقطع ذَقَنه طولا وما بين الأذنين عرضا. قالوا: فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين، فليس من الوجه وغير واجب غسلُ ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. (2) قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاه شعر اللحية، والصدغين اللذين قد غطاهما عِذَار اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر، مجزئ من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه، (3) لأن"الوجه"   (1) "قصاص الشعر" (بضم القاف وكسرها وفتحها) : نهاية منبته من مقدم الرأس. (2) في المطبوعة: "فليس من الوجه ولا غيره ولا أحب غسل ذلك"، كان في المخطوطة: "فليس من الوجه وغيره اجب غسل ذلك" مع وصل راء"غير" بما يشبه الهاء المفردة، ففعل الناشر ما فعل في إفساد هذه العبارة، بلا أمانة ولا عقل. (3) في المطبوعة: "مجزئ عن غسل"، وما في المخطوطة، هو الجيد الذي سار عليه القدماء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 عندهم: هو ما عَنَّ لعين الناظر من ذلك فقابلها (1) دون غيره. ذكر من قال ذلك: 11340 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال، يجزئ اللحية ما سال عليها من الماء. (2) 11341 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا المغيرة، عن إبراهيم قال: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته. 11342 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، بنحوه. 11343 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه. 11344 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة في تخليل اللحية، قال: يجزيك ما مرَّ على لحيتك. 11345 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال، حدثنا مصعب بن المقدام، قال، حدثنا زائدة، عن منصور، قال: رأيت إبراهيم يتوضأ، فلم يخلِّل لحيته. (3)   (1) في المخطوطة: "فهو باطن لعين الناظر"، وهو تحريف، وصححها في المطبوعة: "ما ظهر لعين الناظر"، ورأيت قراءتها كما أثبتها يقال: "عن الشيء يعن عننا وعنونا": عرض وظهر أمامك. (2) الأثر: 11340 - في المخطوطة: "عن معمره"، وفي المطبوعة: عن معمر"، والصواب ما أثبته. "عمر بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي"، مضى برقم: 8979. و"مغيرة"، هو"مغيرة بن مقسم الضبي"، مضى مرارا كثيرة، وروايته عن"إبراهيم النخعي"، دائرة في التفسير، وانظر الآثار التالية لهذا. وقد مضى هذا الإسناد نفسه برقم: 8979. (3) الأثر: 11345 -"هرون بن إسحق الهمداني" و"مصعب بن المقدام"، مضيا برقم: 3001. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 11346 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، عن سعيد الزبيدي، عن إبراهيم، قال: يجزيك ما سال عليها من أن تخللها. (1) 11347 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يونس، قال: كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه. 11348 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، قال، حدثنا هشام، عن الحسن، أنه كان لا يخلِّل لحيته. 11349 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن الحسن أنه كان لا يخلل لحيته إذا توضأ. 11350 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن، مثله. 11351 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال، ليس غسلُ اللحية من السنة. 11352 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن: أنه كان إذا توضأ لم يبلِّغ الماء في أصول لحيته. 11353 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي، قال: سألت إبراهيم: أخلِّل لحيتي عند الوضوء بالماء؟ فقال، لا إنما يكفيك ما مرَّت عليه يدك. (2) 11354 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فقال: قال المغيرة، قال إبراهيم: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته.   (1) الأثر: 11346، 11353 -"سعيد الزبيدي"، هو"سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي""أبو شيبة"، وثقه أبو داود، وابن حبان، وقال البخاري: "لا يتابع في حديثه". مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم: 11353. (2) الأثر: 11346، 11353 -"سعيد الزبيدي"، هو"سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي""أبو شيبة"، وثقه أبو داود، وابن حبان، وقال البخاري: "لا يتابع في حديثه". مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم: 11353. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 11355 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال، حدثنا حجاج بن رشدين قال، حدثنا عبد الجبار بن عمر: أن ابن شهاب وربيعة توضآ فأمرا الماء على لحاهما، ولم أر واحدا منهما خلّل لحيته. 11356 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت سعيد بن عبد العزيز، عن عَرْك العارضين في الوضوء، فقال: ليس ذلك بواجب، رأيت مكحولا يتوضأ فلا يفعل ذلك. (1) 11357 - حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، قال، ليس عَرْك العارضين في الوضوء بواجب. (2) 11358 - حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني إبراهيم بن محمد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: يكفيه ما مرَّ من الماء على لحيته. (3) 11359 - حدثنا أبو الوليد القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني ابن لهيعة، عن سليمان بن أبي زينب، قال، سألت القاسم بن محمد: كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت؟ قال: لستُ من الذين يغسلون لحاهم. (4)   (1) الأثر: 11356 -"أبو الوليد الدمشقي"، هو"أبو الوليد القرشي"، كما في الأثر: 11359، وهو: "أحمد بن عبد الرحمن بن بكار بن عبد الملك بن الوليد بن بسر بن أرطأة القرشي"، ويقال في نسبته"البسري"، نسبة إلى جده، ويقال"العامري"، لأنه من ولد"معيص بن عامر بن لؤي". ثقة صدوق. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 11357 -"سعيد بن بشير الأزدي"، مضى برقم: 126، 5439، 9632. (3) الأثر: 11358 -"إبراهيم بن محمد" هو: "إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة"، "أبو إسحق الفزاري"، مضى برقم: 3833، 11285. (4) الأثر: 11359 -"سليمان بن أبي زينب السبأي الشامي"، روى عنه سعيد بن أبي أيوب المصري. مترجم في الكبير 2/2/15، وابن أبي حاتم 2/1/118. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "سلمان بن أبي زينب"، وهو خطأ لا شك فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 11360 - حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: ليس عَرْك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء. (1) * * * ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطَن من الفم والأنف. 11361 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لولا التلمُّظ في الصلاة ما مضمضتُ. (2) 11362 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت عبد الملك يقول: سئل عطاء عن رجل صلى ولم يتمضمض، قال: ما لم يسَّم في الكتاب يجزئه. 11363 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء. 11364 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: كان الضحاك ينهانا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان. 11365 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت هشامًا، عن الحسن قال: إذا نسى المضمضة والاستنشاق، قال: إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته. وإن كان لم يدخل تمضمض واستنشق.   (1) "عرك اللحية": دلكها. وأما "تشبيك اللحية" فقلما تصيب صفته في كتب اللغة، وهو بين في الآثار. روى البيهقي في السنن 1: 55، عن ابن عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك، ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها"، يعني أنه أنشب فيها أصابعه منفرجة، فشبكها فيها. (2) الأثر: 11361 -"عبد الملك بن أبي بشير البصري"، روى عن عكرمة وعبد الله بن مساور، وغيرهما. روى عنه ليث بن أبي سليم، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية، وغيرهم ثقة. مترجم في التهذيب. و"التلمظ": تحريك اللسان في الفم بعد الأكل، كأنه يتتبع بقية الطعام بين أسنانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 11366 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت الحكم وقتادة عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، فقال: يمضي في صلاته. * * * ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة: من أن الأذنين ليستا من الوجه. 11367 - حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال، حدثنا هشيم، عن غيلان قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. (1) 11368 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمي، قال، حدثنا أبو مطرف [ .... ] قال، حدثنا غيلان مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. (2) 11369 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس، فإذا مسحت الرأس فامسحهما.   (1) الأثر: 11367 -"يزيد بن مخلد الواسطي"، "أبو خداش"، روى عن هشيم، وبشر بن مبشر. روى عنه إبراهيم بن يوسف الهسنجاني، وعلي بن الحسين بن الجنيد. مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/291. "غيلان" هو: "غيلان بن عبد الله الواسطي" مولى قريش (مولى بني مخزوم) . سمع ابن عمر. سمع منه شعبة وهشيم. روى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "سمعت أبي يقول: غيلان بن عبد الله مولى قريش، الذي حدثنا عنه هشيم، روى عنه شعبة، هو أحب إلي من سهيل بن ذكوان". مترجم في الكبير 4/1/105، وابن أبي حاتم 3/2/53. ثم انظر ذكره في الآثار الآتية: 11368، 11370. (2) الأثر: 11368 -"عبد الكريم بن أبي عمير الدهان - أو الدهقان"، شيخ الطبري. مضى برقم: 7578. و"أبو مطرف"، المعروف بذلك هو"ابن أبي الوزير": "محمد بن عمر بن مطرف الهاشمي"، روى عن شريك وهشيم وغيرهما، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/178، وابن أبي حاتم 4/1/20. وقد وضعت نقطا بعده، لأني أرجح أنه روى ذلك عن"هشيم"، كما في الأثر السالف، والأثر: 11370، فإن مدار هذا الخبر على"هشيم، عن غيلان". وانظر"غيلان، مولى بني مخزوم"، في التعليق على الأثر السالف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 11370 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش، قال: سمعت ابن عمر سأله سائل قال: إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه، قال فقال ابن عمر: الأذنان من الرأس. ولم ير عليه بأسا. (1) 11371 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد= ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= جميعا، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر، أنه قال: الأذنان من الرأس. 11372 - حدثني ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن رجل، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس. 11373 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: الأذنان من الرأس. (2) 11374 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا الأذنان من الرأس. 11375 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة قال: الأذنان من الرأس= عن الحسن وسعيد.   (1) الأثر: 11370 -"غيلان بن عبد الله، مولى قريش"، انظر التعليق على الأثرين السالفين. (2) الأثر: 11373 -"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة بن زهير بن عبد الله بن جدعان"، أو: "علي بن زيد بن جدعان" منسوبا إلى جده. مضى برقم: 40، 4897، 6495، 9293، 10275. و"يوسف بن مهران البصري"، روى عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر. روى عنه علي بن زيد بن جدعان قال أحمد: "لا يعرف، ولا أعرف أحدا روى عنه إلا علي بن زيد". وقال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/375، وابن سعد 7/1/161، وابن أبي حاتم 4/2/229. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 11376 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس. 11377 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن ابن عمر، مثله. (1) 11378 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن قال، الأذنان من الرأس. 11379 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة= أو: عن أبي هريرة، شك ابن بزيع=: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. 11380 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معلى بن منصور، عن حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: الأذنان من الرأس= قال حماد: لا أدري هذا عن أبي أمامة أو: عن النبي صلى الله عليه وسلم. 11381 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثني حماد بن زيد قال، حدثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. (2)   (1) الأثران 11376، 11377 -"أبو الوليد الدمشقي" هو: "أحمد بن عبد الرحمن القرشي"، وانظر الآثار السالفة: 11356 - 11360. (2) الآثار: 11379 - 11381 -"معلى بن منصور الرازي"، في الإسناد الثاني، روى عن مالك، ومحمد بن ميمون الزعفراني، وحماد بن زيد، وهشيم، وغيرهم. روى عنه البخاري، وذكره في الكبير، ولم يذكر فيه جرحا. ووثقه ابن معين، وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم. وقد تكلموا فيه. مترجم في التهذيب. و"سنان" بن ربيعة الباهلي، أبو ربيعة صاحب السابرى"، روى عن أنس، وشهر بن حوشب، وغيرهما. روى عنه الحمادان. قال ابن معين: "ليس بالقوي"، وقال أبو حاتم: "شيخ مضطرب الحديث". وذكره ابن حبان في الثقات. روى له البخاري مقرونا بغيره في الصحيح. و"شهر بن حوشب الأشعري"، تابعي، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 1489، 5244، 6650 - 6652. وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5: 258، 264، 268. مطولا، وأبو داود في سننه 1: 68، رقم: 134، وابن ماجه 1: 152، رقم: 444، والبيهقي في السنن 1: 66، 67، والترمذي في السنن (شرح أخي السيد أحمد) 1: 53 - 55، به بنحوه. وقال: "وقد أطال العلماء البحث في هذه الكلمة، وهل هي مدرجة من كلام أبي أمامة أو مرفوعة؟ ورجح كثير منهم الإدراج. انظر التلخيص (ص: 33) ، ونصب الراية (1: 10 - 12) ، والراجح عندي أن الحديث صحيح. فقد روي من غير وجه بأسانيد بعضها جيد، ويؤيد بعضها بعضا"، ثم أفاض في الكلام فيه. وأما شك بن بزيع -في الأثر الأول- فالظاهر أنه خطأ من ابن بزيع، وأن الصواب أنه عن أبي أمامة، لا عن أبي هريرة، وسيأتي خبر أبي هريرة بعد، رقم: 11383. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 11382 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني ابن جريج وغيره، عن سليمان بن موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. (1) 11383 - حدثنا الحسن بن شبيب، قال، حدثنا علي بن هاشم بن البريد قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأذنان من الرأس. (2) 11384 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن يونس: أن الحسن قال: الأذنان من الرأس. * * * وقال آخرون:"الوجه" كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذَّقَن   (1) الأثر: 11382 -"سليمان بن موسى الأموي"، أبو هشام الأشدق، فقيه أهل الشام في زمانه. ثقة ثبت، ولكنه يروي أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر مرسل، وإن كان سليمان بن موسى قد روى عن أبي أمامة. (2) الأثر: 11383 -"الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر"، أبو علي المؤدب، شيخ الطبري مضى برقم: 9642، وهو ليس بالقوي. و"علي بن هاشم بن البريد البريدي العائذي". له في مسلم حديثان. روى عنه جماعة من الأئمة، ووثقوه وضعفه بعضهم. مترجم في التهذيب. و"إسمعيل بن مسلم المكي"، مضى توثيقه، برقم: 5417. وروى ابن ماجه 1: 152، رقم: 445، خبر أبي هريرة، من طريق عمرو بن الحصين، عن محمد بن عبد الله بن علاثة، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وقد ضعفوه، لضعف عمرو بن الحصين، ومحمد بن عبد الله بن علاثة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا، ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بَطَن منه من منابت شعر اللحية النابت على الذَّقَن وعلى العارضين، وما كان منه داخل الفم والأنف، وما أقبل من الأذنين على الوجه. كل ذلك عندهم من"الوجه" الذي أمر الله بغسله بقوله:"فاغسلوا وجوهكم". وقالوا: إن ترك شيئا من ذلك المتوضِّئ فلم يغسله لم تُجْزِه صلاته بوضوئه ذلك. ذكر من قال ذلك: 11385 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني محمد بن بكر وأبو عاصم قالا أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يبُلّ أصول شعر لحيته، ويغلغِل بيده في أصول شعرها حتى يَكثر القَطَرانُ منها. (1) 11386 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج قال، أخبرني نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر كان يغلغل يديه في لحيته حتى يَكثر منها القَطَران. (2) 11387 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد قال، حدثنا ليث، عن نافع، عن ابن عمر: كان إذا توضأ خلَّل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر. 11388 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا معلى بن جابر اللقيطي قال، أخبرني الأزرق بن قيس قال: رأيت ابن عمر توضأ فخلَّل لحيته. (3)   (1) في المطبوعة في الأثرين جميعا"حتى تكثر القطرات"، والصواب من المخطوطة. "قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا": سال وتتابع. (2) في المطبوعة في الأثرين جميعا"حتى تكثر القطرات"، والصواب من المخطوطة. "قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا": سال وتتابع. (3) الأثر: 11388 -"يزيد"، هو"يزيد بن زريع"، مضى مرارا. و"معلى بن جابر مسلم اللقيطي"، وثقه ابن حبان، ولم يذكر البخاري فيه جرحا. مترجم في الكبير 4/1/394، وابن أبي حاتم 4/1/332، وتعجيل المنفعة: 409. و"الأزرق بن قيس الحارثي"، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/69، وابن أبي حاتم 1/1/339. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 11389 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ليث، عن نافع: أن ابن عمر كان يخلّل لحيته بالماء حتى يبلغ أصول الشعر. 11390 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير: أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غَلغل أصابعه في أصول شعر الوجه يغلغلها بين الشعر في أصوله، يدلك بأصابعه البشرة= فأشار لي عبد الله كما أخبره الرجل، كما وصف عنه. (1) 11391 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ عرَك عَارضيه بعض العرك، وشبَّك لحيته بأصابعه أحيانا ويترك أحيانًا. (2) 11392 - حدثنا أبو الوليد وعلي بن سهل قالا حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو، وأخبرني عبدة، عن أبي موسى الأشعري، نحو ذلك. 11393 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مسلم قال: رأيت ابن أبي ليلى توضأ فغسل لحيته، وقال: من استطاع منكم أن يُبْلغ الماء أصولَ الشعر فليفعل. 11394 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء قال: حقٌّ عليه أن يبل أصول الشعر. 11395 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: كان مجاهد يخلِّل لحيته.   (1) الأثر: 11390 -"محمد بن بكر بن عثمان البرساني"، مضى برقم: 5438. وأما قوله: "كما أخبره الرجل. كما وصف عنه" فإني في شك منها، ولكن هكذا جاءت في المخطوطة أيضا. (2) الأثر: 11391 - رواه البيهقي في السنن 1: 55، من طريق عبد الواحد بن قيس، عن نافع، بمثله. وانظر تفسير"تشبيك اللحية" فيما سلف ص: 29، تعليق: 1، في الأثر: 11360. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 11396 - حدثنا حميد قال، حدثنا سفيان، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: أنه كان يخلِّل لحيته إذا توضأ. 11397 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. 11398 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. 11399 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن شبرمة، عن سعيد بن جبير قال: ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت فإذا نبتت لم تغسَل؟ (1) 11400 - حدثنا ابن المثني، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ. 11401 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن طاوس: أنه كان يخلِّل لحيته. 11402 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن ابن سيرين: أنه كان يخلل لحيته. 11403 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن ابن سيرين، مثله. 11404 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فذكر عن الحكم بن عتيبة: أن مجاهدا كان يخلل لحيته.   (1) الأثر: 11399 -"أبو داود الحفري"، (بالحاء المهملة) هو: "عمر بن سعد بن عبيد"، مضى برقم: 863. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 11405 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عمرو عن معروف، قال، رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته. 11406 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، مثله. 11407 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن الضحاك قال: رأيته يخلل لحيته. 11408 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن أبي الأشهب، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الخدري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فخلَّل لحيته، فقلت: لم تفعل هذا يا نبي الله؟ قال:"أمرني بذلك ربيِّ". (1) 11409 - حدثنا تميم قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن سلام بن سَلْم، عن   (1) الأثر: 11408 -"محمد بن يزيد الكلاعي"، الواسطي، روى عن إسمعيل بن أبي خالد، وأبي الأشهب جعفر بن حيان السعدي، وغيرهما. روى عنه أحمد، وابن معين، وغيرهما من الأئمة. قال أحمد: "كان ثبتا في الحديث". مترجم في التهذيب. و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي"، روى عن أبي رجاء العطاردي، والحسن البصري، وغيرهما. ثقة مترجم في التهذيب. "وموسى بن أبي عائشة المخزومي"، روى عبد الله بن شداد بن الهاد، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن جبير، روى عنه شعبة والسفيانان وغيرهم. ثقة مترجم في التهذيب. وأما "زيد الخدري"، فلم أجد له ترجمة، ولم أعرف من يكون. وأخشى أن يكون في الإسناد خلط، أو أن يكون في هذا الاسم تحريف. وأما "يزيد الرقاشي"، فهو: "يزيد بن أبان الرقاشي"، ضعيف مضى برقم: 6654، 6728، 7757. وستأتي رواية هذا الخبر عن يزيد الرقاشي عن أنس، في رقم: 11409، 11411. ومدار هذا الخبر على يزيد الرقاشي، فهو إسناد ضعيف. وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه 1: 149، رقم: 431 من طريق يحيى بن كثير، أبو النضر، صاحب البصري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم في المستدرك مرسلا عن أنس، من طريق موسى بن أبي عاشة أيضا عن أنس. وأشار إليه البيهقي في السنن 1: 54. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 زيد العمي، عن معاوية بن قرة= أو: يزيد الرقاشي= عن أنس، قال: وضّأت النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخل أصابعه من تحت حَنَكه، فخلَّل لحيته، وقال: بهذا أمرني ربي جل وعز". (1) 11410 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال، حدثنا المحاربي، عن سلام بن سَلْم المديني، قال، حدثنا زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (2) 11411 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا أبو عبيدة الحداد، قال حدثنا موسى بن ثروان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هكذا أمرني ربي"! وأدخل أصابعه في لحيته، فخلَّلها (3)   (1) الأثر: 11409 - طريق أخرى، لخبر يزيد الرقاشي، عن أنس. و"سلام بن سلم المدائني" ويقال: "سلامة بن سليم"، "وابن سليمان"، والصواب الأول، هو"سلام الطويل"، أكثر روايته عن"زيد العمي". وروى عنه عبد الرحمن بن محمد المحاربي. قال أحمد: "روى أحاديث منكرة". وقال البخاري: "تركوه"، وقال النسائي: "ليس بثقة، ولا يكتب حديثه". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "سلام بن سليم"، وأثبت ما في المخطوطة. و"زيد العمي" هو"زيد بن الحواري"، قاضي هراة. روى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن، ومعاوية بن قرة وغيرهم. متكلم فيه. مترجم في التهذيب. و"معاوية بن قرة المزني"، أبو إياس، تابعي ثقة، كان من عقلاء الرجال. مترجم في التهذيب. وهذا الحديث ضعيف لضعف سلام بن سلم. و"الحنك": ما تحت الذقن من الإنسان وغيره. (2) الأثر: 11410 -"محمد بن إسمعيل الأحمسي" شيخ الطبري، مضى برقم: 405، 718، 9155. و"المحاربي"، هو"عبد الرحمن بن محمد بن زياد"، ثقة. مضى برقم: 221، 875. و"سلام بن سلم المديني"، هو الذي مضى في الأثر السالف، ونسب في المراجع"المدائني". وكان في المخطوطة هنا: "سلم بن سلام المديني"، وهو سهو من الناسخ لا شك فيه. وهذا أيضا ضعيف الإسناد، كالذي قبله. (3) الأثر: 11411 - هو مكرر الأثرين السالفين: 11408، 11409، من طريق أخرى. "أبو عبيدة الحداد" هو: "عبد الواحد بن واصل السدوسي"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: 3023، 9837. "موسى بن ثروان العجلي" (بالثاء المثلثة) ، ويقال: "موسى بن سروان"، و"موسى بن فروان" (بالفاء) . ثقة. مترجم في التهذيب والكبير 4/1/281، وابن أبي حاتم 4/1/138. وكان في المخطوطة والمطبوعة"شروان" (بالشين المعجمة) ، وهو خطأ. وهذا الخبر ضعيف، لضعف يزيد الرقاشي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 11412 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى، عن خالد بن إلياس، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فخلّل لحيته. (1) 11413 - حدثنا علي بن الحسين بن الحر، قال، حدثنا محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب، عن أبي سورة، عن أبي أيوب، قال: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وخلّل لحيته. (2)   (1) الأثر: 11412 -"معاوية بن هشام" و"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضيا مرارا كثيرة. و"خالد بن إلياس بن صخر القرشي العدوي، المدني"، من ولد عامر بن لؤي. قال البخاري: "ليس بشيء". وقال أحمد: "متروك الحديث". مترجم في ميزان الاعتدال للذهبي 1: 295، والكبير للبخاري 2/1/129، وابن أبي حاتم 1/2/321. و"عبد الله بن رافع المخزومي"، مولى أم سلمة، تابعي ثقة. مضى برقم: 5398. وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 235، وقال: "رواه الطبراني في الكبير. وفيه: خالد بن إلياس، ولم أر من ترجمه". فقصر، فقد ذكرنا من ترجمه قبل. (2) الأثر: 11413 -"علي بن الحسين بن الحر" هو"علي بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان" المعروف بابن أشكاب الأكبر، ثقة، مترجم في تاريخ بغداد 11: 392، وابن أبي حاتم 3/1/179. و"محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي"، ثقة، مضى برقم: 181، 6860. و"واصل بن السائب الرقاشي"، قال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/173، وابن أبي حاتم 4/2/30. و"أبو سورة"، ابن أخي أبي أيوب الأنصاري. قال البخاري: "منكر الحديث، يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليها". وقال الترمذي في العلل عن البخاري: "لا يعرف لأبي سورة سماع من أبي أيوب". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/2/388. وهذا خبر ضعيف، لضعف واصل بن السائب، وأبي سورة. رواه ابن ماجه في السنن 1: 149، رقم: 433، من طريق إسمعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن ربيعة، به، نحوه، وضعفه الزيلعي في نصب الراية 1: 24. وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم: 11418. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 11414 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عمر بن سليمان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم خلّل لحيته". (1) 11415 - حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، حدثنا سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية: أن حسان بن بلال المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته، فقيل له: أتفعل هذا، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. (2)   (1) الأثر: 11414 -"زيد بن حباب العكلي"، ثقة. مضى برقم: 2185، 5350، 8165. وكان في المطبوعة: "زيد بن حبان"، وهو خطأ محض. و"عمر بن سليمان"، هكذا جاء في المطبوعة، وفي نصب الراية: "عمر بن سليمان الباهلي"، وفي المخطوطة"عمرو بن سليمان". ولا أدري كيف اتفق ذلك في التفسير، وفي نصب الراية، نقلا عن الطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه!! فإنه يكاد يكون من المقطوع به أنه"عمر بن سليم الباهلي"، فهو الذي يروي عن أبي غالب، صاحب أبي أمامة، وهو الذي يروي عنه زيد بن الحباب، كما في ترجمته في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/112، 113. قال أبو زرعة: "صدوق"، وذكره ابن حبان في الثقات. فلا أدري أجائز أن يكون فاتهم أن في اسم أبيه اختلافا: "سليم "أو" سليمان"؟ و"أبو غالب" صاحب أبي أمامة، معروف بكنيته، قال ابن معين: "صالح الحديث"، وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها، وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات". وضعفه بعضهم. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر خرجه الزيلعي في نصب الراية 1: 25، فقال: "رواه الطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني: حدثنا عنبسة بن غنام، قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عمر بن سليمان الباهلي، عن ابن غالب (والصواب: عن أبي غالب) ، عن أبي أمامة ... ". الحديث. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 235، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه الصلت ابن دينار، وهو متروك". فهذا إسناد آخر للطبراني، فيما يظهر، غير الذي خرجه الزيلعي في نصب الراية. (2) الأثر: 11415 -"محمد بن عيسى الدامغاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 3225. و"سفيان" هو ابن عيينة. و"عبد الكريم أبو أمية" هو"عبد الكريم بن أبي المخارق"، روى عن أنس بن مالك، وطاوس وحسان بن بلال، وغيره. وهو ضعيف، متكلم فيه. وأنكر البخاري وابن عيينة سماع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل. مترجم في التهذيب. و"حسان بن بلال المزني" روى عن عمار بن ياسر. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر رواه ابن ماجه 1: 148، رقم: 429، والحاكم في المستدرك 1: 149، وأبو داود الطيالسي رقم: 645، والترمذي في السنن 1: 44 (شرح أخي السيد أحمد) ، وقد استوفى أخي الكلام فيه هناك. وانظر أيضا نصب الراية للزيلعي 1: 24. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 11416 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو قال، أخبرني عبد الواحد بن قيس، عن يزيد الرقاشي وقتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا توضأ عَرك عارضيه، وشبك لحيته بأصابعه. (1) 11417 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني أبو مهدي سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (2) 11418 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد الله قال، حدثني واصل الرقاشي، عن أبي سودة= هكذا قال   (1) الأثر: 11416 -"أبو الوليد": هو: "أحمد بن عبد الرحمن القرشي"، انظر ما مضى في التعليقات على الآثار: 11356 - 11360. و"الوليد"، هو"الوليد بن مسلم"، انظر ما سلف أيضا. و"عبد الواحد بن قيس السلمي" الأفطس النحوي. روى عن أبي أمامة، ونافع مولى ابن عمر، ويزيد الرقاشي. وروى عنه أبو عمرو الأوزاعي. تكلموا فيه. مترجم في التهذيب. وانظر تفسير"تشبيك اللحية" فيما سلف: 11360، 11391. (2) الأثر: 11417 -"أبو مهدي"، "سعيد بن سنان الحنفي"، روى عن أبيه، وأبي الزاهرية، وغيرهما. روى عنه بشر بن بكر التنيسي، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، وغيرهم، قال أحمد: "ضعيف"، وقال ابن معين: "ليس بثقة". وقال الجوزجاني: "أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة، لا تشبه أحاديث الناس". وقال مسلم في الكنى: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب. و"أبو الزاهرية"، هو: "حدير بن كريب الحضرمي"، روى عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص. ثقة. مضى برقم: 11255. و"جبير بن نفير الحضرمي"، ثقة من كبار التابعين، كان جاهليا. مضى برقم: 7009. وهذا الخبر مرسل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 الأحمسي= عن أبي أيوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء. (1) * * * ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطن من الأنف والفم. 11419 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، سمعت مجاهدا يقول: الاستنشاق شَطْر الوضوء. 11420 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت حمادا عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، قال حماد: ينصرف فيتمضمض ويستنشق. 11421 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: قدمت الكوفة فأتيت حمادا فسألته عن ذلك= يعني: عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلى= فقال: أرى عليه إعادة الصلاة. 11422 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال: كان قتادة يقول: إذا ترك المضمضة أو الاستنشاق أو أذنه أو طائفة من رجله حتى يدخل في صلاته، فإنه ينفتِلُ ويتوضأ، ويعيد صلاته. (2) * * *   (1) الأثر: 11418 -"محمد بن إسمعيل الأحمسي"، مضى قريبا رقم: 11410. و"محمد بن عبيد الطنافسي" أبو عبد الله الأحدب، ثقة معروف، مضى برقم: 405، 9155. و"واصل الرقاشي"، هو: "واصل بن السائب الرقاشي"، مضى برقم: 11413. و"أبو سودة"، إنما هو"أبو سورة" (بالراء) كما سلف في رقم: 11413، وإنما قال ذلك محمد بن إسمعيل الأحمسي، شيخ الطبري، وأخطأ. وكان في المطبوعة"أبو سورة" بالراء، وهو تصحيح لا معنى له. والصواب من المخطوطة، وإن كان خطأ على الحقيقة. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 417، عن محمد بن عبيد الطنافسي، بمثله، مطولا. وهو ضعيف الإسناد، كأخيه السالف رقم: 11413. (2) في المطبوعة: "فإنه ينتقل"، وهو خطأ محض، وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط. يقال، "انفتل فلان عن صلاته، أو من صلاته"، أي: انصرف. ويقال: "فتل وجهه عن القوم": صرفه ولفته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس. 11423 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، قال: ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس. 11424 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي في الأذنين: باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس. 11425 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن الشعبي قال: مقدَّم الأذنين من الوجه، ومؤخَّرهما من الرأس. 11426 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي بمثله= إلا أنه قال: باطن الأذنين. 11427 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي بمثله، إلا أنه قال: باطن الأذنين. 11428 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي، بمثله. 11429 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: باطن الأذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس. 11430 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا أبو تميلة= ح، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= قالا جميعا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 عباس قال: قال علي بن أبي طالب: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قلنا: نعم! فتوضأ، فلما غسل وجهه، ألقَم إبهاميه ما أقبل من أذنيه. قال: ثم لما مسح برأسه مسح أذنيه من ظهورهما (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قولُ من قال:"الوجه" الذي أمر الله جل ذكره بغسله القائمَ إلى صلاته: كل ما انحدر عن منابت شَعَر الرأس إلى مُنقطع الذَّقَن طولا وما بين الأذنين عرضا مما هو ظاهر لعين الناظر، دون ما بطن من الفم والأنف والعين، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين، ودون الأذنين. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب= وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان"وجها" يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته= لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه، ثم هم -مع إجماعهم على ذلك- مجمعون على أن غسلَ ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما مجزئ. فإذْ كان ذلك منهم إجماعا بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك، فنظير ذلك كل ما علاه شيء من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقه ساتِرَه لا يصل الماء إليه إلا بكلفة ومؤنة وعلاج، قياسا لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك.   (1) الأثر: 11430 -"محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة". ثقة، مضى برقم: 11329. و"عبيد الله الخولاني"، هو"عبيد الله بن الأسود"، ويقال: "عبيد الله بن الأسد" ربيب ميمونة، روى عنها، وعن ابن عباس. ثقة. وهذا الخبر رواه أبو داود في السنن 1: 64، رقم: 117، ورواه أحمد في المسند رقم: 625، مطولا، وقد ضعف البخاري هذا الحديث وقال: "ما أدري ما هذا"، ولكن أخي السيد أحمد صححه في شرح هذا الخبر في المسند. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 فإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن مثلَ العينين في مؤنة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ما بطن من الأنف والفم وشَعَر اللحية والصدغين والشاربين، لأن كل ذلك لا يصل الماء إليه إلا بعلاجٍ لإيصال الماء إليه نحو كلفة علاج الحدقتين لإيصال الماء إليهما أو أشدّ. وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن غسل مَنْ غسل من الصحابة والتابعين ما تحت منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين، وما بطن من الأنف والفم، إنما كان إيثارًا منه لأشق الأمرين عليه: من غسل ذلك وترك غسله، كما آثر ابن عمر غسل ما تحت أجفان العينين بالماء بصبِّه الماء في ذلك= لا على أنّ ذلك كان عليه عنده فرضا واجبا. فأما من ظنّ أن ذلك من فعلهم كان على وجه الإيجاب والفرض، فإنه خالف في ذلك بقوله منهاجَهم وأغفل سبيلَ القياس، لأن القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف فيه من ذلك، بالأصل المجمع عليه من حكم العينين= وأنْ لا خبر عن واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر لحيته وعارضيه، وتارك المضمضة والاستنشاق إعادةَ صلاته إذا صلى بطهره ذلك. ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك كان إيثارا منهم لأفضل الفعلين من الترك والغسل. فإن ظن ظان أن في الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: 11431 - "إذا توضأ أحدكم فليستنثر". (1) =دليلا على وجوب الاستنثار، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غيرُ فرض واجب، يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله، ما يغني عن إكثار القول فيه. * * *   (1) الأثر: 11431 - هذا خبر لم يذكر إسناده، وانظر مثل لفظه في البخاري (فتح 1: 229) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 وأما الأذنان فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما، أو غسل ما أقبل منهما مع الوجه، غيُر مفسد صلاةَ من صلى بطهره الذي ترك فيه غسلهما= مع إجماعهم جميعا على أنه لو ترك غسل شيء مما يجب عليه غسله من وجهه في وضوئه أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك= ما ينبئ عن أنّ القول في ذلك ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا قولهم: (1) إنهما ليسا من الوجه= دون ما قاله الشعبي. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"المرافق"، هل هي من اليد الواجب غسلها، أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب. فقال مالك بن أنس= وسئل عن قول الله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ = قال: الذي أمر به أن يُبْلغ"المرفقين"، قال تبارك وتعالى:"فاغسلوا وجوهكم" فذهب هذا يغسل خلفه!! (2) فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال، لا أدري"ما لا يجاوزهما" أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين= حدثنا يونس، عن أشهب عنه. * * *   (1) في المطبوعة: "ما ينبئ عن القول في ذلك مما قاله أصحاب رسول الله ... "، وهو مضطرب، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب"ما قاله أصحاب رسول الله ... "، وصواب السياق يقتضي أن يكون: "ما ينبئ عن أن القول ... " بزيادة"أن". (2) في المطبوعة: "مذهب هذا يغسل خلفه"، وقد استشكلها ناشر المطبوعة الأولى، وحق له. وهي في المخطوطة مثلها سيئة الكتابة، وصوابها"فذهب"، وهذه الجملة، تعجب ممن قيل له: "فاغسلوا وجوهكم"، فراح يغسل ما خلف الوجه، أي القفا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل"، كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تُغْسَل المرافق= حدثنا بذلك عنه الربيع. (1) * * * وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله:"وأيديكم إلى المرافق" غسلَ اليدين إلى المرفقين، فالمرفقان غايةٌ لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحدِّ، كما غير داخل الليلُ فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [سورة البقرة: 187] لأن الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" غاية لما أوجب الله غسلَه من اليد. وهذا قول زُفَر بن الهذيل. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تجزه الصلاة مع تركه غسلَه. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندبَ إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله: 11432 - "أمتي الغرُّ المحجلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فليفعل". (3)   (1) هذا كله نص الشافعي في الأم 1: 22، إلا أن فيه: "كأنهم ذهبوا إلى أن معناها ... " (2) "زفر بن الهذيل بن قيس العنبري"، أبو الهذيل، صاحب أبي حنيفة. كان من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه الرأي، فكان من أصحاب أبي حنيفة. (3) هذا حديث صحيح، لم يذكر إسناده، ورواه البخاري (الفتح 1: 207، 208) ولفظه: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين"، بمثله. و"الغر" جمع"أغر"، أي ذو غرة (بضم الغين وتشديد الراء) ، وهي لمعة بيضاء، تكون في جبهة الفرس، وأراد بذلك النور الذي يكون في وجوه أهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، واهتدوا بهديه. و"المحجلون" من"التحجيل"، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس. وهذه سيما المؤمنين الذين اتبعوه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 =فلا تفسد صلاة تاركِ غسلِهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبلُ فيما مضى: من أن كل غاية حُدَّت بـ"إلى" فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه، إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بيَّن وحَكم، ولا حُكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا= ممن يجب التسليم بحكمه. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة"المسح" الذي أمر الله به بقوله:"وامسحوا برءوسكم". فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رءوسكم بالماء، إذا قمتم إلى الصلاة. ذكر من قال ذلك: 11433 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حماد بن مسعدة، عن عيسى بن حفص قال: ذكر عند القاسم بن محمد مسحُ الرأس فقال: يا نافع كيف كان ابن عمر يمسح؟ فقال، مسحةً واحدة= ووصف أنه مسح مقدَّم رأسه إلى وجهه= فقال القاسم: ابن عمر أفقهُنا وأعلمُنا. 11434 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان إذا توضأ ردَّ كفه اليمنى إلى الماء ووضعهما فيه، ثم مسح بيديه مقدَّم رأسه. 11435 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكير، قال أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يضع بطن كفه اليمنى على الماء، (1)   (1) في المطبوعة: "كان يضع بطن كفيه على الماء"، ليت شعري كيف استجاز الناشر أن يجعل"كفه اليمنى""كفيه"؟ أمن أجل أن الناسخ كتب في الجملة التالية: "ثم لا ينفضهما، ثم تمسح بهما" بالتثنية؟ ولقد أخطأ الناسخ في تثنية الضمير، فرددته إلى الصواب بإفراد الضمير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 لا ينفضهما ثم يمسح بها ما بين قَرْنيه إلى الجبين واحدًة، ثم لا يزيد عليها في كل ذلك مسحةٌ واحدة، مقبلةً من الجبين إلى القرن. (1) 11436 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدَّم رأسه. 11437 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: يجزيك أن تمسح مقدَّم رأسك إذا كنت معتمرا. (2) وكذلك تفعل المرأة. 11438 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع قال: رأيت ابن عمر مسح بَيافوخه مسحة= وقال سفيان: إن مسح شعرةً أجزأه= يعني واحدةً. 11439 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: أيّ جوانب رأسك أمْسَسْتَ الماء أجزأك. (3) 11440 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا علي بن ظبيان قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: أي جوانب رأسك أمسست الماء أجزأك. (4) 11441 - حدثنا الرفاعي قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل الأزرق، عن الشعبي، مثله. (5)   (1) "القرن" هو حد الرأس وجانبها، وهما قرنان عن يمين وشمال. (2) "اعتمر الرجل يعتمر، فهو معتمر": إذا تعمم بعمامة، فهو معتم. و"العمارة" (بفتح العين) : كل شيء على الرأس، من عمامة، أو قلنسوة، أو تاج، أو غير ذلك. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "مسست الماء"، وهو خطأ، انظر الخبر التالي. (4) الأثر: 11440 - كان في المطبوعة: " ... عن الشعبي، مثله"، ولم يثبت نص الخبر، وهو ثابت في المخطوطة. فرددته إلى مكانه. (5) الأثر: 11441 - هذا الأثر، أخره ناشر المطبوعة السالفة، فوضعه بعد الأثر التالي، وقد أساء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 11442 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا= فوضع أيوب كفّه وسط رأسه، ثم أمرَّها على مقدَّم رأسه. 11443 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن سفيان، قال: إن مسح رأسه بأصبع واحدة أجزأه. (1) 11444 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لأبي عمرو: ما يجزئ من مسح الرأس؟ قال: أن تمسح مقدَّم رأسك إلى القفا أحبُّ إلّي. 11445 - حدثني العباس بن الوليد، عن أبيه، عنه، نحوه. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء، لم تجزِه الصلاة بوضوئه ذلك. ذكر من قال ذلك: 11446 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أشهب قال، قال مالك: من مسح بعضَ رأسه ولم يعمَّ أعاد الصلاة بمنزلة من غسل بعضَ وجهه أو بعضَ ذراعه. قال، وسئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدَّم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردُّهما إلى حيث بدأ منه. * * * وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد. * * *   (1) الأثر: 11443 -"زيد بن الحباب"، مضى قريبا برقم: 11414، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يزيد بن الحباب"، وهو خطأ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائمَ إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحدَّ ذلك بحدٍّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقَّ بمسحه ذلك أن يقال:"مسح برأسه"، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم"ماسحٍ برأسه" إذا قام إلى صلاته. (1) * * * فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) [سورة النساء: 43] أفيجزئ المسحُ ببعض الوجه واليدين في التيمم؟ قيل له: كلَّ ما مسح من ذلك بالتراب، فيما تنازعت فيه العلماء= فقال بعضهم:"يجزيه ذلك من التيمم" وقال بعضهم:"لا يجزيه"= فهو مجزئه، لدخوله في اسم"الماسحين به". وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلَّم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم. ولا حجة لأحد علينا في ذلك، إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عامًّا في معنىً، فالواجب الحكم أنه على عمومه، (2) حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خُصَّ منه شيء، كان ما خُصَّ منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم. (3) وقد بيَّنا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) * * * و"الرأس" الذي أمر الله جل وعز بالمسح به بقوله:"وامسحوا برءوسكم   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "اسم مامسح"، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) في المطبوعة: "فالواجب الحكم به على عمومه"، وأسقط"من". وفي المخطوطة: "فالواجب من الحكم به على عمومه"، وهو الصواب، مع جعل"به""أنه"، كما أثبتها. (3) انظر تفسير آية التيمم في 8: 410 - 425. (4) انظر القول في الخصوص والعموم فيما سلف 2: 207، 539/4: 134/5: 40، 130، وفي مواضع أخرى كثيرة متفرقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 وأرجلكم إلى الكعبين" هو منابت شعر الرأس، دون ما جاوز ذلك إلى القفا ممَّا استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبلَ من قِبل وجه إلى الجبهة. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، نصبًا، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق وأرجلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم وإذا قرئ كذلك، كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون"الأرجل" منصوبة عطفا على"الأيدي". وتأول قارئو ذلك كذلك، أن الله جل ثناؤه: إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها. * * * ذكر من قال: عنى الله بقوله:"وأرجلكم إلى الكعبين" الغسلَ. 11447 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة أن رجلا صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظُفُر، فلما قضى صلاته، قال له عمر: أعدْ وضوءك وصلاتَك. 11448 - حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا عبد الله بن حسن قال، حدثنا هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود قال: خلِّلوا الأصابع بالماء، لا تخلَّلها النارُ. (1)   (1) الأثر: 11448 -"عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب"، روى له الأربعة، ثقة. وكان من العباد، له شرف وعارضة وهيبة ولسان شديد، وكان ذا منزلة من عمر بن عبد العزيز. مترجم في التهذيب. و"هزيل بن شرحبيل الأودي"، الأعمى، أخو الأرقم بن شرحبيل، روى عن أخيه، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد وابن مسعود، وغيرهم. تابعي ثقة، من أصحاب عبد الله بن مسعود. ويقال: أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 11449 - حدثنا عبد الله بن الصباح العطار قال، حدثنا حفص بن عمر الحوضي، قال، حدثنا مُرجَّى= يعني: ابن رجاء اليشكري= قال، حدثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة، عن المغيرة بن حنين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه، فقال: بهذا أمرت. (1) 11450 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: رأى عمر بن الخطاب قوما يتوضأون فقال: خلِّلوا. (2) 11451 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى قال، سمعت القاسم قال: كان ابن عمر يخلع خفَّيه، ثم يتوضأ فيغسل رجليه، ثم يخلِّل أصابعه. 11452 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،   (1) الأثر: 11449 -"عبد الله بن الصباح بن عبد الله الهاشمي، العطار" شيخ الطبري، روى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب. و"حفص بن عمر الحوضي، النمري"، أبو عمر الحوضي. روى عنه البخاري وأبو داود. قال أحمد: "ثبت، ثبت، متقن، لا يؤخذ عليه حرف واحد". مترجم في التهذيب. و"مرجي بن رجاء اليشكري"، ضعيف، قال ابن معين: "ليس حديثه بشيء". مترجم في التهذيب. و"أبو روح": "عمارة بن أبي حفصة العتكي". ثقة. مضى برقم: 8513. و"مغيرة بن حنين"، تابعي، روى عن علي. روى عنه عمارة بن أبي حفصة. ذكره البخاري في الكبير 4/1/318، وابن أبي حاتم 4/1/220، لم يزيدا على ذلك شيئا، لا جرحا ولا تعديلا. وهذا خبر مرسل، ضعيف لضعف مرجي بن رجاء. (2) الأثر: 11450 -"واقد، مولى زيد بن خليدة" كوفي. روى عن زادان، وسعيد بن جبير. روى عنه سفيان الثوري، وشعبة. قال الثوري: "كان شيخ صدق". مترجم في التهذيب. و"مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري"، أبو زرارة، تابعي ثقة، مضى برقم 9841. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "مصعب بن سعيد"، وليس في التابعين من يقال له: "مصعب بن سعيد"، وبعيد أن يكون تابعيا يروى عنه، ثم يغفلونه. فثبت عندي أنه"مصعب بن سعد". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم قال: قلت للأسود: رأيتَ عمر يغسل قدميه غَسْلا؟ قال: نعم. 11453 - حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا إسحاق بن منصور، قال، حدثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمر بن عبد العزيز: أنه قال لابن أبي سويد: بلغنا عن ثلاثة كلهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه غسلا أدناهم ابن عمك المغيرة. (1) 11454 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا الصباح، عن محمد= وهو ابن أبان= عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين. 11455 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن أبي قلابة: أن عمر بن الخطاب رأى رجلا قد ترك على ظهر قدمه مثل الظُفُر، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته. 11456 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن شيبة بن نِصاح قال: صحبت القاسم بن محمد إلى مكة، فرأيته إذا توضأ للصلاة يُدخل أصابع رجليه يصب عليها الماء، قلت: يا أبا محمد، لم تصنع هذا؟ قال: رأيت ابن عمر يصنعه. (2) 11457 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" قال: عاد الأمرُ إلى الغسل. 11458 - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال، حدثنا أبي، عن حفص   (1) الأثر: 11453 -"ابن أبي سويد" هو: "محمد بن أبي سويد الثقفي الطائفي". روى عن عثمان بن العاص، وعمر بن عبد العزيز. روى له الترمذي حديثا واحدا. مترجم في التهذيب. و"المغيرة"، يعني: "المغيرة بن شعبة الثقفي"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) الأثر: 11456 -"شيبة بن نصاح بن سرجس المخزومي"، مولى أم سلمة، أتي به إليها وهو صغير، فمسحت رأسه. كان قاضيا بالمدينة. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب. "نصاح" بكسر النون. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 الغاضري، عن عامر بن كليب، عن أبي عبد الرحمن قال: قرأ عليَّ الحسن والحسين رضوان الله عليهما، فقرآ: (وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فسمع علي رضى الله عنه ذلك= وكان يقضي بين الناس= فقال:"وَأَرْجُلَكُمْ"، هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. (1) 11459 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد الأعلى، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قرأها: (فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب، وقال: عاد الأمر إلى الغسل. (2) 11460 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قرأها: (وَأَرْجُلَكُمْ) وقال: عاد الأمر إلى الغسل. 11461 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن المبارك، عن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أنه كان يقرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب. 11462 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،   (1) الأثر: 11458 -"الحسين بن علي بن يزيد بن سليم الصدائي"، مضى مرارا منها: 2093، 5427، 5437. وأبوه: "علي بن يزيد بن سليم الصدائي" مضى برقم: 2093. و"حفص الغاضري" هو: "حفص بن سليمان الأسدي الغاضري"، متروك الحديث، مضى برقم: 5753. و"عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي"، مضى برقم: 8098، ثقة قليل الحديث. و"أبو عبد الرحمن" هو: "أبو عبد الرحمن السلمي": "عبد الله بن حبيب بن ربيعة"، الضرير، مقرئ الكوفة. ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة. إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا. أخذ القراءة عرضا عن عثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب. وأخذ القراءة عنه أئمة التابعين، منهم الحسن والحسين، رضي الله عنهما. أقرأ القرآن في المسجد الأعظم بالكوفة، أربعين سنة، من زمن عثمان رضي الله عنه إلى أن توفي سنة 74، رحمه الله. وقد مضى برقم: 82. (2) الأثر: 11459 -"عبد الوهاب بن عبد الأعلى" (!!) ، لم أجد له ذكرا في شيء من الكتب، ولا مر بنا قبل ذلك. ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة. والذي يروى عن"خالد الحذاء" ممن اسمه"عبد الوهاب": "عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي"، و"عبد الوهاب بن عطاء الخفاف"، فأخشى أن يكون أحدهما، ومنها الناسخ أو أخطأ المملي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، فيقول: اغسلوا وجوهكم، واغسلوا أرجلكم، وامسحوا برءوسكم. فهذا من التقديم والتأخير. 11463 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن شيبان، قال، أثبت لي عن علي أنه قرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) . (1) 11464 - حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (وأرجلكم) رجع الأمر إلى الغسل. 11465 - حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خالد، عن عكرمة، مثله. 11466- حدثني المثني، قال، حدثنا الحماني، قال، حدثنا شريك، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها: (وَأَرْجُلَكُمْ) فيغسلون. 11467 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسل القدمين إلى الكعبين. 11468 - حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي السوداء، عن ابن عبد خير، عن أبيه قال: رأيت عليًّا توضأ، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك، ظننت أن بَطْنَ القدم أحقُّ من ظاهرها. (2)   (1) الأثر: 11463 -"حسين بن علي بن وليد الجعفي"، مضى في مواضع كثيرة، منها رقم: 29، 174، 441، 7287، 7499. و"شيبان" النحوي، هو: "شيبان بن عبد الرحمن"، أبو معاوية. مضى كثيرا، من ذلك رقم: 2340، 4898، 5280، 9222، 9223، 9456. و"شيبان النحوي"، روى القراءة عن عاصم، وروى القراءة عنه: "حسين بن علي الجعفي"، انظر طبقات القراء للجزري 1: 329، رقم: 1435. (2) الأثر: 11468 -"عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري"، شيخ الطبري، روى عن سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وأبي عامر العقدي، وغيرهم. روى عنه الجماعة، سوى البخاري. وروى عنه أبو جعفر في التاريخ 2: 40"عبد الله بن محمد الزهري، عن سفيان". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "عبد الله بن محمد الزبيري"، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة. و"أبو السوداء" هو: "المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني". ثقة. مضى برقم: 5850، 5851. و"ابن عبد خير"، هو"المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني". ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/408. وأبوه: "عبد خير بن يزيد الخيواني الهمداني"، مخضرم، تابعي ثقة. مضى برقم: 8035. وهذا خبر صحيح الإسناد رواه أحمد في مسنده من طريق المسيب بن عبد خير، عن أبيه برقم: 918، 1014، 1015، مع اختلاف في لفظه. ورواه من طريق أبي إسحق، عن عبد خير، برقم: 737، 917، 1013، 1263، ومن طريق السدي، عن عبد خير برقم: 943. مطولا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 11469 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: لم أر أحدا يمسح على القدمين. 11470 - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد أنه قرأ: (وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فنصبها، وقال: رجع إلى الغسل. 11471 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا جابر بن نوح قال، سمعت الأعمش يقرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب. 11472 - حدثني يونس، قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" أهي:"أرجلَكم" أو"أرجلِكم"؟ فقال: إنما هو الغسل وليس بالمسح، لا تُمْسح الأرجل، إنما تُغسل. قيل له: أفرأيت من مسح أيحزيه ذلك؟ قال: لا. 11473 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم" قال: اغسلوها غسلا. * * * وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) بخفض"الأرجل". وتأول قارئو ذلك كذلك: أنّ الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 في الوضوء دون غسلها، وجعلوا"الأرجل" عطفا على"الرأس"، فخفضوها لذلك. ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: 11474 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن قيس الخراساني، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غَسْلتان ومَسْحتان. (1) 11475 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن حميد= ح، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا حميد= قال، قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبَنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطَّهور فقال:"اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرَب إلى خَبَثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورَهما وعَرَاقيبهما". فقال أنس: صدق الله وكذبَ الحجاج، قال الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم" قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلَّهما. (2) 11476 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد قال، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة الغسلُ. (3) 11477 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى   (1) الأثر: 11474 -"محمد بن قيس الخراساني"، لم أجد له ذكرا، ولم أعرف من يكون. وعسى أن يكون محرفا. (2) الأثر: 11475 -"موسى بن أنس بن مالك الأنصاري"، قاضي البصرة. روى عن أبيه أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس. روى عنه ابن حمزة، وعطاء بن أبي رباح، وحميد الطويل، وغيرهم. قال ابن سعد: "كان ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب. وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر برقم: 11477، فانظر تخريجه هناك. و"الخبث" (بفتحتين) : النجس، يعني البول والغائط، ويقال لهما"الأخبثان". (3) الأثر: 11476 - في المطبوعة: "حدثنا ابن سهل"، أسقط"على"، وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 بن أنس قال: خطب الحجاج فقال:"اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلَكم، ظهورَهما وبطونَهما وعراقيبَهما، فإن ذلك أدنى إلى خبثكم". قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين". (1) 11478 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قال: ليس على الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. (2) 11479 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: امسح على رأسك وقدميك. 11480 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. قال: ثم قال الشعبي: ألا ترى أن"التيمم" أن يمسح ما كان غسلا ويُلغِي ما كان مسحًا؟ 11481 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: أُمر بالتيمم فيما أُمر به بالغسل. 11482 - حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي أنه قال: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل، جعل عليه المسح، وما كان عليه المسح أهمل؟ 11483 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر أنه قال: أمر أن يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل   (1) الأثر: 11477 - انظر الأثر السالف رقم: 11475. وفي المخطوطة: "أدنى إلى أخبثكم"، بإفراد"أخبث"، وإنما جاء على التثنية: "الأخبثان"، وهما البول والغائط. وأما في المطبوعة، فإنه جعلها"خبثكم" فأسقط الألف. والصواب ما أثبت. وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 1: 71، من طريق يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن حميد، به نحوه. (2) الأثر: 11478 -"عبيد الله العتكي" هو: "عبيد الله بن عبد الله العتكي"، أبو المنيب. مضى برقم: 1634، 4268، 5500، وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله العتكي"، والصواب ما أثبته، مصغرا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 ما أمر أن يُمسح في الوضوء: الرأس والرجلان. 11484 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي قال: أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم، ما أمر أن يغسل بالماء. وأهمِل ما أمر أن يمسح بالماء. 11485 - حدثنا ابن أبي زياد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا إسماعيل قال: قلت لعامر: إن ناسًا يقولون إن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل بغسل الرجلين! فقال: نزل جبريل بالمسح. (1) 11486 - حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن يونس قال، حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه، إنما يمسح عليهما، حتى خرج منها. (2) 11487 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين" افترض الله غَسلتين ومسحتين. 11488 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، عن يحيى بن وثَاب، عن علقمة: أنه قرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" مخفوضة"اللام". (3) 11489 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، مثله.   (1) الأثر: 11485 -"ابن أبي زياد"، هو: "عبد الله بن عبد الحكم بن أبي زياد القطواني"، مضى برقم: 2247، 5796، وغيرهما. (2) الأثر: 11486 -"إسحق بن شاهين الواسطي"، أبو بشر الواسطي"، مضى برقم: 7211، 9788. و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي"، مضى أيضا: 4433، 7211، 9141، 9788. (3) الأثر: 11488 -"يحيى بن وثاب الأسدي" المقرئ. روى عن ابن عمر، وابن عباس، وعلقمة. ثقة. قال الأعمش: "كان يحيى بن وثاب من أحسن الناس قراءة، وكان إذا قرأ لا يسمع في المسجد حركة". مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 11490 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو الحسين العكلي، عن عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد: أنه كان يقرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ". (1) 11491 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال، كان الشعبي يقرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" بالخفض. 11492 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الحسن بن صالح، عن غالب، عن أبي جعفر، أنه قرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" بالخفض. (2) 11493 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: أنه قرأ"وَأَرْجُلِكُمْ" بالكسر. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله عزّ ذكره أمر   (1) الأثر: 11490 -"أبو الحسين العكلي"، هو"زيد بن الحباب العكلي"، مضى برقم: 2185، 5350، 8165، وغيرها. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو الحسن" وهو خطأ. و"عبد الوارث" هو: "عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري". إمام حافظ مقرئ. مضى برقم: 2154، 6589، 6591، 6819. ومترجم أيضا في طبقات القراء للجزري 1: 478، رقم: 1989، أخذا القراءة عرضا على أبي عمرو بن العلاء، ورافقه في العرض علي حميد بن قيس المكي. و"حميد" هو"حميد الأعرج"، "حميد بن قيس المكي الأسدي" القارئ، مضى برقم: 3352، 6461، ومترجم أيضا في طبقات القراء للجزري 1: 265، رقم: 1200. أخذ القراءة عن"مجاهد بن جبر". روى القراءة عنه سفيان بن عيينة، وأبو عمرو بن العلاء، وعبد الوارث بن سعيد. توفى سنة 130. (2) الأثر: 11492 -"الحسن بن صالح بن حي الثوري"، مضى برقم: 178، 5347، 7594. وأما "غالب"، فكأنه يعني"غالب بن فائد الأسدي" المقرئ، روى عن سفيان الثوري، وإسرائيل، وأبي بكر بن عياش، وعرض القراءة على حمزة الزيات. قال أبو حاتم: "هو مقرئ ليس به بأس". وقال أبو زرعة: "هو شيخ كوفي، لا أعرفه". مترجم في ابن أبي حاتم 3/2/49. وأما "أبو جعفر"، فهو"أبو جعفر المخزومي": "يزيد بن القعقاع"، الإمام القارئ، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور كبير القدر. مترجم في طبقات القراء للجزري 2: 382، رقم: 3882. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ، كان مستحقًّا اسم"ماسحٍ غاسلٍ"، لأن"غسلهما" إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. و"مسحهما"، إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو"غاسل ماسح". ولذلك= من احتمال"المسح" المعنيين اللذين وصفتُ من العموم والخصوص اللذين. أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع= اختلفت قراءة القرأة في قوله:"وأرجلكم" فنصبها بعضهم= توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارًا منه المسح عليهما، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء. =وخفضها بعضهم، توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح. ولما قلنا في تأويل ذلك= إنه معنّي به عموم مسح الرجلين بالماء= كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد، توجيها منه قوله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" إلى مسح جميعهما عامًّا باليد، أو بما قام مقام اليد، دون بعضهما مع غسلهما بالماء، كما:- 11494 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= قال، حدثنا نافع، عن ابن عمر= عن الأحول، عن طاوس، أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في الماء. قال: ما أعدُّ ذلك طائلا. (1) * * *   (1) الأثر: 11494 - في هذا الإسناد خطأ لم أهتد إلى صوابه، فإن"سفيان بن عيينة" لم يرو عن"نافع" مولى"ابن عمر". وأخشى أن يكون صوابه"قال حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان = وحدثنا نافع بن عمر= عن الأحول ... ". وإن"عبد الرحمن بن مهدي"، يروي عن نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل الجمحي"، ولكن لا أدري، أروى"نافع بن عمر" هذا عن"الأحول" أم لم يرو عنه. وأما "الأحول"، فهو"سليمان بن أبي مسلم المكي"، روى عنه سفيان بن عيينة. ومضى برقم: 7867. وقوله: "ما أعد ذلك طائلا" أي مغنيا أو مجزئا. وأصل"الطائل": النفع والفائدة. ويقال: "هذا أمر لا طائل فيه"، إذا لم يكن فيه غناء ولا مزية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 وأجاز ذلك من أجاز، توجيهًا منه إلى أنه معنيٌّ به الغسل. كما:- 11495 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت هشاما يذكر، عن الحسن، في الرجل يتوضأ في السفينة، قال: لا بأس أن يغمس رجليه غمسًا. 11496 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرني أبو حرّة، عن الحسن في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة، قال: يخضخِضُ قدميه في الماء. (1) * * * =فإذا كان"المسحَ" المعنيان اللذان وصفنا: من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به= وكان صحيحًا بالأدلّة الدالة التي سنذكرها بعدُ، أنّ مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى"الغسل" و"المسح"= فبيِّنٌ صواب قرأة القراءتين جميعًا (2) = أعني النصب في"الأرجل" والخفض. لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلُهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحُهما. فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما. (3) ووجهُ صواب قراءة من قرأه خفضا، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد، مسحا بهما.   (1) الأثر: 11496 -"أبو حرة" البصري، هو"واصل بن عبد الرحمن"، مضى مثل هذا الإسناد برقم: 6385. وكان في المطبوعة هنا: "أبو حمزة"، وهو خطأ محض. و"خضخض الماء": حركه. (2) في المطبوعة: "صواب القراءتين جميعا"، خالف المخطوطة وحذف."قرأة" (بفتح القاف والراء والهمزة) ، جمع"قارئ"، كما سلف مئات من المرات. (3) في المطبوعة: "معنى عمومهما" بالتثنية، والصواب من المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 غير أنّ ذلك وإن كان كذلك، وكانت القراءتان كلتاهما حسنًا صوابًا، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها، قراءة من قرأ ذلك خفضًا، لما وصفت من جمع"المسح" المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله:"وامسحوا برءوسكم" فالعطف به على"الرءوس" مع قربه منه، أولى من العطف به على"الأيدي"، وقد حيل بينه وبينها بقوله:"وامسحوا برءوسكم". * * * فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم، دون أن يكون خصوصًا، نظيرَ قولك في المسح بالرأس؟ قيل: الدليل على ذلك، تظاهرُ الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ويل للأعقاب وبُطون الأقدام من النار". ولو كان مسح بعض القدم مجزئا عن عمومها بذلك (1) لما كان لها الويل بترك ما تُرك مسحه منها بالماء بعد أن يُمسح بعضها. لأن من أدَّى فرض الله عليه فيما لزمه غسلُه منها لم يستحق الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل. وفي وجوب الويل لعَقِب تارك غسل عَقِبه في وضوئه، (2) أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحةِ ما قلنا في ذلك، وفسادِ ما خالفه. * * * ذكر بعض الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا: 11497 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرُّ ونحن نتوضأ من المَطْهَرة، فيقول: (3) أسبغوا الوضوء، اسبغوا الوضوء، قال أبو القاسم: ويلٌ للعراقيبِ من النار.   (1) في المطبوعة: "مجزئا عن عمومها"، والصواب من المخطوطة، وكأن الناشر قد اعتاد أن يضع"عن"، مكان"من" في مثل هذا، انظر ما سلف: ص: 25، تعليق: 3. (2) في المطبوعة: "فوجب الويل"، وهو فاسد. وفي المخطوطة: "في وجوب الويل"، سقط من الناسخ"الواو" من أول الكلام، فأثبتها. (3) "المطهرة" (بفتح الميم، وكسرها) : الإناء الذي يكون فيه الماء، ليتوضأ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 11498 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه= إلا أنه قال: ويل للأعقاب من النار. (1) 11499 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرّ بأناس يتوضأون يُسِيئون الطهور، (2) فيقول: اسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للعَقِب من النار. 11500 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. 11501 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. 11502 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار. (3) 11503 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثني سليمان بن بلال قال، حدثني سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار يوم القيامة. (4) 11504 - حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا حدثنا خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال، قال   (1) في المخطوطة: "ويل للعراقيب"، كالذي قبله، ولا يستقيم ذلك، فالظاهر أن الصواب هو ما ثبت في المطبوعة. (2) في المطبوعة: "مسرعين الطهور"، وفي المخطوطة: "يسوون الطهور" فكأن قراءتها كما أثبت. ولو قرئت: (يُسوُون الطهور) ، لكان صوابًا. فقد حكى ابن خالويه أنه يقال: "أسوى" بمعنى: أساء. (3) الآثار 11497 - 11502 - ست طرق، لخبر محمد بن زياد، عن أبي هريرة. و"محمد بن زياد القرشي الجحمي"، تابعي ثقة. والحديث، رواه البخاري (الفتح 1: 233) ومسلم 3: 131، وأحمد في المسند رقم: 7122، من طريق شعيب، عن محمد بن زياد، وبرقم: 7803، من طريق معمر، عن محمد بن زياد. وانظر تعليق أخي السيد أحمد عليه هناك. وهو حديث صحيح. (4) الأثر: 11503 -"خالد بن مخلد القطواني"، صدوق في الرواية، مضى برقم: 2206، 4577، 8166، 8397. و"سليمان بن بلال التيمي"، ثقة، مضى برقم: 4333، 4923، 10846. و"سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان". ثقة، مضى برقم: 10676. وأبوه: "أبو صالح ذكوان السمان". مضى برقم: 304، 3226، 5387. حديث صحيح، رواه مسلم 1: 131، من طريق جرير، عن سهيل، بنحوه. ورواه أحمد في مسنده رقم: 7778، من طريق معمر، عن سهيل، بمثله. وسيأتي في الذي يليه بإسناد آخر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للأعقاب من النار= وقال إسماعيل في حديثه: ويلٌ للعراقيب من النار". (1) 11505 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي قال: دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة، فدعا بوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. (2) . 11506 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عمر بن يونس الحنفي قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا يحيى بن أبي كثير قال، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال، حدثني أبو سالم مولى المَهْري =هكذا قال عمر بن يونس= قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص قال:   (1) الأثر: 11504 -"إسحق بن شاهين الواسطي"، مضى قريبا برقم: 11486. و"إسمعيل بن موسى الفزاري" شيخ الطبري، مضى برقم: 849، 9682. و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان"، مضى برقم: 4433، 7211، 9141، 9788. وهذا إسناد آخر للحديث السالف. (2) الأثر: 11505 -"يحيى بن أبي كثير الطائي"، روى عن أنس، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعن سالم مولى دوس. ثقة مترجم في التهذيب. وهذا الخبر رواه يحيى بن أبي كثير مرتين هنا وفي رقم: 11507، عن"سالم" مباشرة، ثم عنه بواسطة أبي سلمة بن عبد الرحمن، في الأثر التالي. و"سالم الدوسي" هو"سالم بن عبد الله النصري"، و"أبو عبد الله مولى شداد"، و"سالم مولى شداد بن الهاد"، وهو"سالم مولى النصريين"، و"سالم سبلان"، و"سالم مولى مالك بن أوس بن الحدثان النصري" و"سالم مولى المهري"، و"سالم مولى دوس"، هذه كلها جاءت في أخباره، كما قال النووي في شرح مسلم. قال أبو حاتم: "كان سالم من خيار المسلمين"، وكانت عائشة تستعجب بأمانته، تستأجره. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/110. وسيأتي تخرج حديث"سالم" في رقم: 11510. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 فمررت أنا وعبد الرحمن على حُجرة عائشة أخت عبد الرحمن، فدعا عبد الرحمن بوضوء، فسمعت عائشة تناديه: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ويل للأعقاب من النار" (1) . 11507 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى دَوْس قال: سمعت عائشة تقول لأخيها عبد الرحمن: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار" (2) .   (1) الأثر: 11506-"عمر بن يونس الحنفي اليمامي"، ثقة ثبت. مضى برقم: 4435، 8224. و"عكرمة بن عمار العجلي"، ثقة، مضى برقم: 849، 2185. و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، ثقة. مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394. و"أبو سالم مولى المهري"، هو"سالم الدوسي" الذي مضى في الأثر السالف. وقول الطبري: "هكذا قال عمر بن يونس"، يعني في روايته عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فإن ابن حجر نقل في التهذيب في ترجمته: "وقال عبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال: وهو الذي روى عنه أبو سلمة فقال: حدثنا أبو سالم، أو سالم، مولى المهري". وقال البخاري في الكبير 2/2/110: "وقال عكرمة، عن يحيى، حدثني أبو سلمة، حدثني أبو سالم المهري - ولا يصح". وهو يعني هذا الإسناد نفسه. و"المهري" (بالراء والياء المشددة) ، وكان في المطبوعة والمخطوطة بالدال، وهو خطأ محض. وسيأتي في التخريج في الأثر رقم: 11510. (2) الأثر: 11507-"علي بن المبارك الهنائي" ثقة. قال أحمد: "كانت عنده كتب عن يحيى بن أبي كثير، بعضها سمعها، وبعضها عرض". مترجم في التهذيب. وهذا الخبر أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن سالم، دون واسطة، كما أشرت إليه في التعليق على الأثر: 11505. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 11508 - حدثني يعقوب وسوار بن عبد الله، قالا حدثنا يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة، أن عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ فقالت: أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. (1) . 11509- حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا ابن عيية ويحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، قال، رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للعراقيب من النار. (2) . 11510 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو الأسود: أنّ أبا عبد الله مولى شدّاد بن الهاد حدّثه: أنه دخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعندها عبد الرحمن، فتوضأ عبد الرحمن، ثم قام فأدبر، فنادته عائشة فقالت: يا عبد الرحمن! فأقبل عليها، فقالت له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للأعقاب من النار. (3) .   (1) الأثران: 11508، 11509-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" روى عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة، وقد مضى برقم: 11506، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري. (2) الأثران: 11508، 11509-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" روى عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة، وقد مضى برقم: 11506، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري. (3) الأثر: 11510-"أبو زرعة، وهب الله بن راشد المصري"، مؤذن الفسطاط. مضى برقم: 2377، 2891، 5005، 5386، 6458. وكان في المطبوعة هنا: "أخبرنا أبو رواحة وعبد الله بن راشد قالا"، تصرف في نص المخطوطة تصرفا قبيحا، وجعل الرجل الواحد رجلين، ووضع مكان"قال"، "قالا" وليس في العبث بالأمانة أقبح من هذا الفعل. و"حيوة بن شريح"، مضى برقم: 2891، 3179. و"أبو الأسود"، هو"يتيم عروة": "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدي" مضى برقم: 2891. وكان في المطبوعة: "أخبرنا عبد الله مولى شداد بن الهاد"، وفي المخطوطة: "أنا عبد الله مولى شداد بن الهاد". والصواب بينهما ما أثبته بزيادة"أن"، كما في مسلم 3: 128. وهذا الخبر: 11510، أخرجه مسلم في صحيحه 3: 128، من طريق حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن حيوة، عن محمد بن عبد الرحمن، ولم يذكر لفظه. والطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 23، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/2/111، مختصرا. وأما الحديث: 11506، فقد أخرجه مسلم في صحيحه 3: 128، من طريق"محمد بن حاتم، وأبو معن الرقاشي، قال حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني يحيى بن أبي كثير، قال حدثني أو حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني سالم مولى المهري"، ولم يقل عمر بن يونس فيه"أبو سالم المهري"، كما قال الطبري إنه كذلك في رواية"عمر بن يونس". وقد مضى أن البخاري قال في قوله: "أبو سالم المهري"، إنه لا يصح. وحديث سالم، أخرجه مسلم أيضا (3: 127، 128) من طريق عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن سالم. وأخرجه البيهقي في السنن 1: 69، والطيالسي: 217، رقم: 1552، من طريق ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم سبلان، وفيه زيادة: "ويل للأعقاب من النار يوم القيامة"، وعنه البيهقي في السنن 1: 69. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 23. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 11511 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال، حدثني أبو إسحاق، عن سعيد= أو: شعيب= بن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويل للعراقيب من النار" (1) . 11512- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر قال، أخبرنا شعبة،   (1) الأثر: 11511-"أبو إسحق" هو السبيعي. "سعيد بن أبي كرب (أو كريب) الهداني"، سئل أبو زرعة عنه فقال: "كوفي ثقة"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/467، وابن أبي حاتم 2/1/57. كان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو إسحق، عن سعد = أو: سعيد= ابن أبي كرب". وهو خطأ لا شك فيه، فإن البخاري قد نص على أن شعبة قد روى عن أبي إسحق"عن سعيد = أو شعيب". وكذلك روى أحمد في مسنده 3: 369"عن أبي إسحق أنه سمع سعيد بن أبي كريب" أو: شعيب بن أبي كريب". وهكذا جاء في المسند، "كريب" مصغرا، ومثله في التهذيب، وابن ماجه. وهذا الخبر رواه الطبري هنا من ثلاث طرق عن أبي إسحق، إلى رقم: 11516، وسأذكر بقية تخريجه في الأثر الأخير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 عن أبي إسحاق قال، سمعت ابن أبي كرب قال، سمعت جابر بن عبد الله قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للعَقِب= أو: العراقيب= من النار" (1) . 11513 - حدثني إسماعيل بن محمود الحجيري، قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت سعيدا يقول، سمعت جابرا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. (2) . 11514 - حدثنا ابن بشار وابن المثني، قالا حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (3) 11515 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سَمِع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (4)   (1) الأثر: 11512-"خلاد بن أسلم"، أبو بكر الصفار، شيخ الطبري، مضى برقم: 3004. و"النضر" هو: "النضر بن شميل المازني" النحوي البصري، روى له الأئمة، كان أروى الناس عن شعبة. وكان النضر إمام في العربية والحديث. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر مكرر الذي سلف. (2) الأثر: 11513-"إسمعيل بن محمود الحجيري" شيخ الطبري. لم أجد له ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدي من الكتب، ولا أدري أهو"الحجيري" أم"الجحيري"، فإنه في المخطوطة غير منقوط. و"خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي"، سلف برقم: 7507، 7818، 9878. وهذا الخبر مكرر الخبرين السالفين. (3) الأثر: 11514- هذا الخبر من طريق سفيان عن أبي إسحق، رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 33 من طريق مؤمل بن إسمعيل، عن سفيان، عن أبي إسحق، بزيادة في آخره: "أسبغوا الوضوء". (4) الأثر: 11515، 11516-"الصباح بن محارب التيمي" الكوفي ثقة، لم يرو له سوى ابن ماجه. قال أبو زرعة، وأبو حاتم: "صدوق". وقال العقيلي: "يخالف في بعض حديثه". مترجم في التهذيب. و"محمد بن أبان بن صالح بن عمير الجعفي"، تزوج في الجعفيين، فنسب إليهم. ضعفوه، متكلم في حفظه. مضى برقم: 2720. هذا، وأثر أبي إسحق، عن سعيد بن أبي كرب، رواه أحمد في المسند 3: 390 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، وبمثله الطحاوي في معاني الآثار 1: 33. ثم رواه أحمد في 3: 393 من طريق يزيد بن عطاء، عن أبي إسحق. ورواه ابن ماجه في سننه 1: 155، رقم: 454، من طريق الأحوص، عن أبي إسحق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 11516 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سمع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء. (1) 11517- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا الوليد بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يتوضأ، وبقي من عَقِبه شيء، فقال: ويلٌ للعراقيب من النار. (2) . 11518 - حدثني علي بن مسلم قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى قوما يتوضأون لم يُصب أعقابَهم الماءُ، فقال: ويل للعراقيب من النار. (3) . 11519 - حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو قال، حدثنا خلف بن الوليد قال، حدثني أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (4)   (1) الأثر: 11516- انظر التعليق على الأثر السالف. (2) الأثران: 11517، 11518-"أبو سفيان" هو: "طلحة بن نافع القرشي"، ثقة، مضى برقم: 6654. وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3: 316 من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، بنحوه. (3) الأثران: 11517، 11518-"أبو سفيان" هو: "طلحة بن نافع القرشي"، ثقة، مضى برقم: 6654. وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3: 316 من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، بنحوه. (4) الأثر: 11519-"أبو سفيان الغنوي"، "يزيد بن عمرو"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب. و"معيقيب"، هو: "معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي"، ويقال: "معيقب"، أسلم قديما بمكة، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا. روي عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3: 426، ثم 5: 425، من طريق خلف بن الوليد بإسناده ولفظه. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 92: "تفرد به أحمد". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 11520 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضأون، فرأى أعقابهم تلوح، فقال:"ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (1) 11521- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتوضأون لم يتمُّوا الوضوء، فقال: أسبغوا الوضوء، ويلٌ للعراقيب =أو: الأعقاب= من النار! (2) 11522 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن رجل من أهل مكة، عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضأون، فلم يتمُّوا الوضوء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار. (3) .   (1) الأثر: 11520- هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان، عن منصور، هنا، ورقم: 11523، ورواه برقم: 11521 من طريق شعبة، عن منصور، ورواه برقم 11524، من طريق إسرائيل، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها. (2) الأثر: 11520- هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان، عن منصور، هنا، ورقم: 11523، ورواه برقم: 11521 من طريق شعبة، عن منصور، ورواه برقم 11524، من طريق إسرائيل، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها. (3) الأثر: 11522-"أبو بشر"، "جعفر بن إياس"، وهو"ابن أبي وحشية"، سلف مرارا كثيرة. وهذا الخبر أخرجه أحمد في مسنده برقم: 6911، من هذه الطريق نفسها، بلفظه. قال أخي السيد أحمد: "الرجل من أهل مكة الذي رواه عنه أبو بشر، هو: "يوسف بن ماهك..، كما نص عليه الحافظ في التعجيل: 551". و"يوسف بن ماهك بن مهران الفارسي المكي"، ثقة عدل روى له الأئمة. مترجم في التهذيب. والحديث المصرح فيه بذكر"يوسف بن ماهك"، رواه البخاري (الفتح 1: 132، 170، 232) ، ومسلم في صحيحه 3: 130، 131. وكان في المخطوطة في هذا الخبر"عن رجل من أهل مكة، عن عبد الرحمن بن عمرو"، وهو خطأ لا شك فيه، أحسن ناشر المطبوعة الأولى في تصحيحه وأصاب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 11523 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضأون وأعقابُهم تلوح، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (1) 11524 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، عن هلال، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فسبقنا ناس فتوضأوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء، فقال، ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء" (2) 11525 - حدثني علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار! قال: فما بقي في المسجد شريفٌ ولا وضيع إلا نظرتُ إليه يقلِّب عُرْقوبيه ينظر إليهما. (3)   (1) الآثار: 11520- 11524، خلا الحديث (11522) - خبر منصور، عن هلال بن يساف، رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه 3: 128-130، وأحمد في مسنده من طرق رقم: 6528، 6809، 6883، والنسائي في سننه 1: 77، 78، وابن ماجه 1: 154، رقم: 450، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 33، والبيهقي في السنن 1: 69. وانظر تخريجه في شرح المسند رقم: 6528. وقوله: "تلوح": أي تلمع، من بياضها. وأتى في الأثر: 11524، "فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء". (2) الآثار: 11520- 11524، خلا الحديث (11522) - خبر منصور، عن هلال بن يساف، رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه 3: 128-130، وأحمد في مسنده من طرق رقم: 6528، 6809، 6883، والنسائي في سننه 1: 77، 78، وابن ماجه 1: 154، رقم: 450، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 33، والبيهقي في السنن 1: 69. وانظر تخريجه في شرح المسند رقم: 6528. وقوله: "تلوح": أي تلمع، من بياضها. وأتى في الأثر: 11524، "فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء". (3) الأثر: 11525-"مطرح بن يزيد الأسدي الكناني"، أبو المهلب. روى عن عبيد الله بن زحر. ضعيف قال أبو حاتم: "ليس بالقوي، هو ضعيف الحديث. يروي أحاديث بن زحر عن علي بن يزيد، فلا أدري من علي بن يزيد أو منه". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/19، وابن أبي حاتم 4/1/409. و"عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي"، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 7660، وقال، "ضعفه أحمد، وابن معين، وابن المديني.. ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء. ونرى أن من تكلم فيه، إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني، الحمل فيها على علي بن يزيد". وانظر التهذيب. و"علي بن يزيد الألهاني". ضعيف بمرة. روى عن القاسم بن عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة، نسخة كبيرة. روى عن عبيد الله بن زحر، ومطرح بن يزيد، وآخرين. ضعفه أحمد. وقال ابن معين: "علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة"، "ضعاف كلها" وقال، "أحاديث عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد، ضعيفة". وقال البخاري: "منكر الحديث ضعيف". "القاسم"، هو"القاسم بن عبد الرحمن الشامي"، اختلف فيه، قال أخي السيد أحمد: "والراجح أنه ثقة، وأن ما أنكر عليه، إنما جاء من الرواة عنه الضعفاء. وقد بينا ذلك في شرح المسند: 598، وما علقنا به على تهذيب السنن للمنذري: 2376". مضى ذلك برقم: 1939. فهذا حديث ضعيف لضعف رواته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 11526 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث قال، حدثني عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة= أو: أخي أبى أمامة= أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر أقواما يتوضأون، وفي عَقِب أحدهم =أو كعب أحدهم= مثلُ موضع الدرهم= أو: موضع الظفُر= لم يمسَّه الماء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! فقال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعادَ وضوءه. (1) . * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدّثكم به:- 11527 - محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلى. (2) * * *   (1) الأثر: 11526-"عبد الرحمن بن سابط"، واختلف في اسمه فقيل هو: "عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط" انظر ما سلف رقم: 503، 504، 599، 4341. وهو تابعي ثقة. قيل ليحيى بن معين: "سمع عبد الرحمن من سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا. قيل: من أبي أمامة؟ قال: لا. قيل: من جابر؟ قال: لا، هو مرسل"، فهذا خبر مرسل. (2) الأثر: 11527-"يعلى بن عطاء العامري الطائفي". روي عن أبيه، وأوس بن أبي أوس، وغيرهما. وروي عنه شعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وشريك، وهشيم. ثقة. مترجم في التهذيب. وأبوه"عطاء العامري الطائفي". روى عن أوس بن أبي أوس، وابن عمرو بن العاص، وابن عباس. وروى عنه ابنه يعلى. ذكره ابن حبان في الثقات. و"أوس بن أبي أوس الثقفي"، هو"أوس بن حذيفة" الصحابي. وانظر الاختلاف في اسم أبيه، في التهذيب، والإصابة، والكبير للبخاري 1/2/16، 17، وابن أبي حاتم 1/1/303. وسيأتي هذا الخبر برقم: 11529 من طريق هشيم، عن يعلى بن عطاء. وسنخرجه هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 =وما حدثك به:_ 11528 - عبد الله بن الحجاح بن المنهال قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم قال، سمعت الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبَاطة قوم فبال عليها قائما، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. (1) * * * =وما حدثك به:- 11529 - الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم، فتوضأ ومسح على قدميه" (2) * * *   (1) الأثر: 11528-"جرير بن حازم الأزدي العتكي"، مضى برقم: 597، إمام حافظ، قال قراد: "قال لي شعبة: عليك بجرير بن حازم فاسمع منه. وقال ابنه وهب بن جرير: كان شعبة يأتي أبي فيسأله عن حديث الأعمش، فإذا حدثه قال: هكذا والله سمعته من الأعمش". فجرير يروى عن الأعمش، مباشرة، ثم من طريق شعبة عنه. بيد أن أبا جعفر الطبري، قال بعد في (ص: 80) إن هذا الخبر لم ينقله عن الأعمش بهذا اللفظ غير جرير بن حازم، وإن أصحاب الأعمش الحفاظ الثقات، رووه عنه بغير هذا اللفظ. (انظر رقم: 11531-11536) . وقد نقله ابن كثير في تفسيره 3: 94، وقال، "وهو حديث صحيح" ثم قال عن هاتين الروايتين = رواية جرير بن حازم، ورواية الحفاظ من أصحاب الأعمش=: "ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجله خفان، عليهما نعلان". (2) الأثر: 11529- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 11528. وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه 1: 78، رقم: 160، من طريق مسدد وعباد بن موسى، عن هشيم. ورواه أحمد في مسنده مختصرا 4: 8 عن هشيم. ولفظ أبي داود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه = وقال عباد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم - يعني الميضأة، ولم يذكر مسدد: الميضأة، والكظامة - ثم اتفقا: فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه". وأما رواية أحمد في المسند: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم فتوضأ". وأما ما جاء في الخبر هنا"سباطة قوم"، فإنه خالف رواية أبي داود عن هشيم أنه قال"كظامة"، ومن العجيب أن ابن كثير نقل الخبر عن هذا الموضع من سنن أبي داود فكتب أيضا"سباطة قوم"، مع أن"الكظامة" (بكسر الكاف) جاءت مفسرة في حديث أبي داود أنها الميضأة. وأما "السباطة" (بضم السين) ، فهي الكناسة، أو الموضع الذي يرمي فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل. وأما "الكظامة"، فإن أبا داود فسرها بأنها الميضأة، وهو تفسير بالمعنى، وإلا فإنها قناة في باطن الأرض يجري الماء فيها. وعجب آخر، أن ابن كثير كتب: "أتى سباطة قوم فبال"، فزاد"فبال"، وهي ليست في حديث هشيم هذا، في سنن أبي داود. ولا في المسند، فلا أدري من أين جاء بها؟ وأخشى أن تكون عجلة منه أو من ناسخ تفسيره، اشتبه عليه حديث"أبي وائل" عن حذيفة الآتي في رقم: 11531 وما بعدها، فعجل فكتبه كذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 =وما أشبه ذلك من الأخبار الدالة على أن المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزئ؟ قيل له: أما حديث أوس بن أبى أوس فإنه لا دلالة فيه على صحة ذلك، إذ لم يكن في الخبر الذي روي عنه ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بعد حدَثٍ يوجب عليه الوضوء لصلاته، فمسح على نعليه، أو على قدميه. وجائز أن يكون مسحه على قدميه الذي ذكره أوس كان في وضوء توضأه من غير حدث كان منه وجب عليه من أجله تجديد وضوئه، لأن الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ لغير حدث، كذلك يفعل، يدل على ذلك ما:- 11530 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن مسلم، عن حبة العرني قال: رأيت عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه شرب في الرحبة قائما، ثم توضأ ومسح على نعليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع. (1) * * *   (1) الأثر: 11530-"محمد بن عبيد بن محمد بن واقد المحاربي" شيخ الطبري، مضت روايته عنه كثيرا منها: 1952، 3167، 3366، 4294، 8756، 9180. روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وآخرون. قال النسائي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"أبو مالك الجنبي": هو: "عمرو بن هاشم الحنبي الكوفي". قال أحمد: "صدوق، ولم يكن صاحب حديث". وقال البخاري: "فيه نظر"، وقال أبو حاتم: "لين الحديث، يكتب حديثه". قال ابن سعد: "كان صدوقا، ولكنه كان يخطئ كثيرا"، وضعفه مسلم، وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج بخبره". مترجم في التهذيب. و"مسلم" و"مسلم الأعور" وهو: "مسلم بن كيسان الضبي الملائي" الأعور. مضى برقم: 9673. روى عن أنس بن مالك، ومجاهد وسعيد بن جبير، وحبة العرني، وغيرهم. قال البخاري: "يتكلمون فيه"، وقال أيضا: "ضعيف" ذاهب الحديث، لا أروى عنه". وقال عمرو بن علي: "كان يحيى بن سعيد، وابن مهدي، لا يحدثان عن مسلم الأعور، وكان شعبة وسفيان يحدثان عنه، وهو منكر الحديث جدا". مترجم في التهذيب. و"حبة العرني" هو"حبة بن جوين بن علي بن عبدنهم العرني البجلي". روى عن ابن مسعود، وعلي، وعمار. روى عنه سلمة بن كهيل، والحكم بن عتيبة، ومسلم الأعور. قال ابن معين"حبة العرني، ليس بشيء". وقال البخاري: "فيه نظر، يذكر عنه سوء مذهب"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال ابن سعد: "يضعف"، ونقل عن أحمد أنه وثقه، وقال العجلي: "كوفي تابعي ثقة". وقال ابن حبان: "كان غاليا في التشيع، واهيا في الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/86، وابن أبي حاتم 1/2/253. وهذا خبر ضعيف كما ترى، بضعف رواته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 =فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في معنى حديث أوس. * * * فإن قال: فإن حديث أوس، وإن كان محتملا من المعنى ما قلت، فإنه محتمل أيضا ما قاله من قال أنه معنيٌّ به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدثٍ؟ قيل: أحسن حالات الخبر ما حُمِّل ما قلتَ، (1) إن سلم له ما ادَّعى من احتماله ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث، وإن كان ذلك غير محتمله عندنا، إذ كان غير جائز أن تكون فرائضُ الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم متنافيًة متعارضًة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمرُ بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء، بالنقل المستفيض القاطع عذرَ من انتهى إليه وبلَغه. وإذْ كان   (1) في المطبوعة: "ما احتمل ما قلت"، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه لا بأس به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 ذلك عنه صحيحا، فغير جائز أن يكون صحيحا عنه إباحةُ ترك غسل بعض ما قد أوجبَ فرضًا غَسْلَه في حال واحدة ووقت واحد، لأن ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة. وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم منتفٍ. غير أنا إذا سلَّمنا لمن ادَّعى في حديث أوس ما ادعى= من احتماله مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم على قدمه في حال وضوء من حدَث، ثقًة منا بالفَلَج عليه، بأنه لا حجة له في ذلك= (1) قلنا: فإذا كان محتملا ما ادَّعيت، أفمحتمل هو ما قلناه إنّ ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم في حال وضوئه لا من حدث؟ (2) فإن قال:"لا" ثبتت مكابرته لأنه لا بيان في خبر أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في وضوء من حدث. وإن قال:"بل هو محتمل ما قلتَ ومحتمل ما قلنا". قيل له: فما البرهان على أن تأويلك الذي ادَّعيتَ فيه أولى به من تأويلنا؟ فلن يدّعي برهانا على صحة دعواه في ذلك، إلا عُورض بمثله في خلاف دعواه. وأما حديث حذيفة فإن الثِّقات الحفَّاظ من أصحاب الأعمش حدثوا به، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال قائما، ثم توضأ ومسح على خفيه". 11531 - حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن   (1) في المطبوعة: "..في حال وضوء من حدث، ففيه نبأ بالفلج عليه، فإنه لا حجة له في ذلك"، وهو خلف من الكلام رديء لا معنى له. وكان في المخطوطة: "..نفه منا بالفلح عليه فإنه لا حجة له في ذلك"، وصواب قراءة ذلك ما أثبته، وأخطأ ناسخ المخطوطة، فجعل"بأنه"، "فإنه" بالفاء. والصواب المحض هو ما أثبته. يقول: إذا سلمنا له ذلك ثقة منا بالفلج عليه.. قلنا: واستقام الكلام، والحمد لله وحده. (2) في المطبوعة: "في حال وضوئه لا من حدث"، وفي المخطوطة: "في حال وضوئه من حدث" خطأ أسقط"غير"، وصوابه ما أثبت، استظهارا من نهجه في عبارته فيما سلف، وإن كان ما في المطبوعة صواب مستعمل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. 11532- ح، حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة. 11533 - ح، حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. 11534 - ح، حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة. 11535 - ح، حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة. 11536 - ح، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. (1) . * * *   (1) الآثار: 11531- 11536-"أبو أوائل" هو"شقيق بن سلمة الأسدي"، من كبار التابعين الثقات، لا يسأل عن مثله. مضى كثيرا، منها رقم: 177، 3956، 4223، 4526، 7279، 7282، 9671. وهذا الحديث رواه الأئمة من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن حذيفة، بمثله. رواه البخاري (الفتح 1: 282) ، ليس فيه زيادة"ومسح على خفيه"، ولكن رواها مسلم في صحيحه 3: 165، لأنها زيادة من حافظ. وانظر تفصيل ذلك فيما قاله ابن حجر في الفتح، وما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي 1: 19، 20. هذا، وقد جاء الأثر: 11535، في المطبوعة: "حدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد"، وفي المخطوطة: "عمر بن يحيى بن سعيد"، وكل ذلك خطأ لا شك فيه. وإن"عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي"، مضت ترجمته برقم 300، 2813، وهو يروى عن عمه"يحيى بن عيسى الرملي"، كما مضى هناك، ولم يذكر أنه روى عن غير عمه هذا. وعمه"يحيى بن عيسى الرملي". مضى برقم: 300، 6317، 9035، وأما "عمر بن يحيى بن سعيد"، كما في المخطوطة، فليس في الرواة من سمى بذلك. وأما ما غيره ناشر المطبوعة"عمرو بن يحيى بن سعيد"، فإن في الرواة"عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص"، روى عن جده"سعيد بن عمرو" وروى عنه ابن عيينة وروح بن عبادة، وهذه الطبقة، لا يدرك"عيسى بن عثمان الرملي" أن يروى عنه. وظاهر أن الناسخ كتب مكان"عمي""عمر" وزاد بعده"بن"، وأخطأ في قراءة"عيسى"، فكتب"سعيد"، فرددت الإسناد إلى صوابه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 =وكل هؤلاء يحدّث ذلك عن الأعمش، بالإسناد الذي ذكرنا عن حذيفة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه"، وهم أصحاب الأعمش. ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش غير جرير بن حازم. (1) ولو لم يخالفه في ذلك مخالف، لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثِّقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك!! ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كان جائزا أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين، وإذا جاز ذلك لم يكن لأحد صرفُ الخبر إلى أحد المعاني المحتمِلِها الخَبرُ إلا بحجة يجب التسليم لها. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في"الكعب". فقال بعضهم بما:- 11537 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا القاسم بن الفضل الحدّاني، قال، قال أبو جعفر: أين"الكعبين"؟ فقال القوم: هاهنا. فقال: هذا رأس الساق! ولكن"الكعبين" هما عند المفصل (2)   (1) انظر ما سلف في التعليق على الأثر: 11528. (2) الأثر: 11537-"القاسم بن الفضل بن معدان بن قريط الحداني، الأزدي"، أبو المغيرة. لم يكن حدانيا، كان نازلا فيهم، هو أزدي من بني الحارث بن مالك. روى عن أبيه وابن سيرين، ومعاوية بن قرة، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين. وغيرهم. ثقة ثبت. قال يحيى القطان: "كان منكرا"، يعني من فطنته. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/169، وابن أبي حاتم 3/2/116. و"أبو جعفر" هو الباقر: "محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، مضى برقم: 5123، 5463. وفي المطبوعة هنا: "أين الكعبان"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض، استفهم عن"الكعبين" في لفظ الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 11538 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك:"الكعب" الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذِي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم. * * * وقال آخرون بما:- 11539 - حدثنا الربيع قال، قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا في أن"الكعبين" اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء، هما الناتئان وهما مجمع مَفْصِل الساق والقدم (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن"الكعبين" هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم، تسمِّيهما العرب"المِنْجَمين". (2) وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها (3) * * * واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (4) * * *   (1) هذا في الأم للشافعي 1: 23 مع خلاف يسير في لفظه، قال الشافعي"لم أسمع مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل في الوضوء هما الكعبان الناتئان..". وكان في المطبوعة هنا"مجمع فصل الساق والقدم"، وهو خطأ لا شك فيه. (2) "المنجم" (بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم) و (بفتح الميم وسكون النون وكسر الجيم) مثل: "منبر" و"مجلس"، ويقال مثل: "مقعد" (بفتحتين) : وهو الكعب والعرقوب، وكل ما نتأ. (3) لم أعرف قائل هذا، وهو صواب محض. (4) انظر ما سلف قريبا ص: 47، 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن كنتم جنبا" وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها="فاطَّهَّروا"، يقول: فتطهّروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها. (1) * * * ووحَّد"الجُنب" وهو خبر عن الجميع، لأنه اسم خرج مخرج الفعل (2) كما قيل:"رجل عَدْل وقوم عدل"، و"رجل زَوْرٌ وقوم زَوْرٌ"، وما أشبه ذلك لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر والأنثى فيه واحد. يقال منه:"أجنَب الرجل" و"جَنُب" و"اجتَنَب" (3) والفعل"الجنابة"، و"الاجناب". (4) وقد سمع في جمعه"أجناب"، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب، بل الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن (5) . * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: إن كنتم جرحى أو مُجَدَّرين (6) وأنتم   (1) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف 4: 383-387. (2) "الفعل" هنا، يعني به المصدر، كما سلف مرارا. انظر فهارس المصطلحات. (3) "اجتنب"، زيادة عما جاء في كتب اللغة، وعندهم أيضا: "تجنب" و"استجنب" في هذا المعنى. (4) "الفعل" هنا، يعني به المصدر، كما سلف مرارا. انظر فهارس المصطلحات. (5) انظر تفسير"الجنب"، فيما سلف 8: 340، 379، ولم يشرح أبو جعفر هناك هذا الحرف، ثم استوفاه في هذا الموضع. وهو من اختصاره في تفسيره. (6) يقال، "جدر الرجل، جدرا" (بالبناء للمجهول، بضم أوله وكسر ثانيه) "فهو جدير". و"جدر" (بالبناء للمجهول مشدد الدال) "فهو مجدر"، إذا أصابه الجدري. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 جنب = وقد بيَّنا أن ذلك كذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته (1) . * * * وأما قوله:"أو على سفر" فإنه يقول: وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب (2) ="أو جاء أحد منكم من الغائط" يقول: أو جاء أحدكم وقد قضى حاجته فيه وهو مسافر. وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه (3) . = أو لامستم النساء" يقول أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في"اللمس" وبينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى بما أغنى عن إعادته (4) . * * * فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله:"أو لامستم النساء" إن كان معنى"اللمس" الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله:"وإن كنتم جنبا فاطّهروا"؟ قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ألزمه تعالى ذكره من فرضه (5) بقوله:"وإن كنتم جنبا فاطهروا" غيُر المعنى الذي ألزمه بقوله:"أو لامستم النساء" وذلك أنه بيَّن حكمه في قوله:"وإن كنتم جنبا فاطهروا" إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهّره، ففرض عليه الاغتسال به (6) ثم بيَّن حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيلَ وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور. * * *   (1) انظر ما سلف 8: 385-388. (2) انظر تفسير"على سفر" فيما سلف 8: 388. (3) انظر تفسير"الغائط" فيما سلف 5: 354/8: 388. وفي المطبوعة: "بعد قضاء حاجته"، وأثبت ما في المخطوطة، وكان فيها"فقد قضى". (4) انظر تفسير"الملامسة" و"اللمس" فيما سلف 8: 389-406. (5) في المطبوعة: "أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه"، وكان في المخطوطة: "أن المعنى الذي تعالى ذكره"، سقط منها"ألزمه"، استظهرتها من تمام الجملة. (6) في المطبوعة: "فرض" حذف الفاء، وهو خطل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 القول في تأويل قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا" فإن لم تجدوا= أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحَّاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهلَه في سفره="ماء فتيمموا صعيدا طيبا، يقول: فتعمَّدوا واقصدوا وجه الأرض="طيبا"، يعني: طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالا="فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" يقول: فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما عَلِق بأيديكم="منه"، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من تُرابه وغباره. وقد بينا فيما مضى كيفية"المسح بالوجوه والأيدي منه"= واختلاف المختلفين في ذلك= والقول في معنى"الصعيد" و"التيمم"، ودللنا على الصحيح من القول في كل ذلك بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (1) . * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" ما يريد الله= بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغُسل   (1) انظر تفسير"المسح بالوجوه والأيدي" فيما سلف 8: 410-425 = وتفسير التيمم" فيما سلف 8: 407، تعليق: 2، والمراجع هناك = وتفسير"الصعيد" فيما سلف 8: 408، 409 = وتفسير"الطيب" فيما سلف 8: 409، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء="ليجعل عليكم من حرج= ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه. * * * وبما قلنا في معنى"الحرج" قال أهل التأويل (1) . ذكر من قال ذلك: 11540 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خالد بن دينار، عن أبي العالية= وعن أبي مكين، عن عكرمة في قوله:"من حرج" قالا من ضيق. 11541 - حدثنا محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من حرج" من ضيق. 11542 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولكن يريد ليطهركم" ولكن الله يريد أن يطهِّركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسلِ من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظفوا وتطهّروا بذلك أجسامكم من الذنوب (2) . كما:- 11543 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الوضوء يكفّر ما قبله، ثم تصير الصلاة نافلة. قال قلت: أنت سمعت   (1) انظر تفسير"الحرج" فيما سلف 8: 518، وما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف قريبا ص: 82، تعليق: 1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غيرَ مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس (1) . 11544 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة صديّ بن عجلان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه (2) . 11545 - حدثنا أبو كريب، ومحمد بن المثني ويحيى بن داود الواسطي، قالوا، حدثنا إبراهيم بن يزيد مردانبه القرشي قال، أخبرنا رقبة بن مصقلة العبدي، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أبي إمامة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه" (3)   (1) الأثر: 11543-"سعيد"، هو: سعيد بن أبي عروبة. و"شهر بن حوشب"، تابعي ثقة، مضى توثيقه برقم: 1489، 5244، 6650-6652. فهو حديث صحيح الإسناد، وسيأتي بإسنادين آخرين بعد. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 251، من طريق محمد بن بشر، عن سعيد = وفي ص 261، من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد. بمثله. هذا، وقد كان في المخطوطة والمطبوعة: "لا مرة ولا مرتين.."، وهذا غير جائز، إلا أن يقول: "لا ثلاثا، ولا أربعا، ولا خمسا" بالنصب. فمن أجل ذلك، ومن أجل رواية أحمد في الموضعين، ورواية الطيالسي في مسنده: 154، جعلت"غير" مكان"لا". كما في روايتهم. (2) الأثر: 11544-"معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي"، مضى مرارا وأبوه"هشام الدستوائي"، مضى مرارا. وهذا إسناد آخر للخبر السالف، من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من هذه الطريق نفسها ص: 154، رقم: 1129. وخبر أبي أمامة هذا، رواه أحمد من طرق أخرى. فرواه من طريق أبي خريم، عقبة بن أبي الصهباء، عن أبي غالب الراسبي، عن أبي أمامة (5: 254) = ومن طريق سليم بن حيان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة (5: 255) = ومن طريق حماد بن سلمة، عن أبي غالب، عن أبي أمامة (5: 256) ، بغير هذا اللفظ. ومن هذه الطريق رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: 155 رقم: 1135، بمثله. (3) الأثر: 11545-"يحيى بن داود بن ميمون الواسطي"، شيخ الطبري. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "مستقيم الحديث"، مات سنة 244. مضت رواية الطبري عنه برقم: 4451. مترجم في التهذيب. "إبراهيم بن يزيد بن مردانبه القرشي المخزومي"، مولى عمرو بن حريث. قال أبو حاتم: "شيخ، يكتب حديثه ولا يحتج به". مترجم في التهذيب، والخلاصة، والكبير 1/1/336. وكان في المطبوعة: "إبراهيم بن يزيد يزرانبه" (بالياء في أوله) ، كما في الخلاصة، وبحذف (بن) . وضبطه في الخلاصة: "بفتح التحتانية، والمهملة، بينهما زاي ساكنة، ثم نون بعد الألف، وموحدة". أما في المخطوطة ففيها: "يزيد بن مردانيه" بإثبات"بن" وبياء منقوطة، والصواب بالباء. وهكذا جاء في التهذيب، وفي تاريخ البخاري، وذكره البخاري أيضا بالذال"مرذانبه"، وضبطه في التقريب"بنون، ثم موحدة". فأثبت ما اتفقت عليه المخطوطة، وتاريخ البخاري، وضبط التقريب. و"رقبة بن مصقلة بن عبد الله العبدي"، قال أحمد: "شيخ ثقة من الثقات، مأمون" وكان مفوها، يعد من رجالات العرب، وكانت فيه دعابة. مترجم في التهذيب. و"شمر بن عطية بن بهدلة، وغيرهم. قال ابن سعد: "ثقة، وله أحاديث صالحة". وهذا الخبر رواه أحمد من طريق وكيع، عن الأعمش، عن شمر، عن شهر، في مسنده 5: 252، 256، وخرجه في مجمع الزوائد، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، وإسناده حسن". وفيه في رواية الخبر زيادة في آخره: "فإن قعد قعد مغفورا له". ثم رواه أحمد في المسند من طرق أخرى، من طريق أبي النضر، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة (5: 263) ، مطولا، وخرجه صاحب مجمع الزوائد (1: 222) ، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط. وفي إسناد أحمد: عبد الحميد بن بهرام، عن شهر. واختلف في الاحتجاج بهما، والصحيح أنهما ثقتان، ولا يقدح الكلام فيهما". ثم رواه أحمد أيضا في المسند (5: 264) من طريقين، عن زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن شهر بن حوشب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 11546 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه= أو: ذراعيه= إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه. (1)   (1) الأثر: 11546-"كعب بن مرة البهزي السلمي "أو" مرة بن كعب"، اختلف في ذلك، وهكذا ذكره أحمد في إسناد هذا الخبر. وانظر ما قاله ابن حجر في الترجمتين من الإصابة. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4: 234 مطولا من طريق: "محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد = قال شعبة، قال، قد حدثني به منصور، وذكر ثلاثة بينه وبين مرة بن كعب= ثم قال بعد: عن منصور، عن سالم، عن مرة، أو عن كعب". ثم عاد أحمد فرواه أيضا (4: 321) من طريق: "سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل، عن كعب بن مرة البهزي". و"سالم بن أبي الجعد الأشجعي"، مات سنة 97، 98، وسمع جابرا وأنسا، وعبد الله بن عمرو، وهو تابعي ثقة. قال ابن حجر في التهذيب: روى عن كعب بن مرة، وقيل: "لم يسمع منه". ومع انقطاعه، قال ابن كثير في تفسيره (3: 97) بعد أن ذكر حديث أحمد: "وهذا إسناد صحيح". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (1: 224، 225) ثم قال، "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". هذا، وقد كان سياق الخبر هكذا في المطبوعة: "ما من رجل يتوضأ فيغسل وجهه إلا خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل يديه أو ذراعيه، خرجت خطاياه من ذراعيه.."، وهذا تغيير من الناشر الأول، لأن الخبر جاء في المخطوطة هكذا: "ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه إلا خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه.."، سقط من كلامه ما أثبته من رواية ابن كثير في تفسيره 3: 97، عن هذا الموضع من تفسير ابن جرير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 11547 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبى عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا غسل المؤمن كفّيه انتثرت الخطايا من كفَّيه، وإذا تمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه ومنخريه، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه، فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه كان ذلك حظّه منه، فإذ قام فصلى ركعتين مقبلا فيهما بوجهه وقلبه على ربه، كان من خطاياه كيوم ولدته أمّه" (1)   (1) الأثر: 11547-"عثمان بن سعيد بن مرة القرشي"، روى عنه أبو كريب، مترجم في التهذيب. وهناك أيضا"عثمان بن سعيد الزيات الأحول"، يروى عنه أبو كريب، مضى برقم: 137، فلا أدري أيهما هو. و"حاتم"، هو: "حاتم بن إسمعيل المدني"، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 2003. و"محمد بن عجلان المدني"، أحد العلماء العاملين الثقات، مضى برقم: 304، 4170، 5589. و"أبو عبيد المذحجي" مولى سليمان بن عبد الملك، مختلف في اسمه. ثقة من أتباع التابعين، روى عن عمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حيوة. مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة هنا"عن أبي عبيدة"، والصواب ما في المطبوعة. و"عمرو بن عبسة السلمي"، أسلم قديما بمكة، وكان أخا لأبي ذر لأمه. وكان في الجاهلية يعتزل عبادة الأصنام، فلما أسلم يومئذ كان ربع الإسلام، كان المسلمون يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، كما قال في حديثه. وكان في المخطوطة: "ابن عنبسة"، وهو خطأ صرف. وهذا الخبر الذي رواه أبو جعفر منقطع، لم يسمع أبو عبيد من عمرو بن عبسة، وقد روى من طرق صحاح. رواه مسلم في صحيحه 6: 114-116، ورواه أحمد في مسنده 4: 112، 113، 285-388، ورواه ابن سعد في الطبقات 4/1/158، 159، مطولا، وهو حديث إسلام عمرو بن عبسة بطوله، بغير هذا اللفظ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 11548 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، إذا توضأ العبد المسلم =أو المؤمن= فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، أو نحو هذا. وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشت بها يداه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب" (1) . 11549 - حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، قال، حدثنا علي بن عياش، قال، حدثنا أبو غسان، قال، حدثنا زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان قال،   (1) الأثر: 11548- رواه مالك في الموطأ ص 32، رقم: 31، ومسلم في صحيحه 3: 132، 133، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 226 مطولا بلفظ آخر وقال، "رواه الطبراني في الأوسط، وهو في الصحيح باختصار، ورجاله موثقون". وانظر ابن كثير 3: 97. وخبر أبي جعفر هنا مختصر، والزيادة في الموطأ ومسلم: "فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء". وفي المخطوطة والمطبوعة: "مع آخرة قطرة من الماء" في الموضعين، وهو في مسلم والموطأ: "مع آخر قطر الماء". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كوضوئي هذا. ثم قال: من توضأ وضوئي هذا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكانت خُطاه إلى المساجد نافلة. (1) * * * وقوله:"وليتم نعمته عليكم" فإنه يقول: ويريد ربكم =مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه= أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نِعَمه التي أنعم بها عليكم (2) أيها المؤمنون ="لعلكم تشكرون" يقول: لكي تشكروا الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم (3) . * * *   (1) الأثر: 11549-"علي بن عياش بن مسلم الألهاني الحمصي"، ثقة حجة متقن، من شيوخ أحمد، روى له الأربعة، مترجم في التهذيب. و"أبو غسان" هو: "محمد بن مطرف الليثي المدني"، أحد الأعلام الأثبات، مضى برقم: 2990. وهذا الخبر من طريق زيد بن أسلم، عن حمران، عن عثمان، رواه مسلم في صحيحه بنحو من لفظه 3: 113. وقد روي من طرق أخرى كثيرة، عن حمران بن أبان مولى عثمان، عن عثمان مختصرا ومطولا، انظر مسلم في صحيحه 3: 105-117، 133، وسنن أبي داود 1: 60، رقم: 106، وأحمد في المسند بالأرقام: 406، 415، 418، 419، 421، 428، 430، 459، 476، 478، 484، 486، 487، 489، 493، 503. (2) انظر تفسير"إتمام النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (تمم) (نعم) . (3) في المطبوعة: "يقول: تشكرون الله على نعمه.."، وفي المخطوطة: "تشكروا الله.."، والصواب ما أثبت. وانظر ما سلف في مواضع كثيرة، في تفسير"لعل" بمعنى"لكي"، منها 1: 364، 365/2: 69، 2، 85. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: (1) واذكروا نعمة الله عليكم أيها المؤمنون، بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم، واذكروا نعمته عليكم في ذلك بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والرَّدَى في نِعم غيرها جَمّة. كما:- 11550 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واذكروا نعمة الله عليكم" قال، النعم: آلاءُ الله. 11551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وأما قوله:"وميثاقه الذي واثقكم به" فإنه يعني: واذكروا أيضا أيها المؤمنون، في نعم الله التي أنعم عليكم="ميثاقه الذي واثقكم به، وهو عهده الذي عاهدكم به. (2) * * * واختلف أهل التأويل في"الميثاق" الذي ذكر الله في هذه الآية، أيَّ مواثيقه عَنى؟ فقال بعضهم: عنى به ميثاقَ الله الذي واثقَ به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني جل ثناؤه بقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف 9: 363، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 له فيما أحبّو وكرهوا، والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله. ذكر من قال ذلك: 11552 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا" الآية، يعني: حيث بعث الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب، (1) فقالوا:"آمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب، (2) وأقررنا بما في التوراة"، فذكّرهم الله ميثاقَه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء به. 11553 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا"، فإنه أخذ ميثاقنا فقلنا: سمعنا وأطعنا على الإيمان والإقرار به وبرسوله. * * * وقال آخرون: بل عنى به جلّ ثناؤه: ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صُلب آدم صلى الله عليه وسلم، وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟ فقالوا: بلى شهدنا. ذكر من قال ذلك: 11554 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) "حيث" هنا، استعملت في موضع"حين". وقد قال الأصمعي: "ومما تخطئ فيه العامة والخاصة، باب"حين" و"حيث"، غلط فيه العلماء، مثل أبي عبيدة وسيبويه".وقال أبو حاتم: "رأيت في كتاب سيبويه أشياء كثيرة، يجعل حين: حيث"، وكذلك في كتاب أبي عبيدة بخطه. قال أبو حاتم: واعلم أن"حين" و"حيث" ظرفان، فحين ظرف للزمان، وحيث ظرف للمكان، ولكل واحد منهما حد لا يجاوزه، والأكثر من الناس جعلوهما معا: حيث". ثم انظر مقالة الأخفش أن"حيث" ظرف للزمان، في الخزانة 3: 162. والأمر يحتاج إلى زيادة بحث. ليس هذا موضعه. (2) في المطبوعة: "بالنبي والكتاب" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وميثاقه الذي واثقكم به" قال: الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم. 11555 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. * * * ثال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك: قولُ ابن عباس، وهو أن معناه:"واذكروا" أيها المؤمنون="نعمة الله عليكم" التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام="وميثاقه الذي واثقكم به"، يعني: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشَط والمكرَه، والعُسر واليُسر="إذ قلتم سمعنا" ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له:"سمعنا وأطعنا"، يقول: ففُوا لله، أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، يَفِ لكم بما ضمن لكم الوفاءَ به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه، من إتمام نعمته عليكم، وبإدخالكم جنته وإنعامكم بالخلود في دار كرامته، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال:"عنى به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه"، لأن الله جل ثناؤه ذكرَ بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقَه الذي واثقهم به، ميثاقَه الذي واثق به أهل التوراة= بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم= فيها، (1) فقال: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) ، الآيات بعدها [سور المائدة: 12] = مُنبِّهًا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) قوله: "فيها"، أي في التوراة، والسياق: "ميثاقه الذي واثق به أهل التوراة.. فيها". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه= ومعرِّفَهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه، وتعزير أنبيائه ورسله= زاجرًا لهم عن نكث عهودهم، فيُحلّ بهم ما أحلَّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم. فكان= إذْ كان الذي ذكرهم فوعظهم به ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثلَه، ميثاقَ قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم (1) واجبًا أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظيرَ حال الذين وعظوا بهم. وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا صحة ما قلنا في ذلك وفسادُ خلافه. * * * وأما قوله:"واتقوا الله إنّ الله عليم بذات الصدور"، فإنه وعيد من الله جل اسمه للمؤمنين كانوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه (2) وتهدُّدًا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسوله (3) وعهدهم الذي عاهدوه فيه= بأن يضمروا له خِلاف ما أبدوا له بألسنتهم. (4) . يقول لهم جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها المؤمنون، فخافوه أن تبدِّلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم:"سمعنا وأطعنا"، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم (5) وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيُحّل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به، كالذي حلَّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النّقم، وتصيروا في معادِكم إلى سخط الله وأليم عقابه. * * *   (1) سياق هذه العبارة: "فكان.. واجبا أن يكون الحال.."، وأما الجملة التي بينهما فهي معترضة، فمن أجل ذلك وضعتها بين خطين. (2) في المطبوعة: ".. للمؤمنين الذين أطافوا برسوله"، غير ما في المخطوطة، وهو صواب محض وعربي عريق، وضع مكان"كانوا": "الذي أطافوا". (3) في المطبوعة: "وتهديدا لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (4) قوله: "بأن يضمروا.." متعلق"أن ينقضوا ميثاق الله.."، بأن يضمروا. (5) انظر تفسير"ذات الصدور" فيما سلف 7: 155، 325. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، (1) ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، (2) ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري. * * * وأما قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا" فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة. * * * وقد ذَكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) [سورة النساء: 135] وفي قوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [سورة المائدة: 2] واختلاف المختلفين في قراءة ذلك، والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة= بالأدلة الدالة على صحته، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * وقد قيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همت اليهود بقتله. ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "لولايتهم"، وأسقط"لكم"، وأثبتها من المخطوطة. (2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف 9: 301، تعليق: 5، والمراجع هناك. (3) انظر ما سلف 9: 301، الآية الأولى = ثم الثانية 9: 483- 487. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 11556 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، نزلت في يهود خيبر، أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم= وقال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود يستعينهم في دية، فهمُّوا أن يقتلوه، فذلك قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا" ... الآية. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: اعدلوا" أيها المؤمنون، على كل أحد من الناس وليًّا لكم كان أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه. * * * وأما قوله:"هو أقرب للتقوى" فإنه يعني بقوله:"هو" العدلُ عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئا من معاصيه. (1) * * * وإنما وصف جل ثناؤه"العَدْل" بما وصفه به من أنه"أقرب للتقوى" من الجور، لأن من كان عادلا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعا، كان لا شك   (1) انظر تفسير"العدل"، و"التقوى"، فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا، كان بعيدًا من تقواه. * * * وإنما كنى بقوله:"هو أقرب" عن الفعل (1) والعرب تكني عن الأفعال إذا كَنَتْ عنها بـ "هو" وبـ "ذلك"، كما قال جل ثناؤه: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (2) [سورة البقرة: 271] و (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ) [سورة البقرة: 232] . (3) ولو لم يكن في الكلام"هو" لكان"أقرب" نصبا، ولقيل:"اعدلوا أقربَ للتقوى"، كما قيل: (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) [سورة النساء: 171] . (4) * * * وأما قوله:"واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون"، فإنه يعني: واحذروا أيها المؤمنون، أن تجوروا في عباده فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءَه الذين بيّن لكم، فيحلّ بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله="إن الله خبير بما تعملون"، يقول: إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، من عمل به أو خلافٍ له، مُحْصٍ ذلكم عليكم كلّه، حتى يجازيكم به جزاءَكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوا أن تسيئوا. (5) * * *   (1) "الفعل"، يعني مصدر الفعل، كما سلف قريبا ص: 82، تعليق: 2، وانظر فهرس المصطلحات. (2) كان في المطبوعة: "هو خير لكم"، وفي المخطوطة بإسقاط"هو"، وهذا الذي أثبته هو نص آية البقرة: 271، وراجع ذلك في 5: 582 مما سلف. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 303. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "ذلك أذكى"، وأثبت نص آية البقرة. وانظر ما سلف 5: 29. (4) انظر ما سلف 9: 413-415. (5) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به، وأوفوا بالعقود التي عاقدَهم عليها بقولهم:"لنسمعن ولنطيعنَّ الله ورسوله" فسمعوا أمر الله ونهيه وأطاعوه، فعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه. (1) ويعني بقوله:"لهم مغفرة" لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم="مغفرة" وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها (2) ="وأجر عظيم" يقول: ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم، جزاءً على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها="أجر عظيم"، و"العظيم" من خيره غير محدود مبلغه، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره. (3) * * * فإن قال قائل: إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود؟ قيل: بلى (4) إنه قد أخبَر عن الموعود، والموعود هو قوله:"لهم مغفرة وأجر عظيم".   (1) انظر تفسير"الصالحات" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"المغفرة" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"الأجر" و"عظيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) "بلى" تكون جوابا للكلام الذي فيه الجحد كقوله: "ألست بربكم قالوا بلى". هكذا قالوا، وقال ابن هشام في المغنى في باب"بلى": "ولكن وقع في كتب الحديث أنها يجاب بها الاستفهام المجرد، ففي صحيح البخاري في كتاب الإيمان: أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى = وفي صحيح مسلم في كتاب الهبة: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال، بلى! قال، فلا إذن = وفيه أيضا أنه قال، أنت الذي لقيتني بمكة؟ فقال له: بلى". فمن أجل ذلك استعمله الطبري في جواب الاستفهام الذي لا جحد فيه، فكأنه عد سؤال السائل جحدا لذكره في الآية، فقال في جوابه"بلى"، بمعنى: ليس ذلك كما تزعم، وانظر ما سلف 2: 280، 510، وما سيأتي في الأثر رقم: 11818. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 فإن قال: فإن قوله:"لهم مغفرة وأجر عظيم" خبرٌ مبتدأ، ولو كان هو الموعود لقيل:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرًا عظيمًا، ولم يدخل في ذلك"لهم"، وفي دخول ذلك فيه، دلالة على ابتداء الكلام، وانقضاء الخبر عن الوعد! قيل: إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرتَ، فإنه مما اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه= من ذكر بعضٍ قد ترك ذكره فيه، وذلك أن معنى الكلام: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ويأجرهم أجرًا عظيما= لأن من شأن العرب أن يُصْحِبوا"الوعد""أن" ويعملوه فيها، فتركت"أن" إذ كان"الوعد" قولا. ومن شأن"القول" أن يكون ما بعده من جمل الأخبار مبتدأ، وذكر بعده جملة الخبر اجتزاءً بدلالة ظاهر الكلام على معناه، وصرفا للوعد= الموافق للقول في معناه وإن كان للفظه مخالفا= إلى معناه، (1) فكأنه قيل:"قال الله: للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجر عظيم". * * * وكان بعض نحويي البصرة يقول، إنما قيل:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم"، في الوعد الذي وُعِدوا (2) =فكأن معنى الكلام على تأويل قائل هذا القول: وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات، لهم مغفرة وأجر عظيم، [فيما وعدهم به] . (3) * * *   (1) السياق: "وصرفا للوعد.. إلى معناه"، أي: إلى معنى القول. (2) في المطبوعة: "الوعد الذي وعدوا" بإسقاط"في"، وهي في المخطوطة مكتوبة بسن القلم بين"عظيم" و"الوعد". (3) اقتصر في هذا الموضع في المطبوعة والمخطوطة على نص الآية، واستظهرت تمام الكلام من تفسير القرطبي 6: 110، وقد عقب عليه بقوله: "وهذا المعنى عن الحسن"، فلا أدري أأصبت في ذلك، أم أخطأني التوفيق! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين كفروا" والذين جحدوا وحدانية الله، ونقضوا ميثاقه وعقودَه التي عاقدوها إياه="وكذبوا بآياتنا" يقول: وكذبوا بأدلّة الله وحججه الدالة على وحدانيته التي جاءت بها الرسل وغيرها="أولئك أصحاب الجحيم" يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم= أهل"الجحيم"، يعني: أهل النار الذين يخلُدون فيها ولا يخرجون منها أبدًا. (1) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (2) "يا أيها الذين آمنوا" يا أيها الذين أقرُّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم="اذكروا نعمة الله عليكم"، اذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليكم، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به، والعقود التي عاقدتم نبيكم صلى الله عليه وسلم عليها. ثم وصف نعمته التي أمرهم جل ثناؤه بالشكر عليها مع سائر نعمه، فقال، هي كفُّه عنكم أيدي القوم الذين همُّوا بالبطش بكم، فصرفهم عنكم،   (1) انظر تفسير"الكفر" و"الآيات" و"أصحاب الجحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) كان في المطبوعة والمخطوطة: "يعنى بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أقروا.."، فأثبت ما يقتضيه سياق أبي جعفر في سائر تفسيره، وهو في أغلب الظن اختصار سيئ من الناسخ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكّر الله جل ثناؤه أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم بها، وأمرهم بالشكر له عليها. فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه مما كانت اليهود من بني النضير همُّوا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريَّين اللذين قَتلهما عمرو بن أمية الضمري. (2) ذكر من قال ذلك: 11557 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينَهم على دية العامريَّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري. فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن، فَمَن رجلٌ يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. (3) فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ، وانصرف عنهم، فأنزل الله عز ذكره فيهم وفيما أرادَ هو وقومه:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذْ همَّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم" ... الآية. (4)   (1) انظر تفسير"الكف" فيما سلف 8: 548/9: 29 = وقد مضى"الهم" غير مشروح أيضا فيما سلف 9: 199. (2) "الحمالة" (بفتح الحاء) : الدية والغرامة التي يحملها قوم عن قوم يكفلون دفعها يقال: "تحمل الحمالة" و"استحمل القوم"، طلب إليهم أن يعينوه في"حمالته"، وهي الدية التي تكفل بها. (3) "ظهر على البيت": علاه، أي ركب ظهره. وكان في المطبوعة: "فمروا رجلا يظهر" وليس فيها ولا في المخطوطة: "أنا"، فلذلك غيرها الناسخ، لفساد خط الناسخ في هذا الموضع. والصواب من سيرة ابن هشام. (4) الأثر: 11557- هو في سيرة ابن هشام 2: 211، 212، ثم يأتي فيها بغير هذا اللفظ 3: 199-200. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 11558 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، قال: اليهود دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم، (1) وأصحابه من وراء جداره، فاستعانهم في مغَرِم ديةٍ غَرِمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي القَهقَرى ينظر إليهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تَتَامُّوا إليه. 11559 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"اذكروا نعمة الله عليكم إذ هَمَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم" يهودُ حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم، وأصحابه من وراء جدار لهم، فاستعانهم في مغرم، في الدية التي غرمها (2) ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي معترضا ينظرُ إليهم خِيفتَهم (3) ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه. قال الله جل وعز:"فكف أيديهم عنكم واتَّقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون". 11560 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر، عن يزيد بن أبي زياد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير يستعينهم في عَقْلٍ أصابه (4) ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: أعينوني في عَقْلٍ أصابني. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة! اجلس حتى نطعمَك ونعطَيك الذي تسألنا! فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) "الحائط": البستان من النخيل، قد أحاطوه بجدار. (2) في المطبوعة: "في مغرم في دية غرمها" كما في الدر المنثور 1: 266. وفي المخطوطة: "في الدية" بالتعريف فرجحت أنه قد سقط من الكلام"التي" فأثبتها. (3) "معترضا"، أي يأخذ يمنة ويسرة، يميل بوجهه إليهم ينظر، ويمشي هكذا وهكذا، لا تستقيم مشيته على الطريق. (4) "العقل" هو: الدية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 وأصحابُه ينتظرونه، وجاء حُييّ بن أخطب وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال حيي لأصحابه: لا ترونه أقربَ منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقْتُلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا! فجاءوا إلى رحًى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثَمَّ، فأنزل الله جل وعز:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذْ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، فأخبر الله عزَّ ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به. 11561 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" الآية، قال، يهودُ، دخلَ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا، فاستعانهم في مَغْرَمٍ غرمه، فائتمروا بينهم بقتله، فقام من عندهم فخرج معترِضًا ينظر إليهم خِيفتَهم، (1) ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه. 11562 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري= أحدَ بني النجار وهو أحد النُّقباء ليلة العقبة= فبعثه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين والأنصار، فخرجوا، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقُتل المنذرُ وأصحابُه إلا ثلاثة نَفَرٍ كانوا في طلب ضَالة لهم، فلم يرعهم إلا والطيرُ تحُوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها عَلَقُ الدم. (2) فقال أحد النفر: قُتِل أصحابنا والرحمنِ! ثم تولّى يشتدُّ حتى لقي رجلا (3) فاختلفا ضربتين، فلما خالطته الضربة، رفع رأسه إلى السماء ففتح   (1) "معترضا" أي يأخذ يمنة ويسرة، يميل بوجهه إليهم ينظر، ويمشي هكذا وهكذا، لا تستقيم مشيته على الطريق. (2) "العلق" (بفتحتين) : قطع الدم الغليظ الجامد قبل أن ييبس. (3) "اشتد": عدا عدوا شديدا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 عينيه ثم قال: الله أكبر، الجنةُ وربّ العالمين!! فكان يُدْعى"أعنقَ لِيَمُوت"، (1) ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما مُوَادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر، فقتلاهما. وقدِم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليُّ وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، حتى دخلوا إلى كعب بن الأشرف ويهود النضير، فاستعانهم في عَقْلهما. قال، فاجتمعت اليهودُ لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واعتَلُّوا بصنيعة الطعام، (2) فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بالذي أجمعت عليه يهودُ من الغَدر، (3) فخرج ثم دعا عليًّا، فقال، لا تبرح مَقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنِّي فقل:"وجّه إلى المدينة فأدركوه". (4) قال: فجعلوا يمرُّون على عليّ، فيأمرهم بالذي أمرَه حتى أتى عليه آخرُهم، ثم تبعهم، فذلك قوله: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) [سورة المائدة: 13] . 11563 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم" قال: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يغدِروا برسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وقال آخرون: بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية، فأمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم بالشُّكر له عليها: أنَّ اليهود كانت هَمَّت بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم في طعامٍ دعوه إليه، فأعلم الله عز وجل نبيّه صلى   (1) "أعنق ليموت" و"المعنق ليموت"، يقال هو"المنذر بن عمرو الأنصاري"، ويقال هو"حرام بن ملحان النجاري". ="أعنق الرجل إعناقا": سارع وأسرع إسراعًا شديدًا حتى يسبق الناس. سمي بذلك، لأنه أسرع إلى مصرعه، رضي الله عنه. (2) "الصنيعة" و"الصنيع": الطعام يصنع ويهيأ للحفاوة والإكرام. (3) في المطبوعة: "اجتمعت عليه"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المخطوطة: "وجه المدينة" أسقط"إلى"، والجيد ما في المطبوعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 الله عليه وسلم ما همُّوا به، فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه. ذكر من قال ذلك: 11564 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم" إلى قوله:"فكف أيديهم عنكم" وذلك أن قوما من اليهود صَنَعوا لرسول الله وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأتِ الطعام، وأمرَ أصحابه فلم يأتوه. (1) * * * وقال آخرون: عنى الله جل ثناؤه بذلك: النعمةَ التي أنعمها على المؤمنين باطلاع نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما همَّ به عدوّه وعدوُّهم من المشركين يوم بَطْن نَخْلٍ من اغترارهم إياهم، والإيقاع بهم، إذا هُم اشتغلوا عنهم بصلاتهم، فسجدوا فيها= وتعريفِه نبيَّه صلى الله عليه وسلم الِحذَار من عدوّه في صَلاته بتعليمه إيَّاه صلاة الخوف. ذكر من قال ذلك: 11565 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم" ... الآية، ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببَطْنِ نخل في الغَزْوة السابعة، (2) فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتِكوا   (1) في المطبوعة: "وأمر أصحابه فأبوه"، و"أبوه" هنا سقيمة المنزل. وفي المخطوطة: "فأتوه" معجمة. وهو مخالف لما في الترجمة، إذ قال، "فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه"، فآثرت أن أثبت نص ما في الدر المنثور 1: 266، فهو المطابق للترجمة. ونقله السيوطي عن ابن جرير، وابن أبي حاتم، من هذه الطريق نفسها. (2) هكذا قال: "في الغزوة السابعة"، وهي في كثير من الروايات"الغزوة التاسعة"، وهي"غزوة ذي أمر" بنجد، انظر ابن سعد 2/1/24، وإمتاع الأسماع للمقريزي 1: 110، 111. وانظر التعليق على الأثر التالي، والأثر السالف رقم: 10340، والذي جاء في الأخبار أن صلاة الخوف كانت في السنة السابعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 به، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن رجلا انتدب لقتله، فأتى نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفُه موضوع، فقال: آخذه، يا نبي الله؟ قال: خذه! قال: أستلُّه؟ قال: نعم! فسلَّه، فقال، من يمنعك منِّي؟ قال:"الله يمنعُني منك!. فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له القول، فشامَ السَّيف (1) وأمر نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالرحيل، فأنزلت عليه صلاة الخوف عند ذلك. (2) 11566 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرَّق الناس في العِضاه يستظِلُّون تحتها، (3) فعلَّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحَه بشجرةٍ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال، من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"الله"، فشامَ الأعْرابي السيف، (4) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبرَ الأعرابيّ، وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه= قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أنَّ قومًا من العرب أرادُوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل:"اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، الآية. (5) * * *   (1) "شام السيف": أغمده. وهو من الأضداد، ويقال أيضا: "شام السيف": إذا سله. (2) الأثر: 11565- هذا الخبر عن"صلاة الخوف"، لم يذكره أبو جعفر في صلاة الخوف فيما سلف 5: 237-250، ولا في 9: 123-166. (3) "العضاه" (بكسر العين) : اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، فاستظل به الناس. (4) "شام السيف": أغمده. وهو من الأضداد، ويقال أيضا: "شام السيف": إذا سله. (5) الأثر: 11566-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى مرارا. وكان في المطبوعة والمخطوطة"ابن أبي سلمة" بزيادة"ابن"، والصواب حذفها كما في تفسير ابن كثير 3: 101. وهذا الخبر عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر في مسند أحمد 3: 311، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: "حدثنا عبد الله قال: وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده، وسمعته في موضع آخر: حدثنا أبو اليمان قال، أخبرني شعيب، عن الزهري، حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن جابر بن عبد الله الأنصاري"، وساق الخبر بغير هذا اللفظ مطولا. ثم رواه أحمد أيضا 3: 364، من طريق عفان بن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بغير ذاك اللفظ. وروى أحمد خبر جابر مطولا مفصلا، من طريق أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل = في المسند 3: 364، 365 ثم: 390. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 329-331) ، بأسانيد. ورواه مسلم في صحيحه 15: 44، 45، بإسناد الطبري وأحمد. وانظر أيضا ما رواه أبو جعفر من حديث جابر فيما سلف برقم: 10325. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 101، بعد أن ساق خبر أبي جعفر عن هذا الموضع من التفسير: "وهذا الأعرابي، هو غورث بن الحارث، ثابت في الصحيح". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك، قولُ من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمتَه على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيّهم محمدا صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يومَ سار إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الدية التي كان تحمَّلها عن قتيلي عمرو بن أمية. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه عقًّب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها، وخيانتها ربَّها وأنبياءها. ثم أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم، والصفح عن عظيم جهلهم، فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عَقِيب قوله:"إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" وغيرُهم كان يبسط الأيدي إليهم. (1) لأنه لو كان الذين همُّوا ببسط الأيدي إليهم غيرَهم لكان حريًّا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم، لا عمَّن لم يجر لهم بذلك ذكر= ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن غيرهم كان يبسط الأيدي إليهم" بزيادة"من"، وهو فساد في الكلام شديد، والصواب حذف"من"، كما يدل عليه سياق الكلام. والواو في"وغيرهم" واو الحال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك، دون ما خالفه. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) } (1) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واحذرُوا الله، أيها المؤمنون أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم، وأن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقابَ الذي لا قبل لكم به="وعلى الله فليتوكل المؤمنون" يقول: وإلى الله فليُلْقِ أزمَّة أمورهم، ويستسلم لقضائه، ويثقْ بنصرته وعونه (2) = المقروّن بوحدانيّة الله ورسالة رسوله، العاملون بأمره ونهيه، فإن ذلك من كمال دينهم وتمامِ إيمانهم= وأنّهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء، كما حفظكم ودافع عنكم، أيها المؤمنون اليهودَ الذين همُّوا بما همُّوا به من بسط أيديهم إليكم، كلاءَةً منه لكم، إذ كنتم من أهل الإيمان به وبرسوله دون غيره، (3) فإن غيره لا يطيق دَفْع سوءٍ أراد بكم ربُّكم ولا اجتلابَ نفعٍ لكم لم يقضه لكم. * * *   (1) سقط من المخطوطة والمطبوعة صدر بقية الآية، وهو قوله: "واتقوا الله"، فأثبتها. (2) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف 8: 566، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) قوله: "دون غيره"، أي: كما حفظكم ودافع عنكم دون غيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} قال أبو جعفر: وهذه الآية أنزلتْ إعلامًا من الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أخلاقَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليهم من اليهود. كالذي:- 11567 - حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن في قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: اليهود من أهل الكتاب. * * * = (1) وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه، من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقِهم وأخلاقِ أسلافهم قديما= (2) واحتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود، بإطلاعه إيَّاه على ما كان علمه عندَهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم= وتوبيخا لليهود في تمادِيهم في الغيّ، وإصرارهم على الكفر، مع علمهم بخطأ ما هم عليه مقيمون. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمرَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما همُّوا به لكم، ولا أمرَ الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسْلافهم، لا يَعْدُون أن يكونوا على منهاج أوَّلهم وطريق سَلَفِهم. ثم ابتدأ الخبر عز ذكره عن بعضِ غَدَراتهم وخياناتهم وجراءَتهم على ربهم ونقضهم ميثاقَهم الذي واثقَهم عليه بَارِئُهم، (3) مع نعمه التي خصَّهم بها،   (1) قوله: "وأن الذي هموا به.." معطوف على قوله: "إعلاما منه نبيه.. أخلاق الذين هموا ... وأن الذي هموا به.."، هذا سياق الجملة. (2) قوله"واحتجاجا.."، معطوف على قوله آنفا: "وهذه الآية أنزلت إعلاما..". (3) في المطبوعة: "الذي واثقتهم عليه بأدائهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة إذ كانت غير معجمة، فحرفها تحريفا أفضى إلى هلاك العبارة كلها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 وكراماته التي طوّقهم شكرها، فقال، ولقد أخذ الله ميثاق سَلَف من همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل، يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم، (1) كما:- 11568 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له، ولا يعبدُوا غيره. * * * ="وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا" يعني بذلك: وبعثنا منهم اثنى عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه. و"النقيب" في كلام العرب، كالعَرِيف على القوم، غير أنه فوق"العريف". يقال منه:"نَقَب فلان على بني فلان فهو ينقُبُ نَقْبًا (2) فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل:"قد نَقُبَ فهو ينقُب نَقَابة" = ومن"العريف":"عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافَةً". فأما"المناكب" فإنهم كالأعوان يكونون مع العُرفاء، واحدهم"مَنْكِب". وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم. (3) * * * فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله.   (1) انظر تفسير"أخذ الميثاق" فيما سلف ص: 91، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "نقبا"، وهذا مصدر غريب جدا، ولم تذكره العربية، وهو جائز على ضعف شديد، وأنا أخشى أن يكون ذلك خطأ من النساخ، وأن الصواب هو الذي أجمعت عليه كتب اللغة"نقابة" (بكسر النون) في مصدر هذا الفعل. أما مصدر الفعل الذي يليه فهو بفتح النون. وقال سيبويه: "النقابة بالكسر الاسم، وبالفتح المصدر، مثل الولاية والولاية". (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 156. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 فقال بعضهم: هو الشاهد على قومه. ذكر من قال ذلك: 11569 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا"، من كل سِبْط رجل شاهد على قومه. * * * وقال آخرون:"النقيب"، الأمين. ذكر من قال ذلك: 11570 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"النقباء" الأمناء. 11571 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. * * * وإنما كان الله عز ذكره أمر موسى نبيّه صلى الله عليه وسلم ببعثة النقباء الاثنى عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشأم، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم (1) إذْ أراد هلاكهم، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث مُوسى الذين أمَره الله ببعثهم إليها من النقباء، كما: 11572 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أرْيَحَا، وهى أرض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم بعث موسى اثنى عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل. فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجل   (1) في المطبوعة: "ليتجسسوا" بالجيم، و"التحسس" بالحاء: تطلب الخبر وتبحثه. وفي التنزيل: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 من الجبَّارين يقال له"عاج"، فأخذ الاثنى عشر، فجعلهم في حُجْزَته (1) وعلى رأسه حَمْلَةُ حطب. (2) فانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرَحَهم بين يديها، فقال، ألا أطْحَنُهم برجلي! فقالت امرأته: بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوا. ففعل ذلك. فلما خرج القومُ، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبرَ القوم، ارتدُّوا عن نبيِّ الله عليه السلام، ولكن اكتموه وأخبروا نَبِيَّ الله، فيكونان هما يَرَيان رأيهما! (3) فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهدَ، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من [أمر] "عاج" (4) وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون، فأخبروهما الخبرَ، فذلك حين يقول الله (5) "ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا". (6) 11573 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر نقيبا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم يُلقونهم إلقاءً (7) ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس   (1) "الحجزة" (بضم فسكون) : موضع شد الإزار. وسبحان الله!! كيف كان يبالغ هؤلاء الرواة من أصحاب الإسرائيليات!! (2) في المطبوعة: "حزمة حطب"، لم يحسن قراءة المخطوطة مع وضوحها. وأثبتها لما طابقت المخطوطة تاريخ الطبري. وما سيأتي برقم: 11656. و"الحملة" (بفتح الحاء) : هي مقدار ما يحمله الحامل، كما يقال: "قبضة"، لمقدار ما تقبض عليه الكف. وهذا حرف لم أجد النص عليه في كتاب. (3) "نبي الله"، يعني موسى وهرون عليهما السلام. وكان في المطبوعة: "فيما يريان"، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (4) هذه الزيادة بين القوسين، من تاريخ الطبري. (5) انظر ما كتبته في ص: 92، تعليق: 1، في أمر"حيث" و"حين". (6) الأثر: 11572- هو من بقية الأثر الذي رواه أبو جعفر قديما برقم: 991، وهو في تاريخ الطبري 1: 221، 22. وسيأتي صدره برقم: 11656. (7) في المخطوطة: "يلفونهم الفا" غير واضحة ولا منقوطة، وفي المطبوعة هنا"يلفونهم لفا"، وسيأتي برقم: 11660، كما أثبتها، في المخطوطة والمطبوعة معا. وانظر الأثر التالي: 11574، والتعليق عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 منهم في خشبة (1) ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبُّها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقباء كلٌّ منهم يَنْهى سِبْطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكلاب بن يافنة، (2) يأمران الأسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعُوا الآخرين. 11574 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: من بني إسرائيل رجالٌ= وقال أيضا: يلقونهما. (3) 11575 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة، وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدوّ، فإني ناصركم عليهم، وخُذ من قومك اثنى عشر نقيبًا من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم: إن الله يقول لكم: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) ... إلى قوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) وأخذ موسى منهم اثنى عشر نقيبا اختارهم من الأسباط كفلاء على قومهم بما هم فيه، على الوفاء بعهده وميثاقه. وأخذ من كل سبط منهم خيرَهم وأوفاهم رجلا. يقول الله عز وجل:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" فسار بهم موسى إلى الأرض المقدّسة بأمر الله، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام= وهي بلاد ليس فيها خَمَرٌ   (1) في المخطوطة: "خمسة أنفاس بينهم في خشبة"، وفي المطبوعة: "خمسة أنفس بينهم في خشبة"، وأثبت ما في تفسير البغوي (هامش ابن كثير 3: 104) ، فهو أقرب إلى هذا السياق. وانظر ما سيأتي، الأثر رقم: 11573. (2) في المطبوعة: "وكالب بن يوفنا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو فيها هنا" " غير منقوطة، ولكنه سيأتي في المخطوطة، في رقم: 11666، كما أثبته هنا. وانظر ما مضى 5: 272. وفي التاريخ 1: 222: "كالوب بن يوفنة، وقيل: كلاب بن يوفنة ختن موسى". وسيأتي بعض هذا الأثر مختصرا برقم: 11660. (3) في المطبوعة: "يلففونها"، مع أنها في المخطوطة كما أثبتها واضحة منقوطة، وانظر التعليق على الأثر السالف ص: 112، تعليق: 7، وانظر الأثر التالي: 11660. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 ولا ظلّ (1) = دعا موسى ربه حين آذاهم الحرّ، فظلَّل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله عليهم المنَّ والسلوى. (2) وأمر الله موسى فقال: أَرْسل رجالا يتحسسّون إلى أرض كنعان التي وهبت لبني إسرائيل (3) من كل سبط رجلا. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فيهم، [فبعث الله جل وعزّ من برّية فاران بكلام الله، وهم روءس بني إسرائيل] . (4) وهذه أسماء الرَّهط الذين بعث الله جل ثناؤه من بني إسرائيل إلى أرض الشام، فيما يذكر أهل التوراة ليجوسوها لبني إسرائيل (5) من سبط روبيل:"شامون بن زكوّن" (6) = ومن سبط شمعون:"شافاط بن حُرّي" (7) ومن سبط يهوذا:"كالب بن يوفنّا (8) ومن سبط أتين:"يجائل بن يوسف" (9) =ومن سبط يوسف: وهو سبط أفرائيم:"يوشع بن نون" (10) ومن سبط بنيامين"فلط بن رفون" (11) =ومن سبط زبالون:"جدي بن سودي (12) =ومن سبط منشا بن يوسف:"جدي بن سوسا (13) =ومن سبط دان:"حملائل بن جمل" (14) =ومن سبط أشر: ساتور بن ملكيل" (15) = ومن سبط نفتالي:"نحى بن وفسي" (16) =ومن سبط جاد:"جولايل بن ميكي". (17) =فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتحسّسون له الأرض= (18) ويومئذ سمى"هوشع بن نون":"يوشع بن نون" (19) =فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قِبَل الشمس، فارقوا الجبل، وانظروا ما في الأرض، وما الشعب الذي يسكنون، أقوياء هم أم ضعفاء، أقليل هم أم كثير؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون: أسمينة هي [أم هزيلة] ؟ أذات شجر أم لا؟ اجتازوا، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض. وكان ذلك في أول ما أشجن بكر ثمرة العنب. (20)   (1) في المطبوعة: "شجر ولا ظل"، وفي المخطوطة: "حعر"، والصواب ما أثبته، كما مضى في الأثر: 992، و"الخمر" (بفتحتين) : كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره. (2) إلى هذا الموضع مضى قديما في الأثر رقم: 992. (3) في المخطوطة: "وهب"، والصواب ما في المطبوعة. وفي المطبوعة: "يتجسسون" بالجيم، وانظر ص: 111، تعليق: 1. (4) هذه الجملة التي بين القوسين، من المخطوطة، وحذفها ناشر المطبوعة. وهي عبارة غير مفهومة، ولم أستطع أن أهتدي إلى صوابها، ولا استطعت أن أصل الكلام بعضه ببعض. والذي في كتاب القوم، في العهد القديم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "فأرسلهم موسى من برية فاران حسب قول الرب". وكل وجه من التصحيف، أو التحريف، أو النقص في العبارة، أردت أن أحمل عليه هذه الجملة، حتى تستقيم، خرج معي وجها ضعيف التركيب، فتركت ذلك لمن يحسن أن يقيمه، أو لمن يهتدي إلى صوابه من مرجع آخر، غير المراجع التي بين يدي. (5) هذه الأسماء مذكورة في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر. ونقلها عن هذا الموضع من الطبري، ابن كثير في تفسيره 3: 103. وذكرها ابن حبيب في"المحبر" ص: 464، ونقلها عنه القرطبي في تفسيره 6: 113، فسأذكر بعد، ما اختلف فيه من الأسماء، عن هذه المراجع، ونصها في كتاب القوم. (6) في كتاب القوم: "من سبط رَأو بين: شمع بن زكُّور"، كما في المحبر. وفي المطبوعة وابن كثير"بن ركون"، وفي القرطبي"ركوب". وفي المخطوطة، تقرأ كما كتبتها. (7) في كتاب القوم: ".. بن حوري". وفي المحبر: "شرفوط بن حوري"، وفي القرطبي: "شوقوط بن حوري". (8) في كتاب القوم: ".. بن يُفَنّة"، وفي المحبر: "كولب.."، وفي القرطبي: "يوقنا". (9) في كتاب القوم: "ومن سبط يسَّاكرَ: يجال بن يوسف"، وكان في المطبوعة هنا"ومن سبط كاذ: ميخائيل بن يوسف"، ولا أدري من أين جاء به ناشر المطبوعة. وفي ابن كثير: "ومن سبط أتين: ميخائيل بن يوسف"، ولم أجد في الأسباط"أتين"، ولكن هكذا كتب في مخطوطة التفسير كما كتبته غير منقوط، وفيها أيضا"محامل" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. أما في المحبر فهو: "ومن سبط إساخر: يغوول بن يوسف"، وفي القرطبي: "ومن سبط الساحر: يوغول بن يوسف". وهذا السبط، ذكره الطبري عن محمد بن إسحق فيما سلف رقم: 2107: "يشجر"، وهو"يساكر"، فالذي لا شك فيه أن"أبين" التي في مخطوطة التفسير، هي"يشجر"، أو "أشجر"، ولكني تركتها كما هي في المخطوطة. (10) في كتاب القوم: "من سبط أفرايم: هو شع بن نون"، ولكن كتب في مخطوطة التفسير"يوشع" هنا، وكان الأجود أن يكتب هنا"هوشع"، لأنه سيأتي في آخر الخبر أنه يومئذ سمى"هوشع"، "يوشع". (11) في كتاب القوم: "من سبط بنيامين فَلطي بن رافو" وفي المخطوطة: "بن دفون"، وفي المطبوعة: "بن ذنون"، وفي ابن كثير: "فلطم بن دفون"، وفي المحبر: "يلطى بن ردفوا"، وفي القرطبي: "يلظى بن روقو". (12) في كتاب القوم: "من سبط زبولون: جَدّ يئيل بن سودى"، وفي المخطوطة"جدي بن سوشي"، ولكن ابن كثير نقله في تفسيره عن الطبري: "جدي بن شورى"، فتبين أن"سوشي" تحريف"سودي". وكان في المطبوعة"كرابيل بن سودي"، وفي المحبر"كداييل بن شوذي"، وفي القرطبي: "كرابيل بن سورا". (13) في كتاب القوم: "من سبط يوسف، من سبط منسي: جدّي بن سوسي"، وفي ابن كثير: "بن موسى"، خطأ. وفي المحبر: "كدي بن سوسي"، وفي القرطبي والمطبوعة: "سوشا". (14) في كتاب القوم: ".. عميئيل بن جملّى" وفي ابن كثير: "خملائيل بن حمل"، وفي المحبر: "عماييل بن كملى"، وفي القرطبي: "عمائيل بن كسل". (15) في كتاب القوم: "من سبط أشير: ستور بن ميخائيل"، وفي المطبوعة: "أشار: سابور"، فأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة. وفي ابن كثير: "أشار: ساطور بن ملكيل". وفي المحبر"ومن سبط أوشير: شتور بن ميخائيل"، "شير: ستور". (16) في كتاب القوم"من سبط نفتالي: نحيى بن وفسى"، وفي المطبوعة: "محر بن وقسى"، وفي المخطوطة: "ومن سبط ثفثا أبي بحر بن وفسى"، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي ابن كثير: "بحر بن وقسي". وفي المحبر: "يحيى بن وقسي: وفي القرطبي: "يوحنا بن وقوشا". (17) في كتاب القوم: "من سبط جاد: جأوئيل بن ماكي" وفي المخطوطة: "ومن سبط دار: جولائل بن منكد"، وفي المطبوعة: "ومن سبط يساخر: حولايل بن منكد"، وفي تفسير ابن كثير: "ومن سبط يساخر: لايل بن مكيد" وفي المحبر: "ومن سبط جاذ: كوآءل بن موخى". وفي القرطبي: "ومن سبط كاذ: كوال بن موخى". فأثتب"جاد" مكان"دار" في المخطوطة، من أسماء الأسباط في رواية ابن إسحق فيما سلف في الأثر رقم: 2107. وقرأت"منكد""ميكي"، لأنها أقرب إلى"ماكي" و"موخي". هذا، وقد نقل ابن كثير في تفسيره 3: 103 أسماء هؤلاء النقباء، وقال: "وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة، تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل، وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحق، والله أعلم". ولكن اتضح من المراجعة أن الذي ذكره ابن إسحق، هو الموجود في النسخة التي بين أيدينا من التوراة. أما الذي نقله ابن كثير فهو مخالف كل المخالفة لما في رواية ابن إسحق، ولما جاء في كتاب القوم. فلا ريب أن التوراة التي كانت في يد ابن كثير، هي غير التي في أيدينا من كتاب القوم. (18) في المطبوعة: "يتجسسون" بالجيم، وانظر ما سلف ص: 111، تعليق: 1، وص: 114، تعليق: 3. (19) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الاسم الأول"يوشع"، ولكن المخطوطة غير متقوطة، والصواب أن تكون"هوشع" كما أثبتها. انظر ص: 115، تعليق: 2. (20) في المطبوعة: ".. أشمسة هي أم ذات شجر، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض"، رأى ما في المخطوطة لا يقرأ، فحذفه. وكان في المخطوطة: "أسمسه هي أم ذات شجر أم لا احباروا واحملوا إلينا..". ورأيت أن أقرأها كذلك، استظهارا مما جاء في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "وكيف هي الأرض: أسمينة أم هزيلة؟ أفيها شجر أم لا؟ وتشددوا فخذوا من ثمر الأرض". يقال، "أرض سمينة"؛ جيدة الترب، قليلة الحجارة، قوية على ترشيح النبت. ويقال، "أرض مهزولة"، رقيقة. و"المهازل": الجدوب، فلذلك آثرت وضع"هزيلة" كما جاءت في كتاب القوم بهذا المعنى، وإن أغفلتها كتب اللغة، أو أغفلت النص عليها. وكان في المطبوعة: "وكان في أول ما سمى لهم من ذلك ثمرة العنب"، وهو تصرف رديء مستهجن. فإن الذي في المخطوطة هو: "وكان ذلك في أول ما سمى بكر ثمرة العنب" لم يحسن قراءة"سمن"، فتصرف بلا ورع. والذي في كتاب القوم ما نصه: "وأما الأيام فكانت أيام باكورات العنب". فاستظهرت منها صواب ما في المخطوطة، وقرأت: "أول ما سمن": "أول ما أشجن بكر ثمرة العنب". و"الشجنة" (بكسر فسكون) : الشعبة من عنقود العنب تدرك كلها. يقال منها"أشجن الكرم"، أدركت عناقيده وطابت. وقوله"بكر العنب"، فإن"بكر كل شيء"، أوله. وهو صحيح في العربية، وإن كانوا قد خصوا الثمار التي أدركت في أول إدراكها بقولهم: "باكورة الثمرة". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 11576 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" فهم من بني إسرائيل، بعَثهم موسى لينظُروا له إلى المدينة. فانطلقوا فنظروا إلى المدينة، فجاءوا بحبّة من فاكهتهم وِقْرَ رجلٍ، (1) فقالوا:   (1) "الوقر" (بكسر الواو وسكون القاف) : الحمل. وفي حديث عمر بن الخطاب والمجوس: "فألقوا وقر بغل أو بغلين"، أي: حمل بغل أو بغلين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 اقدُروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك فُتِنوا فقالوا: لا نستطيع القتال، (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [سورة المائدة: 24] . 11577 - حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي قال: سمعت أبا مُعاذ الفضلَ بن خالد يقول في قوله:"وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى: ادخلوها! فأبوا وجَبُنوا، وبعثُوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا إليهم، فانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوِقْرِ الرجل، فقالوا: اقدورا قوة قوم وبأسهم، (1) هذه فاكهتهم!! فعند ذلك قالوا لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) . * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال الله لبني إسرائيل:"إني معكم"، يقول: إني ناصركم على عدوّكم وعدوِّي الذين أمرتكم بقتالهم، (2) إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم. * * * وفي الكلام محذوف، استغنى بما ظهر من الكلام عما حذف منه. وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لَهُم إني معكم= فترك ذكر"لهم"، استغناء بقوله:"ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل"، إذ كان مُتقدّم الخبر عن قوم مسمَّين بأعيانهم، فكان معلومًا أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم، (3) إذ لم يكن الكلام مصروفًا عنهم إلى غيرهم. * * * ثم ابتدأ ربُّنا جل ثناؤه القسمَ فقال: قسمًا لئن أقمتم، معشر بني إسرائيل، الصلاة ="وآتيتم الزكاة"، أي: أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها (4) ="وآمنتم برسلي" يقول: وصدّقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني.   (1) في المطبوعة في الموضعين: "قدروا"، والجيد من المخطوطة. (2) انظر تفسير"مع" فيما سلف 3: 213-214/5: 353. (3) في المطبوعة: "كان معلوما"، والسياق يقتضي"فكان" بالفاء. (4) انظر فهارس اللغة فيما سلف في تفسير"إقامة الصلاة"، و"إيتاء الزكاة". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 وكان الربيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقباء الاثنى عشر. 11578 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: أنّ موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثنى عشر: سيروا إليهم= يعني: إلى الجبارين= فحدثوني حديثهم، وما أمْرهم، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنًا. * * * قال أبو جعفر: وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب، غيرَ أن من قضاءِ الله في جميع خلقه أنه ناصرٌ من أطاعه، ووليّ من اتّبع أمره وتجنّب معصيتَه وتحامَى ذنوبه. (1) فإذ كان ذلك كذلك، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه= كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به. لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم. فكان ذلك بأن يكون ندبًا للقوم جميعا، وحضًّا لهم على ما حضَّهم عليه، أحق وأولى من أن يكون ندبًا لبعضٍ وحضًّا لخاصّ دون عامّ. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وعزرتموهم". فقال بعضهم: تأويل ذلك: ونصرتموهم. ذكر من قال ذلك: 11579 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وعزرتموهم" قال: نصرتموهم.   (1) في المطبوعة: "وجافى ذنوبه"، وفي المخطوطة: "وعامى ذنوبه" فرأيت أن أقرأها "تحامى"، فهي عندي أجود وأبين في معنى اتقاء الذنوب والتباعد عنها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 11580 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11581 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وعزرتموهم" قال: نصرتموهم بالسيف. * * * وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة. ذكر من قال ذلك: 11582 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله:"وعزرتموهم" قال:"التعزيز" و"التوقير"، الطاعة والنصرة. * * * واختلف أهل العربية في تأويله. فذكر عن يونس [الحرمري] أنه كان يقول (1) تأويل ذلك: أثنيتم عليهم. 11583 - حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه (2) . * * * وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقّرتموهم وعظمتوهم وأيَّدتموهم، وأنشد في ذلك: (3) وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ (4)   (1) قوله: "يونس [الحرمري] "، هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، وهو مشكل، فإنه إما أن يكون نسبة نسب إليها، ونسبة"يونس بن حبيب"، هي"النحوي" ونسبته في ولائه"الضبي"، وهو مولى"بلال بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة" (النقائص: 323) ، ولا أظنه محرفا عن شيء من ذلك = وإما أن يكون نسبة إلى مكان، ويونس من أهل جبل (بفتح الجيم وتشديد الباء مضمومة) (انظر طبقات النحويين للزبيدي: 48) . وليس تحريفا لهذا أيضا. ولعل باحثًا يهتدي إلى صوابه، فتركته كما هو. هذا مع أن أبا عبيدة في مجاز القرآن، لم يذكر غير اسمه، والطبري يروي هذا عن أبي عبيدة. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 157. (3) لم أعرف قائله. (4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 157. و"الندى": مجلس القوم، ما داموا مجتمعين فيه، فإذا تفرقوا عنه فليس بندي. ومثله"النادي". ومن العجب العاجب شرح من شرح هذا البيت فقال! "واللهم، بكسر اللام وسكون الهاء، الثور المسن.. ولعل الكلمة محرفة عن كلمة شهم". وهذا خلط لا يعلى عليه، فتجنب مثله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 وكان الفراء يقول:"العَزْر" الردُّ"عَزَرته"، رددته: إذا رأيته يظلم فقلت:"اتق الله" أو نهيته، فذلك"العزر". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قول من قال:"معنى ذلك: نصرتموهم". وذلك أن الله جل ثناؤه قال في"سورة الفتح": (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [سورة الفتح: 8، 9] فـ"التوقير" هو التعظيم. وإذْ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعضُ ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه: التعظيم= وكان النصر قد يكون باليد واللسان، فأما باليد فالذبُّ بها عنه بالسيف وغيِره، وأما باللسان فحُسْن الثناء، والذبّ عن العرض= صحَّ أنه النصر، إذ كان النصر يحوي معنى كلِّ قائلٍ قال فيه قولا مما حكينا عنه. * * * وأما قوله:"وأقرضتم الله قرضا حسنًا" فإنه يقول: وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم="قرضا حسنًا" يقول: وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدوا فيه حدودَ الله وما ندبكم إليه وحثَّكم عليه إلى غيره. (1) * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"وأقرضتم الله قرضا حسنا" ولم يقل:"إقراضا حسنًا"، وقد علمت أن مصدر"أقرضت""الإقراض"؟ قيل: لو قيل ذلك كان صوابا، ولكن قوله:"قرضًا حسنًا" أخرج   (1) انظر تفسير"القرض"، و"القرض الحسن" فيما سلف 5: 282، 283، = وقوله: "إلى غيره" متعلق بقوله"ولم تتعدوا فيه ... ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 مصدرًا من معناه لا من لفظه. وذلك أن في قوله:"أقرض" معنى"قرض"، كما في معنى"أعطى""أخذ". فكان معنى الكلام: وقَرَضْتم الله قرضًا حسنًا، ونظير ذلك: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا) [سورة نوح: 17] إذ كان في"أنبتكم" معنى:"فنبتم"، وكما قال امرؤالقيس: وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ (1) إذ كان في"رضت" معنى"أذللت"، فخرج"الإذلال" مصدرا من معناه لا من لفظه. (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جل ثناؤه: لئن أقمتم الصلاة، أيها القوم الذين أعطوني ميثاقَهم بالوفاء بطاعتي واتباع أمري، وآتيتم الزكاة، وفعلتم سائرَ ما وعدتكم عليه جنّتي="لأكفرن عنكم سيئاتكم"،   (1) ديوانه: 141، وغيره، وقبل البيت، يقول لصاحبته بعد ما سما إليها سمو حباب الماء: حَلَفْتُ لَهَا بِاللهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا، فَمَا إنْ من حَدِيثٍ ولا صَالِي فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وأَسْمَحَتْ، ... هَصَرَتْ بُغِصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ وَصِرْنَا إِلَى الحُسْنَى، وَرَقَّ كَلامُنَا ... ورُضْتُ، فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ!! و"راض الدابة أو غيرها يروضها": وطأها وذللها وعلمها السير. (2) انظر ما سلف 5: 533، 534. هذا وقد سلف في 5: 282، 283، "يقرض الله قرضا حسنا"، فلم يستوف الكلام هناك. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر تفسيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 يقول: لأغطين بعفوي عنكم- وصفحي عن عقوبتكم، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم (1) - على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم (2) ="ولأدخلنكم" مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة="جنات تجري من تحتها الأنهار". * * * فـ"الجنات" البساتين. (3) * * * وإنما قلت معنى قوله:"لأكفرّن" لأغطين، لأن"الكفر" معناه الجحود، والتغطية، والستر، كما قال لبيد: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا (4) يعني:"غطاها"، فـ"التكفير""التفعيل" من"الكَفْر". * * * واختلف أهل العربية في معنى"اللام" التي في قوله:"لأكفرن". فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" الأولى على معنى القسم= يعني"اللام" التي في قوله:"لئن أقمتم الصلاة" قال: والثانية معنى قسمٍ آخر. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: بل"اللام" الأولى وقعت موقع اليمين، فاكتفى بها عن اليمين= يعني بـ"اللام الأولى":"لئن أقمتم الصلاة". قال، و"اللام" الثانية= يعني قوله:"لأكفرنّ عنكم سيئاتكم"= جواب لها، يعني"اللام" التي في قوله:"لئن أقمتم الصلاة" واعتلّ لقيله ذلك بأن قوله:"لئن أقمتم الصلاة"   (1) سياق الجملة: "لأغطين بعفوي عنكم.. على ذنوبكم.." (2) انظر تفسير"التكفير" و"السيئات" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (كفر) و (سوأ) . (3) انظر تفسير"الجنات" فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) . (4) سلف البيت وتمامه وتخريجه في 1: 255. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 غير تام ولا مستغنٍ عن قوله:"لأكفرن عنكم سيئاتكم". وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز أن يكون قوله:"لأكفرنّ عنكم سيئاتكم" قسما مبتدأ، بل الواجب أن يكون جوابًا لليمين إذْ كانت غير مستغنية عنه. * * * وقوله: (تجري من تحتها الأنهار) يقول: تجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها الأنهار. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) } قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: فمن جحد منكم، يا معشر بني إسرائيل، شيئا مما أمرته به فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي="فقد ضلَّ سواء السبيل" يقول: فقد أخطأ قصدَ الطريق الواضح، وزلَّ عن منهج السبيل القاصد. * * * "والضلال"، الركوب على غير هدى، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (1) * * * وقوله"سواء" يعني به: وسط=: و"السبيل"، الطريق. * * * وقد بيَّنا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف 2: 495، 496/6: 66، 584، ومواضع غيرها، التمسها في فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"سواء السبيل" فيما سلف 2: 496، 497، وفهارس اللغة في (سوى) و (سبل) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} قال أبو جفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهدَ الذي بينك وبينهم، غدرًا منهم بك وبأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سَلَفهم، ومن ذلك أنَّي أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي، وبعثت منهم اثنى عشر نقيبًا وقد تُخُيِّرُوا من جميعهم ليتحسَّسُوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصرَ عليهم، وأن أورثهم أرضَهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العِبَر والآيات- بإهلاك فرعون وقومِه في البحر، وفلق البحر لهم، وسائر العبر- ما أريتهم، (1) فنقضوا مِيثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم. فإذْ كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديَّ عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أرَاذلهم. * * * =وفى الكلام محذوف اكتُفِي بدلالة الظاهر عليه، وذلك أن معنى الكلام:"فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل"- فنقضوا الميثاق، فلعنتهم="فبما نقضْهم ميثاقهم لعناهم" فاكتفى بقوله:"فبما نقضهم ميثاقهم" من ذكر"فنقضوا". (2) * * * ويعني بقوله جل ثناؤه:"فبما نقضهم ميثاقهم"، فبنقضهم ميثاقهم، كما قال قتادة. 11584 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:   (1) السياق: "بعد ما أريتهم من العبر والآيات.. ما أريتهم"، وما بين الخطين فصل مفسر. (2) انظر تفسير"النقص" فيما سلف 9: 363. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. (1) 11585 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"فبما نقضهم ميثاقهم" قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه. * * * وقد ذكرنا معنى"اللعن" في غير هذا الموضع. (2) * * * و"الهاء والميم" من قوله:"فبما نقضهم" عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهلِ المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: (قَاسِيَةً) بالألف= * * * =على تقدير"فاعلة" من"قسوة القلب"، من قول القائل:"قَسَا قلبه، فهو يقسُو وهو قاسٍ"، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسًا صلبًا (3) كما قال الراجز: وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتِي (4) * * * =فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنَّا الذين نقضوا عهدي ولم يفُوا بميثاقي من بني إسرائيل، بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني="وجعلنا قلوبهم قاسية"،   (1) الأثر: 11584- في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا كثير، قال حدثنا يزيد"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في التفسير. (2) انظر تفسير"اللعن" فيما سلف 9: 213، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"القسوة" فيما سلف 2: 233. (4) مر تخريجه فيما سلف 2: 233، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 158. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 غليظة يابسةً عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي، منزوعةً منها الرأفةُ والرحمة. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً) . * * * ثم اختلف الذين قرأوا ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم: معنى ذلك معنى"القسوة"، لأن"فعيلة" في الذم أبلغ من"فاعلة"، فاخترنا قراءتها"قسية" على"قاسية" لذلك. * * * وقال آخرون منهم: بل معنى"قسِيَّة" غير معنى"القسوة"، وإنما"القسية" في هذا الموضع: القلوبُ التي لم يخلص إيمانها بالله، ولكن يخالط إيمانها كُفْر، كالدراهم"القَسِيَّة"، وهي التي يخالط فضّتها غشٌّ من نحاس أو رَصاص وغير ذلك، كما قال أبو زُبَيْد الطائي: لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا ... صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيارِيفِ (1)   (1) المعاني الكبير: 1024، 1025، وأمالي القالى 1: 28، وسمط اللآلئ: 128، 931، واللسان (أمر) (صهل) من قصيدته في رثاء أمير المؤمنين المقتول ظلمًا، ذي النورين عثمان بن عفان، يقول فيها: يَا لَهْفَ نَفْسِي إنْ كَانَ الَّذِي زَعَمُوا ... حَقًّا، وَمَاذَا يَرُدُّ الْيَومَ تَلْهِيفِي!! إِنْ كَانَ عُثْمَانُ أَمْسَى فَوْقَهُ أَمَرٌ ... كَرَاقِبِ العُونِ فَوْقَ القُنَّةِ المُوفِي "الأمر" (بفتحتين) : الحجارة. و"العون" جمع"عانة"، وهي حمر الوحش."وراقب العون": الفحل الذي يحوطها ويحرسها على مربأة عالية، ينتظر مغيب الشمس فيرد بها الماء. ثم يقول بعد ذلك: يَا بُؤْسَ لْلأرْضِ، مَا غَالَتْ غَوَائِلُهَا ... مِنْ حُكْمِ عَدْلٍ وَجُودٍ غَيْرِ مَكْفُوفِ!! على جَنَابَيْهِ مِنْ مَظَلُومَةٍ قِيَمٌ ... تَعَاوَرَتْهَا مَسَاحٍ كَالْمَنَاسِيفِ لَهَا صَوَاهَلُ فِي صُمِّ السِّلامِ، كَمَا ... صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ كَأنَّهُنَّ بِأَيْدِي الْقَوْمِ فِي كَبَدٍ ... طَيْرٌ تَكَشفُ عَنْ جُونٍ مَزَاحِيفِ قوله: "جنابيه" أي: جانبيه."مظلومة": حفرت ولم تكن حفرت من قبل، يعني أرض لحده."قيم" جمع"قامة": يعني ما ارتفع من ركام تراب القبر. و"المساحي" جمع"مسحاة": وهي المجرفة من الحديد. و"المناسيف" جمع"منسفة"، وهي آلة يقلع بها البناء وينسف، أصلب وأشد من المسحاة. و"الصواهل" جمع"صاهلة" مصدر على"فاعلة"، بمعنى"الصهيل": وهو صوت الخيل الشديد، وكل صوت يشبهه. و"الصم" جمع"أصم"، يعني أنها حجارة صلبة تصهل منها المساحي. و"السلام" (بكسر السين) الصخور. و"الصياريف"هم"الصيارف"، وزاد الياء للإشباع. و"الكبد": الشدة. و"الجون": السود. و"مزاحيف"، تزحف من الإعياء، يعني إبلا قد هلكت من الإعياء. شبه المساحي بأيدي القوم وهم يحفرون قبره، بنسور تقع على الإبل المعيية، ثم تنهض، ثم تعود فتسقط عليها. وكان قبر عثمان في حرة المدينة ذات الحجارة السود، فلذلك قال: "عن جون مزاحيف". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 يصف بذلك وقع مَسَاحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور، وهي"السِّلام". * * * قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك، قراءة من قرأ: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً) على"فعيلة"، لأنها أبلغ في ذم القوم من"قاسية". وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوله:"فعيلة" من"القسوة"، كما قيل:"نفس زكيّة" و"زاكية"، و"امرأة شاهدة" و"شهيدة"، لأن الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقَهم وكفرِهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان، فتكون قلوبهم موصوفة بأنّ إيمانها يخالطه كفر، كالدراهم القَسِيَّة التي يخالط فضَّتها غشٌّ. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودَنا من بني إسرائيل قَسِيَّة، منزوعا منها الخير، مرفوعًا منها التوفيق، فلا يؤمنون ولا يهتدون، فهم لنزعِ الله عز وجل التوفيقَ من قلوبهم والإيمانَ، يحرّفون كلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 ربِّهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة، فيبدّلونه، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جل وعز على نبيهم، ثم يقولون لجهال الناس: (1) "هذا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، والتوراة التي أوحاها إليه". (2) وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود، ممن أدرك بعضُهم عصرَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عِدَاد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرَك موسى منهم، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله، والفرية عليه، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة، كما:- 11586 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يحرّفون الكلم عن مواضعه" يعني: حدود الله في التوراة، ويقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} يعني تعالى ذكره بقوله:"ونسوا حظًّا" وتركوا نصيبا، وهو كقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة: 67] أي: تركوا أمر الله فتركهم الله. (3) * * * وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. (4) * * * وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) في المطبوعة: "ويقولون"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"تحريف الكلم عن مواضعه" فيما سلف 2: 248/8: 430-432. (3) انظر تفسير"النسيان" فيما سلف 2: 9، 476/5: 164/6: 133- 135. (4) انظر التعليق السالف، وتفسير"حظ" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 ذكر من قال ذلك: 11587 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ونسوا حظًّا مما ذكروا به" يقول: تركوا نصيبًا. 11588 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله:"ونسوا حظًّا مما ذكروا به" قال: تركوا عُرَى دينهم، ووظائفَ الله جل ثناؤه التي لا تُقْبل الأعمال إلا بها. (1) .............................................. ................................................ (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا محمد تَطَّلع من اليهود= الذين أنبأتك نبأهم، من نقضهم ميثاقي، ونكثهم   (1) "الوظائف" جمع"وظيفة"، وهي من كل شيء، ما يقدر له في كل يوم من رزق أو طعام أو علف أو شراب. ثم قالوا: "وظف الشيء على نفسه توظيفا"، أي: ألزمها إياه، وقالوا: "عليه كل يوم وظيفة من عمل"، أي: ما ألزم عمله في يومه هذا. وعنى الحسن بقوله"وظائف الله"، فروضه التي ألزمها عباده في الإيمان به، وطاعته، وإخلاص النية له سبحانه. وهذا حرف ينبغي تقييده في كتب اللغة، من كلام الحسن رضي الله عنه. (2) وضعت هذه النقط دلالة على سقط أو خرم في نسخ ناسخ المخطوطة. وذلك أنه كتب في أول تفسير هذا الجزء من الآية: "ونسوا حظًا"، ثم ساق كلام أبي جعفر إلى آخر الخبر رقم: 11588. ثم بدأ بعد ذلك هكذا: "القول في تأويل قوله عز ذكره: "مما ذكروا به" = ثم ساق تفسير الجزء التالي من الآية، وهو: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم". ولم يكتب هذا الجزء من الآية، والتفسير تفسيرها. فاتضح من ذلك أن الناسخ نسى تفسير"مما ذكروا" فسقط منه. ولم يذكر الآية التي يفسرها كلام أبي جعفر. هذا، وانظر معنى"التذكير" فيما سلف 5: 580/6: 62-65، 211. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 عهدي، مع أياديَّ عندهم، ونعمتي عليهم= على مثل ذلك من الغدر والخيانة="إلا قليلا منهم"، إلا قليلا منهم [لم يحزنزا] . (1) * * * و"الخائنة" في هذا الموضع: الخيانة، وُضع وهو اسمٌ- موضع المصدر، كما قيل:"خاطئة"، للخطيئة (2) و"قائلة" للقيلولة. * * * وقوله:"إلا قليلا منهم"، استثناء من"الهاء والميم" اللتين في قوله:"على خائنة منهم". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 11589 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: على خيانة وكذب وفجور. 11590 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعزّ:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: هم يهودُ مِثْلُ الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم.   (1) في المطبوعة، وقف عند قوله: "إلا قليلا منهم"، وأسقط: "إلا قليلا منهم لم يخونوا". وفي المخطوطة سقط من الناسخ"لم يخونوا" فكتب"إلا قليلا منهم، إلا قليلا منهم". واستظهرت"لم يخونوا"ووضعتها بين قوسين، من قوله بعد: إنه استثناء من الهاء والميم في"خائنة منهم". (2) في المطبوعة: "خاطئة، للخطأة"، كأنه استنكرها، وسيأتي في تفسير أبي جعفر 29: 33 (بولاق) في تفسير قوله تعالى: "والموتفكات بالخاطئة"، قال، "بالخاطئة، يعني بالخطيئة". وهكذا كتب أبو جعفر كما ترى، وإن كان لا يعجبني هذا التمثيل، بل كنت أوثر أن يقول إنه مصدر جاء على فاعلة، مثل"العافية". إلا أن يكون أبو جعفر أراد أن"الخطيئة" مصدر على"فعيلة" كالشبيبة والفضيحة، وأشباهها، وهي قليلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 11591 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 11592 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد وعكرمة قوله:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" من يهود مثلُ الذي همُّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم. * * * وقال بعض القائلين: (1) معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، قال: والعرب تزيد"الهاء" في آخر المذكر كقولهم:"هو راوية للشعر"، و"رجل علامة"، وأنشد: (2) حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالوَفَاءِ ولَمْ تَكُنْ ... لِلغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ (3)   (1) ما أشد استنكار أبي جعفر لمقالات أبي عبيدة معمر بن المثنى، حتى يذكره مجهلا بأساليب مختلفة!! وهذا الآتي هو نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 158. (2) هو رجل من السواقط، من بني أبي بكر بن كلاب. و"السواقط" هم الذين يردون اليمامة لامتياز التمر. (3) الكامل للمبرد 1: 211، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 158، وإصلاح المنطق: 295، واللسان (صبع) (غلل) (خون) . وهذا من شعر له خبر. وذلك أن هذا الشاعر لما ورد اليمامة كان معه أخ له جميل، فنزل جارا لعمير بن سلمى، فقال قرين أخو عمير للكلابي: "لا تردن أبياتنا بأخيك هذا"، مخافة جماله، فرآه قرين بين أبياتهم بعد، وأخوه عمير غائب، فقتله. فجاء الكلابي قبر سلمى (أبي عمير، وقرين) فاستجار به وقال: وَإِذَا اسْتَجَرْتَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَاسْتَجِرْ ... زَيْدَ بن يَرْبُوعٍ وَآلَ مُجَمِّعِ وَأَتَيْتُ سُلْمِيَّا فَعُذْتُ بِقَبْرِهِ ... وَأَخُو الزَّمَانَةِ عَائِذٌ بِالأمْنَعِ أَقَرِينُ إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ فَوَارِسِي ... بِعَمَايَتَيْنَ إِلَى جَوَانِبِ ضَلْفَعِ حَدَّثْتَ نَفْسَك .................. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فلجأ قرين إلى وجوه بني حنيفة (وهم زيد بن يربوع، وآل مجمع) ، فحملوا إلى الكلابي ديات مضاعفة، فأبى أن يقبلها. فلما قدم عمير، فقالت له أمه: "لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله"، فأبى الكلابي أن يقبل. فأخذ عمير أخاه قرينًا فقتله، وقال: قَتَلْنَا أَخَانَا لِلْوَفَاءِ بِجَارِنَا ... وَكَانَ أَبُونَا قَدْ تُجِيرُ مَقابِرُهْ وقالت أم عمير لعمير: تَعُدُّ مَعَاذِرًا لا عُذْرَ فِيهَا ... وَمَنْ يَقْتُلْ أَخَاهُ فَقَدْ أَلاَمَا وقوله: "أخو الزمانة"، هي العاهة، يريد ضعفه عن درك ثأره. و"عمايتان" و"ضلفع" مواضع من بلاد هذا الكلابي. وقوله"مغل الإصبع"، كناية عن الخيانة والسرقة."أغل يغل": خان الأمانة خلسة. ويقول بعضهم: "مغل الإصبع"، منصوب على النداء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 فقال:"خائنة"، وهو يخاطب رجلا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في ذلك، القولُ الذي رويناه عن أهل التأويل. لأنّ الله عنى بهذه الآية، القوم من يهود بني النضير الذين همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريّين، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد همُّوا به. ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفِه أخبار أوائلهم، وإعلامه منهج أسلافهم، وأنَّ آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة، لئلا يكبُر فعلُهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال جل ثناؤه: ولا تزال تطَّلع من اليهود على خيانة وغدرٍ ونقضِ عهد= ولم يرد أنّه لا يزال يطلع على رجل منهم خائنٍ. وذلك أن الخبر ابتُدِئ به عن جماعتهم فقيل:"يا أيها الذين آمنوا اذكرُوا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، ثم قيل:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم"، فإذ كان الابتداء عن الجماعة، فالختْمُ بالجماعة أولى. (1) * * *   (1) في المطبوعة: "فلتختم بالجماعة أولى"، ولست أدري فيم يغير الصواب المستقيم! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) } قال أبو جعفر: وهذ أمر من الله عز ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله جل وعز له: اعف، يا محمد، عن هؤلاء اليهود الذين همُّوا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جُرْمهم بترك التعرُّض لمكروههم، فإني أحب من أحسنَ العفو والصَّفح إلى من أساء إليه. (1) * * * وكان قتادة يقول: هذه منسوخة. ويقول: نسختها آية"براءة": (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) الآية [سورة التوبة: 29] . 11593 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاعف عنهم واصفح"، قال: نسختها: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) . 11594 - حدثني المثني قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"فاعف عنهم واصفح إنّ الله يحب المحسنين"، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح. ثم نسخ ذلك في"براءة" فقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29] ، وهم أهل الكتاب، فأمر الله   (1) انظر تفسير"العفو" فيما سلف من فهارس اللغة = وتفسير"الصفح" فيما سلف 2: 503 = وتفسير"المحسنين"، فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقرُّوا بالجزية. 11595 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة، نحوه. * * * قال أبو جعفر: والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانهُ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله، فأمَّا ما كان غير نافٍ جميعَه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو عن اليهود. وإذ كان ذلك كذلك= وكان جائزًا مع إقرارهم بالصَّغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمرُ بالعفو عنهم في غَدْرة همُّوا بها، أو نكثةٍ عزموا عليها، ما لم يَنْصِبُوا حربًا دون أداء الجزية، (1) ويمتنعوا من الأحكام اللازمَتِهم (2) = لم يكن واجبا أن يحكم لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) الآية، بأنه ناسخ قوله:"فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين". * * *   (1) في المطبوعة: "ما لم يصيبوا حربًا"، والصواب المحض من المخطوطة. يقال: "نصب له الحرب نصبًا": وضعها وأظهرها، وأعلنها. و"ناصبه الحرب والعداوة": أي أظهرها ولج في إظهارها. (2) في المطبوعة: "اللازمة منهم"، غير صواب المخطوطة، إلى ما درج عليه كلام أمثاله، وقد مضى مثل ذلك مرارًا، ومضى مثل ذلك من فعل الناشر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وأخذنا من النصارى الميثاقَ على طاعتي وأداء فرائضي، واتباع رسلي والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذتُه عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود، فبدلوا كذلك دينَهم، ونقضوه نقضَهم، (1) وتركوا حظّهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي، وضيَّعوا أمري، (2) كما:- 11596 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا مما ذكروا به"، نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهدَ الله الذي عهده إليهم، وأمرَ الله الذي أمرهم به. 11597 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالت النصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظًّا مما ذكروا به. * * *   (1) في المطبوعة: "ونقضوا"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"أخذ الميثاق" فيما سلف ص: 110، تعليق: 1، والمراجع هناك= وتفسير"النسيان" و"الحظ" فيما سلف ص: 129، تعليق: 3، 4، والمراجع هناك= وتفسير"التذكير" فيما سلف ص: 130، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فأغرينا بينهم" حرّشنا بينهم وألقينا، كما تغري الشيء بالشيء. يقول جل ثناؤه: لما ترك هؤلاء النصارى، الذين أخذتُ ميثاقهم بالوفاء بعهدي، حظَّهم مما عهدتُ إليهم من أمري ونهيي، أغريتُ بينهم العداوة والبغضاء. * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة"إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة، والبغضاء". (1)   (1) انظر تفسير"البغضاء" فيما سلف 7: 146. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حَدَثت بينهم. ذكر من قال ذلك: 11598 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي في قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: هذه الأهواء المختلفة والتباغُض، فهو الإغراء. 11599 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب قال: سمعت النخعي يقول:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: أغرى بعضهم ببعض بخصُومات بالجدال في الدين. 11600 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي والتّيمي، قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: ما أرى"الإغراء" في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة= وقال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تُحْبِط الأعمال. * * * وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء. ذكر من قال ذلك: 11601 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" الآية، إنّ القوم لما تركوا كتابَ الله، وعصَوْا رسله، وضَيّعوا فرائضه، وعطّلوا حدُوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، بأعْمالهم أعمالِ السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمرَه، ما افترقوا ولا تباغَضُوا. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأولين في ذلك عندنا بالحق، تأويلُ من قال:"أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم"، كما قال إبراهيم النخعي، لأن عداوة النصارى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 بينَهم، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواءٌ، لا وحيٌ من الله. * * * واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بـ"الهاء والميم" اللتين في قوله:"فأغرينا بينهم". فقال بعضهم: عني بذلك اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولِهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظًّا مما ذكّروا به. ذكر من قال ذلك: 11602 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وقال في النصارى أيضا:"فنسوا حظًّا مما ذكروا به"، فلما فعلوا ذلك، أغرى الله عز وجل بينَهم وبين اليهود العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة. 11603 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، قال: هم اليهود والنصارى. قال ابن زيد: كما تُغْري بين اثنين من البهائم. 11604 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: اليهود والنصارى. 11605 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11606 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة قال: هم اليهود والنصارى، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. * * * وقال آخرون: بل عنى الله بذلك النصارَى وحدَها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى، عقوبةً لها بنسيانها حظًّا مما ذكرت به. قالوا: وعليها عادت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 "الهاء والميم" في"بينهم"، دون اليهود. ذكر من قال ذلك: 11607 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، (1) عن أبيه، عن الربيع قال: إن الله عز ذكره تقدَّم إلى بني إسرائيل: أن لا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرًا، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، فأخذُوا الرّشوة في الحكم، وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [سورة المائدة: 64] ، وقال في النصارى:"فنسوا حظًّا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة". * * * قال أبو جعفر: وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس، وهو أنّ المعنيّ بالإغراء بينهم، النصارى، في هذه الآية خاصة= وأنّ"الهاء والميم" عائدتان على النصارى دون اليهود، لأن ذكر"الإغراء" في خبر الله عن النصارى، بعد تقضِّي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبَره عن النصارى، فلأنْ يكون ذلك معنيًّا به النصارى خاصًّة، (2) أولى من أن يكون معنيًّا به الحزبان جميعًا، لما ذكرنا. * * * فإن قال قائل: وما العداوة التي بين النصارى، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "عبيد الله بن أبي جعفر"، والصواب"عبد الله" كما أثبته، وهو"عبد الله بن أبي جعفر الرازي"، مضى مئات من المرات في الأسانيد السالفة. (2) في المطبوعة: "فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة"، وهو كلام بريء من العربية. وفي المخطوطة: "فلا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة"، وهو مثله، ولكنه سهو من الناسخ وغفلة، أخطأ فكتب"فلأن يكون""فلا يكون"، ثم زاد"إلا". وهذا كله فساد، صوابه ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 قيل: ذلك عداوة النسطوريةِ واليعقوبيةِ، والملكيةَ= والملكيةِ النسطوريةَ واليعقوبيةَ. (1) وليس الذي قاله من قال:"معنيٌّ بذلك: إغراء الله بين اليهود والنصارى" ببعيد، غير أن هذا أقرب عندي، وأشبهُ بتأويل الآية، لما ذكرنا. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم: اعفُ عن هؤلاء الذين همُّوا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم، بما كانوا في الدنيا يصنعون، من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قال أبو جعفر: يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أهل الكتاب" من اليهود والنصارى="قد جاءكم رسولنا"، يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم، كما:-   (1) في المطبوعة: "ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية واليعقوبية". وهو كلام خال من المعنى، صوابه من المخطوطة. يعني عداوة هؤلاء لهؤلاء= وعداوة هؤلاء لهؤلاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 11608 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وقوله:"يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب"، يقول: يبين لكم محمّد رسولنا، كثيرًا مما كنتم تكتمونه الناسَ ولا تُبينونه لهم ممّا في كتابكم. وكان مما يخفونه من كتابهم فبيَّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس: رَجْمُ الزَّانيين المحصنين. * * * وقيل: إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس، من إخفائهم ذلك من كتابهم. ذكر من قال ذلك: 11609 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب. قوله:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسوُلنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب"، فكان الرجمُ مما أخفوا. (1) . 11610 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبَّويه، أخبرنا علي بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. (2) .   (1) الأثر: 11609-"يحيى بن واضح"، أبو تميلة، مضى مرارا، منها: 392. و"الحسين بن واقد المروزي"، ثقة. مضى برقم: 481، 6311. و"يزيد النحوي"، هو"يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي"، ثقة، مضى برقم: 6311. وهذا إسناد صحيح، وسيأتي تخريجه في الأثر التالي. (2) الأثر: 11610-"عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي"، ثقة مضى برقم: 1909، 4612، 4923. و"علي بن الحسن بن شقيق بن دينار"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: 1591، 1909، 9951، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "علي بن الحسين"، وهو خطأ محض. وهذا إسناد صحيح أيضا، مكرر الذي قبله. وهذا الخبر أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 359 من طريق علي بن الحسن بن شقيق، بمثله، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 269، وزاد نسبته إلى ابن الضريس، والنسائي، وابن أبي حاتم. فائدة: راجع أحاديث الرجم فيما سيأتي برقم 11921-11924. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 11611 - حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم"، إلى قوله:"صراط مستقيم"، قال: إنّ نبيّ الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيتٍ، قال: أيُّكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صُوريا، فقال: أنت أعلمهم؟ قال، سل عما شئت، قال،"أنت أعلمهم؟ " قال: إنهم ليزعمون ذلك! قال: فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطُّور، وناشده بالمواثيق التي أُخذت عليهم، حتى أخذه أفْكَل، (1) فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل، فاختصرنا أُخصورةً، (2) فجلدنا مئة، وحلقنا الرءوس، وخالفنا بين الرءوس إلى الدواب (3) = أحسبه قال: الإبل= قال: فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله فيهم:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيين لكم"، الآية= وهذه الآية: (وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ   (1) "أفكل" (علي وزن أفعل) : رعدة تعلو الإنسان من برد أو خوف أو غيرهما، وليس له فعل، وأنشد ابن بري: بِعَيْشِكِ هَاتِي فَغَنِّي لَنَا ... فَإِنَّ نَدَامَاكِ لَمْ يَنْهَلُوا فَبَاتَتْ تُغَنِّي بِغِرْبَالِهَا ... غِنَاء رُوَيْدًا لَهُ أفْكَلُ (2) قوله: "فاختصرنا أخصورة"، هكذا جاءت في المخطوطة أيضا. وفي تفسير أبي حيان 3: 447"فاختصرنا فجلدنا مئة مئة"، وحذف"أخصورة". ولم أجد لها في اللغة ذكرًا، بمعنى: شيئًا من الاختصار. والذي في الكتب"الخصيري" (بضم الخاء وفتح الصاد وسكون الياء بعدها راء مفتوحة) ، وهي: حذف الفضول من كل شيء، مثل"الاختصار". فلعل صواب العبارة: "فاختصرنا خصيري"، أي اختصارا من حكم الرجم. وتركت ما في المطبوعة والمخطوطة، مخافة أن يكون في الكلمة تحريف لم أهتد إليه. (3) في تفسير أبي حيان"وخالفنا بين الرءوس على الدبرات"، وكأنه خطأ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة: 76] . (1) * * * وقوله:"ويعفو عن كثير" يعني بقوله:"ويعفو"، ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم، وهو التوراة، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به. (2) . * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب:"قد جاءكم"، يا أهل التوراة والإنجيل="من الله نور"، يعني بالنور، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق، تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب. (3) * * * وقوله:"وكتاب مبين"، يقول: جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحقِّ،="وكتاب مبين"، يعني كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله   (1) الأثر: 11611- في هذا الأثر، ذكر سبب نزول آية"سورة البقرة": 76، ولم يذكره أبو جعفر في تفسير الآية هناك (2: 250-254) ، مع أنه يصلح أن يكون وجهًا آخر في تفسير الآية، وأن يكون مرادًا بها"الرجم". فهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره، وهو أيضا وجه من وجوه منهجه في اختصاره. (2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"نور" فيما سلف 9: 428. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين للناس جميع ما بهم الحاجةُ إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله. (1) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} قال أبو جعفر: يعني عز ذكره: يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله= ويعني بقوله:"يهدي به الله"، يرشد به الله ويسدِّد به، (2) = و"الهاء" في قوله:"به" عائدة على"الكتاب"="من اتبع رضوانه"، يقول: من اتبع رِضَى الله. (3) * * * واختلف في معنى"الرضى" من الله جل وعز. فقال بعضهم: الرضى منه بالشيء"، القبول له والمدح والثناء. قالوا: فهو قابل الإيمان، ومُزَكّ له، ومثنٍ على المؤمن بالإيمان، وواصفٌ الإيمانَ بأنه نور وهُدًى وفصْل. (4) * * * وقال آخرون: معنى"الرضى" من الله جل وعز، معنى مفهوم، هو   (1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"يهدي" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"الرضوان" فيما سلف 6: 262/9: 480. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "وفضل" بالضاد المعجمة، و"الفصل" هنا هو حق المعنى، لأنه يفصل بين الحق والباطل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 خلاف السخط، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني:"الرضى" الذي هو خلاف السخط، وليس ذلك بالمدح، لأن المدح والثناء قولٌ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رُضِي. قالوا: فالرضا معنًى، و"الثناء" و"المدح" معنًى ليس به. * * * ويعني بقوله:"سُبُل السلام"، طرق السلام (1) = و"السلام"، هو الله عزَّ ذكره. 11612 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من اتبع رضوانه سبل السلام"، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: يهدي الله بهذا الكتاب المبين، من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام وشرائع دينه="ويخرجهم"، يقول: ويخرج من اتبع رضوانه= و"الهاء والميم" في:"ويخرجهم" إلى من ذُكر="من الظلمات إلى النور"، يعني: من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإسلام وضيائه (2) ="بإذنه"، يعني: بإذن الله جل وعز. و"إذنه في هذا الموضع: تحبيبه إياه الإيمان برفع طابَع الكفر عن قلبه، وخاتم الشرك عنه، وتوفيقه لإبصار سُبُل السّلام. (3) * * *   (1) انظر تفسير"سبيل" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"من الظلمات إلى النور" فيما سلف 5: 424-426. (3) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 8: 516، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } قال أبو جعفر: يعني عز ذكره بقوله:"ويهديهم"، ويرشدهم ويسددهم (1) ="إلى صراط مستقيم"، يقول: إلى طريق مستقيم، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه. (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} قال أبو جعفر: هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية، الذين ضلُّوا عن سبل السلام= واحتجاجٌ منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فِرْيتهم عليه بادّعائهم له ولدًا. يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم= و"كفرهم" في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا عليه. (3) * * * وقد بينا معنى:"المسيح" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) . * * *   (1) انظر تفسير"يهدي" في فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 8: 529، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف 9: 417، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 القول في تأويل قوله عز ذكره: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلُّوا عن سواء السبيل بقيلهم: إنّ الله هو المسيح ابن مريم:"من يملك من الله شيئًا"، يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا، فيردّه إذا قضاه. * * * = من قول القائل:"ملكت على فلان أمره"، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرًا إلا به. (1) * * * وقوله:"إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا"، يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا، إن شاء أن يهلك المسيح بن مريم، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا. (2) * * * يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح كما تزعمون= أنّه هو الله، وليس كذلك= لقدر أن يردَّ أمرَ الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه. وقد أهلك أمَّه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذْ نزل ذلك. ففي ذلك لكم معتَبرٌ إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم: في أن المسيح، بَشَر كسائر بني آدم، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردُّ له   (1) هذا بيان قلما تصيبه في كتب اللغة. (2) انظر تفسير"الإهلاك" فيما سلف 4: 239، 240/9: 430. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 أمر، بل هو الحيُّ الدائم القيُّوم الذي يحيي ويميت، وينشئ ويفني، وهو حي لا يموت. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ} قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى بذلك: والله له تصريف ما في السموات والأرض وما بينهما (1) = يعني: وما بين السماء والأرض= يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه، ويوجد ما أراد ويعدم ما أحبّ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه دافع، يُنْفِذ فيهم حكمه، ويُمضي فيهم قضاءه= لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربُّه وإهلاكَ أمّه، لم يملك دفع ما أراد به ربُّه من ذلك. * * * يقول جل وعز: كيف يكون إلهًا يُعبد من كان عاجزًا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادرٍ على صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود، الذي له ملك كل شيء، وبيده تصريف كل من في السماءِ والأرض وما بينهما. * * * فقال جل ثناؤه:"وما بينهما"، وقد ذكر"السموات" بلفظ الجمع، ولم يقل:"وما بينهن"، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، كما قال الراعي:   (1) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 8: 48، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَاهِمِي، أَقْرِيهِمَا ... قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالقِسِيِّ وَحُولا (1) فقال:"طرقا"، مخبًرا عن شيئين، ثم قال:"فتلك هَمَاهمي"، فرجع إلى معنى الكلام. * * * وقوله:"يخلق ما يشاء"، يقول جل ثناؤه: وينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهَّار. وإنما يعني بذلك، أنّ له تدبير السموات والأرض وما بينهما وتصريفه، وإفناءه وإعدامه، وإيجادَ ما يشاء مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف زعمتم، أيها الكذبة، أنّ المسيح إله، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه، ولا اجتلابِ نفعٍ إليها إلا بإذني؟ * * *   (1) من قصيدته في جمهرة أشعار العرب: 173، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118، 160، يقول لابنته خليدة: لَمَّا رَأَتْ أَرَقِي وَطُولَ تَلَدُّدِي ... ذَاتَ الْعِشَاء وَلَيْلَيِ الْمَوْصُولا قَالَتْ خُلَيْدَةُ: مَا عَرَاكَ، وَلَمْ تَكُنْ ... أَبَدًا إِذَا عَرَتِ الشُّئُونُ سَؤُولا أَخُلَيْدَ، إِنَّ أَبَاكِ ضَافَ وِسَادَهُ ... هَمَّان باتَا جَنْبَةً وَدَخِيلا طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَا هِي .... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . "الهماهم": الهموم. و"قلص" جمع"قلوص": الفتية من الإبل."لواقح": حوامل، جمع"لاقح". و"الحول"، جمع"حائل"، وهي الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات، وكذلك كل حامل ينقطع عنها الحمل. يقول: أجعل قرى هذه الهموم، نوقًا هذه صفاتها، كأنها قسى موترة من طول أسفارها، فأضرب بها الفيافي. والشاهد الذي أراده الطبري أنه قال: "فتلك هماهمي"، وقد ذكر قبل"همان"، ثم عاد بعد يقول: "أقريهما"، وقد قال: "فتلك هماهمي" جمعًا. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118، 160. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) } قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: الله المعبودُ، هو القادر على كل شيء، والمالك كلَّ شيء، الذي لا يعجزُه شيء أراده، ولا يغلبه شيء طلبه، المقتدرُ على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا = لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نزل به من الله، ولا منْعِ أمّه من الهلاك. (1) * * *   (1) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول. * * * وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود. 11613 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن أضَاء (1) وبحريّ بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تُخَوّفنا،   (1) في المطبوعة: "نعمان بن أحي، ويحرى بن عمرو.."، وفي المخطوطة: "عثمان بن أصار ويحوى بن عمرو ... "، وكلاهما خطأ، وصوابه من سيرة ابن هشام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 يا محمد!! نحن والله أبناء الله وأحبَّاؤه!! (1) = كقول النصارى، فأنزل الله جل وعز فيهم:"وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"، إلى آخر الآية. (2) * * * وكان السدي يقول في ذلك بما: 11614 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"، أما"أبناء الله"، فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك، (3) أدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أن أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [سورة آل عمران: 24] . وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله. (4) * * * والعرب قد تخرج الخبرَ، إذا افتخرت، مخرجَ الخبر عن الجماعة، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول:"نحن الأجواد الكرام"، وإنما الجواد فيهم واحدٌ منهم، وغير المتكلِّم الفاعلُ ذلك، كما قال جرير: نَدَسْنَا أَبَا مَنْدُوسَةَ القَيْنَ بِالقَنَا ... وَمَارَ دَمٌ مِنْ جَارِ بَيْبَةَ نَاقعُ (5)   (1) في المخطوطة: "نحن أبناء الله وأحباءه، بل أنتم بشر ممن خلق"، وهو من عجلة الناسخ لا شك في ذلك. (2) الأثر: 11613- سيرة ابن هشام 2: 212، وهو تابع الأثر السالف رقم: 11557. (3) في المخطوطة: "إلى بني إسرائيل إن ولدك من الولد فأدخلهم النار"، وهو خلط بلا معنى، صوابه ما في المطبوعة على الأرجح. (4) الأثر: 11614- لم يمض هذا الأثر في تفسير آية سورة البقرة: 80 (2: 274-278) ، ولا آية سورة آل عمران: 24 (6: 292، 293) . وهذا أيضا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره. (5) ديوانه: 372، والنقائض: 693، واللسان (بيب) (مور) (ندس) . و"ندس": طعن طعنًا خفيفًا. و"أبو مندوسة"، هو مرة بن سفيان بن مجاشع، جد الفرزذق. قتلته بنو يربوع -قوم جرير- في يوم الكلاب الأول. و"القين" لقب لرهط الفرزدق، يهجون به. و"جاربيبة"، هو الصمة بن الحارث الجشمي، قتله ثعلبة بن حصبة، وهو في جوار الحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع، من رهط الفرزدق. و"مار الدم على وجه الأرض": جرى وتحرك فجاء وذهب. و"دم ناقع"، أي: طري لم ييبس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 فقال:"نَدَسْنَا"، وإنما النادس رجل من قوم جريرٍ غيرُه، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك، على هذا الوجه إن شاء الله. * * * وقوله:"وأحباؤه"، وهو جمع"حبيب". * * * يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل" لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم="فلم يعذبكم" ربكم، يقول: فلأي شيء يعذبكم ربكم بذنوبكم، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحبّاؤه، فإن الحبيب لا يعذِّب حبيبه، وأنتم مقرُّون أنه معذبكم؟ وذلك أن اليهود قالت: إن الله معذبنا أربعين يومًا عَدَد الأيام التي عبدنا فيها العجل، (1) ثم يخرجنا جميعًا منها، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم، كما تقولون، أبناءُ الله وأحباؤه، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره أنَّهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه="بل أنتم بشر ممن خلق"، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، (2) إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم،   (1) انظر ما سلف 6: 292. (2) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم، كما غيركم مجزيٌّ بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها. * * * وقد بينا معنى"المغفرة"، في موضع غير هذا بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) . * * * ="ويعذب من يشاء" يقول: ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه. * * * وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى المتّكلين على منازل سَلَفهم الخيارِ عند الله، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه، (2) واصطبارهم على ما نابهم فيه. (3) يقول لهم: لا تغتروا بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا ما نالوا منّي بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابِّهم= (4) لا بالأماني، فجدُّوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانزجروا عما نهيتُهم عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي= (5) لا لمن قرَّبتْ زُلْفَةُ آبائه مني، وهو لي عدوّ، ولأمري ونهيي مخالفٌ. * * *   (1) انظر ما سلف 2: 109، 110، ثم سائر فهارس اللغة. (2) في المطبوعة: "واجتنابهم معصيته لمسارعتهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وزاد"معصيته" لتستقيم له قراءته. و"الاجتباء": الاصطفاء والاختيار. (3) في المخطوطة: "إلى ما نابهم فيه"، والجيد ما في المطبوعة. (4) يقول: "نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي.. لا بالأماني". هكذا السياق. (5) يقول: "فإني أغفر ذنوب من أشاء.. لا لمن قربت زلفة آبائه مني"، هكذا السياق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وكان السدي يقول في ذلك بما:- 11615 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"، يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) } قال أبو جعفر يقول: لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وتصريفُه، وبيده أمره، وله ملكه، (1) يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف أحبّ، (2) لا شريك له في شيء منه، ولا لأحدٍ معهُ فيه ملك. فاعلموا أيها القائلون:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، أنه إن عذبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع، ولا لكم عنه دافع، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك، ولا لأحد في شيء دونه ملك، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه، (3) وإليه مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا أيها المفترون، عقابَه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالأمانيّ وفضائل الآباء والأسلاف. * * *   (1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبا ص: 148، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "كيف أحبه"، وأثبت الجيد من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "بذنبه"، وفي المخطوطة: "بدونه"، ورجحت ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب"، اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الآية. وذلك أنهم= أو: بعضهم، فيما ذكر= لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله، قالوا: ما بعثَ الله من نبيّ بعد موسى، ولا أنزل بعد التوراة كتابًا! 11616 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مَبعثه، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حُرَيملة ووهب بن يهودا (1) ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده! (2) فأنزل الله عز وجل في [ذلك من] قولهما (3) "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ والله على كل شيء قدير". (4) * * *   (1) في المطبوعة: "رافع بن حرملة"، وفي المخطوطة: "نافع بن حرملة"، وأثبت ما في سيرة ابن هشام. (2) في المخطوطة: "ولا أرسل بشيرًا ونذيرًا"، والصواب ما في المطبوعة كما في سيرة ابن هشام. (3) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام. (4) سيرة ابن هشام 2: 212، وهو تابع الأثر السالف رقم: 11613. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 ويعني بقوله جل ثناؤه:"فقد جاءكم رسولنا"، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا="يبين لكم"، يقول: يعرفكم الحقَّ، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى، (1) كما:- 11617 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرَق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمةٌ لمن أخذ به. * * * ="على فترة من الرسل"، يقول: على انقطاع من الرسل= و"الفترة" في هذا الموضع الانقطاع= يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل. * * * و"الفترة""الفعلة" من قول القائل:"فتر هذا الأمر يفتُر فُتورًا"، وذلك إذا هدأ وسكن. وكذلك"الفترة" في هذا الموضع، معناها: السكون، يراد به سكون مجيء الرسل، وذلك انقطاعها. * * * ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة. فروى معمر عنه ما:- 11618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"على فترة من الرسل" قال: كان بين عيسى ومحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة. * * *   (1) انظر تفسير"التبيين" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (بين) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما:- 11619 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمّدٍ صلى الله عليهما، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة، أو ما شاء من ذلك، والله أعلم. (1) 11620 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أصحابه قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، قال: كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة= قال معمر، قال قتادة: خمسمائة سنة وستون سنة. * * * وقال آخرون بما:- 11621 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"على فترة من الرسل"، قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، أربعمائة سنة وبضعًا وثلاثين سنة. ويعني بقوله:"أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أن لا تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جل ثناؤه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا، وكي لا تضلوا. * * * فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، كي لا تقولوا ما جاءَنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد قطَع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة. (2)   (1) كان في المطبوعة: "وما شاء الله" بالواو، وفي المطبوعة والمخطوطة: "الله أعلم" بغير واو. والصواب ما أثبت. (2) انظر ما سلف 9: 445، 446. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 ويعني بـ"البشير"، المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله، وعمل بما آتاه من عند الله، بعظيم ثوابه في آخرته (1) = وبـ"النذير"، المنذر من عصاه وكذّب رسولَه صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه، بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده، وشديد عذابه في قِيامته. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إليكم، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم، وأرسلناه إليكم ليبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم، كيلا تقولوا:"لم يأتنا من عندك رسولٌ يبيِّن لنا ما نحن عليه من الضلالة"، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه، وينذر من عصاني وخالف أمري، وأنا القادر على كل شيء، أقدر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أرادَه، ولا يفوته شيء طلبه. (2)   (1) وانظر تفسير"البشارة" فيما سلف 9: 318، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 القول في تأويل عز ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم} قال أبو جعفر: وهذا أيضا من الله تعريفٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قديمَ تمادي هؤلاء اليهود في الغيّ، وبعدِهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه وآلائه عليهم= مسلِّيًا بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما يحلّ به من علاجهم، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأسَ على ما أصابك منهم، فإن الذهابَ عن الله، والبعد من الحق، وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم= وتعزَّ بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم= واذْكُر إذ قال موسى لهم:"يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم"، يقول: اذكروا أيادِي الله عندكم، وآلاءه قبلكم، (1) كما:- 11622 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة:"اذكروا نعمة الله عليكم"، قال: أيادي الله عندكم وأيَّامه. (2) 11623 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم" يقول: عافية الله عز وجل. * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا، لأن الله لم يخصص من النعم شيئًا، بل عمَّ ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها، إذ كانت"العافية" أحد معاني"النعم".   (1) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) الأثر: 11622-"عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة الأسدي الحميدي". روى عن ابن عيينة، والشافعي وهذه الطبقة. روى عن البخاري. ومضى برقم: 9914. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 القول في تأويل جل ثناؤه: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنَّ موسى ذكَّر قومه من بني إسرائيل بأيَّام الله عندهم، وبآلائه قبلهم، مُحَرِّضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، (1) فقال لهم: اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فضّلكم، بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه، ويخبرونكم بأنباء الغيب، (2) ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا. (3) =فقيل: إن الأنبياء الذين ذكَّرهم موسى أنهم جُعلوا فيهم: هم الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا) [سورة الأعراف: 155] . * * * ="وجعلكم ملوكًا" سخر لكم من غيركم خدمًا يخدمونكم. * * * وقيل: إنما قال ذلك لهم موسى، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحدٌ سواهم يخدُمه أحد من بني آدم. ذكر من قال ذلك: 11624 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ   (1) في المطبوعة: "فحرضهم بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ويخبرونكم بآياته الغيب"، وهو كلام فارغ من المعنى، وفي المخطوطة هكذا"بآياتنا الغيب"، وصواب قراءتها ما أثبت. (3) انظر تفسير"نبي" فيما سلف 2: 140-142/6: 380، وغيرها في فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 وجعلكم ملوكًا"، قال: كنا نحدَّثُ أنهم أول من سُخِّر لهم الخدَم من بني آدم ومَلَكوا. * * * وقال آخرون: كل من ملك بيتًا وخادمًا وامرأةً، فهو"ملك"، كائنًا من كان من الناس. ذكر من قال ذلك: 11625 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا أبو هانئ: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم! قال ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال: إنّ لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك. (1) 11626 - حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال: سمعت زيد بن أسلم يقول:"وجعلكم ملوكًا" فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له بيتٌ وخادم فهو ملك. (2) 11627 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن   (1) الأثر: 11625-"أبو هانئ"، هو: "حميد بن هانئ الخولاني المصري" من ثقات التابعين، مضى: 6039، 6657. و"أبو عبد الرحمن الحبلي"، هو: "عبد الله بن يزيد المعافري"، تابعي ثقة، مضى برقم: 6657، 9483. وهذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه 18: 109، 110، من طريق أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، عن ابن وهب، بإسناده، مطولا. وقصر السيوطي في الدر المنثور 1: 270 فقال"أخرجه سعيد بن منصور"، واقتصر عليه. (2) الأثر: 11626-"الزبير بن بكار" شيخ الطبري، مضى برقم: 7855. "وأنس بن عياض بن ضمرة"، ثقة. مضى برقم: 7، 1679. والحديث خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 270، ولم ينسبه لابن جرير، ونسبه للزبير بن بكار في الموفقيات، ولأبي داود في مراسيله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 112، 113، وقال: "وهذا مرسل غريب". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: أنه تلا هذه الآية:"وجعلكم ملوكًا"، فقال: وهل المُلْك إلا مركبٌ وخادمٌ ودار؟ فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك، لأنهم كانوا يملكون الدّور والخدم، ولهم نساءٌ وأزواج. ذكر من قال ذلك: 11628 - حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور= قال: أراه عن الحكم=:"وجعلكم ملوكًا"، قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيتٌ وامرأة وخادم، عُدَّ ملكًا. 11629 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= ح، وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= عن منصور، عن الحكم:"وجعلكم ملوكًا" قال: الدار والمرأة، والخادم= قال سفيان: أو اثنتين من الثلاثة. (1) 11630 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عباس في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: البيت والخادم. 11631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: الزوجة والخادم والبيت. 11632 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وجعلكم ملوكًا" قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا. 11633 - حدثنا المثنى قال، حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "واثنتين" بالواو، والصواب من المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 أبو معاوية، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قول الله:"وجعلكم ملوكًا" قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمَّى مَلِكًا. (1) 11634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: مُلْكُهم الخدم= قال قتادة: كانوا أوَّل من مَلك الخدم. 11635 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد:"وجعلكم ملوكًا" قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا. * * * وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وجعلكم ملوكًا" أنهم يملكون أنفُسَهم وأهلِيهم وأموالهم. ذكر من قال ذلك: 11636 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجعلكم ملوكًا" يملك الرجل منكم نفسَه وأهلَه ومالَه.   (1) الأثر: 11633-"علي بن محمد بن إسحق الطنافسي"، روى عن أبي معاوية الضرير. ثقة صدوق. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/202. وكان في المخطوطة"الطيالسي"، وهو خطأ من الناسخ. و"أبو معاوية" الضرير، هو: "محمد بن خازم التميمي". ثقة كثير الحديث، كان يدلس. مضى برقم: 2783. و"حجاج بن تميم الجزري". روى عن ميمون بن مهران، وروى عنه أبو معاوية الضرير. قال النسائي: "ليس بثقة"، وقال الأزدي: "ضعيف". وقال العقيلي: "روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها". وقال ابن حبان في الثقات: "روى عن ميمون بن مهران. روى عنه أبو معاوية الضرير". مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "حجاج بن نعيم"، وهو خطأ محض كما ترى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) } قال أبو جعفر: اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب. فقال بعضهم: عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 11637 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وقال آخرون: عُنِي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 11638 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، هم قوم موسى. 11639 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قال: هم بين ظهرانيه يومئذٍ. (1) * * * ثم اختلفوا في الذي آتاهمُ الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين.   (1) الأثر 11639- هذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 311، 312، من طريق مصعب بن المقدام، عن سفيان بن سعيد، عن الأعمش، مطولا. ونصه: "الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ". وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. والذي في نص الطبري"هم بين ظهرانيه يومئذ"، الضمير بالإفراد، كأنه يعني"العالم" الذي هم بين ظهرانيه يومئذ. والخبر خرجه السيوطه في الدر المنثور 1: 269، وزاد نسبته للفريابي، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 فقال بعضهم: هو المنّ والسلوى والحجر والغمام. (1) ذكر من قال ذلك: 11640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" قال: المنّ والسلوى والحجر والغمام. 11641 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، يعني: أهل ذلك الزمان، المنَّ والسلوى والحجر والغمام. * * * وقال آخرون: هو الدَّار والخادِم والزوجة. ذكر من قال ذلك: 11642 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة. (2) 11643 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، المنّ والسلوى والحجر والغمام. * * *   (1) "الحجر"، يعني الحجر الذي ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا. وانظر ما سلف 2: 119-122. (2) الأثر: 11642-"بشر بن السري البصري"، أبو عمرو الأفوه، ثقة كثير الحديث. روى له الجماعة، وهو من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب. و"طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي"، روى عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير وغيرهما. ضعيف جدًا، قال أحمد: "لا شيء، متروك الحديث". وقال ابن عدي: "روى عنه قوم ثقات، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه". وقال ابن حبان: "لا يحل كتب حديثه ولا الرواية عنه، إلا على جهة التعجب". مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، في سياق قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم"، ومعطوفٌ عليه. (1) ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم. فإن ظن ظان أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، لا يجوز أن يكون لهم خطابًا، (2) إذ كانت أمة محمَّد قد أوتيت من كرامة الله جلّ وعزّ بنبيِّها عليه السلام محمّدٍ، ما لم يُؤتَ أحدٌ غيرهم، (3) =وهم من العالمين= (4) فقد ظنَّ غير الصواب. وذلك أن قَوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ، وعنى بذلك عالمي زمانه، لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نِعَم الله وكرامته، ما أوتي قومُه صلى الله عليه وسلم، أحد من العالمين. (5) فخرج الكلام منه صلى الله عليه على ذلك، لا على جميع [عالم] كلِّ زمان. (6) * * *   (1) لم يفهم ناشر المطبوعة عربية أبي جعفر، فجعل الكلام هكذا: "وآتاكم ما لم يوت أحدا من العالمين، خطاب لبني إسرائيل حيث جاء في سياق قوله: اذكروا نعمة الله عليكم = ومعطوفًا عليه"، فغير وزاد وأساء وخان الأمانة!! (2) في المطبوعة: "لا يجوز أن تكون خطابًا لبني إسرائيل" بزيادة"لبني إسرائيل"، وفي المخطوطة: "أن تكون له خطابا"، وصواب قراءتها ما أثبت. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "من كرامة الله نبيها عليه السلام محمدًا ما لم يؤت أحدًا غيرهم"، فأثبت زيادة المخطوطة، وجعلت"نبيها""بنبيها"، بزيادة الباء في أوله، وجعلت"أحدًا""أحد"، وذلك الصواب المحض. (4) السياق: "فإن ظن ظان.. فقد ظن غير الصواب". (5) السياق: "ولم يكن أوتي في ذلك الزمان.. أحد من العالمين". (6) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف 1: 143-146/2: 23-26/5: 375/6: 393. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من بني إسرائيل، وأمرِه إياهم =عن أمر الله إياه= بأمرهم بدخول الأرض المقدسة. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بـ"الأرض المقدَّسة". فقال بعضهم: عنى بذلك الطورَ وما حوله. ذكر من قال ذلك: 11644 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة" الطور وما حوله. 11645 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11646 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"ادخلوا الأرض المقدسة"، قال: الطور وما حوله. * * * وقال آخرون: هو الشأم. ذكر من قال ذلك: 11647 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الأرض المقدسة" قال: هي الشأم. * * * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 وقال آخرون: هي أرض أريحا. ذكر من قال ذلك: 11648 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" قال: أريحا. 11649 - حدثني يوسف بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هي أريحا. 11650 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هي أريحا. * * * وقيل: إن"الأرض المقدسة" دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ. * * * وعنى بقوله:"المقدسة" المطهرة المباركة، (1) كما:- 11651 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة"، قال: المباركة. 11652 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك. * * *   (1) انظر تفسير"التقديس" فيما سلف 1: 475، 476/2: 322. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 ويعني بقوله:"التي كتب الله لكم" التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي فيها. (1) * * * فإن قال قائل: فكيف قال:"التي كتب الله لكم"، وقد علمت أنَّهم لم يدخلوها بقوله:"فإنها محرَّمة عليهم"؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرمًا عليهم سكناها؟ قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارًا ومساكن، وقد سكنوها ونزلوها وصارت لهم، كما قال الله جل وعز. وإنما قال لهم موسى:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، يعني بها: كتبها الله لبني إسرائيل، =وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل= ولم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم. ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم ولخاص منهم= فأخرج الكلام على العموم، والمراد منه الخاص، إذ كان يُوشع وكالب قد دخلا (2) وكانا ممن خوطب بهذا القول= كان أيضًا وجهًا صحيحًا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق. 11653 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق،"التي كتب الله لكم"، التي وهب الله لكم. * * * وكان السدي يقول: معنى"كتب" في هذا الموضع، بمعنى: أمر. 11654 - حدثنا بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، التي أمركم الله بها. * * *   (1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 9: 262، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "يوشع وكلاب"، وانظر ما سلف ص: 113 تعليق: 2. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إيّاه بدخول الأرض المقدسة، أنه قال لهم: امضُوا، أيها القوم، لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة="ولا ترتدوا" يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدّين (1) ="على أدباركم" يعني: إلى ورائكم، (2) ولكن امضوا قُدُمًا لأمر الله الذي أمركم به، من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأنّ الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنًا وقرارًا. ويعني بقوله:"فتنقلبوا خاسرين"، أي: تنصرفوا خائبين هُلَّكًا. (3) * * * وقد بينا معنى"الخسارة" في غير هذا الموضع، بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع. (4) * * * فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه، إذْ أمرهم بدخول الأرض المقدسة:"لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، أوَ يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضًا جعلت له؟   (1) انظر تفسير"ارتد" فيما سلف 3: 163/4: 316. (2) انظر تفسير"الأدبار" فيما سلف 7: 109. (3) انظر تفسير"انقلب" فيما سلف 3: 163/7: 414. وكانت هذه العبارة في المخطوطة والمطبوعة: "أنكم تنصرفوا خائبين هكذا"، ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت. و"هلك" جمع"هالك". وقد مر تفسيره"الخسارة" بمعنى"الهلاك". (4) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف 9: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 قيل: إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، (1) فاستوجب القوم الخسارة بتركهم إذًا فرض الله عليهم من وجهين: أحدُهما: تضييع فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره فرضه عليهم= والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة":"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون". * * * وكان قتادة يقول في ذلك بما: 11655 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" أمروا بها، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك، (2) واعتلّوا عليه في ذلك بأن قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قومًا جبارين لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم. وسموهم"جبّارين"، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، (3) فيما ذكر لنا، قد قهروا سائر الأمم غيرهم.   (1) في المطبوعة: "كان أمره"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "إجابة إلى ما أمرهم"، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "بشدة بطشهم"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 وأصل"الجبار"، المصلح أمر نفسه وأمر غيره، ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ الإصلاح لها، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له= بغيًا على الناس، وقهرًا لهم، وعتوًّا على ربه="جبار"، وإنما هو"فعّال" من قولهم:"جبر فلان هذا الكسر"، إذا أصلحه ولأمه، ومنه قول الراجز: (1) قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ ... وَعَوَّرَ الرَّحمنُ مَنْ وَلَّي العَوَرْ (2) يريد: قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى ذكره"الجبار"، لأنه المصلحُ أمرَ عباده، القاهرُ لهم بقدرته. * * * ومما ذكرته من عظم خلقهم ما:- 11656 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قصة ذكرها من أمر مُوسى وبني إسرائيل، قال، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا= وهي أرض بيت المقدس= فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثنى عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبَّارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له:"عاج"، (3) فأخذ الاثنى عشر فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حَمْلة حطب، (4) وانطلق بهم   (1) هو العجاج. (2) ديوانه: 15، واللسان (جبر) (عور) ، وهو أول أرجوزته التي مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد مضت منها أبيات، وذكرنا خبرها فيما سلف، انظر 1: 190/2: 157/3: 229/4: 321. وقوله: "قد جبر الدين الإله"، من قولهم: "جبرت العظم" متعديًا، "فجبر"، لازمًا، أي: انجبر العظم نفسه. و"العور" في هذا الشعر هو قبح الأمر وفساده، وترك الحق فيه، وليس من عور العين. و"عور الشيء" قبحه. يدعو فيقول: قبح الله من اتبع الفساد واستقبله بوجهه. من قولهم"ولي الشيء وتولاه"، أي اتبعه وفي التنزيل: "ولكل وجهة هو موليها"، أي مستقبلها ومتبعها، فهذا تفسير البيت بلا خلط في تفسيره. (3) في المطبوعة: "عوج"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما سلف رقم: 11572، وتاريخ الطبري. (4) انظر ما سلف ص 112 تعليق: 1، 2، وما غيره، مصحح المطبوعة السالفة هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 إلى امرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخْبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك. (1) 11657 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبَّارين. قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة =وهي أريحاء= فبعث إليهم اثنى عشر عينًا، من كل سبطٍ منهم عينًا، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، وتتبعهم. فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عايَنُوا من أمرهم. 11658 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن فيها قومًا جبَّارين"، ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخِلَقٌ ليست لغيرهم. 11659 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن موسى عليه السلام قال لقومه:"إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم"= وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا، فقال:"سيروا إليهم وحدِّثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله، وعزرتموهم، وأقرضُتم الله قرضًا حسنًا"= وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم، (2) فرأوا أقوامًا لهم أجسام عجبٌ عظمًا   (1) الأثر: 11656- مضى مطولا برقم: 11572، وهو في تاريخ الطبري 1: 221، 222. (2) في المطبوعة: "ثم إن القوم"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 وقوة، وإنه =فيما ذكر= أبصرهم أحد الجبَارين، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب. فأخذ ذلك الجبّار منهم رجالا فأتى رئيسَهم، فألقاهم قدّامه، فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم:"فإنّ هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم"!! (1) وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقُتلوا، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب. 11660 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر نقيبًا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدُوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، يلقونهم إلقاءً، ولا يحمل عنقود عِنبهم إلا خمسة أنفُسٍ بينهم في خشبة، ويدخُل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة. (2) 11661 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 11662 - حدثني محمد بن الوزير بن قيس، عن أبيه، عن جويبر، عن الضحاك:"إن فيها قومًا جبارين" قال: سِفْلة لا خَلاقَ لهم. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "إن هؤلاء"، بحذف الفاء، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 11660- مضى هذا الأثر برقم: 11573، 11574. (3) الأثر: 11662-"محمد بن وزير بن قيس الواسطي"، روى عن أبيه، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم. روى عنه الترمذي وابن أبي حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/115. وأبوه"وزير بن قيس الواسطي"، روى عن جويبر. مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/44. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قولِ قوم موسى لموسى، جوابًا لقوله لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، فقالوا:"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، يعنون: [حتى يخرج] من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها، (1) جبنًا منهم، وجزعًا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الجبارون دخلناها، وإلا فإنا لا نُطيق دخولها وهم فيها، لأنه لا طاقة لنا بهم ولا يَدَان. (2) 11663 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن كالب بن يافنا، أسكت الشعْبَ عن موسى صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثُها، وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر، وقالوا: إنّا مررنا في أرض وحسسناها، فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالهَا جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسُوا على موسى وهارون، (3) فقالوا لهما: يا ليتنا مِتنا في أرض مصر! وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمًة! ولو كنا قعودًا في أرض مصر، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر. * * *   (1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق. (2) في المطبوعة: "ولا يد"، وفي المخطوطة"ولا يدان" غير منقوطة. (3) "وسوس عليه"، انظر تفسيرها في الأثر رقم: 11697 ص: 195، تعليق: 7. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصَّالحين من قوم موسى:"يوشع بن نون" و"كالب بن يافنا"، أنهما وفَيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومِه بني إسرائيل= الذين أمرَهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين= بما رأيا وعاينا من شدّة بطش الجبابرة وعِظم خلقهم، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه، كما:- 11664 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= ح، وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن منصور، عن مجاهد:"قال: رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: كلاب بن يافنا، (1) ويوشع بن نون. 11665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد قال:"رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: يوشع بن نون، وكلاب بن يافنا، (2) وهما من النقباء. 11666 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قصة ذكرها، قال: فرجع النقباء، كلُّهم ينهى سِبْطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكلاب بن يافنة، (3) يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم، فعصوهما، وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. (4)   (1) في المطبوعة الموضعين: "يوفنة"، وفي المخطوطة في الموضعين: "فانيا"، وانظر ص: 113 تعليق: 2. (2) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر التعليق على الأثر: 11573. (3) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر التعليق على الأثر: 11573. (4) الأثر: 11666- مضى هذا الخبر برقم: 11573، ومضى صدره قريبًا برقم: 11660. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 11667 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثل حديث ابن بشار، عن ابن مهدي= إلا أنّ ابن حميد قال في حديثه: هما من الاثنى عشر نقيبًا. 11668 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس في قصة ذكرها. قال: فرجعوا= يعني النقباء الاثنى عشر= إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة. (1) قال: فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابنَ عمه، إلا هذين الرجلين= يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة= فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدًا، وهما اللذان قال الله عز وجل:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، إلى قوله:"وبين القوم الفاسقين". 11669 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وهما اللذان كتماهم: يوشع بن نون فتى موسى، (2) وكالوب بن يوفنة ختَنُ موسى. 11670 - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، كالوب، ويوشع بن النون فتى موسى. (3) 11671 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) "فشل": جبن ونكص. (2) في المخطوطة: "هو يوشع بن النون"، وأظن أصلها"هوشع بن النون"، كما سلف في ص: 113، تعليق: 2. وكان في المطبوعة هنا"نون"، فأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "بن نون"، في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل: يوشع بن النون، وكالوب بن يوفنة. 11672 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ذكر لنا أن الرجلين: يوشع بن نون وكالب. 11673 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن موسى قال للنقباء لمَّا رجعوا فحدثوه العجبَ:"لا تحدثوا أحدًا بما رأيتم، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم" =وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، (1) كان أحدهما، فيما سمعنا، يوشع بن نون وهو فتى موسى، والآخر كالب- فقالا"ادخلوا عليهم الباب" إلى"إن كنتم مؤمنين". (2) * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"قال رجلان من الذين يخافون". قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بفتح"الياء" من"يخافون"، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفًا، أنهما يوشع بن نون وكالب، من قوم موسى، ممن يخاف الله، وأنعمَ عليهما بالتوفيق. * * *   (1) في المخطوطة: "فقام رجلان هما اللذان يخافون.."، والذي في المطبوعة هو الصواب. (2) في المطبوعة: "ادخلوا عليهما الباب إن كنتم مؤمنين"، وهو غير صواب، والصواب من المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 وكان قتادة يقول: في بعض القراءة: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) . 11674 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة= ح، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، في بعض الحروف: (يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) . * * * وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأوَّل ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال: يوشع، وكالب. * * * وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يُخَافُونَ) بضم الياء (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) . 11675 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب= ولا نعلمه أنه سمع منه= عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرؤها بضم الياء من: (يُخافُونَ) . وكأن سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما واتَّبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل، (1) وإن كانوا لهم في الدين مخالفين. (2) * * * وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس.   (1) في المخطوطة: "فهم من أولاد الجبابرة"، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المطبوعة: "وإن كانا لهم في الدين مخالفين"، وفي المخطوطة: "وإن كانوا لهم في الدنيا مخالفين"، والصواب المحض ما أثبته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 11676 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، قال: هي مدينةُ الجبارين. لما نزل بها موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا= وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم (1) = ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثَنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبَّة من عِنب بوِقْر الرجل، (2) فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قَدْر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى:"اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"! ="قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وكانا من أهل المدينة أسلَما واتّبعا موسى وهارون، فقالا لموسى:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكَّلوا إن كنتم مؤمنين". * * * قال أبو جعفر: فعلى هذه القراءة وهذا التأويل، لم يكتم من الاثنى عشر نقيبًا أحدٌ، ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة، وشدة بطشهم، وعجيب أمورهم، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى:"ادخلوا عليهم الباب"، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخولَ عليهم من الجبابرة، كان أسلما وتبعا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ:   (1) في المطبوعة: "ذكر نعتهم"، وفي المخطوطة: "ذكر بعثهم"، وكتبتها"بعثتهم"، ويعني بذلك ما جاء في الآية السالفة من هذه السورة: 10"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا". (2) "الوقر" (بكسر فسكون) : الحمل والثقل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 (مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) لإجماع قرأة الأمصار عليها= وأنَّ ما استفاضت به القراءة عنهم، فحجة لا يجوز خلافها، وما انفرد به الواحد، فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجةِ في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح"الياء" في ذلك، وفسادِ غيره. وهو التأويل الصحيحُ عندنا، لما ذكرنا من إجماعها عليه. * * * وأما قوله:"أنعم الله عليهما"، فإنه يعني: أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه، وانتهائهم إلى أمره، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل، الذي حدّث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء. (1) * * * وقد قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف. ذكر من قال ذلك: 11677 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن تميم قال، حدثنا إسحاق بن القاسم، عن سهل بن علي قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: أنعم الله عليهما بالخوف. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "الذي حذر عنه أصحابهما الآخرين.."، وفي المخطوطة: "الذي حول عنه أصحابهما الآخرون"، وصواب قراءة ذلك ما أثبت، ولا معنى لتغيير ما غيره ناشر المطبوعة الأولى. (2) الأثر: 11677-"خلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي"، أبو عبد الرحمن ثقة عابد. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/180، وابن أبي حاتم 1/2/370. و"إسحق بن القاسم"، لم أجده. وأما "سهل بن علي"، فلم أجد من يسمى بذلك إلا"سهل بن علي المروزي"، روى عن المبارك. روى عنه المراوزة كلامه، وتأدبوا بورعه. مترجم في ابن أبي حاتم 2/1/203. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك يقول، وجماعة غيره. 11678 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبّارين. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل، إذ جبُنوا وخافوا من الدخول على الجبارين، لمَّا سمعوا خبرهم، وأخبرهم النقباء الذين أفشَوْا ما عاينوا من أمرهم فيهم، وقالوا: (1) "إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، فقالا لهم: ادخلوا عليهم، أيها القوم بابَ مدينتهم، فإن الله معكم، وهو ناصركم، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم، كما:- 11679 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل، قال: لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خرَّ موسى وهارون على وجوههما سجودًا قدِّام جماعة بني إسرائيل، وخرَّق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما، وكانا من جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل:"إن الأرض مررنا بها وحسِسْناها صالحًة، (2) رضيها ربُّنا لنا فوهبها لنا، وإنها.. تفيض لبنًا وعسلا (3) ولكن افعلوا واحدة:   (1) السياق:.. إذ جبنوا وخافوا.. وقالوا"، معطوفا على ذلك. (2) "حس منه خيرًا وأحس"، رآه وعلمه. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنها لم تكن تفيض لبنًا وعسلا"، وهو لا يستقيم، والذي جاء في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "وحقًا إنها تفيض لبنًا وعسلا"، وفي الرابع عشر = وهو نص هذا الكلام بالعربية="ويعطينا إياها أرضًا تفيض لبنًا وعسلا". فحذفت"لم تكن"، ووضعت مكانها نقطًا، مخافة أن تكون الكلمة محرفة عن شيء لم أعرفه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 لا تعصُوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم خُبْزُنا، ومُدَفَّعون في أيدينا، (1) إن كبرياءهم ذهبت منهم، (2) وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد جماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة. 11680 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثنى عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونًا لهم، وليأتوهم بأخبار القوم. فأمَّا عشرة فجبَّنُوا قومهم وكرَّهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغَّبا في ذلك، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك. 11681 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"عليهم الباب"، قرية الجبَّارين. * * *   (1) في المطبوعة: "فإنهم جبناء مدفعون.."، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في كتاب القوم في سفر العدد، الإصحاح الرابع عشر. ويعني بقوله: "خبرنا"، أي هم طعمة لنا وغنيمة، كما نقول بالعربية. (2) في المطبوعة: "إن حاربناهم ذهبت منهم"، ولا أدري ما هذا. وفي المخطوطة: "إن حرباهم ذهبت منهم". ورأيت أن أقرأها كذلك، فإني رأيت في كتاب القوم: "قد زال عنهم ظلهم، والرب معنا"، كأنه يعني: قد ذهب عنهم ما كان ملازمًا لهم من الجرأة والقوة والبطش والمهابة. هذا، ومن المفيد أن تقارن هذا المروى عن ابن إسحق، بترجمة التوراة الموجودة في أيدينا، فإن هذه الروايات عن ابن إسحق، ترجمته قديمة للتوراة بلا شك. ولعل متتبعًا يتتبع هذه الرواية عن ابن إسحق وغيره، ويقارنها بالترجمة الموجودة الآن، فإن في ذلك فوائد تاريخية عظيمة، وفوائد في مناهج الترجمة قديمًا وحديثًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) } قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله جل وعزّ عن قول الرجلين اللذين يخافان الله، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك، ويرغِّبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم= توكلوا أيها القوم، على الله في دخولكم عليهم، فيقولان لهم: (1) ثقوا بالله، (2) فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوِّكم. وعنيا بقولهما:"إن كنتم مؤمنين" إن كنتم مصدِّقي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيما أنبأكم عن ربَّكم من النصرة والظفر عليهم، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه= ومؤمنين بأن ربَّكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوِّه وعدوِّكم. * * *   (1) في المطبوعة: "ويقولان"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف ص: 108، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا (24) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملأ من قوم موسى لموسى، إذ رُغِّبوا في جهاد عدوِّهم، ووعِدوا نصر الله إيَّاهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم باب مدينتهم، أنهم قالوا له:"إنا لن ندخلها أبدًا" يعنون: إنا لن ندخل مدينتهم أبدًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 و"الهاء والألف" في قوله:"إنا لن ندخلها"، من ذكر"المدينة". * * * ويعنون بقولهم:"أبدًا"، أيام حياتنا (1) ="ما داموا فيها"، يعنون: ما كان الجبارُون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمِروا بدخولها="فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون"، لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك فتقاتلانهم. * * * وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت، وليذهب معك ربك فقاتلا= ولكن معناه: اذهب أنت، يا موسى، وليعنك ربُّك. وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب. (2) وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له، لو كان الخبر عن قوم مؤمنين. فأمّا قومٌ أهلُ خلافٍ على الله عز ذكره ورسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل وافتروا عليه، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم. * * * وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافَ ما قال قومُ موسى لموسى. 11682 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل:"اذهب أنت ورَبك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. (3)   (1) انظر تفسير"أبدا" فيما سلف 9: 227. (2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 160، بمعناه، وبغير لفظه. (3) الأثر: 11682-"مخارق"، هو: "مخارق بن عبد الله بن جابر البجلي الأحمسي"، ويقال: "مخارق بن خليفة". مترجم في التهذيب. و"طارق هو"طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي"، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة، وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود. مترجم في التهذيب. ومضى برقم: 9744. وهذا الخبر روي من طريق طارق، مطولا ومختصرًا. رواه البخاري مختصرًا، مرسلا وموصولا في صحيحه (الفتح 8: 205) ، ورواه مطولا موصولا (الفتح 7: 223-227) ، ورواه أحمد مطولا في مسند ابن مسعود برقم: 3698، 4070، 4376. وهذا الخبر في مشورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل بدر لما وصل الصفراء، وبلغه أن قريشًا قصدت بدرًا، وأن أبا سفيان نجا بما معه، فاستشار الناس. وانظر القصة مفصلة في كتب السير. ثم انظر الخبر التالي، وأن ذلك كان يوم الحديبية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 11683 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صَدّ المشركون الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم:"إني ذاهب بالهَدْيِ فناحِرُه عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود: أمَا والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا لنبيهم:"اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون" ولكن: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك. (1) * * * وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام، حين تبيَّن لهم أمر الجبارين وشدّةُ بطشهم. 11684 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: أمر الله جل وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه السلام، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى:"ادخلوها"، فأبوا وجبُنوا، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا   (1) الأثر: 11683- كرر في المخطوطة هذا الأثر بإسناده ونصه، ففي المرة الأولى كتبه إلى قوله: "إنا معكم مقاتلون"، ثم عاد فكتب الخبر نفسه بإسناده، وأتمه على وجهه إلى آخره. والظاهر أنه وقف عند هذا الموضع، ثم عاد يكتب، وكان الخبر قبله ينتهي أيضًا بقوله: "إنا معكم مقاتلون"، فظن أن الذي كتب هو الخبر الأول، فعاد فكتب الخبر بإسناده من أوله إلى تمامه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 إليهم، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوِقْر الرجل، فقالوا: اقدُرُوا قوّة قوم وبأسُهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك قالوا لموسى:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون". 11685 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، نحوه. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قيل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا، من قولهم:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"= أنه قال عندَ ذلك، وغضب من قيلهم له، (1) داعيا: يا رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي= يعني بذلك، لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد من طاعتك واتّباع أمرك ونهيك، إلا على نفسي وعلى أخي. * * * = من قول القائل:"ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا"، بمعنى: لا أقدر على شيء غيره. (2) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "من قيلهم لهم"، والسياق يقتضي"له"، وسياق العبارة: "أنه قال عند ذلك.. داعيًا: يا رب..". (2) انظر تفسير"ملك" فيما سلف قريبًا ص: 105. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 ويعني بقوله:"فافرق بيننَا وبين القوم الفاسقين"، افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعِدُهم منّا. * * * =من قول القائل:"فَرَقت بين هذين الشيئين"، بمعنى: فصلت بينهما، من قول الراجز: (1) يَا رَبِّ فافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنَ (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك: 11686 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) لعله: حبينة بن طريف العكلي. وانظر التعليق التالي. و"حبينة" بالباء، والنون وأخطأ من ظن أنه بنونين. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 160، وهكذا جاء هناك وهنا. وفي المخطوطة: "يا رب فارق"، وصححه في المطبوعة، وجاء تصحيحه موافقًا لما في مجاز القرآن. ولم أجد الرجز بهذا اللفظ، وظني أنه رجز حبينة بن طريف العكلي، له خبر طويل (انظر تهذيب إصلاح المنطق 1: 138) ، كان بينه وبين ليلى الأخيلية كلام، فقال لها: "أما والله لو أن لي منك النصف، لسببتك سبًا يدخل معك قبرك!! " ثم راجزها وفضحها، فقال في رجزه ذلك: جَارِيَةٌ منْ شِعْب ذي رُعَيْنِ ... حَيَّاكَةٌ تَمْشِي بِعُلْطَتَيْنِ وَذِي هِبَابٍ نَعِظِ الْعَصْرَيْنِ ... قَدْ خَلَجَتْ بحاجِبٍ وعَيْنِ يَا قَوْمِ خَلُّوا بَيْنَها وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا خُلِّي بَيْنَ اثْنَيْنَ لم يُلْقَ قَطُّ مِثْلَنَا سِيَّيْنِ "حياكة"، تحيك في مشيتها، أي تتبختر. و"وتتثط بالعلطتان"، قلادتان أو ودعتان تكون في أعناق الصبيان، "خجلت العين" واضطربت. يصفها بالغمز للرجال."سيين": مثلين. و"هب التيس هبابًا وهبيبًا"، هاج ونب للسفاد. وتجد هذا الشعر وخبره مفرقًا في المؤتلف والمختلف للآمدي: 97، وإصلاح المنطق: 89، وتهذيب إصلاح المنطق: 138، واللسان (خلج) (علط) (نعظ) (عرك) ، والمخصص 2: 47. والشعر بهذه الرواية لا شاهد فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيني وبينهم. 11687 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيننا وبينهم. 11688 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، فدعا عليهم فقال:"رب إنّي لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، وكانت عَجْلَةً من موسى عِجلها. (1) 11689 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم= كلّ هذا يقول الرجل:"اقض بيننا" (2) فقضاء الله جل ثناؤه بينه وبينهم: أن سماهم"فاسقين". (3) * * * وعنى بقوله:"الفاسقين" الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر بالله وبه. * * * وقد دللنا على أن معنى"الفسق"، الخروج من شيء إلى شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (4) * * *   (1) "عجلة" مصدر الواحدة من قولهم: "عجل"، إذا أسرع. (2) في المطبوعة: "كل هذا من قول الرجل"، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه صواب، وكأنه يقول"افرق بينا" و"اقض بينا"، و"افتتح بيننا" كل ذلك يقول الرجل بمعنى"اقض بيننا". (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فقضى الله"، وآثرت قراءتها كذلك لحسن سياقها، وهو في المخطوطة يكثر أن يكتب"قضاء" هكذا"قضى"، كما سلف مرارا. (4) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف 1: 409، 410/2: 118/ ثم 9: 515، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ"الأربعين". فقال بعضهم: الناصب له قوله:"محرّمة"، وإنما حرم الله جل وعزّ على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حَرْب الجبارين (1) = دخولَ مدينتهم أربعين سنة، (2) ثم فتحها عليهم وأسكنهموها، (3) وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه. (4) 11690 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى:"إنها محرمة عليهم أربعين سنًة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"، وهم يومئذ، فيما ذكر، ستمائة ألف مقاتل. فجعلهم"فاسقين" بما عصوا. فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستّة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادِّين لكي يخرجوا منها، حتى سئموا ونزلوا، (5) فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا= وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. (6) وسأل موسى ربه أن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنما حرم الله جل وعز القوم.."، والسياق يقتضي ما أثبت، بزيادة"على". (2) قوله"دخول" منصوب، مفعول لقوله: "حرم". وكان في المطبوعة: "ودخول مدينتهم"، وهو خطأ لا شك فيه، والكلام لا يستقيم. (3) في المطبوعة: "وأسكنوها"، غير ما في المخطوطة لغير علة. (4) في المطبوعة: "بعد أن قضيت الأربعون سنة"، غير ما في المخطوطة لغير علة. (5) في المطبوعة: "حتى يمسوا وينزلوا"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب. (6) قوله: "ما هي قائمة لهم"، كأنه يعني أن ثيابهم كانت لا تبلي، بل لا تزال قائمة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ينشأ" بغير واو، فزدتها لاقتضاء السياق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عَيْنٌ، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خَلَت أربعون سنة، وكانت عذابًا بما اعتدوا وعصوا، أوحى إلى موسى: أنْ مُرْهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوَّهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد: أن يأتوا الباب، ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا:"حطة"= وإنما قولهم:"حطة"، أن يحطَّ عنهم خطاياهم= فأبى عامة القوم وعصوا، وسجدوا على خدِّهم، وقالوا:"حنطة"، فقال الله جل ثناؤه: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إِلَى بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة البقرة: 59] . (1) * * * وقال آخرون: بل الناصب لِـ"الأربعين"،"يتيهون في الأرض". قالوا: ومعنى الكلام: قال، فإنَّها محرمة عليهم أبدًا، يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد ممن قال:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون"، وذلك أن الله عز ذكره حرَّمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع وكلاب، اللذان قالا لهم:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، وأولادُ الذين حرَّم الله عليهم دخولها، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم أحدٌ. ذكر من قال ذلك: 11691 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله جل وعزّ:"إنها محرمة عليهم"، قال: أبدًا. 11692 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله:"يتيهون في الأرض"، قال: أربعين سنة. 11693 - حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون   (1) الأثر: 11690- كأن هذا هو الأثر الذي ذكر أبو جعفر إسناده ولم يتمه فيما مضى رقم: 993. فلا أدري أفعل ذلك اختصارا، أم سقط الخبر من هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 النحوي قال، حدثني الزبير بن الخرّيت، عن عكرمة في قوله:"فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض"، قال: التحريم، التيهاءُ. (1) 11694 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال:"رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" الآية، فقال الله جل وعز:"فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". فلما ضُرِب عليهم التيه، ندم موسى. وأتاه قومه الذين كانوا [معه] يطيعونه، (2) فقال له: ما صنعت بنا يا موسى! فمكثوا في التيه. فلما خرجوا من التيه، رُفع المنُّ والسلوى وأكلُوا من البقول. والتقى موسى وعاج، (3) فنزا موسى في السماء عشرة أذرع (4) = وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع= فأصاب كعب عاج فقتله. (5) ولم يبق [أحد] ممن أبى أن يدخل قرية الجبَارين مع موسى، إلا مات ولم يشهد الفتح. (6) ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة، بعث يوشع بن النون نبيًا، (7) فأخبرهم أنه نبيّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبّارين، فبايعوه وصدَّقوه، فهزم الجبارين واقتحمُوا عليهم يقتُلونهم، (8)   (1) الأثر: 11693-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي". و"هرون النحوي"، هو: "هرون بن موسى الأزدي"، الأعور. و"الزبير بن الحزيت". ثقات مضوا جميعًا برقم: 4985. وهذا الخبر، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 225، 226. وكان في المطبوعة هنا: "التحريم، لا منتهى له"، وهو تصرف معيب بالغ العيب. وفي المخطوطة: "التحريم، المنتهى"، فآثرت قراءتها"التيهاء" يقال: "أرض تيه، وتيهاء"، ويقال، "تيه" جمع"تيهاء"، وهي المفازة يتاه فيها. وفي تاريخ الطبري 1: 226"التحريم: التيه". (2) هذه الزيادة بين القوسين مما مضى في 2: 98، رقم: 991. (3) في المطبوعة: "عوج" في هذا المكان، وكل ما سيأتي، وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: "فوثب"، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. و"نزا ينزو نزوا"، وثب. وهي كما أثبتها في تاريخ الطبري 2: 223. (5) عند هذا الموضع انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223. (6) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام إلا بها. (7) في المطبوعة: "بن نون". (8) في المطبوعة: "يقاتلونهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي تاريخ الطبري: "فقتلوهم". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عُنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها. (1) 11695 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، (2) عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال الله جل وعز: لما دعا موسى="فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". (3) قال: فدخلوا التيه، فكلُّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنًة مات في التيه. (4) قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينةَ الجبارين، فافتتح يوشع المدينة. (5) 11696 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله جل وعزّ:"إنها محرّمة عليهم أربعين سنة"، حرمت عليهم [القُرَى] ، (6) فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة، (7) =وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. (8) 11697 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل قال: لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت= من   (1) الأثر: 11694- هذا الأثر رواه أبو جعفر مفرقًا بين تاريخه وتفسيره، كما مر عليك في التعليقات السالفة. ومن عند ذلك الموضع الذي أشرت إليه في ص: 192 التعليق رقم: 5، إلى هذا الموضع رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 225. (2) في المخطوطة: "أبو سعد"، وهو خطأ، وانظر الأثر السالف رقم: 11668. (3) في المطبوعة: "قال لما دعا موسى قال الله فإنها محرمة.."، غير ما في المخطوطة، مع أنه مطابق لما في تاريخ الطبري. (4) في المخطوطة؛"جاز العشرين"، وما في المطبوعة مطابق لما في التاريخ. (5) الأثر: 11695- هذا الأثر، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 225. (6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري، وهي زيادة لا بد منها. وكان في المطبوعة والمخطوطة بعد"وكانوا" بالواو، والصواب من التاريخ. (7) "الأطواء" جمع"طوى" (بفتح الطاء، وكسر الواو، وتشديد الياء) : وهو البئر المطوية بالحجارة، وهو صفة على"فعيل" بمعنى"مفعول" انتقل إلى الأسماء، فلذلك جمعوه على"أفعال" كما قالوا: "شريف" و"أشراف"، و"يتيم"، و"أيتام". (8) الأثر: 11696- رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 225، إلا قوله: "إنما يتتبعون الأطواء". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 معصيتهم نبيّهم، وهّمهم بكالب ويوشع، إذْ أمرَاهم بدخول مدينة الجبارين، وقالا لهم ما قالا= ظهرت عظمة الله بالغمام على باب قُبّة الزُّمَرِ على كل بني إسرائيل، (1) فقال جل ثناؤه لموسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا يصدّقون بالآيات كلِّها التي وضَعتُ بينهم؟ أضربهم بالموت فأهلكهم، (2) وأجعل لك شعبًا أشد وأكبر منهم. فقال موسى: يسمع أهلُ المصر الذين أخرجتَ هذا الشعب بقوّتك من بينهم، (3) ويقول ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب، (4) فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك:"إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم، فقتلهم في البّرية"، ولكن لترتفع أياديك ويعظم جزاؤك، يا رَبِّ، كما كنت تكلَّمت وقلتَ لهم، فإنه طويلٌ صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق، (5) وإنك تحفظ [ذنب] الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة. (6) فاغفر، أيْ ربِّ، آثام هذا الشعب بكثرة نعمك، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن. فقال الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه: قد غفرت لهم بكَلمتك، ولكن حيٌّ أنا، (7) وقد ملأت الأرض محمدتي كلها، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار، (8) وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني، (9) لا يرون الأرض التي حلفت لآبائهم، (10) ولا يراها من أغضبني، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي، (11) فإني مدخله الأرض التي دخلها، ويراها خَلَفه. =وكان العماليق والكنْعانيون جلوسًا في الجبال، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف، (12) وكلم الله عز وجل موسى وهارون، وقال لهما: إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة السوء؟ قد سمعتُ وسوسة بني إسرائيل. (13) وقال،   (1) كان في المطبوعة: "على نار فيه الرمز"، وهو لا معنى له، وفي المخطوطة"على فيه الرمز" كل ذلك غير منقوط، وصواب قراءته كما أثبت، فإني أشك في كلمة"نار" التي كانت في المطبوعة، والتي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها"باب"، لأنه يكثر في كتاب القوم: "باب خيمة الاجتماع" كما في سفر العدد، الإصحاح العاشر مثلا. و"خيمة الاجتماع"، هي التي جاءت في خبر بن إسحق"قبة الزمر"، و"الزمر" جمع"زمرة" وهي الجماعة. ويقابل ما رواه ابن إسحق هنا في سفر العدد، الإصحاح الرابع عشر، "ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع"، فثبت بهذا أن"خيمة الاجتماع" هي"قبة الزمر". و"القبة" عند العرب. هي خيمة من أدم مستديرة. هذا، وخبر ابن إسحق هذا بطوله، هو ترجمة أخرى للإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. فمن المفيد مراجعته، كما أسلفت في ص: 183، تعليق 2. وسأجتهد في بيان بعض خلاف الترجمة هنا. (2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "أضربهم بالموت"، وفي كتاب القوم"بالوبأ"، وغير بعيد أن يكون لفظ"الموت" مصحفا عن"الوبأ". (3) في كتاب القوم: "فيسمع المصريون..". (4) في المطبوعة: "ساكنو هذه البلاد"، وأثبت ما في المخطوطة. (5) من الحسن أن تقرأ هذا النص في كتاب القوم، فإنه هناك: "فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلا. الرب طويل الروح، كثير الإحسان، يغفر الذنب والسيئة". (6) في المطبوعة: "إلى ثلاثة أجيال وأربعة"، وأثبت ما في المخطوطة. و"الأحقاب" جمع"حقب" (بضم فسكون، أو بضمتين) : وهي الدهر، قيل: ثمانون سنة، وقيل أكثر. وأما ما بين القوسين فقد استظهرته من كتاب القوم، فإن الكلام بغيره غير مستقيم. وهو في كتابهم: "بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع". (7) في المطبوعة: "ولكن قد أتى أني أنا الله"، غير ما في المخطوطة، إذ لم يحسن قراءته، وهو كما أثبته، وهو في كتاب القوم أيضًا: "ولكن حي أنا فتملأ كل الأرض من مجد الرب". (8) في المطبوعة والمخطوطة: "ألا ترى القوم"، والسياق يقتضي ما أثبت، وهو بمعناه في كتاب القوم. (9) في المطبوعة: "وسلوني عشر مرات"، و"ابتلاه": اختبره، وفي كتاب القوم: "وجربوني عشر مرات". (10) في المطبوعة: "التي خلقت"، وهو ليس صحيح المعنى، بل هو باطل. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهي في كتاب القوم"حلفت" كما هي في رسم المخطوطة، وكما أثبتها، واتفقت على ذلك الترجمة القديمة، وهذه الترجمة التي بين أيدينا. والمعنى في ذلك: الأرض التي أقسمت لآبائهم بعزتي وجلالي أن أجعلها لأبنائهم. (11) في ترجمة القوم: "وأما عبدي كالب، فمن أجل أنه كانت معه روح أخرى. وقد اتبعني تمامًا". (12) في المطبوعة والمخطوطة: "في طريق يحرسون"، وهو تصحيف وتحريف. والصواب ما أثبته و"بحر سوف" هو المعروف باسم"البحر الأحمر"، وكان العرب يعرفونه باسم"بحر القلزم"، و"القلزم": مدينة قديمة كانت قرب أيلة والطور. و"السوف" لعلها نطق قديم لقول العرب"السيف" (بكسر السين) ، وهو ساحل البحر، ولعله قد سمى به موضع هناك، فنسب إليه البحر. (13) "وسوس عليه"، و"الوسوسة"، مضت في الأثر رقم: 11663، ولم أشرحها هناك. وأصل"الوسوسة": الصوت من الريح، أو صوت الحلي والقصب وغيرها. و"الوسوسة" أيضا: كلام خفي مختلط لا يستبين."وسوس الرجل": إذا تكلم بكلام لم يبينه. وهذه ترجمة بلا شك يراد بها الإكثار من الكلام الخفي المبهم، يتناقله القوم بينهم متذمرين. ويقابله في ترجمة القوم، في الكتاب الذي بين أيدينا: "قد سمعت تذمر بني إسرائيل.." الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 لأفعلن بكم كما قلت لكم، (1) ولتلقينَّ جِيَفكم في هذه القفار، وكحسابكم، (2) من بني عشرين سنة فما فوق ذلك، من أجل أنكم وسوستم عليّ، (3) فلا تدخلوا الأرض التي رفعت [يدي] إليها، (4) ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة، وأما بنُوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر، فإنهم يدخلون الأرض، وإني بهم عارف، لهم الأرض التي أردت لهم، وتسقط جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيَّام التي حَسَستم الأرض أربعين يومًا، مكان كل يوم سنةً وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم قُدَّامي. إنى أنا الله فاعل بهذه الجماعة= جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي= بأن يتيهوا في القفار، (5) فيها يموتون. = فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض، ثم حرَّشوا الجماعة، فأفشوا فيهم خبرَ الشرّ، فماتوا كلهم بغتًة، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض. =فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كلَّه لبني إسرائيل، حزن الشعب   (1) في كتاب القوم هكذا: "لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني". (2) في المطبوعة: "وحسابكم"، وأثبت ما في المخطوطة، يعني: مثل عددكم، أي جميعا. وفي كتاب القوم: "جميع المعدودين منكم حسب عددكم". (3) انظر تفسير"الوسوسة" آنفا ص 195، رقم: 7. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "التي دفعت إليها"، وليس له معنى، فجعلتها"رفعت" وزدت"يدي" بين القوسين استظهارًا من نص كتاب القوم، وفيه: "التي رفعت يدي لأسكننكم فيها". (5) في المطبوعة: "قد أتى أني أنا الله ......... الذين وعدوا بأن يتيهوا ........ "، وأثبتت ما في المخطوطة. وفي كتاب القوم: " ........ فتعرفون ابتعادي. أنا الرب قد تكلمت، لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة على. في هذا القفر يفنون وفيه يموتون". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 حزنًا شديدًا، وغدوا فارتفعوا، إلى رأس الجبل، (1) وقالوا: نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه، من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى:"لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم، فالآن تنكسرون من قدّام أعدائكم، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم يكن الله معكم". فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة= يعني من الخيمة (2) = حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. (3) فتيّهم الله عز ذكره في التيه أربعين سنًة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. =قال: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهوا فيها، (4) وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان -فيما يزعمون- على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرًا، (5) قدَّم يوشع بن نون إلى أريحا، في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يُقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم قبره أحد من الخلائق. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن"الأربعين" منصوبة بـ"التحريم"= وإنّ قوله:"محرمة عليهم أربعين سنة"، معنيٌّ به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم. لأن الله عز ذكره عمَّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرَّم الله عز وجَل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. (6) فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره في التيه، وهو من أعظم الجبارين خلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم. وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور، (7) كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالب، فلا وجه للحاجة إليها.   (1) في المطبوعة: "على رأس الجبل"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يعني من الحكمة"، والصواب ما أثبت، لأن"التابوت" كان في خيمة. واللفظة في المخطوطة غير بينة الكتابة. وانظر صفة"الخيمة" التي كان فيها التابوت في قاموس كتابهم. (3) إلى هذا الموضع انتهى الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. وقد تبين أن ما رواه ابن إسحق، هو ترجمة أخرى لهذا الإصحاح. ولغة ترجمة ابن إسحق تخالف كل المخالفة، عبارة ابن إسحق في سائر ما كتب من السير، وفيها عبارات وجمل وألفاظ، لا أشك في أنها من عمل مترجم قديم. ومحمد بن إسحق مات في نحو سنة 150 من الهجرة، فهذه الترجمة التي رواها عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول، قد تولاها بلا ريب رجال قبل هذا التاريخ، أي في القرن الأول من الهجرة. وهذا أمر مهم، أرجو أن أتتبعه فيما بعد حتى أضع له تاريًخا يمكن أن يكشف عن أمر هذه الترجمة العتيقة. (4) في المطبوعة: "التي تتيهوا" بتاءين، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري 1: 226. (5) من أول قوله: "فلما شب النواشئ"، إلى هذا الموضع، مروي في تاريخ الطبري 1: 226. (6) في المطبوعة: "عوج بن عنق"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر ما سلف أنه روى في اسمه"عاج" ص: 192، تعليق: 2. (7) في المطبوعة: "باعوراء"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 11698 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، (1) فضرب عوجًا فأصاب كعبه، فسقط ميتًا، فكان جسرًا للناس يمرُّون عليه. (2) 11699 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، (3) فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكانَ جسرًا لأهل النيل سنة. (4) * * * ومعنى:"يتيهون في الأرض"، يحارون فيها ويضلُّون= ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق:"تائه". وكان تيههم ذلك: أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادِّين في قدر ستة فراسخ للخروج منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه. 11700 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. (5) 11701 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر. (2) الأثر: 11698- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223. (3) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر. (4) الأثر: 11699- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223. هذا، وكل ما رواه أبو جعفر من أخبار عوج، وما شابهه مما مضى في ذكر ضخامة خلق هؤلاء الجبارين، إنما هي مبالغات كانوا يتلقونها من أهل الكتاب الأول، لا يرون بروايتها بأسًا. وهي أخبار زيوف لا يعتمد عليها. (5) الأثر: 11700- انظر الأثر السالف رقم: 11690. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلا تأس"، فلا تحزن. يقال منه:"أسِيَ فلان على كذا يأسىَ أسًى"، و"قد أسيت من كذا"، أي حزنت، ومنه قول امرئ القيس: وُقُوفًا بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لا تَهْلِكْ أَسًى وتَجَمَّل (1) يعني: لا تهلك حزنًا. * * * وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 11702 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فلا تأس" يقول: فلا تحزن. 11703 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، قال: لما ضُرب عليهم التّيه، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما نَدِم أوحى الله إليه:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، لا تحزن على القوم الذين سمَّيتهم"فاسقين"، فلم يحزن. (2) * * *   (1) ديوانه: 125، من معلقته المشهورة. (2) الأثر: 11703- هو بعض الأثر السالف قديمًا رقم: 991. وأسقط ناشر المطبوعة الأولى: "فلم يحزن"، لأنها كانت في المخطوطة: "فلا تحزن"، فظنها تكرارًا فحذفها، وهي ثابتة كما كتبتها في الأثر السالف: 991. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتلُ على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطُوا أيديهم إليكم، وعلى أصحابك معك (1) = وعرِّفهم مكروهَ عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبَّة الخَتْر ونقض العهد، (2) وما جزاء الناكثِ وثوابُ الوافي= (3) خبرَ ابني آدم، هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربَّه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربَّه الخاتِر الناقضِ عهده. (4) فلتعرف بذلك اليهود وخَامِة غِبّ غَدْرهم ونقضهم ميثاقَهم بينك وبينهم، (5) وهمَّهم   (1) أخطأ ناشر المطبوعة الأولى فهم هذه العبارة، فجعلها"واتل على هؤلاء الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم عليك وعلى أصحابك معك"، فزاد"عليك"، وجعل"معهم"، "معك" فأخرج الكلام من عربية أبي جعفر، إلى كلام غسل من عربيته. وسياق الكلام: واتل على هؤلاء اليهود.. وعلى أصحابك معهم". فسبحان من سلط الناشرين على الكاتبين!! (2) "الختر": هو أسوأ الغدر. وأقبح الخديعة، وفي الحديث: "ما ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو"، وفي التنزيل: "وما يحجد بآياتنا إلا كل ختار كفور". ولم يحسن ناشر المطبوعة قراءة"الختر"، فجعل مكانها"الجور". (3) قوله"خبر ابني آدم" منصوب، مفعول قوله: "واتل على هؤلاء اليهود"، وما بين الخطين، جملة فاصلة للبيان. وانظر تفسير"يتلو" فيما سلف 2: 409، 411، 569/3: 86/6: 466/7: 97. وتفسير"نبأ" فيما سلف 1: 488، 489/6: 259، 404. (4) في المطبوعة: "الجائر"، وانظر تفسير"الختر" فيما سلف تعليق: 2، وهي في المخطوطة غير منقوطة. (5) في المطبوعة: "وخامة غب عدوهم"، وهو فاسد مريض، وهي في المخطوطة كما كتبتها غير منقوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 بما همُّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم (1) = في حسن ثوابي وعِظَم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتولَ الوافِيَ بعهده من ابني آدم، وعاقبتُ به القاتل الناكثَ عهده= عزاءً جميلا. (2) * * * واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قَبُول الله عز وجل ما تقبل منه، ومَنِ اللذان قرَّبا؟ فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه، وكان سبب القبول أن المتقبَّل منه قرَّب خير ماله، وقرب الآخر شر ماله، وكان المقرِّبان ابني آدم لصلبه، أحدهما: هابيل، والآخرُ: قابيل. ذكر من قال ذلك: 11704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن هشام بن سَعْد، عن إسماعيل بن رافع قال: بلغني أن ابني آدم لمّا أُمِرَا بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أُنْتِجَ له حَمَلٌ في غنمه، (3) فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مالٌ أحبَّ إليه منه. فلما أُمِر بالقربان قرّبه لله فقبله الله منه، فما زال يَرْتَع في الجنة حتى فُدِي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما. (4) 11705 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ ابني آدم اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حَرْثٍ،   (1) يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. (2) السياق: "فإن لك ولهم.. عزاء جميلا". (3) "أنتج" (بالبناء للمجهول) ، أي: ولد. و"الحمل" (بفتحتين) : الخروف. (4) الأثر: 11704-"هشام بن سعد المدني"، ثقة، تكلموا فيه من جهة حفظه. مضى برقم: 5490. وكان في المطبوعة هنا: "بن سعيد"، والصواب من المخطوطة. "إسمعيل بن رافع بن عويمر المدني القاص"، ضعيف جدا، مضى برقم: 4039. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن يقرّبا قربانًا= وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها طيّبًة بها نفسه= وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه، [الكوزن] والزُّوان، (1) غير طيبةٍ بها نفسه= وإن الله تقبّل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه. وقال: أيمُ الله، إنْ كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه. (2) * * * وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرِهما عن أمرِ الله إياهما به. ذكر من قال ذلك: 11706 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتصدَّق عليه، (3) وإنما كان القربان يقرِّبه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا"لو قربنا قربانًا"! وكان الرجل إذا قرب قربانًا فرضيه الله جل وعزّ، أرسل إليه نارًا فأكلته. وإن لم يكن رضيَه الله، خَبَتِ النار. فقرّبا قربانًا، وكان أحدهما راعيًا، وكان الآخر حرَّاثًا، وإنّ صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنَها، وقرب الآخر بعضَ زرعه. (4) فجاءت النار فنزلت يينهما، فأكلت الشاة وتركت   (1) "الكوزن"، هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وفي تاريخ الطبري"الكوذر"، ولم أجدها في شيء مما بين يدي من الكتب. والذي وجدته أن"الدوسر": نبات كنبات الزرع، له سنبل وحب دقيق أسمر، يكون في الحنطة، ويقال هو"الزوان". و"الزوان" (بضم الزاي) : ما يخرج من الطعام فيرمي به، وهو الرديء منه. وقيل: هو حب يخالط الحنطة، تسميه أهل الشأم: "الشيلم". (2) الأثر: 11705- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71، وسيأتي برقم: 11727، مختصرًا. وفي المطبوعة هنا: "أن يبسط يده إلى أخيه"، زاد"يده"، وهي ليست في المخطوطة، ولا في التاريخ، ولا في هذا الأثر الذي سيرويه مرة أخرى بعد. (3) في المطبوعة: "فيتصدق"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (4) في المطبوعة: "أبغض زرعه"، غير ما في المخطوطة، وهي موافقه لما في التاريخ. ويعني بقوله: "بعض زرعه"، أي: ما اتفق له، غير متخير كما تخير أخوه. وهو كقوله في الأثر رقم: 11709."زرعا من زرعه". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتَمْشي في الناس وقد علموا أنك قرَّبت قربانًا فتُقبِّل منك، ورُدَّ علي؟ فلا والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني!! فقال: لأقتلنَّك! فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (1) 11707 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ قربا قربانًا"، قال: ابنا آدم، هابيل وقابيل، لصلب آدم. فقرّب أحدهما شاةً، وقرب الآخر بَقْلا فقبل من صاحب الشاة، فقتله صاحبه. 11708 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 11709 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذْ قرّبا قربانًا" قال: هابيل وقابيل، فقرب هابيل عَنَاقًا من أحسن غَنَمه، (2) وقرب قابيل زرعًا من زرعه. قال: فأكلت النار العَناقَ، ولم تأكل الزرع، فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين. 11710 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدا في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا" قال: هو هابيل وقابيل لصُلْب آدم، قربا قربانًا، قرب أحدهما شاة من غنمه، وقرب الآخر بَقْلا فتُقُبِّل من صاحب الشاة، فقال لصاحبه: لأقتلنك! فقتله. فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه حَظِيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار، ومعه   (1) الأثر: 11706- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71، وسيأتي برقم: 11750، بزيادة في آخره. (2) "العناق" (بفتح العين) : وهي الأنثى من المعز ما لم تتم سنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 سبعةُ أملاكٍ، كلما ذهب مَلَك جاء الآخر. 11711 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، قال: قرّب هذا كبشًا، وقرّب هذا صُبَرًا من طعام، (1) فتقبل من أحدهما، قال: تُقُبل من صاحب الشاة، ولم يتقبل من الآخر. 11712 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، كان رجلان من بني آدم، فتُقُبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. 11713 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: كان أحدهما اسمه قابيل، والآخر هابيل، أحدهما صاحب غنم، والآخر صاحب زرع، فقرب هذا من أمثل غنمه حَمَلا وقرّب هذا من أرذَلِ زرعه، (2) قال: فنزلت النار فأكلت الحمل، فقال لأخيه: لأقتلنك! 11714 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل: أن آدم أمر ابنه قابيل أن يُنكِح أختَه تُؤْمَهُ هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته تُؤْمَه قابيل، (3) فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى قابيل   (1) "الصبر" (بضم الصاد وفتح الباء) جمع"صبرة" (بضم فسكون) : كومة من طعام بلا كيل ولا وزن. ويقال: "اشتريت الشيء صبرة"، أي بلا كيل ولا وزن. وفي المطبوعة: "صبرة" وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "من أردإ زرعه"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة في الموضعين"توأمة"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي تاريخ الطبري: "توأمته". و"التوأم" و"التئم" (بكسر فسكون) و"التؤم" (بضم فسكون) ، و"التئيم"، هو من جميع الحيوان، المولود مع غيره في بطن، من الاثنين إلى ما زاد، ذكرًا كان أوأنثى، أو ذكرًا مع أنثى. ويقال أيضا"توأم للذكر"و"توأمة" للأنثى. وفي المخطوطة والمطبوعة في جميع المواضع"قابيل". وأما في التاريخ، فهو في جميع المواضع"قين" مكان"قابيل"، وهما واحد، فتركت ما في المطبوعة والمخطوطة على حاله، وإن كان يخالف ما رواه أبو جعفر في التاريخ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 ذلك وكره، (1) تكرمًا عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحنَ وِلادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي! = ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه. فالله أعلم أيّ ذلك كان= فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحلُّ لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرّب قربانًا، ويقرّب أخوك هابيل قربانًا، فأيُّكما قَبِل الله قربَانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رِعاية الماشية، فقرب قابيل قمحًا وقرّب هابيل أبْكارًا من أبكار غنمه= وبعضهم يقول: قرب بقرة= فأرسل الله جل وعز نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقْبَل القُربان إذا قبله. (2) 11715 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، (3) فكان يزوّج غلام هذا البطن، جاريةَ هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن، غلامَ هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل، وهابيل. وكان قابيل صاحب زرع، وكان   (1) في المطبوعة: "وكرهه"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (2) الأثر: 11714- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 70. (3) في المطبوعة: "كان.." بغير واو، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 هابيل صاحب ضَرْعٍ. وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوَّجها! فأمره أبوه أن يزوِّجها هابيل، فأبى. وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيُّهما أحق بالجارية، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله عز ذكره لآدم: يا آدمُ، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا! قال: فإن لي بيتًا بمكة فأتِه. فقال آدم للسماء:"احفظي ولدي بالأمانة"، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال فأبت. وقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجدُ أهلك كما يسرُّكَ. فلما انطلق آدم، قربا قربانًا، وكان قابيل يفخَر عليه فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيُّ والدي! فلما قرَّبا، قرب هابيل جَذَعة سمينة، (1) وقرّب قابيل حُزمة سنبل، فوجد فيها سنبلةً عظيمة، ففرَكَها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربانَ هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل: إنما يتقبَّل الله من المتقين. (2) 11716 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل، فكان صاحب ماشية، فعمَد إلى خير ماشيته فتقرّب بها، فنزلت عليه نار فأكلته= وكان القربان إذا تُقُبل منهم، نزلت عليه نار فأكلته. وإذا رُدَّ عليهم أكلته الطيرُ والسباع= وأما قابيل، فكان صاحب زرع، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب به، فلم تنزل عليه النار، فحسد أخاه عند ذلك فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين. 11717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) "الجذعة" من الضأن والمعز، الصغير، لم يتم سنته. (2) الأثر: 11715- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 68، 69. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 معمر، عن قتادة في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: هما هابيل وقابيل، قال: كان أحدهما صاحب زرع، والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخيرِ ماله، وجاء الآخر بشر ماله. فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما، وهو هابيل، وتركت قربان الآخر، فحسده فقال: لأقتلنك! 11718 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"إذ قرّبا قربانًا"، قال: قرّب هذا زرعًا، وذَا عناقًا، فتركت النارُ الزرعَ وأكلتِ العَناق. (1) * * * وقال آخرون: اللذان قرّبا قربانًا، وقصَّ الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية: رجلان من بني إسرائيل، لا من ولد آدم لصلبه. ذكر من قال ذلك: 11719 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذرّيته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عبادَه بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريبَ القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم، دون الملائكة والشياطين   (1) "العناق": أنثى المعز، ما لم تتم سنة. (2) الأثر: 11719-"سهل بن يوسف الأنماطي"، روى عن ابن عون، وعوف الأعرابي، وحميد الطويل، وغيرهم. روى عنه أحمد، ويحيى بن معين، ومحمد بن بشار، وغيرهم. مترجم التهذيب. وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71. وسيأتي رد هذا الذي قاله الحسن فيما سيأتي ص: 219، 220. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 وسائرِ الخلق غيرهم. فإذْ كان معلومًا ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيًّا بِ"ابني آدم" اللذين ذكرهما الله في كتابه، ابناهُ لصلبه، لم يفدْهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذْ كان غيرَ جائز أن يخاطبهم خطابًا لا يفيدهم به معنًى، فمعلوم أنه عَنى بـ"ابني آدم"، [ابني آدم لصلبه] ، لا بَنِي بنيه الذين بَعُد منه نسبهم، (1) مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل، على أنهما كانا ابني آدم لصلبه، وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا. * * * وقد ذكرنا كثيًرا ممن نُصَّ عنه القول بذلك، وسنذكر كثيرًا ممن لم يذكر إن شاء الله. 11720 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا حسام بن المِصَكّ، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: حيّاك الله وبيّاك! = فقال:"بياك"، أضحكك. (2) 11721 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال، قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: لما قتل ابن آدم أخاه، بكى آدم فقال: تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَلَوْنُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ   (1) في المطبوعة، بغير الزيادة التي بين القوسين. أما المخطوطة، فكانت العبارة غير مستقيمة، كتب هكذا: "أنه عني بابني آدم لصلبه بني بنيه الذين بعد منه نسبهم" فالصواب زيادة ما زدته بين القوسين، وزيادة"لا" كما فعل في المطبوعة السابقة. (2) الأثر: 11720-"حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي". روى عن الحسن. وابن سيرين، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر. روى عنه أبو داود الطيالسي، وهشيم، ويزيد بن هرون، وغيرهم. ضعفوه، حتى قال ابن معين: "كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 فأجيب آدم عليه السلام: أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعًا ... وَصَارَ الْحَيُّ كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا ... عَلَى خَوْفٍ، فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ (1) * * * قال أبو جعفر: وأما القول في تقريبهما ما قرَّبا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عز ذكره أخبرَ عبادَه عنهما أنهما قد قربا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به، ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك= وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أيّ ذلك كان، فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قرْبةٍ إلى الله إن شاء الله. * * * وأما تأويل قوله:"قال لأقتلنك"، فإن معناه: قال الذي لم يُتَقَبَّل منه قربانه، للذي تُقُبّل منه قربانه:"لأقتلنك"، فترك ذكر:"المتقبل قربانه" و"المردود عليه قربانه"، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته. وكذلك ترك ذكر"المتقبل قربانه" مع قوله،"قال إنما يتقبل الله من المتقين". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. 11722 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قال لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (2)   (1) الأثر: 11721-"غياث بن إبراهيم النخعي، الكوفي"، قال يحيى بن معين: "كذاب خبيث". وقال خالد بن الهياج: "سمعت أبي يقول: رأيت غياث بن إبراهيم، ولو طار على رأسه غراب لجاء فيه بحديث! وقال: إنه كان كذابًا يضع الحديث من ذات نفسه". مترجم في الكبير 4/1/109، وابن أبي حاتم 3/2/57، وفي لسان الميزان، وميزان الاعتدال. وفي المخطوطة والمطبوعة، سقط من الإسناد"عن غياث بن إبراهيم"، وزدته من إسناد أبي جعفر في تاريخه 1: 72، وروى الخبر هناك. (2) الأثر: 11722- هذا ختام الأثر السالف رقم: 11706. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 11723 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"، قال يقول: إنك لو اتقيت الله في قربانك تُقُبل منك، جئت بقربانٍ مغشوش بأشرِّ ما عندك، (1) وجئت أنا بقربان طيِّب بخير ما عندي. قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني! * * * ويعني بقوله:"من المتقين"، من الذين اتقوا الله وخافوه، بأداء ما كلفهم من فرائضه، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته. (2) * * * وقد قال جماعة من أهل التأويل:"المتقون" في هذا الموضع، الذين اتقوا الشرك. ذكر من قال ذلك: 11724 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"، الذين يتقون الشرك. * * * وقد بينا معنى"القربان" فيما مضى= وأنه"الفعلان" من قول القائل:"قرَّب"، كما"الفُرْقان""الفعلان" من"فرق"، و"العُدْوان" من"عدا". (3) * * * وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمَّتنا، كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يُعْلم المتقبل منها وغير المتقبَّل =فيما ذكر= بأكل النار ما تُقُبل منها، وترك النار ما لم يُتقبّل منها. (4) و"القربان" في أمّتنا، الأعمال الصالحة، من الصَّلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداءِ الزكاة المفروضة. ولا سبيل   (1) قوله: "بأشر ما عندك"، أي: "بشر ما عندك"، وهي لغة قليلة. وقد مضت في الخبر رقم: 5080، وانظر التعليق هناك: 5: 85، تعليق: 1. (2) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (3) انظر ما سلف 7: 448. (4) انظر الأثرين السالفين: 8310، 8311. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 لها إلى العلم في عاجلٍ بالمتقبَّل منها والمردود. (1) * * * وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة بَكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنتَ وكنتَ! فقال: يبكيني أنّي أسمع الله يقول:"إنما يتقبل الله من المتقين". 11725 - حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال، حدثني سعيد بن عامر، عن همّام، عمن ذكره، عن عامر. (2) * * * وقد قال بعضهم: قربان المتقين، الصلاة. 11726 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليمان، عن عدي بن ثابت قال: كان قربان المتّقين، الصلاة. (3) * * *   (1) قوله: "لها"، الضمير عائد إلى قوله: "أمتنا". (2) الأثر: 11725-"محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي"، مضى برقم: 6225، 6809. و"سعيد بن عامر الضبعي"، ثقة مأمون. مترجم في التهذيب. و"همام" هو"همام بن يحيى بن دينار الأزدي"، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب. و"عامر بن عبد الله العنبري"، هو"عامر بن عبد الله بن عبد قيس العنبري"، ويقال: "عامر بن عبد قيس"، أحد الزهاد الثمانية، وهم: "عامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، وهرم بن حبان، والربيع بن خثيم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن البصري". انظر ترجمته في حلية الأولياء 2: 87-95، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل: 218- 228. ولم أجد هذا الخبر في أخباره في الكتابين. (3) الأثر: 11726-"عمران بن سليمان القيسي"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في لسان الميزان. و"عدي بن ثابت الأنصاري"، ثقة، إلا أنه كان يتشيع. مات سنة 116. مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 القول في تأويل قوله عز ذكره: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه= لما قال له أخوه القاتل: لأقتلنك=: والله"لئن بسطت إليَّ يدك"، يقول: مددت إليَّ يدك="لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك"، يقول: ما أنا بمادٍّ يدي إليك (1) "لأقتلك". * * * وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه، ولم يمانعه ما فَعَل به. فقال بعضهم: قال ذلك، إعلامًا منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده إليه بما لم يأذن الله جل وعز له به. (2) ذكر من قال ذلك: 11727 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: وايم الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه. (3) 11728 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك"، ما أنا بمنتصر، (4) ولأمسكنَّ يدي عنك. * * *   (1) انظر تفسير: "بسط" فيما سلف ص: 100. (2) في المطبوعة: "بما لم يأذن الله به"، أسقط ما هو ثابت في المخطوطة، ولا أدري لم يرتكب ذلك!! (3) الأثر: 11727- سلف هذا الأثر مطولا برقم: 11705، وانظر التعليق عليه هناك. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا أنا"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 وقال آخرون: لم يمنعه مما أراد من قتله، وقال ما قال له مما قصَّ الله في كتابه: [إلا] أن الله عزّ ذكره فرضَ عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. (1) ذكر من قال ذلك: 11729 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول في قوله:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"، قال مجاهد: كان كُتب عليهم، (2) إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن المقتول قال لأخيه:"ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك"، لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان المقتول عالمًا بما هو عليه عازمٌ منه ومحاولٌ من قتله، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً، اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. (3) فإذْ كان ذلك ممكنًا، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله، يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب تسليمُه. * * * وأما تأويل قوله:"إنّي أخاف الله رب العالمين" فإنه: إنّي أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك= (4) "رب العالمين"، يعني: مالك الخلائق كلها (5) =أن يعاقبني على بسط يدي إليك. * * *   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق هذه الجملة. (2) في المطبوعة: "كان كتب الله عليهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر الآثار التالية من رقم: 11746-11749. (4) في المطبوعة: "فإني أخاف"، وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبته من المخطوطة. (5) انظر تفسير"رب" و"العالمون" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي، وإثمك في معصيتك الله، وغير ذلك من معاصيك. (1) ذكر من قال ذلك: 11730 - حدثني موسى بن هارون، (2) قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في حديثه، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إثم قتلي، إلى إثمك الذي في عنقك="فتكون من أصحاب النار". 11731 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: بقتلك إياي، وإثمك قبل ذلك. 11732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، قال: بإثم قتلي وإثمك. 11733 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك" يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء بهما جميعًا. 11734 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن   (1) في المطبوعة: "وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك"، وهو كلام لا يستقيم، لا شك أن صوابه ما أثبت. (2) في المطبوعة: "محمد بن هرون"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 منصور، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إني أريد أن تبوء بقتلك إياي="وإثمك"، قال: بما كان منك قبل ذلك. 11735 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثني عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، قال: أما"إثمك"، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس =يعني أخاه= وأما"إثمه"، فقتلُه أخاه. * * * =وكأن قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، إلى: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي (1) =فحذف"القتل" واكتفى بذكر"الإثم"، إذ كان مفهومًا معناه عند المخاطبين به. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمِك في قتلك إيّاي. وهذا قول وجدتُه عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ. ذكر من قال ذلك: 11736 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي (2) =وذلك هو معنى قوله:"إني   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إني أريد.."، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138، 345/7: 116، 366 = وتفسير"الإثم"، فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 أريد أن تبوء بإثمي" =وأما معنى:"وإثمك"، فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمالٍ سِوَاه. وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه. لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه. وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه. * * * فإن قال قائل: أو ليس قتلُ المقتول من بني آدم كان معصيةً لله من القاتل؟ قيل: بلى، وأعظِمْ بها معصية! فإن قال: فإذا كان لله جل وعز معصيًة، فكيف جاز أن يُريد ذلك منه المقتول، ويقول:"إني أريد أن تبوء بإثمي"، وقد ذكرتَ أن تأويل ذلك، إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ [قيل] معناه: (1) إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني، لأني لا أقتلك، فإن أنت قتلتني، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله، فهو لا محالة باءَ به في حكم الله، فإرادته ذلك غير موجبةٍ له الدخولَ في الخطأ. * * * ويعني بقوله:"فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين"، يقول: فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها (2) ="وذلك جزاء الظالمين"، يقول: والنار ثوابُ التاركين طريق الحق، الزائلين عن قصد   (1) في المطبوعة، وصل الكلام، فلم يكن للاستفهام جواب، فكتب هكذا: "إني أريد أن تبوء بإثم قتلي، فمعناه: إني أريد..". وفي المخطوطة مثل ذلك، إلا أنه كتب"ومعناه" بالواو. واستظهرت أن الصواب ما زدت بين القوسين"قيل"، فإنه هذا أول جواب السائل. (2) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف 2: 286/4: 317/5: 429/ 6: 14/ 7: 133، 134. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 السبيل، المتعدِّين ما جُعِل لهم إلى ما لم يجعل لهم. (1) وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمرَ ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، ووعد وأوعد. ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل:"فتكون من أصحاب النار" بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول: عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. 11737 - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال مجاهد ذلك= قال: وقال عبد الله بن عمرو: وإنا لنجد ابنَ آدم القاتلَ يقاسِم أهل النار قسمًة صحيحًة العذابَ، عليه شطرُ عذابهم. (2) * * * وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو، خبٌر. 11738 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير= وحدثنا سفيان قال، حدثنا جرير وأبو معاوية= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع= جميعًا، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلَ كفلٌ منها، ذلك بأنه أول من سَنَّ القتل. (3) 11739 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= جميعا، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (4)   (1) انظر تفسير"جزاء" و"الظالمون" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) الأثر: 11737- رواه أبو جعفر فيما سلف برقم: 11710، طريق أخرى. وليس فيه هذه الزيادة عن عبد الله بن عمرو. (3) الأثران: 11738، 11739- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: 3630، 4092، 4123. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح 6: 262/12: 169/ 13: 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش 11: 165، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 130: "وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر في تاريخه 1: 72، بمثل الذي رواه هنا. و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير أبي جعفر فيما سلف 8: 581. (4) الأثران: 11738، 11739- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: 3630، 4092، 4123. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح 6: 262/12: 169/ 13: 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش 11: 165، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 130: "وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر في تاريخه 1: 72، بمثل الذي رواه هنا. و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير أبي جعفر فيما سلف 8: 581. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 11740 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي قال: ما من مقتول يقتل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ منه. 11741 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، أنه حُدِّث عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلا لابْنُ آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شيء، وذلك أنه أوَّل من سنَّ القتل. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) مبينٌ عن أنّ القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع (3) أنهما ليسا بابني آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل= وأن القول الذي حكي عنه (4) أنّ أول من مات آدم، وأن القربان الذي كانت   (1) الأثر: 11741-"حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري"، روى عن ابن عمه أبي أمامة بن سهل، ونافع بن جبير بن مطعم، والزهري، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له الترمذي وابن خزيمة وغيرها، وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث، ولا يحتجون بحديثه". مترجم في التهذيب. (2) في المطبوعة: "وبهذا الخبر.."، غير ما في المخطوطة، لم يحسن قراءة الآتي. (3) في المطبوعة: "تبين أن القول"، جعلها كذلك، وغير التي قبلها من أجل تغييره. وفي المخطوطة"متبين عن القول" غير منقوطة، والصواب ما أثبته، أسقط الناسخ"أن"، والسياق دال على ذلك. (4) قول الحسن هذا، هو ما رواه في الأثر رقم: 11719. وانظر أيضا ما سيأتي ص: 224. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل= (1) خطأ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قَتَل أخاه: أنه أول من سَنَّ القتل. وقد كان، لا شك، القتلُ قبل إسرائيل، فكيف قبل ذريته! فخطأ من القول أن يقال: أول من سن القتل رجلٌ من بني إسرائيل. (2) وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال:"هو ابن آدم لصلبه"، لأنه أولُ من سن القتل، فأوجب الله له من العقوبة ما رَوَينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فطوّعت" فآتتهُ وساعدته عليه. (3) * * * وهو"فعَّلت" من"الطوع"، من قول القائل:"طاعني هذا الأمر"، إذا انقاد له. * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم، معناه: فشجَّعت له نفسه قتل أخيه. ذكر من قال ذلك:   (1) السياق: وهذا الخبر ... مبين عن أن القول الذي قاله الحسن ... خطأ". (2) في المخطوطة والمطبوعة: "وخطأ من القول" بالواو، والسياق يقتضي الفاء، كما أثبتها. (3) في المطبوعة: "فأقامته وساعدته ... "، وفي المخطوطة كما كتبتها، ولكنها غير منقوطة. يقال: "آتيته على هذا الأمر مؤاتاة"، إذا وافقته وطاوعته. قالوا: "والعامة تقول: واتيته. قالوا: ولا تقل: واتيته، إلا في لغة لأهل اليمن. ومثله آسيت، وآكلت، وآمرت= وإنما جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة في: يواكل، ويوامر، ونحو ذلك". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 11742 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ومحمد بن حميد قالا حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه"، قال: شجعت. (1) 11743 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه" قال: فشجعته. 11744 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه قتل أخيه"، قال: شجعته على قتل أخيه. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: زيَّنَت له. ذكر من قال ذلك: 11745 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فطوعت له نفسه"، قال: زينت له نفسه قتلَ أخيه فقَتله. * * * ثم اختلفوا في صفة قتله إياه، كيف كانت، والسبب الذي من أجله قتله. * * * فقال بعضهم: وجده نائمًا فشدَخ رأسه بصَخرة. ذكر من قال ذلك: 11746 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبى مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس=   (1) الأثر: 11742-"عنبسة"، هو"عنبسة بن سعيد بن الضريس الأسدي" مضى مرارًا، منها رقم: 224، 3356، 5385. و"ابن أبي ليلى"، هو"محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، مضى مرارًا. رقم: 32، 33، 631، 3914، 5434. وكان في الإسناد هنا، في المخطوطة والمطبوعة: "عن عنبسة بن أبي ليلى"، وهو خطأ لا شك فيه، وقد مضى هذا الإسناد كثيًرا، انظر مثلا رقم: 631. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فطوعت له نفسه قتل أخيه" فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال. وأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له في جبل، وهو نائم، فرفع صخرة فشدَخ بها رأسه، فمات، فتركه بالعَرَاء. * * * وقال بعضهم ما:- 11747 - حدثني محمد بن عمر بن علي قال، سمعتَ أشعث السجستاني يقول: سمعت ابن جريج قال: ابنُ آدم الذي قتل صاحبَه لم يدر كيف يقتله، فتمثَّل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرًا فقطع رأسه، (1) ثم وضعه بين حجرين فشدَخ رأسه، فعلَّمه القتل. 11748 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قتله حيث يرعَى الغنم، فأتاه فجعل لا يدري كيف يقتله، (2) فلَوَى برقبته وأخذ برأسه، فنزل إبليس وأخذ دابَّةً أو طيرًا، فوضع رأسه على حجرٍ، ثم أخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه، وابنُ آدم القاتلُ ينظر. فأخذ أخاه فوضع رأسه على حجَر، وأخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه. 11749 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول، فذكر نحوه. 11750 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أكلت النار قربانَ ابن آدم الذي تُقُبِّل قربانه، قال الآخر لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانًا فتقُبِّل منك، ورُدَّ عليَّ؟ والله لا تنتظر الناس إلي وإليك وأنت خير   (1) في المطبوعة: "فقصع رأسه"، ولا تصح وأثبت ما في المخطوطة. وإنما عني"قطع رأسه"، علمه قطع الرأس في القتل، ثم علمه الشدخ في القتل. صورتان للقتل. (2) في المطبوعة"فأتى"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 مني! فقال:"لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ "إنما يتقبل الله من المتقين". فخوّفه بالنار، فلم ينته ولم ينزجر="فطوعت له نفسه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين". (1) 11751 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجَمْرة، وهو متقَنّع متوكئٌ على يدي، حتى إذا وازينا بمنزل سَمُرَةَ الصوّاف، (2) وقف يحدثني عن ابن عباس قال: نهى أن ينكح المرأة أخوها تُؤْمها، (3) وينكحها غيره من إخوتها. وكان يولد في كل بطن رجلٌ وامرأة. فوُلدت امرأةٌ وسيمةٌ، وولدت امرأة دميمة قبيحة. فقال أخو الدّميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي. فقرّبا قربانًا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. فلم يزل ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصَّفا في ثَبِير، عند منزل سمرة الصواف، (4) وهو على يمينك حين ترمي الجمار = قال ابن جريج، وقال آخرون بمثل هذه القصة. قال: فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء، فنكح ابنةَ عمه، وذهب نكاح الأخوات. (5) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه. وجائزٌ أن يكون على نحو ما قد ذكر السديّ في خبره= وجائزٌ أن يكون كان على   (1) الأثر: 11750- مضى مفرقًا برقم: 11706، 11722. (2) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل. ولم أعرف من يكون. (3) في تاريخ الطبري: "أن تنكح المرأة أخاها توأمها"، وكان في المطبوعة هنا"توأمها"، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر ما سلف ص: 205، تعليق: 3. (4) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل. ولم أعرف من يكون. (5) الأثر: 11751- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 69. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 ما ذكره مجاهد، والله أعلم أيُّ ذلك كان. غير أن القتل قد كان لا شك فيه. * * * وأما قوله:"فأصْبَحَ من الخاسرين"، فإن تأويله: فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم، من حزب الخاسرين، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، بإيثارهم إياها عليها، فوُكسوا في بيعهم، وغبنوا فيه، وخابوا في صفقتهم. (1) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) } قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أحدُ الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو، عن الحسن، (2) لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية، لو كانا من بني إسرائيل، لم يجهل القاتلُ دفنَ أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه، ولم يكن القاتلُ منهما أخاه عَلِم سنّة الله في عبادِهِ الموتى، (3) ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول. فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينًا حتى أراحت جيفته، (4) فأحب الله تعريفَه السنة في موتى خلقه، فقيَّض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه. * * *   (1) انظر تفسير"الخاسرين" و"الخسران" فيما سلف ص: 170، تعليق: 4. والمراجع هناك. (2) يعني الأثر: 11719، وانظر ما سلف أيضًا في ص: 219. (3) في المخطوطة: "في عاده الموتى"، وفي المطبوعة: "في عادة الموتى"، وهذا كلام لا معنى له، صواب قراءته ما أثبت. (4) "أراح اللحم"، أنتن وسطعت له ريح خبيثة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول، بعد قتله إياه. 11752 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي روق الهمداني، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: مكث يحمل أخاه في جِرابٍ على رقبته سنًة، حتى بعث الله جل وعز الغُرَابين، فرآهما يبحثان، فقال:"أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب"؟ فدفن أخاه. (1) 11753 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، بعث الله جل وعز غرابًا حيًّا، إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" الآية. 11754 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك= وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما مات الغلام تَركه بالعراء، ولا يعلم كيف يَدْفن. فبعث الله جل وعزّ غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حَثا عليه. فلما رآه قال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي"، فهو قول الله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه". 11755 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يبحث"، قال: بعث الله غرابًا حتى   (1) الأثر: 11752-"يحيى بن أبي روق"، هو"يحيى بن عطية بن الحارث الهمداني الكوفي. ضعيف. قال يحيى بن معين"ليس بثقة". مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 4/2/180 وأبوه"أبو روق" هو"عطية بن الحارث الهمداني"، ثقة، لا بأس به. مضى برقم: 137، 9632. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 حفر لآخر إلى جنبه ميت= وابن آدم القاتل ينظر إليه= ثم بحث عليه حتى غيَّبه. (1) 11756 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"غرابًا يبحث في الأرض"، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه، فغيّبه، وابن آدم القاتل ينظر إليه، حيث يبحثُ عليه حتى غيبه، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية. 11757 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، قال: بعث الله غرابًا إلى غراب، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فجعل يَحْثِي عليه التراب، (2) فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين". 11758 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، قال: جاء غراب إلى غراب ميّت، فحثَى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية. 11759 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: لما قتله ندم، فضَّمه إليه حتى أروح، (3) وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يَرْمي به فتأكله. 11760 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) "بحث عليه": يعني حفر التراب عليه وغطاه به. (2) "حثا عليه التراب يحثوه حثوًا" و"حثى عليه التراب يحثيه حثيًا": هاله. والثاني منهم أعلى من الأول وأفصح. وقد مضت: "حثا"، وستأتي في الآثار التالية: "يحثو"، فأغنانا ذكرها هنا عن ذكرها فيما سلف وما سيأتي. (3) "أروح اللحم، وأراح". أنتن، وانظر للتعليق السالف ص: 224، تعليق: 4. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه"، أنه بعثه الله عز ذكره يبحثُ في الأرض، ذكر لنا أنهما غرابان اقتَتَلا فقتل أحدهما صاحبه، وذلك = يعني ابن آدم = ينظر، وجعل الحيّ يَحْثِي على الميت الترابَ، فعند ذلك قال ما قال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" الآية، إلى قوله:"من النادمين". 11761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أما قوله:"فبعث الله غرابًا"، قال: قتل غرابٌ غرابًا، فجعل يحثُو عليه، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين". 11762 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، قال: وارى الغراب الغراب. قال: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض، حتى رأى الغراب يدفن الغرابَ، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين". 11763 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلَّى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، قال: بعث الله عزّ وجل غرابًا، فجعل يَبْحَثُ على غراب ميت الترابَ. قال: فقال عند ذلك:"أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين". 11764 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب ميّت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 11765 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل، قال: لما قتله سُقِط في يديه، ولم يَدْر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أوَّل قتيل من بني آدم وأوّل ميت= [قال] :"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي" الآية= [إلى قوله:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون"، قال] : (1) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل قال له جل ثناؤه: يا قابيل، (2) أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا! فقال الله جل وعز له: إنّ صوت دم أخيك لينادِيني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرضِ التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثَها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. قال قابيل: عظمت خطيئتي من أن تغفرها! (3) قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قُدَّامك، وأكون فزعًا تائهًا في الأرض، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز: ليس ذلك كذلك، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحدٍ سبعة، ولكن من قتل قابيل يجزي سبعة، (4) وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قابيل من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة. (5)   (1) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "قابيل"، وفي التاريخ مكان"قابيل" في كل موضع"قين"، وانظر ص: 205، تعليق: 3. (3) في المخطوطة: "قال ومن عظمت خطيئتي"، وصوابها"قال قين: عظمت ... " كما في التاريخ ولكن المخطوطة جرت هنا على أن تضع"قابيل" مكان"قين"، فوضع الناشر الأول للتفسير"قال قابيل" وهو حسن. (4) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "ولا يكون كل قاتل قتيلا يجزي واحدا، ولكن يجزي سبعة" وهي فاسدة كل الفساد، صححتها من تاريخ الطبري، ولكني سرت على نهج المخطوطة في وضع"قابيل" مكان"قين"، فكتبت"من قتل قابيل". (5) الأثر: 11765- هذا الذي رواه ابن إسحق من قول أهل التوراة، تجده في كتاب القوم في سفر التكوين، في الإصحاح الرابع، وهو ترجمة أخرى لهذه الفقرة من هذا الإصحاح. وانظر ما سلف ص: 183، تعليق: 2. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 11766 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن خيثمة قال: لما قتل ابن آدم أخاه نَشِفت الأرض دمه، فلُعِنت فلم تَنْشَف الأرض دمًا بعدُ. (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: فأثار الله للقاتل (2) =إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول="غرابًا يبحث في الأرض"، يقول: يحفر في الأرض، فيثير ترابها="ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، يقول: ليريه كيف يواري جيفةَ أخيه. * * * وقد يحتمل أن يكون عُنِيَ بـ"السوأة"، الفرج، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجيفة، بذلك جاء تأويل أهل التأويل. * * * قال أبو جعفر: وفي ذلك محذوفٌ ترك ذكره، استغناء بدلالة ما ذكر منه، وهو:"فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميتٍ فواراه فيها"، فقال القاتل أخاه حينئذ:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الذي وارى الغرابَ الآخر الميتَ="فأواري سوأة أخي"، فواراه حينئذ="فأصبح من النادمين"، على ما فرط منه، من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه. (3) * * * وكل ما ذكر الله عز وجلّ في هذه الآيات، مثلٌ ضربه الله عز ذكره لبني آدم، وحرَّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفوِ والصفح عن اليهود= الذين كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم= من بني النضير، (4) إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية الضمري،   (1) "نشفت الأرض الماء تنشفه نشفًا" (على وزن: علم يعلم) : شربته. (2) انظر تفسير"بعث" فيما سلف 2: 84، 85/5: 457. (3) في المخطوطة: "في قتله أخيه"، والصواب ما في المطبوعة، أو تكون: "في قتل أخيه". (4) السياق: " ... عن اليهود ... من بني النضير". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 وعرَّفهم جل وعز رداءة سجيَّة أوائلهم، (1) وسوء استقامتهم على منهج الحق، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم. وضرب مثلهم في غَدْرهم، (2) ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم، بابني آدم المقرِّبَين قرابينهما، (3) اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثلٌ لهم على التأسِّي بالفاضل منهما دون الطالح. (4) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 11767 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قلت لبكر بن عبد الله، أما بلغك أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله جل وعز ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا خيرَهما ودعوا شرَّهما"؟ قال: بلى. 11768 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني آدم ضُرِبا مثلا لهذه الأمة، فخذوا بالخير منهما. 11769 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر. (5) * * *   (1) في المخطوطة هكذا: "ردأ سجه أوائلهم" وغير منقوطة، وما في المطبوعة مقارب للصواب. (2) في المطبوعة: "في عدوهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "قرا بينهم"، والصواب ما أثبت. (4) في المخطوطة: "دون الصالح"، وهو خطأ محض. ولعل الأصل: "بالصالح منهما دون الطالح". (5) الآثار: 11767- 11769- هذه الثلاثة أخبار مرسلة، لم أهتد إلى شيء منها في دواوين السنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 القول في تأويل قوله عز ذكره: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من أجل ذلك"، من جرِّ ذلك وجَريرته وجنايته. يقول: من جرِّ القاتل أخاه من ابني آدم= اللذين اقتصصنا قصتهما= الجريرةَ التي جرَّها، وجنايتِه التي جناها="كتبنا على بني إسرائيل". * * * يقال منه:"أجَلْت هذا الأمر"، أي: جررته إليه وكسبته،"آجله له أجْلا"، كقولك:"أخَذْته أخذًا"، ومن ذلك قول الشاعر: (1) وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهمْ ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُه (2)   (1) نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن فقال: "قال الخنوت، وهو توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وإنما سماه الخنوت، الأحنف بن قيس. لأن الأحنف كلمه، فلم يكلمه احتقارًا له، فقال: إن صاحبكم هذا الخنوت! والخنوت: المتجبر الذاهب بنفسه، المستصغر للناس". و"الخنوت" (بكسر الخاء، ونون مشددة مفتوحة، واو ساكنة) . وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص: 68 وقال: "وقتل أخواه ... فأدرك الأخذ بثأرهما ... وجزع على أخويه جزعًا شديدًا، ... وكان لا يزال يبكي أخويه، فطلب إليه الأحنف أن يكف، فأبى، فسماه: الخنوت = وهو الذي يمنعه الغيظ أو البكاء من الكلام". ونسبه التبريزي في شرح إصلاح المنطق، والشنتمري في شرح ديوان زهير إلى خوات بن جبير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذي يذكر في خبر ذات النحيين. وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى، في ديوانه (شرح الشنتمري) . (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 163 (وفيه مراجع) ، وشرح إصلاح المنطق 1: 14، وشرح شعر زهير للشنتمري: 33، واللسان (أجل) ، وفي رواية لابن برى، في اللسان. وَأَهْل خِبَاء آمِنِين، فَجَعْتُهُمْ ... بِشَيْءٍ عَزِيزٍ عَاجِل أَنَا آجِلُهْ وَأَقْبَلْتُ أَسْعَى أَسْأَلُ الْقَوْمَ مَالَهُمْ ... سُؤَالَكَ بِالَّشْيءِ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ ويروى الشطر الأول، من البيت الثاني: فَأَقْبَلَتْ فِي السَّاعِينَ أَسْأَلُ عَنْهُمُ وفي المخطوطة: "قد اصرموا"، غير منقوطة، والصواب من المراجع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 يعني بقوله:"أنا آجله"، أنا الجارُّ ذلك عليه والجانِي. * * * فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسًا ظلمًا، بغير نفس قتلت، فقتل بها قصاصًا (1) ="أو فساد في الأرض"، يقول: أو قتل منهم نفسًا بغير فسادٍ كان منها في الأرض، فاستحقت بذلك قتلها. و"فسادها في الأرض"، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله، وإخافة السبيل. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: 11770 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل"، يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا. * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا". فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شدَّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا. ذكر من قال ذلك: 11771 - حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال، حدثنا الفضل   (1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 169، تعليق 1. والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287، 406/ 4: 238، 239، 243، 424/ 5: 372/ 6: 477. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، قال: من شدّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا. (1) 11772 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، يقول: من قتل نفسًا واحدًة حرَّمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مَخَافتي، واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعًا= يعني بذلك الأنبياء. * * * وقال آخرون:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، عند المقتول في الإثم="ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكةٍ="فكأنما أحيى الناس جميعًا"، عند المستنقذ. ذكر من قال ذلك: 11773 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك= وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة الهمداني، عن عبد الله= وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتَلَ   (1) الأثر: 11771-"أبو عمار المروزي"، هو: "الحسين بن حريث بن الحسن بن ثابت". روى عن ابن المبارك، والفضل بن موسى، وابن أبي حازم، وابن عيينة، وغيرهم. روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/389، وابن أبي حاتم 1/2/50. و"الفضل بن موسى السيناني"، أبو عبد الله المروزي. ثقة ثبت روى له الجماعة. مترجم في التهذيب. و"الحسين بن واقد المروزي"، مضى برقم: 4810، 6311. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 الناس جميعًا"، عند المقتول، يقول: في الإثم="ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكة="فكأنما أحيى الناس جميعًا"، عند المستنقَذ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إن قاتل النفس المحرم قتلُها، يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، من سلم من قتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعًا. ذكر من قال ذلك: 11774 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها="ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: ومن أوبقها. 11775 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: من أوبق نفسًا فكما لو قتل الناس جميعًا، ومن أحياها وسلم من ظُلمها فلم يقتلها، (1) فقد سلم من قتل الناس جميعًا. 11776 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، لم يقتلها، وقد سلم منه الناس جميعًا، لم يقتل أحدًا. 11777 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي قال، أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال: سألت مجاهدًا= أو: سمعته يُسْأل= عن قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: لو قتل الناس جميعًا، كان جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِب   (1) في المطبوعة: "وسلم من طلبها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 الله عليه ولَعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا. (1) 11778 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن الأعرج، (2) عن مجاهد في قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا، جعل الله جزاءه جهَنّم، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا. يقول: لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك من العذاب= قال ابن جريج، قال مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: من لم يقتل أحدًا، فقد استراح الناسُ منه. 11779 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: أوبق نفسه. (3) 11780 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: في الإثم. 11780 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، وقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء: 93] قال: يصير إلى جهنم بقتل المؤمن، كما أنه لو قتل الناس جميعًا لصار إلى جهنم. 11781 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: هو كما قال= وقال:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، فإحياؤها: لا يقتل نفسًا حرمها الله، فذلك الذي أحيى الناس جميعًا، يعني: أنه من حرم قتلها إلا بحقٍّ، حَيِي الناس منه جميعًا.   (1) هذا تضمين آية"سورة النساء": 93. (2) في المطبوعة: "قراءة عن الأعرج"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "أوبق نفسا"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 11782 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد:"ومن أحياها"، قال: ومن حرَّمها فلم يقتلها. 11783 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن العلاء قال: سمعت مجاهدًا يقول:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها. 11784 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: هي كالتي في"النساء": (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء: 93] ، في جزائه. 11785 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس جميعًا" كالتي في"سورة النساء"، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) في جزائه="ومن أحياها"، ولم يقتل أحدًا، فقد حيِيَ الناس منه. 11786 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، قال: التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، لأنه يجب عليه من القِصاص به والقوَد بقتله، مثلُ الذي يجب عليه من القَوَد والقصاص لو قتل الناس جميعًا. ذكر من قال ذلك:   (1) كأنه يعني بقوله: "هو هذا وهذا"، أن قتل نفس محرمة بغير نفس أو فساد في الأرض قتل للناس جميعًا، وإحياؤها إحياء للناس جميعًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 11787 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: يجب عليه من القتل مثلُ لو أنه قتل الناس جميعًا. قال: كان أبي يقول ذلك. * * * وقال آخرون معنى قوله:"ومن أحياها": من عفا عمن وجب له القِصَاص منه فلم يقتله. ذكر من قال ذلك: 11788 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، يقول: من أحياها، أعطاه الله جل وعزّ من الأجر مثلُ لو أنه أحيى الناس جميعًا="أحياها" فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك وليّ القتيل، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال: كان أبي يقول ذلك: 11789 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من عفا. 11790 - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من قُتِل حميمٌ له فعفا عن دمه. (1) 11791 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن."ومن أحياها فكأنما أحيى الناسَ جميعًا"، قال: العفو بعد القدرة. * * *   (1) "الحميم": ذو القرابة القريب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وقال آخرون: معنى قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، ومن أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ. (1) ذكر من قال ذلك: 11792 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا" قال: من أنجاها من غَرَق أو حرَقٍ أو هَلَكةٍ. 11793 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من غرَق أو حَرَق أو هَدَمٍ. (2) 11794 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل عن خصيف، عن مجاهد:"ومن أحياها"، قال: أنجاها. * * * وقال الضحاك بما:- 11795 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك قال:"من قتل نفسًا بغير نفس"، قال: من تورَّع أو لم يتورَّع. (3) 11796 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فكأنما أحيى الناس جميعًا"، يقول: لو لم يقتله لكان قد أحيى الناس، فلم يستحلّ محرَّمًا. * * *   (1) "الحرق" (بفتحتين) : النار ولهبها، كالحريق. وفي الحديث: "الحرق والغرق والشرق شهادة" (كل ذلك بفتحات) . (2) "الهدم" (بفتحتين) . وهو البناء المهدوم، وفي حديث الشهداء: "وصاحب الهدم شهادة". (3) كأنه يعني: من تورع عن قتلها، أو لم يتورع ولكنه لم يقتل، فكأنما أحيى الناس جميعا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 وقال قتادة والحسن في ذلك بما:- 11797 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض"، قال: عَظُم ذلك. 11798 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس" الآية، من قتلها على غير نفس ولا فسادٍ أفسدته="فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" عظُم والله أجرُها، وعظُم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوة إلا بالله. وإنا لا نعلمُه يحل دم رجل مسلمٍ من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفرَ بعد إسلامه، فعليه القتل= أو زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم= أو قتل متعمدًا، فعليه القَوَد. 11799 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال: تلا قتادة:"من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: عظم والله أجرُها، وعظم والله وِزْرها! 11800 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سلاّم بن مسكين قال، حدثني سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس" الآية، أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إِي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟ (1) 11801 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن   (1) الأثر: 11800-"سلام بن مسكين بن ربيعة الأزدي"، "أبو روح"، ثقة. مضى برقم: 692. و"سليمان" بن علي الربعي الأزدي". ثقة. مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 المبارك، عن سعيد بن زيد قال: سمعت خالدًا أبا الفضل قال: سمعت الحسن تلا هذه الآية:"فطوَّعت له نفسه قتل أخيه" إلى قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، ثم قال: عظَّم والله في الوزر كما تسمعون، ورغَّب والله في الأجر كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم، أنك لو قتلت الناس جميعًا، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار، كذَبَتْك والله نفسك، وكذَبَك الشيطان. (1) 11802 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن الحسن في قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: وِزْرًا="ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: أجرًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: تأويل   (1) الأثر: 11801-"سعيد بن زيد بن درهم الأزدي"، أخو: حماد بن زيد. تكلموا فيه، ووثقوه فقالوا: "صدوق حافظ"، وأعدل ما قيل فيه ما قاله ابن حبان: "كان صدوقا حافظًا، ممن كان يخطئ في الأخبار ويهم، حتى لا يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/432، وابن أبي حاتم 2/1/21. و"خالد، أبو الفضل". قال البخاري في الكبير 2/1/153: "خالد بن أبي الفضل، سمع الحسن. روى عنه سعيد بن زيد قوله ... وكنيته خالد بن رباح أبا الفضل، فلا أدري هو ذا أم لا"؟ كأن البخاري يعني هذا الأثر. ثم ترجم"خالد بن رباح الهذلي" 2/1/136، وقال: "سمع منه وكيع"، ولم يذكر"سعيد بن زيد". وقال: "قال يزيد بن هرون، أخبرنا خالد بن رباح أبو الفضل". وأما ابن أبي حاتم فقد ترجم في الجرح والتعديل 1/2/346: "خالد بن الفضل. روي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد. سمعت أبي يقول ذلك". ثم ترجم في 1/2/330. و"خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل ... روى عن الحسن .... "، ولم يذكر في الرواه عنه"سعيد بن زيد". وترجم له الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 112، وفي لسان الميزان 2: 374، "خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل البصري"، ونقل عن ابن حبان في الضعفاء أن كنيته"أبو الفضل" ثم قال: "ولما ذكره في الطبقة الثالثة من الثقات قال: خالد بن رباح أبو الفضل، يروي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد". قال ابن حجر: "فما أدري، ظنه آخر، أو تناقض فيه؟ ". أما ترجمته في لسان الميزان، فلم يذكر كنيته هناك، ونقل بعض ما جاء في تعجيل المنفعة. والظاهر أن"خالدًا أبا الفضل"، هو"خالد بن رباح الهذلي" نفسه، وأن ما جاء في ابن أبي حاتم"خالد بن الفضل" خطأ أو وهم. والظاهر أيضًا أنه توقف في أمر"خالد بن أبي الفضل"، ورجح أن يكون خطأ من الرواة، وأن الراوية"خالد أبو الفضل". وهو"خالد بن رباح الهذلي" نفسه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 ذلك: أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا= أو بغير فساد في الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها= فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 93] . * * * وأما قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" فأولى التأويلات به، قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [سورة البقرة: 258] . فكان معنى الكافر في قيله:"أنا أحيي"، (1) أنا أترك من قَدَرت على قتله- وفي قوله:"وأميت"، قتله من قتله. (2) فكذلك معنى"الإحياء" في قوله:"ومن أحياها"، من سلِمَ الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم="فكأنما أحيى الناس جميعًا". وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفسَ يقومُ قتلُها في عاجل الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل النفع. فكان معلومًا بذلك أن معنى"الإحياء": سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس- وأن الواحدة منها التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض. (3) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة هنا: "أنا أحيي وأميت" ولا شك أن قوله: "وأميت" تكرار، فتركته. (2) انظر ما سلف: 5: 432. (3) انظر تفسير"الإحياء" فيما سلف 5: 432، وما بعدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) } قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به: أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت، من قوله:"يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم" إلى هذا الموضع="بالبينات"، يعني: بالآيات الواضحة والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم، (1) وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم، وأداء فرائضِ الله عليهم. =يقول الله عز ذكره:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون"، يعني: أن كثيرًا من بني إسرائيل. * * * =و"الهاء والميم" في قوله:"ثم إن كثيرًا منهم"، من ذكر بني إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله:"ولقد جاءتهم". * * * ="بعد ذلك"، يعني: بعد مجيء رسل الله بالبينات (2) . ="في الأرض لمسرفون"، يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادُّو الله ورسله، باتباعهم أهواءَهم. وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "على حقية"، فعل بما كان في المخطوطة، كما فعل بأخواتها من قبل، انظر ما سلف، كما أشرت إليه في ص: 19، تعليق: 3، والمراجع السابقة هناك. (2) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 9: 360، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الإسراف" فيما سلف 7: 272، 579. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا} قال أبو جعفر: وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم"الفساد في الأرض"، الذي ذكره في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض"= أعلم عباده: ما الذي يستحق المفسدُ في الأرض من العقوبة والنكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتلُ، والصلب، وقطعُ اليد والرِّجل من خلافٍ، أو النفي من الأرضِ، خزيًا لهم. وأما في الآخرة إن لم يتبْ في الدنيا، فعذاب عظيم. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في قوم مِن أهل الكتاب كانوا أهل مودَاعةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فعرَّف الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم الحكمَ فيهم. ذكر من قال ذلك: 11803 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا"، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ وميثاق، فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض، فخيَّرَ الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ. 11804 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله جل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 وعز نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صَلَب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. 11805 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه. * * * وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين. ذكر من قال ذلك: 11806 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى "أن الله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدِروا عليه لم يكن عليه سبيل. وليست تُحْرِزُ هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ. إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدَر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدُّ الذي أصاب. (1) 11807 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: نزلت في أهل الشرك. * * * وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عُرَيْنه وعُكْل، ارتدُّوا عن الإسلام، وحارَبوا الله ورسوله. [ذكر من قال ذلك] : 11808 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا سعيد   (1) الأثر: 11806-"يزيد" هو"يزيد النحوي"، "يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي" مضى برقم: 6311. وكان في المطبوعة هنا: "زيد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. وأخرجه النسائي في سننه 7: 101 بمثله. وأبو داود في سننه 4: 187، رقم 4372، وسيأتي برقم: 11872. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطًا من عُكْلٍ وعُرَينة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، (1) وإنا استوخمنا المدينة، (2) فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وراعٍ، (3) وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، (4) وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا (5) = فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله". (6) 11809 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا روح قال، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل هذه القصة. (7) 11810 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبى يقول:   (1) "أهل ضرع": أهل إبل وشاء. و"الضرع"، ثدي كل ذات خف أو ظلف، يعني أنهم أهل بادية= و"أهل ريف": أهل زرع وحرث، وهم الحضر. و"الريف"، ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها. (2) "استوخموا المدينة": استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم، فمرضوا. (3) "الذود": القطيع من الإبل، من الثلاث إلى التسع. (4) "سمل عينه": فقأها بحديدة محماة، أو بشوك، أو ما شابه ذلك. وإنما فعل بهم ذلك، لأنهم فعلوا بالرعاة مثله، فجازاهم على صنيعه بمثله. (5) "الحرة" (بفتح الحاء) : أرض ذات حجارة سود نخرات، كأنها أحرقت بالنار. ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حرتين. (6) الأثران: 11808، 11809-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 3015، 3355، 3912. و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي". وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده 3: 163، من طريق معمر، عن قتادة/ و170، من طريق سعيد عن قتادة/ و233، من طريق سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد، عن قتادة/ و290 من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 351) من طريق عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11: 157. وأبو داود في سننه 4: 186، رقم 4368، من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق 7: 97، والبيهقي في السنن 8: 62. (7) الأثران: 11808، 11809-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 3015، 3355، 3912. و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي". وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده 3: 163، من طريق معمر، عن قتادة/ و170، من طريق سعيد عن قتادة/ و233، من طريق سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد، عن قتادة/ و290 من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 351) من طريق عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11: 157. وأبو داود في سننه 4: 186، رقم 4368، من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق 7: 97، والبيهقي في السنن 8: 62. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم= وسئل عن أبوال الإبل= فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على الإسلام! فبايعوه وهم كَذَبة، وليس الإسلامَ يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة! (1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذه اللَّقاح تغدو عليكم وتروح، (2) فاشربوا من أبوالها وألبانها. قال: فبينا هم كذلك، إذ جاء الصريخُ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) فقال: قتلوا الراعي، وساقوا النَّعَم! فأمر نبي الله فنودي في الناس: أنْ"يا خيل الله اركبي"! (4) قال: فركبوا، لا ينتظر فارسٌ فارسًا. قال: فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنَهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية. قال: فكان نفيُهم: أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنَهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله منهم، وصلب وقَطَع، وَسَمل الأعين. قال: فما مثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال: ونهَى عن المُثْلة، وقال: لا تمثِّلوا بشيء. قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. (5) * * *   (1) "اجتوى الأرض والبلد": إذا كره المقام فيه، وإن كانت موافقة له في بدنه. ويقال: "الاجتواء": أن لا تستمرئ الطعام بالأرض والشراب، غير أنك إذ أحببت المقام بها ولم يوافقك طعامها، فأنت"مستوبل"، ولست بمجتو. ويقال في شرح حديث العرنيين: أصابهم"الجوى"، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول. (2) "اللقاح" (بكسر اللام) جمع"لقحة" (بكسر فسكون) ، وهي ذوات الألبان من النوق. (3) "الصريخ" و"الصارخ": المستغيث. وقوله: "صرخ إلى رسول الله"، كأنه يعني: انتهى باستغاثته إلى رسول الله. وهو تعبير قلما تظفر به في المراجع فقيده. (4) قال ابن الأثير: "هذا على حذف المضاف، أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، وهذا من أحسن المحازات وألطفها"، وهي في التنزيل: "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك"، أي بفرسانك ورجالتك. (5) الأثر: 11810-"أبو حمزة"، هو"ميمون، أبو حمزة الأعور القصاب"، ضعيف جدا، مضى برقم: 6190. و"عبد الكريم"، هو"عبد الكريم بن مالك الجزري: " أبو سعيد، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 892. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس من بَجيلة [ذكر من قال ذلك] : 11811 - حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال: قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة، حفاةً مضرورين، (1) فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) فلما صَحُّوا واشتدُّوا، قتلوا رِعاءَ اللقاح، (3) ثم خرجوا باللِّقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير: فبعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرَفُوا على بلاد قومهم، فقدِمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلَهم من خلاف، وسملَ أعينهم، وجعلوا يقولون:"الماء"! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"النار"! حتى هلكوا. قال: وكره الله عز وجلَ سَمْل الأعين، فأنزل هذه الآية:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية. (4)   (1) "المضرور" و"الضرير": المريض المهزول الذي أصابه الضر. (2) يعني بقوله: "فأمر بهم"، يعني: أمر ان يمرضوا ويعتني بأمرهم. (3) "الرعاء" و"الرعاة" جمع"راع". (4) الأثر: 11811-"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 126، 6534. و"الحسن بن حماد بن كسيب الحضرمي"، وهو"سجادة". روي عن حفص بن غياث ويحيى بن سعيد الأموي، وأبي خالد الأحمر، وأبي مالك الجنبي، ووكيع، وغيرهم. روى عنه أبو داود، وابن ماجه وغيرهم. ثقة. قال أحمد: "صاحب سنة، ما بلغني عنه إلا خيرًا". توفى سنة 241. وكان في المطبوعة: "الحسن بن هناد"، خطأ، صوابه في المخطوطة. وتفسير ابن كثير. و"عمرو بن هاشم"، هو"أبو مالك الجنبي"، صدوق يخطئ، لينوه. مضى برقم: 1530 و"موسى عبيدة بن نشيط الربذي" ضعيف نمرة، قال أحمد: "لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة". مضى برقم: 1875، 3291، 8361، 11134= وكان في المطبوعة والمخطوطة: "موسى بن عبيد"، وهو خطأ، صوابه من تفسير ابن كثير. وأما "محمد بن إبراهيم"، فكأنه"محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي"، رأى سعد بن أبي وقاص، وأبا سعيد الخدري، وأرسل عن ابن عمر وابن عباس. فلا أدري أسمع من جرير بن عبد الله، أم لا. وجرير مات سنة 51. وهذا الخبر ضعيف جدا، وهو أيضا لا يصح، لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفى فيه، وخبر العرنيين كان في شوال سنة ست، في رواية الواقدي (ابن سعد2/1/67) ، وكان أمير السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة، بأعوام. وهذا الخبر، ذكره الحافظ ابن حجر، في ترجمة"جرير بن عبد الله البجلي"، وضعفه جدا. أما ابن كثير، فذكره في تفسيره 3: 139، وقال: "هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي، وهو ضعيف. وفي إسناده فائدة: وهو ذكر أمير هذه السرية. وهو جرير بن عبد الله البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسًا من الأنصار. وأما قوله: فكره الله سمل الأعين، فإنه منكر. وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصًا، والله أعلم". والعجب لابن كثير، يظن فائدة فيما لا فائدة فيه، فإن أمير هذه السرية، كان، ولا شك، كرز ابن جابر الفهري، ولم يرو أحد أن أميرها كان جرير بن عبد الله البجلي، إلا في هذا الخبر المنكر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 11812 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير= ح، وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، وسعيد بن عبد الرحمن وابن سمعان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أغار ناس من عرينة على لِقَاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقوها وقتلوا غلامًا له فيها، فبعث في آثارهم، فأخِذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمل أعينهم. (1)   (1) الأثر: 11812-"أبو الأسود"، "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي"، هو"يتيم عروة" ثقة. سلف برقم: 2891، 11510. "يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة، مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب. و"سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حميل الجمحي"، قاضي بغداد. ثقة، قال أحمد: "ليس به بأس، وحديثه مقارب". وقال ابن أبي عدي: "له غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يهم في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفًا، ويصل مرسلا، لا عن تعمد". مترجم في التهذيب. و"ابن سمعان"، هو"عبد الله بن سليمان بن سمعان المخزومي"، وهو ضعيف كذاب. سئل مالك عنه فقال: "كذاب". وقال هشام بن عروة (الذي روى عنه هذا الأثر هنا) : "حدث عني بأحاديث، والله ما حدثته بها، ولقد كذب علي". وقد أجمعوا على أنه لا يكتب حديثه، كما قال النسائي. قال ابن عدي: "أروى الناس عنه ابن وهب، والضعف على حديثه ورواياته بين". أما ابن وهب الراوي عنه هنا، فقد سأله عنه أحمد بن صالح فقال: "ما كان مالك يقول في ابن سمعان؟ "، قال: "لا يقبل قول بعضهم في بعض". وهذا الخبر الذي رواه الطبري بهذا الإسناد، صحيح، إلا ما كان من ضعف ابن سمعان وتركه، ولذلك رواه النسائي في سننه 7: 99، 100، فساق إسناد الطبري ولكنه أغفل ذكر ابن سمعان فقال: "أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال، أنبأنا ابن وهب قال. وأخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم وسعيد بن عبد الرحمن، وذكر آخر، عن هشام بن عروة، عن عروة بن الزبير"، فنكر ذكر"ابن سمعان"، لأنه متروك عنده. وهذا الخبر روي بأسانيد صحاح أخرى مرفوعا إلى عائشة. انظر السنن للنسائي 7: 99. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 11813 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر= أو: عمرو، شك يونس=، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونزلت فيهم آية المحاربة. (1) 11814 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قدم ثمانية نفَرٍ من عُكْلٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها.   (1) الأثر: 11813-"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري"، ثقة حافظ، مضى برقم: 1387، 5973، 6889. و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة، من أتباع التابعين. مضى برقم: 1495، 5465. و"أبو الزناد" هو: "عبد الله بن ذكوان القرشي"، قيل إن أباه كان أخا أبي لؤلؤة، قاتل عمر بن الخطاب. ثقة، لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم منه. و"عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب". روى عن عمه عبد الله، وروى عنه أبو الزناد. ثقة. روى له أبو داود والنسائي حديثًا واحدًا، هو هذا الحديث. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن عبد الله"، وهو خطأ محض. وأما ما شك فيه يونس من أنه"عبد الله بن عمر بن الخطاب "أو"عبد الله بن عمرو بن العاص"، فشك لا مكان له. والصحيح أنه"عبد الله بن عمر بن الخطاب". وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه 4: 186- 187، رقم 4369، مطولا. ورواه النسائي في سننه 7: 100 بمثل رواية أبي جعفر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 ففعلوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قَافَة، (1) فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، (2) وتركهم فلم يحسِمْهُم حتى ماتوا. (3) 11815 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد قال، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة نفرٍ من عرينة، وثلاثةً من عكل. فلما أتي بهم، قطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يتلقَّمون الحجارة بالحرَّة، (4) فأنزل الله جل وعز في ذلك:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية. (5) 11816 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. (6)   (1) "القافة" جمع"قائف": وهو الذي يعرف آثار الأقدام ويتبعها."قاف الأثر يقوفه قيافة، واقتافه اقتيافا". (2) "حسمه الدم يحسمه حسمًا": أي قطعة بالكي بالنار. (3) الأثر: 11814- هذا الخبر رواه أحمد في مسند أنس من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة الجرمي 3: 198، من طريق أبي جعفر نفسها، وفيه"قتلوا رعاتها- أو رعاءها"، وفيه زيادة"ولم يحسمهم حتى ماتوا، وسمل أعينهم". ورواه البخاري في صحيحه من طريق أيوب، عن أبي قلابة (الفتح 1: 289/6: 108/7: 352/12: 99) ، ورواه أيضا من طريق أبي رجاء مولى أبي قلابة، عن أنس (الفتح 8: 206) واستوفى الحافظ الكلام في شرحه وبيانه. ورواه مسلم في صحيحه من طرق 11: 153- 157. ورواه أبو داود في سننه 1: 185، 186 من طرق. ورواه النسائي في سننه من طرق 7: 93- 95. (4) "يتلقمون الحجارة": أي يضعون الحجارة في أفواههم من العطش، كي تستدر الريق. وجاء مفسرًا في ألفاظ الحديث الأخرى. قال أنس: "فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا". يقال: "لقم الطعام وتلقمته والتقمه". (5) الأثر: 11815- انظر الأثرين السالفين رقم: 11808، 11809. (6) الأثر: 11816- انظر سنن النسائي 7: 98، وقول أمير المؤمنين عبد الملك لأنس وهو يحدثه حديث العرنيين: "بكفر أو بذنب؟ "، فقال أنس: "بكفر". وسيأتي هذا الخبر مطولا، وقول أبي جعفر فيه، وتخريجه هناك برقم: 11854. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 11817 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا"، قال: أنزلت في سُودان عرينة. قال: أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماءُ الأصفر، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى إذا صَحُّوا وبرأوا، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، معرِّفَه حكمه على من حارب الله ورسوله، (1) وسعى في الأرض فسادًا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما فعل. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن القِصَص التي قصّها الله جل وعزّ قبلَ هذه الآية وبعدَها، من قَصَص بنى إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسِّطًا، (2) من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم، (3) أولى وأحقّ. وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما فعل، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. * * * وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفسًا بغير نفس، أو سعى بفسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا= ولقد جاءتهم رُسُلنا   (1) في المطبوعة: "معرفة حكمه"، وهو خطأ. (2) "متوسطًا"، منصوب على الحال. (3) في المطبوعة: "من يعرف الحكم"، ومثلها في المخطوطة، ولكنها غير منقوطة، ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 بالبينات ثُمَّ إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون- يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلوا النفوس بغير نفس، وغير سعي في الأرض بالفسادِ حربًا لله ولرسوله= فمن فعل ذلك منهم، يا محمد، فإنما جزاؤه: أن يقتَّلوا، أو يصلَّبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرتَ: من حال نقض كافرٍ من بني إسرائيل عهدَه= ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام، (1) دون أهل الحرب من المشركين؟ قيل: جازَ أن يكون ذلك كذلك، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا من أهل ذمَّتنا وملَّتنا واحد. والذين عنوا بالآية، كانوا أهل عهد وذِمَّة، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمِّي وملِّي، وليس يَبْطُل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس، أن يكون صحيحًا نزولها فيمن نزلت فيه. * * * وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين. فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ، نسخَه نهيُه عن المثلة بهذه الآية= أعني بقوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الآية. وقالوا: أنزلت هذه الآية عِتابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعُرَنيين. * * * وقال بعضهم: بل فِعْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، حكمٌ ثابت في نظرائهم أبدًا، لم ينسخ ولم يبدّل. وقوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، حكمٌ من الله فيمن حارب وسَعى في الأرض فسادًا بالحِرَابة. (2) قالوا:   (1) قوله: "ومن قولك"، الواو واو الحال، يعني: كيف يجوز ذلك، وأنت تقول كذا وكذا. (2) "الحرابة" (بكسر الحاء) مصدر مثل"العبادة" و"الرعاية" و"التجارة"، يراد به معنى: "المحاربة لله ورسوله، والسعي في الأرض فسادًا". وهو مصدر من قولهم: "حربه" أي سلبه وأخذ ماله وتركه بلا شيء. وليس مصدر"حارب"، فإن مصدر ذلك"محاربة وحرابًا"مثل"قاتل مقاتلة وقتالا". وهذا اللفظ على كثرة دورانه في كتب الأئمة لم يرد له ذكر في كتب اللغة، كأنهم عدوه مما استعمله الفقهاء، ولم تأت به رواية اللغة. وهو، إن شاء الله، عربي صحيح البناء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 والعرنيون ارتدُّوا، وقتلوا، وسرقوا، وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة. (1) * * * وقال آخرون: لم يسمُل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيِّين، ولكنه كان أراد أن يسمُل، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه، يعرِّفه الحكم فيهم، ونهاه عن سمل أعينهم. ذكر القائلين ما وصفنا: 11818 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت اللَّيث بن سعد ما كان من سَمْل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعيُنهم، وتركه حَسْمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبةً في ذلك، وعلَّمه عقوبة مثلهم: من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدَهم غيرَهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو، (2) فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بَلَى، (3) كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، فرفع عنهم السمل. 11819 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم= يعني العرنيين= فأراد أن يسمُل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود، كما أنزلها الله عليه. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "الإسلام والذمة"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) "أبو عمرو" يعني الأوزاعي. (3) "بلى" استعملها هنا جوابًا في غير حجد سبقها. وقد سلفت قبل ذلك، انظر ما سلف ص 98: تعليق: 4. (4) انظر الاختلاف في نسخ هذه الآية في"الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس: 123- 128، فهو فصل مهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 واختلف أهل العلم في المستحق اسم"المحارب لله ورسوله"، الذى يلزمه حكمُ هذه. فقال بعضهم: هو اللص الذي يقطَع الطريق. ذكر من قال ذلك: 11820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الآية، قالا هذا، اللص الذي يقطع الطريق، (1) فهو محارب. * * * وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته، المكابرُ في المصر وغيره. (2) وممن قال ذلك الأوزاعي. 11821 - حدثنا بذلك العباس، عن أبيه عنه. (3) * * * =وعنه، وعن مالك، والليث بن سعد، وابن لهيعة.   (1) في المطبوعة: "هذا هو اللص"، زيادة لا خير فيها، زادها من نفسه. (2) في المخطوطة: "المكاثر" بالثاء المثلثة. والذي في المطبوعة هو الصواب: "كابره على حقه" جاحده وغالبه عليه. و"إنه لمكابر عليه"، إذا أخذ منه عنوة وقهرًا. وهي كثيرة في كتاب الأم للشافعي في هذا الموضع من باب الفقه. انظر الأم 6: 140، وغيرها. (3) الأثر: 11821-"العباس"، يعني"العباس بن الوليد بن مزيد العذري الآملي البيروتي"، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: 891. وأبوه: "الوليد بن مزيد العذري البيروتي". روى عن الأوزاعي، وروى عنه ابنه العباس. ويروى عن الأوزاعي أنه قال: "ما عرض علي كتاب أصح من كتب الوليد بن مزيد". مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة هنا: "حدثنا بذلك العباس، عن أبيه وعنه عن مالك والليث ... "، وهو خطأ لا شك. فإن"الوليد بن مزيد" لم تذكر له رواية عن مالك أو الليث أو ابن لهيعة. والذي رواه عنهم هو: "الوليد بن مسلم" الآتي في الآثار التالية. فمن أجل ذلك صح بعض ما في المطبوعة، وصححت ما تركه. ففي المطبوعة: " ... عن أبيه، عنه وعن مالك ... "، فجعلته: "وعنه وعن مالك ... " لأنه سيروي في ذلك قول الأوزاعي أيضا من طريق الوليد بن مسلم برقم: 11824، كما سيأتي. واستقام بذلك الكلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 11822 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: تكونُ محاربةٌ في المصر؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصرٍ أو خلاء، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ولا ذَحْل ولا عداوة، (1) قاطعًا للسبيل والطريق والديار، مخيفًا لهم بسلاحه، فقتل أحدًا منهم، قتله الإمام كقِتْلة المحارب، (2) ليس لوليّ المقتول فيه عَفْوٌ ولا قَوَد. 11823 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: وسألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة، قلت تكون المحاربة في دُور المصر والمدائن والقُرى؟ فقالا نعم، إذا هم دخَلوا عليهم بالسيوف عَلانيةً، أو ليلا بالنيران. (3) قلت: فقتلوا أو أخذُوا المال ولم يقتلوا؟ فقال: نعم هم المحاربون، فإن قَتَلوا قُتِلوا، وإن لم يَقْتُلوا وأخذوا المال، قُطِعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدّار، ليس من حارب المسلمين في الخَلاء والسبيل، بأعظم محاربةً مِمَن حاربهم في حَرِيمهم ودورهم! 11824 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: (4) وتكون المحاربة في المصر، شَهَر على أهله بسلاحه ليلا أو نهارًا= قال علي، قال الوليد: وأخبرني مالك: أن قتل الغِيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغِيلَة؟ قال: هو الرجل يخدَع الرَّجل والصبيَّ، فيدخِلُه بيتًا أو يخلُو به، فيقتله، ويأخذ ماله. فالإمام وليّ قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قَوَد ولا قصاص. * * * =وهو قول الشافعي. 11825- حدثنا بذلك عنه الربيع. * * *   (1) "النائرة": الفتنة الحادثة في عداوة وشحناء، و"نار الحرب" و"نائرتها": شرها وهيجها. و"الذحل": الثأر. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "كقتله المحارب"، والمخطوطة غير منقوطة، فهذا صواب قراءتها. و"القتلة": هيأة القتل. (3) قوله"قلت" هنا، ليست في المخطوطة، وزادها الناشر الأول، وأحسن في فعله. (4) "الوليد بن مسلم"، و"أبو عمرو" هو: الأوزاعي، انظر التعليق السالف ص: 254، رقم: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 وقال آخرون:"المحارب"، هو قاطع الطريق. فأما"المكابر في الأمصار"، (1) فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. 11826 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، قال: تذاكرنا المحاربَ ونحن عند ابن هبيرة، في أناس من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم: أن المحارب ما كان خارجًا من المصر. * * * وقال مجاهد بما:- 11827 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" قال: الزنا، والسرقة، وقتل الناس، وإهلاك الحرث والنسل. 11828 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"ويسعون في الأرض فسادًا" قال:"الفساد"، القتل، والزنا، والسرقة. وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال:"المحارب لله ورسوله"، من حارب في سابلة المسلمين وذِمَّتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حِرَابة. (2) وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربًا للمسلمين على الظلم منه لهم، أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم نَاصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحربَ لهم في مصرهم وقُراهم، أو في سُبلهم وطرقهم: في أنه لله ولرسوله محارب، بحربه من نَهَاه الله ورسوله عن حربه. * * *   (1) انظر تفسير"المكابر" فيما سلف قريبًا ص: 254، تعليق: 2. (2) انظر ما قلته في"الحرابة" فيما سلف ص: 252، تعليق: 2. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 وأما قوله:"ويسعون في الأرض فسادًا"، فإنه يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي: من إخافة سُبُل عباده المؤمنين به، أو سُبُل ذمتهم، وقطعِ طرقهم، وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا، والتوثُّب على حرمهم فجورًا وفُسُوقًا. (1) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما للذي حاربَ الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم- إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه. * * * ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال، أتلزم المحاربَ باستحقاقه اسم"المحاربة"، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه، مختلفًا باختلاف أجرامه؟ [فقال بعضهم: تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه، ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه، مختلفًا باختلاف أجرامه] . (2) ذكر من قال ذلك: 11829 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله   (1) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف ص: 232، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، فإن أبا جعفر سيذكر هذا القول، والقول الآخر، فيما اختلفوا فيه. ومن دأبه أن يصدر كل قول قاله العلماء بترجمة قولهم. فسقط من هذا الموضع ترجمة هذا الباب، فاستظهرتها من سؤاله السالف، ومن معنى الآثار التالية، ومن ترجيح أبي جعفر بين هذين التأويلين فيما سيأتي ص: 264، والظاهر أن الناسخ سها، واختلط عليه ختام جملة بختام جملة أخرى، فأسقط الترجمة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: إذا حارب فقتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبْلَ توبته. (1) وإذا حارب وأخذ المال وقتل، فعليه الصَّلب إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطعُ اليدِ والرجل من خلافٍ إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النّفي. 11830 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قال: إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال، قُطعت يده ورجله من خِلافٍ. وإذا أخاف السبيلَ، ولم يأخذ المال وقتل، صُلب. 11831 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم -فيما أرى - في الرجل يخرج محاربًا، قال: إن قطع الطريق وأخذ المال، قطعت يدُه ورجله. وإن أخذ المال وقَتل، قُتل، وإن أخذ المال وقَتَل ومثَّل، صُلب. 11832 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، قال: إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل، صُلب. وإذا قتل لم يعدُ ذلك، قُتل. إذا أخذ المالَ لم يعدُ ذلك، قُطِع. وإذا كان يُفْسد نُفي. 11833 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض" قال: إذا أخافَ الطريق ولم يَقتُل ولم يأخذ المال، نُفي. 11834 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن حصين قال: كان يقال: من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتُل،   (1) "ظهر عليه" (بالبناء للمجهول) : أي غلب فأخذ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 قطِعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ المال وقَتَل، صُلب. 11835 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه كان يقول في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"، حدودٌ أربعة أنزلها الله. فأما من أصاب الدم والمال جميعًا، صلب. وأما من أصاب الدم وكفّ عن المال، قُتل. ومن أصاب المال وكفَّ عن الدم، قُطع. ومن لم يصب شيئًا من هذا، نفي. 11836 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نهى الله نبيَّه عليه السلام عن أن يسمل أعينَ العرنيين الذين أغاروا على لِقَاحه، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه. فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل، فقطَع يدَه ورجلَه من خلاف، يدَه اليمنى ورجلَه اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقَتَله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل، فصلبه. وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريقَ المسلمين وقَطَع، أن يصنع به إن أخِذ وقد أخَذ مالا قطعت يده بأخذِه المال، ورجلُه بإخافة الطريق. وإن قَتَل ولم يأخذ مالا قُتِل، وإن قتل وأخذ المال، صُلِب. 11837 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق قال: سمعت السدي يسأل عطيّة العوفيّ، عن رجل محاربٍ، خرج فأخذ ولم يصبْ مالا ولم يهرق دمًا. قال: النفي بالسيف، (1) وإن أخذ مالا فيده بالمال، ورجلُه بما أخاف المسلمين. وإن هو قتل ولم يأخذ مالا قتل. وإن هو قتل وأخذ المال، صُلب= وأكبر ظني أنه قال: تقطع يده ورجله. 11838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية،   (1) قوله: "النفي بالسيف"، يعني أن يطارد حتى يخرج من الأرض، حتى يدخلوا مأمنهم وأرضهم، كما سلف في الأثر رقم: 11810. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 قال: هذا، اللصُّ الذي يقطع الطريقَ، فهو محارب. فإن قتل وأخذ مالا صُلب. وإن قتل ولم يأخذ مالا قُتِل. وإن أخذ مالا ولم يقتل، قطعت يده ورجله. (1) وإن أخِذ قبل أن يفعل شيئا، من ذلك، نفي. 11839 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير قال: من خرج في الإسلام محاربًا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا فإنه يقتل ويُصْلَب. ومن قتل ولم يصب مالا فإنه يقتل كما قَتَل. ومن أصاب مالا ولم يقتل، فإنه يُقْطَع من خلاف. وإن أخاف سبيل المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز:"أو ينفَوا من الأرض". 11840 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: كان ناس يسعون في الأرض فسادًا، وقَتَلوا وقَطَعوا السبيل، فصُلِب أولئك. وكان آخرون حاربُوا واستحلُّوا المال ولم يعدُوا ذلك، فقطعت أيديهم وأرجلهم. وآخرون حارَبوا واعتزَلوا ولم يعدوا ذلك، فأولئك أخْرجوا من الأرض. 11841 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال. قال، حدثنا قتادة، عن مورِّق العجلي في المحارب قال: إن كان خرج فقتَل وأخذ المال، صُلب. وإن كان قتل ولم يأخذ المالَ، قُتل. وإن كان أخذ المال ولم يقتل، قُطع. وإن كان خرج مُشَاقًا للمسلمين: نُفي. 11842 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطية العوفي، عن ابن عباس قال: إذا خرج المحاربُ وأخاف الطريق وأخذ المال، قطعت يده   (1) في المخطوطة: "وإن قتل ولم يأخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله"، وهو خطأ محض، صوابه ما في المطبوعة بلا شك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 ورجله من خلاف. فإن هو خرج فقَتَل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خِلافٍ ثم صُلب. وإن خرج فقَتَل ولم يأخذ المال، قُتِل. وإن أخاف السبيل ولم يقْتُل ولم يأخذ المال، نفي. 11843 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي= وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" قالا إن أخاف المسلمين فقَطَع المال ولم يسفك، قُطِع. (1) وإذا سفك دمًا: قتل وصُلب. وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دمًا، قُطع ثُمّ قتل ثم صلب، كأن الصلب مُثْلَةٌ، وكأن القطع:"السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، (2) وكأن القتل:"النفس بالنفس". وإن امتنع، فإن من الحقّ على الإمام وعلى المسلمين أن يطلُبوه حتى يأخذوه، فيقيموا عليه حكم كتاب الله:"أو ينفوا من الأرض"، من أرض الإسلام إلى أرضِ الكفر. قال أبو جعفر: واعتلَّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله أوجبَ على القاتل القوَد، وعلى السارق القَطع. وقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دَمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خِلال: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد إحصان فرُجم، ورجل كفر بعد إسلامه". (3) قالوا: فحظر النبيُ صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث. فأما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدُّمٌ على الله ورسوله بالخلافِ عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال:"الإمام فيه بالخيار، إذا قَتَل وأخاف السبيل وأخذ المال"، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل، أو   (1) في المطبوعة: "فاقتطع المال"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما بمعنى واحد. (2) في المخطوطة: "وكان السارق والسارقة ... "، والصواب ما في المطبوعة. وهذا والذي بعده تضمين لآيتي الحكمين: في السرقة وقتل النفس. (3) هذا حديث صحيح متفق على معناه، رواه بغير إسناده. انظر مسلم 11: 164، 165. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف. وأما صلبه باسم المحاربة، من غير أن يفعل شيئًا من قتل أو أخذ مال، فذلك ما لم يقله عالم. * * * وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار: أن يفعل أيَّ هذه الأشياء التي ذكرَها الله في كتابه. ذكر من قال ذلك: 11844 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن عطاء= وعن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في المحارب: أن الإمام مخير فيه، أيَّ ذلك شاءَ فعل. 11845 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عبيدة، عن إبراهيم: الإمام مخير في المحارب، أيَّ ذلك شاء فعل. إن شاء قتل، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب. 11846 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: يأخذ الإمام بأيِّها أحب. 11847 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قال: الإمام مخيَّرٌ فيها. 11848 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله. 11849 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد قال، قال عطاء: يصنع الإمام في ذلك ما شاء. إن شاء قتل، أو قطع، أو نَفَى، لقول الله:"أن يقتَّلوا أو يصلبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض"، فذلك إلى الإمام الحاكم، يصنع فيه ما شاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 11850 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، قال: من شَهَر السلاح في قُبّة الإسلام، (1) وأخاف السبيل، ثم ظُفِر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجلَه. 11851 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة قال، أخبرنا أبو هلال قال، أخبرنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنه قال في المحارب: ذلك إلى الإمام، إذا أخذه يصنع به ما شاء. 11852 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال قال، حدثنا هارون، عن الحسن في المحارب قال: ذاك إلى الإمام، يصنع به ما شاء. 11853 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن:"إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: ذلك إلى الإمام. * * * قال أبو جعفر: واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف التي بـ"أو" في القرآن بمعنى التخيير، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [سورة المائدة: 89] ، وكقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [سورة البقرة: 196] ،   (1) في المطبوعة: "في فئة الإسلام"، ولا معنى لها، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة والصواب ما قرأت. و"قبة الإسلام" يعني في ظله، وحيث مستقر سلطانه. ولذلك سموا"البصرة": قبة الإسلام، قال الشاعر: بَنَتْ قُبَّةَ الإِسْلامِ قَيْسٌ لأَهْلِهَا ... وَلَوْ لَمْ يُقِيمُوهَا لَطَالَ الْتِوَاؤُهَا وأصل"القبة": خيمة من أدم مستديرة. وذلك كقولهم أيضا: "دار الإسلام" بهذا المعنى الذي بينته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 وكقوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) [سورة المائدة: 95] . قالوا: فإذا كانت العُطوفُ التي بـ"أو" في القرآن، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها في سائر القرآن، بمعنى التخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين= الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قَدَر عليه قبل التوبة. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، تأويلُ من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه، وجعل الحكم على المحاربين مختلِفًا باختلاف أفعالهم. فأوجب على مُخيف السبيل منهم= إذا قُدِر عليه قبل التوبة، وقبل أخذ مالٍ أو قتل= النفيَ من الأرض. وإذا قُدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلُها= الصلب، لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة. * * * فأما ما اعتلّ به القائلون: إنّ الإمام فيه بالخيار، من أن"أو" في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فقولٌ لا معنى له، (1) لأن"أو" في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرًا من معانيها فيما مضى، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله. (2) =فأما في هذا الموضع، فإن معناها التعقيب، وذلك نظير قول القائل:"إن   (1) في المطبوعة: "فنقول: لا معنى له". وهو كلام متهالك، صوابه ما في المخطوطة. (2) انظر ما سلف 1: 336، 337/2: 235- 237/4: 75، 76/6: 513/7: 194. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في علِّيين، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين"، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب، ومنزلة واحدة من هذه المنازل= بإيمانه، بل المعقول عنه أن معناه: أن جزاء المؤمن لن يخلُو عند الله عز ذكره من بعض هذه المنازل. فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة، والظالم لنفسه دونهما، (1) وكلٌّ في الجنة كما قال جل ثناؤه: (جنات عدن يدخلونها) [سورة فاطر: 33] . فكذلك معنى العطوف بـ"أو" في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية، إنما هو التعقيب. فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا، لن يخلو من أن يستحق الجزاءَ بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره= لا أن الإمام محكم فيه ومخيَّرٌ في أمره= كائنةً ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خفَّتْ، (2) لأن ذلك لو كان كذلك، لكان للإمام قتل من شَهر السلاح مخيفًا السبيلَ وصلْبُه، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدًا، وكان له نفيُ من قَتَل وأخذَ المال وأخافَ السبيل. وذلك قولٌ إن قاله قائل، خلافُ ما صحّت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"لا يحل دَمُ امرئ ٍمسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل قتل رجلا فقتل به، أو زنى بعد إحصان فرجم، أو ارتَدّ عن دينه" (3) =وخلاف قوله:   (1) اقرأ آية"سورة فاطر": 32 {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . (2) في المطبوعة: "وعظمت" بواو لا مكان لها هنا. (3) انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف قريبًا ص: 261، تعليق: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 "القطعُ في رُبْع دينارٍ فصاعدًا"، (1) وغيرُ المعروف من أحكامه. (2) * * * فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التي ذكرتَ، كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به. قيل له: فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه؟ فإن ادَّعى عنه صلى الله عليه وسلم حكمًا خلاف الذي ذكرنا، أكذبه جميعُ أهل العلم، لأن ذلك غير موجود بنقلِ واحدٍ ولا جماعة. وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب، قيل له: فإن أحسن حالاتك إن سُلِّم لك، (3) أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت وما قاله من خالفك =فما برهانك على أنّ تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟ وبعد، فإذ كان الإمام مخيَّرًا في الحكم على المحارب، من أجل أنّ"أو" بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيًّا، ويتركه على الخشبة مصلوبًا حتى يموت من غير قتله. فإن قال:"ذلك له"، خالف في ذلك الأمة. وإن زعم أنَّ ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه، أو صلبه ثم قتله= ترك علّته من أنّ الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن"أو" تأتي بمعنى التخيير. وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟   (1) هذا خبر مجمع عليه في الصحاح، انظر فتح الباري 12: 89- 91، وسيأتي تخريجه برقم: 11912. (2) قوله: "وغير المعروف من أحكامه"، معطوف على ما سلف: "وذلك قول إن قاله قائل: خلاف ما صححت به الآثار عن رسول الله ... ". (3) في المطبوعة: "أن يسلم لك"، غير ما في المخطوطة، وهو محض الصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت، وأبى ذلك حيث جعلته له= فرقٌ من أصلٍ أو قياس؟ (1) فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم الآخر مثله. * * * وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك، بما في إسناده نظر، وذلك ما"- 11854 - حدثنا به علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابُوا الفرجَ الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سَرَق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجلَه بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحلَّ الفرج الحرام، فاصلبه. (2) * * *   (1) السياق: "هل بينك وبين من جعل الخيار .... فرق من أصل أو قياس". (2) الأثر: 11854-"الوليد بن مسلم الدمشقي القرشي"، ثقة حافظ متقن، من شيوخ أحمد سلفت ترجمته مرارًا منها: 2184، 6611. "ابن لهيعة" هو: "عبد الله بن لهيعة"، تكلموا فيه كثيًرا، ووثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 160، 2941، وبعضهم يقول: "لا يحتج بحديثه". و"يزيد بن أبي حبيب المصري"، ثقة أخرج له الجماعة، مضى برقم: 4348، 5418، 5493. وعلة هذا الخبر، ضعف ابن لهيعة، عند من يرى ضعفه وترك الاحتجاج بحديثه. ثم إن يزيد بن أبي حبيب لم يدرك أن يسمع من أنس، ولم يذكر أنه سمع منه. وقد مضى صدر هذا الخبر فيما سلف برقم: 11816، فانظر التعليق عليه هناك. وسيأتي في الأثر: 11885، أن رواية يزيد بن أبي حبيب لهذا الخبر، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 وأما قوله:"أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف"، فإنه يعني به جل ثناؤه: أنه تقطع أيديهم مخالِفًا في قطعها قَطْع أرجلهم. وذلك أن تقطع أيْمُن أيديهم، وأشمُلُ أرجلهم. فذلك"الخلاف" بينهما في القطع. ولو كان مكان"من" في هذا الموضع"على" أو"الباء"، فقيل:"أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف= أو: بخلاف"، لأدَّيا عما أدّت عنه"من" من المعنى. * * * واختلف أهل التأويل في معنى"النفي" الذي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، أو يهرب من دار الإسلام. ذكر من قال ذلك: 11855 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرّجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين. 11856 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، نفيُه: أن يطلب. 11857 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو ينفوا من الأرض"، يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب. 11858 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: أنه كتب إليه:"ونفيه، أن يطلبه الإمام حتى يأخذه، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل". (1)   (1) الأثر: 11858- انظر التعليق السالف على الأثر: 11854. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 11859 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال: فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال: نفيُه، طلبُه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ، أو يخرجه طلبُه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب، إذا كان محاربًا مرتدًّا عن الإسلام= قال الوليد: وسألت مالك بن أنس، فقال مثله. 11860 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد: وكذلك يطلب المحاربُ المقيم على إسلامه، يضطرّه بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى حَوْزِ المسلمين، (1) فإن هم طلبوه دخل دار الشرك؟ قالا لا يُضْطَرّ مسلم إلى ذلك. 11861 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"أو ينفوا من الأرض" قال: أن يطلبوه حتى يعجزوا. 11862 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه. 11863 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن:"أو ينفوا من الأرض"، قال: ينفى حتى لا يُقْدَر عليه. 11864 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: أخرجوا من الأرض. أينما أدركوا أخْرجوا حتى يلحقوا بأرض العدّو. 11865 - حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر،   (1) في المطبوعة: "حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى جوار المسلمين" وصواب ذلك"حتى"، و"أو أقصى حوز المسلمين"، كما في المخطوطة. و"الحوز" من الأرض (بفتح فسكون) : أن يتخذها رجل، ويبين حدودها فيستحقها، فلا يكون لأحد حق معه، فذلك"الحوز". ومنه"حوز الدار"، ومنه أيضًا"حوزة الإسلام"، أي حدوده ونواحيه، وفي الحديث: "فحمى حوزة الإسلام". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 عن الزهري في قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: نفيه: أن يُطلب فلا يُقْدر عليه، كلَّما سُمع به في أرض طُلِب. 11866 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني سعيد، عن قتادة:"أو ينفوا من الأرض"، قال: إذا لم يَقْتُل ولم يأخذ مالا طُلب حتى يُعْجِز. 11867 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرني نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي= وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير:"أو ينفوا من الأرض"، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر. * * * وقال آخرون: معنى"النفي" في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها. ذكر من قال ذلك: 11868 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير:"أو ينفوا من الأرض"، قال: من أخاف سبيل المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز:"أو ينفوا من الأرض". 11869 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب وغيره، عن حيَّان بن سُرَيج: أنه كتب إلى عمر بن عبدْ العزيز في اللصوص، ووصف له لصوصيتهم، وحبَسهم في السجون، قال: قال الله في كتابه:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خِلاف"، وترك:"أو ينفوا من الأرض". فكتب إليه عمر بن عبد العزيز:"أما بعد، فإنك كتبت إليّ تذكر قول الله جل وعزّ:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 أن يقتّلوا أو يصِلَّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ"، وتركت قول الله:"أو ينفوا من الأرض"، فنبيٌّ أنت، يا حيّان!! لا تحرّك الأشياء عن مواضِعها، أتجرَّدت للقتل والصَّلب كأنك عبدُ بني عقيل، (1) من غير ما أُشبِّهك به؟ إذا أتاك كتابي هذا، فانفهم إلى شَغْبٍ". 11870 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث، عن يزيدَ وغيره، بنحو هذا الحديث= غير أن يونس قال في حديثه:"كأنك عبد بني أبي عقال، (2) من غير أن أشبهك به". 11871 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن الصَّلت، كاتب حيَّان بن سُرَيج، أخبرهم: أن حيّان كتب إلى عمر بن عبد العزيز:"أن ناسًا من القبط قامت عليهم البيَّنة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا، وأن الله يقول:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" فقرأ حتى بلغ،"وأرجلهم من خلاف"، وسكت عن النفي. وكتب إليه:"فإن رأى أمير المؤمنين أن يُمْضي قضاءَ الله فيهم، فليكتب بذلك". فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال: لقد اجتزأ حيان! ثم كتب إليه:"إنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأتَ، كأنما كتبتَ بكتاب يزيد بن أبي مسلم، أو عِلْج صاحبِ العراق، (3) من غير أن أشبهك بهما، فكتبت   (1) "تجرد للأمر": جد فيه جدا بالغًا، وتفرغ له وشمر فيه، كما يتجرد المرء من ثيابه وينضوها عنه لكيلا تعوقه. يقال: "تجرد فلان للعبادة"، وقال الأخطل: وَأَطْفَأْتُ عَنِّي نَارَ نُعْمَانَ بَعْدَ مَا ... أَعَدَّ لأَمْرٍ فَاجِرٍ وَتَجَرَّدَا وقال ابن قيس الرقيات: تَجَرَّدُوا يَضْرِبُونَ بَاطِلَهُمْ ... بِالحقِّ حَتَّى تَبَيَّنَ الْكَذِبُ و"عبد بني عقيل"، الصواب أن يقال"عبد بني أبي عقيل"، فإن أبا عقيل، هو جد"الحجاج ابن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي". وذلك أن ثقيفا جد الحجاج الأعلى، كان فيما يقولون، هو: "قسى (ثقيف) بن منبه بن النبيت بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار"، وأنه ليس كما جاء في نسب ثقيف أنه من"مضر بن نزار"، وأن ثقيفًا، فيما يروي عن ابن عباس: كان عبدًا لامرأة نبي الله صالح، فوهبته لصالح، وأنه هو"أبو رغال" الذي يرجم قبره. يقول حسان بن ثابت في هجاء ثقيف (ديوانه: 341، 342) : إِذَا الثَّقَفِيُّ فَاخَرَكُمْ فَقُولُوا: ... هَلُمَّ نَعُدُّ أُمَّ أَبِي رِغَالِ أَبُوكُمْ أَخْبَثُ الآبَاءِ طُرًّا ... وأَنْتُمْ مُشْبِهُوهُ عَلَى مِثالِ وفي هذا الشعر زعم حسان أن ثقيفًا كان عبدًا للفرز، وهو سعد بن زيد مناة بن تميم، فقال: عَبِيدُ الْفِزْرِ أَوْرَثَهُمْ بَنِيِه ... وَآلَى لا يَبِيعُهُمُ بِمَالِ وَمَا لِكَرَامَةٍ حُبِسُوا، وَلَكِنْ ... أَرَادَ هَوَانَهُمْ أُخْرَى اللَّيَالِي وأما هجاء الحجاج بأنه"عبد من إياد"، فيقول مالك بن الريب (الكامل 1: 302) : فَمَاذَا تَرَى الحجَّاجَ يَبْلُغُ جُهْدُهُ ... إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا حَِيرَ زِيادِ فَلَوْلا بَنُوا مَرْوَانَ كَانَ ابْنُ يُوسُفٍ ... كَمَا كَانَ، عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ إيَادِ زَمَانَ هُوَ الْعَبْدُ الْمُقِرُّ بِذِلَّةٍ ... يُرَاوِحُ صِبْيَانَ الْقُرَى وَيُغَادِي فإن الحجاج كان معلمًا بالطائف، وكان يهجى بذلك. فهذا تفسير"عبد بني أبي عقيل". وكان الحجاج، كما تعلم، مسرفًا في القتل، فلذلك قال عمر رضي الله عنه ما قال. (2) لم أجد وجها لقوله: "عبد بن أبي عقال"، فإن جده الذي ينسب إليه هو"أبو عقيل" كما سلف في الأثر الماضي. (3) "يزيد بن أبي مسلم"، و"يزيد بن دينار"، من موالي ثقيف، وليس مولى عتاقة، وكان أخا الحجاج من الرضاعة. وكان من أصحاب الحجاج وولاته، وكان يتشبه به في سيرته، وولي العراق وإفريقية. قال ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز: 34، 35: "وكان يظهر التأله، والنفاذ لكل ما أمر به السلطان، مما جل أو صغر، من السيرة بالجور، والمخالفة للحق. وكان في هذا يكثر الذكر والتسبيح، ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون، وهو يقول: سبحان الله والحمد لله، شد يا غلام موضع كذا وكذا -لبعض مواضع العذاب- وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام موضع كذا وكذا. فكانت حالته شر تلك الحالات". وكان يزيد يوم استخلف عمر بن عبد العزيز، واليًا على إفريقية، فلم يكد عمر يواري جثة سليمان بن عبد الملك، حتى عجل ودعا بقرطاس ودواة، فكتب ثلاثة كتب، لم يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره. فأخذ الناس يهمزون عمر بن عبد العزيز، لما رأوو من عجلته، فقالوا: "ما هذه العجلة؟ أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله؟ هذا حب السلطان! هذا الذي يكره ما دخل فيه!!. ولم يكن بعمر عجلة، ولا محبة لما صار إليه، ولكنه حاسب نفسه، ورأى أن تأخير ذلك لا يسعه. فكان أحد هذه الكتب الثلاثة كتابه بعزل يزيد بن أبي مسلم. (سيرة عمر بن عبد العزيز: 34، 35 / والوزراء للجهشياري: 42) . وأما "علج صاحب العراق" = و"العلج" الرجل من كفار العجم وغيرهم = فإنه يعني الحجاج نفسه وكان واليًا على العراق، وجعله"علجًا"، كأنه مولى من الموالي غليظ، كما سماه عبدا في الأثر السالف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 بأول الآية، ثم سكتَّ عن آخرها، وإن الله يقول:"أو ينفوا من الأرض"، فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبتَ به، فاعقد في أعناقهم حديدًا، ثم غيّبهم إلى شَغْبٍ وبَدَا." (1) * * * قال أبو جعفر:"شَغْبٌ و"بَدَا"، موضعان. (2) * * *   (1) الآثار: 11869-11871-"يزيد بن أبي حبيب المصري"، مضى قريبًا في الأثر رقم: 11854. وأما "الصلت"، فهو: "الصلت بن أبي عاصم"، ولم أعثر له على ترجمة، ورأيت ذكره في كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم ص: 90. وأما "حيان بن سريج المصري"، فكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على مصر. ترجم له ابن أبي حاتم 1/2/ 247، والكبير للبخاري 2/1/52. وضبط"سريج" بالسين غير معجمة، والجيم في المؤتلف لعبد الغني بن سعيد الأزدي المصري ص: 76، وقال ناشر التاريخ الكبير في تعليقه: "وكذا ضبطه ابن ماكولا في الإكمال .... ووقع هنا في الأصل: "شريح". وكذلك يقع في كثير من الكتب"شريح"، وكذلك كان هنا في المطبوعة في سائر المواضع، أما المخطوطة، فهي غير منقوطة. وتبعت ضبط الحافظ عبد الغني، لأنه مصري، وهو أعلم بأنساب المصريين. وكان في المطبوعة"حبان" بالباء الموحدة، وهو خطأ محض. (2) "شغب" (بفتح فسكون) : منهل بين طريق مصر والشام، و"بدا": واد قرب أيلة، من ساحل البحر، وهما من ديار بني عذرة، يقول كثير: وَأَنْتِ الَّتيِ حَبَّبْتِ شَغْبًا إلَى بَدَا ... إلَيَّ، وَأَوْطَانِي بِلادٌ سِوَاهُمَا ويقول عبد الله بن السائب: فَلَمَّا عَلَوْا شَغْبًا تَبَيَّنْتُ أَنَّهُ ... تَقَطَّعَ مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ عَلائِقِي فقال ابنه: فَلا زِلْنَ حَسْرَى ظُلَّعًا، لِمْ حَمَلْنَنَا ... إلَى بَلَدٍ نَاءٍ قَلِيلِ الأَصَادِقِ!! فهذا يؤيد أنها منفى بعيد لأهل الحجاز والشام، كما جاء في هذا الخبر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 وقال آخرون: معنى"النفي من الأرض"، في هذا الموضع: الحبس. ذكر من روى ذلك عنه: وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معنى"النفي من الأرض"، في هذا الموضع، هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبْسُه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصيته ربَّه. وإنما قلتُ ذلك أولى الأقوال بالصحة، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذْ كان ذلك كذلك= وكان معلومًا أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب: القتلَ أو الصلبَ أو قطعَ اليد والرجل من خلافٍ، بعد القدرة عليه، لا في حال امتناعه= كان معلومًا أنّ النفي أيضًا إنما هو جزاؤه بعد القُدرة عليه، لا قبلها. ولو كان هَرَبه من الطلب نفيًا له من الأرض، (1) كان قطع يده ورجله من خلافٍ في حال امتناعه وحربه على وجه القتال، بمعنى إقامة الحدِّ عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز وجل حدًّا له بعد القدرة عليه، [بطل أن يكون نفيُه من الأرض، هربَهُ من الطلب] . (2) وإذْ كان كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها، أو السَّجْن. فإذْ كان كذلك، فلا شك أنه إذا   (1) في المطبوعة: "هروبه"، وفي المخطوطة: "هو به"، و"الهروب" ليس مصدرًا عربيًا، وإن كان قد كثر استعماله في زماننا هذا، وإنما المصدر"الهرب" (بفتحتين) ، فالصواب"هربه" كما أثبت. (2) هذه الزيادة بين القوسين، زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. وقد استظهرتها من كلام أبي جعفر فيما سلف، وما سيأتي بعده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 نُفي من بلدةٍ إلى أخرى غيرها، فلم ينف من الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك= وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض= كان معلومًا أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بُقْعة منها عن سائرها، فيكون منفيًّا حينئذ عن جميعها، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه. * * * وأما معنى"النفي"، في كلام العرب، فهو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر: يُنْفَوْنَ عَنْ طْرُقِ الكِرَامِ كَمَا ... تَنْفِي المَطَارِقُ مَا بَلِي القَرَدُ (1) ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء:"النُّفَاية". (2) وأما المصدر من"نفيت"، فإنه"النفي""والنَّفَاية"، (3) ويقال:"الدلو ينفي الماء"، ويقال لما تطاير من الماء من الدلو:"النّفِيُّ"، ومنه قول الراجز: (4)   (1) شرح المفضليات: 827، وليس في ديوان أوس، وهو من شعره، من القصيدة الخامسة التي أولها: أَبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمُ بِيَدٍ ... إِلا يَدٌ لَيْسِتْ لَهَا عَضُدُ ويهجوهم، ورواية المفضليات"من طرق الكرام". و"المطارق" جمع"مطرقة" و"مطرق" وهو القضيب الذي يضرب به الصوف أو القطن لينتفش، وينفي منه القرد. و"القرد" (بفتحتين) : ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد وانعقدت أطرافه، وهو نفاية الصوف، ثم استعمل فيما سواه من الوبر والشعر والكتان. وقوله: "ما يلي القرد"، أي: ما وليه القرد، من قولهم"وليه يليه"، أي: قاربه ودنا منه. يعني: ما قاربه القرد وباشره ولصق به تعقده. وكان في المطبوعة: "ما يلي الفردا"، وهو خطأ، ومخالفة للمخطوطة، وهي فيها منقوطة، على خلاف العادة في مثلها. (2) "النفاية" هنا (بضم النون) ، لا شك في ذلك. انظر التعليق التالي. (3) و"النفاية" هنا (بكسر النون) ، لأنه عدها مصدرًا، مثل: "رعت الماشية رعيًا ورعاية" (بكسر الراء) . هكذا استظهرته. وأما كتب اللغة فلم تذكر في مصادر"نفي" إلا"نفيًا" و"نفيانًا" فهذا مصدر يزاد عليها إن صح له شاهد من الشعر أو الآثار. (4) هو الأخيل الطائي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 كأَنَّ مَتْنَيِه مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (1) ومنه قيل:"نَفىَ شَعَرُه"، إذا سقط، يقال:"حَال لونُك، ونَفىَ شعرُك". (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلك"، هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسولَه، وسعوا في الأرض فسادًا في الدنيا، من قتلٍ أو صلبٍ أو قطع يد ورجل من خلاف="لهم"، يعني: لهؤلاء المحاربين="خزي في الدنيا"، يقول: هو لهم شرٌّ وعار وذلةٌ، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة. * * * يقال منه:"أخزيتُ فلانًا، فَخَزِي هو خِزْيًا". (3) * * * وقوله:"ولهم في الآخرة عذاب عظيم"، يقول عز ذكره: لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسولَه وسعوا في الأرض فسادًا، فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا= في   (1) سلف البيت وشرحه وتخريجه في 3: 225/ 5: 523، ولم أشر هناك إلى مجيئه في هذا المكان في التفسير، فأثبته هناك. (2) هذا في خبر محمد بن كعب القرظي وعمر بن عبد العزيز لما استخلف فرآه شعثًا قال: " ... وكان عهدنا به بالمدينة أميًرا علينا، حسن الجسم، ممتلئ البضعة، فجعلت أنظر إليه نظرًا، لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: يا ابن كعب، مالك تنظر إلي نظرًا ما كنت تنظره إلي قبل؟ قال فقلت: لعجبي! قال: ومما عجبك؟ فقلت: لما نحل من جسمك، ونفى من شعرك، وتغير من لونك؟ قال: وكيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري، حين تقع عيناي على وجنتي، ويسيل منخري وفمي دودًا وصديدًا، لكنت لي أشد نكرة منك اليوم! ". "نفى الشعر": ثار وذهب وشعث وتساقط. (3) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف 2: 314، 525/7: 479. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 الآخرة، (1) مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها="عذاب عظيم"، يعني: عذاب جهنم. (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: إلا الذين تابوا من شركهم ومناصَبتهم الحربَ لله ولرسوله والسَّعيِ في الأرض بالفساد، بالإسلام والدخولِ في إلإيمان، من قبل قُدرة المؤمنين عليهم، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي جعلَها الله جزاء لِمَنْ حارَبه ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا، من قتلٍ، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف، أو نفي من الأرض= فلا تِباعَةَ قِبَله لأحدٍ فيما كان أصاب في حال كفره وحربه المؤمنين، (3) في مالٍ ولا دم ولا حرمةٍ. قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين، وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته عنه عقوبةَ ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين الله، وعلى الإمام إقامةُ الحدّ الذي أوجبه الله عليه، وأخذُه بحقوق الناس. ذكر من قال ذلك: 11872 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله:"إنما جزاء   (1) السياق: "لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله .... في الآخرة ... ". (2) انظر تفسير"عذاب عظيم" فيما سلف من فهارس اللغة (عذب) (عظم) . (3) "التبعة" (بفتح التاء وكسر الباء) ، و"التباعة" (بكسر التاء) : ما فيه إثم يتبع به مرتكبه. يقال: "ما عليه من الله في هذا تبعة، ولا تباعة". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض" إلى قوله:"فاعلموا أنّ الله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يُقدر عليه، لم يكن عليه سبيل. وليس تُحْرِز هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدر عليه. ذلك يقام عليه الحدّ الذي أصاب. (1) 11873 - حدثنا بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم"، قال: هذا لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا في شركهم، فإن الله غفور رحيمٌ، إذا تابوا وأسْلموا. 11874 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الزنا، (2) والسرقة، وقتل النفس، وإهلاك الحرث والنسل="إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. 11875 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين الرَّسول صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ، فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيرَّ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيهم: فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه، قُبِلَ ذلك منه. 11876 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"،   (1) الأثر 11872- مضى برقم: 11806، وانظر التعليق عليه. (2) في المطبوعة: "بالزنا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 الآية= فذكر نحو قول الضحاك، إلا أنه قال: فإن جاء تائبًا فدخل في الإسلام، قُبل منه، ولم يؤاخذ بما سلَف. 11877 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، قال: هذا لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا من هذا في شركهم، ثم تابوا وأسلموا، فإن الله غفور رحيم. 11878 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة: أما قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، فهذه لأهل الشرك. فمن أصاب من المشركين شيئًا من المسلمين وهو لهم حَرْب، فأخذ مالا وأصاب دمًا، ثم تاب قبل أن تقدروا عليه، أُهْدِر عنه ما مَضَى. * * * وقال آخرون: بل هذه الآية معنيٌّ بالحكم بها، المحاربون اللهَ ورسوله: الحُرَّابُ من أهل الإسلام، (1) من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه، ثم استأمن فأُومن على جناياته التي جناها، وهو للمسلمين حرب= ومَن فعل ذلك منهم مرتدًّا عن الإسلام، (2) ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن فأومن. قالوا: فإذا أمَّنه الإمام على جناياته التي سلفت، لم يكن قِبَله لأحد تَبِعة في دمٍ ولا مالٍ أصابه قبل توبته، وقبلَ أمان الإمام إيَّاه. ذكر من قال ذلك: 11879 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني أبو أسامة،   (1) "الحراب" جمع"حارب"، و"الحارب": هو الغاصب الناهب الذي يعري الناس ثيابهم. وكأنه عنى به هنا: صفة"المحارب لله ورسوله"، وإفساده في الأرض. وانظر ما سيأتي ص: 282، تعليق: 2. (2) قوله: "ومن فعل ... " معطوف على قوله: "الحراب من أهل الإسلام ... " يعني: هذا وهذا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 عن أشعث بن سوار، عن عامر الشعبي: أن حارثة بن بَدْرٍ خرج محاربًا، فأخاف السبيل، وسفَك الدمَ، وأخذ الأموال، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدرَ عليه، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته، وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دٍم أو مال. 11880 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي: أن حارثة بن بدرٍ حاربَ في عهد علي بن أبي طالب، فأتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما، فطلبَ إليه أن يستأمن له من عليّ، فأبى. ثم أتى ابن جعفر، فأبى عليه. (1) فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمَّنه، وضمّه إليه. وقال له: استأمِنْ لِي أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب. (2) قال: فلما صلى عليٌّ الغداة، (3) أتاه سَعيد بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحارِبون الله ورسوله؟ قال: أن يقتَّلوا، أو يصلبوا، أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض. قال: ثم قال:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم". قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر! قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبًا، فهو آمن؟ قال: نعم! قال: فجاء به فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانًا. 11881 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب، ثم تاب. وكُلِّم له عليّ فلم يُؤْمنه. فأتى سعيدَ بن قيس فكلّمه، فانطلق سعيدُ بن قيس إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقولُ فيمن حارب الله ورسوله؟ =فقرأ الآية كلها= فقال: أرأيت من تابَ من قبل أن تقدِر عليه؟   (1) يعني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "استأمن إلى"، والصواب ما أثبت. (3) "الغداة"، يعني صلاة الفجر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة بن بدر! قال: فأمَّنه علي، فقال حارثة: أَلا أَبْلِغَا هَمْدَانَ إِمَّا لَقِيتَها ... عَلَى النَّأيِ لا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَا لَعَمْرُ أَبِيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِي ... الإلهَ وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا (1) 11882- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، وتوبته من قبل أن يُقْدر عليه: أن يكتُب إلى الإمام يَستأمنه على ما قَتل وأفسدَ في الأرض:"فإن لم يؤمني على ذلك، ازددت فسادًا وقتلا وأخذًا للأموال أكثر مما   (1) الآثار: 11879- 11881-"عبد الرحمن بن مغراء الدوسي"، ثقة، متكلم فيه، مضى برقم: 1614. وأما "حارثة بن بدر بن حصين الغداني"، من بني غدانة بن يربوع، كان من فرسان بني تميم ووجوهها وساداتها. وكان فاتكًا صاحب شراب. وكان فصيحًا بليغًا عارفًا بأخبار الناس وأيامهم، حلوًا شاعرًا ذا فكاهة، فكان زياد يأنس به طول حياته (الأغاني 21: 25) . وأما "سعيد بن قيس الهمداني"، فهو من بني عمرو بن السبيع. وكان سيد همدان في زمانه. ولما أمن علي رضي الله عنه حارثه بن بدر، وقف على المنبر فقال: "أيها الناس، إني كنت نذرت دم حارثة بن بدر، فمن لقيه فلا يعرض له". فانصرف سعيد بن قيس إلى حارثة، وأعلمه، وحمله وكساه وأجازه بجائزة سنية. فلما أراد حارثة الانصراف إلى البصرة شيعه سعيد بن قيس في ألف راكب، وحمله وجهزه. وأما البيتان، فهما في تاريخ ابن عساكر 3: 430، مع اختلاف يسير في روايتهما. وأما قوله: "ويقضي بالكتاب خطيبها"، فكأنه عنى بخطيب همدان الفقيه الجليل: "مسروق بن الأجدع الهمداني"، صاحب، على وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وكأنه يشير بهذا البيت إلى ما روي عن مسروق أنه أتى يوم صفين، فوقف بين الصفين ثم قال: أيها الناس، أنصتوا. ثم قال: أرأيتم لو أن مناديًا ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما أنتم فيه، أكنتم مطيعيه؟ قالوا: نعم! قال: فوالله لقد نزل بذلك جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم. فما زال يأتي من هذا- أي: يقول مثل هذا- ثم تلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكمْ رَحِيمًا) . ثم انساب في الناس فذهب. (ابن سعد 6: 52) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 فعلت ذلك قبل". فعلى الإمام من الحقّ أن يؤمنه على ذلك. فإذا أمّنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام، فليس لأحد من الناس أن يتّبِعه، ولا يأخذه بدَم سفكه، ولا مال أخذه. وكل مالٍ كان له فهو له، لكيلا يقتل المؤمنين أيضًا ويفسد. فإذا رجع إلى الله جل وعزّ فهو وليُّه، يأخذه بما صنع، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس. فإذا أخذه الإمام، وقد تابَ فيما يزعُم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يُؤمنه الإمام، فليقم عليه الحدّ. 11883 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحول، أنه قال: (1) إذا أعطاه الإمام أمانًا، فهو آمن، ولا يقام عليه حدُّ ما كان أصاب. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: كلُّ من جاء تائبًا من الحُرَّاب قبل القُدْرة عليه، (2) استأمن الإمام فأمَّنه أو لم يستأمنه، بعدَ أن يجيء مستسلمًا تاركًا للحرب. ذكر من قال ذلك: 11884 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن عامر قال: جاء رجل من مُرادٍ إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمرة عثمان، بعد ما صلَّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مَقَام العائذِ بك، أنا فلان بن فلان المرادِيّ، كنت حاربتُ الله ورسوله، وسعيتَ في الأرض، وإني تبتُ من قبل أن تَقْدر عليّ! فقام أبو موسى فقال: هذا فلان ابن فلان، وإنه كان حاربَ الله ورسوله، وسعَى في الأرض فسادًا، وإنه تاب قبل أن يُقْدَر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاءَ الله، ثم إنه خرج فأدركه الله جل وعزّ بذُنوبه فقَتَله.   (1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "أخبرني مكحول أنه قال"، وأرجح: أن الصواب"عن مكحول أنه قال"، وانظر الأسانيد السالفة رقم: 3997، 4129، 5359، 8966. (2) "الحراب" جمع"حارب"، انظر تفسيرها فيما سلف ص: 279، تعليق: 1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 11885 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل السدي، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى أبي موسى، فذكر نحوه. 11886 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك: أرأيت هذا المحارب الذي قد أخاف السبيل، وأصابَ الدم والمال، فلحق بدار الحرْب، أو تمنَّع في بلاد الإسلام، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه؟ قال: تقبل توبته. قال قلت: فلا يُتَّبع بشيء من أحداثه؟ قال: لا إلا أن يوجد معه مالٌ بعينه فيردّ إلى صاحبه، أو يطلبه وليُّ من قَتل بدم في حَرْبه يثبت ببيّنَةٍ أو اعترافٍ فيقاد به. وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها، فلا يتَّبعه الإمام بشيء= قال علي، قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال: تقبل توبته إذا كان محاربًا للعامة والأئمة، قد آذاهم بحَرْبه، فشهر سلاحه، وأصاب الدماء والأموال، فكانت له مَنْعة أو فِئة يلجأ إليهم، أو لحق بدار الحرب فارتدَّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقدرَ عليه، قُبلت توبته، ولم يتَّبَع بشيء منه. 11887 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: سمعت ابن شهاب الزهريّ يقول ذلك. 11888 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال: فذكرت قول أبي عمرو ومالك لليث بن سعد في هذه المسألة، فقال: إذا أعلن بالمحاربة العامة والأئمة، (1) وأصابَ الدماء والأموال، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه، (2) أو لحق بدار الحرب، ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته، ولم يتَّبَع بشيء من أحْدَاثه في حربه من دم خاصةٍ ولا عامة، وإن طلبه وليه.   (1) في المطبوعة: "للعامة"، والصواب من المخطوطة. (2) "الحكومة عليه" يعني: القضاء عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 11889 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال الليث= وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدنيّ، وهو الأمير عندنا: أن عليًّا الأسديّ حاربَ وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبته الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [سورة الزمر: 53] . الآية، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءَتها. فأعادها عليه، فغَمَد سيفه، ثم جاء تائبًا، حتى قَدِم المدينة من السَّحَر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غِمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ، جئت تائبًا من قبلِ أن تَقْدروا عليَّ! فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بنَ الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليٌّ، جاء تائبًا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال، فترك من ذلك كله. (1) قال: وخرج عليَّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقُوا الروم، فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الرُّوم في سفينتهم، فهُزِموا منه إلى سفينتهم الأخرى، فمالت بهم وبه، فغرقوا جميعًا. (2) 11890 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مطرف بن معقل قال، سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة فجاء بها تائبًا من غير أن يُؤخَذ، فهل عليه حدٌّ؟ قال: لا! ثم قال:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدِروا عليهم"، الآية. (3)   (1) قوله: "فترك" بالبناء للمجهول، كأنه يعني أنه لم يؤخذ بشيء من كل أحداثه التي أتاها وهو في محاربته لله ولرسوله. (2) الأثر: 11889-"موسى بن إسحق المدني، الأمير"، لم أعرف من يكون. و"علي الأسدي"، لم أعرفه أيضا. وكأني قد مر بي مثل هذا الإسناد فيما سلف، ولكن سقط علي تقييده، فمن وجده فليثبته هنا. فلعله يكشف عن هذا الأمير المذكور في هذا الخبر. (3) الأثر: 11890-"مطرف بن معقل الشقري السعدي" ويقال: "الباهلي"، أبو بكر. روى عن الحسن، والشعبي، وابن سيرين، وقتادة، وعطاء. قال أحمد: "كان ثقة وزيادة". مترجم في الكبير 4/1/397، وابن أبي حاتم 4/1/315، ولسان الميزان 6: 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 11891 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخرٍ، عن محمد بن كعب القرظي= وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير= قالا إن جاء تائبًا لم يقتطع مالا ولم يسفك دمًا، تُرك. فذلك الذي قال الله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، يعني بذلك أنه لم يسفك دمًا ولم يقتطع مالا. (1) * * * وقال آخرون: بل عنى بالاستثناء في ذلك، التائبَ من حربه اللهَ ورسولَه والسعيِ في الأرض فسادًا بعد لحاقه في حربه بدار الكفر. فأما إذا كانت حِرَابته وحربُه وهو مقيم في دار الإسلام، (2) وداخلٌ في غمار الأمة، فليست توبته واضعة عنه شيئًا من حدود الله جل وعز، ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك. ذكر من قال ذلك: 11892 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني إسماعيل، عن هشام بن عروة: أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصّص في الإسلام فأصاب حدودًا ثم جاء تائبًا، فقال: لا تقبل توبته، لو قبل ذلك منهم اجترأوا عليه، وكان فسادًا كبيرًا. ولكن لو فرّ إلى العدوّ، ثم جاء تائبًا، لم أر عليه عقوبة. * * *   (1) الأثر: 11891-"أبو صخر" هو"حميد بن زياد بن أبي المخارق، الخراط"، مضى برقم: 4325، 5386، 8391- وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو صخرة"، بالتاء في آخره، وقد مضى على الصواب قريبًا برقم: 11867. و"أبو معاوية" هو"عمار بن معاوية الدهني"، مضى أيضًا برقم: 909، 4325، 5386. (2) انظر ما قلته في"الحرابة" ص: 252، تعليق: 2، وص: 256، تعليق: 2. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 وقد روي عن عروة خلاف هذا القول، وهو ما:- 11893 - حدثني به علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني من سمع هشام بن عروة، عن عروة قال، يقام عليه حدُّ ما فر منه، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمان = يعني، الذي يصيب حدًّا، ثم يفرُّ فيلحق الكفار، ثم يجيء تائبًا. * * * وقال آخرون: إن كانت حِرَابته وحربه في دار الإسلام، (1) وهو في غير مَنْعة من فئة يلجأ إليها، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من حقوق الناس. وإن كانت حِرَابته وحَرْبه في دار الإسلام، أو هو لاحقٌ بدار الكفر، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحْداثه في أيام حِرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدًّا أو أمَرَ الرُّفقة بما فيه عقوبة، (2) أو غُرْم لمسلم أو معاهد، وهو غير ملتجئ إلى فئة تمنعه، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبتُه. ذكر من قال ذلك: 11894 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: إذا قطع الطريق لصٌّ أو جماعة من اللصوص، فأصابوا ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يكن لهم فئة يلجأون إليها ولا مَنْعة، ولا يأمنون إلا بالدخول في غِمَار أمتهم وسوادِ عامّتهم، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، لم تُقبل توبته، وأقيم عليه حدهّ ما كان. 11895 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: ذكرت لأبي عمرو قول عُروة:"يقام عليه حدّ ما فرّ منه، ولا يجوز لأحد فيه أمان"، فقال أبو عمرو: إن فرّ من حَدَثه في دار الإسلام، فأعطاه إمامٌ أمانًا، لم يجزْ أمانُه. وإن هو   (1) انظر ص: 285، تعليق: 2. (2) "الرفقة"، يعني أصحابه الذين يرافقهم ويلجأ إليهم وهم فئته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 لحق بدار الحرب، ثم سأل إمامًا أمانًا على أحداثه، لم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانًا. وإن أعطاه الإمام أمانًا وهو غير عالم بأحداثه، فهو آمن. وإن جاء أحدٌ يطلبه بدم أو مال رُدّ إلى مأمنه، فإن أبى أن يَرجع فهو آمن ولا يُتَعَرَّض له. قال: وإن أعطاه أمانًا على أحداثه وهو يعرفها، فالإمام ضامنٌ واجب عليه عَقْلُ ما كان أصاب من دم أو مال، (1) وكان فيما عطّل من تلك الحدود والدماء آثمًا، وأمره إلى الله جل وعز. قال: وقال أبو عمرو: فإذا أصاب ذلك، وكانت له مَنْعة أو فئة يلجأ إليها، أو لحق بدار الحرب فارتدّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، قُبِلت توبته، ولم يُتَّبع بشيء من أحداثه التي أصابها في حربه، إلا أن يوجد معه شيءٌ قائم بعينه فيردّ إلى صاحبه. 11896 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن لهيعة، عن ربيعة قال: تقبل توبتُه، ولا يتَّبع بشيء من أحداثِه في حربه، إلا أن يطلبه أحد بدم كان أصابه في سِلْمه قبل حربه، فإنه يقاد به. 11897 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معمر الرقي قال، حدثنا الحجاج، عن الحكم بن عتيبة قال: قاتل الله الحجاج! إن كان ليفقَهُ! أمَّن رجلا من محاربته، فقال، انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه؟ * * * وقال آخرون: تضع توبته عنه حدَّ الله الذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم. وممن قال ذلك الشافعي. 11898- حدثنا بذلك عنه الربيع. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القُدرة عليه، تضع عنه تَبِعات الدنيا   (1) "العقل"، دية الجناية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 التي كانت لزمته في أيام حربه وحِرَابته، (1) من حدود الله، وغُرْم لازم، وقَوَدٍ وقصاص، إلا ما كان قائمًا في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيردّ على أهله= لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله، الساعيةِ في الأرض فسادًا على وجه الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سَعَى في الأرض فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا. فأمَّا المستخفي بسرقته، والمتلصِّصُ على وجه اغتفال من سرقه، (2) والشاهرُ السلاحَ في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه= تاب أو لم يتب= ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله، أو أصاب وليَّه بدم أو خَتْلٍ مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز= قياسًا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو للمسلمين سِلْمٌ، ثم صار لهم حربًا، أن حربه إياهم لن يضعَ عنه حقًا لله عز ذكره، ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعةٌ منه. وفي قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، دليل واضح لمن وُفِّق لفهمه، أنّ الحكم الذي ذكره الله جل وعزّ في المحاربين، يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين الذين قد نصبُوا للمسلمين حربًا، وذلك أن ذلك لو كان حكمًا في أهل الحرب من المشركين، دون المسلمين ودون ذمتهم، لوجب أن   (1) انظر"الحرابة" فيما سلف ص: 285، تعليق: 2. (2) "اغتفل الرجل"، يعني: اهتبل غفلته فأخذ ما أخذ. وهذا حرف لم تقيده كتب اللغه، بل قيدوا: "تغفله" (بتشديد الفاء) ، و"استغفلته"، أي: تحينت غفلته. وهذا الذي استعمله أبو جعفر صحيح في القياس والعربية، وقد رأيت أبا الفرج الأصفهاني، صاحب الأغاني، يستعمله أيضا، فجاء في الأغاني 2: 99، في أخبار عدي بن زيد الشاعر، فذكر جده"زيد بن أيوب" ومقتله، فكان مما قال: "ثم إن الأعرابي اغتفل زيد بن أيوب، فرماه بسهم فوضعه بين كتفيه، ففلق قلبه". وكان في المطبوعة هنا: "على وجه إغفال من سرقة"، وليس هذا صحيحًا في قياس العربية، حتى يغير ما كان في المخطوطة. وهو في المخطوطة غير منقوط، وهذا صواب قراءته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 لا يُسْقِطَ إسلامُهم عنهم= إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم= ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيِّ يضع عنه، بعد قدرة المسلمين عليه، ما كان واضعَه عنه إسلامه قبل القدرة عليه= ما يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال:"عنى بآية المحاربين في هذا الموضع، حُرَّاب أهل الملة أو الذمة، (1) دون من سواهم من مشرِكي أهل الحرب". * * * وأما قوله:"فاعلموا أن الله غفور رحيم"، فإن معناه: فاعلموا أيها المؤمنون، أن الله غير مؤاخذٍ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله، الساعين في الأرض فسادًا، وغيرهم بذنوبه، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه، ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدنيا والآخرة= رحيم به في عفوه عنه، وتركه عقوبته عليها. (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعَد من الثواب وأوعدَ من العقاب (3) "اتقوا الله" يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك، وحقِّقوا إيمانكم وتصديقكم ربَّكم ونبيَّكم   (1) "الحراب" جمع"حارب"، وقد سلف القول فيها في ص: 279، تعليق: 1، فراجعه. وكان في المطبوعة: "حراب أهل الإسلام"، وفي المخطوطة: "أهل المسلة"، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) في المطبوعة: "ووعدهم من الثواب"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 بالصالح من أعمالكم (1) ="وابتغوا إليه الوسيلة"، يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه. (2) * * * و"الوسيلة": هي"الفعيلة" من قول القائل:"توسلت إلى فلان بكذا"، بمعنى: تقرَّبت إليه، ومنه قول عنترة: إنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ، تكَحَّلِي وتَخَضَّبي (3) يعني بـ"الوسيلة"، القُرْبة، ومنه قول الآخر: (4) إِذَا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالوَسَائِلُ (5) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 11899 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"اتقوا" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (2) انظر تفسير"ابتغى" فيما سلف 9: 480، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) أشعار الستة الجاهليين: 396، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 165، والخزانة 3: 11، وغيرها، من أبيات له قالها لامرأته، وكانت لا تزال تذكر خيله، وتلومه في فرس كان يؤثره على سائر خيله ويسقيه ألبان إبله، فقال: لا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ ... فَيَكُونَ جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الأَجْرَبِ إِنَّ الْغَبُوقَ لَهُ، وَأَنْتِ مَسُوءَةٌ، ... فَتَأَوَّهِي مَا شِئْتِ ثُمَّ تَحَوَّبِي كَذَبَ الْعَتِيقُ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٌ ... إنْ كُنْتِ سَائِلَتِي غَبُوقًا فَاذْهَبي إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَيَكُونَ مَرْكَبُكِ القَعُودُ وَحِدْجُهُ ... وَابْنُ النَّعَامَةِ يَوْمَ ذَلِكَ مَرْكَبِي! ينذرها بالطلاق إن هي ألحت عليه بالملامة في فرسه، فإن فرسه هو حصنه وملاذه. أما هي فما تكاد تؤسر في حرب، حتى تتكحل وتتخضب لمن أسرها. يقول: إن أخذوك تكحلت وتخضبت لهم. (4) لم أعرف قائله. (5) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 164. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 سفيان= ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن سفيان= عن منصور، عن أبي وائل:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة في الأعمال. 11900 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= ح، وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي= عن طلحة، عن عطاء:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة. 11901 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: فهي المسألة والقربة. (1) 11902 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، أي: تقربوا إليه بطاعته والعملِ بما يرضيه. 11902 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابتغوا إليه الوسيلة"، القربة إلى الله جل وعزّ. 11903 - حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، خبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة. 11904 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة. 11905 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: المحبّة، تحبّبوا إلى الله. وقرأ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) [سورة الإسراء: 57] . * * *   (1) في المطبوعة: "هي المسألة"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله: وجاهدوا، أيها المؤمنون، أعدائي وأعداءَكم= في سبيلي، يعني في دينه وشَرِيعته التي شرعها لعباده، وهي الإسلام. (1) يقول: أتْعِبُوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية المسلمة، (2) ="لعلكم تفلحون"، يقول: كيما تنجحوا، فتدركوا البقاء الدَّائم والخلود في جناته. * * * وقد دللنا على معنى"الفلاح" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) } قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: إن الذين جحدوا ربوبية ربّهم وعبدوا غيرَه، من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، ومن غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام، وهلكوا على ذلك قبل التوبة= لو أن لهم مِلك ما في الأرض كلِّها وضعفَه معه، ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمرَه، وعبادتهم غيره يوم القيامة، فافتدوا بذلك كله، ما تقبَّل الله منهم ذلك فداءً وعِوضًا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذّبهم في حَمِيم يوم القيامة عذابًا موجعًا لهم.   (1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"جاهد" فيما سلف 4: 318. (3) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 1: 249، 250/3: 561/7: 91، 509 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه لليهود الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهم وغيرهم من سائر المشركين به، سواءٌ عنده فيما لهم من العذاب الأليم والعقاب العظيم. وذلك أنهم كانوا يقولون: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) ، اغترارًا بالله جل وعزّ وكذبًا عليه. فكذبهم تعالى ذكره بهذه الآية وبالتي بعدها، وحَسَم طمعهم، فقال لهم ولجميع الكفرة به وبرسوله:"إن الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقُبّل منهم ولهم عذابٌ أليم. يُريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم"، يقول لهم جل ثناؤه: فلا تطمعوا أيُّها الكفرة في قَبُول الفدية منكم، ولا في خروجكم من النار بوسَائل آبائكم عندي بعد دخولكموها، إن أنتم مُتّم على كفركم الذي أنتم عليه، ولكن توبوا إلى الله توبةً نَصُوحًا. (1) * * *   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 القول في تأويل قوله عز ذكره: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريدون أن يخرجوا من النار"، يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة، أن يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها="لهم عذاب مقيم"ن يقول: لهم عذابٌ دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدًا، كما قال الشاعر: (1) فَإنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشِّعْبِ مِنِّي ... عَذَابًا دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمَا (2)   (1) لم أعرف قائله. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 165. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 11906 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، (1) وقد قال الله جل وعز:"وما هم بخارجين منها"؟ فقال ابن عباس: ويحك، أقرأ ما فوقها! هذه للكفّار. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن سرقَ من رجل أو امرأة، فاقطعوا، أيها الناس، يَدَه= ولذلك رفع"السارق والسارقة"، لأنهما غير معيّنين. ولو أريد بذلك سارقٌ وسارقة بأعيانهما، لكان وجه الكلام النّصب. * * * وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: (والسارقون والسارقات) . 11907 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا= قال: وربما قال: في قراءة عبد الله= (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما) .   (1) في المطبوعة: "يا أعمى البصر أعمى القلب، تزعم. . . ." كأن نافعًا يوجه الحديث إلى ابن عباس، وهذا عجيب أن يكون من نافع، مع اجترائه وسلاطته! وكان في المخطوطة: "ما عمي البصار أعمى القلب، برعم"، هكذا غير منقوطة، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها، على أنه إخبار لابن عباس عمن يقول ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 11908 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم: في قراءتنا: (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما) . * * * =وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه، وصحة الرفع فيه، وأن"السارق والسارقة" مرفوعان بفعلهما على ما وصفت، للعلل التي وصفت. * * * وقال تعالى ذكره:"فاقطعوا أيديهما"، والمعنى: أيديهما اليمنى، كما:- 11909 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فاقطعوا أيديهما" اليمنى. 11910 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما) . * * * ثم اختلفوا في"السارق" الذي عناه الله عز ذكره. فقال بعضهم: عنى بذلك سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجّوا لقولهم ذلك، بأنّ:- 11911- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قطَع في مِجَنّ قيمته ثلاثةُ دَرَاهم. (1) * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك، الأوزاعيّ ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت: 11912- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القطعُ في ربع دِينارٍ فصاعدًا. (2) * * *   (1) الأثر: 11911- رواه بغير إسناد. رواه مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر في الموطأ: 831، ورواه البخاري من طريق مالك (الفتح 2: 93- 94) ، ورواه مسلم من طريقه أيضًا، في صحيحه 11: 184، 185. و"المجن": الترس، لأنه يجن صاحبه، أي يواريه. (2) الأثر: 11912- ساقه هنا بغير إسناد أيضًا، وقد مضى ص: 266، تعليق رقم: 1. وهذا الخبر رواه البخاري بأسانيده (الفتح 12: 89- 91) ، ومسلم بأسانيده في صحيحه 11: 180- 183. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 وقال آخرون: بل عنى بذلك سارقَ عشرة دراهم فصاعدًا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس: 11913- أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنّ قيمته عَشْرة دراهم. (1) * * * وقال آخرون: بل عني بذلك سارقَ القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها شيئًا، إلا بحجة يجب التسليم لها. (2) وقالوا: لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بأن ذلك في خاصّ من السُرَّاق. قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانقٌ أن يَقْطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في دِرْهم. * * * وروي عن ابن عباس أنه قال: الآيةُ على العموم. 11914 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله:"والسارق والسارقة"، أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام. (3) * * *   (1) الأثر: 11913- خبر ابن عباس رواه الطحاوي في معاني الآثار 2: 93. وكان في المخطوطة والمطبوعة أن هذا الخبر مروي أيضًا عن"عبد الله بن عمر"، ولم أجد الرواية بذلك عن"ابن عمر بل الرواية التي احتجوا بها في كتب أصحاب أبي حنيفة هي ما قاله"عبد الله بن عمرو"، رواها عنه"عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده". رواه أحمد في المسند برقم: 6900، وانظر تخريج أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 93، وأحكام القرآن للجصاص 2: 417، فلذلك صححت ما قبل هذا الأثر"عبد الله بن عمرو"، لا كما كان في المطبوعة والمخطوطة"ابن عمر". (2) في المطبوعة: "وأنه ليس لأحد"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 11914-"عبد المؤمن بن خالد الحنفي المروزي"، قاضي مرو. قال أبو حاتم: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"نجدة بن نفيع الحنفي". روى عن ابن عباس. مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال:"الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق، وهم سُرَّاق ربع دينار فصاعدًا أو قيمته"، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القطعُ في ربع دينار فصاعدًا". وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلّوا بها لأقوالهم، والبيانَ عن أولاها بالصواب، بشواهده، (1) في كتابنا"كتاب السرقة"، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع. * * * وقوله:"جزاء بما كسبا نكالا من الله"، يقول: مكافأةً لهما على سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله (2) ="نكالا من الله" يقول: عقوبة من الله على لُصُوصيتهما. (3) * * * وكان قتادة يقول في ذلك ما:- 11915 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم"، لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود، (4) فإنه والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ قَطُّ إلا وهو فساد. (5) * * *   (1) في المطبوعة: "والتلميح عن أولاها بالصواب"، والطبري لا يقول مثل هذا أبدًا. وفي المخطوطة: "والسارق عن أولاها بالصواب"، وهو تحريف قبيح من عجلة الناسخ، صواب قراءته ما أثبت. (2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) . = وتفسير"كسب" فيما سلف 9: 196، تعليق: 1 والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"النكال" فيما سلف 2: 176، 177/ 8: 580. (4) "رثى له يرثى": رحمه ورق له. (5) ولكننا قد أظلنا زمان عطلت فيه الحدود، بزعم الرثاء لمن أصاب حدًا من حدود الله. وطالت ألسنة قوم من أهل الدخل، فاجترأوا على الله بافترائهم، وزعموا أن الذي يدعونه من الرحمة لأهل الحدود هو الصلاح، وأن ما أمر الله به هو الفساد!! فاللهم نجنا من زمان تبجح فيه الأشرار بسلطانهم، وتضاءل فيه أهل الإيمان بمعاصيهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 وكان عمر بن الخطاب يقول:"اشتدُّوا على السُّرَّاق، فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلا رجلا". * * * وقوله:"والله عزيز حكيم" يقول جل ثناؤه:"والله عزيزٌ" في انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل معاصيه="حكيم"، في حكمه فيهم وقضائه عليهم. (1) يقول: فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون، في إقامة حكمي على السرَّاق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا في الدنيا عقوبةً لهم، فإني بحكمتي قضيت ذلك عليهم، (2) وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"فمن تاب"، من هؤلاء السراق، يقول: من رجع منهم عمَّا يكرهه الله من معصيته إيَّاه، إلى ما يرضاه من طاعته (3) ="من بعد ظلمه"، و"ظلمه"، هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس (4) ="وأصلح"، (5) يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله،   (1) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف 9: 378، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإني بحكمي قضيت ... "، والأجود هنا ما أثبت. (3) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة. (4) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس الغة. (5) زدت قوله تعالى: "وأصلح"، ليتم سياق أبي جعفر، كما جرى عليه في تفسيره، ولم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 والتوبة إليه ممَّا كان عليه من معصيته. (1) وكان مجاهد -فيما ذكر لنا- يقول: توبته في هذا الموضع، الحدُّ الذي يقام عليه. ............................................................................ ...................................... (2) * * * 11916 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح"، فتاب عليه، يقول: الحدُّ. (3) 11917 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم ولدتك أمك! قال: فأنزل الله جل وعز:"فمن تاب من بعد ظُلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه". (4) * * *   (1) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف 9: 340، تعليق: 5، والمراجع هناك. (2) وضعت هذه النقط، لأني قدرت أن قول مجاهد قد سقط من الناسخ، أو من أبي جعفر نفسه. وذلك أن الخبر الآتي بعده عن ابن عباس، لا عن مجاهد. (3) في المطبوعة: "يقول: فتاب عليه بالحد"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب. يعني أن توبة الله عليه بعد الحد الذي يقام عليه لتوبته. (4) الأثر: 11917-"موسى بن داود الضبي"، ثقة من شيوخ أحمد، مضى برقم: 10190 = و"ابن لهيعة"، مضى مرارًا. و"حيي بن عبد الله بن شريح المعافري الحبلي المصري". روى له الأربعة، ثقة. تكلم فيه أحمد وقال: "عنده مناكير". وقال البخاري: "فيه نظر". وقال ابن معين"ليس به بأس" وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة". وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"أبو عبد الرحمن الحبلي" هو"عبد الله بن يزيد المعافري"، تابعي ثقة. مضى برقم: 6657، 9483. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: 6657، من طريق حسن بن موسى عن ابن لهيعة، عن حيي، مطولا مفصلا، وخرجه أخي السيد أحمد هناك وقال: "إسناده صحيح". ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 152، ثم نقل رواية أحمد، ثم قال: "وهذه المرأة، هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصححين، من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة". ثم انظر فتح الباري (12: 76- 86) ، وصحيح مسلم 11: 186- 188. والمرأة التي سرقت هي: "فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" (ابن سعد 8: 192) ، وقد استوفى الحافظ ابن حجر خبرها في شرح هذا الحديث في الفتح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 وقوله:"فإن الله يتوب عليه"، يقول: فإن الله جل وعز يُرْجعه إلى ما يحبّ ويرضى، عما يكرَه ويسخط من معصيته. (1) * * * وقوله:"إن الله غفور رحيم" يقول: إن الله عز ذكره ساترٌ على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبَه، بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة، وتركه فضيحتَه بها على رءوس الأشهاد="رحيم" به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم. (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم يعلم هؤلاء= [يعني القائلين] :"لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة"، الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه (3) = أن الله مدبِّر ما في السموات وما في الأرض، ومصرفه وخالقه، لا   (1) في المطبوعة: "عما يكرهه .... " وأثبت الصواب من المخطوطة. (2) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) كان في المطبوعة: "ألم يعلم هؤلاء القائلون ... الزاعمون"، وفي المخطوطة: "ألم يعلم هؤلاء القائلين ... الزاعمين"، فأثبت ما في المخطوطة، وزدت"يعني" بين قوسين، فإني أرجح أنها سقطت من الناسخ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أرادَه، لأن كل ذلك ملكه، وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما ولا مما في واحدة منهما، فيحابيه بسبب قرابته منه، فينجيه من عذابه، وهو به كافر، ولأمره ونهيه مخالف= أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه، ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة، وينجيه من العقوبة ="والله على كل شيء قدير"، يقول: والله جل وعز على تعذيب من أرَاد تعذيبه من خلقه على معصيته، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الامور كلها= قادرٌ، لأن الخلق خلقُه، والملك ملكه، والعباد عباده. * * * وخرج قوله:"ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض"، (1) خطابًا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حَوَاليها. وقد بيَّنا استعمال العرب نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما هو الذَّبح، فلا تنزلوا على حكم سعد".   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من نظائرها، في فهارس اللغة. (2) انظر ما سلف 2: 484- 488. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 ذكر من قال ذلك: 11918 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال: نزلت في رجل من الأنصار= زعموا أنه أبو لبابة= أشارت إليه بنو قريظة يوم الحصار، ما الأمر؟ وعلام ننزل؟ فأشار إليهم أنه الذَّبح. * * * وقال آخرون: بل نزلت في رجل من اليهود سأل رجلا من المسلمين يسألُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حُكمه في قتِيلٍ قتله. ذكر من قال ذلك: 11919 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، قال: كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين: سلوا ليِ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن بُعِثَ بالدية اختصمنا إليه، (1) وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته. 11920 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن زكريا، عن عامر، نحوه. * * *   (1) في المطبوعة: "فإن كان يقضي بالدية"، غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته. ويعني بقوله: "بعث بالدية" (بالبناء للمجهول) : أنه قد أوتي في رسالته وبعثته أن يحكم في مثل ذلك بالدية دون القصاص. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه ارتدّ بعد إسلامه. ذكر من قال ذلك: 11921 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدّثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، (1) وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه، بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد =صلى الله عليه وسلم= فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولُّوه الحكم عليهما، (2) فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه (3) = وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار = فاتبعوه، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم فيهما بالرجم، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. (4) فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه   (1) "بيت المدراس"، هو البيت الذي كان اليهود يدرسون فيه كتبهم. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فولوه الحكم" بالفاء، وأثبت أجودهما من سيرة ابن هشام. (3) في المطبوعة: "بعملكم من التحميم، وهو الجلد"، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهي غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت، وهي كما أثبتها في سيرة ابن هشام. (4) في سيرة ابن هشام: "وإن هو حكم فيهما بالرجم، فإنه نبي، فاحذروه ... ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس، (1) فقال:"يا معشر اليهود، أخرجوا إليّ أعلمكم! " فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور= وقد روى بعض بني قريظة، (2) أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصَّل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة (3) = فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألةَ، (4) يقول: يا ابن صوريا، أنشُدك الله واذكِّرك أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، في بني غنم بن مالك بن النجار. (5) ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله جل وعز:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم". (6) 11922 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد= عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديٍّ محمَّم مجلود، (7) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من علمائهم   (1) في المطبوعة: "في بيت المدراس"، كما في سيرة ابن هشام، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه صواب المعنى أيضا. (2) في ابن هشام: "وقد حدثني بعض بني قريظة". (3) قال ابن هشام في سيرته: من قوله: "وحدثني بعض بني قريظة"، إلى"أعلم من بقى بالتوراة"، من قول ابن إسحق. وما بعده، من الحديث الذي قبله= فلذلك وضعت ذلك كله بين خطين. (4) "ألظ به المسألة": ألح في سؤاله."لظ بالشيء" و"ألظ به"، لزمه وثابر عليه. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "في بني عثمان بن غالب بن النجار"، وهو خطأ صرف، صوابه ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها. وليس للنجار ولد يقال له"غالب"، ولا لمالك بن النجار ولد يقال له"عثمان". (6) الأثر: 11921- سيرة ابن هشام 2: 213، 214، وهو فيها تال للأثر السالف هنا رقم: 11616. وهذا الخبر رواه أحمد مختصرا. ورواه أبو داود في سننه 4: 216-218، رقم: 4450، 4451، بغير هذا اللفظ والبيهقي في السنن 8: 246، 247. انظر تفسير ابن كثير 3: 156، وسيأتي برقم: 11923، 11924. (7) في المطبوعة: "مر على النبي ... "، بزيادة"على" كما في الروايات الأخرى، وأثبت ما كان في المخطوطة. و"المحمم": المسود الوجه"حمم الرجل تحميما": سخم وجهه بالحمم، وهو الفحم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 فقال: أهكذا تجِدُون حدَّ الزاني فيكم؟ قال: نعم! قال: فأنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزنى فيكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أحدِّثك، ولكن الرجم، ولكن كثرُ الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا:"تعالوا نجتمع فنضع شيئًا مكان الرجم، فيكون على الشريف والوضيع"، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أنا أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه! (1) فأمر به فرجم، فأنزل الله:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" الآية. (2) 11923 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجل يوقِّره، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شَهِد الحديبية، وكان من أصحاب أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم= 11924- ح، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني رجل من مزينة   (1) في المطبوعة: "اللهم إني أنا أول ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وبمثله في الناسخ والمنسوخ: 130. (2) الأثر: 11922- رواه أبو جعفر من ثلاث طرق، عن الأعمش. وسيرويه بعد برقم: 12034، 12036 من طريق القاسم، عن الحسين، عن أبي معاوية، ومن طريق هناد عن أبي معاوية. و"عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي"، مضى برقم: 2781، 2998، 8783، وكان في المطبوعة: "عبيدة بن عبيد"، والصواب من المخطوطة. و"عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي"، مضى برقم: 8208. وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 11: 209، 210، وأحمد في مسنده 4: 286، والبيهقي في السنن 8: 246، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 130 وأبو داود في سننه 4: 215، رقم: 4448، وقال ابن كثير في تفسيره، بعد أن ساق خبر أحمد: "انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من غير وجه عن الأعمش، به". وانظر تتمه هذا الأثر فيما سيأتي رقم: 11939، ورقم: 12022. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 ممن يَتَّبع العلمَ ويعيه، حدَّث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من اليهود، وكانوا قد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن، (1) فقال بعضهم لبعض: إن هذا النبي قد بعث، وقد علمتم أنْ قد فُرِض عليكم الرجْم في التوراة فكتمتموه، واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه، فانطلقوا نسأل هذا النبي، (2) فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم، تركنا ذلك، فقد تركنا ذلك في التوراة، فهي أحق أن تُطَاع وتصدَّق! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟ قال أبو هريرة: فلم يَرْجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام وقمنا معه، فانطلق يؤمُّ مِدْراس اليهود، حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدراس، فقال لهم: يا معشر اليهود، أنشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العُقوبة على من زنى وقد أحصن؟ قالوا: إنا نجده يحمَّم ويُجْلَد! وسكت حَبْرهم في جانب البيت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صَمته، ألظَّ يَنْشُدُه، فقال حبرهم: اللهم إذْ نَشَدتنا فإنا نجد عليهم الرجم! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فماذا كان أوّلُ ما ترخَّصتم به أمرَ الله"؟ قال: زنى ابن عم ملك فلم يرجمه، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك رجمه، فقام دونه قومُه فقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجُم فلانًا ابن عم الملك! فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقضي بما في التوراة! فأنزل الله في ذلك:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". (3) * * * وقال آخرون: بل عُني بذلك المنافقون. ذكر من قال ذلك: 11925 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال: هم المنافقون. 11926 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"آمنا بأفواههم" قال يقول: هم المنافقون="سماعون لقوم آخرين"، قال: هم أيضًا سماعون لليهود. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "قد أشاروا في صاحب لهم"، وفي المخطوطة: "شاوروا"، وهي ضعيفة هنا، ورأيت أن أقرأها"تشاوروا". (2) في المطبوعة: "فانطلقوا، فنسأل" وفي المخطوطة: "فسل" غير منقوطة، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها. (3) الأثران: 11923، 11924- خبر الزهري هذا، رواه أبو جعفر فيما سلف من طريق ابن إسحق عن الزهري برقم: 11921. وستأتي روايته أيضا بغير هذا اللفظ، برقم: 12008. ورواه أبو داود في سننه 4: 4450، من طريق معمر عن الزهري، وبرقم: 4451، من طريق ابن إسحق، عن الزهري. ورواه أحمد في مسنده مختصرا، برقم 7747، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن رجل من مزينة، وسيروي أبو جعفر هذا الخبر من طريق عبد الرازق فيما يلي برقم: 12008، فقال أخي السيد أحمد في شرحه: "إسناده منقطع، لإبهام الرجل من مزينة الذي روى عن الزهري". ثم أشار في تخريجه إلى رواية الطبري رقم: 11921، ولم يشر إلى هذين الخبرين رقم: 11923، 11924، ولا إلى الخبر الآتي رقم: 12008، ثم ساق رواية عبد الرزاق عن مصر بنصها. ثم قال: "وهذا الرجل من مزينة، المجهول، وصفه الزهري، في رواية أبي داود، من طريق يونس ابن يزيد الأيلي عن الزهري: أنه ممن يتبع العلم ويعيه"، كما في إسنادنا هذا رقم: 11924، وفاته ما في الإسناد رقم 11923: أنه رجل من مزينة"كان أبوه شهد الحديبية". ومع كل ذلك، فالرجل لا يزال مجهولا لم يعرف. فائدة: راجع ما سلف في أخبار الرجم من رقم: 11609- 11611. (4) الأثر: 11926- حذف في المطبوعة من أول قوله: "سماعون لقوم آخرين"، إلى آخر الخبر، وهو ثابت في المخطوطة كأنه استنكر ذكره هنا، مع أنه آت في تتمة الآية، ولم يذكر فيها قول مجاهد هناك. وهذا عبث لا معنى له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، (1) أن يقال: عني بقوله: (2) "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قومٌ من المنافقين. وجائزٌ أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابنُ صوريا= وجائز أن يكون أبو لبابة= وجائز أن يكون غيرُهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك، ما ذكرناه من الرواية قبلُ عن أبي هريرة والبراء بن عازب، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيحُ من القول فيه أن يقال: عُنِي به عبد الله بن صوريَا. وإذا صحّ ذلك، كان تأويل الآية: يا أيُّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوّتك، والتكذيبِ بأنك لي نبي، من الذين قالوا:"صدَّقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث، وعلمنا بذلك يقينًا، بوجودنا صِفَتك في كتابنا". (3) وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن الزهري: (4) أن ابن صُوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والله يا أبا القاسم، إنهم ليعلمون أنك نبى مُرسْل، ولكنهم يحسدونك". فذلك كان =على هذا الخبر= من ابن صوريا إيمانًا برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه، ولم يكن مصدِّقًا لذلك بقلبه. فقال الله جل وعزّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُطْلِعَه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه، يقول: ولم يصدِّق قلبه بأنك لله رسول مرسل. (5) * * *   (1) في المطبوعة: "وأولى الأقوال"، حذف"هذه"، وهي ثابتة في المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) قوله: "بوجودنا صفتك"، أي: بأننا نجد صفتك ... (4) في الأثر رقم: 11921. (5) انظر تفسير"حزن" فيما سلف 7: 234، 418= وتفسير"سارع" فيما سلف 7: 130، 207، 418 = وانظر تفسير"من أفواههم" فيما سلف 7: 145- 147= وتفسير"يقولون بأفواههم" 7: 378، 379. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 القول في تأويل قوله عز وجلّ: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسولُ لا يحزنك تسرُّع من تسرَّع من هؤلاء المنافقين= الذين يظهارون بألسنتهم تصديقَك، وهم معتقدون تكذيبك= إلى الكفر بك، ولا تسرُّعُ اليهود إلى جحود نبوّتك. (1) ثم وصف جل وعزّ صفتهم، (2) ونعتهم له بنعوتهم الذَّميمة وأفعالهم الرديئة، وأخبره مُعزّيًا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه، أنَّهم أهلُ استحلال الحرامِ والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرُّشَى والسُّحْت، (3) وأنهم أهل إفكٍ وكذبٍ على الله، وتحريف لكتابه. (4) ثم أعلمه أنه مُحِلٌّ بهم خزيَه في عاجل الدنيا، وعقابه في آجل الآخرة. فقال: هم"سماعون للكذب"، يعني هؤلاء المنافقين من اليهود، يقول: هم يسمعون الكذب، و"سمعهم الكذب"، سمعُهم قول أحبارهم: أنّ حكم الزاني المحصن في التوراة، التحميمُ والجلد="سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، يقول: يسمعون لأهل الزاني الذين أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مصرِّين على أن يأتوه، كما قال مجاهد:- 11927 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، قال مجاهد:"سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، مع من أتوك. * * *   (1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف 2: 143، 507/9: 391. (2) في المطبوعة: "ثم وصف جل ذكره صفتهم"، غير ما في المخطوطة لغير طائل. (3) يعني ما سيأتي في الآية: 42. (4) في المطبوعة: "وتحريف كتابه"، وفي المخطوطة: "أهل الإفك، وكذب على الله، وتحريف كتابه"، ورأيت السياق يقتضي أن تكون"وتحريف لكتابه"، فأثبتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 واختلف أهل التأويل في"السماعين للكذب السماعين لقوم آخرين". (1) فقال بعضهم:"سماعون لقوم آخرين"، يهود فَدَك. و"القوم الآخرون" الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهوُد المدينة. (2) ذكر من قال ذلك: 11928 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر في قوله:"ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال: يهود المدينة="لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه"، قال: يهود فدك، يقولون ليهود المدينة:"إن أوتيتم هذا فخذوه". * * * وقال آخرون: المعنيّ بذلك قوم من اليهود، كان أهل المرأة التي بَغَتْ، بعثوا بهم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها. والباعثون بهم هم"القوم الآخرون"، وهم أهل المرأة الفاجرة، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 11929 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون"، فإنّ بني إسرائيل أنزل الله عليهم: (3) "إذا زنى منكم أحد فارجموه"، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والأشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من الضعفاء،   (1) في المطبوعة: "في السماعون للكذب السماعون لقوم آخرين"، غير ما في المخطوطة بلا معنى، بل بفساد. (2) الظاهر أن في هذه الترجمة خطأ من أبي جعفر، وكأن صوابها: "فقال بعضهم: "سماعون لقوم آخرين، يهود المدينة. والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهود فدك". والخبر نفسه بعد، دال على صحة ما ذهبت إليه. (3) في المطبوعة: "كان بنو إسرائيل ... "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا: لا ترجموه حتى تأتُوا بصاحبكم فترجمونهما جميعًا! فقالت بنو إسرائيل: إن هذا الأمر قد اشتد علينا، فتعالوا فلنصلحه! فتركوا الرجم، وجعلوا مكانه أربعين جَلْدة بحبل مقيَّر، ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه، (1) ويسوِّدون وجهه، ويطوفون به. فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، فزنت امرأة من أشراف اليهود يقال لها:"بسرة"، فبعث أبوها ناسًا من أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه، فإنا نخاف أن يفضحنا ويُخْبرنا بما صنعنا، فإن أعطاكم الجلد فخذُوه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه، فقال: الرجم! فأنزل الله عز وجل:"ومن الذين هادوا سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرَّفوا الرجم فجعلوه جلدًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن"السماعين للكذب"، هم"السماعون لقوم آخرين". (2) وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة، والمسموعُ لهم من يَهُود فدك= ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم. غير أنه أيّ ذلك كان، فهو من صفة قوٍم من يهود، سَمِعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم اللازم لها، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قَبْل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك   (1) في المطبوعة: "ويحممونه ويحملونه على حمار"، زاد"ويحممونه"، ولا معنى لزيادتها، فإنه سيأتي بعد ما هو بمعناها، وهو قوله: "ويسودون وجهه". وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان فيها"ويحملوه على حمار". (2) في المطبوعة: "إن السماعون ... "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 لهم، ليُعْلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم. فإن لم يكن من حكمه الرجم رَضُوا به حَكَمًا فيهم. وإن كان من حكمه الرّجم، حذِروه وتركوا الرضَى به وبحكمه. * * * وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول. 11930 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال: لقوم آخرين لم يأتوه من أهل الكتاب، (1) هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه، يقولون لهم الكذب:"محمد كاذبٌ، وليس هذا في التوراة، فلا تؤمنوا به". (2) * * *   (1) في المطبوعة: "لم ياتوك"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم للمخطوطة التي نقلت عنها نسختنا. وفي مخطوطتنا هنا ما نصه: "يتلوهُ إن شاء الله تعالى: القولُ في تاويل قوله: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ من بَعْد مَوَاضِعِهِ يَقُولُون إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُأْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا". ثم يبدأ بعده: "بِسمْ الله الرَّحمن الرحيمِ رَبِّ يَسِّرْ" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 القول في تأويل قوله عزّ وجلّ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحرف هؤلاء السمَّاعون للكذب، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعدُ من اليهود="الكلم" (1) . وكان تحريفُهم ذلك، تغييرَهم حكم الله تعالى ذكره= الذي أنزله في التوراة في المحصَنات والمحصَنين من الزناة بالرجم= إلى الجلد والتحميم. فقال تعالى ذكره:"يحرّفون الكلم"، يعني: هؤلاء اليهود، والمعنيُّ حكم الكَلِم، فاكتفى بذكر الخبر من"تحريف الكلم" عن ذكر"الحكم"، لمعرفة السامعين لمعناه. وكذلك قوله:"من بعد مواضعه"، والمعنى: من بعد وضْع الله ذلك مواضعه، فاكتفى بالخبر من ذكر"مواضعه"، عن ذكر"وضع ذلك"، كما قال تعالى ذكره: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة البقرة: 177] ، والمعنى: ولكن البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر. (2) * * * وقد يحتمل أن يكون معناه: يحرفون الكلم عن مواضعه= فتكون"بعد" وضعت موضع"عن"، كما يقال:"جئتك عن فراغي من الشغل"، يريد: بعد فراغي من الشُّغل. * * * ويعني بقوله:"إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، يقول هؤلاء الباغُون السمَّاعون للكذب: إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا="فخذوه"، يقول: فاقبلوه منه، وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم، فاحذروا. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.   (1) انظر تفسير"تحريف الكلم عن مواضعه" فيما سلف 2: 248/8: 430- 432/10: 129 (2) انظر ما سلف 3: 336- 339. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 ذكر من قال ذلك: 11931 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدِّث سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدثهم= في قصة ذكرها="ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، قال: [أي الذين بعثوا منهم مَنْ] بعثوا وتخلفوا، (1) وأمروهم بما أمرُوهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، فقال:"يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، للتجبيه (2) ="وإن لم تؤتوه فاحذروا"، أي الرجم. (3) 11932 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن أوتيتم هذا"، إن وافقكم هذا فخذوه. يهودُ تقولُه للمنافقين. 11933 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،"إن أوتيتم هذا فخذوه"، إن وافقكم هذا فخذوه، وإن لم يوافقكم فاحذروه. يهود تقوله للمنافقين. 11934 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدًا="يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا". 11935 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، يهود فدك، يقولون ليهود   (1) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام. (2) في المطبوعة: "للتحميم"، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر شرح ذلك فيما سلف في الأثر: 11921 ص: 303، تعليق: 3. (3) الأثر: 11931- سيرة ابن هشام 2: 214، وهو تتمة الأثر السالف رقم: 11921. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 المدينة: إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا الرَّجم. (1) 11936 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، هم اليهودُ، زنت منهم امرأة، وكان الله قد حكم في التوراة في الزّنا بالرجم، فنَفِسوا أن يرجموها، (2) وقالوا: انطلقوا إلى محمد، فعسى أن يكون عنده رُخْصة، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها! فأتَوْه، فقالوا: يا أبا القاسم، إنّ امرأة منّا زنت، فما تقول فيها؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حُكم الله في التوراة في الزاني؟ فقالوا: دعنا من التوراة، ولكن ما عندك في ذلك؟ فقال: ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنزلت على موسى! فقال لهم: بالذي نجاكم من آل فرعون، وبالذي فَلَق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، إلا أخبرتموني ما حُكْم الله في التوراة في الزاني؟! قالوا: حكمه الرَّجْم! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. (3) 11937 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، ذكر لنا أن هذا كان في قتيلٍ من بني قريظة، قتلته النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يُقِيدوهم، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم. وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا بالقَوَد لفضلهم عليهم في أنفسهم تعزُّزًا. فقدم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة على تَفِئَةِ قتيلهم هذا، (4) فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) الأثر: 11935- انظر الأثر السالف رقم: 11928. (2) "نفس عليه الشيء" و"نفس به عليه" (بكسر الفاء فيهما) : ضن به وبخل، يعني أنهم رقوا لها وضنوا بها على الرجم والموت. (3) قوله: "فأمر بها رسول الله"، إلى آخر الجملة، ليس في المخطوطة. وكأنه زاده من نص الدر المنثور 2: 282. (4) في المطبوعة: "على هيئة فعلهم هذا"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "على نصه فصلهم هذا"، غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. يقال: "أتيته على تفئة ذلك"، أي: على حينه وزمانه. وانظر مثل ذلك في الأثر رقم: 7941، ج 7: 253، تعليق: 1. وأما "فعلهم هذا"، كما في المطبوعة، و"فصلهم هذا" كما في المخطوطة، فصواب قراءته"قتيلهم هذا"، كما هو واضح من السياق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيل عَمْدٍ، متى ما ترفعونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القَوَد، فإن قبل منكم الدية فخذوه، وإلا فكونوا منه على حَذَرٍ! 11938 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، يقول: يحرّف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن مواضعه، لا يضعونه على ما أنزله الله. قال: وهؤلاء كلهم يهود، بعضهم من بعضٍ. 11939 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب:"يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإذ لم تؤتوه فاحذروا"، يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. (1) * * * القول في تأويل قوله جل وعز: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعة الذين قصَّ قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية. يقول له تعالى ذكره: لا يحزنك تسرُّعهم إلى جحود نبوَّتك، فإني قد حَتَمْتُ عليهم أنهم   (1) الأثر: 11939- هذا تتمة الأثر السالف رقم: 11922، فانظر التعليق عليه هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 لا يتوبون من ضلالتهم، (1) ولا يرجعون عن كفرهم، للسابق من غضبي عليهم. وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرُّعهم إلى ما جعلته سببًا لهلاكهم واستحقاقِهم وعيدي. * * * ومعنى"الفتنة" في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل. (2) * * * يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله، يا محمد، مَرْجعه بضلالته عن سبيل الهدى، (3) فلن تملك له من الله استنقاذًا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة. (4) فلا تشعر نفسك الحزنَ على ما فاتك من اهتدائه للحق، كما:- 11940 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا". ............................................. (5) * * * القول في تأويل قوله جل وعز: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزُنك الذين يسارعون في الكفر من اليهودِ الذين وصفت لك صفتهم. وإن مسارعتهم إلى ذلك، أنّ الله قد أراد فتنتهم، وطَبَع على قلوبهم، ولا يهتدون أبدًا="أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم"، يقول: هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهِّر من دنس   (1) "حتم عليه": قضى عليه وأوجب الحكم. (2) انظر تفسير" الفتنة" فيما سلف 9: 123، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "مرجعه بضلالته"، كأنه يعني: انصرافه بضلالته عن سبيل الهدى، وأخشى أن يكون اللفظ محرفًا. (4) انظر تفسير"ملك" فيما سلف ص: 147، 187 (5) سقط بقية هذا الأثر من المخطوطة والمطبوعة، فوضعت النقط تنبيهًا على هذا الخرم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 الكفر ووَسخ الشرك قُلوبَهم، بطهارة الإسلام ونظافة الإيمان، (1) فيتوبوا، بل أراد بهم الخزي في الدنيا= وذلك الذلّ والهوان (2) = وفي الآخرة عذابُ جهنم خالدين فيها أبدًا. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في معنى"الخزي"، روي القول عن عكرمة. 11941 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن علي بن الأقمر وغيره، عن عكرمة، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي"، قال: مدينة في الروم تُفْتح فَيُسْبَوْن. (4) * * *   (1) انظر تفسير"طهر" فيما سلف 3: 38-40، 393، وفهارس اللغة. (2) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف ص: 276 تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة. (4) الأثر: 11941-"علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث الهمداني"، أبو الوازع الكوفي. روى له الأئمة. ثقة حجة. مترجم في التهذيب. و"سفيان" هو الثوري. وكان في المطبوعة: "علي بن الأرقم"، وهو خطأ محض، صوابه في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 القول في تأويل قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء اليهود الذين وصفتُ لك، يا محمد، صفتَهم، سَمَّاعون لقِيل الباطل والكذب، ومن قيل بعضهم لبعض:"محمد كاذب، ليس بنبي"، وقيل بعضهم:"إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد والتحميم"، وغير ذلك من الأباطيل والإفك= ويقبلون الرُّشَى فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه، (1) كما:- 11942 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل   (1) في المخطوطة: "فيأكلوها"، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 قال، سمعت الحسن يقول في قوله:"سماعون للكذب أكَّالون للسحت"، قال: تلك الحكام، سمعوا كِذْبَةً وأكلوا رِشْوَةً. 11943 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"سماعون للكذب أكالون للسحت"، قال: كان هذا في حكّام اليهودِ بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرُّشَى. 11944 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أكالون للسحت"، قال: الرشوة في الحكم، وهم يهود. 11945 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي وإسحاق الأزرق= وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"أكالون للسحت"، قال:"السُّحت"، الرشوةُ. 11946 - حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لعبد الله: ما السحت؟ قال: الرشوة. قالوا: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر. 11947 - حدثنا سفيان قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال:"السحت"، الرشوة. 11948 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن حريث، عن عامر، عن مسروق قال: قلنا لعبد الله: ما كنا نرى"السحت" إلا الرشوة في الحكم! قال عبد الله: ذاك الكُفْر. 11949 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 "السحت"، الرُّشَى؟ قال: نعم. (1) 11950 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت عبد الله عن"السحت"، فقال: الرجل يطلب الحاجةَ للرجل فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلُها. 11951 - حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن منصور وسليمان الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله أنه قال:"السحت"، الرشى. 11952 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"السحت"، قال: الرشوة في الدِّين. 11953 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خيثمة قال، قال عمر: [ما كان] من"السحت"، الرشى ومهر الزانية. (2) 11954 - حدثني سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال:"السحت"، الرشوة. 11955 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"أكالون للسحت"، قال: الرشى. 11956 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي= عن طلحة، عن أبي هريرة قال: مهر البغي سُحْت، وعَسْبُ الفحل سحت، (3) وكسْبُ الحجَّام سحت، وثمن الكلب سُحْت.   (1) لعل الصواب"قيل: السحت، الرشى "أو"سئل". (2) ما بين القوسين ثابت في المخطوطة والمطبوعة، وأنا في شك منه، ولذلك وضعته بين قوسين، فإن الكلام بغيره مستقيم. وأخشى أن يكون تحريفًا لشيء لم أستطع أن أستظهر صوابه. أو لعله سقط من الخبر شيء. بعد قوله: [ما كان] . وانظر الآثار رقم: 11956، 11964، 11965، فربما كان ما سقط هنا: "ما كان يعطي الكهان في الجاهلية"، كما في رقم: 11964. (3) "عسب الفحل": طرق الفحل وضرابه. يقال: "عسب الفحل الناقة يعسبها عسبًا"، و"فحل شديد العسب". و"العسب" بعد ذلك هو: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل. وقد جاء في الحديث النهي عن عسب الفحل، وهو كراء عسب الفحل. أما إعارة الفحل للضراب، فأمر مندوب إليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 11957 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"السحت"، الرشوة في الحكم. 11958 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن"السحت"، قال: الرشى. فقلت: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر. 11959 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أكالون للسحت"، يقول: للرشى. 11960 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن مسروق، وعلقمة: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: هي السحت. قالا في الحكم؟ قال: ذاك الكفر! تم تلا هذه الآية: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (1) [سورة المائدة: 44] . 11961 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المسعودي، عن بكير بن أبي بكير، عن مسلم بن صبيح قال: شفع مسروق لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضبًا شديدًا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلَّمت في حاجتك، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول:"من شفع شفاعة ليردّ بها حقًّا، أو يرفع بها ظلمًا، فأهدِيَ له   (1) الأثر: 11960-"علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي"، صاحب ابن مسعود، وكان أعلم الناس بحديث ابن مسعود. مترجم في التهذيب. و"مسروق" هو: "مسروق بن الأجدع"، مضى برقم: 4242، 7216، وغيرهما. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن مسروق، عن علقمة"، والصواب ما أثبت، فإن مسروقًا وعلقمة، من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود. والسياق يدل على صواب ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 فقبل، فهو سحت"، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! قال: الأخذُ على الحكم كفر. (1) 11962 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"سماعون للكذب أكالون للسحت"، وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم، وقضوا بالكذب. 11963 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن عمار، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن"السحت"، أهو الرشى في الحكم؟ فقال: لا من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق. ولكن"السحت"، يستعينك الرجل على المظلمة فتعينه عليها، فيهدي لك الهدية فتقبلُها. 11964 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن هبيرة السَّبائي قال: من السحت ثلاثة: مهرُ البغي، والرشوة في الحكم، وما كان يُعطى الكُهان في الجاهلية. (2) 11965 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن مطيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن ضمرة، عن علي بن أبي طالب: أنه قال في كسب الحجام،   (1) الأثر: 11961-"بكير بن أبي بكير"، لم أجد له ذكرًا في كتب التراجم التي بين يدي. وأخشى أن يكون تحريفًا كالذي يليه. وأما "مسلم بن صبيح الهمداني"، فهو: "أبو الضحى"، وقد سلفت ترجمته مرارًا، منها: 5424، 7216، 8206. ثقة كثير الحديث، يروي عن مسروق بن الأجدع. وانظر الأثر التالي: 11963. وكان في المخطوطة: "هشام بن صبيح"، وفي المطبوعة: "هاشم بن صبيح"، وكلاهما خطأ محض، والذي في المخطوطة تحريف"مسلم". (2) الأثر: 11964-"يحيى بن سعيد"، أظنه"يحيى بن سعيد بن حيان التيمي"، "أبو حيان"، روى عنه ابن فضيل. مضى برقم: 5382، 5383. و"عبد الله بن هبيرة السبائي"، ثقة. مضى برقم 1914، 5493، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"عبيد الله بن هبيرة"، وهو خطأ محض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 ومهر البغيّ، وثمن الكلب، والاستجْعَال في القضية، (1) وحلوان الكاهن، (2) وعسب الفحل، (3) والرشوة في الحكم، وثمن الخمر، وثمن الميتة: من السحت. (4) 11966 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أكالون للسحت"، قال: الرشوة في الحكم. 11967 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كُلُّ لحم أنبَته السُّحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم. (5) 11968 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الجبار بن عمر، عن الحكم بن عبد الله قال: قال لي أنس بن مالك: إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة، فإنها سحت= وكان أبوه على شُرَط المدينة. (6) 11969 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم،   (1) "الاستجعال"، يعني: أخذ الجعل (بضم فسكون) ، وهو الأجر، واشتراطه لقضاء الحاجة. ولم يذكر هذا الحرف من الاشتقاق في معاجم اللغة. وإنما قالوا: "اجتعل" فهو"مجتعل" أي: أخذ جعلا. و"فلان يجاعل فلانًا"، أي: يصانعه برشوة. (2) "الحلوان": ما يعطاه الكاهن عن كهانته أجرة. (3) "عسب الفحل"، مضى تفسيره ص: 320، تعليق: 3، وفي المطبوعة: "عسيب الفحل"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. (4) الأثر: 11965-"ضمرة" الذي يروي هنا عن علي بن أبي طالب، لم أعرف من يكون. وأخشى أن يكون فيه تحريف. (5) الأثر: 11967-"عبد الرحمن بن أبي الموال"، ويقال: "عبد الرحمن بن زيد بن أبي الموال"، ويقال" بن أبي الموالي"، ثقة. مترجم في التهذيب. و"عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة. مضى توثيقه برقم: 7819. وهذا خبر مرسل، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 284، ونسبه لعبد بن حميد، وابن مردويه مرفوعًا من حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6) الأثر: 11968-"عبد الحبار بن عمر الأيلي"، ضعيف الحديث، ليس محله الكذب. ووثقه ابن سعد. مضى برقم: 4608، 9057. أما "الحكم بن عبد الله"، وأبوه"عبد الله" الذي كان على شرط المدينة، فلم أعلم من يكونان؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 عن مسروق، عن عبد الله قال: الرشوة سُحت. قال مسروق: فقلنا لعبد الله: أفي الحكم؟ قال: لا ثم قرأ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [سورة المائدة: 44] ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة المائدة: 45] ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة المائدة: 47] . * * * وأصل"السحت": كَلَبُ الجوع، يقال منه:"فلان مسحُوت المَعِدَة"، إذا كان أكولا لا يُلْفَى أبدًا إلا جائعًا، وإنما قيل للرشوة:"السحت"، تشبيهًا بذلك، كأن بالمسترشي من الشَّره إلى أخذ ما يُعطاه من ذلك، مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشَّرَه إلى الطعام. يقالُ منه:"سحته وأسحته"، لغتان محكيتان عن العرب، ومنه قول الفرزدق بن غالب: وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَع ... مِنَ الْمَالِ إلا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ (1) يعني بِ"المسحت"، الذي قد استأصله هلاكًا بأكله إياه وإفساده، ومنه قوله تعالى: (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) [سورة طه: 61] . وتقول العرب للحالق:"اسحت الشعر"، أي: استأصله. * * *   (1) ديوانه: 556، والنقائض: 556، وطبقات فحول الشعراء: 19، والخزانة 2: 347، واللسان (سحت) (جلف) ، وسيأتي في التفسير 16: 135، وفي غيرها كثير. والبيت من قصيدته المشهورة، وقبل البيت: إِلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَمَتْ بِنَا ... هُمُومُ الْمُنَى والْهَوْجَلُ الْمُتَعَسَّفُ "الهوجل": البطن الواسع من الأرض. و"المتعسف": المسلوك بلا علم ولا دليل، فهو يسير فيها بالتعسف. ويروى: "أو مجرف"، وهو الذي جرفه الدهر، أي: اجتاح ماله وأفقره. ويروى في"إلا مسحت أو مجلف" بالرفع فيهما (كما سيأتي في 16: 135، من التفسير) . وقد تجرف النحاة هذا البيت إعرابًا وتأويلا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرضْ عنهم"، إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد =وهم قومُ المرأة البغيّة= محتكمين إليك، فاحكم بينهم إن شئت بالحقِّ الذي جعله الله حُكمًا له فيمن فعل فِعْل المرأة البغيَّة منهم= أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت، والخيار إليك في ذلك. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 11970 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو أعرض عنهم"، يهودُ، زنى رجل منهم له نسبٌ حقير فرجموه، ثم زنى منهم شريف فحمَّمُوه، ثم طافوا به، ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقهم. قال: فأفتاهم فيه بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم، فناشدهم بالله: أتجدونه في التوراة؟ فكتموه، إلا رجلا من أصغرهم أعْوَرَ، فقال: كذبوك يا رسول الله، إنه لفي التوراة! 11971 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن ابن شهاب: أنّ الآية التي في"سورة المائدة"،"فإن جاءوك فاحكم بينهم"، كانت في شأن الرجم. 11972 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إنهم أتوه =يعني اليهود= الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 في امرأة منهم زنت، يسألونه عن عقوبتها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة؟ فقالوا: نؤمر برجم الزانية! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت، وقد قال الله تبارك وتعالى:"وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين". 11973 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: كانوا يحدُّون في الزنا، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، (1) فقال بعضهم لبعض: لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثِّلوا به! فجلدوه وحملوه على حمارِ إكافٍ، (2) وجعلوا وجهه مستقبِلَ ذنب الحمار= إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا: ارجموه! ثم قالوا: فكيف لم ترجموا الذى قبله؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا! فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: سلوه، لعلكم تجدون عنده رخصة! فنزلت:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله:"إنّ الله يحب المقسطين". * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قتيل قُتل في يهودَ منهم، قتله بعضهم. ذكر من قال ذلك: 11974 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الآيات في"المائدة"، قوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، إلى قوله:"المقسطين"، إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، (3) تؤدِّي الدية كاملة، وإن قريظة كانوا يؤدون   (1) في المخطوطة: "إلى أن زنى الشاب منهم"، والذي في المطبوعة أرجح. (2) "الإكاف" مركب من المراكب، مثل الرحال والأقتاب. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "كان لهم شرف"، بغير واو، فأثبتها من سيرة ابن هشام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقّ في ذلك، فجعل الدية في ذاك سواءً= والله أعلم أيُّ ذلك كان. (1) 11975 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضيرُ أشرفَ من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير، قُتِل به. وإذا قتل رجلٌ من النضير رجلا من قريظة، أدَّى مئة وَسْقَ تمرٍ. (2) فلما بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَتَل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا! فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنزلت"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط". (3) 11976 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب: للنّضِيريِّ ديتان، (4) والقرظيّ دية= لأنه كان من النضير. قال: وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة، (5) قال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: 45] ، إلى آخر الآية. قال: فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم ابن أخطب، فقالوا: نتحاكم   (1) الأثر: 11974- سيرة ابن هشام 2: 215، 216، وفي سيرة ابن هشام بين أن قوله"والله أعلم أي ذلك كان"، من كلام ابن إسحق. ورواه أحمد في المسند رقم: 3434، مختصرًا. (2) "الوسق" (بفتح الواو وكسرها، وسكون السين) : هو حمل بعير، وهو ستون صاعًا بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) الأثر: 11975-"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضى مرارا. انظر رقم: 2092، 2219، وغيرها إلى: 9456. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن موسى"، وهو خطأ محض. و"علي بن صالح بن صالح بن حي الهمداني"، ثقة. مضى برقم: 178. وانظر خبرًا بمعنى بعضه فيما سلف رقم: 9896، ومسند أحمد رقم: 3212، 3434. (4) في المطبوعة: "للنضري"، والصواب من المخطوطة. (5) في المخطوطة: "وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في التوراة"، وما في المطبوعة أصح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 إلى محمد! فقال الله تبارك وتعالى:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فخيرّه="وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، الآية كلها. وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي، وحمَّموا وجهَ الشريف، وحملوه على البعير، وجَعلوا وجهه من قِبَل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه، وفعلوا بها هي ذلك. فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها. قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أعلمكم بالتوراة؟ قالوا: فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه، فقال: أنت أعلمهم بالتوراة؟ قال: كذاك تزعم يهودُ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْنَاء، ما تجد في التوراة في الزانيين؟ فقال: يا أبا القاسم، يرجمون الدنيئة، ويحملون الشريف على بعير، ويحمِّمون وجهه، ويجعلون وجهه من قبل ذنَبِ البعير، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْناء، ما تجد في التوراة؟ فجعل يروغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يَنْشُده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء، حتى قال: يا أبا القاسم،"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو ذاك، اذهبوا بهما فارجموهما. قال عبد الله: (1) فكنت فيمن رجمهما فما زال يُجْنِئُ عليها، (2) ويقيها الحجارة بنفسه حتّى مات. (3) * * *   (1) كأنه يعني"عبد الله بن عمر"، وإن لم يذكر في الخبر، كما سيأتي في التخريج. (2) "جنأ عليه" و"أجنأ عليه" و"جانأ عليه" و"تجانأ عليه": أكب عليها ومال ليقيها. وهي في المطبوعة"يجني عليها"، وهي صواب أيضًا، والمخطوطة غير منقوطة."جنا عليه يجني" انثنى، وحنى ظهره. وجاء الحديث باللفظين. (3) الأثر: 11976- خبر عبد الله بن عمر في رجم اليهودي اليهودية، رواه مسلم في صحيحه 11: 208، 209 والبخاري، في صحيحه (الفتح 12: 148- 152) وشرحه الحافظ شرحًا وافيًا، وفي سنن أبي داود 4: 214، رقم: 4446. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابت اليوم؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمّة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثلُ الذي جعَل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟ فقال بعضهم: ذلك ثابتٌ اليوم، لم ينسخه شيء، وللحكام من الخيار في كلّ دهر بهذه الآية، مثلُ ما جعَله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 11977 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: إنْ رفع إليك أحد من المشركين في قَضَاءٍ، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله، وإن شئت أعرضت عنهم. (1) 11978 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي وإبراهيم قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك، فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين، ولا تعدُهُ إلى غيره. 11979 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم. 11980 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم. 11981 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن محمد بن سالم، عن الشعبي قال: إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر، فاحكم بينهم بحكم المسلمين، أو خَلِّ عنهم وأهلَ دينهم يحكمون فيهم، إلا في سرقة أو قتل. 11982 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق عن ابن   (1) في المطبوعة: "أعرض عنهم"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 جريج قال، قال لي عطاء، نحن مخيَّرون، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم. وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا، أو نتركهم وحكمهم بينهم= قال ابن جريج: وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب. وذلك قوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم". 11983 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة= وحدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة= عن إبراهيم والشعبي في قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قالا إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. وإن حكم بينهم، حكم بينهم بما في كتاب الله. 11984 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم"، يقول: إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رُخْصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. 11985 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك فيما بينهم، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعدُه إلى غيره، أو أعرض عنهم وخلِّهم وأهلَ دينهم. * * * وقال آخرون: بل التخيير منسوخٌ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكُم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم. ذكر من قال ذلك: 11986 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسخت بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) . [سورة المائدة: 49] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 11987 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) . 11988 - حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار قالا حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) . 11989 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد: لم ينسخ من"المائدة" إلا هاتان الآيتان:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسختها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [سورة المائدة: 49] ، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ) [سورة المائدة: 2] ، نسختها: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: 5] . (1) 11990 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد قال: نسختها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) . 11991 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن منهال قال، حدثنا همام، عن قتادة قوله:"فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، يعني اليهود، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم، ورخَّص له أن يُعْرض عنهم إن شاء، ثم أنزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها: (وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) إلى قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [سورة المائدة: 48] . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله بعد ما رخَّص له، إن شاء، أن يُعْرض عنهم.   (1) الأثر: 11989- انظر الأثر التالي رقم: 11996، والتعليق عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 11992 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزريّ: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عديّ بن عديّ:"إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم". 11993 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن السدي، عن عكرمة قال: نسخت بقوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) [سورة المائدة: 48] . 11994 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: مضت السنة أن يُرَدُّوا قي حقوقهم ومواريثهم إلى أهلِ دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حدٍّ، يحكم بينهم فيه بكتاب الله. 11995 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما نزلت:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، كان النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخها فقال: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) ، وكان مجبورًا على أن يحكم بينهم. 11996 - حدثنا محمد بن عمار قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا عباد بن العوّام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد قال: آيتان نسختا من هذه السورة= يعني"المائدة"، آية القلائد، وقوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مخَّيرًا، إن شاء حكم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى احتكامهم، (1) أن يحكم بينهم بما في كتابنا. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "فردهم إلى أن يحكم بينهم"، حذف ما كان في المخطوطة: "فردهم إلى أحكامهم أن يحكم بينهم"، وصواب قراءته ما أثبت. (2) الأثر: 11996-"سعيد بن سليمان الضبي"، هو"سعدويه"، ثقة مأمون من شيوخ البخاري، مضى برقم: 611، 2168. و"عباد بن العوام الواسطي"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: 2853، 5433. و"سفيان بن حسين الواسطي"، ثقة، تكلموا في روايته عن الزهري. مضى برقم: 3471، 6462، 10723. و"الحكم"، هو"الحكم بن عتيبة"، تابعي ثقة فقيه مشهور، مضى مرارًا كثيرة. وهذا الخبر رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ، من طريق سعيد بن سليمان بمثله، مرفوعًا إلى ابن عباس، ثم قال: "وهذا إسناد مستقيم، وأهل الحديث يدخلونه في المسند". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية. وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) [سورة المائدة: 49] وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام": أن النسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه= بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) وإذْ كان ذلك كذلك= وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم= (2) كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، أنه ناسخٌ قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو   (1) انظر قوله في"النسخ" فيما سلف 8: 12، تعليق 1، والمراجع هناك. (2) السياق: و"إذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل ... كان معلوما". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 دليل على مثل الذي دلَّ عليه قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط". وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر= ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبٌر يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه= ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ= (1) صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر. * * * وأما قوله:"وإن تُعْرِض عنهم فلن يضروك شيئًا"، فإن معناه: وإن تعرض يا محمد، عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب، فتدَع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك، فلا تحكم فيه بينهم (2) ="فلن يضروك شيئًا"، يقول: فلن يقدِرُوا لك على ضُرَّ في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم. (3) * * * وأما قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، فإن معناه: وإن اخترت الحكم والنَظَر، يا محمد، بين أهل العهدِ إذا أتوك="فاحكم بينهم بالقسط"، وهو العدل، (4) وذلك هو الحكم بما جعله الله حكمًا في مثله على جميع خلقِه من أمة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 11997 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة،   (1) السياق: "وإذ لم يكن في ظاهر التنزيل دليل ... صح ما قلنا"، وما بينهما عطف على صدر الكلام. (2) انظر تفسير" الإعراض". فيما سلف 9: 310، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير" الضر" فيما سلف 7: 157. (4) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ص: 95، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 عن إبراهيم والشعبي:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قالا إن حكم بينهم، حكم بما في كتاب الله. 11998 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوَّام بن حوشب، عن إبراهيم:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال: أمر أن يحكم فيهم بالرجم. 11999 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوّام، عن إبراهيم التيمي في قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال: بالرجم. 21000 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بالقسط" بالعدل. 12001 - حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله:"فاحكم بينهم بالقسط"، قال: أمر أن يحكم بينهم بالرجم. * * * وأما قوله:"إن الله يحب المقسطين"، فمعناه: إن الله يحب العادلين في حكمهم بين الناس، (1) القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمْرِه أنبياءَه صلوات الله عليهم. (2) * * * يقال منه:"أقسط الحاكم في حكمه"، (3) إذا عدل وقضى بالحق،"يُقْسِط   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "العاملين في حكمه بين الناس"، وهو كلام فارغ المعنى. وصواب قراءته ما أثبت، إنما حرفه الناسخ بلا ريب. (2) في المطبوعة: "وأمر أنبياءه"، وهو اختلال في السياق، صوابه من المخطوطة، وصواب ضبطه ما رسمت، "وأمره" مصدر معطوف على قوله: "في كتابه". (3) انظر تفسير" أقسط" و"قسط" فيما سلف 6: 77، 270/7: 541/9: 301/10: 95، 325 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 إقساطًا"= وأما"قسط"، فمعناه: الجور، (1) ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [سورة الجن: 15] ، يعني بذلك: الجائرين عن الحق. * * * القول في تأويل قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود، يا محمد، بينهم، فيرضون بك حكمًا بينهم="وعندهم التوراة" التي أنزلتها على موسى، التي يقرُّون بها أنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي، (2) وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه، ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك="يتولون"، يقول: يتركون الحكم به، بعد العلم بحكمي فيه، جراءة عليّ وعصيانًا لي. (3) وهذا، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه تقريعٌ منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره: كيف تقرّون، أيها اليهود، بحكم نبيّي محمد صلى الله عليه وسلم، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون   (1) قوله: "وأما "قسط"، فمعناه"الجور"، هذه الجملة ليست في المخطوطة، ولكن لا غنى عنها، فلذلك رجحت إثباتها كما هي في المطبوعة. وفي المطبوعة"وإقساطا به"، بزيادة"به"، ولا معنى لها، وليست في المخطوطة. (2) في المطبوعة: على"نبيي"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر تفسير" تولى" فيما سلف 9: 18، تعليق 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 بنبوّته في كتابي، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي- أحْرَى، مع جحودكم نبوَّته. * * * ثم قال تعالى ذكره مخبرًا عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه، الزائلين عن محجّة الحق="وما أولئك بالمؤمنين"، يقول: ليس من فعل هذا الفعل- أي: من تولّى عن حكم الله، الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه، في خلقه (1) = بالذي صدَّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك ليس من فِعل أهل الإيمان. * * * وأصل"التولى عن الشيء"، الانصرافُ عنه، كما:- 12002 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"ثم يتولون من بعد ذلك"، قال:"توليهم"، ما تركوا من كتاب الله. 12003 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة. 12004 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وعندهم التوراة فيها حكم الله"، أي: بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم="ثم يتولون من بعد ذلك"، الآية. 12005 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قال= يعني الرب تعالى ذكره= يعيِّرهم:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يقول: الرجم. * * *   (1) السياق: " ... الذي حكم به في كتابه ... في خلقه". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا التوراة فيها بيانُ ما سألك هؤلاء اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين (1) ="ونور"، يقول: فيها جلاء ما أظلم عليهم، وضياءُ ما التبس من الحكم (2) ="يحكم" بها النبيون الذين أسلموا"، يقول: يحكم بحكم التوراة في ذلك، أي: فيما احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه من أمر الزانيين="النبيون الذين أسلموا"، وهم الذين أذعنوا لحكم الله وأقرُّوا به. (3) * * * وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبيّنا محمدا صلى الله عليه وسلم، في حكمه على الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم، وفي تسويته بين دم قتلى النّضير وقريظة في القِصاص والدِّية، ومَنْ قبل محمد من الأنبياء يحكم بما فيها من حكم الله، كما:- 12006 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. 12007 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. 12008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، قال، حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب،   (1) انظر تفسير" الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"نور" فيما سلف 5: 424/9: 428/10: 145 (3) انظر تفسير" الإسلام" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود وامرأة، (1) فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بُعِث بتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا:"فُتْيَا نبي من أنبيائك"!! قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة، حتى أتى بيت مِدْراسهم، (2) فقام على الباب فقال: أنشدُكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمّم ويجبَّه ويجلد="والتجبيه"، أن يحمل الزانيان على حمار، تُقَابل أقفيتهما، ويطاف بهما= وسكت شابٌّ [منهم] ، (3) فلما رآه سكت، ألظَّ به النِّشْدَةَ، (4) فقال: اللهم إذ نشدتَنا، فإنا نجد في التوراة الرجْمَ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أوّل ما ارْتَخَصْتم أمر الله؟ (5) قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم. (6) ثم زنى رجل في أسْوة من الناس، (7) فأراد رَجْمَه، فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجمْ صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة! فأمر بهما فرجما= قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، فكان النبيُّ منهم. (8) 12009 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ قبله من الأنبياء، يحكمون بما فيها من الحق.   (1) في المطبوعة: "بامرأة"، وأثبت ما كان هنا في المخطوطة، وهو مطابق لما في تفسير عبد الرزاق. انظر التخريج. (2) في المطبوعة"بيت المدراس"، وفي المخطوطة: "بيت مدراس"، وفوق"مدراس" حرف"ط"، دلالة على الخطأ، وما أثبته هو الصواب، من تفسير عبد الرزاق. وقد مضى تفسير"بيت المدراس" فيما سلف ص: 303، تعليق: 1. (3) ما بين القوسين زيادة من تفسير عبد الرزاق. (4) "ألظ به"، ألح عليه، وقد مضى تفسيرها في ص: 304: تعليق: 2. و"النشدة": الاستحلاف بالله. يقال: "نشدتك الله نشدة ونشدة" (بفتح النون وكسرها) و"نشدانًا" (بكسر النون) : استحلفتك بالله. وفيما نقله أخي السيد أحمد من تفسير عبد الرزاق (المخطوط) : "النشيد"؛ وقال أخي: "في أبي داود: النشدة"، وفي رواية أبي جعفر عن عبد الرزاق، اختلاف آخر عنه. و"النشيد": رفع الصوت، هكذا قالوا. وعندي أنه مصدر"نشدتك الله"، يزاد على مصادره. (5) في المطبوعة: "ما ارتخص أمر الله"، وفي المخطوطة: ما يحصص" [محذوفة النقط] ، وهو خطأ لاشك فيه، وأثبت ما في تفسير عبد الرزاق. (6) قوله: "فأخر عنه الرجم"؛ أي: أسقط عنه الحد، كأنه أبعده عنه وصرفه أن يلحقه. وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أخر عني يا عمر"، قالوا في معناه: "معناه: أخر عني رأيك أو نفسك، فاختصر إيجازا وبلاغة". فقصروا في شرحه، وإنما أراد معنى صرفه وإبعاده. وهو في هذا الخبر بالمعنى الذي فسرته. وهو مما يزاد على كتب اللغة، أو على بيانها على الأصح. (7) في المطبوعة: "في أسرة من الناس"، وهي بمثل ذلك في مخطوطة تفسير عبد الرزاق، ثم هي كذلك في سنن أبي داود وغيره. وفسروها فقالوا"الأسرة: عشيرة الرجل وأهل بيته، لأنه يتقوى بهم". بيد أني أثبت ما هو واضح في المخطوطة: "في أسوة" بالواو، والواو هناك واضحة جدا، كبيرة الرأس، وما أظن الناسخ وضعها كذلك من عند نفسه، بل أرجح أنه وجد"الواو" ظاهرة في نسخة التفسير العتيقة التي نقل عنها، فأثبتها واضحة لذلك. فلو صح ما في المخطوطة، فهو عندي أرجح من رواية"في أسرة". وبيانها أنهم يقولون: "القوم أسوة في هذا الأمر"، أي: حالهم فيه واحدة. فأراد بقوله: "في أسوة من الناس"، أي: حاله حال سائر الناس، ليس من أشرافهم، أو من أهل بيت المملكة منهم، فهو يعامل كما يعامل سائر العامة. وقد جاء في أخبار رجم اليهوديين: "كنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد" (انظر ما سلف رقم: 11922) . فهو يعني بقوله: "في أسوة من الناس"، أنه من ضعفائهم وعامتهم. وهذا أرجح عندي من"في أسرة من الناس"، فإنه يوشك أن يكون"في أسرة من الناس"، مما يوحي بأن له عشيرة يحمونه ويدفعون عنه ويتقوى بهم، وهو خلاف ما يدل عليه سياق هذا الخبر. ولولا أني لا أجد في يدي البرهان القاطع، لقلت إن الذي في المخطوطة هو الصواب. وذلك أني أذكر أني قرأت مثل هذا التعبير في غير هذا الموضع، وجهدت أن أجده، فلم أظفر بطائل. فإذا وجدته في مكان آخر أثبته إن شاء الله، وكان حجة في المعنى الذي فسرته، وفوق كل ذي علم عليم. (8) الأثر: 12008- انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف في التعليق على الأثرين، رقم: 11923، 11924. وقد نقله أخي السيد أحمد في مسند أحمد في التعليق على الخبر رقم: 7747، من مخطوطة تفسير عبد الرزاق، ولم يشر إلى موضعه هنا من تفسير الطبري. وقد بينت الاختلاف بين الروايتين فيما سلف من التعليقات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 12010 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم="للذين هادوا"، يعني اليهود، (1) فاحكم بينهم ولا تخشهم. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في كل زمان -على ما أمر بالحكم به فيها- مع النبيين الذين أسلموا="الربانيون والأحبار". * * * و"الربانيون" جمع"رَبَّانيّ"، وهم العُلماء الحكماء البُصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم= و"الأحبار"، هم العلماء. * * * وقد بينا معنى"الربانيين" فيما مضى بشواهده، وأقوالَ أهل التأويل فيه. (2) * * * وأما"الأحبار"، فإنهم جمع"حَبْر"، وهو العالم المحكم للشيء، ومنه قيل لكعْب:"كعب الأحبار". وكان الفراء يقول: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد"الأحبار"،"حِبْر" بكسر"الحاء". (3) * * *   (1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف ص: 309، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الربانيون" فيما سلف 6: 540، 544، وفيه بيان لا يستغني عن معرفته بصير باللغة. (3) انظر تفسير"الأحبار" فيما سلف 6: 541، 542 (الأثر: 7312) ، ثم ص: 544. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 وكان بعض أهل التأويل يقول: عُنِي بـ"الربانيين والأحبار" في هذا الموضع: ابنا صوريا اللذان أقرَّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى ذكره في التوراة على الزانيين المحصنين. ذكر من قال ذلك: 12011 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان رجلان من اليهود أخوان، يقال لهما ابنا صُوريا، وقد اتبعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسلما، وأعطياه عهدًا أن لا يسألهما عن شيء في التوراة إلا أخبراه به. وكان أحدُهما رِبِّيًّا، والآخر حَبْرًا. وإنما اتَّبعا النبى صلى الله عليه وسلم يتعلمان منه. فدعاهما، فسألهما، فأخبراه الأمر كيف كان حين زَنَى الشريف وزنى المسكين، وكيف غيَّروه، فأنزل الله:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم="والربانيون والأحبار"، هما ابنا صوريا، للذين هادوا. ثم ذكر ابني صوريا فقال:"والربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء لليهود، والربانيون من خلقه والأحبار. وقد يجوز أن يكون عُني بذلك ابنا صوريا وغيرهما، غير أنه قد دخل في ظاهر التتزيل مسلمو الأنبياء وكل رَبَّاني وحبر. ولا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه معنيٌّ به خاص من الربانيين والأحبار، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها. فكل رباني وحبر داخلٌ في الآية بظاهر التنزيل. * * * وبمثل الذي قلنا في تأويل"الأحبار"، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 12012 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك:"الربانيون" و"الأحبار"، قُرّاؤهم وفقهاؤهم. 12013 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الحسن:"الربانيون والأحبار"، الفقهاء والعلماء. 12014 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الربانيون"، العلماء الفقهاء، وهم فوق"الأحبار". (1) 12015 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الربانيون"، فقهاء اليهود="والأحبار"، علماؤهم. 12016 - حدثنا القاسم قال، حدثنا سنيد بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"والربانيون والأحبار"، كلهم يحكم بما فيها من الحق. 12017 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد"الربانيون"، الولاة،="والأحبار"، العلماء. * * * وأما قوله:"بما استحفظوا من كتاب الله"، فإن معناه: يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة، والربانيون والأحبار = يعني العلماء= بما استُودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة. * * * و"الباء" في قوله:"بما استحفظوا"، من صلة"الأحبار". * * * وأما قوله:"وكانوا عليه شهداء"، فإنه يعني: أن الربانيين والأحبار بما استودعوا من كتاب الله، يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسلموا للذين هادوا، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله الذي أنزله على نبيه موسى وقضائه عليهم، (2) كما:-   (1) الأثر: 12014- انظر قوله مجاهد بإسناد آخر رقم: 7312. (2) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 12018 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكانوا عليه شهداء"، يعني الربانيين والأحبار، هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قال، أنه حق جاء من عند الله، فهو نبي الله محمد، أتته اليهود. فقضى بينهم بالحق. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم: لا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي الذي حكمت به على عبادي، وإمضائه عليهم على ما أمرت، فإنهم لا يقدرون لكم على ضر ولا نفع إلا بإذني، ولا تكتموا الرجمَ الذي جعلته حُكمًا في التوراة على الزانيين المحصنين، ولكن اخشوني دون كل أحدٍ من خلقي، فإن النفع والضر بيدي، وخافوا عقابي في كتمانكم ما استُحفِظتم من كتابي. (1) كما:- 12019 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تخشوا الناس واخشون"، يقول: لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت. * * * وأما قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا" يقول: ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى، أيها الأحبار، عوضًا خسِيسًا= وذلك هو"الثمن القليل". (2)   (1) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 9: 517، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف 8: 542، تعليق: 2، والمراجع هناك= وتفسير"الثمن القليل" فيما سلف 7: 500، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 وإنما أراد تعالى ذكره، نهيَهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله، وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين، وغير ذلك من الأحكام التي بدَّلوها طلبًا منهم للرشَى، كما:- 12020 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، قال: لا تأكلوا السحت على كتابي= وقال مرة أخرى، قال قال ابن زيد في قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا" قال: لا تأخذوا به رشوة. (1) 12021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، ولا تأخذوا طَمَعًا قليلا على أن تكتموا ما أنزلت. (2) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون (44) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كتم حُكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكمًا يين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، (3) وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقِصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوَّى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة="فأولئك هم الكافرون"، يقول:   (1) في المخطوطة: "في قوله: لا تشتر ثمنًا، قال: لا تأخذ به رشوة"، وتركت ما في المطبوعة على حاله. (2) في المطبوعة: "طعمًا قليلا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لما في الآثار السالفة. انظر ما سلف الآثار رقم: 821، 2498، 8333. (3) "التجبيه"، و"التحميم"، مضى تفسيره في الآثار والتعليقات السالفة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدَّلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحقَّ الذي أنزله في كتابه="هم الكافرون"، يقول: هم الذين سَتَروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينُه، وغطَّوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحتٍ أخذوه منهم عليه. (1) * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل"الكفر" في هذا الموضع. فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك، من أنه عنى به اليهود الذين حَرَّفوا كتاب الله وبدَّلوا حكمه. ذكر من قال ذلك: 12022 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة المائدة: 45] ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة المائدة: 47] ، في الكافرين كلها. (2) 12023 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن القاسم قال، حدثنا أبو حيان، عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في"المائدة"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"= (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ، ليس في أهل الإسلام منها شيءٌ، هي في الكفار. (3)   (1) انظر تفسير"الكافر" فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) . (2) الأثر: 12022- مضى تخريج هذا الأثر، مطولا فيما سلف رقم: 11922، وتتمته برقم: 11939، ورواه أبو جعفر هناك مختصرًا، وهذا تمامه هنا. (3) الأثر: 12023-"أبو حيان" هو: "يحيى بن سعيد بن حيان التيمي"، سلف برقم: 5382، 5383، 6318، 8155. وكان في المخطوطة هنا: "أبو حباب"، وفي الأثر التالي، أيضا وكأن الراجح هو ما أثبت في المطبوعة. وانظر التعليق على الأثر التالي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 12024 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون" و"الفاسقون"، قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. (1) 12025 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حدير قال، أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ، أحق هو؟ قال: نعم! قال فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدْعون، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا! فقالوا: لا والله، ولكنك تَفْرَقُ! (2) قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرَّجُون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك= أو نحوًا من هذا. 12026 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير قال: قعد إلى أبي مجلز نفرٌ من الإبَاضيَّة، قال فقالوا له: يقول الله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"فأولئك هم الظالمون"،"فأولئك هم الفاسقون"! قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعلمون = يعني الأمراء = ويعلمون أنه ذنب! (3) قال: وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود! والنصارى قالوا:   (1) الأثر: 12024-"أبو حبان"، "يحيى بن سعيد بن حيان التيمي"، انظر التعليق على الأثر السالف، و"أبو حيان التيمي"، يروي عن الضحاك. وكان في المطبوعة هنا أيضا"أبي حباب". وانظر التعليق على الأثر السالف. (2) في المطبوعة: "ولكنك تعرف"، وهو خطأ صرف، صوابه في المخطوطة."فرق يفرق فرقًا": فرغ وجزع. (3) في المطبوعة: "إنهم يعملون ما يعملون"، وفي المخطوطة: "إنه يعملون بما يعملون"، وصواب القراءة ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم، ولكنك تخشاهم! قال: أنتم أحق بذلك منّا! أمّا نحن فلا نعرف ما تعرفون! [قالوا] : (1) ولكنكم تعرفونه، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم! (2) 12027 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان= عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لكم كل حُلْوة، ولهم كل مُرَّة!! ولتسلُكُنَّ طريقَهم قِدَى الشِّراك. (3)   (1) ظاهر السياق يقتضي زيادة ما زدت بين القوسين، فهو منهم تقريع لأبي مجلز وسائر من يقول بقوله، ويخالف الإباضية. (2) الأثران: 12025، 12026- اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها. والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وكان يحب عليا رضي الله عنه. وكان قوم أبي مجلز، وهم بنو شيبان، من شيعة علي يوم الجمل وصفين. فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه، طائفة من بني شيبان، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل. وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز، ناس من بني عمرو بن سدوس (كما في الأثر: 12025) ، وهم نفر من الإباضية (كما في الأثر: 12026) ، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، هم أصحاب عبد الله بن إباض التيمي (انظر هذا التفسير 7: 152-153، تعليق: 1) ، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم الحكمين، وأن عليًا لم يحكم بما أنزل الله، في أمر التحكيم. ثم إن عبد الله بن إباض قال" إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم. ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقًا لا ندري معه -في أمر هذين الخبرين- من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، بيد أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر عندهم. ثم قالوا أيضًا: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة، لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها. ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء، لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول (رقم: 12025) : "فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا"، وقال لهم في الخبر الثاني"إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب". وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه. والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!! ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة. فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى، أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناوله التوبة، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم به متأولا حكمًا خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله. وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط. فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالا على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضى بتبديل الأحكام= فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. واقرأ كلمة أبي جعفر بعد ص: 358، من أول قوله: "فإن قال قائل". ففيه قول فصل. وتفصيل القول في خطأ المستدلين بمثل هذين الخبرين، وما جاء من الآثار هنا في تفسير هذه الآية، يحتاج إلى إفاضة، اجتزأت فيها بما كتبت الآن، وكتبه محمود محمد شاكر. (3) الأثر: 12027-"حبيب بن أبي ثابت الأسدي"، ثقة صدوق. مضى برقم: 9012، 9035، 10423. و"أبو البختري"، هو"سعيد بن فيروز الطائي"، تابعي ثقة، يرسل الحديث عن عمر وحذيفة وسلمان وابن مسعود. قال ابن سعد في الطبقات 6: 204: "وكان أبو البختري كثير الحديث، يرسل حديثه، ويروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع من كبير أحد. فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن، وما كان"عن"، فهو ضعيف". ومضى برقم: 175، 1497، فهو حديث منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من حذيفة. وقوله: "قدى" (بكسر القاف وفتح الدال) . يقال: "هو مني قيد رمح" (بكسر القاف) و"قاد رمح" و"قدى رمح" بمعنى، واحد: أي: قدر رمح، قال هدبة بن الخشرم: وَإِنِّي إِذَا مَا المَوْتُ لَمْ يَكُ دُونَهُ ... قِدَى الشِّبْرِ، أَحْمِي الأنْفَ أَنْ أَتَأَخَّرَا و"الشراك": سير النعل، ويضرب به المثل في الصغر والقصر. يريده تشبونهم: لا يكاد أمركم يختلف إلا قدر كذا وكذا. وكان في المطبوعة هنا: "قدر الشراك"، وأثبت ما في المخطوطة، في هذا الأثر، وفي رقم: 12030. وخبر حذيفة، رواه الحاكم في المستدرك 2: 312، 313، من طريق جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: "كنا عند حذيفة، فذكروا: "ومن لم يحكم لما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فقال رجل من القوم: إن هذه في بني إسرائيل! فقال حذيفة: نعم الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو، ولهم المر! كلا، والذي نفسي بيده، حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي."السنة": الطريقة المتبعة. و"القذة": ريش السهم، يقدر الريش بعضه على بعض ليخرج متساويا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 12028 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون" و"الفاسقون"، قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. 12029 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار، عن عبد الرحمن. 12030 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"فأولئك هم الظالمون""فأولئك هم الفاسقون"، قال فقيل: ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرَّة، ولكم كل حلوة! كلا والله، لتسلكن طريقَهم قِدَى الشراك. (1)   (1) الأثران: 12029، 12030- طريقان أخريان للأثر السالف رقم: 12027، وكان في الأثر الأخير هنا في المطبوعة: "قدر الشراك"، وأثبت ما في المخطوطة. انظر التعليق السالف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 12031 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة قال: هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. 12032 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في قتيل اليهود الذي كان منهم. (1) 12033 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون"، و"الفاسقون"، لأهل الكتاب كلّهم، لما تركوا من كتاب الله. 12034 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديّ محمَّم مجلود، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حدَّ من زنى؟ قالوا: نعم! فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك أنشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حدَّه في كتابنا الرجم، ولكنه كثُر في أشرافنا، فكُنا إذا أخذنا الشّريف تركناه، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالوا فلنجتمع جميعًا على التحميم والجلد مكانَ الرجْم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنّي أول من أحيَى أمرك إذْ أماتوه! فأمر به فرجم، فأنزل الله:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، يعني اليهود:"فأولئك هم الظالمون"، يعني اليهود:"فأولئك هم الفاسقون"، للكفار كلها. (2)   (1) في المطبوعة: "في قيل اليهود"، وفي المخطوطة: "في قبيل اليهود"، والصواب ما أثبت. وقد مضى خبر هذا القتيل مرارًا، وسيأتي قريبًا برقم: 12037. (2) الأثر: 12034- مضى تخريج هذا الأثر برقم: 11922، من طرق أخرى وسيأتي برقم: 12036. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 12035 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: من حكم بكتابه الذي كتب بيده، وترك كتاب الله، وزعم أن كتابه هذا من عند الله، فقد كفر. 12036 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث القاسم، عن الحسن= غير أن هنادًا قال في حديثه: فقلنا: تعالوا فلنجتمع في شيء نقيمه على الشريف والضعيف، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم- وسائر الحديث نحو حديث القاسم. (1) 12037 - حدثنا الربيع قال، حدثنا ابن وهب قال، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فذكر رجل عنده:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"،"ومن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، فقال عبيد الله: أمَا والله إن كثيرًا من الناس يتأوَّلون هؤلاء الآيات على ما لم ينزلنَ عليه، وما أُنزلن إلا في حيين من يهود. ثم قال: هم قريظة والنضير، وذلك أنّ إحدى الطائفتين كانت قد غزت الأخرى وقهرتها قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزةُ من الذليلة، فديته خمسون وَسْقًا، (2) وكل قتيل قتلته الذَّليلة من العزيزة، فدِيَته مئة وَسْق. فأعطوهم فَرَقًا وضيمًا. (3) فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فذلَّت الطائفتان بمقدَم النبي صلى الله عليه وسلم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهما. فبيْنا هما على   (1) الأثر: 12034- مضى تخريجه برقم: 11922، ورقم: 12034. (2) "الوثق" (بفتح الواو كسرها) : حمل بعير، أو ستون صاعًا، وهو مكيال لهم. (3) "الفرق" (بفتحتين) الفزع، والجزع. و"الضيم": الظلم. يقول: فقبلوا ذلك خوفًا من بطشهم وجزعًا، ورضى بالظلم منهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 ذلك، أصابت الذليلة من العزيزة قتيلا فقالت العزيزة: أعطونا مائة وسق! فقالت الذليلة: وهل كان هذا قط في حَيَّين دينهما واحد، وبلدهما واحد، ديةُ بعضهم ضعفُ دية بعض! إنما أعطيناكم هذا فَرَقًا منكم وضيمًا، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. فتراضيا على أن يجعلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم إن العزيزة تذاكرت بينها، (1) فخشيت أن لا يعطيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أصحابها ضعف ما تعطِي أصحابها منها، فدسُّوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخوانهم من المنافقين، فقالوا لهم: اخبرُوا لنا رأيَ محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أعطانا ما نريد حكَّمناه، وإن لم يعطنا حذرناه ولم نحكمه! فذهب المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله تعالى ذكره النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما أرادوا من ذلك الأمر كله= قال عبيد الله: فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يُسَارعون في الكفر"، هؤلاء الآيات كلهن، حتى بلغ:"وليحكُم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" إلى"الفاسقون"= قرأ عبيد الله ذلك آيةً آيةً، وفسَّرها على ما أُنزل، حتى فرَغ [من] تفسير ذلك لهم في الآيات. (2) ثم قال: إنما عنى بذلك يهود، وفيهم أنزلت هذه الصفة. * * * وقال بعضهم: عنى بـ"الكافرين"، أهل الإسلام، وب"الظالمين" اليهود، وب"الفاسقين" النصارى. ذكر من قال ذلك: 12038 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر قال: نزلت"الكافرون" في المسلمين، و"الظالمون" في اليهود، و"الفاسقون" في النصارى.   (1) في المخطوطة: *"نكرت" غير منقوطة، والذي في المطبوعة موافق للمعنى، ولم أعرف لقراءة ما في المخطوطة وجهًا إلا"فكرت بينها"، وهي سقيمة. (2) الذي بين القوسين، زيادة لا بد منها فيما أرى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 12039 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، قال:"الكافرون"، في المسلمين، و"الظالمون" في اليهود، و"الفاسقون"، في النصارى. 12040 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب وواصل بن عبد الأعلى قالوا، حدثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: آيةٌ فينا، وآيتان في أهل الكتاب:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فينا، وفيهم:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، و"الفاسقون" في أهل الكتاب. 12041 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، مثل حديث زكريَّا عنه. (1) 12042 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: هذا في المسلمين"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: النصارى. 12043 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي قال، في هؤلاء الآيات التي في"المائدة":"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: فينا أهلَ الإسلام="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، قال: في اليهود="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: في النصارى. 12044 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى.   (1) يعني رقم: 12038. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 12045 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن زكريا، عن الشعبي، بنحوه. 12046 - حدثنا هناد قال، حدثنا يعلى، عن زكريا، عن عامر، بنحوه. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك: كفرٌ دون كفر، وظلمٍ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق. ذكر من قال ذلك: 12047 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. 12048 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عطاء، مثله. 12049 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي رباح، بنحوه. 12050 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه. 12051 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه. 12052 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة. 12053 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن معمر بن راشد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 عباس:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافررن"، قال: هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله. (1) 12054 - حدثني الحسن قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات:"ومن لم يحكم بما أنزل الله"، فمن فعل هذا فقد كفر؟ قال ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا. 12055 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال هي به كفر= قال: ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكُتُبه ورسله. 12056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن طاوس:"فأولئك هم الكافرون"، قال: كفر لا ينقل عن الملة= قال وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب، وهى مرادٌ بها جميعُ الناس، مسلموهم وكفارهم. ذكر من قال ذلك: 12057 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورَضي لهذه الأمّة بها.   (1) الأثر: 12053- خبر طاوس عن ابن عباس، رواه الحاكم في المستدرك (2: 313) من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام بن ججير، عن طاوس، عن ابن عباس: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عنه الملة ="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، كفر دون الكفر"، هذا لفظه، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "صحيح". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 12058 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في بني إسرائيل، ورضى لكم بها. 12059 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في بني إسرائيل، ثم رضى بها لهؤلاء. 12060 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبةٌ. 12061 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت. قال فقالا أفي الحكم؟ قال: ذاك الكُفْر! ثم تلا هذه الآية:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". 12062 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن لم يحكم بما أنزل الله"، يقول: ومن لم يحكم بما أنزلتُ، فتركه عمدًا وجار وهو يعلم، فهو من الكافرين. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به. فأما"الظلم" و"الفسق"، فهو للمقرِّ به. ذكر من قال ذلك: 12063 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسقٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم، فكونُها خبرًا عنهم أولى. * * * فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصًّا؟ قيل: إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ، على سبيل ما تركوه، كافرون. وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوّة نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك، يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله. ويعني بقوله:"وكتبنا"، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق (1) ="بالنفس"، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة،   (1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 232 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 ="والعين بالعين"، يقول: وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلَها من نفس أخرَى بالعين المفقوءة= ويجدع الأنف بالأنف= وتقطع الأذن بالأذن= وتقلع السنّ بالسنّ= ويُقْتَصَّ من الجارِح غيره ظلمًا للمجروح. (1) وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود= وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته، وإدباره عنه بعد إقباله= وتعريفٌ منه له جراءتهم قديمًا وحديثًا على ربِّهم وعلى رسل ربِّهم، وتقدُّمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل. يقول تعالى ذكره له: وكيف يرضى هؤلاء اليهود، يا محمد، بحكمك، إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرُّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم، فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين، وقضائي بينهم أن من قتَل نفسًا ظلمًا فهو بها قَوَدٌ، ومن فقأ عينًا بغير حق فعينه بها مفقوءة قِصَاصًا، ومن جدع أنفًا فأنفه به مجدوع، ومن قلع سنًّا فسنّه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحًا فهو مقتصٌّ منه مثل الجرح الذي جرحه؟ = ثم هم مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكامي، يتولون عنه ويتركون العمل به، يقول: فهم بترك حكمك، وبسخط قضائك بينهم، أحرَى وأولَى. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12064 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما رأت قريظة النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم، وكانوا يخفونه في كتابهم، نهضت قريظة فقالوا: يا محمد، اقضِ بيننا وبين إخواننا   (1) انظر تفسير"القصاص" فيما سلف 3: 357- 366/ثم 3: 579 تعليق: 1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 بني النضير= وكان بينهم دمٌ قبلَ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت النضير يتعزَّزون على بني قريظة، ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدِّية من وُسُوق التمر: أربعين ومئة وسق لبني النضير، وسبعين وسقًا لبني قريظة= فقال: دمُ القرظيّ وفاءٌ من دم النضيريّ! (1) فغضب بنو النضير وقالوا: لا نطيعك في الرَّجم، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنَّا عليها! فنزلت: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [سورة المائدة: 50] ونزل:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"، الآية. 12065 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"، قال: فما بالهم يخالفون، يقتلون النفسين بالنفس، ويفقأون العينين بالعين؟ 12066 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خلاد الكوفي قال، حدثنا الثوري، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، فكان بينهم قتلى، وكان لأحد الحيين على الآخر طَوْلٌ، (2) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يجعَلُ الحرَّ بالحرِّ، والعبدَ بالعبد، والمرأة بالمرأة، فنزلت: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [سورة البقرة: 178] = قال سفيان: وبلغني عن ابن عباس أنه قال: نسختها:"النفس بالنفس". (3) 12067 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"= فيها   (1) قوله: "وفاء من دم النضيري"، أي يعادله ويساويه. يقال: "وفى الدرهم المثقال" أي: عادله. (2) "الطول" (بفتح فسكون) : العلو والفضل والعزة. (3) الأثر: 12066- مضى خبر السدي عن أبي مالك بإسناد آخر رقم: 2564. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 في التوراة-"والعين بالعين" حتى:"والجروح قصاص"، قال مجاهد عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل القصاصُ في القتلى، ليس بينهم دية في نفسٍ ولا جُرْحٍ. قال: وذلك قول الله تعالى ذكره:"وكتبنا عليهم فيها" في التوراة، فخفف الله عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل عليهم الدية في النَّفس والجِراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة="فمن تصدَّق به فهو كفارة له". 12068 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسن والجروح قصاص"، قال: إن بني إسرائيل لم تُجعل لهم ديةٌ فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت، أو جرح، أو سنّ، أو عين، أو أنف. إنما هو القصاصُ، أو العفو. 12069 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة="أن النفس بالنفس". 12070 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة، بأن النفس بالنفس. 12071 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" حتى بلغ"والجروح قصاص"، بعضها ببعض. 12072 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن النفس بالنفس"، قال يقول: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السنّ بالسن، وتقتصّ الجراح بالجراح. * * * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 قال أبو جعفر: فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان في النفس وما دون النفس= ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس. (1) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ به:"فمن تصدق به فهو كفارة له". فقال بعضهم: عنى بذلك المجروحَ ووليَّ القتيل. ذكر من قال ذلك: 12073 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: يُهْدَم عنه = يعني المجروح = مثلُ ذلك من ذنوبه. 12074 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو، بنحوه. 12075 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود أبي العُرْيان قال: رأيت معاوية قاعدًا على السرير، وإلى جنبه رجلٌ أحمر كأنه مَوْلىً= وهو   (1) من أول قوله: "فهذا يستوي ... " إلى آخر الكلام، يشبه عندي أن يكون من كلام أبي جعفر، فلذلك، فصلته عن خبر ابن عباس، وكتبت قبله: "قال أبو جعفر". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 عبد الله بن عمرو= فقال في هذه الآية:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: يُهْدَم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به. (1) 12076 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: للمجروح. 12077 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن أبي عقبة، عن جابر بن زيد:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قا ل: للمجروح. (2) 12078 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني حَرِميّ بن عمارة قال، حدثنا   (1) الآثار: 12073- 12075- ثم يأتي أيضًا من طريق أخرى برقم: 12085. "سفيان"، هو الثوري. و"قيس بن مسلم الجدلي العدواني"، ثقة، مضى برقم: 9744. و"طارق بن شهاب الأحمسي"، ثقة، مضى برقم: 9744، 11682. و"الهيثم بن الأسود النخعي"، "أبو العريان"، أدرك عليًا، وروى عن معاوية وعبد الله بن عمرو. ثقة من خيار التابعين، كان خطيبًا شاعرًا. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر رواه في السنن 8: 54، بمثله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 167، من تفسير ابن أبي حاتم، من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 288، وزاد نسبته للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وقوله: "وإلى جنبه رجل أحمر كأنه مولى"، "الأحمر" عندهم: الأبيض، لأن بياض الناس تشوبه الحمرة، ولذلك سموا العجم"الحمراء"، لبياضهم، ولغلبة الشقرة عليهم. وقد ذكر ابن سعد (4/2/11) صفة عبد الله بن عمرو، عن"العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي" قال: "وفدت مع أبي إلى يزيد بن معاوية، فجاء رجل طوال أحمر، عظيم البطن، فسلم وجلس. فقال أبي: من هذا؟ فقيل: عبد الله بن عمرو". وروي أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أنه وصف عبد الله بن عمرو فقال: "رجل أحمر عظيم البطن طوال". وعنى بقوله: "كأنه مولى"، كأنه من العجم أو الفرس. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وإلى جنبه رجل آخر"، وهو خطأ صرف كما ترى. (2) الأثر: 12077-"عمارة بن أبي حفصة العتكي"، ثقة، مضى برقم: 8513. و"أبو عقبة"، لم أجد له ذكرا، ولم أعرف من هو. و"جابر بن زيد الأزدي اليحمدي"، "أبو الشعثاء"، ثقة، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم: 5136، 5472. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 شعبة قال، أخبرني عمارة، عن رجل= قال حرميّ: نسيت اسمه= عن جابر بن زيد، بمثله. (1) 12079 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: للمجروح. 12080 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: دفع رجلٌ من قريش رجلا من الأنصار فاندقَّتْ ثنيَّتُه، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألحَّ عليه الرجل قال معاوية: شأنَكَ وصاحبَك! قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يُصَاب بشيء من جسده فيَهبُه، إلا رفعه الله به درجةً وحطّ عنه به خطيئة. فقال له الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته أذناي ووَعاه قلبي! فخلَّى سبيلَ القرشيّ، فقال معاوية: مروا له بمالٍ. (2) 12081 - حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا هشيم بن بشير قال،   (1) الأثر: 12078-"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي"، مضى هو وأبوه"عمارة بن أبي حفصة" فيما سلف رقم: 5813. والرجل الذي نسيه"حرمي"، هو"أبو عقبة" المذكور في الأثر السالف. (2) الأثر: 12080-"يونس بن أبي إسحق السبيعي"، ثقة. مضى برقم: 3018. و"أبو السفر"، هو: "سعيد بن يحمد الثوري" تابعي ثقة، يروي عن متوسطي الصحابة كابن عباس وابن عمر. مضى برقم: 3010. وهذا الإسناد منقطع، لأن أبا السفر لم يسمع أبا الدرداء. وروى الخبر أحمد في مسنده 6: 448، من طريق وكيع عن يونس بن أبي إسحق، بمثله. ورواه البيهقي في السنن 8: 55، من طريق شيبان بن عبد الرحمن، عن يونس بن أبي إسحق، بمثله. ورواه ابن ماجه في سننه ص: 898، رقم: 2693. ورواه الترمذي في"أبواب الديات"، "باب ما جاء في العفو"، من طريق عبد الله بن المبارك، عن يونس بن أبي إسحق. ثم قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعًا من أبي الدرداء". وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 168، وزاد نسبته لابن ماجه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال، قال ابن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جُرِح في جسده جراحةً فتصدَّق بها، كُفّر عنه ذنوبه بمثل ما تصدّق به. (1) 12082 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للمجروح. 12083 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا قال: سمعت عامرًا يقول: كفارة لمن تصدَّق به. 12084 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: لوليّ القتيل الذي عفا. 12085 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، عن الهيثم أبي العريان قال: كنت بالشأم، وإذا برجل مع معاوية قاعدٍ على السرير كأنه مولًى، قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: فمن تصدق به هدَم الله عنه مثلَه من ذنوبه= فإذا هو عبد الله بن عمرو. (2) * * *   (1) الأثر: 12081-"ابن الصامت"، هو"عبادة بن الصامت"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الخبر، إسناد صحيح إلى الشعبي، رواه أحمد في مسنده 5: 316، من طريق سريج بن النعمان، عن هشيم، بمثله، ثم رواه ابنه عبد الله في 5: 329، من طريق شجاع بن محمد، عن هشيم، بمثله ثم رواه عبد الله أيضا 5: 330، من طريق إسمعيل بن أبي معمر الهذلي، عن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن الصامت بلفظ: "من تصدق عن جسده بشيء، كفر الله تعالى عنه بقدر ذنوبه". ورواه البيهقي بغير هذا اللفظ من طريق أبي داود، عن محمد بن أبان، عن علقمة بن مرثه، عن الشعبي"، وقال: "هو منقطع"، وذلك أن الشعبي، لم يسمع من عبادة بن الصامت. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 168، وزاد نسبته للنسائي، عن علي بن حجر، عن جرير بن عبد الحميد. (2) الأثر: 12085-"شبيب بن سعيد التميمي الحبطي"، ثقة، مضى برقم: 6613. وهذا الأثر مضى قبل ذلك بالأسانيد رقم 12073 - 12075، ولا أدري أسقط من الناسخ هنا"عن طارق بن شهاب"، كما في سائر الأسانيد، أم هكذا رواه ابن وهب عن شبيب بن سعيد. ولذلك تركته على حاله، ولكن لا شك أن الراوي عن الهيثم، هو طارق بن شهاب. وأما قوله"الهيثم أبي العريان" فقد كان في المخطوطة والمطبوعة: "الهيثم بن العريان"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما أثبت. وقد مضى ذكره في الأسانيد السالفة، انظر التعليق هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 وقال آخرون: عنى بذلك الجارحَ. وقالوا: معنى الآية: فمن تصدق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ على من وجب ذلك له عليه، فعفا عنه، فعفوه ذلك عن الجاني كفّارة لذنب الجاني المجرم، كما القِصاص منه كفَّارة له. قالوا: فأما أجْر العافِي المتصدِّق، فعلى الله. ذكر من قال ذلك: 12086 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للجارح، وأجر الذي أُصِيب على الله. 12087 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، قال سمعت مجاهدًا يقول لأبي إسحاق:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، يا أبا إسحاق، [لمن] ؟ (1) قال أبو إسحاق: للمتصدق= فقال مجاهد: للمذنب الجارح. 12088 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، قال مغيرة، قال مجاهد: للجارح. 12089 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، مثله. 12090 - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قالا للذي تُصُدِّق عليه،   (1) ما زدته بين القوسين، لا بد من زيادته أو ما بشبهه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 وأجرُ الذي أصيب على الله= قال هناد في حديثه، قالا كفارة للذي تُصُدِّق به عليه. 12091 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه. 12092 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر قال: كفارة لمن تُصُدِّق به عليه. 12093 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم قالا كفارة للجارح، وأجر الذي أصيب على الله. 12094 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: إن عفا عنه، أو اقتص منه، أو قبل منه الدية، فهو كفّارة له. 12095 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: كفارة للجارح، وأجرٌ للعافي، لقوله: (1) (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [سورة الشورى: 40] . 12096 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للمتصدَّقِ عليه. 12097 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، حدثنا حصين، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: هي كفارة للجارح. 12098 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن   (1) في المخطوطة: "إلى قوله: فمن عفا ... "، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ، والذي في المطبوعة هو الصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: فالكفارة للجارح، وأجر المتصدِّق على الله. 12099 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقول:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: للقاتل، وأجرٌ للعافي. 12100 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عمران بن ظبيان، عن عديّ بن ثابت قال، هُتِم رجل على عهد معاوية، (1) فأعطي دية فلم يقبل، ثم أعطي ديتين فلم يقبل، ثم أعطي ثلاثًا فلم يقبل. فحدَّث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فمن تصدّق بدمٍ فما دونه، كان كفّارة له من يوم تَصدَّق إلى يوم وُلد". قال: فتصدَّق الرجل. (2) 12101 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: من جرح فتصدَّق بالذي جُرِح به على الجارح،   (1) "هتم الرجل" (بالبناء للمجهول) : انكسر مقدم أسنانه."هتم فاه يهتمه هتمًا" متعديا = و"هتم هتما" (على وزن سكر) فهو"أهتم"، و"تهتمت ثناياه". (2) الأثر: 12100-"عمران بن ظبيان الحنفي". قال البخاري: "فيه نظر"، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه"، ثم اختلف في أمره ابن حبان، فذكره في الثقات، ثم عاد فذكره في الضعفاء، وقال"فحش خطؤه، حتى بطل الاحتجاج"، وضعفه العقيلي وابن عدي. وكان يميل إلى التشيع. وأما "عدي بن ثابت الأنصاري"، فهو ثقة صدوق، كان إمام مسجد الشيعة وقاصهم. وروى له الأئمة، مضى برقم: 11726. وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 288، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن مردويه. ولفظ الخبر عن رسول الله: "من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". وساقه بلفظه هذا ابن كثير في تفسيره 3: 168، عن ابن مردويه، قال"حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا محمد بن علي بن زيد، عن سعيد بن منصور، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان". وكأن الصواب هو هذا اللفظ، وما في التفسير أنا في شك من صحة لفظه، ولكني تركته على حاله، ولو كان: "من يوم ولد إلى يوم تصدق"، لكان أقوم لفظًا ومعنى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 فليس على الجارح سبيلٌ ولا قَوَدٌ ولا عَقْلٌ، ولا حَرَج عليه، (1) من أجل أنه تصدق عليه الذي جُرِح، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظَلَم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: عني به:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، المجروحَ (2) = فلأن تكون"الهاء" في قوله:"له" عائدةً على"مَنْ"، أولى من أن تكون مِنْ ذِكْر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، وأحرَى، إذ الصدقة هي المكفِّرة ذنبَ صاحبها دون المتصدَّق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيلُ هذه سبيلَ غيرها من الصدَّقات. * * * فإن ظنّ ظانّ أن القِصاصَ= إذْ كان يكفّر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلمًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ البيعة على أصحابه (3) "أن لا تقتلوا ولا تزنُوا ولا تسرقوا" ثم قال:"فمن فَعَل من ذلك شيئًا فأقيم عليه حدُّه فهو كفارته" (4) فالواجب أن يكونَ عفوُ العافي المجنيِّ عليه، أو ولي المقتول عنه نظيرَه، (5) في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك، لوجب أن يكون عفوُ المقذوفِ عن قاذفه بالزنا، وتركِه أخذه   (1) في المطبوعة: "ولا جرح عليه"، والصواب ما أثبت، والمخطوطة غير منقوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "عنى به فمن تصدق ... "، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) في المطبوعة: "كقول النبي صلى الله عليه وسلم"، والصواب ما أثبت. (4) هذا الخبر رواه أبو جعفر مختصرًا غير مسند، وهو خبر صحيح. انظر صحيح مسلم 11: 222 - 224. (5) السياق: "فإن ظن ظان أن القصاص، إذ كان يكفر ذنب صاحبه ... فالواجب أن يكون عفو العافي ... نظيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 بالواجب له من الحدِّ، وقد قذفه قاذِفُه وهو عفيفٌ مسلم مُحْصَن، كفَّارةً للقاذف من ذنبه الذى ركبه، ومعصيته التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله. فإذْ كان غير جائز أن يكون تركُ المقذوف =الذي وصفنا أمره= أخذَ قاذفه بالواجب له من الحدّ= كفارةً للقاذف من ذنبه الذي ركبه، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذَ الجارح بحقِّه من القصاص، كفَّارةً للجارح من ذنبه الذي ركبه. * * * فإن قال قائل: أو ليس للمجروح عندك أخْذُ جارحه بدية جرحه مكانَ القِصاص؟ قيل له: بلى! فإن قال: أفرأيت لو اختار الدّية ثم عفا عنها، أكانت له قِبَله في الآخرة تَبِعةٌ؟ قيل له: هذا كلام عندنا محالٌ. وذلك أنه لا يكون عندنا مختارًا لديةٍ إلا وهو لها آخذٌ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم= وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غيرِ هذا، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (1) = إلا أن يكون مرادًا بذلك هِبتُها لمن أخذت منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صَحَّ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوُّ له عنها بريئًا من عقوبة ذنبه عند الله; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتلَ المؤمن بما أوعده به إن لم يتُبْ من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحبَّ أم سخط. والتوبة من التَائب إنما تكون توبةً إذا اختارها وأرادَها وآثرها على الإصرار. * * * فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارةً، كما كان القصاص له كفارة، (2) فإنَّا إنما جعلنا القِصاص له كفارة= مع ندمه وبَذْله نفسَه لأخذ الحق منها= تنصُّلا من ذنبه، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) انظر ما سلف 3: 371، وما قبلها. (2) في المطبوعة: "كما جاز القصاص"، وفي المخطوطة"كان" إلا أنه كتب جيما ثم وضع عليها شرطة الكاف، وأما الحرف الأخير فهو"نون"، فصحيح قراءته ما أثبت، وهو حق السياق أيضًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 فأما الدية إذا اختارها المجروحُ ثم عفا عنها، فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله:"فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته". ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الأخبارُ التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"فمن تصدّق بدمٍ"، (1) وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل. * * * وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارحَ، أرادوا المعنى الذي ذُكر عن عروة بن الزبير الذي:- 12102- حدثني به الحارث بن محمد قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، (2) حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المُصاب من أصابه، فاعترف له المصيب، فهو كفارة للمُصيب. قال: وكان مجاهد يقول عند هذا: أصاب عروة ابن الزبير عينَ إنسان عند الركن فيما يستلمون، (3) فقال له: يا هذا، أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنَا بها! * * * وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعلٍ على غير عمدٍ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه، فعفا له المصاب بذلك عن حقِّه قبله، فلا تبعة له حينئذٍ قَبِل المُصيب في الدنيا ولا في الآخرة. لأن الذى كان وجب له قبله مالٌ لا قِصاص، وقد أبرأه منه: فإبراؤه منه، كفَّارة للمبرَّأ من حقه   (1) في المطبوعة والمخطوطة."فمن تصدق به"، والصواب ما أثبته، وهو نص الأثر السالف رقم: 12100. (2) في المطبوعة: "قال حدثنا ابن سلام"، وفي المخطوطة: "قال حدثنا القاسم الحارث بن سلام" ثم ضرب على"القاسم" و"الحارث" ثم وضع بجوار"القاسم" علامة التصحيح وهي (صح) . (3) في المخطوطة: "فيما يسلمون"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو قريب الاستقامة. وفي تفسير أبي حيان 3: 497، "وهم يستلمون"، وهي أجود. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 الذي كان له أخذه به، (1) فلا طَلِبة له بسبب ذلك قِبَله في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به، فيكون بفعله آثمًا يستحق به العقوبة من ربه، (2) لأن الله عز وجل قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمّدوه من أفعالهم، فقال في كتابه: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) . (3) [سورة الأحزاب: 5] * * * و"التصدق"، في هذا الموضع، بالدم، العفو عنه. (4) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قَوَدِ النفس القاتلة قِصاصًا بالنفس المقتولة ظلمًا. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلمًا، قِصاصًا ممن أمره الله به بذلك في كتابه، ولكن أقاد من بعضٍ ولم يُقِدْ من   (1) في المطبوعة: "كفارة له من حقه"، وفي المخطوطة"كفارة *لمتزامر [محذوفة النقط] من حقه"، والذي أثبته هو صواب قراءتها. (2) في المطبوعة: "فيكون بفعله إنما يستحق العقوبة"، وهو كلام فارغ المعنى، و *"انما" هكذا في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. (3) في المخطوطة والمطبوعة، كتب الآية هكذا: "ولا جناح عليكم فيما أخطأتم ... "، وليس فيما نتلو آية كهذه، وإنما هي آية الأحزاب كما أثبتها. (4) في المطبوعة: "وقد يراد في هذا الموضع بالدم العفو عنه"، وهو كلام لا معنى له ولا ضابط. وفي المخطوطة: "وا * في هذا الموضع بالدم، العفو عنه"، بين الكلامين بياض وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ، فاستظهرت صواب الكلام من سياق تفسير هذه الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 بعض، أو قتل في بعض اثنين بواحد، فإنّ من يفعل ذلك من"الظالمين" (1) = يعني: ممن جارَ عن حكم الله، (2) ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعًا. (3) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن من يفعل ذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) في المطبوعة: "جار على حكم الله"، والصواب من المخطوطة. (3) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وقفينا على آثارهم"، (1) أتبعنا. يقول: أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك، يا محمد، فبعثناه نبيًّا مصدّقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنّه حق، وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرضٌ واجب="وآتيناه الإنجيل"، يقول: وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه"الإنجيل""فيه هدى ونور" يقول: في الإنجيل"هدًى"، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه="ونور"، يقول: وضياء من عَمَى الجهالة="ومصدقًا لما بين يديه"، يقول: أوحينا إليه ذلك وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أُنزل إلى نبيِّها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب، من تحليل ما حلّل، وتحريم ما حرّم= "وهدى وموعظة"، يقول: أنزلنا الإنحيل إلى عيسى مصدِّقا للكتب التي قبله، وبيانًا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتَّقين في زمان عيسى،="وموعظة"، لهم= يقول: وزجرًا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبُّه من الأعمال، وتنبيهًا لهم عليه.   (1) انظر تفسير"قفى" فيما سلف 2: 318. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 و"المتقون"، هم الذين خافوا الله وحَذِروا عقابه، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم، وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله. وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل، فأغنى ذلك عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله عزّ ذكره: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وليحكم أهل الإنجيل". فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (2) "وَلْيَحْكُمْ" بتسكين"اللام"، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل: أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك، أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهْلَه أن يحكموا بما أنزل الله فيه= فيكون في الكلام محذوف، ترك استغناءً بما ذكر عما حُذِف. * * * وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ) بكسر"اللام"، من"ليحكم"، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله. * * * والذي نقول به في ذلك، (3) أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ.   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. (2) في المطبوعة: "فقرأ قراء الحجاز ... "، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "والذي يتراءى في ذلك"، وفي المخطوطة: "وللذي يترك [محذوفة النقط] به في ذلك"، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا على نبيٍّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمرًا بالعمل بما فيه أنزله. (1) فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى، وأمرًا بالعمل به أهلَه أنزله عليه. (2) فسواءٌ قرئ على وجه الأمر بتسكين"اللام"، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها، لاتفاق معنييهما. * * * وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك (وأن ليحكم) على وجه الأمر، فذلك مما لم يَصِحّ به النقل عنه. ولو صحّ أيضا، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورةً، إذ كان معناها صحيحًا، وكان المتقدّمون من أئمة القرأة قد قرأوا بها. * * * وإذ كان الأمر في ذلك على ما بيَّنَّا، فتأويل الكلام، إذا قرئ بكسر"اللام" من"ليحكم": وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين، وكيْ يحكم أهلُ الإنجيل بما أنزلنا فيه، فبدّلوا حكمه وخالفوه، فضلُّوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما أنزل الله فيه وخالفوه="فأولئك هم الفاسقون"، يعني: الخارجين عن أمر الله فيه، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه. * * * فأما إذا قرئ بتسكين"اللام"، فتأويله: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونورٌ ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكُموا بما أنزلنا   (1) في المطبوعة: "وأمر بالعمل بما فيه أهله"، فغير ما في المخطوطة تغييرًا مفسدًا للمعنى، مزيلا لقصد أبي جعفر من هذه الجملة التي احتج بها في تقارب معنى القراءتين. وهذا عجب من سوء التصرف. وكذلك سيفعل في الجملة التالية، كما سترى في التعليق. (2) في المطبوعة، أسقط قوله: "أنزله عليه" وكتب"وأمر بالعمل به أهله"، فأخل بمقصد أبي جعفر، كما فعل بالجملة السالفة. انظر التعليق السالف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه، ولكنهم خالفوا أمرنا، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه، هم الفاسقون. * * * وكان ابن زيد يقول:"الفاسقون"، في هذا الموضع وفي غيره، هم الكاذبون. 12103 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا بذلك="فأولئك هم الفاسقون"، قال: الكاذبون. بهذا قال. وقال ابن زيد: كل شيء في القرآن إلا قليلا"فاسق" فهو كاذب. وقرأ قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) [سورة الحجرات: 6] قال:"الفاسق"، ههنا، كاذب. * * * وقد بينا معنى"الفسق" بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * *   (1) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ص: 189 تعليق: 4، والمراجع هناك. وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القول في تأويل قوله: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه} . وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم كثيرًا". ثمّ يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: أنزلنا إليك، يا محمد،"الكتاب"، وهو القرآن الذى أنزله عليه= ويعني بقوله:"بالحق"، بالصدق ولا كذب فيه، ولا شك أنه من عند الله (1) ="مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التى أنزلها إلى أنبيائه= "ومهيمنًا عليه"، يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها. * * * وأصل"الهيمنة"، الحفظ والارتقاب. يقال، إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشَهِده:"قد هيمن فلان عليه، فهو يُهَيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه. فقال بعضهم: معناه: شهيدًا. ذكر من قال ذلك: 12103م - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"، يقول: شهيدًا. 12104 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومهيمنًا عليه"، قال: شهيدًا عليه.   (1) انظر تفسير"الحق" فيما سلف 7: 97/9: 227. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 12105 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: الكتب التي خلت قبله="ومهيمنًا عليه"، أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله. * * * 12106 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، مؤتمنًا على القرآن، وشاهدًا ومصدِّقًا= وقال ابن جريج: وقال: آخرون (1) القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمرٍ، إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا. * * * وقال بعضهم: معناه: أمينٌ عليه. ذكر من قال ذلك: 12107 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= جميعًا، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه. 12108 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه. 12109 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. 12110 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، بإسناده، عن ابن عباس، مثله. 12111 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل،   (1) في المطبوعة: "وقال ابن جريج وآخرون"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. 12112 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. 12113 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (1) 12114 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: والمهيمن الأمين: قال: القرآن أمين على كلِّ كتاب قبله. 12115 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب"، وهو القرآن، شاهد على التوراة والإنجيل، مصدقًا لهما="ومهيمنًا عليه"، يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب. 12116 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه. 12117 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه.   (1) الآثار 12107- 12113-"التميمي" و"رجل من تميم"، هو"أربدة التميمي"، يروي التفسير عن ابن عباس، رواه عنه أبو إسحق السبيعي، مضى برقم: 1928، 1929، ولكن كتب أخي السيد أحمد على الأثر رقم: 2095، ثم كتبت أنا على الآثار من رقم: 3986- 3989، أنه رجل مجهول من تميم، ولكن الصواب أنه معروف وهو"أربدة التميمي"، وهو تابعي ثقة. ثم انظر الآثار الآتية من رقم: 12116- 12118. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 12118 - حدثني المثنى قال، حدثنا يحيى الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. (1) 12119 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان وإسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير:"ومهيمنًا عليه" قال: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب. 12120 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سألت الحسين عن قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه"، قال: مصدقًا لهذه الكتب، وأمينا عليها. وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع فقال: مؤتمنًا عليه. * * * وقال آخرون: معنى"المهيمن"، المصدق. ذكر من قال ذلك: 12121 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: مصدِّقًا عليه. كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن، فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق. * * * وقال آخرون: عنى بقوله:"مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه"، نبي الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 12122 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) الآثار: 12116- 12118-"التميمي"، و"رجل من بني تميم"، هو"أربدة التميمي"، انظر التعليق السالف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن. 12123 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، قال: محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوّله مجاهد: وأنزلنا الكتاب مصدقًا الكتبَ قبله إليك، مهيمنا عليه= فيكون قوله:"مصدقًا" حالا من"الكتاب" وبعضًا منه، ويكون"التصديق" من صفة"الكتاب"، و"المهيمن" حالا من"الكاف" التي في"إليك"، وهي كناية عن ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، و"الهاء" في قوله:"عليه"، عائدة على الكتاب. * * * وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ. وذلك أنّ"المهيمن" عطفٌ على"المصدق"، فلا يكون إلا من صفة ما كان"المصدِّق" صفةً له. ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد، لقيل:"وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب مهيمنًا عليه" (1) = لأنه لم يتقدم من صفة"الكاف" التي في"إليك" بعدَها شيءٌ يكون"مهيمنًا عليه" عطفًا عليه، (2) وإنما عطف به على"المصدق"، لأنه من صفة"الكتاب" الذي من صفته"المصدق". * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومهيمنًا" بالواو، والصواب إسقاطها، لأنه أراد إسقاط العطف، إذ كان"مهيمنًا" حالا من"الكاف" في"إليك"، غير معطوف على شيء قبله، كما ترى في بقية كلامه. (2) في المطبوعة: "لأنه متقدم من صفة الكاف التي في إليك وليس بعدها شئ ... "، فزاد"وليس"، وليست في المخطوطة، وجعل"يتقدم""متقدم"، إذ كان في المخطوطة خطأ، فأساء الفهم، وأساء التصرف!! كان في المخطوطة كما أثبت إلا أنه كتب"لأنه يتقدم من صفة الكاف" سقط من الناسخ"لم"، فأثبتها، واستقام الكلام على وجهه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 فإن ظن ظان أن"المصدق"= على قول مجاهد وتأويلهِ هذا= من صفة"الكاف" التي في"إليك"، فإن قوله:"لما بين يديه من الكتاب"، يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك، وأن يكون"المصدق" من صفة"الكاف" التي في"إليك". لأن"الهاء" في قوله:"بين يديه"، كناية اسم غير المخاطب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم في قوله"إليك". (1) ولو كان"المصدق" من صفة"الكاف"، لكان الكلام: وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديك من الكتاب، (2) ومهيمنا عليه= فيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك. (3) * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهلِ الملل بكتابه الذي أنزله إليه، وهو القرآن الذي خصّه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم، يا محمد، بين أهل الكتاب والمشركين بما أُنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتمكوا فيه إليك، من الحدود والجُرُوح والقَوَد والنفوس، فارجم الزاني المحصَن، واقتل النفسَ القاتلةَ بالنفس المقتولة ظلمًا، وافقأ العين بالعين، واجدع الأنف بالأنف، فإني أنزلت إليك القرآن مصدِّقًا في ذلك ما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليه رقيبًا، يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبلَه، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود= الذين   (1) في المخطوطة: "والنبي صلى الله عليه ... " بإسقاط"هو"، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المخطوطة: "لما بين يديه"، والصواب ما في المطبوعة. (3) في المخطوطة: "فيكون معنى الكلام حينئذ يكون كذلك"، بزيادة"يكون"، والصواب ما في المخطوطة، إلا أن يكون الناسخ أسقط من الكلام شيئًا. ومع ذلك، فالذي في المطبوعة مستقيم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 يقولون: إن أوتيتم الجلدَ في الزاني المحصن دون الرجم، وقتلَ الوضيع بالشريف إذا قتله، وتركَ قتل الشريف بالوضيع إذا قتله، فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا (1) = عن الذي جاءك من عند الله من الحق، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك. يقول له: اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترتَ الحكم عليهم، (2) ولا تتركنَّ العمل بذلك اتباعًا منك أهواءَهم، وإيثارًا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي، كما:- 12124 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاحكم بينهم بما أنزل الله"، يقول: بحدود الله="ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق". 12125 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عامر، عن مسروق: أنه كان يحلف اليهوديَّ والنصراني بالله، ثم قرأ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) [سورة المائدة: 49] ، (3) وأنزل الله: (أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [سورة الأنعام: 151] . * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لكل قوم منكم جعلنا شرعةً. (4) * * *   (1) السياق: "ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود ... عن الذي جاءك من عند الله ... ". (2) في المطبوعة: "فاختر الحكم"، والصواب ما في المخطوطة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخير في الحكم بينهم وفي ترك الحكم، كما سلف ص: 333. (3) في المخطوطة: "ثم قرأ: فإن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله"، وصواب الاستدلال في هذه الآية من المائدة، أما آية المائدة الأخرى (42) ، فتلاوتها: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، وليس فيها الدليل الذي تطلبه في استحلافهم بالله عز وجل. (4) انظر تفسير"كل" فيما سلف 3: 193/6: 209/8: 269. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 و"الشرعة" هي"الشريعة" بعينها، تجمع"الشرعة""شِرَعًا"، (1) "والشريعة""شرائع". ولو جمعت"الشرعة""شرائع"، كان صوابًا، لأن معناها ومعنى"الشريعة" واحد، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكل ما شرعت فيه من شيء فهو"شريعة". ومن ذلك قيل: لشريعة الماء"شريعة"، لأنه يُشْرع منها إلى الماء. ومنه سميت شرائع الإسلام"شرائع"، لشروع أهله فيه. ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء:"هم شَرَعٌ"، سواءٌ. * * * وأما"المنهاج"، فإنّ أصله: الطريقُ البيِّن الواضح، يقال منه:"هو طريق نَهْجٌ، وَمنهْجٌ"، بيِّنٌ، كما قال الراجز: (2) مَنْ يكُ فِي شَكٍّ فَهذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ (3) ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا. * * * فمعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمُّه، وسبيلا واضحًا يعمل به. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "تجمع الشرعة شراعًا"، وهذا خطأ من الناسخ لاشك فيه، فإن جمع"فعلة" (بكسر فسكون) إنما يكسر على"فعل" (بكسر ففتح) ، في الصحيح وفي غيره مثل"كسر"، و"لحى". وقد جاء في"فعلة""فعال"، وهو قليل، كجمع"لقحة" و"لقاح"، و"حقة"، و"حقاق". فجائز أن يكون"شراع" جمعًا عزيزًا للشرعة، ولكن الأقرب في مثل ذلك أن يذكر الجمع الذي أطبق عليه القياس. (2) كأنه راجز من بني العنبر بن عمرو بن تميم. (3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 168، ومعجم ما استعجم: 1027، واللسان (روي) ، وروايتهم جميعًا: "من يك ذا شك". ولكن هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة. و"فلج" (بفتح فسكون) : ماءه لبني العنبر بن عمرو بن تميم، يكثر ذكره في شعر بني تميم، ويمتدحون ماءه، قال بعض الأعراب: أَلا شَرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ مُزْنٍ عَلَى الصَّفَا ... حَدِيثَهُ عَهْد بالسَّحَاب المُسَخَّرِ إلَى رَصَفٍ مِنْ بَطْنِ فَلْجٍ، كأَنَّهَا ... إذَا ذُقْتَهَا بَيُّوتَةً مَاءُ سُكَّرِ و"ماء رواء" (بفتح الراء) : الماء العذب الذي فيه للواردين ري. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"لكل جعلنا منكم". فقال بعضهم: عنى بذلك أهلَ الملل المختلفة، أي: أن الله جعل لكل مِلّةٍ شريعة ومنهاجًا. ذكر من قال ذلك: 12126 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يقول: سبيلا وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل. 12127 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: الدينُ واحد، والشريعةُ مختلفة. 12128 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: الإيمان منذُ بَعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم: شهادةُ أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج، فلا يكون المقرُّ تاركًا، ولكنه مُطِيع. (1) * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: إنما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم،   (1) الأثر: 12128-"عبد الله بن هاشم"، لم أعرف من يكون. وقد مضى في الإسنادين رقم: 7329، 7938، في مثل هذا الإسناد نفسه. و"سيف بن عمر التميمي"، مضى برقم: 7329، 7938، وهو ساقط الرواية. وكان في المطبوعة هنا أيضا، كما في الإسنادين المذكورين: "سيف بن عمرو"، وهو خطأ محض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 أيها الناس، لكُلِّكم= أي لكل من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيٌّ= شرعةً ومنهاجا. ذكر من قال ذلك: 12129 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" قال: سنة، ="ومنهاجًا"، السبيل="لكلكم"، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجًا. يقول: القرآن، هو له شرعة ومنهاج. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم، أيها الأمم جعلنا شِرعةً ومنهاجًا. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) ولو كان عنى بقوله:"لكل جعلنا منكم"، أمة محمد، وهم أمّة واحدةٌ، لم يكن لقوله:"ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة= معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك، على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفَّي بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنه أنزل إليه الكتابَ مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره= وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع الأنبياء والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم، وإن كان دينه ودينهم- في توحيد الله، والإقرار بما جاءهم به من عنده، والانتهاء إلى أمره ونهيه- واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحلّ لهم وحرَّم عليهم. * * * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 وبنحو الذي قلنا في"الشرعة" و"المنهاج" من التأويل، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12130- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" قال: سنةً وسبيلا. 12131 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. 12132 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان وإسرائيل وأبيه، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. 12133 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثَّاب قال: سألت ابن عباس عن قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. (1) 12134 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. 12135 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، بمثله.   (1) الأثر: 12133-"أبو يحيى الرازي "أو"أبو يحيى العبدي" هو: "إسحق بن سلمان الرازي"، ثقة. مضى برقم: 6456. و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان البرجمي". روى عن أبي إسحق السبيعي، وروى عنه إسحق بن سليمان أبو يحيى الرازي. مضى برقم: 175، 11240. وكان في المطبوعة: "أبو شيبان"، وهو خطأ صرف. و"يحيى بن وثاب الأسدي" المقرئ. روى عن ابن عمر، وابن عباس. وروى عنه أبو إسحق السبيعي. قال ابن سعد: "كان ثقة قليل الحديث صاحب قرآن". ومضى برقم: 11488. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 12136 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. 12137 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يعني: سبيلا وسنةً. 12138 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين قال: سمعت الحسن يقول:"الشرعة"، السنة. 12139 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد قال: سنة وسبيلا. (1) 12140 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شرعة ومنهاجًا"، قال:"الشرعة"، السنة="ومنهاجًا"، قال: السبيل. 12141 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 12142 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة. 12143 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحوضي قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت رجلا من بني تميم، عن ابن عباس، بنحوه. (2) 12144 - حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) الأثر: 12139-"أبو يحيى القتات الكناني"، مختلف في اسمه. وهو ضعيف متكلم فيه. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 12143-"الحوضي" هو"حفص بن عمر بن الحارث بن سخبرة النمري" أبو عمر الحوضي، ثقة ثبت متقن. مضى برقم: 11449. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 حدثنا أسباط، عن السدي:"شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة. 12145 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: السنَّة والسبيل. 12146 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة. 12147 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"شرعة ومنهاجًا"، قال: سبيلا وسنةً. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} " قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربُّكم لجعل شرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعةً ومنهاجًا غيرَ شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدةً لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم ليختبركم، فيعرف المطيع منكم من العاصي، والعاملَ بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم من المخالف. * * * و"الابتلاء": هو الاختيار، وقد أبنتُ ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ. (1) * * * وقوله:"فيما آتاكم"، يعني: فيما أنزل عليكم من الكتب، كما:-   (1) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 2: 49/3: 7/7: 574، تعليق: 1، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "وقد ثبت ذلك"، وليس بشيء، أخطأ الناسخ، صوابها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 12148 - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، ثني حجاح، عن ابن جريج: (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) قال عبد الله بن كثير: لا أعلمه إلا قال، ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب. * * * فإن قال قائل: وكيف قال:"ليبلوكم فيما آتاكم"، ومن المخاطب بذلك؟ وقد ذكرت أنّ المعنيَّ بقوله:"لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا" نبيُّنا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممِهم، والذين قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم على حِدَةٍ؟ (1) قيل: إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم: فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم. ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانًا وضمَّت إليه غائبًا، فأرادت الخبر عنه، أن تغلِّب المخاطب، فيخرج الخبرُ عنهما على وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره:"لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا". * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبادروا أيها الناس، إلى الصالحات من الأعمال، والقُرَب إلى ربكم، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى   (1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "وقد ذكرت أن المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا. لكل نبي من الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمخاطب النبي وحده". غير ما في المخطوطة، وحذف منه وزاد فيه. وفي المخطوطة: "وقد ذكرت أن المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا نبيا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم، والذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم حده". وهو سياق لا يستقيم، ورجحت أن الناسخ أسقط"قوله" قبل الآيه، وأسقط"على" من قوله: "على حدة". لأن مراد أبي جعفر أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في خطابه خطاب الأنبياء الذين قبله هم وأممهم. وأما الذي في المطبوعة، فهو تصرف جاوز حده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 نبيكم، فإنه إنما أنزله امتحانًا لكم وابتلاءً، ليتبين المحسن منكم من المسيء، فيجازي جميعكم على عمله جزاءَه عند مصيركم إليه، فإن إليه مصيركم جميعًا، فيخبر كلَّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرقَ الأخرى، فيفْصَل بينهم بفصل القضاء، وتُبِينُ المحقَّ مجازاته إياه بجناته، (1) من المسيء بعقابه إياه بالنار، فيتبين حينئذ كل حزب عيانًا، المحقَّ منهم من المبطل. (2) * * * فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربُّنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون؟ قيل: إنه بيَّن ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانًا، فمصدق بذلك ومكذِّب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكُّون معها في معرفة المحق والمبطل، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم. فكذلك خبرُه تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنَّا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعًا، فتعرفون المحقَّ حينئذ من المبطل منكم، كما:- 12149 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أبي سنان قال: سمعت الضحاك يقول:"فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، البرُّ والفاجر. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "ويبين المحق بمجازاته إياه ... "، أساء قراءة المخطوطة، فتصرف فيها. (2) انظر تفسير"استبق" فيما سلف 3: 196= وتفسير"الخيرات" فيما سلف 3: 196= وتفسير"المراجع" فيما سلف 6: 464= وتفسير"أنبأ" و"النبأ" فيما سلف 1: 488، 489/6: 259، 404/10: 201 (3) الأثر: 12149-"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان"، مضى قريبا برقم: 12133. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، وأنزلنا إليك، يا محمد، الكتابَ مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، وأنِ احكم بينهم= فـ"أن" في موضع نصب بـ"التنزيل". * * * ويعني بقوله:"بما أنزل الله"، بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه. * * * وأما قوله:"ولا تتبع أهواءهم"، فإنه نهيٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتّبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجِرَيْهم، (1) وأمرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه. * * * وقوله:"واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واحذر، يا محمد، هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك="أن يفتنوك"، فيصدُّوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتّباع أهوائهم. (2) * * * وقوله:"فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم"، يقول تعالى ذكره: فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك، فتركوا العمل بما حكمت به   (1) قوله: "وفاجريهم"، يعني اليهودي واليهودية اللذان زنيا، فرجمها صلى الله عليه وسلم. (2) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف 10: 317، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 عليهم وقضيت فيهم (1) "فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم"، يقول: فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضى بحكمك وقد قضيت بالحقّ، إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجّل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم (2) ="وإن كثيرًا من الناس لفاسقون"، يقول: وإن كثيرًا من اليهود="لفاسقون"، يقول: لتاركُو العمل بكتاب الله، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الروايةُ عن أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12150 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صوريا وشأس بن قيس، (4) بعضُهم لبعضٍ: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلّنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنَّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنَّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومِنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم:"وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، إلى قوله:"لقوم يوقنون". (5) 12151 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، قال: أن يقولوا:"في   (1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 10: 336، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف 8: 514، 538، 540، 555. (3) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف 10: 393، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) في ابن هشام: "وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا". (5) الأثر: 12150- سيرة ابن هشام 2: 216، وهو تابع الأثر السالف رقم: 11974. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 التوراة كذا"، وقد بينَّا لك ما في التوراة. وقرأ (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [سورة المائدة: 45] ، بعضُها ببعضٍ. 12152 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: دخل المجوسُ مع أهل الكتاب في هذه الآية:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله". * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا إليك، فلم يرضوا بحكمك، (1) إذ حكمت فيهم بالقسط (2) ="حكم الجاهلية"، يعني: أحكام عبَدة الأوثان من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم، وأنه الحق الذي لا يجوزُ خلافه. ثم قال تعالى ذكره= موبِّخا لهؤلاء الذين أبوا قَبُول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولهم من اليهود، ومستجهلا فعلَهم ذلك منهم=: ومَنْ هذا الذي هو أحسن حكمًا، أيها اليهود، من الله تعالى ذكره عند من كان يوقن بوحدانية الله، ويقرُّ بربوبيته؟ يقول تعالى ذكره: أيّ حكم أحسن من حكم الله، إن كنتم موقنين أن لكم ربًّا، وكنتم أهل توحيدٍ وإقرار به؟ * * *   (1) انظر تفسير"بغى" و"ابتغى" فيما سلف 10: 290، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "وقد حكمت"، وفي المخطوطة: "أو حكمت"، وصوابها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد. 12153 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أفحكم الجاهلية يبغون"، قال: يهود. 12154 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أفحكم الجاهلية يبغون"، يهود. 12155 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ، عن مجاهد:"أفحكم الجاهلية يبغون"، قال: يهود. * * * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بهذه الآية، وإن كان مأمورًا بذلك جميع المؤمنين. فقال بعضهم: عنى بذلك عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أبي ابن سلول، في براءة عُبَادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم= وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسَّك بحلفهم: أنه منهم في براءته من الله ورسوله كَبرَاءتهم منهما. ذكر من قال ذلك: 12156 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثيرٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 عدَدُهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من وَلاية يهود، وأتولَّى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إنّي رجل أخاف الدَّوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبيّ: يا أبا الحباب، ما بخلتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه؟ (1) قال: قد قبلتُ. فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضُهم أولياء بعض" إلى قوله:"فترى الذين في قلوبهم مرض". 12157 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري قال: لما انهزم أهلُ بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوٍم مثل يوم بدر! فقال مالك بن صيف: غرَّكم أن أصبتم رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم، (2) لم يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا! فقال عبادة: يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدةً أنفسهم، كثيًرا سلاحهم، شديدةً شَوْكتُهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من وَلايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: لكني لا أبرأ من ولاء يهود، إنّي رجل لا بدَّ لي منهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا حُباب، أرأيت الذي نَفِست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه؟ قال: إذًا أقبلُ! فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعض أولياء بعض" إلى أن بلغ إلى قوله:"والله يعصمك من الناس". (3) 12158 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا ابن إسحاق قال،   (1) في المخطوطة: "فهو إلى دونه"، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المطبوعة: "أسررنا العزيمة"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة."أمر الحبل يمره إمرارًا": فتله فتلاً محكمًا قويًا. يعني: أجمعنا عزيمتنا. (3) الأثر: 12157-"عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري"، ضعيف متروك الحديث. مضى برقم: 5754. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبَّث بأمرهم عبد الله بن أبيّ وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم= وكان أحد بني عوف بن الخزرج، له من حلفهم مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أبيّ= فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتبرَّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكُفّار وَولايتهم! ففيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الآيات في"المائدة":"يا أيها الذين آمنوا لا تتْخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ"، الآية. (1) * * * وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المؤمنين كانوا هَمُّوا حين نالهم بأحُدٍ من أعدائهم من المشركين ما نالهم= أن يأخذوا من اليهود عِصَمًا، (2) فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم أنّ من فعل ذلك منهم فهو منهم. ذكر من قال ذلك: 12159 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال: لما كانت وقعة أحُدٍ، اشتدّ على طائفة من الناس، وتخوَّفوا أن يُدَال عليهم الكفَّار، (3) فقال رجل لصاحبه: أمَّا أنا فألحق بدهلك اليهوديّ، فآخذ منه أمانًا وأتهَوّد معه، (4) فإني أخاف أن تُدال علينا اليهود. وقال الآخر: أمَّا أنا فألحق بفلانٍ النصراني ببعض أرض   (1) الأثر: 12158- سيرة ابن هشام 3: 52، 53. (2) "العصم" جمع"عصمة": وهي الحبال والعهود، تعصمهم وتمنعهم من الضياع. (3) "أديل عليه" (بالبناء للمجهول) : أي كانت له الدولة والغلبة. (4) "دهلك اليهودي" لم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب. وأخشى أن يكون اسمه تحريف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 الشأم، فآخذ منه أمانًا وأتنصَّر معه، فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما:"يا آيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياءَ بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين". * * * وقال آخرون: بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر، في إعلامه بني قريظة إذ رَضُوا بحكم سعدٍ: أنه الذَّبح. ذكر من قال ذلك: 12160 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لُبابة بن عبد المنذر، من الأوس= وهو من بني عمرو بن عوف= فبعثه إلى قريظة حين نَقَضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول، (1) أشار إلى حلقه: الذَّبْحَ الذَّبْحَ. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، (2) وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود= ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة= ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر بنصرانيّ بالشأم= ولم   (1) في المخطوطة: "أطاعوا الله بالنزول"، والجيد ما في المطبوعة. (2) في المطبوعة، حذف قوله: "وغيرهم". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة خبرٌ تثبت بمثله حجة، فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك، وذلك قوله: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) الآية. وأما قوله:"بعضهم أولياء بعض"، فإنه عنى بذلك: أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم= وأن النصارى كذلك، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم= معرِّفًا بذلك عباده المؤمنين: أنّ من كان لهم أو لبعضهم وليًّا، فإنما هو وليهُّم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حَرْب. فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض، ولليهوديّ والنصراني حربًا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ، ومنهم البراءة، وأبان قطع وَلايتهم. (1) * * *   (1) انظر تفسير"ولي" و"أولياء" فيما سلف 9: 319، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم. يقول: فإن من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولً أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه، (1) ولذلك حَكَم مَنْ حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم، بأحكام نصَارَى بني إسرائيل، لموالاتهم إياهم، ورضاهم بملتهم، ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقًا. * * * وفي ذلك الدلالةُ الواضحة على صحة ما نقول، من أن كل من كان يدين بدينٍ فله حكم أهل ذلك الدين، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده. إلا أن يكون مسلمًا من أهل ديننا انتقل إلى ملّة غيرِها، فإنه لا يُقَرُّ على ما دان به فانتقل إليه، ولكن يقتل لردَّته عن الإسلام ومفارقته دين الحق، إلا أن يرجع قبل القَتْل إلى الدين الحق= (2) وفسادِ ما خالفه من قول من زعم: أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم، إلا أن يكون إسرائيليًّا أو منتقلا إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفُرْقان، ممن لم يكن منهم، ممن خالف نسبُه نسبهم وجنسه جنسهم، فإنه حكمه لحكمهم مخالفٌ. (3) * * *   (1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف 9: 319، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) قوله: "وفساد ما خالفه"، مجرور معطوف على قوله آنفا: "وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول". (3) انظر ما سلف 9: 573- 587 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 ذكر من قال بما قلنا من التأويل. 12161 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب، فقرأ:"ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم". (1) 12162 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، أنها في الذبائح. من دخل في دين قوم فهو منهم. 12163 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوّجوا من نسائهم، فإن الله بقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم. 12164 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال: كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسًا، وكان يتلو هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهَّم منكم فإنه منهم". (2) 12165 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن   (1) الأثر: 12161-"حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي"، ثقة. مضى برقم: 178، 886، 5347. (2) الأثر: 12164-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي"، مضى مرارًا، منها: 29، 174، 441، 4415، 7287، 7499، 11463، وكان في المطبوعة"حسن بن علي"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. و"زائدة"، هو: "زائدة بن قدامة الثقفي"، مضى برقم: 29، 4897، 7287. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 هارون بن إبراهيم قال: سئل ابن سيرين عن رجل يبيع دارَه من نصارَى يتخذونها بِيعَةً، قال: فتلا هذه الآية:"لا تتَّخِذوا اليهود والنصارى أولياء". * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لا يوفِّق من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى= مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين= على المؤمنين، وكان لهم ظهيًرا ونصيرًا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حَرْبٌ. وقد بينا معنى"الظلم" في غير هذا الموضع، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته. * * * القول في تأويل قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها عبد الله بن أبي ابن سلول. ذكر من قال ذلك: 12166 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، عبد الله بن أبي="يسارعون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 فيهم"، في ولايتهم="يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، إلى آخر الآية:"فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين". 12167 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، يعني عبد الله بن أبي="يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، لقوله: إني أخشى دائرةً تُصِيبني! (1) * * * وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المنافقين كانوا يُناصِحون اليهود ويغشون المؤمنين، ويقولون:"نخشى أن تكون الدائرة لليهود على المؤمنين"! (2) ذكر من قال ذلك: 12168 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم"، قال: المنافقون، في مصانعة يهود، ومناجاتهم، واسترضاعهم أولادَهم إياهم= وقول الله تعالى ذكره:"نخشى أن تصيبنا دائرة"، قال يقول: نخشى أن تكون الدَّائرة لليهود. 12169 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 12170 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فترى الذين في قلوبهم مرض" إلى قوله:"نادمين"، أُناسٌ من المنافقين كانوا يوادُّون اليهود ويناصحونهم دون المؤمنين. 12171 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،   (1) الأثر: 12167- سيرة ابن هشام 3: 53، مختصرًا وهو تابع الأثر السالف رقم: 12158. (2) في المطبوعة: "أن تكون دائرة"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 حدثنا أسباط، عن السدي:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، قال: شك ="يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، و"الدائرة"، ظهور المشركين عليهم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن ذلك من الله خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهودَ والنصارى ويغشُّون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر= إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان، أو غيرهم= على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلةٌ، فيكون بنا إليهم حاجة. وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين. * * * فتأويل الكلام إذًا: فترى، يا محمد، الذين في قلوبهم شكٌّ، (1) ومرضُ إيمانٍ بنبوّتك وتصديق ما جئتهم به من عند ربك (2) ="يسارعون فيهم"، يعني في اليهود والنصارى= ويعني بمسارعتهم فيهم: مسارعتهم في مُوالاتهم ومصانعتهم (3) ="يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، يقول هؤلاء المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى، خوفًا من دائرة تدور علينا من عدوّنا. (4) * * * ويعني بـ"الدائرة"، الدولة، كما قال الراجز: (5) تَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا ... وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا (6)   (1) في المطبوعة: "في قلوبهم مرض وشك إيمان"، غير ما في المخطوطة وهو الصواب المحض. لأنه يريد: أن المرض قد دخل إيمانهم وتصديقهم، بعد ذكر"الشك". (2) انظر تفسير"المرض" فيما سلف 1: 278- 281. (3) انظر تفسير"المسارعة" فيما سلف 7: 130، 207، 418/10: 301 وما بعدها. (4) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف ص: 1393، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) هو حميد الأرقط. (6) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 169، ولم أجد سائر الرجز. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 يعني: أن تدول للدهر دولة، فنحتاج إلى نصرتهم إيانا، فنحن نواليهم لذلك. فقال الله تعالى ذكره لهم:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين". * * * القول في تأويل قوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده"، فلعل الله أن يأتي بالفتح. (1) * * * ثم اختلفوا في تأويل"الفتح" في هذا الموضع. فقال بعضهم: عُنى به ههنا، القضاء. ذكر من قال ذلك: 12172 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فعسى الله أن يأتي بالفتح"، قال: بالقضاء. * * * وقال آخرون: عني به فتح مكة. ذكر من قال ذلك: 12173 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فعسى الله أن يأتي بالفتح"، قال: فتح مكة. * * * و"الفتح" في، كلام العرب، هو القضاء، كما قال قتادة، ومنه قول الله تعالى   (1) انظر تفسير"عسى" فيما سلف 4: 298/8: 579. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 ذكره: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) [سورة الأعراف: 89] . وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعدَ الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله:"فعسى الله أن يأتي بالفتح" فتح، مكة، لأن ذلك كان من عظيم قضاءِ الله، وفَصْل حُكمه بين أهل الإيمان والكفر، ومقرِّرًا عند أهل الكفر والنفاق، (1) أن الله معلي كلمته وموهن كيد الكافرين. (2) * * * وأما قوله:"أو أمر من عنده"، فإن السدي كان يقول في ذلك، ما:- 12174 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو أمر من عنده" قال:"الأمر"، الجزية. * * * وقد يحتمل أن يكون"الأمر" الذي وعد الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأتي به هو الجزية، ويحتمل أن يكون غيرها. (3) غير أنه أيّ ذلك كان، فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله، ومما يسوء المنافقين ولا يسرُّهم. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنّ ذلك الأمر إذا جاء، أصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين. * * * وأما قوله:"فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين"، فإنه يعني هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى. يقول تعالى ذكره: لعل الله أن يأتي بأمرٍ من عنده يُديل به المؤمنين على الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم من مخالّة اليهود والنصارى ومودّتهم، وبغْضَة المؤمنين ومُحَادّتهم،"نادمين"، كما:-   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ويقرر"، وكأن الصواب ما أثبت. (2) انظر تفسير"الفتح" فيما سلف 2: 254، 332/9: 323، 324. (3) في المخطوطة: "أن يكون إلى غيرها"، وكأنه خطأ من الناسخ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 12175 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين"، من موادّتهم اليهود، ومن غِشِّهم للإسلام وأهله. * * * القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ويقول الذين آمنوا". فقرأتها قرأة أهل المدينة: (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله) بغير"واو". * * * وتأويل الكلام على هذه القراءة: فيصبح المنافقون، إذا أتى الله بالفتح أو أمرٍ من عنده، على ما أسروا في أنفسهم نادمين، يقول المؤمنون تعجُّبًا منهم ومن نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله: أهؤلاء الذين أقسمُوا لنا بالله إنهم لمعنا، وهم كاذبون في أيمانهم لنا؟ وهذا المعنى قصَد مجاهد في تأويله ذلك، الذي:- 12176 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده"، حينئذ،"يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد إيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين". * * * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير"واو". (1) وقرأ ذلك بعض البصريين: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالواو، ونصب"يقول" عطفًا به على"فعسى الله أن يأتي بالفتح". وذكر قارئ ذلك أنه كان يقول: إنما أريد بذلك: فعسى الله أن يأتي بالفتح، وعسى أن يقولَ الذين آمنوا= ومحالٌ غير ذلك، لأنه لا يجوز أن يقال:"وعسى الله أن يقول الذين آمنوا"، وكان يقول: ذلك نحو قولهم:"أكلت خبزًا ولبنًا"، كقول الشاعر: وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2) * * * فتأويل الكلام على هذه القراءة: فعسى الله أن يأتي بالفتح المؤمنين، أو أمر من عنده يُديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم، فيصبح المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين= وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله كذبًا جهدَ أيمانهم إنهم لمعكم؟ * * * وهي في مصاحف أهل العراق بالواو: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) * * * وقرأ ذلك قرأة الكوفيين (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالواو، ورفع"يقول"، بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب. * * * وتأويل من قرأ ذلك كذلك: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم يندمون، ويقول الذين آمنوا= فيبتدئ"يقول" فيرفعها. * * * قال أبو جعفر: وقراءتنا التي نحن عليها"وَيَقُولُ" بإثبات"الواو" في   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 313. (2) مضى تخريجه في 1: 140، 265/6: 423. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 "ويقول"، لأنها كذلك هي في مصاحِفِنا مصاحف أهل المشرق، بالواو، وبرفع"يقول" على الابتداء. * * * فتأويل الكلام= إذْ كانت القراءة عندنا على ما وصفنا (1) =: فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين، ويقولُ المؤمنون: أهؤلاء الذين حَلَفوا لنا بالله جهد أيمانهم كَذِبًا إنهم لمعنا؟ * * * يقول لله تعالى ذكره، مخبرًا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم="حبطت أعمالهم"، يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلا لا ثواب لها ولا أجر، لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرضٌ واجب، ولا على صِحّة إيمان بالله ورسوله، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فأحبط الله أجرَها، إذ لم تكن له (2) ="فأصبحوا خاسرين"، يقول: فأصبح هؤلاء المنافقون، عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر، قد وُكِسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة، وخابت صفقتهم، وهَلَكوا. (3) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله:"يا أيها الذين آمنوا"، أي: صدّقوا لله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم محمد صلى الله عليه وسلم="من يرتد منكم عن دينه"، يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "إذ كان القراءة"، والجيد ما أثبت. (2) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 9: 592، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"خسر" فيما سلف ص: 224، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 هو عليه اليوم، فيبدِّله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، (1) فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، يقول: فسوف يجيء الله بدلا منهم، المؤمنين الذين لم يبدِّلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا، بقومٍ خير من الذين ارتدُّوا وابدَّلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله. (2) وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدُّ بعد وفاةِ نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعدُه من وعدَ من المؤمنين ما وعدَه في هذه الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه، ولا يرتدّ. فلما قَبَض الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ارتدّ أقوام من أهل الوبَرِ، وبعضُ أهل المَدَر، فأبدل الله المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتدَّ منهم وعيدَه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12177 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة! قال محمدٌ: وما هي، أيها الأمير؟ قال: قول الله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" حتى بلغ"ولا يخافون لومة لائم". فقال محمد: أيها الأمير، إنما عنى الله بالذين آمنوا، الولاةَ من قريش، من يرتدَّ عن الحق. (3)   (1) انظر تفسير"ارتد" فيما سلف ص: 170، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) سياق هذه العبارة: "فسوف يجي الله ... المؤمنين ... بقوم ... ". (3) الأثر: 12177-"عبد الله بن عياش بن عباس القتباني"، ليس بالمتين، وهو ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو صخر" هو"حميد بن زياد الخراط"، مضى مرارًا، منها برقم: 4280، 4325، 5386، 8391، 11867، 11891. ثم انظر الأثر التالي برقم: 12199. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين، وأبدل المؤمنين مكانَ من ارتدَّ منهم. فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه. ذكر من قال ذلك: 12178 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا حفص بن غياث، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه. (1) 12179 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، مثله. 12180 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن سهل، عن الحسن في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: أبو بكر وأصحابه. 12181 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن أبي موسى قال: قرأ الحسن:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هي والله لأبي بكر وأصحابه. (2) 12182 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هشام،   (1) الأثر: 12178-"الفضل بن دلهم الواسطي القصاب". مختلف في أمره. مضى برقم: 4928. (2) الأثر: 12181-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي"، مضى قريبًا: 12164. و"أبو موسى"، هو: "إسرائيل بن موسى البصري"، نزيل الهند. روى عن الحسن البصري. ثقة لا بأس به. مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 عن الحسن في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: نزلت في أبي بكر وأصحابه. (1) 12183 - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم"، قال: هو أبو بكر وأصحابه. لما ارتد من ارتدَّ من العرب عن الإسلام، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردَّهم إلى الإسلام. 12184 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، إلى قوله:"والله واسع عليم"، أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتدُّ مرتدُّون من الناس، فلما قبض الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ارتدّ عامة العرب عن الإسلام= إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس= قالوا: نصلي ولا نزكِّي، والله لا تُغصب أموالنا! (2) فكُلِّم أبو بكر في ذلك فقيل له: إنهم لو قد فُقِّهوا لهذا أعطوها= أو: أدَّوها= (3) فقال: لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عِقالا مما فرضَ الله ورسوله لقاتلناهم عليه! (4)   (1) الأثر: 12182-"نصر بن عبد الرحمن الأزدي"، هكذا جاء هنا أيضًا في المخطوطة والمطبوعة: "الأودي"، وقد سلف أن تكلم عليه أخي السيد أحمد، وصححه"الأزدي" كما أثبته هنا، ولكني في شك من تصحيح ذلك كذلك، لكثرة إثباته في التفسير في كل مكان"الأودي" انظر ما سلف: 423، 875، 2859، 8783. و"أحمد بن بشير القرشي المخزومي"، أبو بكر الكوفي. مضى برقم: 7819. و"هشام" هو: "هشام بن عروة بن الزبير بن العوام"، مضى برقم: 2889، 8461. (2) القائلون: "نصلي ولا نزكي"، هم الذين ارتدور من عامة العرب. (3) في المطبوعة: "أعطوها أو زادوها"، وهو تخليط فاحش، وصوابه من المخطوطة وقوله: "أو: أدوها"، كأنه قال: روى بدل"أعطوها"، "أدوها". و"الهاء" فيهما راجعة إلى"الزكاة" التي منعوها. (4) "العقال" (بكسر العين) : زكاة عام من الإبل والغنم. يقال: "أخذ منهم عقال هذا العام"، أي زكاته وصدقته. وقد فسره آخرون بأنه الحبل الذي كان تعقل به الفريضة التي كانت تؤخذ في الصدقة. وذلك أنه كان على صاحب الإبل أن يؤدي مع كل فريضة عقالا تعقل به، و"رواء" أي: حبلا. ويروي الخبر"لو منعوني عناقًا". و"العناق": الأنثى من أولاد المعز، إذا أتت عليها سنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، حتى سبَى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون =وهي الزكاة= صَغرة أقمياء. (1) فأتته وفود العرب، فخيَّرهم بين خُطَّة مخزية أو حرب مُجْلية. فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقرُّوا: أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، (2) وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال. 12185 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال ابن جريج: ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر. 12186 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هشام   (1) "صغرة" جمع"صاغر": وهو الراضي بالذل والضيم. و"أقمياء"جمع"قمئ": وهو الذليل الضارع المتضائل. والذي في كتب اللغة من جمع"قمئ""قماء" (بكسر القاف) و"قماء" (بضمها) . وقد مر في الأثر رقم: 4221"قمأة" في المخطوطة، وانظر التعليق عليه هناك. و"أقمياء" جمع عزيز هنا، فإن"فعيلا" الصفة، يجمع قياسا على"أفعلاء"، إذا كان مضاعفًا، مثل"شديد" و"أشداء"، وكذلك إذا كان ناقصا واويًا أو يائيًا، نحو"غني" و"أغنياء"، و"شقي" و"أشقياء". أما الصحيح، فقليل جمعه على"أفعلاء"، مثل"صديق" و"أصدقاء". فإذا صحت رواية"أقمياء" في هذا الخبر، فهو صحيح في العربية إن شاء الله، لهذه العلة ولغيرها أيضا. (2) في المطبوعة: "أن يستعدوا أن قتلاهم في النار"، وفي المخطوطة مثلها غير منقوطة، ولم أجد لها تحريفًا أقرب مما أثبت، استظهرته من الخبر الذي رواه الشعبي، عن ابن مسعود وهو: قوله: "فوالله ما رضى لهم إلا بالخطة المخزية، أو الحرب المجلية. فأما الخطة المخزية فأن أقروا بأن من قتل منهم في النار، وأن ما أخذوا من أموالنا مردود علينا. وأما الحرب المجلية، فأن يخرجوا من ديارهم" (فتوح البلدان للبلاذري: 101) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه"، قال: عَلِم الله المؤمنين، ووقع معنى السوء على الحَشْو الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدُّوا، (1) قال:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله"، المرتدَّة في دورهم (2) ="بقوم يحبهم ويحبونه"، بأبي بكر وأصحابه. (3) * * * وقال آخرون: يعني بذلك قومًا من أهل اليمن. وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري، عبد الله بن قيس. (4) ذكر من قال ذلك: 12188 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية،"يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"،   (1) في المطبوعة: "وأوقع معنى السوء"، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك من العبارة كلها، وإن كان لها وجه ومعنى. (2) في المطبوعة: "المرتدة عن دينهم"، وفي المخطوطة: "في دينهم"، والصواب ما أثبته من الأثر التالي رقم: 12201. (3) الأثر: 12186- في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت من المخطوطة. وقد مضى مثل هذا الأثر برقم: 12128 وفيه"عبد الله بن هشام". وقد ذكرت هنالك أني لم أعرفه. وسقط من الترقيم؛ رقم: 12187 سهوًا. (4) عن هذا الموضع، انتهى جزء من تقسيم قديم، وفي المخطوطة ما نصه: "يتلوه: ذكر من قال ذلك. وصلى الله على محمد". ثم يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّرْ برحمتك". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه، فقال: هم قومُ هذا! 12189 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عياضًا يحدّث عن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: يعني قوم أبي موسى. 12190 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن شعبة = قال أبو السائب: قال أصحابنا: هو:"عن سماك بن حرب"، وأنا لا أحفظ"سماكًا" = عن عياض الأشعريّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قوم هذا يعني أبا موسى. 12191 - حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن سماك، عن عياض الأشعري، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: هم قوم هذا= في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه". 12192 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا شعبة، عن سماك بن حرب قال: سمعت عياضًا الأشعري يقول: لما نزلت:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قومك يا أبا موسى! = أو قال: هم قوم هذا= يعني أبا موسى. (1)   (1) الآثار: 12188- 12192-"عياض الأشعري"، هو"عياض بن عمرو الأشعري"، تابعي، مختلف في صحبته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. رأى أبا عبيدة بن الجراح، وعمر بن الخطاب، وأبا موسى الأشعري، وغيرهم. قال ابن سعد 6: 104: "كان قليل الحديث". روى عنه الشعبي، وسماك بن حرب. مترجم في التهذيب، وأسد الغابة، والإصابة، والاستيعاب: 498، والكبير للبخاري 4/ 1/ 19. وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 4/ 1/ 79، من طريق عبد الله بن إدريس، وعفان بن مسلم، عن شعبة، عن سماك، عن عياض. والحاكم في المستدرك 2: 313، من طريق وهب بن جرير، وسعيد بن عامر، عن شعبة، عن سماك، عن عياض، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 16، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 292، وزاد نسبته لابن أبي شيبة في مسنده، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 179، 180، عن ابن أبي حاتم، عن عمر بن شبة، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 12193 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سفيان الحميري، عن حصين، عن عياض= أو: ابن عياض="فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هم أهل اليمن. (1) 12194 - حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا عبد الرحمن بن جبير، عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" إلى آخر الآية، قال عمر: أنا وقومي هم، يا رسول الله؟ قال:"لا بل هذا وقومه! يعني أبا موسى الأشعري. (2) * * *   (1) الأثر: 12193-"وأبو سفيان الحميري"، هو"سعيد بن يحيى بن مهدي الحميري" الحذاء، الواسطي. صدوق، وقال الدارقطني: "متوسط الحال ليس بالقوي". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/ 1/ 477، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 74. و"حصين" هو"حصين بن عبد الرحمن السلمي"، ثقة، من كبار الأئمة. مضى برقم: 579، 2986. و"عياض" هو الأشعري كما سلف في الآثار السابقة. وأما "ابن عياض"، فلم أجد من ذكر ذلك، وكأنه شك من أبي سفيان الحميري، أو سفيان بن وكيع. وانظر تخريج الآثار السالفة. (2) الأثر: 12194-"محمد بن عوف بن سفيان الطائي"، شيخ الطبري، ثقة حافظ، مضى برقم: 5445. و"أبو المغيرة" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، "أبو المغيرة الحمصي" ثقة، صدوق. مضى برقم: 10371. و"صفوان"، هو: "صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي"، سمع عبد الرحمن بن جبير، مضى برقم: 7009. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/ 2/ 309، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 422، وفي ترجمته في التهذيب خطأ بين، ذكر أنه مات سنة (100) والصواب سنة (155) ، كما في التاريخ الكبير وغيره. و"عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي"، تابعي ثقة. مضى برقم: 186، 187. و"شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي" تابعي ثقة، مضى برقم: 5445. و"صفون بن عمرو" يروي عن شريح مباشرة، ولكنه روى هنا عنه بواسطة"عبد الرحمن بن جبير". وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدّرّ المنثور 2: 292، ولم ينسبه لغير ابن جرير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 وقال آخرون منهم: بل هم أهل اليمن جميعًا. ذكر من قال ذلك: 12195 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يحبهم ويحبونه"، قال: أناسٌ من أهل اليمن. 12196 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 12197 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: هم قوم سَبَأ. 12198 - حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو داود قال، أخبرنا شعبة قال، أخبرني من سمع شهر بن حوشب قال: هم أهل اليمن. (1) 12199 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وهو أمير المدينة، يسأله عن ذلك: فقال محمد:"يأتي الله بقوم"، وهم أهل اليمن! قال عمر: يا ليتني منهم! قال: آمين! (2) * * * وقال آخرون: هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 12200 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) الأثر: 12198-"مطر بن محمد الضبي"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا. وفيمن اسمه"مطر": "مطر بن محمد بن نصر التميمي الهروي"، مترجم في تاريخ بغداد 3: 275. و"مطر بن محمد بن الضحاك السكري"، يروي عن يزيد بن هرون. مترجم في لسان الميزان 6: 49. ولا أظنه أحدهما، وأخشى أن يكون دخل اسمه بعض التحريف. (2) الأثر: 12199- انظر الأثر السالف رقم: 12177، والتعليق عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، يزعم أنهم الأنصار. * * * وتأويل الآية على قول من قال: عنى الله بقوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الرِّدَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم=: يا أيها الذين آمنوا، من يرتدَّ منكم عن دينه فلن يضر الله شيئًا، وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه، ينتقم بهم منهم على أيديهم. وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك: 12201 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هشام قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم"، قال يقول: فسوف يأتي الله المرتدَّةَ في دورهم (1) ="بقوم يحبهم ويحبونه"، بأبي بكر وأصحابه. (2) * * * وأما على قول من قال: عنى الله بذلك أهل اليمن، فإن تأويله: يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدوا، بقوم يحبهم ويحبونه، أعوانًا لهم وأنصارًا. وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأول ذلك كذلك. 12202 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يا أيها الذين   (1) قوله: في دورهم"، هو الصواب، وقد كان في المخطوطة والمطبوعة، في الأثر السالف رقم: 12186"في دينهم" و"عن دينهم"، والصواب هو الذي هنا. انظر التعليق السالف ص: 414 تعليق: 2. (2) الأثر: 10201- هو بعض الأثر السالف رقم: 12186، وكان في هذا الموضع أيضًا"سيف بن عمرو"، وهو خطأ، كما بينته هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 آمنوا من يرتد منكم عن دينه" الآية، وعيدٌ من الله أنه من ارتدّ منكم، أنه سيستبدل خيًرا منهم. * * * وأما على قول من قال: عنى بذلك الأنصار، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوَّله أنه عُنِي به أبو بكر وأصحابه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما رُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أهل اليمن، قوم أبي موسى الأشعري. ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه، ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال:"هم أبو بكر وأصحابه". وذلك أنه لم يقاتل قومًا كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا على أعقابهم كفارًا، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنْ كان صلى الله عليه وسلم مَعْدِن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآيِ كتابه. (1) * * * فإن قال لنا قائل: فإن كان القومُ الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم= عند ارتداد من ارتد عن دينه، ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم = هم أهل اليمن، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر رضي الله عنه أهل الردة أعوانَ أبي بكر على قتالهم، فتستجيز أن توجِّه تأويل الآية إلى ما وجِّهت إليه؟ (2)   (1) "المعدن" (بفتح الميم، وسكون العين، وكسر الدال) : مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه. ومنه قيل: "معدن الذهب والفضة"، وهو الذي نسميه اليوم"المنجم"، حيث أنبت الله سبحانه وتعالى جوهرهما، وأثبتهما فيه. ومنه في المجاز، ما جاء في الخبر: "فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم" يعني: أصولها التي ينسبون إليها، ويتفاخرون بها. (2) في المطبوعة: "حتى تستجيز"، وفي المخطوطة: "تستجير" بغير"حتى"، فآثرت قراءتها كما أثبتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 أم لم يكونوا أعوانًا له عليهم، فكيف استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك، وقد علمت أنه لا خُلْفَ لوعد الله؟ قيل له: إن الله تعالى ذكره لم يعدِ المؤمنين أن يبدِّلهم بالمرتدِّين منهم يومئذ، خيرًا من المرتدين لقتال المرتدين، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخيرٍ منهم بدلا منهم، فقد فعل ذلك بهم قريبًا غير بعيد، (1) فجاء بهم على عهد عمر، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفعَ لهم ممن كان ارتدَّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طَغَام الأعراب وجُفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كلا لا نفعًا؟ (2) * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه". فقرأته قرأة أهل المدينة: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه) ، بإظهار التضعيف، بدالين، مجزومة"الدال" الآخرة. وكذلك ذلك في مصاحفهم. وأما قرأة أهل العراق، فإنهم قرأوا ذلك: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) بالإدغام، بدالٍ واحدة، وتحريكها إلى الفتح، بناء على التثنية، لأن المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد، إذا ثنيّ أدغم. ويقال للواحد:"اردُدْ يا فلان إلى فلان حقه"، فإذا ثنى قيل:"ردّا إليه حقه"، ولا يقال:"ارددا"، وكذلك في الجمع:"ردّوا"، ولا يقال:"ارددوا"، فتبني العرب أحيانًا الواحد على الاثنين، وتظهر   (1) في المطبوعة: "يعد فعل ذلك"، وهو لا معنى له، والصواب ما في المخطوطة. (2) "الطغام" (بفتح الطاء) : أوغاد الناس وأراذلهم. و"الكل" (بفتح الكاف) : العيال والثقل على صاحبه أو من يتولى أمره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 أحيانًا في الواحد التضعيفَ لسكون لام الفعل. وكلتا اللغتين فصيحةٌ مشهورة في العرب. (1) * * * قال أبو جعفر: والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق، بدال واحدة مشدّدة، بترك إظهار التضعيف، وبفتح"الدال"، للعلة التي وصفت. * * * القول في تأويل قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أذلة على المؤمنين"، أرقَّاء عليهم، رحماءَ بهم. * * * = من قول القائل:"ذلَّ فلان لفلان". إذا خضع له واستكان. (2) * * * ويعني بقوله:"أعزة على الكافرين"، أشداء عليهم، غُلَظاء بهم. * * * = من قول القائل:"قد عزّني فلان"، إذا أظهر العزة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغِلْظة. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12203 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "في العرف"، وآثرت قراءتها كما أثبتها، وهو الصواب. (2) وانظر تفسير"الذل" فيما سلف 2: 212/7: 171. (3) انظر تفسير"العزة" فيما سلف 9: 319، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"أذلة على المؤمنين"، أهل رقة على أهل دينهم="أعزة على الكافرين"، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. (1) 12204 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، يعني بالأذلة: الرحماء. (2) 12205 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"أذلة على المؤمنين"، قال: رحماء بينهم="أعزة على الكافرين"، قال: أشداء عليهم. 12206 - حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، قال سفيان: سمعت الأعمش يقول في قوله:"أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، ضعفاء عن المؤمنين. (3) * * * القول في تأويل قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يجاهدون في سبيل الله"، هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتدّ منهم مرتدّ، بدلا منهم،   (1) الأثر: 12203- انظر أسانيد الآثار السالفة رقم: 12186، 12201، والتعليق عليها. وفي المخطوطة والمطبوعة: "سفيان بن عمر" مكان"سيف بن عمر"، وهو خطأ فاحش. (2) في المخطوطة: "يعني بالأذلة: الرحمة"، وفي المطبوعة: "يعني بالذلة الرحمة"، وآثرت ما كتبت، وهو تصحيف قريب. (3) في المطبوعة: "ضعفاء على المؤمنين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب جيد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 يجاهدون في قتال أعداء الله على النحو الذي أمر الله بقتالهم، والوجه الذي أذن لهم به، ويجاهدون عدوَّهم. فذلك مجاهدتهم في سبيل الله (1) =" ولا يخافون لومة لائم"، يقول: ولا يخافون في ذات الله أحدًا، ولا يصدُّهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم، لومةُ لائم لهم في ذلك. * * * وأما قوله:"ذلك فضل الله"، فإنه يعني هذا النعتَ الذي نعتهم به تعالى ذكره= من أنهم أذلة على المؤمني، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم = فضلُ الله الذي تفضل به عليهم، (2) والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه مِنّةً عليه وتطوّلا (3) ="والله واسع"، يقول: والله جواد بفضله على من جادَ به عليه، (4) لا يخاف نَفاد خزائنه فتَتْلف في عطائه (5) ="عليم"، بموضع جوده وعطائه، فلا يبذله إلا لمن استحقه، ولا يبذل لمن استحقه إلا على قدر المصلحة، لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضرّه. (6) * * *   (1) انظر تفسير"يجاهد" فيما سلف 4: 318/10: 292 = وتفسير"سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (2) سياق الجملة: "هذا النعت الذي نعتهم به ... فضل الله ... ". (3) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة (فضل) . (4) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 9: 294، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) في المطبوعة: "فكيف من عطائه"، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يحسن قراءته إذ كان غير منقوط. وهذا صواب قراءته. (6) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا"، ليس لكم، أيها المؤمنون، ناصر إلا الله ورسوله، والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. (1) فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرأوا من وَلايتهم، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء لا نُصرَاء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليًّا ولا نصيرًا. * * * وقيل إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت، في تبرُّئه من ولاية يهود بني قينقاع وحِلفهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ذكر من قال ذلك: 12207 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم= وكان أحد بني عوف بن الخزرج= فخلعهم إلى رسول الله، (2) وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حِلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حِلف الكفار ووَلايتهم! ففيه نزلت:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"= لقول عبادةَ:"أتولى الله ورسوله والذين آمنوا"، وتبرئه من بني قينقاع ووَلايتهم= إلى   (1) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص: 399، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المخطوطة: "فجعلهم إلى رسول الله"، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا لما سلف، ولما في سيرة ابن هشام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 قوله:"فإن حزب الله هم الغالبون". (1) 12208 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر نحوه. 12209 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا"، يعني: أنه من أسلم تولى الله ورسوله. * * * وأما قوله:"والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ به. فقال بعضهم: عُنِي به علي بن أبي طالب. * * * وقال بعضهم: عني به جميع المؤمنين. ذكر من قال ذلك: 12210 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم أخبرهم بمن يتولاهم فقال:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، هؤلاء جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مرَّ به سائل وهو راكع في المسجد، فأعطاه خاتَمَه. 12211 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الآية:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا   (1) الأثر: 12207- سيرة ابن هشام 3: 52، 53، وهو مطول الأثر السالف رقم: 12158، وتابع الأثر رقم: 12167. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حدثني والدي إسحق بن يسار، عن عبادة بن الصامت"، أسقط ما أثبت من السيرة، ومن إسناد الأثرين المذكورين آنفًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، قلت: (1) من الذين آمنوا؟ قال: الذين آمنوا! (2) قلنا: بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب! قال: عليٌّ من الذين آمنوا. 12212 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر عن قول الله:"إنما وليكم الله ورسوله"، وذكر نحو حديث هنّاد، عن عبدة. 12213 - حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي قال، حدثنا أيوب بن سويد قال، حدثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا"، قال: علي بن أبي طالب. (3) 12214 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله:"إنما وليكم الله ورسوله"، الآية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدَّق وهو راكع. (4) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "قلنا"، والصواب الجيد ما أثبت. (2) هذا ليس تكرارًا، بل هو تعجب من سؤاله عن شيء لا عن مثله. (3) الأثر: 12213-"إسمعيل بن إسرائيل الرملي"، مضى برقم: 10236. و"أيوب بن سويد الرملي"، مضى برقم: 5494. و"عتبة بن أبي حكيم الهمداني، ثم الشعباني"، أبو العباس الأردني. ضعفه ابن معين، وكان أحمد يوهنه قليلا، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. (4) الأثر: 12214-"غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري"، منكر الحديث متروك. مترجم في لسان الميزان، والكبير للبخاري 4/1/101، وابن أبي حاتم 3/2/48. هذا، وأرجح أن أبا جعفر الطبري قد أغفل الكلام في قوله تعالى: "وهم راكعون"، وفي بيان معناها في هذا الموضع، مع الشبهة الواردة فيه، لأنه كان يحب أن يعود إليه فيزيد فيه بيانًا، ولكنه غفل عنه بعد. وقد قال ابن كثير في تفسيره 3: 182: "وأما قوله: "وهم راكعون"، فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله: "ويؤتون الزكاة"، أي: في حال ركوعهم. ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره، لأنه ممدوح. وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء، ممن نعلمه من أئمة الفتوى. وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه ... " ثم، ساق الآثار السالفة وما في معناها من طرق مختلفة. وهذه الآثار جميعًا لا تقوم بها حجة في الدين. وقد تكلم الأئمة في موقع هذه الجملة، وفي معناها. والصواب من القول في ذلك أن قوله: "وهم راكعون"، يعني به: وهم خاضعون لربهم، متذللون له بالطاعة، خاضعون له بالأنقياد لأمره في إقامة الصلاة بحدودها وفروضها من تمام الركوع والسجود، والصلاة والخشوع، ومطيعين لما أمرهم به من إيتاء الزكاة وصرفها في وجوهها التي أمرهم بصرفها فيها. فهي بمعنى"الركوع" الذي هو في أصل اللغة، بمعنى الخضوع = انظر تفسير"ركع" فيما سلف 1: 574. وإذن فليس قوله: "وهم راكعون" حالا من"ويؤتون الزكاة". وهذا هو الصواب المحض إن شاء الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) } قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله تعالى ذكره عبادَه جميعًا= الذين تبرأوا من حلف اليهود وخلعوهم رضًى بولاية الله ورسوله والمؤمنين، (1) والذين تمسكوا بحلفهم وخافوا دوائر السوء تدور عليهم، فسارعوا إلى موالاتهم= أنّ مَن وثق بالله وتولى الله ورسوله والمؤمنين، (2) ومن كان على مثل حاله من أولياء الله من المؤمنين، لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادّهم، لأنهم حزب الله، وحزبُ الله هم الغالبون، دون حزب الشيطان، كما:- 12215 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم= يعني الرب تعالى ذكره= مَنِ الغالب، فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة، فقال:"ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون"، و"الحزب"، هم الأنصار. * * *   (1) في المطبوعة: "الذين تبرأوا من اليهود وحلفهم رضى بولاية الله ... "، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته، والذي أثبت هو صواب القراءة. (2) في المطبوعة: "بأن من وثق بالله ... "، وفي المخطوطة مكان ذلك كله: "ووثقوا بالله". والذي أثبت هو صواب المعنى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 ويعني بقوله:"فإن حزب الله"، فإن أنصار الله، (1) ومنه قول الراجز: (2) وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي! (3) يعني بقوله:"أضوى"، أستضْعَفُ وأضام= من الشيء"الضاوي". (4) ويعني بقوله:"وبلال حزبي"، يعني: ناصري. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الذين آمنوا"، أي: صدقوا الله ورسوله="لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هُزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني اليهود والنصارى الذين   (1) انظر تفسير"الحزب" فيما سلف 1: 244. وهذا التفسير الذي هنا لا تجده في كتب اللغة. (2) هو رؤبة بن العجاج. (3) ديوانه: 16، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 169، من أرجوزة يمدح بها بلال ابن أبي بردة، ذكر في أولها نفسه، ثم قال يذكر من يعترضه ويعبي له الهجاء والذم: ذَاكِ، وإن عَبَّى لِيَ المُعَبِّي ... وَطِحْطَحَ الجِدُّ لِحَاءَ القَشْبِ أَلَقَيتُ أَقْوَالَ الرِّجَالِ الكُذْبِ ... فَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي! ورواية الديوان: "ولست أضوي". وفي المخطوطة: "وكيف أضرى"، وهو تصحيف"طحطح الشيء": فرقه وبدده وعصف به فأهلكه. و"اللحاء": المخاصمة. و"القشب"، (بفتح فسكون) : الكلام المفترى: ولو قرئت"القشب" (بكسر فسكون) ، فهو الرجل الذي لا خير فيه. (4) "الضاوي": الضعيف من الهزال وغيره."ضوى يضوي ضوى": ضعف ورق. وكان في المخطوطة: "أضرى" و"الضاري"، وهو خطأ وتصحيف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بَعْث نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن قبل نزول كتابنا="أولياء"، يقول: لا تتخذوهم، أيها المؤمنون، أنصارًا أو إخوانًا أو حُلفاء، (1) فإنهم لا يألونكم خَبَالا وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة. * * * وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا بالدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره، (2) أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدة بإظهار ذلك بلسانه قولا بعد أن كان يُبدي بلسانه الإيمان قولا وهو للكفر مستبطن تلعبًا بالدين واستهزاءً به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة البقرة: 14، 15] . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عباس. 12216 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فأنزل الله فيهما:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم   (1) في المطبوعة: "أنصار وإخوانا وحلفاء"، وفي المخطوطة: "أنصارًا أو إخوانًا وحلفاء"، وأجريتها جميعا بأو، كما ترى. (2) في المطبوعة: "ولعبًا الدين على ما وصفهم"، وهو غير مستقيم، وفي المخطوطة: "ولعبا الذين على ما وصفهم"، وهو أشد التواء، والصواب ما أثبت، كما سيأتي بعد"تلعبًا بالدين واستهزاء به". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء" إلى قوله:"والله أعلم بما كانوا يكتمون". (1) * * * = فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا، من أنّ اتخاذ من اتخذ دين الله هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية، إنما كان بالنفاق منهم، وإظهارهم للمؤمنين الإيمان، واستبطانهم الكفر، وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلوا بهم:"إنا معكم"، فنهى الله عن موادَّتهم ومُخَالّتهم، (2) والتمسك بحلفهم، والاعتداد بهم أولياء= وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالا وفي دينهم طعنًا، وعليه إزراء. * * * وأمّا"الكفار" الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله:"من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء"، فإنهم المشركون من عبدة الأوثان. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر، أولياءَ دون المؤمنين. * * * وكان ابن مسعود فيما:- 12217 - حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن ابن مسعود= يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) . * * * = ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأوَّلناه في ذلك. * * *   (1) الأثر: 12216- سيرة ابن هشام 2: 217، 218. (2) في المطبوعة: "ومحالفتهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة إذ كانت غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة: (وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ) بخفض"الكفار"، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفارِ، أولياءَ. * * * وكذلك ذلك في قراءة أبيّ بن كعب فيما بلغنا: (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء) . * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) بالنصب، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا والكفارَ= عطفًا بـ"الكفار" على"الذين اتخذوا". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متفقتا المعنى، صحيحتا المخرج، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة، فبأي ذلك قرأ القارئ فقد أصاب. لأن النهيَ عن اتخاذ ولي من الكفار، نهيٌ عن اتخاذ جميعهم أولياء. والنهي عن اتخاذ جميعهم أولياء، نهيٌ عن اتخاذ بعضهم وليًّا. وذلك أنه غير مشكل على أحدٍ من أهل الإسلام أنّ الله تعالى ذكره إذا حرّم اتخاذ وليّ من المشركين على المؤمنين، أنه لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء= ولا إذا حرَّم اتخاذ جميعهم أولياء، أنه لم يخصص إباحة اتخاذ بعضهم وليًّا، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم، طلبُ الدليل على أولى القراءتين في ذلك بالصواب. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارئ بالخفض أو بالنصب، لما ذكرنا من العلة. * * * وأما قوله:"واتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإنه يعني: وخافوا الله، أيها المؤمنون، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار، أن تتخذوهم أولياء ونصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدُّمه إليكم بالنهي عنه، إن كنتم تؤمنون بالله وتصدِّقونه على وعيده على معصيته. (1) * * *   (1) انظر تفسير"كفار" و"أولياء" و"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة، (كفر) و (ولى) و (وقى) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 القول في تأويل قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أذن مؤذنكم، أيها المؤمنون بالصلاة، سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك="ذلك بأنهم قوم لا يعقلون"، يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، فعلهم الذي يفعلونه، وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى الصلاة، إنما يفعلونه بجهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصلاة، وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها، ولو عَقَلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب، ما فعلوه. * * * وقد ذكر عن السدي في تأويله ما:- 12218 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا"، كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي:"أشهد أن محمدًا رسول الله"، قال:"حُرِّق الكاذب"! فدخلت خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. * * * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا أو تجدون علينا في شيء إذ تستهزئون بديننا، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوًا ولعبًا (1) ="إلا أن آمنا بالله"، يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا="وأن أكثركم فاسقون"، يقول: وإلا أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته، تكذبون عليه. (2) * * * والعرب تقول:"نقَمتُ عليك كذا أنقِم"= وبه قرأه القرأة من أهل الحجاز والعراق وغيرهم= و"نقِمت أنقِم"، لغتان (3) = ولا نعلم قارئًا قرأ بهما (4) بمعنى وجدت وكرهت، (5) ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات: (6) مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا (7) * * *   (1) في المطبوعة: "أو تجدون علينا حتى تستهزئوا بديننا إذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة"، لم يحسن قراءة المخطوطة، فحذف وغير وبدل، وأساء غاية الإساءة. (2) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ص: 393 تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) اللغة الأولى"نقم" (بفتحتين) "ينقم" (بكسر القاف) = واللغة الثانية"نقم" (بفتح فكسر) "ينقم" (بكسر القاف أيضا) . (4) في المطبوعة: "قرأ بها" بالإفراد، والصواب ما في المخطوطة، ويعني"نقمت"، أنقم. من اللغة الثانية. (5) "وجدت" من قولهم: "وجد عليه يجد وجدًا وموجدة": غضب. (6) مختلف في اسمه يقال: "عبد الله" ويقال: "عبيد الله" بالتصغير، وهو الأكثر. (7) ديوانه: 70، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 170، واللسان (نقم) ، من قصيدته التي قالها لعبد الملك بن مروان، في خبر طويل ذكره أبو الفرج في الأغاني 5: 76- 80، وبعد البيت: وأنَّهُمْ مَعْدِنَ المُلُوكِ، فَلا ... تَصْلُحُ إلا عَلَيْهِمُ العَرَبُ إِن الفَنِيق الَّذِي أَبُوهُ أَبُو ... العَاصِي، عَلَيْهِ الوَقَارُ والحُجُبُ خَلِيفَةُ اللهِ فَوْقَ مِنْبَرِه ... جَفَّتْ بِذَاكَ الأقْلامُ والكُتُبُ يَعْتَدِلُ التَّاجُ فَوْقَ مَفْرِقِهِ ... عَلَى جَبِينٍ كأَنّهُ الذَّهَبُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 وقد ذكر أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من اليهود. ذكر من قال ذلك: 12219 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، (1) وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. (2) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به! (3) فأنزل الله فيهم:"قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون". (4) * * *   (1) في المخطوطة: "عازي"، وصوابه من المراجع الآتي ذكرها. (2) هذا تضمين آية سورة البقرة: 136. (3) في المخطوطة: "لا نؤمن آمن به"، أسقط"بمن". (4) الأثر: 12219- سيرة ابن هشام 2: 216، ومضى بالإسنادين رقم 2101، 2102 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 = عطفًا بها على"أن" التي في قوله:"إلا أن آمنا بالله"، (1) لأن معنى الكلام: هل تنقمون منا إلا إيمانَنا بالله وفسقكم. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار="هل أنبئكم"، يا معشر أهل الكتاب، بشر من ثواب ما تنقِمون منا من إيماننا بالله وما أنزل إلينا من كتاب الله، وما أنزل من قبلنا من كتبه؟ (2) * * * [و"مثوبة"، تقديرها مفعولة"] ، غير أن عين الفعل لما سقطت نقلت حركتها إلى"الفاء"، (3) وهي"الثاء" من"مثوبة"، فخرجت مخرج"مَقُولة"، و"مَحُورة"، و"مَضُوفة"، (4) كما قال الشاعر: (5)   (1) يعني قوله: "وأن أكثركم فاسقون"، فتح الألف من"وأن"، عطفًا بها على"أن" التي في قوله: "إلا أن آمنا بالله". (2) انظر تفسير"مثوبة" فيما سلف 2: 458، 459. (3) كان في المطبوعة: "غير أن العين لما سكنت نقلت حركتها إلى الفاء ... "، سقط صدر الكلام، فغير ما كان في المخطوطة، فأثبت ما أثبته بين القوسين، استظهارًا من إشتقاق الكلمة. والذي كان في المخطوطة: "غير أن الفعل لما سقط نقلت حركتها إلى الفاء"، سقط أيضًا صدر الكلام الذي أثبته بين القوسين، وسقط أيضًا"عين" من قوله: "عين الفعل". وأخشى أن يكون سقط من الكلام غير هذا. انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 170، وذلك قراءة من قرأ"مثوبة" (بفتح فسكون ففتح) . (4) في المطبوعة: "محوزة" بالحاء والزاي وفي المخطوطة: "محوره ومصرفه" غير منقوطة. والصواب ما أثبت. ويأتي في بعض الكتب كالقرطبي 6: 243"مجوزة" بالجيم والزاي، وكل ذلك خطأ، صوابه ما أثبت. و"المحورة" من"المحاورة"، مثل" المشورة" و"المشاورة" يقال: "ما جاءتني عنه محورة"، أي: ما رجع إليّ عنه خبر. وحكى ثعلب: "اقض محورتك"، أي الأمر الذي أنت فيه. ويقال فيها أيضًا: "محورة" (بفتح الميم وسكون الحاء) ومنه قول الشاعر: لِحَاجَةِ ذي بَثٍّ ومَحْوَرةٍ لَهُ، ... كَفَى رَجْعُهَا مِنْ قِصَّةِ المُتَكَلِّمِ (5) هو أبو جندب الهذلي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 وَكنْتُ إذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفةٍ ... أُشَمِّر حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقُ مِئْزَرِي (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12220 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله"، يقول: ثوابًا عند الله. 12221 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله" قال:"المثوبة"، الثواب،"مثوبة الخير"، و"مثوبة الشر"، وقرأ: (خَيْرٌ ثَوَابًا) [سورة الكهف: 44] . (2) * * *   (1) أشعار الهذليين 3: 92، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 170، واللسان (ضيف) (نصف) وغيرها كثير، وبعده: وَلَكِنَّنيِ جَمْرُ الغَضَا من وَرَائِهِ ... يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إذَا لَمْ أُخَفَّرِ أَبَى النَّاسُ إلا الشَّرَّ مِنِّي، فَدَعْهُمُ ... وَإيّايَ مَا جَاءُوا إلَيَّ بِمُنْكَرِ إذَا مَعْشَرٌ يَوْمًا بَغَوْنِي بَغَيْتُهُمُ ... بِمُسْقِطَةِ الأحْبَالِ فَقْمَاءَ قِنْطِرِ و"المضوفة" و"المضيفة" و"المضافة": الأمر يشفق منه الرجل. وبها جميعًا روى البيت."ضاف الرجل وأضاف": خاف. و"نصف الإزار ساقه": إذا بلغ نصفها. يريد بذلك اجتهاده في الدفاع عمن استجار به. وقوله: "ولكني جمر الغضا ... "، يقول: أتحرق في نصرته تحرقًا كأنه لهب باق من جمر الغضا. وقوله: "يخفرني سيفي ... ". يقول: سيفي خفيري إذا لم أجد لي خفيرًا ينصرني. وقوله: "مسقطة الأحبال": يريد: أعمد إليهم بداهية تسقط الحبالي من الرعب. و"فقماء". وصف للداهية المنكرة، يذكر بشاعة منظرها يقال: "امرأة فقماء": وهي التي تدخل أسنانها العليا إلى الفم، فلا تقع على الثنايا السفلى، وهي مع ذلك مائلة الحنك. و"قنطر" هي الداهية، وجاء بها هنا وصفًا، وكأن معناها عندئذ أنها داهية تطبق عليه إطباقًا، كالقنطرة التي يعبر عليها تطبق على الماء. ولم يذكر أصحاب اللغة هذا الاشتقاق، وإنما هو اجتهاد مني في طلب المعنى. وكان صدر البيت الشاهد في المخطوطة: "وكنت إذا جاي دعالم"، ولم يتم البيت، وأتمته المطبوعة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "شر ثوابا"، وليس في كتاب الله آية فيها"شر ثوابا"، فأثبت آية الكهف التي استظهرت أن يكون قرأها ابن زيد في هذا الموضع. ونقل السيوطي في الدر المنثور 2: 295، وكتب: "وقرئ: بشر ثوابًا"، ولم أجد هذه القراءة الشاذة، فلذلك استظهرت ما أثبت. هذا، وقد سقط من الترقيم رقم: 12222 سهوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 وأما"مَنْ" في قوله:"من لعنه الله"، فإنه في موضع خفض، ردًّا على قوله:"بشرّ من ذلك". فكأن تأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله، بمن لعنه الله. ولو قيل: هو في موضع رفع، لكان صوابًا، على الاستئناف، بمعنى: ذلك من لعنه الله= أو: وهو من لعنه الله. ولو قيل: هو في موضع نصب، لم يكن فاسدًا، بمعنى: قل هل أنبئكم من لعنه الله (1) = فيجعل"أنبئكم" عاملا في"من"، واقعًا عليه. (2) * * * وأما معنى قوله:"من لعنه الله"، فإنه يعني: من أبعده الله وأسْحَقه من رحمته (3) ="وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير"، يقول: وغضب عليه، وجعل منهم المُسوخَ القردة والخنازير، غضبًا منه عليهم وسخطًا، فعجَّل لهم الخزي والنكال في الدنيا. (4) * * *   (1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 314. (2) في المطبوعة: "فيجعل"أنبئكم" على ما في"من" واقعًا عليه"، وفي المخطوطة: "فيجعل"أنبئكم" علامًا فيمن واقعًا عليه"، وكلاهما فاسد، وصواب قراءة ما أثبت، ولكن أخطأ الناسخ كعادته في كتابته أحيانًا. و"الوقوع" التعدي، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة. (3) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 9: 213، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"غضب الله" فيما سلف 1: 188، 189/2: 138، 345/7: 116/9: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 وأما سبب مَسْخ الله من مَسخ منهم قردة، فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا. (1) * * * وأما سبب مسخ الله من مَسخ منهم خنازير، فإنه كان فيما:- 12223 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن عُمرَ بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، قال: حدِّثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل، وكان فيها مَلِك بني إسرائيل، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة، إلا أنّ تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به، فجعلت تدعو إلى الله، (2) حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم: إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله، وأن تنادوا قومكم بذلك، فاخرجوا فإني خارجة. فخرجت، وخرج إليها ذلك الملك في الناس، فقتل أصحابها جميعًا، وانفلتت من بينهم. قال: ودعت إلى الله حتى تجمَّع الناس إليها، حتى إذا رضيت منهم، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت معهم، وأصيبوا جميعًا وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت، فأصيبوا جميعًا، وانفلتت من بينهم، فرجعت وقد أيست، وهي تقول: سبحان الله، لو كان لهذا الدين وليٌّ وناصرٌ، لقد أظهره بَعْدُ! قال: فباتت محزونة، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازيرَ، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت: اليوم أعلم أن الله قد أعزَّ دينه وأمر دينه! قال: فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يديْ تلك المرأة. (3)   (1) انظر ما سلف 2: 167- 172/8: 447، 448/ وما سيأتي في التفسير 9: 63- 70 (بولاق) . (2) في المخطوطة: "تدعوا الله" بحذف"إلى"، والصواب ما في المطبوعة، بدليل ما سيأتي بعد. وأما قوله: "واستجمعوا على الهلكة" فإنه يعني: قد أشرفت جمعاتهم على الهلاك بكفرهم. (3) الأثر: 12223-"عمر بن كثير بن أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاري"، روى عن كعب بن مالك، وابن عمر، وسفينة، وغيرهم. وذكره ابن حبان في الثقات، في أتباع التابعين. وقال ابن سعد: "كان ثقة، له أحاديث". وقال ابن أبي حاتم: "روى عنه محمد بن بشر العبدي، وحماد بن خالد الخياط، وأبو عون الزيادي"، غير أن أبا عون قال: "عمرو بن كثير بن أفلح"، وهو وهم منه". وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"عمرو بن كثير"، فتابعت ابن أبي حاتم. وهو مترجم في التهذيب"عمر"، وابن أبي حاتم 3/1/130. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 12224 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وجعل منهم القردة والخنازير"، قال: مسخت من يهود. 12225 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه، سنذكره في موضعه إن شاء الله. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، بمعنى:"عابد"، فجعل"عبد"، فعلا ماضيًا من صلة المضمر، ونصب"الطاغوتَ"، بوقوع"عبَدَ" عليه. * * * وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين: (وَعَبُدَ الطَّاغُوتَ) بفتح"العين" من"عبد" وضم بائها، وخفض"الطاغوت" بإضافة"عَبُد" إليه. وعنوا بذلك: وخدَمَ الطاغوت. 12226 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثني حمزة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ: (وَعُبَدَ الطَّاغُوتِ) يقول: خدم= قال عبد الرحمن: وكان حمزة كذلك يقرأها.   (1) لم أعرف مكانه فيما سيأتي من التفسير، فإذا عثرت عليه أثبته إن شاء الله. ولعل منه ما سيأتي في الآثار رقم: 12301- 12304. وانظر رقم: 7110. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 12227 - حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن الأعمش: أنه كان يقرأها كذلك. * * * وكان الفَرَّاء يقول: إن تكن فيه لغة مثل"حَذِرٍ" و"حَذُر"، و"عجِلٍ"، و"وعَجُلٍ"، فهو وجه، والله أعلم= وإلا فإن أراد قول الشاعر: (1) أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ وَإنَّ أَبَاكُمُ عَبُدُ (2) فإن هذا من ضرورة الشعر، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي، وأما في القراءة فلا. (3) * * * وقرأ ذلك آخرون: (وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ) ذكر ذلك عن الأعمش. * * * وكأنَّ من قرأ ذلك كذلك، أراد جمع الجمع من"العبد"، كأنه جمع"العبد""عبيدًا"، ثم جمع"العبيد""عُبُدًا"، مثل:"ثِمَار وُثُمر". (4) * * * وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرأه: (5) (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) . 12228 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال: كان أبو جعفر النحويّ يقرأها: (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) ، كما يقول:"ضُرِب عبدُ الله". * * *   (1) هو أوس بن حجر. (2) ديوانه، القصيدة: 5، البيت: 4، ومعاني القرآن للفراء 1: 314، 315، واللسان (عبد) ، وقد مضى منها بيت فيما سلف ص: 275، وقبل البيت: أَبَنِي لُبَيْنِيَ لَسْتُ مُعْترِفًا ... لِيَكُونَ أَلأَمَ مِنْكُمُ أَحَدُ (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 314، 315. (4) كان الأجود أن يقول: "كأنه جمع العبد عبادًا، ثم جمع العباد عبدًا، مثل ثمار وثمر"، وهو ظاهر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 314. (5) في المطبوعة: "أنه يقرؤه" بحذف"كان"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها، لأن الله تعالى ذكره، إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام، فكان فيما ذمَّهم به عبادُتهم الطاغوت. وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عُبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس ما ختمها به، فيكون له وجه يوجَّه إليه في الصحة. (1) * * * وذكر أن بُريدة الأسلمي كان يقرأه: (وعابد الطاغوت) . (2) 12229 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شيخ بصري: أن بريدة كان يقرأه كذلك. * * * ولو قرئ ذلك: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، بالكسر، كان له مخرج في العربية صحيح، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها. ووجه جوازها في العربية، أن يكون مرادًا بها"وعَبَدَة الطاغوت"، ثم حذفت"الهاء" للإضافة، كما قال الراجز: (3) قَامَ وُلاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا (4) يريد: قام وُلاتها، فحذف"التاء" من"ولاتها" للإضافة. (5) * * * قال أبو جعفر: وأما قراءة القرأة، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما،   (1) في المطبوعة: "من الصحة"، والصواب ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "وعابد الشيطان"، وهو خطأ لا شك فيه، صححته المطبوعة، وانظر القراءات الشاذة لابن خالويه: 34. (3) لم أعرف الراجز. (4) معاني القرآن للفراء 1: 314، وقوله: "صرخد" جعلها الخمر الصرخدية نفسها. وأما أصحاب اللغة، فيقولون: "صرخد"، موضع بالشأم، من عمل حوران، تنسب إليه الخمر الجيدة. (5) انظر ما سلف جميعه في معاني القرآن للفراء 1: 314، 315. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 وهو: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، بنصب"الطاغوت" وإعمال"عبد" فيه، وتوجيه"عبد" إلى أنه فعل ماض من"العبادة". والآخر: (وعبد الطاغوت) ، على مثال"فَعُلٍ"، وخفض"الطاغوت" بإضافة"عَبُدٍ" إليه. فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجًا في العربية منهما، فأولاهما بالصواب من القراءة، قراءة من قرأ ذلك (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، بمعنى: والذين عبدوا الطاغوت= ففي ذلك دليل واضحٌ على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به: ومَن عبد الطاغوت، وأن النصب بـ"الطاغوت" أولى، على ما وصفت في القراءة، لإعمال"عبد" فيه، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها. على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في"مَنْ" و"الذي" المضمرين مع"مِنْ" و"في" إذا كفت"مِنْ" أو"في" منهما ويستقبحونه، حتى كان بعضهم يُحيل ذلك ولا يجيزه. وكان الذي يحيل ذلك يقرأه: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز. وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح. فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة. وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام، قد اختاروا القراءة بها، وإعمال و"جعل" في"مَنْ"، وهي محذوفة مع"مِن". ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضًا فيهم لا يتناكرونه، (1) فلا نستجيز الخروجَ منه إلى غيره. فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين   (1) في المطبوعة: "فهم لا يتناكرونه"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 اللتين ذكرنا أنهم لم يعدُوهما. * * * وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا، فتأويل الآية: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله، من لعنه الله وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت. * * * وقد بينا معنى"الطاغوت" فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1) * * * وأما قوله:"أولئك شر مكانًا وأضلُّ عن سواء السبيل"، فإنه يعني بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره، وهم الذين وصفَ صفتهم فقال:"من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت"، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل. يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم="شر مكانًا"، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نَقَمتم عليهم، يا معشر اليهود، إيمانَهم بالله، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء="وأضل عن سواء السبيل"، يقول تعالى ذكره: وأنتم مع ذلك، أيها اليهود، أشد أخذًا على غير الطريق القويم، وأجورُ عن سبيل الرشد والقصد منهم. (2) * * * قال أبو جعفر: وهذا من لَحْنِ الكلام. (3) وذلك أن الله تعالى ذكره إنما   (1) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 5: 416- 419/8: 461-465، 507- 513، 546. (2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة. = وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف 10: 124، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) "اللحن" هنا بمعنى التعريض والإيماء، عدولا عن تصريح القول. قال ابن بري: "للحن ستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 قصد بهذا الخبر إخبارَ اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير، خطابًا منه لهم بذلك، تعريضًا بالجميل من الخطاب، ولَحَن لهم بما عَرَفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن، (1) وعلَّم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له: قل لهم، يا محمد، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم، شرٌّ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقولَ ذلك لهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم:"آمنا": أي صدّقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم واتبعناه على دينه، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويُضمرونه في صدورهم، وهم يبدون كذبًا التصديق لكم بألسنتهم="وقد خرجوا به"، يقول: وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله، جهلا منهم بالله="والله أعلم بما كانوا يكتمون"، يقول: والله أعلم بما كانوا- عند قولهم لكم بألسنتهم:"آمنا بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء   (1) أي: عرض لهم بأحسن التعريض والإيماء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 به"- يكتمون منهم، بما يضمرونه من الكفر، بأنفسهم. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12230 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا" الآية، أناسٌ من اليهود، كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه وسلم. 12231 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفارًا، وخرجوا كفارًا. 12232 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق، وتُسرُّ قلوبهم الكفر، فقال:"دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به". 12233 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"= (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا   (1) في المطبوعة: "مما يضمرونه"، والصواب من المخطوطة"بما". وسياق هذه الجملة بعد إسقاط الجمل المعترضة المفسرة: والله أعلم بما كانوا ... يكتمون منهم ... بأنفسهم" أي: أعلم منهم بأنفسهم. وقوله: "بما يضمرون من الكفر"، متعلق بقوله: "والله أعلم بما كانوا يكتمون" تفسيرًا لقوله: "بما كانوا يكتمون". وانظر تفسير"الكتمان" فيما سلف 2: 228، 229. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، [سورة آل عمران: 72] . فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود. 12234 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، أي: إنه من عندهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وترى" يا محمد ="كثيرًا"، من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني إسرائيل="يسارعون في الإثم والعدوان"، يقول: يعجلون بمواقعة الإثم. (1) * * * وقيل: إن"الإثم" في هذا الموضع، معنيّ به الكفر. (2) 12235 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان"، قال:"الإثم"، الكفر. 12236 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان"، وكان هذا في حُكّام اليهود بين أيديكم. (3)   (1) انظر تفسير"المسارعة" فيما سلف 10: 404، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الإثم" فيما سلف 9: 196، 197، ثم سائر فهارس اللغة. (3) في المطبوعة: "في أحكام اليهود"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 12237 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يسارعون في الإثم والعدوان"، قال: هؤلاء اليهود="لبئس ما كانوا يعملون"= (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) ، إلى قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، قال:"يصنعون" و"يعملون" واحد. قال: لهؤلاء حين لم ينهوا، كما قال لهؤلاء حين عملوا. قال: وذلك الإدهان. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي، وإن كان قولا غير مدفوع جوازُ صحته، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام: أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله، لا يتحاشون من شيء منها، لا من كفر ولا من غيره. لأن الله تعالى ذكره عمَّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان، من غير أن يخصّ بذلك إثمًا دون إثم. * * * وأما"العدوان"، فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدَّه الله لهم في كل ما حدَّه لهم. (2) * * * وتأويل ذلك: أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات بما وصفهم به تعالى ذكره، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره، ويتعدَّون حدودَه التي حدَّ لهم فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم، في أكلهم"السحت"= وذلك الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم. (3) * * * يقول الله تعالى ذكره:"لبئس ما كانوا يعملون"، يقول: أقسم لَبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون، في مسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت. * * *   (1) قوله: "وذلك الإدهان"حذفت من المطبوعة، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة هكذا: "قال: وذلك الإركان"، وصواب قراءته ما أثبت. و"الإدهان": اللين والمصانعة، في الدين وفي كل شيء، وفي التنزيل: "ودوا لو تدهن فيدهنون". (2) انظر تفسير"العدوان" فيما سلف 9: 362، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"السحت" فيما سلف 10: 317- 324. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 القول في تأويل قوله: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم، من اليهود من بني إسرائيل، (1) ربانيوهم= وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم (2) = وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم (3) ="عن قولهم الإثم" يعني: عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون:"هذا من حكم الله، وهذا من كتبه". يقول الله: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [سورة البقرة: 79] . * * * وأما قوله:"وأكلهم السحت"، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به. * * * وقد بينا معنى"الربانيين" و"الأحبار" ومعنى"السحت"، بشواهد ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) * * * ="لبئس ما كانوا يصنعون"، وهذا قسم من الله أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار، في تركهم نهيَ الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت، عما كانوا يفعلون من ذلك. * * *   (1) انظر تفسير"لولا" بمعنى: "هلا"، فيما سلف 2: 552، 553. (2) انظر تفسير"الربانيون" فيما سلف 5: 540- 544/10: 341- 343 (3) انظر تفسير"الأحبار" فيما سلف 6: 543، 544/10: 341- 343 (4) انظر التعليقات السالفة قريبًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوفَ عليهم منها. 12238 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم في قوله:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم" قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أَنَّا لا ننهى. (1) 12239 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا من هذه الآية: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) قال: كذا قرأ. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12240 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت" [قال:"الربانيون والأحبار"، فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم. قال: ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية!] . (3)   (1) الأثر: 12238-"عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني"، أبو عبد الرحمن الخريبي. كان ثقة عابدًا، وكان عسرًا في الرواية. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 12239-"ابن عطية" هو: "الحسن بن عطية بن نجيح القرشي"، أبو علي البزار مضى برقم: 1939، 4962، 7535، 8961، 8962. وهو الذي يروي عنه أبو كريب ويقول: "ابن عطية"، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو عطية". وهو خطأ. و"قيس"، هو"قيس بن الربيع الأسدي"، مضى برقم: 159، 4842، 5413، 6892، 7535. و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي"، مضى برقم: 3789. و"خالد بن دينار التميمي السعدي" مضى برقم: 44، ولم يدرك ابن عباس. (3) الأثر: 12240- كان في المطبوعة" ... وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"، أتم الآية، وليس للخبر تتمة. أما المخطوطة، فليس فيها تتمة الآية ولا تتمة الخبر، والذي أثبته من الدر المنثور 1: 296 قال: "وأخرج عبد بن حميد من طريق سلمة بن نبيط ... "، وساق الأثر كما أثبته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 12241 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"، يعني: الربانيين، أنهم: لبئس ما كانوا يصنعون. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم= واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم. * * * يقول تعالى ذكره:"وقالت اليهود"، من بني إسرائيل="يد الله مغلولة"، يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) [سورة الإسراء: 29] . * * * وإنما وصف تعالى ذكره"اليد" بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل: يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ (1) فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى"اليد". ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله! (2)   (1) ديوانه: 150، وغيره. من قصيدته الغالية التي رفعت المحلق وطارت بذكره في الآفاق، يقول له: لَعَمْرِي لَقَدْ لاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ ... إلَى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاٍع تُحَرَّقُ تُشَبُّ لمقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهِا ... وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى والمحَلَّقُ رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَحَالفَا ... بِأَسْحَمَ عَوْضَ الدَّهْرِ لا نَتَفَرَّقُ تَرَى الجُودَ يَجْرِيِ ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِ ... كَمَا زَانَ مَتْنَ الهُنْدُوَانِيِّ رَوْنَقُ يَدَاهُ يَدَا صِدْقٍ، فَكفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ هذه رواية مخطوطة ديوانه التي صورتها حديثًا، ورواية هذه المخطوطة تخالف الرواية المطبوعة في أشياء كثيرة، ولا سيما في ترتيب أبيات الشعر. (2) في المطبوعة: "عما قال أعداء الله"، وأثبت ما في المخطوطة، وقوله: "أعداء الله" منصوب على الذم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه عليهم:"غلت أيديهم"، يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات="ولعنوا بما قالوا"، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك (1) ="بل يداه مبسوطتان"، يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين (2) ="ينفق كيف يشاء"، يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتِّر عليه. (3) * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12242 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيًرا. 12243 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يد الله مغلولة"، قالوا: لقد تَجَهَّدنا الله = يا بني إسرائيل، (4) حتى   (1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 10: 437، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"البسط" فيما سلف 5: 288، 290، 313. (3) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف 7: 134، تعليق: 3، والمراجع هناك، ثم سائر فهارس اللغة. (4) في المطبوعة، حذف ما وضعته بين الخطين، وكان في المخطوطة: "لقد تجهدنا الله، أي تجهدنا الله يا بني إسرائيل"، ورجحت أن صوابها كما أثبتها. ولم يذكر في كتب اللغة"تجهد" (مشددة الهاء) بمعنى: ألح عليه في السؤال حتى أفنى ما عنده، وكأنه من أجل ذلك فسره بقوله (كما قرأته) : "أي جهدنا الله" من قولهم"جهد الرجل" (ثلاثيا) : إذا ألح عليه في السؤال. هذا ما رأيته، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر الأثر التالي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا! 12244 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يد الله مغلولة"، قال: اليهود تقوله: (1) لقد تجهَّدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، (2) حتى إن يده إلى نحره="بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء". 12245 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" إلى"والله لا يحب المفسدين"، أما قوله:"يد الله مغلولة"، قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء". 12246 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا. * * * = وأما قوله:"ينفق كيف يشاء"، يقول: يرزق كيف يشاء. 12247 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة:"وقالت اليهود يد الله مغلولة" الآية، نزلت في فنْحاص اليهوديّ. 12248 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله:"يد الله مغلولة"، يقولون: إنه   (1) في المطبوعة: "اليهود تقول"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر التعليق السالف ص: 452، رقم: 4. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 بخيل ليس بجواد! قال الله:"غلت أيديهم"، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء". وقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [سورة الإسراء: 29] ، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله:"بل يداه مبسوطتان". (1) فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه. وقال: ذلك بمعنى:"يد الله على خلقه"، وذلك نعمه عليهم. وقال: إن العرب تقول:"لك عندي يد"، يعنون بذلك: نعمةٌ. * * * وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة. وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي) [سورة ص: 45] . * * * وقال آخرون منهم: بل"يده"، ملكه. وقال: معنى قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، ملكه وخزائنه. قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك:"هو ملك يمينه"، و"فلان بيده عُقدة نكاح فلانة"، أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره: (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) ، [سورة المجادلة: 12] . * * * وقال آخرون منهم: بل"يد الله" صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم. قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده. (2)   (1) هذه أول مرة يذكر فيها أبو جعفر أصحاب الكلام ويسميهم"أهل الجدل". (2) في المطبوعة: "عن خصوصية آدم"، وأعاد"خصوصية" بالنسب في جميع ما سيأتي، وهو عبث من المصحح، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 قالوا: ولو كان [معنى"اليد"، النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصِه] آدم بذلك وجه مفهوم، (1) إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك. قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى"اليد" من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع. قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن:"يد الله" في قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، هي نعمته، لقيل:"بل يده مبسوطة"، ولم يقل:"بل يداه"، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة. (2) وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [سورة إبراهيم: 34\ وسورة النحل: 18] قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين. قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر: 1، 2] وكقوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ) ، [سورة الحجر: 26] وقوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) [سورة الفرقان: 55] ، قال: فلم يُرَدْ بـ"الإنسان" و"الكافر" في هذه الأماكن إنسان بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب:   (1) هذه الزيادة بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام، استظهرتها من سياق هذه الحجج ما استطعت، وإسقاطها مفسد للكلام. (2) في المطبوعة: "لا تحصى بكثرة"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 "ما أكثر الدرهم في أيدي الناس"، وكذلك قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ) معناه: وكان الذين كفروا. قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. (1) قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال:"ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس"، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم. قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما. قالوا: وغيرُ محال:"ما أكثر الدرهم في أيدي الناس"، و"ما أكثر الدراهم في أيديهم"، لأن الواحد يؤدي عن الجميع. قالوا: ففي قول الله تعالى:"بل يداه مبسوطتان"، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع= ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى"اليد"، في هذا الموضع، النعمة= وصحةِ قول من قال: إن"يد الله"، هي له صفة. قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا يؤدي إلا عن اثنين"، وهو لا يستقيم بالفاء، إنما يستقيم بالواو كما أثبته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك، وقطعًا لعذر قائلٍ منهم أن يقول:"ما جاءنا من بشير ولا نذير"=:"ليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا". يعني بـ"الطغيان": الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك="وكفرًا"، يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك، جحودَهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا:"يد الله مغلولة". وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرُّدٍ على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلِّي بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله، وتكذيبهم إياه. * * * وقد بينت معنى"الطغيان" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12249 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، حملهم حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم. * * *   (1) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف 1: 308، 309/5: 419. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 القول في تأويل قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، بين اليهود والنصارى، كما:- 12250 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، اليهود والنصارى. * * * فإن قال قائل: وكيف قيل:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، جعلت"الهاء والميم" في قوله:"بينهم"، كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟ قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله: (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، [سورة المائدة: 51] ، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين، وفي بعضٍ عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، ثم قصد بقوله:"ألقينا بينهم"، الخبرَ عن الفريقين. * * * القول في تأويل قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم، (1) كالذي:-   (1) انظر تفسير"أوقد" فيما سلف 1: 320، 380/6: 222. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 12251 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) [سورة الإسراء: 4- 6] ، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، (1) ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ الثاني= قال: و"الفساد"، المعصية= ثم قال، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) إلى قوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) [سورة الإسراء: 7، 8] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا. (2) ومات عزير، وكانت أحداثٌ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا:"يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، وقالوا في عزير:"إن الله اتخذه ولدًا"، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، (3) فقال:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين"، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا، (4) فلم يزالوا كذلك والمجوس   (1) في المطبوعة: "فغيروا" بالياء، وهو خطأ."غبروا زمانا": لبثوا زمانًا. (2) في المطبوعة: "ونسوا"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "لم يظهروا"، والسياق يقتضي ما أثبت. (4) في المطبوعة: "المجوس الثلاثة أربابًا"، والصواب ما في المخطوطة، ويعني وعد الآخرة، وهي المرة الثالثة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 على رقابهم، وهم يقولون:"يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون"! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم= واسمه"محمد"، واسمه في الإنجيل"أحمد"= فلما جاءهم وعرفوا، (1) كفروا به، قال: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة: 89] ، وقال: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) ، بسورة البقرة: 90] . (2) 12252 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، هم اليهود. 12253 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا"، أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه. 12254 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، (3) وقذف في قلوبهم الرعب. * * *   (1) في المطبوعة: "فلما جاءهم ما عرفوا ... " كنص آية البقرة: 89، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب أيضًا، لا يريد الآية، بل أراد معناها. (2) الأثر: 12251- هذا الأثر، لم يذكره أبو جعفر في تفسير آيات"سورة الإسراء: 4- 8" في تفسيره 15: 17- 35 (بولاق) . وهذا أحد الأدلة على اختصار التفسير. (3) "الحد": البأس والنفاذ. و"حد الظهيرة": شدة توقدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 وقال مجاهد بما:- 12255 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، قال: حربُ محمد صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيُهم فيها بالفساد= "والله لا يحب المفسدين"، يقول: والله لا يحب من كان عامِلا بمعاصيه في أرضه. (1) * * *   (1) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف: 287، 416/ ثم 10: 257 تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير"السعي" فيما سلف 4: 238، وفي سائر فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"ولو أن أهل الكتاب"، وهم اليهود والنصارى="آمنوا" بالله وبرسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فصدَّقوه واتبعوه وما أنزل عليه="واتقوا" ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه="لكفرنا عنهم سيئاتهم"، يقول: محوْنا عنهم ذنوبَهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها (1) = "ولأدخلناهم   (1) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف 7: 482، 490/8: 254= وتفسير"السيئات" فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 جنات النعيم"، يقول: ولأدخلناهم بساتِين ينعَمون فيها في الآخرة. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12256 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا"، يقول: آمنوا بما أنزل الله، واتقوا ما حرم الله، ="لكفرنا عنهم سيئاتهم". * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولو أنهم أقامُوا التوراة والإنجيلَ"، ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل (2) ="وما أنزل إليهم من ربهم"، يقول: وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقانِ الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم. * * * فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب، ونسخِ بعضها بعضًا؟ قيل: إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متَّفِقة في الأمر بالإيمان برُسُل الله، والتصديق بما جاءت به من عند الله. فمعنى إقامتهم التوراةَ والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم: تصديقُهُم بما فيها، والعملُ   (1) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف 8: 448، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الإقامة" فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) مثل"إقامة الصلاة". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 بما هي متفقة فيه، وكل واحد منها في الحين الذي فرض العمل به. (1) * * * وأما معنى قوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، فإنه يعني: لأنزل الله عليهم من السماء قَطْرَها، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها، فأخرج ثمارَها. * * * وأما قوله:"ومن تحت أرجلهم"، فإنه يعني تعالى ذكره: لأكلوا من برَكة ما تحت أقدامِهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حَبِّها ونباتها وثمارِها، وسائرِ ما يؤكل مما تخرجه الأرض. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12257 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم"، يعني: لأرسل السماءَ عليهم مدرارًا="ومن تحت أرجلهم"، تخرج الأرض برَكتها. 12258 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: إذًا لأعطتهم السماء برَكتها والأَرْضُ نَباتها. 12259 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: لو عملوا بما أنزل إليهم   (1) في المطبوعة: "وكل واحد منهما في الخبر الذي فرض العمل به"، وهي جملة لا معنى لها، صوابها من المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، لأنزلنا عليهم المطرَ، فلأنبت الثَّمر. (1) 12260 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم"، أمّا"إقامتهم التوراة"، فالعمل بها= وأما"ما أنزل إليهم من ربهم"، فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. يقول:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، أما"من فوقهم"، فأرسلت عليهم مطرًا، وأما"من تحت أرجلهم"، يقول: لأنبتُّ لهم من الأرض من رزقي ما يُغْنيهم. 12261 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، قال: بركات السماء والأرض= قال ابن جريج:"لأكلوا من فوقهم"، المطر="ومن تحت أرجلهم"، من نبات الأرض. 12262 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء="ومن تحت أرجلهم"، يقول: من الأرض. * * * وكان بعضهم يقول (2) إنما أريد بقوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، التَّوْسِعَة، كما يقول القائل:"هو في خير من قَرْنه إلى قدمه". (3) وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى بذلك شهيدًا على فساده. * * *   (1) في المطبوعة: "فأنبتت الثمر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 315. (3) في المطبوعة: "من فرقه إلى قدمه"، وأثبت ما في المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء و"القرن": حد الرأس وجانبها، ورأس كل عال قرنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 القول في تأويل قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"منهم أمة"، منهم جماعة (1) ="مقتصدة"، يقول: مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم، قائلةٌ فيه الحقَّ أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، لا غاليةٌ قائلةٌ: إنه ابن الله، تعالى الله عما قالوا من ذلك، ولا مقصرة قائلةٌ: هو لغير رِشْدَة="وكثير منهم"، يعني: من بني إسرائيل من أهل الكتابِ اليهودِ والنصارى ="ساء ما يعملون"، يقول: كثير منهم سيئ عملهم، (2) وذلك أنهم يكفرون بالله، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتزعُم أن المسيحَ ابن الله= وتكذِّب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما. فقال الله تعالى فيهم ذامًّا لهم:"ساء ما يعملون"، في ذلك من فعلهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12264 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"منهم أمة مقتصدة"، وهم مسلمة أهل الكتاب="وكثير منهم ساءَ ما يعملون". (3) 12265 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثنا عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: تفرَّقت بنو إسرائيل فِرَقًا، فقالت   (1) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 7: 106، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"ساء" فيما سلف 9: 205، تعليق: 4، والمراجع هناك. (3) سقط من الترقيم، رقم: 12263 سهوًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 فرقة:"عيسى هو ابن الله"، وقالت فرقة:"هو الله"، وقالت فرقة:"هو عبد الله وروحه"، وهي المقتصدة، وهي مسلمةُ أهل الكتاب. 12266 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله:"منهم أمة مقتصدة"، يقول: على كتابه وأمره. ثم ذمّ أكثر القوم فقال:"وكثير منهم ساء ما يعملون". 12267 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"منهم أمة مقتصدة"، يقول: مؤمنة. 12268 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" قال: المقتصدة، أهلُ طاعة الله. قال: وهؤلاء أهل الكتاب. 12269 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون"، قال: فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جَفَوا في الدين ولا هم غلوا. (1) قال: و"الغلو"، الرغبة [عنه] ، و"الفسق"، التقصير عنه. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "الذين لا هم فسقوا في الدين"، وهي كذلك في الدر المنثور 2: 297، والذي في المخطوطة هو ما أثبته، وهو الصواب إن شاء الله، وفي الحديث: "وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي"، وفيه أيضا: "اقرأوا القرآن ولا تجفوا عنه"، أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته. (2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من الأثر السالف رقم: 10853، من تفسير الربيع بن أنس أيضا لآية سورة النساء: 171. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) } قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، (1) بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصَّ تعالى ذكره قَصَصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخُبْثَ أديانهم، واجتراءَهم على ربهم، وتوثُّبهم على أنبيائهم، وتبديلَهم كتابه، وتحريفَهم إياه، ورداءةَ مطاعِمهم ومآكلهم= وسائرِ المشركين غيرِهم، (2) ما أنزل عليه فيهم من معايبهم، والإزراء عليهم، والتقصير بهم، والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا يُشْعر نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله، (3) ولا جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله، فإن الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه. (4) وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك= وإن قلّ ما لم يبلّغ منه= فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنزلته لو لم يبلِّغ من تنزيله شيئًا. * * * وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "لنبيه محمد"، غير ما في المخطوطة على غير طائل. (2) قوله: "وسائر المشركين" مجرور معطوف على قوله: "بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى ... " ومفعول قوله: "بإبلاغ هؤلاء ... " هو: "ما أنزل عليه فيهم". (3) في المطبوعة: "أن يصيبه في نفسه مكروه"، غير ما في المخطوطة على غير طائل. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "كل من يتقي مكروهه"، وهو فاسد جدًا، صوابه ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 12270 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك، لم تبلِّغ رسالاتي. (1) 12271 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية، أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت! فقال: والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس ما صاحبتهم. (2) 12272 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت:"بلغ ما أنزل إليك من ربك"، قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع؟ تجَمَّع عليّ الناس! (3) فنزلت:"وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، الآية. 12273 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ثعلبة، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إنّ ربّي قد عَصَمني. (4)   (1) في المطبوعة: "رسالتي"، غير ما في المخطوطة. (2) قوله: "احتجبت"، أي: احتجبت عن الناس حتى لا يدرك منه من يبغيه الغوائل. و"العقب" هنا"عقب القدم"، وهي مؤخرها، وهي مؤنثة. يعني بذلك: لأظهرن لهم سائرًا بينهم لا أحتجب. وكل من خرج إلى الناس، فقد بدا لهم عقبه، وهو يسير بينهم. وهذه كناية حسنة. وقوله: "ما صاحبتهم"، للتأييد، كأنه قال: "ما عشت". (3) في المطبوعة: "تجتمع على الناس"، وأثبت ما في المخطوطة. ومعنى قوله: "تجمع على الناس"، أي: تألبوا عليه وعادوه من جراء دعوته إلى دين الله. وهذا تعجب. (4) الأثر: 12273-"جرير"، هو"جرير بن عبد الحميد الضبي"، مضى مرارًا كثيره. و"ثعلبة" هو"ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي"، كان متطببًا، ثقة، لا بأس به، مترجم في التهذيب. و"جعفر" هو"جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي"، مضى برقم: 87، 617، 4347، 7269. وهذا خبر مرسل. انظر تفسير ابن كثير 3: 196. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 12274 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن الجُريريّ، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقِبه ناسٌ من أصحابه، فلما نزلت:"والله يعصمك من الناس"، خرج فقال: يا أيها الناس، الحقوا بملاحِقِكم، فإنّ الله قد عصمني من الناس. (1) 12275 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عاصم بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، إلى آخرها. 12276 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال، حدثنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس، حتى نزلت هذه الآية:"والله يعصمك من الناس"، قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة فقال:"أيها الناس، انصرفوا، فقد عصمني الله. (2)   (1) الأثر: 12274-"الجريري"، هو"سعيد بن إياس الجريري"، مضى برقم: 196. و"عبد الله بن شقيق العقيلي"، تابعي ثقة، مضى برقم: 196، وهذا الخبر مرسل أيضًا، وسيأتي موصولا برقم: 12276 وقوله: "يعتقبه ناس من أصحابه": أي يتناوبون حراسته ويتداولونها، من"العقبة" وهي النوبة، يقال: "جاءت عقبة فلان"، أي نوبته. وقوله: "ألحقوا بملاحقكم"، يأمرهم أن يوافوا أماكنهم التي يرجعون إليها إذا آبوا. ولم أجد هذا التعبير في غير هذا الخبر، ولا قيده أصحاب غريب الحديث. و"الملاحق" جمع"ملحق" (بفتح الميم وسكون اللام وفتح الحاء) : أي الموضع الذي ينزلونه عند مرجعهم. (2) الأثر: 12276-"الحارث بن عبيد الإيادي"، "أبو قدامة"، قال أحمد: "مضطرب الحديث"، وقال ابن معين: "ضعيف"، وقال أبو حاتم: "ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به". وقال ابن حبان: "كان ممن كثر وهمه، حتى خرج عن جملة من يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب. والكبير 1/ 2/ 273. وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: "هذا حديث غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، ولم يذكر فيه عائشة". ورواه الحاكم في المستدرك 2: 313، من هذه الطريق نفسها ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وكان في المطبوعة: "فإن الله قد عصمني"، خالف نص المخطوطة لغير شيء. وما في المخطوطة هو المطابق لروايته في الترمذي والمستدرك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 12277 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن القرظيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يُحْرَس، حتى أنزل الله:"والله يعصمك من الناس". * * * واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابيّ كان همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله إياه. ذكر من قال ذلك: 12278 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيَقِيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال (1) من يمنعك مني؟ قال: الله! فرُعِدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه، (2) قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دُماغه، فأنزل الله:"والله يعصمك من الناس". (3) * * *   (1) "اخترط السيف": سله من غمده. (2) هكذا جاءت الرواية"فرعدت يد الأعرابي" بالبناء للمجهول، ولم أجد من"الرعدة" ثلاثيًا"رعد" بالبناء للمجهول، بل الذي رووه وأطبقوا عليه"أرعد" (بالبناء للمجهول) . فإن صح هذا الخبر، فالثلاثي المبني للمجهول مما يزاد على مادة اللغة. (3) الأثر: 12278- انظر خبر هذا الأعرابي فيما سلف رقم: 11565، والتعليق عليه هناك، وليس فيه أنه ضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشًا، فأومن من ذلك. ذكر من قال ذلك: 12279 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشًا، فلما نزلت:"والله يعصمك من الناس"، استلقى ثم قال:"من شاء فليخذلني= مرتين أو ثلاثًا. 12280 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك"، الآية. (1) 12281 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم، فقد كذبَ وأعظم الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" الآية. 12282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال، قالت عائشة: من زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية. (2) 12283 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم،   (1) الأثر: 12280-"ابن أبي خالد"، هو: "إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن أبي خالد"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن البخاري رواه من طريق وكيع، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، مطولا (الفتح 8: 466) ، وليس فيمن روى عنه وكيع هذا الخبر من يسمى"أبا خالد". وهذا الخبر رواه أبو جعفر من أربع طرق، سيأتي تخريجها بعد. (2) الأثر: 12282- رواه مسلم مطولا في صحيحه، من طريق إسماعيل بن علية، عن داود. وهذه الأخبار الثلاثة السالفة، خبر واحد بأسانيد ثلاثة. رواه البخاري (الفتح 8: 206) من طريق سفيان، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق. ثم رواه من هذه الطريق، ومن طريق أبي عامر العقدي، عن شعبة، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي (الفتح 13: 422) ، مختصرا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 عن مسروق بن الأجدع قال: دخلت على عائشة يومًا فسمعتها تقول: لقد أعظمَ الفرية من قال إنّ محمدًا كتم شيئًا من الوحي! والله يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". (1) * * * ويعني بقوله:"والله يعصمك من الناس"، يمنعك من أن ينالوك بسوء. وأصله من"عِصَام القربة"، وهو ما تُوكىَ به من سير وخيط، (2) ومنه قول الشاعر: (3) وَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ مَالِكًا، إنَّ مَالِكًا ... سَيَعْصِمُكُمُ، إنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ (4) يعني: يمنعكم. * * * وأما قوله:"إن الله لا يهدي القوم الكافرين"، فإنه يعني: إن الله لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. (5) * * *   (1) الأثر: 12283-"الليث" هو"الليث بن سعد" الإمام. و"خالد"، هو: "خالد بن يزيد الجمحي المصري"، الفقيه المفتي، ثقة، مضى برقم: 3965، 5465، 9185، 9507. و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة. مضى برقم: 1495، 3965، 5465. (2) انظر تفسير"عصم" و"عصام" فيما سلف 7: 62، 63، 70/9: 341. (3) لم أعرف قائله. (4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171. و"عليك" اسم فعل للإغراء، يقال: "عليك زيدًا" و"عليك بزيد". (5) انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَره. يقول تعالى ذكره له:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود والنصارى="يا أهل الكتاب"، التوراة والإنجيل="لستم على شيء"، مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم، معشرَ اليهود، ولا مما جاءكم به عيسى، معشرَ النصارى="حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"، مما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان، فتعملوا بذلك كله، وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وتقرُّوا بأن كل ذلك من عند الله، فلا تكذِّبوا بشيء منه، ولا تفرِّقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لأنّ كتب الله يصدِّق بعضها بعضًا، فمن كذَّب ببعضها فقد كذَّب بجميعها. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر. 12284 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسَلام بن مِشْكم، (1) ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة، (2) فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "سلام بن مسكين"، ولم أجد هذا الاسم فيمن كان من يهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعروف هو ما أثبته وهو الموجود في هذا الخبر في سيرة ابن هشام. (2) في المطبوعة: " ... بن حرملة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخِذَ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيِّنوه للناس، وأنا بريء من أحداثكم! قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك! فأنزل الله تعالى ذكره:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" إلى:"فلا تأس على القوم الكافرين". (1) 12285 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"، قال: فقد صرنا من أهل الكتاب="التوراة"، لليهود، و"الإنجيل"، للنصارى،"وما أنزل إليكم من ربكم"، وما أنزل إلينا من ربنا= أي:"لستم على شيء حتى تقيموا"، حتى تعملوا بما فيه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وليزيدن كثيًرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، وأقسم: ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات، الكتابُ الذي أنزلته إليك، يا محمد (2) ="طغيانًا"، يقول: تجاوزًا وغلوًّا في التكذيب لك، على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول   (1) الأثر: 12284- سيرة ابن هشام 2: 217، وهو تابع الآثار التي مضت رقم: 2101، 2102، 12219. (2) "الكتاب" فاعل قوله: "ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود ... ". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 الفرقان="وكفرًا" يقول: وجحودًا لنبوتك. (1) وقد أتينا على البيان عن معنى"الطغيان"، فيما مضى قبل. (2) * * * وأما قوله:"فلا تأس على القوم الكافرين"، يعني بقوله: (3) "فلا تأس"، فلا تحزن. * * * يقال:"أسِيَ فلان على كذا"، إذا حزن"يأسَى أسىً"،، ومنه قول الراجز: (4) وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى (5) * * * يقول تعالى ذكره لنبيه: لا تحزن، يا محمد، على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائيل لك، فإن مثلَ ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم، فكيف فيك؟ * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف ص: 457، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "يعبي يقول"، والصواب من المخطوطة. (4) هو العجاج. (5) ديوانه: 31، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171، والكامل 1: 352، واللسان (حلب) (كرس) ، وهو من رجزه المشهور، مضى أوله في هذا التفسير 1: 509، يقول: يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا? ... قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُهُ! وَأَبْلَسَا وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى ومضى شرح البيتين الأولين. و"انحلبت عيناه" و"تحلبتا": سال دمعهما وتتابع. وكان في المطبوعة: "وأنحلت"، خالف ما في المخطوطة، لأنها غير منقوطة، فأتى بما لا يعرف. فجاء بعض من كتب على هذا البيت وصححه فكتب"وأبخلت" وقال: "معنى: أبخلت: وجدتا بخيلتين بالدمع لغلبة الحزن عليه، أي أنه من شدة حزنه لم يبك، وإنما جمدت عيناه"، فأساء من وجوه: ترك مراجعة الشعر ومعرفته، واجتهد في غير طائل، وأتى بكلام سخيف جدًا! والله المستعان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 * ذكر من قال ذلك: 12286 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وليزيدن كثيًرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، قال: الفرقان= يقول: فلا تحزن. 12287 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فلا تأس على القوم الكافرين"، قال: لا تحزن. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدّقوا الله ورسوله، وهم أهل الإسلام="والذين هادوا"، وهم اليهود (1) = والصابئون"، وقد بينا أمرهم (2) ="والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، فصدّق بالبعث بعد الممات="وعمل"، من العمل="صالحًا" لمعاده"فلا خوف عليهم"، فيما قَدِموا عليه من أهوال القيامة="ولا هم يحزنون"، على ما خلَّفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه. (3) * * *   (1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف ص: 341، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الصابئون" فيما سلف 2: 145- 147. (3) انظر تفسير"عمل صالحًا" فيما سلف 2: 148 (وفهارس اللغة) . = وتفسير"اليوم الآخر"، فيما سلف من فهارس اللغة (أخر) . = وتفسير"لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف 2: 150، وسائر فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 وقد بينا وجه الإعراب فيه فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الإخلاص في توحيدنا، (2) والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عما نهيناهم عنه= وأرسلنا إليهم بذلك رسلا ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل بطاعتنا الجزيلَ من الثواب، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديدَ من العقاب= كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبَّتهم، كذّبوا منهم فريقًا، ويقتلون منهم فريقًا، نقضًا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجرأة علينا وعلى خلاف أمرنا. (3) * * *   (1) انظر ما سلف 3: 352- 354/ ثم انظر الموضع الذي أشار إليه 9: 395- 399. ثم انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 105- 108، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 172، ومشكل القرآن لابن قتيبة: 36- 39. (2) في المطبوعة: "وتوحيدنا"، وفي المخطوطة: "الإخلاص توحيدنا"، وكأن الصواب ما أثبت. (3) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها ما نصه: "يتلوهُ: القول في تأويل قوله: {وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا} وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرًا". ثمّ ما يتلوه نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّر" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 القول في تأويل قوله: {وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) } قال أبو جعفر: يقول تعالى: وظن هؤلاء الإسرائيليون (1) = الذين وصف تعالى ذكره صفتهم: أنه أخذ ميثاقهم: وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا= أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبارٌ بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون (2) ="فعموا وصموا"، يقول: فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم، من إخلاص عبادتي، والانتهاء   (1) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 7: 384، 421. (2) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف ص: 392، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي، بحسبانهم ذلك وظنهم ="وصموا" عنه = ثم تبت عليهم. يقول: ثم هديتهم بلطف مني لهم حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليه من معاصيَّ وخلاف أمري والعمل بما أكرهه منهم، إلى العمل بما أحبه، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي ="ثم عموا وصموا كثير منهم"، (1) يقول: ثم عموا أيضًا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم: من العمل بطاعتي، والانتهاء إلى أمري، واجتناب معاصيَّ ="وصموا كثير منهم"، يقول: عمى كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل، باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي (2) = عن الحق وصموا، بعد توبتي عليهم، واستنقاذي إياهم من الهلكة ="والله بصير بما يعملون"، يقول"بصير"، فيرى أعمالهم خيرَها وشرَّها، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12288 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، الآية، يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاءٌ ="فعموا وصموا"، كلما عرض بلاء ابتلوا به، هلكوا فيه. 12289 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا"، يقول: حسبوا أن لا يبتلوا، فعموا عن الحق وصمُّوا. 12290 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك، عن الحسن:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، قال: بلاء. 12291 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، قال: الشرك. 12292 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا"، قال: اليهود.   (1) انظر تفسير"العمى" و"الصمم"، فيما سلف 1: 328- 331/3: 315. (2) انظر القول في رفع"كثير" في معاني القرآن للفراء 1: 316، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174. (3) انظر تفسير"بصير" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 12293 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فعموا وصموا"، قال: يهود= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: هذه الآية لبني إسرائيل. قال: و"الفتنة"، البلاء والتَّمحيص. * * * القول في تأويل قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فَتَن به الإسرائيلين الذين أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة. يقول تعالى ذكره: فكان مما ابتليتهم واختبرتهم به، فنقضوا فيه ميثاقي، وغيَّروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم بأن لا يعبدوا سواي، ولا يتخذوا ربًّا غيري، وأن يوحِّدوني، وينتهوا إلى طاعتي= عبدي عيسى ابن مريم، فإني خلقته، وأجريت على يده نحوَ الذي أجريت على يد كثير من رسلي، فقالوا كفرًا منهم:"هو الله". (1) وهذا قول اليعقوبيّة من النصارى عليهم غضب الله. يقول الله تعالى ذكره: فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به، أشركوا بي، وقالوا لخلق من خلقي، وعبدٍ مثلهم من عبيدي، وبشر نحوهم معروفٍ نسبه وأصله، مولود من البشر، يدعوهم إلى توحيدي، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي،   (1) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف 10: 146، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 ويقرّ لهم بأني ربه وربهم، وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئًا:"هو إلههم"، جهلا منهم بالله وكفرًا به، ولا ينبغي لله أن يكون والدًا ولا مولودًا. ويعني بقوله:"وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم"، يقول: اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يَذِلّ كل شيء، وله يخضع كل موجود (1) ="ربيّ وربكم"، يقول: مالكي ومالككم، وسيدي وسيدكم، الذي خلقني وإياكم (2) ="إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة"، أن يسكنها في الآخرة="ومأواه النار"، يقول: ومرجعه ومكانه- الذي يأوي إليه ويصير في معاده، من جعل لله شريكًا في عبادته- نارُ جهنم (3) ="وما للظالمين"، يقول: وليس لمن فعل غير ما أباح الله له، وعبد غير الذي له عبادة الخلق (4) ="من أنصار"، ينصرونه يوم القيامة من الله، فينقذونه منه إذا أورده جهنم. (5) * * * القول في تأويل قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) } قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل: أنه لما ابتلاهم بعد حِسْبَانهم أنهم لا يُتبلون ولا يفتنون، قالوا كفرًا بربهم وشركًا:"الله ثالث ثلاثة". * * *   (1) انظر تفسير"العبادة" فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) . (2) انظر تفسير"الرب" فيما سلف 1: 142، ثم فهارس اللغة فيما سلف. (3) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 9: 225، تعليق: 4، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة. (5) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف 9: 339، تعليق 3، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. (1) كانوا فيما بلغنا يقولون:"الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما". * * * يقول الله تعالى ذكره، مكذّبًا لهم فيما قالوا من ذلك:"وما من إله إلا إله واحد"، يقول: ما لكم معبود، أيها الناس، إلا معبود واحد، وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود، بل هو خالق كل والد ومولود="وإن لم ينتهوا عما يقولون"، يقول: إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم:"الله ثالث ثلاثة" (2) ="ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم"، يقول: ليمسن الذين يقولون هذه المقالة، والذين يقولون المقالة الأخرى:"هو المسيح ابن مريم"، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم، (3) ولم يقل:"ليمسنَّهم عذابٌ أليم"، لأن ذلك لو قيل كذلك، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصًّا لقائل القول الثاني، وهم القائلون:"الله ثالث ثلاثة"، ولم يدخل فيهم القائلون:"المسيح هو الله". فعمّ بالوعيد تعالى ذكره كلَّ كافر، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أنّ وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل، ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه. * * * فإن قال قائل: وإن كان الأمر على ما وصفت، فعلى مَنْ عادت"الهاء والميم" اللتان في قوله:"منهم"؟ قيل: على بني إسرائيل. * * *   (1) في المطبوعة: "والملكانية"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف 3: 569/ 6: 14. (3) انظر تفسير"مس" فيما سلف 7: 414، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 فتأويل الكلام، إذْ كان الأمر على ما وصفنا: وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول، ليمسنَّ الذين يقولون منهم:"إن المسيح هو الله"، والذين يقولون:"إن الله ثالث ثلاثة"، وكل كافر سلك سبيلهم= عذابٌ أليم، بكفرهم بالله. (1) * * * وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى. ذكر من قال ذلك: 12294 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة"، قال: قالت النصارى:"هو والمسيح وأمه"، فذلك قول الله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [سورة المائدة: 116] . 12295 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، نحوه. * * * القول في تأويل قوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران (2) = القائل أحدهما:"إن الله هو المسيح ابن مريم"، والآخر القائل:"إن الله ثالث ثلاثة" = عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما، (3) ويسألان   (1) انظر تفسير"عذاب أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . (2) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة (توب) . (3) في المطبوعة: "وقطعا به من كفرهما"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 ربهما المغفرة مما قالا ="والله غفور"، لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم="رحيم" بهم، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك. (1) * * * القول في تأويل قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} قال أبو جعفر: وهذا [خَبَرٌ] من الله تعالى ذكره، (2) احتجاجًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح. يقول= مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم:"هو الله" والآخرين في قيلهم:"هو ابن الله" =: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر، حجةً له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعِبر، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ (3) ="وأمه صِدّيقة"، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ. * * *   (1) انظر تفسير"استغفر" و"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) = وتفسير"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) . (2) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام. (3) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف ص: 480، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 و"الصِدِّيقة""الفِعِّيلة"، من"الصدق"، وكذلك قولهم:"فلان صِدِّيق"،"فِعِّيل" من"الصدق"، ومنه قوله تعالى ذكره: (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ) . [سورة النساء: 70] . (1) وقد قيل إن"أبا بكر الصدّيق" رضي الله عنه إنما قيل له:"الصّدّيق" لصدقه. وقد قيل: إنما سمي"صديقًا"، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة، وعودِه إليها. * * * وقوله:"كانا يأكلان الطعام"، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا. * * * القول في تأويل قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى="الآيات"، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، (2) وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه   (1) انظر تفسير"الصديق" فيما سلف 8: 530- 532. (2) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف (أيي) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 وسلم:"ثم انظر"، يا محمد="أنَّى يؤفكون"، يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ (1) وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟ * * * والعرب تقول لكل مصروف عن شيء:"هو مأفوك عنه". يقال:"قد أفَكت فلانًا عن كذا"، أي: صرفته عنه،"فأنا آفِكه أفْكًا، وهو مأفوك". و"قد أُفِكت الأرض"، إذا صرف عنها المطر. (2) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) } قال أبو جعفر: وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ. يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة= أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم= شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ   (1) المطبوعة: "بينته لهم"، والصواب من المخطوطة، وهي غير منقوطة. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174، 175. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون. * * * وأما قوله:"والله هو السميع العليم" فإنه يعني تعالى ذكره بذلك:"والله هو السميع"، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه="العليم"، بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم. (1) * * *   (1) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) } قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح="يا أهل الكتاب"، يعني بـ"الكتاب"، الإنجيل="لا تغلوا في دينكم"، يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، (1) فتقولوا فيه:"هو الله"، أو:"هو ابنه"، ولكن قولوا:"هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"="ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، يقول: ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا:"هو لغير رَشْدة"، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها   (1) انظر تفسير"غلا" فيما سلف 9: 415- 417. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 بالفرية وهي صدِّيقة = (1) "وأضلوا كثيرًا"، يقول تعالى ذكره: وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح= "وضلوا عن سواء السبيل"، يقول: وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجَّة الحق. (2) وإنما يعني تعالى ذكره بذلك، كفرَهم بالله، وتكذيبَهم رسله: عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وذهابَهم عن الإيمان وبعدَهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12296 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وضلوا عن سواء السبيل"، قال: يهود. 12297 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم="وضلوا عن سواء السبيل"، عن عَدْل السبيل. * * *   (1) المطبوعة: "كما يبهتونها"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة. = وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف ص: 443، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 القول في تأويل قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء النصارى الذين وصفَ تعالى ذكره صفتهم: لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق، ولا تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله، داود وعيسى ابن مريم. (1) * * * وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم، كالذي:- 12298 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" قال: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن. 12299 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، يقول: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود. 12300 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم،   (1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ص: 452، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير"الاعتداء" فيما سلف ص: 447، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم. 12301 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن حصين، عن مجاهد:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، ولُعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازيرَ. 12302 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس، قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل"، بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن= قال ابن جريج: وقال آخرون:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، على عهده، فلعنوا بدعوته. قال: مرَّ داود على نفر منهم وهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير. قال:"اللهم اجعلهم خنازير! " فكانوا خنازير. قال: ثم أصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال:"اللهم العن من افترى عليّ وعلى أمي، واجعلهم قردة خاسئين"! 12303 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" الآية، لعنهم الله على لسان داود في زمانه، فجعلهم قردة خاسئين= وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير. 12304 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا أبو محصن حصين بن نمير، عن حصين= يعني: ابن عبد الرحمن=، عن أبي مالك قال:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، قال: مسخوا على لسان داود قردة، وعلى لسان عيسى خنازير. (1)   (1) الأثر: 12304-"أبو محصن الضرير": "حصين بن نمير الواسطي"، ثقة، ولكن كان يحمل على علي رضي الله عنه، فقال الحاكم: "ليس بالقوي عندهم". مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 12305 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، مثله. 12306 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، (1) فإذا كان من الغدِ لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشَرِيبَه. (2) فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، قال: والذي نفسي بيده، لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يدي المسيء، ولتُؤَطِّرُنَّه على الحقّ أطْرًا، (3) أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم على بعض، وليلعنَّنكم كما لعنهم. (4)   (1) في المطبوعة: "تعزيرًا"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة، وتفسير ابن كثير. و"التعذير": أن يفعل الشيء غير مبالغ في فعله. وتعذير بني إسرائيل: أنهم لم يبالغوا في نهيهم عن المعاصي، وداهنوا العصاة، ولم ينكروا أعمالهم بالمعاصي حق الإنكار، فنهوهم نهيًا قصروا فيه ولم يبالغوا. (2) "الأكيل": الذي يصاحبك في الأكل. و"الشريب": الذي يصاحبك في الشراب. و"الخليط": الذي يخالطك. كل ذلك"فعيل" بمعنى"مفاعل". (3) في المطبوعة: "ولا تواطئونه على الخواطر"، وهو من عجيب الكلام، فضلا عن أنه عبث وتحريف لما كان في المخطوطة!! وكان في المخطوطة: "ولواطونه على الحواطرا"، غير منقوطة، فلعب بها ناشر المطبوعة لعبًا كما شاء. وصواب قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت. وبمثل ذلك سيأتي في الأخبار التالية. إلا أني قرأت المخطوطة: "ولتؤطرنه" (بتشديد الطاء) من قولهم في ماضيه: "أطره" (بتشديد الطاء) أي: عطفه. ورواية الآثار الآتية، ثلاثية الفعل: "حتى تأطروه" من قولهم في الثلاثي: "أطره يأطره أطرًا": وذلك إذا قبض على أحد طرفي العود مثلا، فعطفه عطفًا. (4) الأثر: 12306-"عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي"، ثقة، مضى برقم: 221، 875. و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي"، ثقة مأمون، مضى برقم: 3789. و"عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي"، روى عنه أبيه، وعن محمد بن سوقة، وعاصم ابن بهدلة. و"سالم الأفطس"، هو: "سالم بن عجلان الجزري الحراني"، روى عنه عمرو بن مرة. وهو من أقرانه. وذكر الحافظ في التهذيب: "ويقال: عبد الله بن عمرو بن مرة". ويمثل هذا الإسناد من رواية المحاربي = أي: "عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس"، رواه أبو داود في سننه 4: 172، وابن أبي حاتم في تفسيره، فيما نقله ابن كثير في تفسيره 3: 205، وعقب عليه بقوله: "ورواه خالد الطحان = هو: خالد بن عبد الله الواسطي = عن العلاء، عن عمرو بن مرة"، ورواه قبله برقم: 4337، من طريق خلف بن هشام، عن أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس". فالذي هنا هو رواية المحاربي، لا شك أنها: "عبد الله بن عمرو بن مرة"، وكأنه خطأ من المحاربي، فسائر الرواة على أنه"عن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس". و"عمرو بن مرة المرادي الجملي"، "أبو عبد الله الأعمى"، ثقة صدوق. وهو يروي عن أبي عبيدة مباشرة، فرواه هنا عن أحد أقرانه"سالم الأفطس"، عن أبي عبيدة"، ورواه خالد الطحان، عن العلاء، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة مباشرة، دون واسطة"سالم الأفطس". وهذا إسناد ضعيف على كل حال، لانقطاعه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 12307 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما فشا المنكر في بني إسرائيل، جعل الرجل يلقَى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم أنزل فيهم كتابًا:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَّكئًا، فجلس وقال: كلا والذى نفسي بيده، حتى تأطِرُوا الظالم على الحق أطْرًا". (1)   (1) الأثر: 12307- خبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، رواه أبو جعفر من خمس طرق. سيأتي تخريجها مفصلا، ثم انظر آخرها رقم: 12311. "الحكم بن بشير بن سلمان النهدي"، ثقة مضى برقم: 1497، 2872، 3014، 6171، 9646. وكان في المطبوعة هنا: "ابن سليمان"، وهو خطأ مر مثله. و"عمرو بن قيس الملائي"، مضى برقم: 886، 1497، 3956، 6171، 9646. و"علي بن بذيمة الجزري"، ثقة، مضى برقم: 629. وهذا الخبر، لم أجده بهذا الإسناد إلى علي بن بذيمة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 12308 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر، جعل الرجل يرى أخاه وجارَه وصاحبَه على المنكر، فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشَرِيبَه ونديمه، فضرب الله قلوبَ بعضهم على بعض، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، إلى"فاسقون"، قال عبد الله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا، فاستوى جالسًا، فغضب وقال: لا والله، حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطِرُوه على الحق أطرًا. (1) 12309 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقصُ، كان الرجل يرى أخاه على الرَّيْبِ فينهاه عنه، فإذا كان الغدُ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال:"لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" حتى بلغ"ولكن كثيًرا منهم فاسقون"،   (1) الأثر: 1308-"مؤمل بن إسمعيل العدوي"، ثقة، مضى برقم: 2057، 3337، 5728، 8356، 8367. و"سفيان" هو الثوري. وطريق سفيان، عن علي بن بذيمة، يأتي أيضا برقم: 12309، 12311، مرسلا، "عن أبي عبيدة قال قال رسول الله"، ليس فيه ذكر"عبد الله بن مسعود". وهو المعروف من رواية سفيان. روى الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) : "قال عبد الله بن عبد الرحمن، قال يزيد بن هرون: وكان سفيان الثوري لا يقول فيه: "عبد الله" يعني أنه مرسل من خبر أبي عبيدة. فأفادنا الطبري هنا أن سفيان الثوري، رواه مرة أخرى، "عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله"، فلم يذكر"عبد الله" فحسب، بل شك في أن أبا عبيدة رواه عن مسروق عن عبد الله، فإذا صح ظن سفيان هذا، فإن حديث صحيح الإسناد، غير منقطع ولا مرسل. ولم أجد هذه الرواية بهذا الإسناد في مكان آخر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، وقال: لا حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا. (1) 12310 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود= قال: أملاه عليَّ= قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. (2) 12311 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، على علي بن بذيمة قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه= غير أنهما قالا في حديثهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فاستوى جالسًا، ثم قال: كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا". (3)   (1) الأثر: 12209- وهذا الإسناد الثالث من أسانيد خبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، والثاني من خبر سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، رواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق محمد بن بشار، بمثله. ورواه ابن ماجه رقم: 4006 أيضا، بمثله. (2) الأثر: 12310-"محمد بن أبي الوضاح" منسوب إلى جده، وهو: "محمد بن مسلم ابن أبي الوضاح القضاعي". روى عنه أبو داود الطيالسي. ثقة مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر بهذا الإسناد، رواه الترمذي في السنن في (كتاب التفسير) ، وابن ماجه في السنن، تابع رقم: 4006، بمثله. (3) الأثر: 12311- هذا هو الإسناد الثالث من أسانيد"سفيان، عن علي بن بذيمة". وهو خبر مرسل. وخبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، روى من طرق أخرى. رواه أحمد في المسند رقم: 3713، من طريق يزيد بن هرون، عن شريك بن عبد الله، عن علي بن بذيمة، بلفظ آخر مثله. ورواه الترمذي في (كتاب التفسير) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن، عن يزيد بن هرون، بمثل رواية أحمد. ورواه أبو داود في سننه 4: 172، رقم: 4336، من طريق عبد الله بن محمد النفيلي، عن يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، بمثله، بلفظ آخر. وهذه الآثار كلها، من منقطعة أو مرسلة، ولم يوصل الخبر إلا في الإسناد رقم: 12308. وقال الترمذي بعد روايته: "هذا حديث حسن غريب". انظر تفسير ابن كثير 3: 205، 206، والدر المنثور 2: 300. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 12312 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال فقال: لعنوا في الإنجيل وفي الزبور= وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ رَحَى الإيمان قد دارت، فدُوروا مع القرآن حيث دار [*فإنه ... قد فرغ الله مما افترض فيه] . (1) [وإن ابن مرح] كان أمة من بني إسرائيل، (2) كانوا أهل عدل، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأخذه قومهم فنشروهم بالمناشير، وصلبوهم على الخشب، وبقيت منهم بقية، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم، (3) فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة. فذلك قول الله تعالى:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" إلى:"ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، ماذا كانت معصيتهم؟ قال:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون". * * * فتأويل الكلام إذًا: لَعَن الله الذين كفروا= من اليهود= بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم، ولُعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، بما عصوا الله فخالفوا أمره="وكانوا يعتدون"، يقول: وكانوا يتجاوزون حدودَه. (4) * * *   (1) كان في المطبوعة: " ... حيث دار، فإنه قد فرغ الله مما افترض فيه"، ساق الكلام سياقًا واحدًا بعد تغييره، والذي في المخطوطة هو ما أثبته، وبين الكلامين بياض بقدر كلمة أو كلمتين، وضعت مكانهما نقطًا، تركته حتى يعثر على الخبر فيتمه وجدانه. (2) وهذا الذي بين القوسين، هو الثابت في المخطوطة، ولا أدري ما هو، ولكن ناشر المطبوعة الأولى جعل الكلام هكذا: "وإنه كانت أمة من بني إسرائيل"، فرأيت أن أثبت ما في المخطوطة على حاله، حتى إذا وجد الخبر في مكان آخر صحح. وكان هذا والذي قبله في المخطوطة في سطر واحد، وأمام السطر حرف (ط) بالأحمر دلالة على الخطأ. (3) هكذا في المطبوعة والمخطوطة"فلم يرضوا" و"ثم لم يرضوا" في الموضعين، وأنا في شك منها، وأرجح أنها: "فلم يريموا"، و"ثم لم يريموا"، أي: لم يلبثوا. (4) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف قريبا ص: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 القول في تأويل قوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله="لا يتناهون"، يقول: لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضًا. (1) ويعني بـ"المنكر"، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. (2) * * * فتأويل الكلام: كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه="لبئس ما كانوا يفعلون". وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول: أقسم: لبئس الفعل كانوا يفعلون، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره، وركوب محارمه، وقتل أنبياء الله ورسله، (3) كما:- 12313 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر. * * * القول في تأويل قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"ترى"، يا محمد، كثيرًا من بني إسرائيل="يتولون الذين كفروا"، يقول: يتولون المشركين من عَبَدة الأوثان،   (1) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف قريبًا ص: 482، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف 7: 91، 105، 130. (3) انظر تفسير"بئس" فيما سلف 2: 338، 393/ 3: 56/ 7: 459. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 ويعادون أولياء الله ورسله (1) ="لبئس ما قدمت لهم أنفسهم"، يقول تعالى ذكره: أُقسم: لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة (2) ="أنْ سخط الله عليهم"، يقول: قدّمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا. * * * و"أن" في قوله:"أنْ سخط الله عليهم"، في موضع رفع، ترجمةً عن"ما"، الذي في قوله:"لبئس ما". (3) * * * ="وفي العذاب هم خالدون"، يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة="هم خالدون"، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه. (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل="يؤمنون بالله والنبي"، يقول: يصدِّقون الله ويقرُّون به ويوحِّدونه، ويصدقون نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل="وما أنزل إليه"، يقول: ويقرُّون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان= "ما اتخذوهم أولياء"، يقول: ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين (5) ="ولكن كثيرًا منهم فاسقون"، يقول: ولكن كثيرًا منهم أهل خروج   (1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . (2) انظر تفسير"قدم" فيما سلف 2: 368/7: 447/8: 514. (3) "الترجمة": البدل، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات. (4) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (5) انظر تفسير"الأولياء" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 عن طاعة الله إلى معصيته، وأهلُ استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل. (1) * * * وكان مجاهد يقول في ذلك بما:- 12314 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء"، قال: المنافقون. * * * القول في تأويل قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم: لتجدن، يا محمد، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام="اليهودَ والذين اشركوا"، يعني: عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله="ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، يقول: ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة. * * * و"المودة""المفعلة"، من قول الرجل:"ودِدْت كذا أودُّه وُدًّا، ووِدًّا، ووَدًّا ومودة"، إذا أحببته. (2) * * * ="للذين آمنوا"، يقول: للذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ="الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"،   (1) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) . (2) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470/5: 542/6: 500/8: 371/9: 17 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 عن قبول الحق واتباعه والإذعان به. * * * وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وقيل: إنها نزلت في النجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه. ذكر من قال ذلك: 12315 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. قال: فأنزل الله تعالى فيهم:"لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا"، إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلمًا حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخاكم النجاشيَّ قد مات، فصلُّوا عليه! فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنجاشي ثَمَّ. 12316 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة. 12317 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبي طالب، وابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 مسعود وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ، فقالوا، إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبيُّ! وإنه بعث إليك رهطًا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمُّوا بابَ النجاشي، (1) فقالوا: استأذن لأولياء الله! (2) فقال، ائذن لهم، فمرحبًا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلَّموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيَّتك التي تحيَّا بها! فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا: إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول:"هو عبد الله، وكلمةٌ من الله ألقاها إلى مريم، وروح منه"، ويقول في مريم:"إنها العذراء البتول". قال: فأخذ عودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم! قال: اقرأوا! فقرأوا، وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى، فعرفت كلَّ ما قرأوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" الآية. 12318 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، الآية. قال: بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى   (1) في المطبوعة: "فأقاموا بباب النجاشي"، والصواب المحض من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فقالوا: أتأذن"، والصواب من المخطوطة. يعني: قالوا لحاجب باب النجاشي، ولذلك جاء الجواب: "فقال: ائذن لهم". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 عشر رجلا من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهبانًا، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بَكَوْا وآمنوا، فأنزل الله عليه فيهم:"وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشيّ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له. 12319 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء في قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" الآية، هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين. * * * وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم آمنوا به. ذكر من قال ذلك: 12320 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، فقرأ حتى بلغ:"فاكتبنا مع الشاهدين"، أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى، يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، صدَّقوا به وآمنوا به، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق، فأثنى عليهم ما تسمعون. * * * قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندي: أنّ الله تعالى وصف صفة قوم قالوا:"إنا نصارى"، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقربَ الناس وِدادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمِّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحابُ النجاشي= ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه. * * * وأما قوله تعالى:"ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا"، فإنه يقول: قَرُبت مودَّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين، من أجل أنّ منهم قسيسين ورهبانًا. * * * و"القسيسون" جمع"قسيس". وقد يجمع"القسيس"،"قسوسًا"، (1) لأن"القَسّ" و"القسيس"، بمعنى واحد. * * * وكان ابن زيد يقول في"القسيس" بما:- 12321 - حدثنا يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"القسيس"، عبَّادُهم. (2) * * * وأما الرهبان، فإنه يكون واحدًا وجمعًا. فأما إذا كان جمعًا، فإن واحدهم يكون"راهبًا"، ويكون"الراهب"، حينئذ"فاعلا" من قول القائل:"رَهب الله فلان"، بمعنى خافه،"يرهبه رَهَبًا ورَهْبَا"، ثم يجمع"الراهب"،"رهبان" مثل"راكب" و"ركبان"، و"فارس" و"فرسان". ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشاعر: (3) رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنزلُوا ... والْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعَقُولِ الفَادِرِ (4)   (1) في المطبوعة: "قسوس"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "القسيسين"، بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب، ولا بأس هنا بشرح المفرد بالجمع. (3) هو جرير، ونسبه ياقوت في معجم البلدان لكثير عزة، وأدخله في شعره جامع ديوانه ص: 240، والصواب أنه لجرير. (4) ديوانه: 305، وسيأتي في التفسير 20: 34 (بولاق) وديوان كثير 1: 240، واللسان (رهب) ومعجم البلدان (مدين) ، من قصيدة هجا فيها الأخطل والفرزدق، يقول قبله: يَا أُمَّ طَلْحَةَ، مَا لَقِينَا مِثْلكُمْ ... فِي الْمُنْجِدِينَ ولا بغَوْرِ الغَائِرِ و"مدين" مدينه شعيب عليه السلام، على بحر القلزم، تجاه تبوك، بين المدينة والشام، ذكرها كثير أيضًا في شعره فقال: اللهُ يَعْلَمُ لَوْ أَرَدْتُ زِيَادَةً ... في حُبِّ عَزَّةَ ما وجدْتُ مَزِيدَا رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَر العَذَابِ قُعُودَا لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا و"العقول" عندي بفتح العين، من قولهم: "عقل الوعل يعقل عقولا"، امتنع برأس الجبل، فهو"عاقل" وبذلك سمي، والقياس يقبل أيضًا"فهو عقول" (بفتح العين) . وفي الديوان، ضبط بالقلم"العقول" (بضم العين) ، جمع"عقل" (بفتح فسكون) : وهو المعقل والحصن. ولست أرضى ذلك هنا، وروى صاحب المعجم"والعصم في شعف الجبال"، وهي موافقة في المعنى لمن ضبط"العقول" بضم العين، وأرجح أن صواب إنشاده في المعجم"من شعف الجبال". و"الشعف" جمع"شعفة" (بفتحتين) : وهي رأس الجبل. و"الفادر": الوعل العاقل الممتنع في رأس الجبل، وهو حينئذ مسن معتقل في رأس جبله. و"العصم" جمع"أعصم": وهو الوعل. سمى بالصفة الغالبة، لأن في إحدى يديه بياضًا. وذلك أن"العصم" و"العصمة": البياض في الذراعين أو إحداهما. ولما كان"العصم" جمعًا، أنفت أن أجعل"الفادر" من صفته، لو قرئ"العقول" (بضم العين) بمعنى: الحصون والملاجئ، بل جعلتها بفتح العين، بمعنى أن العصم غير المسنة تنزلت أيضا من المعقل الذي يعقل إليه مسن الوعول امتناعًا من الصيد، لقلة احتفاله بمفارقة معقله، كاحتفال شواب الوعول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 وقد يكون"الرهبان" واحدًا. وإذا كان واحدًا كان جمعه"رهابين" مثل"قربان" و"قرابين"، و"جُرْدان". و"جرادين". (1) ويجوز جمعه أيضًا"رهابنة" إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر: (2) لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في الْقُلَلْ ... لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَمْشِي وَنزل (3) * * *   (1) "الجردان": ما يستحى من ذكره من الإنسان وغيره. (2) لم أعرف هذا الراجز. (3) تفسير القرطبي 6: 258، مع اختلاف شديد في الرواية."عاين الشيء معاينة وعيانًا": نظر إليه بعينيه مواجهة. ومنه قيل: "رأيت فلانًا عيانًا" أي: مواجهة. وحق شرح هذا اللفظ هنا أن يقال: لو رمتهم بعينيها مواجهة. و"القلل": جمع"قلة": وهي رأس الجبل، وإنما عنى بذلك صوامع الرهبان في الجبال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا". فقال بعضهم: عُني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتَّبعوه على شريعته. ذكر من قال ذلك: 12321م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: كانوا نَوَاتِيَّ في البحر= يعني: ملاحين (1) = قال: فمر بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه: قال: فذلك قوله:"قسيسين ورهبانًا". * * * وقال آخرون: بل عني بذلك، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: 12322 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عمن حدثه، عن أبي صالح في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: ستة وستون، أو سبعة وستون، أو ثمان وستون، (2) من الحبشة، كلهم   (1) في ابن الأثير ثم في لسان العرب"كانوا نَوَّاتِين، أي ملاحين- تفسيره في الحديث" وكذلك نقله عنهما صاحب تاج العروس. وأنا أخشى أن يكون خطأ من النساخ، وأن صوابه"كانوا نواتى، أي ملاحين"، كما جاء هنا وفي المخطوطة أيضا. ولم أجد أحدًا ذكره كذلك: "نواتا" (بفتح النون وتشديد الواو) ، ولو كان كذلك لتعرض له أصحاب اللغة، ولكنهم لم يذكروه إلا فيما نقلوه عن ابن الأثير، وواحد"النواتى" (بفتح النون والواو المفتوحة غير المشددة) "نوتى" (بضم النون، آخره ياء مشددة) . والذي في مخطوطة الطبري يرجح أن الذي كتبه ابن الأثير، خطأ، أو سهو في قراءة الحرف. وابن الأثير وحده، لا يحتج برواية كتابه غير مقيدة مضبوطة بإسنادها ومصدرها. ثم وجدته بعد أن كتبت هذا، في مجمع الزوائد 7: 17، كما جاء في ابن الأثير واللسان: "نواتين، يعني ملاحين". وذكر هناك الخبر بطوله، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه العباس بن الفضل الأنصاري، وهو ضعيف". وهو إسناد غير إسناد أبي جعفر بلا شك، وانظر ابن كثير 3: 212، 213. (2) هكذا في المطبوعة: "أو اثنان وستون"، وفي المخطوطة: "اثنان وستون" بغير "أو"، وغير منقوطة، فأرجح أن صواب قراءتها: "أو ثمان وستون" ... وهو الذي يدل عليه السياق، ولذلك أثبتها كذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 صاحب صَوْمعة، عليهم ثيابُ الصوف. 12323 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: بعث النجاشيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء! 12324 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: هم رُسُل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخيِّرَ فالخيِّرَ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [سورة يس: 1، 2] ، فبكوا وعرفوا الحق، فأنزل الله فيهم:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"، وأنزل فيهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) [سورة القصص: 53، 54] . * * * قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهلَ اجتهاد في العبادة، وترهُّب في الديارات والصوامع، (1) وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه، لأنهم   (1) في المطبوعة: "وترهيب"، وفي المخطوطة: "وترهب" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، فإنه لا يقال: "رهب ترهيبًا"، وإنما يقال: "ترهب ترهبًا"، إذا صار راهبًا يخشى الله، ويتعبد في صومعته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريفِ تنزيله الذي أنزله في كتبه. (1) * * *   (1) قال الجصاص في أحكام القرآن 2: 451: "ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحًا للنصارى، وإخبارًا بأنهم خير من اليهود. وليس ذلك كذلك، لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول. يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة، من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله والرسول. ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين، أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة، وأظهر فسادًا من مقالة اليهود. لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة، وإن كان فيها مشبهة تنقض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه". ونقل هذا: أبو حيان في تفسيره (4: 4، 5) ، ثم قال: "والظاهر ما قاله المفسرون وغيرهم من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود. وقد ذكر المفسرون فيما تقدم، ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعًا. وليس الكلام واردا بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين. وأما قوله: "لأن ما في الآية من ذلك، إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول"، ليس كما ذكر، بل صدر الآية يقتضي العموم، لأنه قال: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهادًا متواضعين، وسريعي استجابة للإسلام، وكثيري بكاء عند سماع القرآن. واليهود بخلاف ذلك. والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين، وبعد اليهود". وهذا كلام فيه نظر يطول، ليس هذا موضع تفصيله، وإنما نقلته لك لتتأمله وتتدبره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 القول في تأويل قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا:"إنا نَصَارى" = الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا= (1) ما أنزل إليك من الكتاب يُتْلى="ترى أعينهم تفيض من الدمع". * * *   (1) سياق الكلام: "إذا سمع هؤلاء ... ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"، وما بين الفعل ومفعوله فصل طويل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 و"فيض العين من الدمع"، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى: ففَاضَتْ دُمُوعِي، فَظَلَّ الشُّئُونُ: ... إمَّا وَكِيفًا، وَإِمَّا انْحِدَارَا (1) وقوله:"مما عرفوا من الحق"، يقول: فيض دموعهم، لمعرفتهم بأنّ الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌّ، كما:- 12325 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال: بعث النجاشي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة   (1) ديوانه: 35. من قصيدته في قيس بن معد يكرب الكندي، وقبل البيت، وهو أولها: أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا ... وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أن تُزَارَا وَبَانَتْ بِهَا غَرَبَاتُ النَّوَى ... وَبُدِّلْتُ شَوْقًا بِهَا وَادِّكَارَا فَفَاضَتْ دْمُوعِي ........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كَمَا أَسْلَمَ السِّلْكُ مِنْ نَظْمِهِ ... لآلِئَ مُنْحَدِرَاتٍ صِغَارَا وكان البيت في المخطوطة والمطبوعة: "ففاضت دموعي فطل الشئون داما حدارًا"، وهو خطأ محض."والشئون" جمع"شأن"، وهو مجرى الدمع إلى العين، وهي عروقها. ورواية الديوان: "كفيض الغروب"، و"الغروب" جمع"غرب" (بفتح فسكون) ، وهو الدلو الكبير الذي يستقى به على السانية. وقوله: "فظل" بالظاء المعجمة، لا بالطاء. وقد أفسد وأخطأ من جعله بالطاء المهملة، وشرحه على ذلك. وهو غث جدًا. و"الوكيف": أن يسيل الدمع قليلا قليلا، إنما يقطر قطرًا."وكف الدمع يكف وكفًا ووكيفًا". وأما "انحدار الدمع"، فهو سيلانه متتابعا، كما ينصب الماء من حدور. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 قسيسين (1) = أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين (2) = فأنزل الله فيهم:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع"، إلى آخر الآية. 12326 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال، سمعت هشام بن عروة يحدث، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت في النجاشي وأصحابه:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع". (3) 12327 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:"ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق"، قال: ذلك في النجاشي. 12328 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنزلت في النجاشي:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع". 12329 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن الآيات:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع" الآية، وقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [سورة الفرقان: 63] . قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "وخمسة قسيسون"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (2) في المخطوطة: "أو سبعة" دون ذكر"قسيسين"، ولكنها زيادة لا غنى عنها. وصوابها أيضا"وسبعة" بالواو. (3) الأثر: 12326-"عمر بن علي بن مقدم"، هو: "عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي". ثقة، ولكنه كان يدلس. قال ابن سعد: "كان ثقة، وكان يدلس تدليسًا شديدا، يقول: سمعت، وحدثنا، ثم يسكت فيقول: هشام بن عروة، والأعمش. وقال: كان رجلا صالحًا، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس، وأما غير ذلك فلا، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا". مترجم في التهذيب. (4) الأثر: 12329- سيرة ابن هشام 2: 33، ولكن ليس فيه ذكر آية سورة الفرقان التي ذكرها أبو جعفر في هذه الرواية عن ابن إسحق. ثم إن أبا جعفر لم يذكر هذا الخبر في تفسير الآية من سورة الفرقان 19: 21، 22 (بولاق) ، ولا أشار إلى أنها نزلت في أحد، لا النساشي وأصحابه ولا غيرهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 وأما قوله:"يقولون"، فإنه لو كان بلفظ اسم، كان نصبًا على الحال، لأن معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين:"ربنا آمنا". * * * ويعني بقوله تعالى ذكره:"يقولون ربنا آمنا"، أنهم يقولون: يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه. * * * وأما قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما:- 12330 - حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن نمير= جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"اكتبنا مع الشاهدين"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 12331 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فاكتبنا مع الشاهدين"، مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. 12332 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يعنون بـ"الشاهدين"، محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّته. 12333 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 12334 - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا يحيى بن زكريا قال، حدثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز= غير أنه قال: وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا. (1) * * * قال أبو جعفر: فكأنّ متأوِّل هذا التأويل، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة: 143] . فذهب ابن عباس إلى أن"الشاهدين"، هم"الشهداء" في قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (2) * * * وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام:"يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك. * * * ولو قال قائل: معنى ذلك:"فاكتبتا مع الشاهدين"، الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق= كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده   (1) الآثار: 12330- 12334- رواه الحاكم في المستدرك 2: 313، من طريق يحيى بن آدم عن إسرائيل، بمثله، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 18، وقال: "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف"، ولكن هذه أسانيد صحاح، رواها الطبري وغيره. (2) انظر ما سلف من تفسير آية سورة البقرة 3: 141- 155. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 شهادتهم بذلك، ويُلْحقهم في الثوابِ والجزاء منازلَهُم. ومعنى"الكتاب،" في هذا الموضع: الجَعْل. (1) * * * يقول: فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عِدَادهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) } قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله، وقالوا:"ما لنا لا نؤمن بالله"، يقول: لا نقرّ بوحدانية الله="وما جاءَنا من الحق"، يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله، ونحن نطمَعُ بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين. * * * يعني بـ"القوم الصالحين"، المؤمنين بالله، المطيعين له، الذين استحقُّوا من الله الجنة بطاعتهم إياه. (2) وإنما معنى ذلك: ونحن نطمعُ أن يدخلَنا ربُّنا مع أهل طاعته مداخلَهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلَنا بمنازلهم، ودرجاتنا بدرجاتهم في جنَّاته. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12335 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال   (1) انظر تفسير"الكتاب" فيما سلف من فهارس اللغة، (كتب) . (2) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 8: 532، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 ابن زيد في قوله:"وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين"، قال:"القومُ الصالحون"، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه. * * * القول في تأويل قوله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزاهم الله بقولهم:"ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءَنا من الحق ونطمع أن يدخلَنا ربَّنا مع القوم الصالحين"= "جنات تجري من تحتها الأنهار"، يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار="خالدين فيها"، يقول: دائمًا فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحوَّلون عنها= "وذلك جزاء المحسنين"، يقول: وهذا الذي جَزَيتُ هؤلاء القائلين بما وصفتُ عنهم من قيلهم على ما قالوا، من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاءُ كل محسنٍ في قِيله وفِعله. * * * و"إحسان المحسن" في ذلك، أن يوحِّد الله توحيدًا خالصًا محضًا لا شرك فيه، ويقرّ بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب، ويؤدِّي فرائضَه، ويجتنب معاصيه. (1) فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره:"جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها". (2) * * *   (1) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف 8: 334، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) أخشى أن يكون صواب العبارة: "الذين قال الله تعالى ذكره أنه أثابهم بما قالوا جنات ... "، ولكني تركت ما في المخطوطة والمطبوعة على حاله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين جَحَدوا توحيدَ الله، وأنكروا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بآيات كتابه، فإن أولئك"أصحاب الجحيم". يقول: هم سكّانها واللابثون فيها. (1) * * * و"الجحيم": ما اشتدّ حرُّه من النار، وهو"الجَاحِم""والجحيم". (2) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله="لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم"، يعني بـ"الطيبات"، اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، (3) فتمنعوها إيّاها، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبس في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، وساحَ في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون، كما فعل أولئك، ولا تعتدُوا حدَّ الله الذي حدَّ لكم فيما أحلَّ لكم وفيما حرم عليكم،   (1) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف ص: 217، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الجحيم" فيما سلف 2: 562. (3) انظر تفسير"الطيبات" فيما سلف ص: 84، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 فتجاوزوا حدَّه الذي حدَّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحبُّ من اعتدى حدَّه الذي حدّه لخلقه، فيما أحل لهم وحرَّم عليهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12336 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا عبثر أبو زبيد قال، حدثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحل الله لكم" الآية، قال: عثمان بن مظعون وأناسٌ من المسلمين، حرَّموا عليهم النساءَ، وامتنعوا من الطَّعام الطيّب، وأراد بعضهم أن يقطع ذَكَره، فنزلت هذه الآية. (1) 12337 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني خالد الحذاء، عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم همُّوا بالخصاء وتَرْك اللحم والنساء، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين". 12338 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة: أن رجالا أرادوا كذا وكذا، وأرادوا كذا وكذا، وأن يختَصُوا، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلَّ الله لكم" إلى قوله:"الذي أنتم به مؤمنون". 12339 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيِّبات ما أحل الله لكم"، قال: كانوا حَرَّموا   (1) الأثر: 12336-"أبو حصين": "عبد الله بن أحمد بن يونس" هو: "عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي"، شيخ الطبري، روى عن أبيه، وروى هو وأبوه عن عبثر بن القاسم. روى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم، وغيرهم، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب. و"عبثر بن القاسم الزبيدي"، "أبو زبيد". ثقة صدوق. وقال ابن معين: "ثقة سنيّ". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/94، وابن أبي حاتم 3/2/ 43. وكان في المخطوطة وحدها: "عبثر بن زبيدة"، وهو خطأ محض. و"حصين"، هو"حصين بن عبد الرحمن السلمي"، مضى برقم: 579، 2986. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 الطيِّب واللحمَ، فأنزل الله تعالى هذا فيهم. 12340 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا خالد، عن عكرمة: أن أناسًا قالوا:"لا نتزوَّج، ولا نأكل، ولا نفعل كذا وكذا"! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيِّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين". 12341 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفُضُوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهَّبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغَلَّظ فيهم المقالة، ثم قال: إنما هَلَك من كان قبلكم بالتشديد، شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فأولئك بقايَاهم في الدِّيار والصوامع! (1) اعبدُوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وحجُّوا، واعتمروا، واستقيموا يَسْتَقِم لكم. قال: ونزلت فيهم:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية. 12342 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يتخلَّوا من الدُّنيا، (2) ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون. 12343 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا آمرُكم أن تكونُوا قسِّيسين ورهبانًا".   (1) "الديار" جمع"دير"، والذي ذكره أصحاب معاجم اللغة أن جمعه"أديار"، واقتصروا على هذا الجمع، وذكر ياقوت في معجم البلدان (دير) ، جموعًا كثيرًا، ليس هذا منها، ولكنه نقل أن الجوهري قال: "دير النصارى أصله الدار" فإن كان ذلك كذلك، فجمعه على"ديار" لا شك في صحته وقياسه. وانظر"الدور" أيضا في الأثر رقم: 12344. ص: 516، تعليق: 2. (2) في المطبوعة: "أن يتخلوا من اللباس"، وهو كلام ملفق، وفي المخطوطة: "ويتحلوا من اللبسا"، غير مبينة، صوابها ما أثبت من الدر المنثور 2: 308. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 12344 - حدثنا بشر بن مُعاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية، ذكر لنا أنّ رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رَفَضوا النساء واللحم، وأرادوا أن يتّخذوا الصوامع. فلما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس في ديني تركُ النساء واللحم، ولا اتِّخاذُ الصوامع= وخُبِّرنا أن ثلاثة نفرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّفقوا، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم: أمَّا أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ألم أُنَبَّأْ أنكم اتّفقتم على كذا؟ قالوا: بلى! يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير! قال: لكني أقومُ وأنامَ، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي= وكان في بعض القراءة: (من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل) . (1) وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناسٍ من أصحابه: إن مَنْ قبلكم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فهؤلاء إخوانهم في الدُّورِ والصوامع! (2) اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وحُجُّوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم. (3)   (1) في المطبوعة: "عن سواء السبيل"، بزيادة"عن"، وليست في المخطوطة. (2) "الدور"، يعني جمع"دير"، وقد ذكرت القول فيه في ص: 515، تعليق: 1. (3) الأثر: 12344-"بشر بن معاذ العقدي" مضى برقم: 352، 2616. أما "جامع بن حماد"، فلم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع. وهذه أول مرة يأتي إسناد بشر بن معاذ في روايته عن يزيد بن زريع بواسطة"جامع بن حماد". أما إسناد: "بشر بن معاذ، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة" فهو إسناد دار في التفسير من أوله إلى هذا الموضع، برواية"بشر بن معاذ" عن"يزيد بن زريع" مباشرة. وسيأتي هذا الإسناد الجديد بعد هذا مرارا، برقم: 12367، 12423، 12507، 12524. وفي هذا الإسناد الأخير، نص صريح على أنه روى الخبر مرة بواسطة"جامع بن حماد" هذا، ثم رواه مرة أخرى عن"يزيد بن زيع" مباشرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 12345 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التَّخويف. فقال أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما خِفْنا إن لم نُحْدِث عملا! (1) فإنّ النصارى قد حرَّموا على أنفسهم، فنحن نحرِّم! فحرَّم بعضهم أكل اللَّحم والوَدَك، وأن يأكل بالنهار، (2) وحرَّم بعضهم النوم، وحرَّم بعضهم النساء. فكان عثمان بن مظعون ممَّن حرم النساءَ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأتُه عائشةَ، وكان يقال لها:"الحولاء"، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بالُك، يا حولاءُ متغيِّرةَ اللون لا تمتشِطين ولا تطيَّبين؟ فقالت: وكيف أتطيَّب وأمتشط، وما وقع عليّ زوجي، ولا رفع عني ثوبًا، منذ كذا وكذا! فجعلن يَضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت: يا رسول الله، الحولاءُ، سألتها عن أمرها فقالت:"ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا"! فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلَّى للعبادة! وقَصَّ عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمتُ عليك إلا رجعت فواقعتَ أهلك! فقال: يا رسول الله إني صائم! قال: أفطر! فأفطر، وأتى أهله. فرجعت الحولاءُ إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيَّبت. فضحكت عائشة، فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) في المطبوعة: "ما حقنا"، وفي المخطوطة: "ما حفنا"، وصواب قراءته ما أثبت. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم عقاب الله، فقالوا: لم نبلغ من الخوف مبلغًا يرضاه ربنا، إن لم نعمل عملا يدل على شدة المخافة. (2) "الودك" (بفتحتين) : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 ما بالُ أقوامٍ حرَّموا النساء، والطعامَ، والنومَ؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني! فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا"، يقول لعثمان: لا تَجُبَّ نفسك. فإن هذا هو الاعتداء= وأمرهم أن يكفِّروا أيْمانهم، فقال:"لا يؤاخذكم الله باللَّغو في أيمانكم ولكن يُؤَاخذكم بما عقّدتم الأيمان". 12346 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: هم رهطٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطَعُ مذاكيرَنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأرسل، إليهم، فذكر ذلك لهم فقالوا: نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلِّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مِني. 12347 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، وذلك أن رجالا من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، وأخذوا الشِّفَار ليقطعوا مذاكيرهم، لكي تنقطع الشهوة ويتفرَّغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما أردتم؟ فقالوا: أردنا أن تنقطع الشهوة عنا، (1) ونتفرغ لعبادة ربنا، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أومر بذلك، ولكني أمرت في ديني أن أتزوَّج النساء! فقالوا، نطيعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"، إلى قوله:"الذي أنتم به مؤمنون".   (1) في المطبوعة: "أن نقطع"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 12348 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أراد رجالٌ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، أن يتبتَّلوا، ويخصُوا أنفسهم، ويلبسوا المُسُوح، (1) فنزلت هذه الآية إلى قوله:"واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"= قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابٍ، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزَلوا النساءَ، ولبسوا المسوحَ، وحرَّموا طيبات الطعام واللِّباس إلا ما أكل ولبس أهل السِّيَاحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالإخصَاء، (2) وأجمعُوا لقيام الليلِ وصيام النهار، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، يقول: لا تَسِيروا بغير سُنّة المسلمين، (3) يريد: ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيامِ الليل، وما همُّوا به من الإخصاء. (4) فلما نزلت فيهم، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ لأنفسكم حقًّا، وإنَّ لأعيُنِكم حقًّا! صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منا من ترك سُنَّتنا! فقالوا: اللهم أسلمنا واتَّبعنا ما أنزلت! 12349 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال، قال أبي: ضَافَ عبدَ الله بن رواحة ضيفٌ، فانقلبَ ابن رواحة ولم يتعشَّ، فقال   (1) "المسوح" جمع"مسح" (بكسر فسكون) : وهو كساء من شعر يلبسه الرهبان. (2) "الإخصاء"، يعني الخصاء، وانظر ما كتبته آنفا في 9: 215، تعليق: 1، وإنكار أهل اللغة لها، وإتيانها في آثار كبيرة، يضم إليها هذا الأثر في موضعين. وكان في المطبوعة هنا"بالاختصاء"، وأثبت ما في المخطوطة، ولكن ستأتي مرة أخرى، وتتفق فيها المطبوعة والمخطوطة: "الاختصاء". (3) في المطبوعة: "لا تستنوا بغير سنة المسلمين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة. وهذا صواب قراءتها. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "هموا له"، وكأن الصواب ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 لأهله: ما عَشَّيْتِه؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي! قال: فحبستِ ضيفي من أجلي! فطعامُك عليَّ حرام إن ذُقْته! فقالت هي: وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف: هو عليَّ حرام إن ذقتُه إن لم تذُوقوه! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة: قرِّبي طعامَكِ، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أحسنتَ! فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم"، وقرأ حتى بلغ:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان"، إذا قلت:"والله لا أذوقه"، فذلك العقد. 12350 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سَعْد قال، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس: أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنيّ إذا أصبتُ من اللحم انتشرتُ، وأخذتني شهوتي، فحرَّمت اللحم؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدُوا إن الله لا يحبُّ المعتدين". (1) 12351 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال: هَمَّ أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) الأثر: 12350- هذا الأثر أخرجه الترمذي في كتاب التفسير بإسناده ولفظه، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب. ورواه بعضهم من غير حديث عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء، عن عكرمة، مرسلا"، يعني الترمذي الأثر التالي: 12351. و"عثمان بن سعد التميمي، الكاتب المعلم"، ثقة. مضى برقم: 2155. وكان في المطبوعة هنا"عثمان بن سعيد"، وهو خطأ محض، وكان في المخطوطة مثله، إلا أنه ضرب على نقطتي الياء، وأراد وصل العين بالدال، فأخطأ الناشر في قراءة ذلك. هذا، وانظر ما جاء من الأخبار في الخصاء والتبتل في صحيح البخاري (الفتح 9: 100- 103) ، وما علق عليه الحافظ ابن حجر. ثم ما جاء فيه أيضا (الفتح 8: 207) ، وتفسير ابن كثير 3: 213- 217، وطبقات ابن سعد 3/1/286- 288 في ترجمة"عثمان بن مظعون". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 بترك النساء والخِصَاء، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية. * * * واختلفوا في معنى"الاعتداء" الذي قال تعالى ذكره:"ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين". فقال بعضهم:"الاعتداء" الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: هو ما كان عثمان بن مظعون همَّ به من جَبِّ نفسه، فنهى عن ذلك، وقيل له:"هذا هو الاعتداء". وممن قال ذلك السدي. 12352 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عنه. (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعةُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمُّوا به من تحريمِ النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستَنَّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وممن قال ذلك عكرمة. 12353 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عنه. (2) * * * وقال بعضهم: بل ذلك نهيٌ من الله تعالى ذكره أن يتجاوَزَ الحلالَ إلى الحرام. ذكر من قال ذلك: 12354 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عاصم، عن الحسن:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا"، قال: لا تعتدوا إلى ما حُرِّم عليكم. * * *   (1) في المطبوعة: "عنه به" في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة، بحذفها. (2) في المطبوعة: "عنه به" في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة، بحذفها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1) قال أبو جعفر: وإذ كان ذلك كذلك= وكان الله تعالى ذكره قد عمَّ بقوله:"لا تعتدوا"، النهيَ عن العدوان كُلّه= كان الواجبُ أن يكون محكومًا لما عمَّه بالعُموم حتى يخصَّه ما يجب التسليم له. وليس لأحدٍ أن يتعدَّى حدَّ الله تعالى في شي من الأشياء مما أحلَّ أو حرَّم، فمن تعدَّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره:"إن الله لا يحب المعتدين". وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهطِ الذين همُّوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم، ويكون مرادًا بحكمها كلُّ من كان في مثل مَعْناهم ممَّن حرّم على نفسه ما أحلَّ الله له، أو أحلَّ ما حرّم الله عليه، أو تجاوز حدًّا حدَّه الله له. وذلك أن الذين همُّوا بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلَّ لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما همُّوا به من تجاوزهم ما سَنَّ لهم وحدَّ، إلى غيره. * * * القول في تأويل قوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، لهؤلاء المؤمنين الذين نهَاهم أن يحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لهم: كُلوا، أيها المؤمنون، من رزق الله الذي رَزقكم وأحله لكم، حلالا طيِّبًا، (2) كما:-   (1) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف ص: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"حلال طيب" فيما سلف 3: 300، 301 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 12355 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبًا" يعني: ما أحل الله لهم من الطعام. * * * وأما قوله:"واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"، فإنه يقول: وخافوا، أيها المؤمنون، أن تعتدوا في حدوده، فتُحلُّوا ما حُرِّم عليكم، وتُحرِّموا ما أحِلَّ لكم، واحذروه في ذلك أن تخالفوه، فينزل بكم سَخَطُه، أو تستوجبوا به عقوبته (1) ="الذي أنتم به مؤمنون"، يقول: الذي أنتم بوحدانيّته مقرُّون، وبربُوبيته مصدِّقون. * * * القول في تأويل قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، للذين كانوا حرَّموا على أنفسهم الطيّبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حرَّموا ذلك بأيمانٍ حَلَفوا بها، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم: لا يُؤَاخذكم ربُّكم باللغو في أيمانكم، (2) كما:- 12356 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، لما نزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، في القوم الذين كانوا حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلَفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، الآية. * * *   (1) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (2) انظر تفسير"المؤاخذة" فيما سلف 4: 427، وما بعدها/6: 132، وما بعدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 = فهذا يدلُّ على ما قلنا، من أن القوم كانوا حرَّموا ما حرَّموا على أنفسهم بأيمان حَلَفُوا بها، فنزلت هذه الآية بسبَبهم. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) بتشديد"القاف"، بمعنى: وكّدتم الأيمانَ ورَدَّدتموها. * * * وقرأه قَرَأةُ الكوفيين: (بِمَا عَقَدْتُمُ الأيْمَانَ) (1) بتخفيف"القاف"، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعَزَمتْ عليها قلوبكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ بتخفيف"القاف". وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل"فعَّلت" في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردُّدٌ مرة بعد مرةٍ، مثل قولهم:"شدَّدت على فلان في كذا"، إذا كُرِّر عليه الشدّة مرة بعد أخرى. (2) فإذا أرادوا الخبر عن فعلِ مرّة واحدةٍ قيل:"شَدَدت عليه"، بالتخفيف. وقد أجمع الجميع لا خِلافَ بينهم: أن اليمين التي تجب بالحِنْث فيها الكفارة، تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة، وإن لم يكرّرها الحالف مرات. وكان معلومًا بذلك أنّ الله مؤاخذٌ الحالفَ العاقدَ قلبَه على حلفه، وإن لم يكرِّره ولم يردِّدْه. (3) وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن لتشديد"القاف" من"عقّدتم"، وجه مفهومٌ. * * *   (1) في المطبوعة: "وقراء الكوفيين"، وفي المخطوطة: "وقراه الكوفيين"، وصواب العبارة أن يزاد فيها: "وقرأه" كما فعلت. (2) في المطبوعة: "عليه الشد"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "ولم يردده"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 524 فتأويل الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله، أيها المؤمنون، من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها، وعَقَدَت عليه قلوبكم. * * * وقد بينا اليمين التي هي"لغو" والتي اللهُ مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحِنْث، والتي لا حنث فيها= فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. (1) * * * وأما قوله:"بما عقدتم الأيمان"، (2) فإن هنادًا: 12357 - حدثنا قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: بما تعمدتم. 12358 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 12359 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمَّدت فيه المأثَم، فعليك فيه الكفارة. * * * القول في تأويل قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الهاء" التي في قوله:"فكفارته"، على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟ فقال بعضهم: هي عائدة على"ما" التي في قوله:"بما عقدتم الأيمان". ذكر من قال ذلك: 12360 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف،   (1) انظر تفسير"اللغو"، وما قال فيه فيما سلف 4: 427 - 455. (2) انظر تفسير"عقد الأيمان" فيما سلف 8: 272 - 274. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 525 عن الحسن في هذه الآية"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيَّل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة والكفارة، فيما حلفتَ عليه على علمٍ. (1) 12361 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو ليس فيه كفارة="ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: ما عُقِدت فيه يمينه، (2) فعليه الكفارة. 12362 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاثٌ: يمين تكفّر، ويمين لا تُكَفَّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحُبها. فأما اليمين التي تكفَّر، فالرجل يحلِف على الأمر لا يفعله، ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفّر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمّد فيه الكذِبَ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على الأمر يَرَى أنه كما حلَف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة. وهو"اللغو". (3) 12363 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: قالت عائشة: لغوُ اليمين، ما لم يعقد عليه الحالِفُ قلبه. 12364 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: ليس في لغو اليمين كفّارة. 12365 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدّثه: أن عائشة قالت: أيمانُ   (1) الأثر: 12360-"عوف"، هو الأعرابي: "عوف بن أبي جميلة العبدي الهجري"، مضى كثيًرا، آخره رقم: 5473 - 5477. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا، "ابن أبي عدي، عن عدي، عن الحسن"، وهو خطأ محض، وقد مضى هذا الأثر بإسناده كما أثبته وبنصه برقم: 4406. (2) في المطبوعة: "ما عقد فيه يمينه"، وأثبت ما في المخطوطة. وهو صواب."عقدت" بالبناء للمجهول. (3) الأثر: 12362- مضى مختصرًا برقم: 4427. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 526 الكفارة، كلّ يمين حلف فيها الرجل على جدٍّ من الأمور في غضب أو غيره:"ليفعلن، ليتركنّ"، فذلك عقد الأيمان التي فَرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان". 12366 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن علي بن أبي طلحة قالا ليس في لغو اليمين كفارة. (1) 12367 - حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمدتَ فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة. قال، وقال قتادة: أمّا اللغو، فلا كفارة فيه. (2) 12368 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: لا كفارة في لغو اليمين. 12369 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزيّ، عن أسباط، عن السدي: ليس في لغو اليمين كفارة. (3) * * * قال أبو جعفر: فمعنى الكلام على هذا التأويل:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، فكفارة ما عقدتم منها إطعامُ عَشَرة مساكين. * * *   (1) الأثر: 12366-"معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي"، مضى مرارًا كثيرة، آخرها: 8472. و"يحيى بن سعيد الأنصاري" الإمام القاضي، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 8870، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "يحيى بن سعد"، وهو خطأ محض. (2) الأثر: 12367-"جامع بن حماد"، انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12344. (3) الأثر: 12369-"عمرو العنقزي"، هو: "عمرو بن محمد العنقزي"، مضى برقم: 6139، في المطبوعة: "العبقري" وهو خطأ. وهو في المخطوطة غير منقوط. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 527 وقال آخرون:"الهاء" في قوله:"فكفارته"، عائدة على"اللغو"، وهي كناية عنه. (1) قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفَّرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحِنْث والكفارة فيه. والإقامةُ على المضيّ عليه، غير جائزةٍ لكم. فكفارةُ اللغو منها إذا حنثتم فيه، إطعامُ عشرة مساكين. ذكر من قال ذلك: 12370 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فهو الرجل يحلف على أمرِ ضِرارٍ أن يفعلَه فلا يفعله، (2) فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّرَ عن يمينه ويأتي هو خير= وقال مرة أخرى: قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" إلى قوله:"بما عقدتم الأيمان"، قال: واللغو من الأيمان، (3) هي التي تُكفّر، لا يؤاخذ الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له، ولم يتحوَّل عنه، ولم يكفِّر عن يمينه، فتلك التي يُؤْخَذ بها. (4) 12371 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفِّر. (5) 12372 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو   (1) "الكناية"، الضمير. انظر ما سلف من فهارس المصطلحات. (2) في المطبوعة: "قال: هو الرجل يحلف ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب. (3) في المطبوعة: "واللغو من اليمين"، وكان ناسخ المخطوطة قد كتب"اليمين"، ثم عاد على الكلمة بالقلم ليجعلها"الأيمان"، فاختلطت. وهذا صواب قراءتها. (4) في المطبوعة: "يؤاخذ بها"، وأثبت ما في المخطوطة. (5) الأثر: 12371- سلف مطولا برقم: 4436. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 528 الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره، يكفّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير="ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين. (1) 12373 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، فقال: أولا تقرأ فتفهم؟ قال:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان". قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتَّمَام عليها، (2) قال وقال: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ) [سورة البقرة: 224] . (3) 12374 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: وكيف يصنع؟ قال: يكفر يمينه ويترك المعصية. (4) 12375- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"اللغو"، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة. (5) 12376 - حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اليمين المكفَّرة. (6) * * *   (1) الأثر: 12372- مضى مختصرًا برقم: 4440. (2) في المطبوعة: "بالمقام عليها". والصواب ما كان في المخطوطة، وهو المطابق لروايته فيما مضى، كما سيأتي في التخريج. وتم على الأمر تمامًا": استمر عليه وأنفذه وأمضاه. (3) الأثر: 12373- مضى هذا الأثر بإسناده ولفظه، برقم: 4445. (4) الأثر: 12374- مضى بإسناده ولفظه، برقم: 4443. (5) الأثر: 12375- كان هذا في المطبوعة بعد الذي يليه مؤخرًا، فقدمته كما في المخطوطة. (6) الأثر: 12376- مضى أيضا برقم: 4464. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 529 قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون"الهاء" في قوله:"فكفارته" عائدة على"ما" التي في قوله:"بما عقدتم الأيمان"، لما قدَّمنا فيما مضى قبل (1) أنّ من لزمته في يمينه كفّارة وأُوخذ بها، غيرُ جائز أن يقال لمن قد أوخذ:"لا يؤاخذه الله باللغو". وفي قوله تعالى:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، دليلٌ واضح أنه لا يكون مؤاخذًا بوجه من الوجوه، مَنْ أخبرنا تعالى ذكره أنه غيرُ مؤاخذه. فإن ظنّ ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثْتُم وكفَّرتم= إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير= فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمرَه ونهيَه في كتابه، على الظاهر العامّ عندنا= بما قد دللنا على صحّة القول به في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته (2) = دون الباطن العامِّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر. ولا دلالة من عقل ولا خبرٍ أنه عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بعضَ معاني المؤاخذة دون جميعها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفّارة في يمينٍ حنث فيها مؤاخذًا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلومًا أنه غيرُ الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها. * * * وإذْ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله أيها الناس، بلغوٍ من القول والأيمان، إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ذكره ولا خلافَ أمره، ولم تقصدوا بها إثمًا، ولكن يؤاخذكم بما تعمَّدتم به الإثم، وأوجبتموه على أنفسكم، وعزمتْ عليه قلوبكم، ويكفر ذلك   (1) انظر ما سلف 4: 447، 448. (2) انظر ما سلف 2: 539/ 3: 37/ 4: 134/ 5: 40، 130، ومواضع غيرها، اطلبها في الفهارس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 530 عنكم، فيغطِّي على سيِّئ ما كان منكم من كذبٍ وزُور قولٍ، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم (1) ="إطعامُ عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم". * * * القول في تأويل قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أعدله، كما:- 12377 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال سمعت عطاء يقول في هذه الآية:"من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم"، قال عطاء:"أوسطه"، أعدله. * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم". فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يُطْعِم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهلُ بلد المكفّر، أهاليهم. (2) ذكر من قال ذلك: 12378 - حدثنا هناد قال، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن حنش، عن الأسود قال: سألته عن:"أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز، والتمر، والزيت، والسمن، وأفضلُه اللحم. (3)   (1) انظر تفسير"الكفارة" و"التكفير" فيما سلف ص: 461، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الوسط" فيما سلف 3: 141- 145 /5: 227. (3) الأثر: 12378-"عبد الله بن حنش الأودي". روى عن البراء، وابن عمر، والأسود بن يزيد، وغيرهم. روى عنه الثوري، وشريك، وشعبة، وأبو عوانة. قال ابن معين: "ثقة"، قال أبو حاتم: "لا بأس به". مترجم في ابن أبي حاتم 2/2/39. و"الأسود"، هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي"، مضى برقم: 3299، 4888، 8267. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 531 12379 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد عن ذلك فقال: الخبز والتمر= زاد هناد في حديثه، والزيت. قال: وأحسبه، الخلّ. 12380 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من أوسط ما يطعم أهلَه: الخبزَ والتمرَ، والخبز والسمن، والخبزَ والزيت. ومن أفضل ما تُطْعمهم: الخبزَ واللحم. 12381 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن ابن سيرين، عن ابن عمر:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبزَ واللحم، والخبز والسمن، والخبز والجبن، (1) والخبز والخلَّ. 12382 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن حنش، (2) قال: سألت الأسود بن يزيد عن"أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والتمر. 12383 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد، فذكر مثله. 12384 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والسمن. 12385 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك، فذكر مثله.   (1) في المخطوطة، غير بينة بل مختلطة الكتبة، وممكن أن تقرأ: "الخبر واللبن" وانظر رقم: 12388. (2) في المخطوطة: "عبد الله بن حدس"، وهو تحريف وسهو من الناسخ، انظر الإسنادين السالفين: 12378، 12379، والإسناد التالي: 12383. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 532 12386 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أزهر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والسمن. (1) 12387 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسُّه الخبز والتمر. 12388 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن الربيع، عن الحسن قال: خبز ولحم، أو خبز وسمن، أو خبز ولبن. 12389 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عمر بن هارون، عن أبي مصلح، عن الضحاك في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز واللحم والمرَقَة. (2) 12390 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن يحيى بن حَيّان الطائي قال: كنت عند شُريح، فأتاه رجل فقال: إني حلفت على يمين فأثِمْتُ؟ قال شريح: ما حملك على ذلك؟ قال: قُدِّر عليّ، فما أوسط ما أطعم أهلي؟ قال له شريح: الخبز والزيت، والخل طيّبٌ. قال: فأعاد عليه، فقال له شريح ذلك ثلاث مرارٍ، لا يزيده شريح على ذلك. فقال له: أرأيت إن أطعمت الخبزَ واللحم؟ قال: ذاك أرفعُ طعام أهلِك وطعامِ الناس. (3)   (1) الأثر: 12386-"أزهر" هو: "أزهر بن سعد السمان"، مضى برقم: 4774. (2) الأثر: 12389-"عمر بن هرون بن يزيد الثقفي البلخي"، "أبو حفص". قال البخاري: "تكلم فيه يحيى بن معين". قال يحيى بن معين: "كذاب، قدم مكة وقد مات جعفر بن محمد، فحدث عنه". وقال أحمد: "كتبت عنه حديثًا كثيرًا، وما أقدر أن أتعلق عليه بشيء. فقيل له: تروي عنه؟ قال: قد كنت رويت عنه شيئًا". والطعن فيه شديد. مترجم في التهذيب. و"أبو مصلح" الخراساني، اسمه: "نصر بن مشارس". روى عن الضحاك بن مزاحم وصحبه. قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. (3) الأثر: 12390-"يحيى بن حيان الطائي"، أبو هلال. روى عن شريح. روى عنه سفيان الثوري، وزائدة، وموسى بن محمد الأنصاري، والقاسم بن مالك المزني، وابن عيينة، وشريك ثقة. مترجم في الكبير 4/2/268، وابن أبي حاتم 4/2/136. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 533 12391 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم خبزًا وزيتًا، أو خبزًا وسمنًا. أو خلا وزيتًا. 12392 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة، عن زبرقان، عن أبي رزين:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، خبز وزيت وخلّ. 12393 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام بن محمد قال: أكلة واحدة، خبز ولحم. قال: وهو"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وإنكم لتأكلون الخَبِيص والفاكهة. (1) 12394 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى= وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة= عن هشام، عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عَشَرة مساكين أكلة واحدة، خبزًا ولحمًا. فإن لم تجد، فخبزًا وسمنًا ولبنًا. فإن لم تجد، فخبزًا وخلا وزيتًا حتى يشبعوا. 12395 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن زبرقان قال: سألت أبا رزين عن كفارة اليمين ما يطعم؟ قال: خبزًا وخلا وزيتًا:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وذلك قدر قوتهم يومًا واحدًا. * * * ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه. فقال بعضهم: مبلغ ذلك، نصفُ صاع من حنطة، أو صاعٌ من سائر الحبوب غيرها. ذكر من قال ذلك: 12396 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن إبراهيم، عن عمر قال: إني   (1) "الخبيص": ضرب من الحلواء المخبوصة، أي المخلوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 534 أحلف على اليمين، ثم يبدو لي، فإذا رأيتَني قد فعلت ذلك، فأطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مُدَّين من حنطة. (1) 12397- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ويعلى، عن الأعمش، عن شقيق، عن يسار بن نمير قال قال عمر: إنيّ أحلف أن لا أعطى أقوامًا، ثم يبدو لي أن أعطيَهم. فإذا رأيتَني فعلتُ ذلك، فأطعم عني عشَرة مساكين، بين كل مسكينين صاعًا من برٍّ، أو صاعًا من تمر. (2) 12398- حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة. (3) 12399- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع برّ كلّ مسكين.   (1) الأثر: 12396-"عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي". قال ابن معين: "ليس به بأس"، وقال النسائي: "ضعيف". وقال الحاكم: "هو من ثقات الكوفيين ممن يجمع حديثه، ولا يزيد ما أسنده على عشرة". وذكره العقيلي في الضعفاء. مترجم في التهذيب. وانظر ما سلف رقم: 12306، والتعليق عليه. أبوه: "عمرو بن مرة المرادي"، مضى ذكره في رقم: 12306، ثقة. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة: "عن إبراهيم، عن عمرو"، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة. وفي المخطوطة أيضًا: "لكل مسكين مدين من حنطة"، وهو صحيح، وفي المطبوعة: "مدان". والخطاب في هذا الخبر لخازنه"يسار بن نمير" كما سيأتي في هذا الأثر رقم: 12397 الآتي. (2) الأثر: 12397-"شقيق"، هو"شقيق بن سلمة"، مضى مرارًا. و"يسار بن نمير"، مولى عمر بن الخطاب، وخازنه. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/420، وابن أبي حاتم 4/2/307. وكان في المخطوطة: "بشار"، وهو خطأ محض. والخبر رواه البيهقي في السنن 10: 55، 56 من طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية، بمثله. (3) الأثر: 12398-"عبد الله بن سلمة المرادي الكوفي". روى عن عمر، ومعاذ، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم. وروى عنه أبو إسحق السبيعي، وعمرو بن مرة. ثقة. ولكن قال البخاري: "لا يتابع في حديثه". وقال أبو حاتم: "يعرف وينكر". وذكر شعبة، عن عمرو بن مرة قال: "كان عبد الله بن سلمة يحدثنا، فنعرف وننكر. كان قد كبر". مترجم في التهذيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 535 12400- حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن عبد الكريم الجزري قال: قلت لسعيد بن جبير: أجمعُهم؟ قال: لا أعطهم مدّين مدَّين من حنطة، مدًّا لطعامه، ومدًَّا لإدامه. 12401- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن عبد الكريم الجزري، قال: قلت لسعيد، فذكر نحوه. 12402- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زبيد، عن حصين قال: سألت الشعبي عن كفارة اليمين فقال: مَكُّوكين، مكوكًا لطعامه، ومكوكًا لإدامه. (1) 12403- حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا هشام، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لكل مسكين مُدَّين. 12404- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لكل مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين. 12405- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: مدَّان من طعام لكل مسكين. 12406- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال: سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين، فقال: أكلة. قلت: فإن الحسن يقول: مكُّوك برّ ومكوك تمر، فما ترى في مكُّوك بر؟ فقال: إن مكوك برّ!! (2) = قال يعقوب قال، ابن علية: وقال أبو مسلمة   (1) الأثر: 12402-"أبو زبيد"، هو"عبثر بن القاسم"، مضى قريبًا في رقم: 12336. وكان في المطبوعة: "أبو زيد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة، وهي غير منقوطة. و"المكوك"، مكيال قديم معروف، لأهل العراق، ويراد به"المد". وانظر تفسيره في لسان العرب (مكك) . (2) في المطبوعة: "فما ترى في مكوك بر؟ فقال: إن مكوك بر لا، أو مكوك تمر لا، قال يعقوب ... "، وفي المخطوطة: "فما ترى في مكوك بر؟ فقال إن مكوك بر لا أو مكوك بر لا. قال يعقوب". وأراد ناشر المطبوعة أن يصحح، فصحح!! ولكن بقى الكلام كله لا معنى له، هو خلط يضرب في خلط. وذلك أن ناسخ المخطوطة، رأى في النسخة التي نقل عنها"لا أو مكوك بر لا"، وكانت"لا" في الموضعين بلا شك، فوق الكلام، فوق "أو" قبلها"، وفوق"بر" بعدها وذلك معناه حذف ما بين"لا" الأولى، و"لا" الثانية، فأدخلهما في الكلام، فأخرج الكلام من أن يكون كلامًا مفهومًا. وذلك أن جابر بن زيد قال: "إن مكوك بر"، وقطع الكلام، وأشار بيده إلى أنه حسن كاف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 536 بيده، (1) كأنه يراه حسنًا، وقلب أبو بشر يده. (2) 12407- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه كان يقول في كفارة اليمين: فيما وجب فيه الطعام، مكُّوك تمر ومكوك برّ لكل مسكين. 12408- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن قال، قال: إن جمعهم أشبعهم إشباعةً واحدة. وإن أعطاهم، أعطاهم مكُّوكًا مكوكًا. (3) 12409- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال: كان الحسن يقول: وحسبه، (4) فإن أعطاهم في أيديهم، فمكوك بر ومكوك تمر.   (1) "قال بيده": أشار وأومأ. يريد أشار بيده أن ذلك كاف مجزئ. (2) الأثر 12406-"ابن علية"، هو: "إسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي"، "أبو بشر"، مضى مرارًا، آخرها: 9913. و"أبو مسلمة" البصري هو: "سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي"، مضى برقم: 797، 5559، 5561. وكان في المطبوعة: "سعد بن يزيد أبو سلمة". ثم أيضًا"أبو سلمة"، وكله خطأ، وصوابه من المخطوطة. و"جابر بن زيد الأزدي اليحمدي"، قال له ابن عمر: "يا جابر، إنك من فقهاء أهل البصرة"، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم: 5136. ثم كان في المطبوعة هنا: "وقلب أبو سلمة يده"، غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته، لأنه لم ير في الإسناد ذِكرًا لأبي بشر!! وإنما"أبو بشر" هو: "ابن علية" نفسه، هذه كنيته. (3) الأثر: 12408-"وكيع بن الجراح بن مليح"، مضى مرارا كثيرة: "وأبوه: "الجراح بن مليح الرؤاسي"، مضى برقم: 4488، 5727. و"الربيع"، هو: "الربيع بن صبيح السعدي" مضى برقم: 6403، 6404. (4) قوله: "وحسبه"، ثابتة في المخطوطة، وحذفها ناشر المطبوعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 537 12410- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في كفارة اليمين: نصف صاع لكل مسكين. 12411- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أبيه، عن الحكم، في قوله:"إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: طعام نصف صاع لكل مسكين. (1) 12412- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:"أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع. 12413- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"فكفارته إطعام عشرة مساكين"، قال: الطعام، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو برٍّ. * * * وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب، مُدٌّ واحد. *ذكر من قال ذلك: 12414- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي = عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت أنه قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (2) 12415- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين، رُبْعُه إدامُه. 12416- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن   (1) في المطبوعة: "إطعام نصف صاع"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. (2) الأثر: 12414- رواه البيهقي في السنن 10: 55، من طريق أبي نعيم، عن هشام، بمثله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 538 داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، نحوه. (1) 12417- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر:"إطعام عشرة مساكين"، لكل مسكين مُدٌّ. 12418- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (2) 12419- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكفّر اليمين بعشرة أمداد، بالمُدّ الأصغر. 12420- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين، ما يطعم؟ قالا مدٌّ لكل مسكين. 12421- حدثنا هناد، قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: كان الناس إذا كفَّر أحدهم، كفَّر بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر. (3) 12422- حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:"إطعام عشرة مساكين"، قال: عشرة أمداد لعشرة مساكين. 12423- حدثنا بشر، قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: كان يقال: البرُّ والتمر، لكل مسكين مد من تمر، ومدّ من برّ. (4)   (1) الأثران: 12415، 12416- رواه البيهقي في السنن 10: 55: من طريق علي بن حرب، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن أبي هند، بمثله. (2) الأثران: 12417، 12418- رواه البيهقي في السنن 10: 55، من طريق ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، مطولا، بمثل لفظه. (3) الأثر: 12421- رواه البيهقي في السنن 10: 55، من طريق ابن بكير، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، بنحو لفظه. (4) الأثر: 12423-"جامع بن حماد" انظر ما سلف: 12344، 12367، وما قلته في هذا الإسناد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 539 12424- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: مد لكل مسكين. 12425- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من أوسط ما تعُولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك: مدًّا بمدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة. قال ابن زيد: (1) هو الوسط مما يقوت به أهله، ليس بأدناه ولا بأرفعه. 12426- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: مدٌّ. (2) * * * وقال آخرون: بل ذلك غَداء وعشاء. *ذكر من قال ذلك: 12427- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم. (3) 12428- حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال: غداء وعشاء. 12429- حدثنا هناد، قال، حدثنا وكيع = وحدثنا أبن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: يغديهم ويعشيهم. * * * وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط ما يطعم المكفِّر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين   (1) في المطبوعة: "قال أبو زبد"، أساء قراءة المخطوطة. (2) الأثر: 12426-"يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب". ثقة. مضى في بعض الأسانيد، ولم أذكر ترجمته، رقم: 4120، 11812. مترجم في التهذيب. (3) الأثر: 12427- مضى مطولا برقم: 12391. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 540 العشرة. وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك، أطعم المساكين على قدر ما يفعلُ من ذلك بأهله في عسره ويُسره. ذكر من قال ذلك: 12430- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقَدَره. 12431- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلَك من الشبع، أو نصفَ صاع من برّ. 12432- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: مِن عسرهم ويُسرهم. 12433- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: من عسرهم ويُسرهم. 12434- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: قوتهم. 12435- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن سليمان العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: قوتهم. 12436- حدثنا أبو حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عن سليمان بن عبيد العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله:"من أوسط الجزء: 10 ¦ الصفحة: 541 ما تطعمون أهليكم"، قال: كانوا يفضلون الحرَّ على العبد، والكبير على الصغير، فنزلت:"من أوسط ما تطعمون أهليكم". (1) 12439- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال، كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير، ويطعمون الحرّ ما لا يطعمون العبد، فقال،"من أوسط ما تطعمون أهليكم". 12438- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم. وإن كنت لا تشبعهم، فعلى قدر ذلك. (2) 12439- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيبان النحوي، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من عسرهم ويسرهم. 12440- حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن سليمان، عن سعيد بن   (1) الأثران: 12435، 12436-"سليمان العبسي" في الإسناد الأول، ظاهر أنه هو الذي في الإسناد الثاني"سليمان بن عبيد العبسي". ولم أجد في الرواة"سليمان بن عبيد العبسي"، مترجما. وسيأتي برقم: 12440."سليمان" مجردًا من النسبة، وانظر التعليق عليه هناك. ولكن الذي يروي عن سعيد بن جبير، ويروي عنه سفيان الثوري، كما في الأثر الأول"سليمان العبسي"، فإنه"سليمان بن أبي المغيرة العبسي الكوفي" روى عن سعيد بن جبير، وعلي بن الحسين بن علي، والقاسم بن محمد، وعبد الرحمن بن أبي نعم، وإسمعيل بن رجاء. روى عن سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وأبو عوانة، وشعبة، وعبد الملك بن أبي سليمان. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/2/38، وابن أبي حاتم 2/1/145. لم يذكر البخاري فيه جرحًا، ووثقه أحمد وابن معين. وروى له ابن ماجه حديثًا، سيأتي برقم: 12440، فانظره هناك. هذا، ولم يذكروا اسم أبيه"أبي المغيرة"، فإن صح أنه هو هو، المذكور في خبري أبي جعفر فإن"أبا المغيرة" هو"عبيد"، ويكون إسنادا أبي جعفر هذان، قد أفادانا اسم"أبي المغيرة". وأنا أرجح هذا، وأرجو أن يكون صوابًا إن شاء الله، وعسى أن يأتي في سائر أسانيد أبي جعفر ما يهدي إلى وجه الصواب. وكتبه محمود محمد شاكر. (2) في المطبوعة: "فكل قدر ذلك"، وهو خطأ سخيف جدًا، وأساء الناشر الأول قراءة المخطوطة، لما في كتابتها من المجمجة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 542 جبير قال، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت بعض أهله قوتًا دونًا وبعضهم قوتًا فيه سعة، فقال الله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والزيت. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم" عندنا، قول من قال:"من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة والكثرة". وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلِّها بذلك وردت. وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفَرَق من طعام بين ستة مساكين، (2) لكل مسكين نصف صاع (3) وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعًا بين ستين مسكينًا، لكل مسكين ربُعْ صاع. (4) ولا يُعْرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات، أمر بإطعام خبز وإدام، ولا بغداء وعشاء. (5) فإذْ كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلُها سبيلَ ما تولَّى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم: من أن الواجب على مكفِّرها من الطعام، مقدّرًا للمساكين العشرة محدودًا بكيل، (6)   (1) الأثر: 12440-"سليمان"، هو"سليمان بن أبي المغيرة العبسي"، الذي مضى ذكره في التعليق على الأثرين: 12435، 12436. وهذا الخبر رواه ابن ماجه رقم: 2113. (2) "الفرق" (بفتح أوله وثانيه، أو فتح أوله وسكون ثانيه) : مكيال لأهل المدينة، وهو ثلاثة آصع. (3) انظر ما سلف الآثار: 3334 - 3359 في الجزء الرابع: 58 - 69. (4) انظر السنن الكبرى للبيهقي 4: 221 - 228. (5) في المخطوطة: "أمرا بالطعام خبز وإدام"، والذي في المطبوعة أمضى على السياق. (6) في المطبوعة: "من الطعام مقدار للمساكين العشرة محدود بكيل"، والصواب من المخطوطة. وأخطأ فهم كلام أبي جعفر، فإنه عنى بقوله: "الطعام": البر، أو التمر. قال ابن الأثير: "الطعام عام في كل ما يقتات به من الحنطة والشعير والتمر، وغير ذلك". وأهل الحجاز إذا أطلقوا لفظ"الطعام" عنوا به البر خاصة. وفي حديث أبي سعيد: "كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير". قيل: أراد به البر، وقيل التمر. قالوا: وهو أشبه، لأن البر كان عندهم قليلا لا يتسع لإخراج زكاة الفطر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 543 دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك. * * * فإذ كان صحيحًا ما قلنا بما به استشهدنا، (1) فبيِّنٌ أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم = وأن"ما" التي في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء. وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسِّع على أهله مُدَّان، وذلك نصف صاع في رُبعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين. وأعدلُ أقوات المقتِّر على أهله، مُدٌّ، وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين. * * * وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين، الخبزَ واللحمَ وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدّوا أو يعشوا، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا"ما" التي في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، اسمًا لا مصدرًا، فأوجبوا على المكفِّر إطعامَ المساكين من أعدل ما يُطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهبٌ لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات غيرها، التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "مما به استشهدنا"، والصواب من المخطوطة. (2) انظر تفسير "المساكين" فيما سلف 8: 334، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 544 القول في تأويل قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فكفارة ما عقدتم من الأيمان: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم. يقول: إما أن تطعموهم أو تكسوهم. والخيار في ذلك إلى المكفِّر. * * * واختلف أهل التأويل في "الكسوة" التي عنى الله تعالى ذكره بقوله: "أو كسوتهم". (1) فقال بعضهم: عنى بذلك: كسوة ثوب واحد. ذكر من قال ذلك: 12441- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين: أدناه ثوبٌ. 12442- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئتَ. 12443- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن الربيع، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله: "أو كسوتهم"، ثوبٌ لكل مسكين. 12444- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه: "أو كسوتهم"، قال: ثوبٌ. (2) 12445- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة =وحدثنا ابن حميد وابن وكيع   (1) انظر تفسير "الكسوة" فيما سلف 5: 44، 480 / 7: 572. (2) الأثر: 12444- "وهيب"، هو "وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي"، ثقة. مضى برقم: 4345. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 545 قالا حدثنا جرير= جميعًا، عن منصور، عن مجاهد في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب. 12446- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب ثوب = قال منصور: القميص، أو الرِّداء، أو الإزار. 12447- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: "أو كسوتهم"، قال: كسوة الشتاء والصيف، ثوبٌ ثوبٌ. 12448- حدثنا هناد قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب ثوب لكل مسكين. 12449- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: إذا كساهم ثوبًا ثوبًا أجزأ عنه. 12450- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن حماد قال: ثوب أو ثوبان، (1) وثوب لا بدّ منه. (2) 12451- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: ثوب ثوب لكل إنسان. وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة. (3)   (1) في المخطوطة: "ثوب أو ثوبين"، ولا يكون ذلك حتى تكون الأولى: "ثوبًا"، ولذلك تركت ما في المطبوعة على حاله. (2) الأثر: 12450- "إسحاق بن سليمان الرازي"، مضى برقم: 6456، 12133. و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان البرجمي". مضى برقم: 175، 11240، 12133. وكان في المطبوعة: "ابن سنان" لم يحسن قراءة المخطوطة. (3) قوله: "تقضى"، هكذا في الدر المنثور 2: 313، وفي المخطوطة: "يعصى" غير منقوطة، وأنا في ريب من هذا الحرف. ولعله أراد "تقضي" بمعنى: تجزئ منها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 546 12452- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "أو كسوتهم"، قال: "الكسوة"، عباءة لكل مسكين، أو شِمْلة. 12453- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: ثوب، أو قميصٌ، أو رداء، أو إزار. 12454- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن اختار صاحبُ اليمين الكسوة، كسا عشرة أناسيَّ، كل إنسان عباءة. 12455- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال، سمعت عطاء يقول في قوله: "أو كسوتهم"، الكسوة: ثوبٌ ثوبٌ. وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوةَ ثوبين ثوبين. ذكر من قال ذلك: 12456- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية= جميعًا، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: "أو كسوتهم"، قال: عباءة وعمامة. 12457- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عمامة يلفُّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها. 12458- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين. (1)   (1) الأثر: 12458- "محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري"، ثقة مضى برقم: 5438. وكان في المطبوعة: "قال: ثوبين ... "، والصواب من المخطوطة. خطأ في الطباعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 547 12459- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: ثوبين. (1) 12460- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، مثله. 12461- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: ثوبان ثوبان لكل مسكين. 12462- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبى موسى: أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (2) 12463- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين: أن أبا موسى كسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (3) 12464- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد بن عبد الأعلى: أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين، فرأى أن يكفِّر ففعل، وكسا عشرة ثوبين ثوبين. 12465- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد: أن أبا موسى حلف على يمين فكفَّر، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين. 12466- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عباءة وعمامة لكل مسكين. 12467- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.   (1) في المطبوعة: "قالا"، والصواب من المخطوطة. خطأ في الطباعة. (2) الأثران: 12462، 12463- أخرجه البيهقي في السنن 10: 56، من طريق أخرى، من طريق سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، بغير هذا اللفظ مطولا. و"المعقد" (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر، لم أجد صفته. (3) الأثران: 12462، 12463- أخرجه البيهقي في السنن 10: 56، من طريق أخرى، من طريق سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، بغير هذا اللفظ مطولا. و"المعقد" (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر، لم أجد صفته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 548 12468- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب: (أو كَأُسْوَتِهِمْ) ، (1) فقال سعيد: لا إنما هي: "أو كسوتهم"، قال قلت: يا أبا محمد، ما كسوتهم؟ قال: لكل مسكين عباءة وعمامة: عباءة يلتحف بها، وعمامة يشدّ بها رأسه. 12469- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "أو كسوتهم"، قال: الكسوة، لكل مسكين رداء وإزار، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك كسوتهم "ثوب جامع"، كالملحفة والكساء، والشيء الذي يصلح للّبس والنوم. ذكر من قال ذلك: 12470- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم قال: الكسوة ثوبٌ جامع. 12471- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع. قال وقال مغيرة: و "الثوب الجامع": الملحفة أو الكساء أو نحوه، ولا نرى الدِّرع والقميصَ والخِمار ونحوه "جامعًا". 12472- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع.   (1) هذه قراءة شاذة، قرأ بها سعيد بن جبير، ومحمد بن السميقع اليماني. وقد ذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات: 34، ونسبها إلى سعيد بن المسيب، لا سعيد بن جبير، وهو خطأ منه، وهذا الخبر دال على ذلك فقد أنكرها سعيد بن المسيب. وذكر نسبتها على الصواب، القرطبي في تفسيره 6: 279، وأبو حيان في تفسيره 4: 11. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 549 12473- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع. 12474- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع لكل مسكين. 12475- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان وشعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع. 12476- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، مثله. * * * وقال آخرون: عنى بذلك: كسوة إزار ورداء وقميص. ذكر من قال ذلك: 12477- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن بردة، عن رافع، عن ابن عمر قال في الكسوة: في الكفارة إزار ورداء وقميص. (1) * * * وقال آخرون: كل ما كسا فيجزئ، والآية على عمومها. ذكر من قال ذلك: 12478- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن مجاهد قال: يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان. (2) 12479- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع   (1) الأثر: 12477- "بردة"، لم أجد له ذكرًا، وكأنه محرف. و"رافع" لم أعرف من يكون، وهكذا هو في المخطوطة، وكان في المطبوعة "نافع" مغيرًا بغير دليل. وأثبت الإسناد كما هو في المخطوطة، حتى يهتدي إلى صوابه من يقوم له. (2) "التبان" (بضم التاء وتشديد الباء) : سراويل صغير مقدار شبر، يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 550 قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن أشعث، عن الحسن قال: يجزئ عمامة في كفارة اليمين. 12480- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن أويس الصيرفي، عن أبي الهيثم، قال قال سلمان: نعم الثوبُ التُّبَّان. (1) 12481- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن الحكم قال: عمامة يلف بها رأسه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن، قولُ من قال: عنى بقوله: "أو كسوتهم"، ما وقع عليه اسم كسوة، مما يكون ثوبًا فصاعدًا = لأن ما دون الثوب، لا خلافَ بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك، خارجًا من أن يكون الله تعالى عناه، بالنقل المستفيض. (2) والثوبُ وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك. * * *   (1) الأثر: 12480- "أويس الصيرفي" لم أجده، ولم أعرفه. و"أبو الهيثم"، لم أستطع أن أستبين أيهم يكون ممن يكنى "أبا الهيثم". و"سلمان" أيضًا لم أستطع تحديده في هذا الإسناد. (2) السياق: "لا خلاف بين جميع الحجة ... بالنقل المستفيض". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 551 القول في تأويل قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو فكّ عبد من أسر العبودة وذلها. وأصل "التحرير"، الفك من الأسر، (1) ومنه قول الفرزدق بن غالب: أَبنِي غُدَانَةَ، إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ (2) يعني بقوله: "حرّرتكم"، فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار. * * * وقيل: "تحرير رقبة"، والمحرَّر ذو الرقبة، (3) لأن العربَ كان من شأنها إذا أسرت أسيرًا أن تجمع يديه إلى عنقه بقِدٍ أو حبل أو غير ذلك، (4) وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام   (1) انظر "تحرير رقبة" فيما سلف 9: 30، وما بعدها، ولم يشرحها أبو جعفر هناك وشرحها هنا. وهذا ضرب من اختصاره في هذا التفسير. (2) ديوانه 726، النقائض: 275، وطبقات فحول الشعراء: 424، من قصيدته في هجاء جرير. و"بنو غدانة" هم: بنو غدانة بن يربوع، أخو "كليب بن يربوع"، جد جرير. و "عطية بن جعال بن قطن بن مالك بن غدانة بن يربوع"، وكان عطية من سادة بني غدانة، وكان صديقًا للفرزدق وخليلا له. فلما بلغ عطية هذا الشعر قال: "جزى الله خليلي عني خيرًا!! ما أسرع ما رجع خليلي في هبته!! "، لأنه هجاهم، وهو يزعم أنه وهب أعراضهم لصاحبه، يقول بعده: فَوَهَبْتُكُمْ لأَحَقِّكُمْ بِقَدِيمُكُمْ ... قِدْمًا، وَأَفْعَلِهِ لِكُلِّ نَوَالِ لَوْلا عَطِيَّةُ لاجْتَدَعْتُ أُنُوفَكُمْ ... مِنْ بَيْنِ أَلأَمِ آنُفٍ وَسِبَالِ إِنِّي كَذَاكَ، إِذَا هَجَوْتُ قَبِيلَةً ... جَدَّعْتُهُمْ بِعَوَارِمِ الأمْثَالِ (3) في المطبوعة: "صاحب الرقبة"، لم يحسن قراءة المخطوطة. (4) في المطبوعة: "بقيد أو حبل"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. و "القد" (بكسر القاف والدال المشددة) : سير يقد (أي: يشق طولا) من جلد غير مدبوغ. وأما "القيد"، فأكثر ما يكون في الرجلين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 552 عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبرَ عن إطلاقه من أسره، (1) كما يقال: "قبضَ فلان يده عن فلان"، إذا أمسك يده عن نواله ="وبسط فيه لسانه"، (2) إذا قال فيه سوءًا= فيضافُ الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم، وعلمهم بمعنى ذلك. فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره: "أو تحرير رقبة"، أضيف "التحرير" إلى "الرقبة"، وإن لم يكن هناك غُلٌّ في رقبته ولا شدُّ يَدٍ إليها، وكان المراد بالتحرير نفسَ العبد، بما وصفنا، من جَرّاء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه. (3) * * * فإن قال قائل: أفكلّ الرقاب معنيٌّ بذلك أو بعضه؟ (4) قيل: بل معنيّ بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد، (5) والعمَى والخرس، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك. فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين. فكان معلومًا بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به. * * *   (1) انظر تفسير: "وفي الرقاب" فيما سلف 3: 347. وتفسير ذلك هناك مختصر، وهو هنا مفصل. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر في تفسيره هذا. (2) انظر ما سلف في مثل ذلك في تفسير قوله تعالى: "بل يداه مبسوطتان" ص: 451 وما قبله في تفسير: "بما قدمت أيديهم" 2: 368. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "من جرى استعمال ... "، وصواب قراءتها "من جراء" وكذلك كتبتها، فإن الذي في كلام الطبري هو "جرى" المقصورة من "جراء". فلذلك كتبها بالياء. يقال: "فعلت ذلك من جراك، ومن جرائك"، أي: من أجلك، وقد جمعتا في شعر واحد: أَمِنْ جَرَّا بَنِي أَسَدٍ غَضِبْتُمُ ... وَلَوْ شِئْتُمْ لَكَانَ لَكُمْ جِوَارُ وَمنْ جَرَّائِنَا صِرْتُمْ عَبِيدًا ... لِقَوْمٍ، بَعْدَ مَا وُطِئَ الخِيَارُ (4) في المطبوعة: "أو بعضها"، والذي في المخطوطة صواب محض. (5) "الإقعاد" و "القعاد" (بضم القاف) : داء يقعد. "أقعد الرجل فهو مقعد"، إذا أصابه القعاد فحال بينه وبين المشي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 553 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم. ذكر من قال ذلك: 12482- حدثنا هناد ... قال، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نَسَمة، قال: إذا أنقذها من عمل أجزأته، ولا يجوز عتق من لا يعمل. فأما الذي يعمل، كالأعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ، الأعمى والمقعد. (1) 12483- حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: كان يكره عتق المخَبَّل في شيء من الكفارات. (2) 12484- حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى عتقَ المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات. * * * وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح، ويجزئ الصغير فيها. ذكر من قال ذلك: 12485- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح. 12486- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يجزئ المولودُ في الإسلام من رقبة. 12487- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة"، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس بمؤمنة، فالصبي يجزئ. (3)   (1) الأثر: 12482- "هناد بن السرى" لا يروي عن مغيرة، بينهما في الإسناد رجل أو رجلان وانظر الأثرين السالفين قريبًا: 12470، 12471، وما يأتي رقم: 12484. وكان في المطبوعة: "كالأعمى"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) "المخبل" (بتشديد الباء) : المجنون، من "الخبل" (بسكون الباء) : وهو الفالج، أو فساد الأعضاء، أو فساد العقل. (3) الأثر: 12487- مضى بإسناده ولفظه برقم: 10096. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 554 وقال بعضهم: لا يقال للمولود"رقبة"، إلا بعد مدة تأتي عليه. ذكر من قال ذلك: 12488 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان بن المنذر، عن سليمان قال: إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلبَ ظهرًا لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إن الله تعالى عمَّ بذكر"الرقبة" كل رقبة، فأيَّ رقبة حرّرها المكفر يمينَه في كفارته، فقد أدّى ما كُلِّف، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره، لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريرُه في الكفارة بظاهر التنزيل. والمكفِّر مخيَّر في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة = بإجماع من الجميع، لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظان أنّ ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع، ليس كما قلنا، لما:- 12489 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال: إني آليتُ من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [سورة المائدة: 87] . قال فقال معقل: إنما سألتك أنْ أتيتُ   (1) الأثر: 12488 -"محمد بن شعيب بن شابور الأموي"، أحد الكبار، كان يسكن بيروت. روى عن الأوزاعي، ويزيد بن أبي مريم، والنعمان بن المنذر. ثقة ثبت، روى له الأربعة. مترجم في التهذيب. و"النعمان بن المنذر الغساني، اللخمي"، "أبو الوزير". روى عن عطاء، ومجاهد، والزهري، وطاوس، ومكحول. ثقة. مترجم في التهذيب. و"سليمان"، كأنه"سليمان بن طرخان التيمي"، ولست أحققه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 555 على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله: ائت النساء ونَمْ، وأعتق رقبة، فإنك موسر. (1) 12490 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم: أن سليمان الأعمش حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن همام بن الحارث: أن نعمان بن مقرِّن سأل عبد الله بن مسعود فقال: إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، كفّر عن يمينك، ونم على فراشك! قال: بم أكفِّر عن يميني؟ قال: أعتق رقبة، فإنك موسر. (2) * * * = ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإنّ ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من   (1) الأثر: 12479-"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب"، ثقة مضى برقم: 6256، 8136. و"عبد الواحد بن زياد العبدي"، أحد الأعلام، مضى برقم: 2616، 3136. "وسليمان الشيباني" هو: "سليمان بن أبي سليمان"، "أبو إسحق الشيباني". ثقة. مضى كثيرًا، آخره رقم: 8869. و"أبو الضحى"، و"مسروق"، مضيًا كثيرًا. و"معقل بن مقرن المزني"، أبو عمرة، قال البغوي: "سكن الكوفة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث". مترجم في الاستيعاب، وأسد الغابة، والإصابة، وابن سعد 6: 11، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 285، وهو أخو"النعمان بن مقرن". وكان في المطبوعة هنا: "النعمان بن مقرن"، مكان"معقل بن مقرن"، غير الاسم لغير طائل، لأنه أخذه من الذي يليه، مع أنهما روايتان مختلفتان. وكان في المطبوعة أيضًا: "إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الآية، فقال عبد الله"، تصرف في العبارة تصرفًا فاسدًا عاميًا، والصواب من المخطوطة، ولكنه كتب هناك"سألتك عن" ثم وضع"أ" في وسط عين"عن"، لتقرأها"أن"، وكذلك أثبتها. وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 309، عن معقل بن مقرن، وقال: "أخرجه ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني من طرق، عن ابن مسعود". (2) الأثر: 12490- انظر التعليق على الأثر السالف، ولكنه هنا نسب القصة إلى"النعمان بن مقرن"، أخي"معقل بن مقرن". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 556 الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لأنه لم ينقل أحدٌ عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلا بالرقبة. والجميعُ من علماء الأمصار، قديمهم وحديثهم، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائزٌ للموسر. ففي ذلك مكتفًى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"فمن لم يجد"، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرُها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفِّرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ="فصيام ثلاثة أيام"، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام. * * * ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله:"فمن لم يجد"، ومتى يستحقُّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة، اسم"غير واجد"، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك. فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومَه وليلته، فإنّ له أن يكفر بالصيام. فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفيرُ بالإطعام أو الكسوة، ولم يجزه الصيام حينئذ. وممن قال ذلك الشافعي: 12491 - حدثنا بذلك عنه الربيع. * * * وهذا القولَ قصدَ إن شاء الله = مَنْ أوجب الطعام على من كان عنده درهمان =، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 557 مَنْ أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم. (1) وبنحو ذلك:- 12492 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم = قال: يعني في الكفارة. 12493 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني معتمر بن سليمان قال: قلت لعمر بن راشد: الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر، قال: كان قتادة يقول: يصوم ثلاثة أيام. (2) 12494 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن قال، إذا كان عنده درهمان. 12495 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر، عن حماد، عن عبد الكريم أبي أمية، عن سعيد بن جبير قال: ثلاثة دراهم. (3) * * * وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم، وهو ممن لا يجد. * * * وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام، أن يصوم، إلا أن يكون له كفاية، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه، ومن الفضل عن ذلك ما يكفرّ به عن يمينه. وهذا قولٌ كان يقوله بعض متأخري المتفقهة. * * *   (1) في المطبوعة، غير هذه الجملة: "ممن أوجب الطعام ... وممن أوجبه على من عنده"، فاختل الكلام، والصواب ما في المخطوطة. وقد ضبطت الكلام بالشكل ليتبين معناه ويتيسر. (2) الأثر: 12493-"عمر بن راشد"، كأنه يعني: "عمر بن راشد السلمي". روى عن الشعبي، وعنه سفيان الثوري. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 107. (3) الأثر: 12495-"عبد الكريم"، "أبو أمية"، هو: "عبد الكريم. أبي المخارق"، مضى برقم: 9679. وكان في المطبوعة: "عبد الكريم بن أبي أمية"، وهو خطأ محض، وتغيير لما في المخطوطة عبثًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 558 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يوَمه وليلته، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين، أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوبَ الدين. وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرّق ماله بين غرمائه: أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بدَّ له من قوته وقوت عياله يوَمه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله. * * * واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين. فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرِّقها. ذكر من قال ذلك: 12496 - حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل صوم في القرآن فهو متتابع، إلا قضاء رمضان، فإنه عدة من أيام أخر. (1) 12497 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: كان أبيّ ابن كعب يقرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . 12498 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن   (1) قوله: "فإنه عدة من أيام أخر"، ليس في المخطوطة، وهو في الدر المنثور 2: 314، أخشى أن يكون نقله من هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 559 موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . 12499 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن قزعة، عن سويد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . (1) 12500 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . 12501 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، مثله. 12502 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . 12503 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . 12504 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . (2) 12505 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر،   (1) الأثر: 12499-"قزعة بن سويد بن جحير الباهلي"، مضى برقم: 8141 وأبوه"سويد بن جحير الباهلي" مضى: 8281، 8283، 9372. وكان في المطبوعة: "قزعة بن سويد"، وأثبت ما في المخطوطة، و"قزعة"، يروي عن أبيه. و"سليف بن سليمان المخزومي"، مضى برقم: 3345. (2) الأثر: 12504-"محمد بن حميد اليشكري المعمري""أبو سفيان المعمري"، مضى برقم: 1787، 8829. و"معمر بن راشد الأزدي"، مضى مرارًا رقم: 1787، 2095، 8885 و"أبو إسحق"، هو"أبو إسحق السبيعي" من شيوخ معمر. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن إسحق"، وهو خطأ محض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 560 عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأون: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . 12506 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، سمعت سفيان، يقول: إذا فرّق صيام ثلاثة أيام لم يجزِه. قال: وسمعته يقول في رجل صامَ في كفارة يمين ثم أفطر، قال، يستقبل الصومَ. 12507 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فصيام ثلاثة أيام"، قال: إذا لم يجد طعامًا، وكان في بعض القراءة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . وبه كان يأخذ قتادة. (1) 12508 - حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأوّلَ فالأوّل، فإن لم يجد من ذلك شيئًا فصِيَام ثلاثة أيام متتابعات. * * * وقال آخرون: جائز لمن صامهنّ أن يصومهن كيف شاء، مجتمعات ومفترقات. ذكر من قال ذلك: 12509 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يُصَام تِبَاعًا أعجبُ. فإن فرقها رجوتُ أن تجزئ عنه. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى   (1) الأثر: 12507-"جامع بن حماد" انظر ما سلف رقم: 12344، 12367، 12423. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 561 ذكره أوجب على من لزمته كفّارة يمين، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرّها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرطْ في ذلك متتابعة. فكيفما صامهنَّ المكفِّر مفرَّقة ومتتابعة، أجزأه. لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتَى بصومهنّ أجزأ. * * * فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا. وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. (1) غيرَ أني أختار للصائم في كفَّارة اليمين أن يُتَابع بين الأيام الثلاثة، ولا يفرِّق. لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته، وهم في غير ذلك مختلفون. ففعل ما لا يُخْتَلف في جوازه، أحبُّ إليَّ، وإن كان الآخر جائزًا. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم، من إطعام العشرة المساكين، أو كسوتهم، أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئًا = هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم = واحفظوا، أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها، ثم تُضِيعُوا الكفارة فيها بما وصفته لكم = (2) "كذلك يبين الله لكم آياته"، كما بين لكم كفارة أيمانكم،   (1) في المطبوعة: "أن تشهد بشئ"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ثم تصنعوا"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 562 كذلك يبين الله لكم جميع آياته = يعني أعلام دينه فيوضِّحها لكم = لئلا يقول المضيع المفرِّط فيما ألزمه الله:"لم أعلم حكم الله في ذلك! " ="لعلكم تشكرون"، يقول: لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم. (1) * * *   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التجزئة القديمة التي نقلت عنها نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القول في تأويل قوله {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} . وصلى الله على محمد النبيّ وعلى آله وسلّم كثيرًا". ثم يتلوه ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ أعِنْ يَا كريم" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 563 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } قال أبو جعفر: وهذا بيانٌ من الله تعالى ذكره للذين حرَّموا على أنفسهم النساءَ والنومَ واللحمَ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تشبُّهَا منهم بالقسيسين والرهبان، فأنزل الله فيهم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم كتابَه يَنْهاهم عن ذلك فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) ، [سورة المائدة: 87] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 563 فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضًا في حدودي، فتحلُّوا ما حرَّمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز، كما غيرُ جائزٍ لكم تحريم ما حلّلت، وإنيّ لا أحبُّ المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه وتقدَّموا عليه، كانوا من المعتدين في حدوده = فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسِرَ الذي تَتَياسرونه، والأنصاب التي تذبحُون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ="رجْس"، يقول: إثم ونَتْنٌ سَخِطه الله وكرهه لكم ="من عمل الشيطان"، يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجُزُر، وذبحكم للأنصاب، واستقسامكم بالأزلام، من تزيين الشيطانِ لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربُّكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم ="فاجتنبوه"، يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه (1) ="لعلكم تفلحون"، يقول: لكي تنجَحُوا فتدركوا الفلاحَ عند ربكم بترككم ذلك. (2) * * * وقد بينا معنى"الخمر"، و"الميسر"، و"الأزلام" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (3) * * * وأما"الأنصاب"، فإنها جمع"نُصُب"، وقد بينا معنى"النُّصُب" بشواهده فيما مضى. (4) * * *   (1) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 10: 292، تعليق: 3. والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"اجتنب" فيما سلف 8: 233، وهي هناك غير مفسرة، ثم 8: 340. (3) انظر تفسير"الخمر" فيما سلف 4: 320، 321. = وتفسير"الميسر" فيما سلف 4: 321، 322 - 325. = وتفسير"الأزلام" فيما سلف 9: 510 - 515. (4) انظر تفسير"النصب" 9: 507 - 509. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 564 وروي عن ابن عباس في معنى"الرجس" في هذا الموضع، ما:- 12510 - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"رجس من عمل الشيطان"، يقول: سَخَطٌ. * * * وقال ابن زيد في ذلك، ما:- 12511 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رجس من عمل الشيطان"، قال:"الرجس"، الشرُّ. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما يُريد لكم الشيطانُ شربَ الخمر والمياسرةَ بالقِدَاح، ويحسِّن ذلك لكم، إرادةً منه أن يوقع بينكم العَداوَة والبغضاءَ في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، (1) ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغِّض بعضَكم إلى بعض، فيشتِّت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام ="ويصدّكم عن ذكر الله"، يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم، (2) وباشتغالكم بهذا الميسر، عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ="وعن الصلاة"، التي فرضها عليكم ربكم ="فهل أنتم منتهون"،   (1) انظر تفسير"البغضاء" فيما سلف 7: 145/10: 136. (2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 9: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 565 يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، (1) وعاملون بما أمركم به ربُّكم من أداء ما فرَض عليكم من الصلاة لأوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نُجْح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟. * * * واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب، وهو أنه ذكر مكروهَ عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تحر يمَها. (2) ذكر من قال ذلك: 12512 - حدثنا هناد بن السريّ، قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهمّ بيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"البقرة": (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) ، [سورة البقرة: 219] . قال: فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! فنزلت الآية التي في"النساء": (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [سورة النساء: 43] . قال: وكان مُنَادِي النبي صلى الله عليه وسلم يُنادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة السكران! قال: فدُعِي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"المائدة":"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فلما انتهى إلى قوله:"فهل أنتم منتهون" قال عمر: انتهينا انتهينا!! (3)   (1) انظر تفسير"الانتهاء" فيما سلف 482، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر ما سلف في تحريم الخمر 4: 330-336/8: 376، 377. (3) الأثر: 12512 -"أبو ميسرة" هو: "عمرو بن شرحبيل الهمداني"، سمع عمر، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما من الصحابة. مضى برقم: 2839، 2840، 9228. وهذا الخبر رواه أبو جعفر من خمس طرق، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة. ورواه أحمد في مسنده رقم: 378 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، بمثله، وأبو داود في سننه 3: 444 رقم: 3670، بمثله، وفيه: "بيانًا شفاء". والنسائي في سننه 8: 286، 287، بمثله. والترمذي في سننه في كتاب التفسير من طريق محمد بن يوسف، عن إسرائيل، مرفوعًا، ثم من طريق أبي كريب محمد بن العلاء، عن وكيع. عن إسرائيل، مرسلا. ولكن جاء هنا في رواية هناد بن السري، عن وكيع، مرفوعًا. وقال الترمذي بعد ذكر رواية أبي كريب: "وهذا أصح من حديث محمد بن يوسف"، يعني أنه أصح مرسلا. وانظر ما سيأتي في باقي التخريج. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 278، من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل بمثله، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن 8: 285، من طريق عبيد الله بن موسى أيضًا، ومن طريق إسمعيل بن جعفر، عن إسرائيل، بمثله. ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 39، من طريق محمد بن يوسف، عن إسرائيل، (كطريق الترمذي) وفيه زيادة: "فإنها تذهب العقل والمال"، الآتية في رقم: 12513، وليس في رواية الترمذي. ورواه الواحدي في أسباب النزول: 154، من طريق أحمد بن حنبل، عن خلف بن وليد، عن إسرائيل، بمثل ما في المسند. وخرجه ابن كثير في تفسيره 1: 499، 500/ ثم 3: 225، وقد صحح أخي السيد أحمد هذا الحديث في المسند رقم: 378، ثم قال: "وذكره ابن كثير في التفسير 1: 499، 500/3: 226 وقال: هكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من طرق عن أبي إسحق. وكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق الثوري، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، عن عمر، وليس له عنه سواه. ولكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. والله أعلم. وقال علي بن المديني: "هذا إسناد صالح صحيح. وصححه الترمذي. وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله: انتهينا - إنها تذهب المال وتذهب العقل". قال أخي السيد أحمد: "وقول أبي زرعة أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر، لا أجد له وجهًا. فإن أبا ميسرة لم يذكر بتدليس، وهو تابعي قديم مخضرم، مات سنة 63. وفي طبقات ابن سعد 6: 73، عن أبي إسحق قال: أوصى أبو ميسرة أخاه الأرقم: لا تؤذن بي أحدًا من الناس، وليصل علي شريح قاضي المسلمين وإمامهم = وشريح الكندي، استقضاه عمر على الكوفة، وأقام على القضاء ستين سنة، فأبو ميسرة أقدم منه". أقول: ولم يذكر أحد غير أبي زرعة فيما بحثت، أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر، بل كلهم ذكر سماعه من عمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 566 12513 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا أبى، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فإنها تَذْهب بالعقل والمال! = ثم ذكر نحو حديث وكيع. (1)   (1) الأثر: 12513 - هذه الزيادة: "فإنها تذهب العقل والمال"، أشرت إليها في التعليق السالف في رواية أبي جعفر النحاس، وذكرها ابن كثير، من رواية ابن أبي حاتم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 567 12514 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر بن الخطاب: اللهم بيِّن لنا، فذكر نحوه. 12515 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. 12516 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير، قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. (1) 12517 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، قال: لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسِر، فسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما) [سورة البقرة: 219] ، فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخْصة، نأكل الميسر ونشرَب الخمر، ونستغفر من ذلك!. حتى أتى رجلٌ صلاةَ المغرب، فجعل يقرأ: (قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) [سورة الكافرون] . فجعل لا يجوز ذلك، (2) ولا يدري ما يقرأ، فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) [سورة النساء: 43] . فكان الناس يشربون الخمرَ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون. فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى ذكره:"إنما   (1) الآثار: 12514 - 12516 - انظر التخريج في رقم: 12512. (2) في المطبوعة، والدر المنثور: "لا يجود ذلك" (بتشديد الواو المكسورة) ، وفي المخطوطة كما أثبته غير منقوطة، وهو الصواب إن شاء الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 568 الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"، فقالوا: انتهينا يا رب! (1) * * * وقال آخرون: نزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص. وذلك أنه كان لاحَى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلَحْيَىْ جمل، ففَزَر أنفه، فنزلت فيهما. (2) ذكر الرواية بذلك: 12518 - حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد أنه قال: صنع رجلٌ من الأنصار طعامًا، فَدَعانا. قال: فشربنا الخمرَ حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضلُ منكم! قال: فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَى جملٍ فضرب به أنف سعد ففَزَره، فكان سعد أفزَرَ الأنف. قال: فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" إلى آخر الآية. (3)   (1) الأثر: 15217 - ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 318، ولم ينسبه لغير ابن جرير. (2) "لاحاه يلاحيه ملاحاة ولحاء": إذا نازعه وشاتمه = و"لحي الجمل" (بفتح اللام وسكون الحاء) : وهما"لحيان": وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم. يقال: لحي الجمل، ولحي الإنسان، وغيرهما. وكان في المطبوعة: "لحي" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة بالتثنية: "لحيي" = و"فزر الشيء": صدعه. و" فزر أنفه": شقه. (3) الأثر: 12518 - رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد. كلها صحيح. فرواه من هذه الطريق الأولى أحمد في مسنده رقم: 1567، 1614، مطولا. ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة في مسنده: 28، رقم: 208. ورواه مسلم من طريق أبي جعفر هذه، عن محمد بن المثنى نفسه (15: 186، 187) وفيه"وكان أنف سعد مفزورًا"، بخلاف رواية أبي جعفر"أفزر الأنف". ورواه مطولا بغير هذا اللفظ من طريق"الحسن بن موسى، عن زهير، عن سماك". ورواه البيهقي في السنن 8: 285، من طريق وهب بن جرير، عن شعبة. ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 40، من طريق زهير، عن سماك. ورواه الواحدي في أسباب النزول: 154. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 230، والسيوطي في الدر المنثور 2: 315، وقصر في نسبته، وزاد أيضًا نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وكان في المخطوطة: "صنع رجل من الأنصار فدعانا"، أسقط"طعامًا"، وهي ثابتة في المطبوعة، وفي جميع روايات الخبر. ولذلك أثبتها. وقوله: "فكان سعد أفرز الأنف"، في جميع الروايات: "مفزور الأنف"، أي مشقوقه، كما سلف في التعليق: 2، ص569 ولم تقيد كتب اللغة: "أفزر الأنف"، على"أفعل". وهذا مما يثبت صحته، وهو جائز في العربية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 569 12519 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، قال حدثنا شعبة، عن سماك، عن مصعب بن سعد قال، قال سعد: شربتُ مع قوم من الأنصار، فضربت رجلا منهم = أظنّ بفكّ جمل = فكسرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر"، إلى آخر الآية. (1) 12520 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فذكر نحوه. (2) 12521 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، أن ابن شهاب أخبره، أن سالم بن عبد الله حدَّثه: أن أول ما حُرِّمت الخمر، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابًا له شربوا فاقتتلوا، فكسروا أنف سعدٍ، فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر"، الآية. (3) * * *   (1) الأثر: 12519 - في المطبوعة: "قال حدثنا أبو الأحوص، عن سماك"، وهو خطأ لا شك فيه وكان في المخطوطة في آخر الصفحة: "قال حدثنا أبو الأحوص قال" ثم بدأ في الصفحة التالية: "عن سماك ... "، فنسى الناسخ في نسخة فأسقط"حدثنا شعبة"، وبدأ: "عن سماك". (2) الأثر: 12520 - هذا الأثر والذي قبلها طريقان أخريان للأثر رقم: 12518، انظر التخريج في التعليق عليه. (3) الأثر: 12521 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 315، ولم ينسبه لغير ابن جرير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 570 وقال آخرون: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار. ذكر من قال ذلك: 12522 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شرِبوا. حتى إذا ثملوا، عبث بعضهم على بعض. (1) فلما أن صَحوْا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان! = وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن = والله لو كان بي رءوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن، (2) فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"! فقال ناس من المتكلِّفين: رجْسٌ في بطن فلانُ قتل يوم بدر، (3) وقتل فلان يوم أحُدٍ! فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) [سورة المائدة: 93] ،. الآية. (4)   (1) في المطبوعة: "عبث بعضهم ببعض"، وهكذا جاء في جمبع روايات الأثر، فيما بين يدي من الكتب، ولكنها في المخطوطة كما أثبتها، وهي صحيحة إن شاء الله. (2) في المطبوعة: "في قلوبهم الضغائن"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "هي رجس، وهي في بطن فلان"، وهكذا في سائر المراجع، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه صواب أيضا. (4) الأثر: 12522 -"ربيعة بن كلثوم بن جبر الديلي البصري"، روى له مسلم والنسائي، متكلم فيه، وهو ثقة. مضى برقم: 6240. وكان في المطبوعة: "ربيعة بن كلثوم عن جبير، عن أبيه"، وهو خطأ. وفي المخطوطة"ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه"، وهو خطأ أيضًا، وإن كان فيها"جبر" على الصواب. وجاء في المستدرك خطأ"جبير" وهو خطأ يصحح. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/266، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 1/2/477، 478، وثقه يحيى بن معين. وفيه عن علي بن المديني، قال: "سمعت يحيى بن سعيد يقول، قلت: "لربيعة بن كلثوم في حديث، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، هو: عن ابن عباس؟ قال: وهل كان يروي سعيد بن جبير إلا عن ابن عباس؟ ". وأبوه"كلثوم بن جبر بن مؤمل الديلي"، ثقة، وثقه أحمد مضى برقم: 6240، مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/227، وابن أبي حاتم 3/2/164. وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 8: 285، 286، والحاكم في المستدرك 4: 141، ولم يذكر فيه شيئًا، ولكن قال الذهبي في تعليقه على المستدرك: "قلت: صحيح على شرط مسلم". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 18، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 40 مختصرًا، بغير إسناد. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 230، من رواية البيهقي في السنن، وقال: "ورواه النسائي في التفسير، عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة، عن حجاج بن منهال". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 315. وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 571 12523 - حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، [ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطِيةٌ لنا] ، ونحن نشرب الخمر حِلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصابُ والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان"، إلى آخر الآيتين،"فهل أنتم منتهون"، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"؟ قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيهتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا! انتهينا ربَّنا! (1) * * *   (1) الأثر: 12523 -"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 126، 6534. "سعيد بن محمد بن سعيد الجرمي". كوفي ثقة. روى عنه البخاري ومسلم. قال أبو زرعة: "ذاكرت عنه أحمد بأحاديث، فعرفه" وقال: صدوق، وكان يطلب معنا الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/471، وابن أبي حاتم 2/1/59. و"أبو تميلة"، هو: "يحيى بن واضح الأنصاري" مضى مرارًا، آخرها رقم: 9009. و"سلام، مولى حفص، أبو القاسم الليثي"، مروزي، مترجم في الكبير 2/2/134، وابن أبي حاتم 2/1/262. وقال البخاري في الكبير: "سمع عبد الله بن بريدة، عن أبيه: نزلت في تحريم الخمر"، قاله سعيد الجرمي: سمع يحيى بن واضح، سمع سلاما"، إشارة إلى هذا الخبر. ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وقال المعلق على الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: "وفي الثقات: سلام الليثي، والد أبي عبيد القاسم بن سلام". وكان في المطبوعة هنا: "مولى حفص بن أبي قيس" لا أدري كيف استحل لنفسه تغيير ما كان في المخطوطة صوابًا، إلى خطأ لا ندري ما هو. و"ابن بريدة"، هو"عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي" قاضي مرو، أخوه: "سليمان بريدة"، كانا توأمين. روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمرو، وابن عمر، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة. تكلم فيه أحمد بن حنبل. قال الجوزجاني: "قلت لأبي عبد الله: سمع عبد الله من أبيه شيئًا؟ قال: ما أدري، عامة ما يروى عن بريدة عنه. وضعف حديثه". ووثقه ابن معين وأبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 13. وكان في المطبوعة"أبي بريدة"، وهو خطأ محض، صوابه في المخطوطة. وأبوه"بريدة بن الحصيب الأسلمي"، صحابي قديم الإسلام، قبل بدر. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه. وهذا الخبر ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 230، من رواية أبي جعفر، وفيه"عن أبي بريدة" كخطأ المطبوعة. والسيوطي في الدر المنثور 2: 315. والزيادة التي بين القوسين من تفسير ابن كثير، وهو لم ينقل هذا عن غير الطبري، فلذلك زدتها، والظاهر أنها سقطت من ناسخ نسختنا. وإن كان السيوطي قد ذكر الأثر بغير هذه الزيادة. وقوله: "ونحن على رملة"، يعني، في رملة منبتة مريعة. و"الباطية": ناجود الخمر، وهي إناء عظيم من زجاج، تملأ من الشراب، وتوضع بين الشرب يغرفون منها ويشربون. وقوله: "قال بالإناء"، يعني: أماله ثم نزعه، كفعل الحجام وهو ينزع كأس الحجامة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 572 وقال آخرون: إنما كانت العداوة والبغضاء، كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر، لا بسبب السُّكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر. فلذلك نهاهم الله عن الميسر. ذكر من قال ذلك: 12524 - حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع = قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنيه = قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الرجل في الجاهلية يقامِر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبًا ينظر إلى ماله في يَدَي غيره، (1) فكانت تُورِث بينهم عداوة وبغضاءَ، فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. والله أعلم بالذي يصلح خلقه. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "حزينًا سليبًا"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت."حرب الرجل ماله، فهو محروب وحريب": إذا أخذ حريبته، وهو ماله الذي يعيش به، وتركه بلا شيء. (2) الأثر: 12524-"جامع بن حماد"، انظر ما علقته على الأثر رقم: 12344. واذكر أن هذا الأثر قد مضى قبل، ولكن خفي علي مكانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 573 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إنّ الله تعالى قد سمَّى هذه الأشياء التي سمّاها في هذه الآية"رجسًا"، وأمر باجتنابها. وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دُعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر = وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نالَ سعدًا من الأنصاري عند انتِشائهما من الشراب = وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدَهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضِه، (1) وليس عندنا بأيِّ ذلك كان، خيرٌ قاطع للعذر. غير أنه أيّ ذلك كان، فقد لزم حكم الآية جميعَ أهل التكليف، وغيرُ ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية. فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان، فرضٌ على جميع من بلغته الآية من التكليفُ اجتنابُ جميع ذلك، كما قال تعالى:"فاجتنبوه لعلكم تفلحون". * * * القول في تأويل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه" ="وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، في اجتنابكم   (1) "يسره"، يعني: غلبه في الميسر، وأخذ ماله. قال الزمخشري: "من المجاز: أسروه، ويسروا ماله. وتياسرت الأهواء قلبه، قال ذو الرمة: بِتَفْرِيقِ أَظْعَانٍ تيايَسَرْنَ قَلْبَهُ ... وَخَانَ العَصَا مِنْ عَاجِلِ البَيْنِ قَادِحُ وهذا اللفظ كما استعمله أبو جعفر، لم تقيده كتب اللغة، ولكن مقالة الزمخشري دالة على صوابه، كما قالوا من"القمار": "قمره". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 574 ذلك، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانزجار عما زجَركم عنه من هذه المعانِي التي بيَّنها لكم في هذه الآية وغيرها، وخالِفوا الشيطان في أمره إيّاكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره، فإنه إنما يبغي لكم العداوةَ والبغضاءَ بينكم بالخمر والميسر= "واحذروا"، يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرّمها عليكم في هذه الآية وغيرها، أو يفقِدَكم عند ما أمركم به، فتُوبقوا أنفسكم وتهلكوها="فإن توليتم"، يقول: فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به، وتنتهوا عما نهيناكم عنه، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، واتباع ما جاءكم به نبيكم (1) ="فاعملوا أنما على رسولنا البلاغُ المبين"، يقول: فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنِّذَارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم، (2) مبينةً لكم بيانًا يُوضِّح لكم سبيل الحقّ، والطريقَ الذي أمرتم أن تسلكوه. (3) وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية، فعلى المُرْسَل إليه دون الرسل. وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولَّى عن أمره ونهيه. يقول لهم تعالى ذكره: فإن توليتم عن أمري ونهيي، فتوقّعوا عقابي، واحذَرُوا سَخَطي. * * *   (1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف: 393، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) "النذارة" (بكسر النون) قال صاحب القاموس: "النذير: الإنذار كالنذارة، بالكسر. وهذه عن الإمام الشافعي رضي الله عنه". انظر رسالة الشافعي ص: 14، الفقرة: 35، وتعليق أخي السيد أحمد عليها. (3) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 9: 428، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 575 القول في تأويل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا= إذْ أنزل الله تحريم الخمر بقوله:"إنما الخمرُ والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه": كيفَ بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنّا نشربها؟ = ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرَّمه عليهم (1) ="إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: إذا ما اتقى الله الأحياءُ منهم فخافوه، وراقبوه في اجتنابهم ما حرَّم عليهم منه، (2) وصدَّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله="وعملوا الصالحات"، يقول: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربُّهم (3) ="ثم اتقوا وآمنوا"، يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارِمه بعد ذلك التكليف أيضًا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيِّروا ولم يبدِّلوا="ثم اتقوا وأحسنوا"، يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفُهم الله إلى الإحسان، وذلك"الإحسان"، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافلُ تقرَّبوا بها إلى رّبهم طلبَ رِضاه، وهربًا من عقابه (4) ="والله يحب المحسنين"، يقول: والله يحب المتقرِّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها.   (1) انظر تفسير"الجناح" 9: 268، تعليق: 4، والمراجع هناك= وتفسير"طعم" فيما سلف 5: 342. (2) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (3) انظر تفسير"الصالحات" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . (4) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف: 512، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 576 فالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل= والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير= والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال. * * * فإن قال قائل: ما الدليل على أنّ"الاتقاء" الثالث، هو الاتقاء بالنوافل، دون أن يكون ذلك بالفرائضِ؟ قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إيّاها، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمِها، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها، وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكرُه في آيةٍ واحدة. * * * وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه، جاءت الأخبار عن الصَّحابة والتابعين. * ذكر من قال ذلك: 12525 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية. (1)   (1) الأثران: 12525، 12526- إسنادهما صحيح. رواه أحمد في مسنده: 2088، 2452، 2691 مطولا، 2775. ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه الحاكم في المستدرك 4: 143، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال: "صحيح". وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 233، من حديث أحمد في المسند. وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 320، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 577 12526 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل بإسناده، نحوه. 12527- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال، أخبرنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينَا أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، حتى مالت رءوسهم من خَليط بُسْرٍ وتمر. (1) فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إنّ الخمر قد حُرِّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القِلال، (2) وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، فأصبْنَا من طِيب أمِّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فقال رجل: يا رسول الله، فما منزلةُ من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" الآية، فقال رجل لقتادة: سمعتَه من أنس بن مالك؟ قال: نعم! قال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! وحدّثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب! (3)   (1) "البسر" (بضم الباء وسكون السين) : التمر قبل أن يرطب، وهو ما لون منه ولم ينضج، فإذا نضج فقد أرطب. (2) "القلال" جمع"قلة" (بضم القاف) : وهي الجرة الكبيرة. (3) الأثر: 12527-"عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي البصري"، ثقة. مضى برقم: 6822، 10317. و"عباد بن راشد التميمي"، قال أحمد: "ثقة صدوق"، وضعفه يحيى بن معين، وتركه يحيى القطان. روى له البخاري مقرونًا بغيره. ومضى برقم 11060. و"أم سليم" المذكورة في الخبر، هي: "أم سليم بنت ملحان الأنصارية"، لها صحبة، وهي والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاري، خطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم. وذكر هذا الخبر ابن كثير في تفسيره 3: 228، ولم ينسبه لغير ابن جرير، وكذلك السيوطي في الدر المنثور 2: 320. وخبر أنس هذا، رواه البخاري من طريق أخرى بغير هذا اللفظ (الفتح 8: 209) . ومسلم في صحيحه بغير هذا اللفظ من طرق 13: 148-151. والنسائي في السنن 8: 287، 288. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 578 12528 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، الآية. (1) 12529- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال البراء: مات ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، الآية. (2) 12530- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات   (1) الأثران: 12528، 12529- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 97، رقم: 715، من طريق شعبة، به. ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: 12528) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: 12529) ، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح". وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 231، من مسند أبي داود الطيالسي. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 320، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (2) الأثران: 12528، 12529- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 97، رقم: 715، من طريق شعبة، به. ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: 12528) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: 12529) ، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح". وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 231، من مسند أبي داود الطيالسي. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 320، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 579 جناح فيما طعموا"، فيمن قُتِل ببدر وأحُدٍ مع محمد صلى الله عليه وسلم. 12531- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا علي ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم. (1) 12532 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، إلى قوله:"والله يحب المحسنين"، لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في"سورة المائدة"، بعد"سورة الأحزاب"، (2) قال في ذلك   (1) الأثر: 12531-"خالد بن مخلد القطواني" ثقة، مضى برقم 2206، 4577، 8166، 8397. و"علي بن مسهر القرشي"، ثقة، مضى برقم: 4453، 5777. وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه (16: 14) من طرق، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، بمثله. ورواه الترمذي من طريق سفيان بن وكيع، عن خالد بن مخلد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه الحاكم في المستدرك 4: 143، 144، من طريق سليمان بن قرم، عن الأعمش، بزيادة في لفظه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على حديث شعبة، عن أبي إسحق، عن البراء، مختصر هذا المعنى"، ولم أجده حديث البراء في الصحيحين، كما قال الحاكم. وأما الذهبي فلم يزد في تعليقه على المستدرك إلا أن قال: "صحيح". ولم أجد من نسب حديث البراء إلى الشيخين، وهو الذي مضى برقم: 12528، 12529. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 18، بمثل لفظ الحاكم في المستدرك، ثم قال: "في الصحيح بعضه، رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وهذا هو الصحيح لا ما قال الحاكم. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 233 وقال: "رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من طريقه". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 321، في موضعين، قال في مثل لفظ الحاكم: "أخرجه الطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه". ثم رواه مختصرًا كرواية أبي جعفر، ونسبه إلى مسلم، والترمذي والنسائي، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) قوله: "بعد سورة الأحزاب"، كأنه يعني بعد نزول سورة الأحزاب، وليس في سورة الأحزاب ذكر تحريم الخمر، وكأنه عنى بذلك"بعد غزوة الأحزاب"، وأخشى أن يكون قوله: "سورة الأحزاب"، سهوا من الناسخ، والصواب"غزوة الأحزاب"، ولكن هكذا جاء في الدر المنثور أيضًا 2: 321، ونسب الخبر، لعبد بن حميد، وابن جرير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 580 رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلانٌ يوم بدر، وفلانٌ يوم أحد، وهم يشربونها! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة! فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين"، يقول: شربها القومُ على تقوى من الله وإحسانٍ، وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرِّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك. 12533- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قالوا: يا رسول الله، ما نقول لإخواننا الذين مضوا؟ كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر! فأنزل الله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني قبل التحريم، إذا كانوا محسنين متقين= وقال مرة أخرى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" من الحرام قبل أن يحرَّم عليهم="إذا ما اتقوا وأحسنوا"، بعد ما حُرِّم، وهو قوله: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) ، [سورة البقرة: 275] . 12534- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبلَ أن تحرَّم. فلما حرِّمت قالوا: كيف تكون علينا حرامًا، وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 581 ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرِّمها، إذا كانوا محسنين متقين="والله يحب المحسنين". 12535 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، لمن كان يشرب الخمرَ ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدرٍ وأحُدٍ. 12536 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية، هذا في شأن الخمر حين حرِّمت، سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله="ليبلونّكم الله بشيء من الصيد"، يقول: ليختبرنكم الله (1) ="بشيء من الصيد"، يعني: ببعض الصيد. وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلُهم بصيد البحر، وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لا بجميع. (2) * * *   (1) انظر تفسير"بلا" فيما سلف: 389، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "فالابتلاء ببعض لم يمتنع"، وهو كلام فارغ من كل معنى. وفي المخطوطة: "فالابتلاء ببعض لا يخشع"، أساء الناسخ، الكتابة، فأساء الناشر التصرف. وصواب العبارة ما أثبت، لأن أبا جعفر أراد أن يقول إن قوله تعالى: "بشيء من الصيد"، هو صيد البر خاصة، دون صيد البحر، ولم يعم الصيد جميعه بالتحريم. وهذا بين جدًا فيما سيأتي بعد في تفسير هذه الآيات. فصح ما أثبته من قراءة المخطوطة السيئة الكتابة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 582 وقوله:"تناله أيديكم"، فإنه يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ= وإما بإصابة النَّبْل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجّكم. * * * وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 12537 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال:"أيديكم"، صغارُ الصَّيد، أخذ الفراخ والبيض= و"الرماح" قال: كبارُ الصيد. 12538 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. 12539- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تناله أيديكم ورماحكم"، قال: النَّبْل="رماحكم"، تنال كبير الصيد، (1) ="وأيديكم"، تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض. 12540 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: ما لا يستطيع أن يفرَّ من الصيد.   (1) في المطبوعة: "قال: النبل، ورماحكم تنال ... " بزيادة "واو" للعطف، والصواب ما في المخطوطة، بحذف"الواو". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 583 12541 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد. وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، مثله. 12542 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أيديكم ورماحكم"، قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقرَبوه. 12543 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن حميد الأعرج، وليث، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفّر. * * * القول في تأويل قوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ليختبرنكم الله، أيها المؤمنون، ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهلَ طاعة الله والإيمان به، والمنتهين إلى حدوده وأمره ونهيه، (1) ومن الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه، (2) ويجتنبه خوف عقابه="بالغيب"، بمعنى: في الدنيا، بحيث لا يراه. (3) . * * * وقد بينا أن"الغيب"، إنما هو مصدر قول القائل:"غاب عنّى هذا الأمر   (1) في المطبوعة: "والمنتهون إلى حدوده"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. (2) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) يعني أبو جعفر، بحيث لا يرى العقاب عيانًا في الدنيا، كما يراه عيانًا في الآخرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 584 فهو يغيب غَيْبًا وغَيْبَةً"، وأنّ ما لم يُعَاين، فإن العرب تسميه"غَيْبًا". (1) * * * فتأويل الكلام إذًا: ليعلم أولياء الله من يخافُ الله فيتقي محارمَه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يُعاينه. * * * وأما قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فإنه يعني: فمن تجاوز حدَّ الله الذي حدّه له، (2) بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلَّ ما حرَّم الله عليه منه بأخذِه وقتله="فله عذابٌ، من الله="أليم"، يعني: مؤلم موجع. (3) * * *   (1) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف 1: 236، 237 / 6: 405. (2) انظر تفسير"اعتدى" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) . (3) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 585 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله="لا تقتلوا الصيد"، الذي بينت لكم، وهو صيد البر دون صيد البحر="وأنتم حرم"، يقول: وأنتم محرمون بحج أو عمرة. * * * و"الحرم"، جمع"حَرَام"، والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد. تقول:"هذا رجل حرام" و"هذه امرأة حرَام". فإذا قيل:"محرم"، قيل للمرأة:"محرمة". و"الإحرام"، هو الدخول فيه، يقال:"أحرَم القوم"، إذا دخلوا في الشهر الحرام، أو في الحَرَم. * * * فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيدَ وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة. * * * وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عبادَه حكمَ القاتل من المحرمين الصيدَ الذي نهاه عن قتله متعمدًا. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة"العَمْد" الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارةَ والجزاء في قتله الصيد.   (1) انظر تفسير"التعمد" فيما سلف 9: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان قاتله إحرامَه في حال قتله. وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدًا قتله، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله. قالوا: وهذا أجلُّ أمرًا من أن يحكم عليه، أو يكونَ له كفارة. * ذكر من قال ذلك: 12544 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، من قتله منكم ناسيًا لإحرامه، متعمدًا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه. فإن قتله ذاكرًا لحُرْمه، (1) متعمدًا لقتله، لم يحكم عليه. 12545 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في الذي يقتل الصيد متعمدًا وهو يعلم أنه محرم، ويتعمد قتله، (2) قال: لا يحكم عليه، ولا حج له. وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: هو العمد المكفر، وفيه الكفارة والخطأ، أن يصيبَه وهو ناس لإحرامه، متعمدًا لقتله = أو يصيبه وهو يريد غيره. فذلك يحكم عليه مرة. (3) 12546 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه (4) ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمدُ المكفَّر. 12547 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.   (1) في المخطوطة"ذاكرا" في آخر السطر وفي أوله: "الحرمه" وصواب قراءتها ما في المطبوعة. و"الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء) : الإحرام بالحج. (2) في المطبوعة: "ومتعمد قتله" والصواب من المخطوطة. (3) قوله: "مرة" يعني مرة واحدة فإن عاد لم يحكم عليه، ومن عاد فينتقم الله منه. (4) "الحرم" (بضم فسكون) مضى تفسيره في التعليق رقم: 1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 12548- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا الفضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد قال: العمد هو الخطأ المكفَّر. 12549 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا ليث قال، قال مجاهد: قول الله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، قال: فالعمد الذي ذكر الله تعالى ذكره: أن يصيب الصيدَ وهو يريد غيره فيصيبه، فهذا العمد المكفَّر، فأما الذي يصيبه غيرَ ناس ولا مريد لغيره، فهذا لا يحكم عليه. هذا أجلُّ من أن يحكم عليه. (1) 12550- حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: يقتله متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه. 12551- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. 12552 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، قال ابن جريج"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلَّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا لحرمه، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر. 12553 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:"ومن قتله منكم متعمدًا"، للصيد، ناسيًا لإحرامه ="فمن اعتدى بعد ذلك"، متعمدًا للصيد يذكرُ إحرامه. (2) 12554 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدًا ذاكرًا   (1) الأثر: 12549-"يونس بن محمد بن مسلم البغدادي" الحافظ مضى برقم: 5090. (2) الأثر: 12553-"سهل بن يوسف الأنماطي" مضى في مثل هذا الإسناد رقم: 10648. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 لإحرامه: لم يحكم عليه = قال إسماعيل: وقال حماد، عن إبراهيم، مثل ذلك. 12555 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا حماد بن سلمة قال: أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، الآية، فسألته، فقال: كان عطاء يقول: هو بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل، إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرًا وقلت: ما سمعت فيه؟ فتلكأ ساعة، ثم جعل يضحك ولا يخبرني، ثم قال: كان سعيد بن جبير يقول: يحكم عليه من النعم هديًا بالغ الكعبة، وإنما جُعل الطعام والصيام [كفارة] ، فهذا لا يبلغُ ثمن الهدي، (1) والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة. 12556 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، أخبرني ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه، ولا مريدٍ غيره، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر. 12557- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه للصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله غيرُ محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه مُحْرِم، وأنه حرام، فذلك يوكَل إلى نقمة الله، وذلك الذي جعل الله عليه النقمة. 12558- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه. * * *   (1) في المطبوعة: " ... هديًا بالغ الكعبة فإن لم يجد يحكم عليه ثمنه، فقوم طعامًا، فتصدق به، فإن لم يجد حكم عليه الصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة" غير ما كان في المخطوطة كل التغيير. والذي كان في المخطوطة هو ما أثبته حاشى الزيادة التي بين القوسين زدتها استظهارا من سياق الآية ليستقيم الكلام. وقوله: "فهذا لا يبلغ ثمن الهدي" كأنه يعني إطعام المساكين. والجملة بعد ذلك تحتاج إلى فضل تأمل، ولم أجد الخبر في مكان غير هذا المكان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرِم لقتل الصيد، ذاكرًا لحُرْمه. * ذكر من قال ذلك: 12559 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان. 12560- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج = وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم عن، ابن جريج قال، قال طاوس: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا". 12561 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني بعض أصحابنا، عن الزهري أنه قال: نزل القرآن بالعَمْد، وجرت السنة في الخطأ= يعني: في المحرم يصيب الصيدَ. 12562- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، قال: إن قتله متعمدًا أو ناسيًا، حكم عليه. وإن عاد متعمدًا عُجِّلت له العقوبة، إلا أن يعفو الله. 12563 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: إنما جعلت الكفارة في العمد، ولكن غُلِّظ عليهم في الخطأ كي يتقوا. 12564 - حدثنا عمرو بن على قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، نحوه. 12565 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، خبرنا ابن جريج قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا". * * * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره حرّم قتل صيد البر على كل محرِم في حال إحرامه ما دام حرامًا بقوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد" ثم بيَّن حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدًا لقتله، ولم يخصص به المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا. (1) وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه. فإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه، أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه، أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه = في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا. * * * وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، (3) دون القول الذي قاله مجاهد. (4) وأما ما يلزم بالخطأ قاتله، فقد بيّنا القول فيه في كتابنا: (كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع) ، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل، وليس في التنزيل للخطإ ذكر، فنذكر أحكامه. * * *   (1) السياق: "بل عم ... كل قاتل صيد""كل" مفعول: "عم". (2) في المخطوطة: "من كتاب نص ولا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم". وما في المطبوعة أحسن في السياق. (3) يعني رقم: 12559، 12561. (4) يعني رقم: 12544- 12551 ورقم: 12556، 12558. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 وأما قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم"، فإنه يقول: وعليه كِفاءٌ وبَدل، (1) يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول. يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول، مثل ما قتل من النعم. (2) * * * وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) . * * * وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: (فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) ، بإضافة"الجزاء" إلى"المثل" وخفض"المثل". * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (فجزاء مثل ما قتل) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، بتأويل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: (فجزاء مثل ما قتل) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، لأن الجزاء هو المثل، فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه. وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بالإضافة، رأوا أن الواجبَ على قاتل الصيد أن يَجْزِي مثله من الصيد بمثلٍ من النعم. وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه، بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتولَ نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك، فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى ذكره على قاتل الصيد، ولن يضاف الشيء إلى نفسه. (3)   (1) في المطبوعة: "كفارة وبدل" والصواب من المخطوطة. و"كفاء الشيء" (بكسر الكاف) : مثله ونظيره من قولهم: "كافأه على الشيء مكافأة وكفاء": جزاه. (2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314/6: 576/7: 2279: 57. (3) في المطبوعة: "ولن يضاف ... " وهو غير جيد، وفي المخطوطة: "فإن يضاف" ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه، بالتنوين ونصب"المثل". (1) ولو كان"المثل" غير"الجزاء" لجاز في المثل النصب إذا نوِّن"الجزاء"، كما نصب"اليتيم" إذ كان غير"الإطعام" في قوله: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [سورة البلد: 14، 15] وكما نصب"الأموات""والأحياء"، ونون"الكِفَات" في قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [سورة المرسلات: 25، 26] ، إذ كان"الكفات" غير"الأحياء""والأموات". وكذلك الجزاء لو كان غير"المثل"، لاتسعت القراءة في"المثل" بالنصب إذا نون"الجزاء". ولكن ذلك ضاق، فلم يقرأه أحد بتنوين"الجزاء" ونصب"المثل"، إذ كان"المثل" هو"الجزاء"، وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاءٌ هو مثلُ ما قتل من النعم. (2) * * * ثم اختلف أهل العلم في صفة"الجزاء"، وكيف يجزي قاتلُ الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم. (3) . فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبهًا من النعم، فيجزيه به، ويهديه إلى الكعبة. * ذكر من قال ذلك: 12566 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: أما"جزاء مثل ما قتل من النعم" فإن قتل نعامة أو حمارًا   (1) بل روى ذلك أبو الفتح ابن جني في كتابه"المحتسب" ونسبها لأبي عبد الرحمن يعني السلمي فيما أرجح. وذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات ص: 34 ونسبها إلى محمد بن مقاتل وإن كان ما في المطبوع: "فجزاء مث" بنصب"جزاء" والصواب بنصب"مثل". (2) في المخطوطة: "هو ما قتل من النعم" والصواب ما في المطبوعة. (3) في المطبوعة: "بمثله من النعم" وفي المخطوطة: "مثل من النعم" فرأيت قراءتها كما أثبتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 فعليه بَدَنة. وإن قتل بقرة أو أيِّلا أو أرْوَى (1) فعليه بقرة. أو قتل غزالا أو أرنبًا فعليه شاة. وإن قتل ضبًّا أو حرباءَ أو يَرْبوعًا، فعليه سَخْلة قد أكلت العُشب وشربت اللبن. (2) 12567 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن ابن مجاهد قال، سئل عطاء: أيغَرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال: أليس يقول الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"؟ (3) 12568 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثله. 12569 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: إذا أصاب المحرم الصيدَ، وجب عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءه ذبَحه فتصدق به، فإن لم يجد جزاءه قوَّم الجزاء دراهم، ثم قوم الدراهمَ حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً. 12570 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به   (1) "الأيل" (بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة) : وهو ذكر الوعول. و"الأروى" إناث الوعول وهو اسم لجمعها واحدتها"أروية" (بضم الهمزة وسكون الراء والواو مكسورة والياء مشددة مفتوحة) . وجاء بها هنا وهو يعني"الأروية". (2) "السخلة" (بفتح فسكون) : ولد الشاة من المعز والضأن ذكرا كان أو أنثى. (3) الأثر: 12567-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" مضى برقم: 3356، 5526. وأما "ابن مجاهد" فلم أستطع أن أعرف من هو، وكان في المطبوعة: "أبي مجاهد" وأثبت ما في المخطوطة وكأنه الصواب، وإن أعياني أن أعرف صدر اسمه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 ذوا عدل منكم هديًا بالغَ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد، نظر كم ثمنه = قال ابن حميد: نظر كم قيمته = فقوّم عليه ثمنه طعامًا، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="أو كفارة طعام مساكين، أو عدلُ ذلك صيامًا"، قال: إنما أريد بالطعام الصيام، فإذا وجد الطعام وَجد جزاءه. 12571 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم" فإن لم يجد هديًا، قُوِّم الهدي عليه طعامًا، وصام عن كل صاع يومين. 12572- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة"، قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه، فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعامًا، ثم صام لكل نصف صاع يومًا. 12573 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت وصاحبٌ لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فأقبل علي رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك قال فقال: اذبح كبشًا. (1)   (1) الأثر: 12573-"عبد الملك بن عمير بن سويد القرشي" المعروف بالقبطي و"ابن القبطية". رأى عليا وأبا موسى. مترجم في التهذيب. و"قبيصة بن جابر بن وهب الأسدي" روى عن عمر وشهد خطبته بالجابية ثقة في فقهاء الطبقة الأولى من فقهاء أهل الكوفة بعد الصحابة. مترجم في التهذيب. هذا وخبر قبيصة بن جابر سيرويه أبو جعفر من طرق من رقم: 12573- 12577ن ثم: 12586- 15288 بألفاظ مختلفة. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 181 من طريق سفيان، عن عبد الملك بن عمير ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك. ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 237، 238 وهو رقم: 12588 عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر وأشار إلى بعض طرقه هنا. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 329 بنحو من لفظ رقم: 12588 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم قال: "وصححه" ولم أجده في مظنته من المستدرك للحاكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 12574 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن الشعبي قال: أخبرني قبيصة بن جابر، نحوا مما حدَّث به عبد الملك. 12575 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: قتل صاحب لي ظبيًا وهو محرم، فأمره عمر أن يذبح شاة فيتصدق بلحمها ويُسْقي إهابها. (1) 12576 - حدثني هناد قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال: قتل رجلٌ من الأعراب وهو محرم ظبيًا، فسأل عمر، فقال له عمر: اهدِ شاة. (2) 12577 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين= وحدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا حصين= عن الشعبي قال، قال قبيصة بن جابر: أصبت ظبيًا وأنا محرم، فأتيت عمر فسألته عن ذلك، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ أمرَه أهون من ذلك! قال: فضربني بالدِّرّة حتى سابقته عدوًا! (3) قال: ثم قال: قتلتَ الصيد وأنتَ محرم، ثم تَغْمِص الفُتيا! (4) قال: فجاء عبد الرحمن، فحكما شاة.   (1) الأثر: 12575- هو مختصر الأثر رقم: 12588 وسيأتي تفسير"يسقى إهابها" في التعليق عليه هناك. (2) الأثر: 12576- هذا خبر مرسل عن عمر"بكر بن عبد الله المزني" لم يسمع من عمر. ولكنها قصة قبيصة بن جابر التي ذكرها قبل. (3) "الدرة" (بكسر الدال) : عصا قصيرة يحملها السلطان او غيره يدب بها. ودرة أمير المؤمنين عمر أشهر درة في التاريخ. (4) "غمص الشيء يغمصه غمصا": حقره واستصغره واستهان به. يعني: اتحتقر الفتيا وتستهين بها وتزدريها؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 12578 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. 12579 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: أرأيت إن قتلتُ صيدًا فإذا هو أعور، أو أعرج، أو منقوص، أغرم مثله؟ قال: نعم، إن شئت. قلت: أوْفَي أحبُّ إليك؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولدَ الظبي، ففيه ولد شاة. وإن قتلت ولد بقرة وحشية، ففيه ولد بقرة إنسية مثله، فكلّ ذلك على ذلك. 12580 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" ما كان من صيد البر مما ليس له قرن = الحمار أوالنعامة= فعليه مثله من الإبل. وما كان ذا قرن من صيد البر من وعِلٍ أو أيِّل، فجزاؤه من البقر. وما كان من ظبي فمن الغنم مثله. وما كان من أرنب، ففيها ثَنِيَّة. (1) وما كان من يربوع وشبهه، ففيه حَمَلٌ صغير. وما كان من جرادة أو نحوها، ففيه قبضة من طعام. وما كان من طير البر، ففيه أن يقوَّم ويتصدق بثمنه، وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا. وإن أصاب فرخ طير برِّية أو بيضها، فالقيمة فيها طعامٌ أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا إصابها المحرم، أن يحمل الفحل على عدة من أصاب من البيض على   (1) "الثنية" يعني الثنية من المعز، وهو ما دخل في السنة الثانية أو الثالثة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 بِكارة الإبل، (1) فما لَقِح منها أهداه إلى البيت، وما فسد منها فلا شيء فيه. 12581 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، أخبرني ابن جريج قال، قال مجاهد: من قتله = يعني الصيد = ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر، فعليه مثله هديًا بالغ الكعبة. فإن لم يجد، ابتاع بثمنه طعامًا. فإن لم يجد، صام عن كل مُدٍّ يومًا. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة، كان له= إن كان ذا يسار= مُوَسَّعًا (2) إن شاء يهدي جزورًا أو عَدْلَها طعامًا أو عدلها صيامًا، أيّتهن شاء، (3) من أجل قوله: فجزاء، أو كذا أو كذا (4) قال: فكل شيء في القران:"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء. 12582 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، أخبرني ابن جريج قال، أخبرني الحسن بن مسلم قال: من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدًا، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وأما"كفارة طعام مساكين"، فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي، العصفورَ يقتل، فلا يكون فيه. قال:"أو عدل ذلك صيامًا"، عدل النعامة، أو عدل العصفور، أو عدل ذلك كله. * * * وقال آخرون: بل يقوَّم الصيد المقتول قيمتَه من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته نِدًّا من النعم، ثم يهديه إلى الكعبة.   (1) "البكارة" (بكسر الباء) جمع"بكر" و"بكرة" (بفتح الباء) : وهو الفتى من الإبل بمنزلة الغلام من اللناس. (2) في المطبوعة: "كان له إن كان ذا يسار ما شاء" بحذف"الواو من قوله"وإن كان" وهو لا معنى له، وفي المخطوطة: "كان له وإن كان ذا يسار من سا" فرأيت أن أقرأها كما أثبتها فهو حق المعنى. لأنه يريد أن يقول: إن الله وسع له ورخص في هذا النخيير الذي ذكره بعد. (3) في المطبوعة: "أيهن شاء" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. (4) في المطبوعة: "أو كذا" مرة واحدة وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 * ذكر من قال ذلك: 12583 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبدة، عن إبراهيم قال: ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته. 12584 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد قال: سمعت إبراهيم يقول: في كل شيء من الصيد ثمنه. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية، ما قال عمر وابن عباس، ومن قال بقولهما: أن المقتول من الصيد يُجْزَي بمثله من النعم، كما قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم، وقد قال الله تعالى:"من النعم"، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء. * * * فإن قال قائل: فإن الدراهمَ وإن لم تكن مثلا للمقتول من الصيد، فإنه يشتري بها المثل من النعم، فيهديه القاتل، فيكون بفعله ذلك كذلك جازيًا بما قتل من الصيد مثلا من النعم! قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرًا [أو معيبا، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا] (1) كبيرًا أو سليمًا = أو كان المقتول من الصيد كبيرًا أو سليمًا بقيمته من النعم إلا صغيرًا أو معيبًا= (2) أيجوز له أن يشتريَ بقيمته خلافه وخلافَ صفته فيهديه، أم لا يجوز ذلك له، وهو لا يجوز إلا خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله، ترك قوله في ذلك. لأنّ أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمة ذلك فيهديه، (3) إلا ما   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرا أو كبيرا او سليما أو كان المقتول من الصيد ... " وهو كلام لا يستقيم إلا بهذه الزيادة التي زدتها بين القوسين وتصحيح"أو كبيرا" بما أثبته"إلا كبيرا" وهو ما اسظهرته من سياق كلام أبي جعفر. (2) في المطبوعة: "ولا يصيب بقيمته ... " والصواب ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "بقيمته ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 يجوز في الضحايا. وإذا أجاز شراءَ مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرًا معيبًا، (1) أجاز في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي. (2) وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلافَ لظاهر التنزيل. وذلك أنّ الله تعالى ذكره، أوجب على قاتل الصيد من المحرِمين عمدًا، المثلَ من النعم إذا وجده. وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم، وهو إلى ذلك واجدٌ سبيلا. ويقال لقائل ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر:"ما على قاتل ما لا تبلغُ من الصيد قيمته ما يصاب به من النَّعم ما يجوز في الأضاحي من إطعام ولا صيام. (3) لأن الله تعالى إنما خيَّر قاتل الصيد من المحرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه، فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل، سقط عنه فرض الآخرَيْن. لأن الخيار إنما كان له، وله إلى الثلاثة سبيل. فإذا لم يكن له إلى بعض ذلك سبيل، بطل فرض الجزاء عنه، لأنه ليس ممن عُني بالآية= نظيرَ الذي قلت أنت:"إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا، فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه، وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام"،= هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا أجازوا شرى مثل المقتول" وصواب كل ذلك ما أثبت وإنما وهم الناسخ في"أجازوا" فإن جواب"إذا" يدل على خلافه وصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: "أجازوا في الهدي" غير ما في المخطوطة لوهم الناسخ كما قلت في التعليق السالف. (3) في المطبوعة: "ما لا يبلغ" وهو في المخطوطة غير منقوطة وصوابها ما أثبت. وسياق هذه الجملة: "ما على قاتل ما تبلغ ... من إطعام ولا صيام" يعني ليس على قاتل صيد لا تبلغ قيمته أن يشتري بها من النعم ما يجوز مثله في الأضاحي= إطعام أو صيام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 القول في تأويل قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم= يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل= (1) "هديًا"، يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل، أي يُهْدَي فيبلغ الكعبة. (2) و"الهاء" في قوله:"ويحكم به"، عائدة على"الجزاء". (3) . * * * قال أبو جعفر: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل: أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه، فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا، حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا، حكما عليه من الضأن بكبير. وإن كان الذي أصاب حمار وَحْش، حكما عليه ببقرة. إن كان الذي أصاب كبيرًا من البقر، وإن كان صغيرًا فصغيرًا. وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكور البقر. وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى. ثم كذلك ذلك، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبهًا من النعم، (4) فيحكمان عليه به، كما قال تعالى ذكره. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلافٍ في ذلك بينهم. * ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه:   (1) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 6: 51، 60. (2) في المطبوعة: "أن يهدي" وأثبت ما في المخطوطة. (3) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف 4: 34، 35/9: 466. (4) في المخطوطة: "ينظر إلى أشبه الأشياء" والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 12585 - حدثنا هنّاد بن السريّ قال: حدثنا ابن أبي زائدة قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كان رجلان من الأعراب محرِمين، فأحاش أحدهما ظبيًا، فقتله الآخر. (1) فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فقال له عمر: (2) وما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك، اذهبا فأهديا شاة. فلما مضَيا قال أحدهما لصاحبه: ما درَى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعها عمر، فردّهما فقال: هل تقرأان سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما: (3) "يحكم به ذوا عدل منكم"، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا. 12586 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. فأقبل على رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك. قال فقال: اذبح كبشًا= قال يعقوب في حديثه، فقال لي: اذبح شاة= فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت: إن أميرَ المؤمنين لم يدرِ ما يقول! فقال صاحبي: انحر ناقتك. فسمعها عمر بن الخطاب، فأقبل عليَّ ضربًا بالدِّرة وقال: تقتل الصيد وأنت محرم، وتَغْمِصُ الفُتْيا! (4) إن الله تعالى يقول في كتابه:"يحكم به ذوا عدل منكم"، هذا ابن عوف، وأنا عمر! (5) 12587 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن   (1) في المطبوعة: "فأجاش" بالجيم وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط."حاش الصيد حوشا وحياشا" و"أحاشه" و"أحوشه" و"حشت عليه الصيد" و"أحشته": إذا نفرته نحوه وأخذته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة ثم سقته نحوه وجمعته عليه. (2) في المخطوطة في الموضعين: "عمرو" وهو خطأ محض، وفي المطبوعة في الآخرة منهما"عمرو" وهو خطأ. (3) في المطبوعة: "فقرأها عليهما" والصواب ما في المخطوطة. (4) انظر تفسير"غمص الفتيا" فيما سلف ص: 17 تعليق: 4. (5) الأثر: 12586- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12573. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 الشعبي قال، أخبرني قبيصة بن جابر، بنحو ما حدث به عبد الملك. 12588 - حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجًا (1) فكنا إذا صلينا الغداة، اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث، (2) قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبيٌ أو بَرَح، (3) فرماه رجل منا بحجر، فما أخطأ خُشَّاءه، (4) فركب رَدْعَه ميتًا. (5) قال: فعظَّمنا عليه. فلما قدمنا مكة، خرجت معه حتى أتينا عمر، فقص عليه القصة. قال: وإذا إلى جنبه رجلٌ كان وجهه قُلْبُ فضة (6) =يعني عبد الرحمن بن عوف = فالتفت إلى صاحبه فكلمه. قال: ثم أقبل علي الرجل قال: أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمَّدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركتَ بين العمد والخطأ، أعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وَاسْقِِ إهابَها. (7) قال: فقمنا من عنده، فقلت: أيها الرجل،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "خرجنا" لم يذكر"حجاجا" ولكن ابن كثير نقله عن هذا الموضع وفيه"حجاجا" وكذلك هي في رواية البيهقي في السنن 5: 181. وإذن فقد سقط من الناسخ"حجاجا" فلذلك أثبتها. (2) "صلاة الغداة" هي صلاة الفجر. (3) "سنح الظبي" أتاك عن يسارك و"برح": أتاك عن يمينك. (4) في المطبوعة: "خششاءه" وأثبت ما في المخطوطة وهي بضم الخاء وتشديد الشين المفتوحة وكلتاهما صواب وبهما روى الخبر. و"الخشاء" و"الخششاء": وهو العظم الدقيق العاري من الشعر الناتئ خلف الأذن. (5) في المطبوعة: "فركب وودعه ميتا" وهو كلام ساقط جدا. وفي المخطوطة: "فركب ودعه ميتا" وهو تصحيف صوابه ما أثبت. يقال للقتيل: "ركب ردعه": إذا خر لوجهه على دمه. وركوبه عليه: أن الدم يسيل ثم يخر عليه صريعا. وأصل"الردع" ما تلطخ به الشيء من زعفران أو غيره، وهو أثره ولونه. (6) "القلب" (بضم فسكون": سوار يكون قلدا واحدا أي ليا واحدا. وفي الحديث: "أن فاطمة حلت الحسن والحسين رضي الله عنهما بقلبين من فضة" أي: سوارين من فضة. وصفة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في طبقات ابن سعد 3/1/94: "كان رجلا طويلا حسن الوجه رقيق البشرة فيح جدّا (ميل في الظهر أو العنق) أبيض مشربا حمرة لا يغير لحيته ولا رأسه". (7) قوله"أسق إهابها" يعني: أعط إهابها من يدبغه ويتخذ من جلده سقاء. و"السقاء" ظرف الماء من الجلد. و"الإهاب": الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 عظِّم شعائر الله! (1) فما درى أمير المؤمنين ما يُفتيك حتى سأل صاحبه! اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعلَّ ذاك! (2) قال قبيصة: ولا أذكر الآية من"سورة المائدة":"يحكم به ذوا عدل منكم" قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا إلا ومعه الدِّرّة! قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدّرة، (3) وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحُكم! قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحِلَّ لك اليوم شيئًا يحرُم عليك مني! (4) قال: يا قبيصة بن جابر، إنّي أراك شابَّ السن، فسيحَ الصدر (5) بيِّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعةُ أخلاق حسنة وخلق سييء، فيفسد الخلق السييء الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب! (6) 12589 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن مخارق، عن طارق قال: أوطأ أربدُ ضَبًّا (7) فقتله- وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي! فحكما فيه جَدْيًا قد جَمَع الماء والشجر. (8) ثم قال عمر:"يحكم به ذوا عدل منكم". (9) 12590 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدًا، فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك، وعنده عبد الله بن صفوان، فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدقني، وإما أن تقول فأصدقك. فقال ابن صفوان: بل أنت فقل. فقال ابن عمر، ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان. 12591 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه قال: لو وجدت حكمًا عدلا لحكمت في الثعلب جَدْيًا، وجديٌ أحبُّ إليّ من الثعلب. (10)   (1) في المخطوطة: "أعظم شعائر الله" وما في المطبوعة هو الموافق لما في سنن البيهقي وهو أولاهما لمطابقته نص آية"سورة الحج": "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب". (2) في المطبوعة: "ففعل ذاك" والصواب هو ما في المخطوطة وابن كثير يقول: فلعل ذلك أن يكون جزاء مثل ما قتلت من الصيد. وفي ابن كثير: "يعني أن يجزئ عنك" وهذا النص ليس في المخطوطة فلذلك لم أزده في هذا الموضع، أخشى أن يكون من كلام ابن كثير. (3) روى البيهقي هذا الخبر بغير هذا اللفظ وقال عند هذا الموضع: "فما علمت بشيء والله ما شعرت إلا به يضرب بالدرة على= وقال مرة: على صاحبي" فهذه التي هنا هي إحدى الروايتين. (4) يعني أنه لما أقبل عليه عمر وعوف أنه ضاربه كما ضرب صاحبه رهب عمر واخافه بقوله: إنه لن يحله من ضرب بشرة هي عليه حرام إلا بحقها. فلذلك هاب عمر أن يضربه كما ضرب صاحبه. فانظر إلى ما طبع عليه أسلافنا من حرية الطباع وما وقذ الإسلام من عرامهم حتى كف عمر يده مخافة أن يصيب من أبشار المسلم حراما لا يحل له إلا بحقه. (5) قوله: "فسيح الصدر" أي: واسع الصدر وذلك من دلائل القوة ومتانة التركيب وهذه المقالة من عمر من أبلغ ما يهدى إلى الشباب فإن البلاء إنما يأتي من سوء الخلق، وخلق سيئ واحد يجر وراءه جميع مساوي الأخلاق. (6) الأثر: 12588- انظر تخريج خبر قبيصة بن جابر فيما سلف في التعليق على رقم: 12573. وختم البيهقي هذا الأثر (السنن 5: 181) وهو من رواية ابن أبي عمر، عن سفيان عن عبد الملك بن عمير: "قال ابن أبي عمر، قال سفيان: وكان عبد الملك إذا حدث بهذا الحديث قال: ما تركت منه ألفا ولا واوا". (7) "أوطأ" يعني: حمل دابته حتى وطئت الضب أي داسته. فسرته كذلك لأنهم يقولون: "وطئ الشيء ووطأته، وتوطأه" بمعنى: داسه ولم يذكروا"أوطأه" وإن كنت أرى القياس يعين عليه. (8) قوله: "جمع الماء والشجر" يعني: فطم ورعى الماء والشجر وهذا تفسير لم أجده في شيء من مراجع اللغة او مجازها. ينبغي إثباته. (9) الأثر: 12589-"مخارق" هو"مخارق بن خليفة بن جابر" ويقال: "مخارق بن عبد الله" و"مخارق بن عبد الرحمن" البجلي الأحمسي، ثقة مضى برقم: 11682. و"طارق" هو: "طارق بن شهاب البجلي الأحمسي" مضى برقم: 9744، 11682، 12073- 12075، 12085. و"أربد" هو"أربد بن عبد الله البجلي" أدرك الجاهلية هكذا ترجم له ابن حجر في الإصابة في القسم الثالث، وذكر هذا الخبر مبينا فيه اسمه ثم قال: "إسناده صحيح ورواه الأعمش عن سليمان بن ميسره، عن طارق، ولم يسم الرجل". ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 182 من طريق الشافعي عن سفيان بن عيينة. وهو في الأم 2: 165 ومسند الشافعي للسندي: 332 وشرحه الأستاذ حامد مصطفى بمثل ما شرحته قبل. (10) في المطبوعة: "من الثعلب" وأثبت ما في المخطوطة وهو الجيد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 12592 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكير قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز: أن رجلا سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدًا وهو محرم، وعنده ابن صفوان، فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك، أو أقول فتصدقني. قال: قل وأصدقك. 12593 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل قال، أخبرني ابن جرير البجلي قال: أصبت ظبيًا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليّ تيسًا أعْفَر= قال أبو جعفر:"الأعفر": الأبيض. (1) 12594 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بإسناده عن عمر، مثله. 12595 - حدثنا عبد الحميد قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن   (1) الأثر: 12593-"أبو وائل" هو"شقيق بن سلمة الأسدي" مضى مرارا كثيرة. و"أبو جرير البجلي" لم يترجم له غير ابن سعد في الطبقات 6: 106ن 107 وقال: "روى عن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد" وساق هذا الخبر مختصرا من طريق إسحق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن منصور عن أبي وائل ثم ساقه مطولا بنحو لفظه في خبر أبي جعفر: من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل عن منصور عن شقيق. ورواه البيهقي في السنن 5: 181، 182 من طريق عبيد الله بن معاذ عن شعبة عن منصور بنحو لفظ أبي جعفر. ثم قال في آخره: "زاد فيه جرير بن عبد الحميد عن منصور: وأنا ناس لإحرامي". وهذه الزيادة في خبري ابن سعد، في الأول: "وأنا ناس لإهلالي" وفي الآخر: "ولا أذكر إهلالي". ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 239 عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 329 وزاد نسبته لأبي الشيخ. وفي المطبوعة: "ابن جرير البجلي" والصواب من المخطوطة وهي غير منقوطة. وفي ابن كثير مثل ما في المطبوعة وفي سنن البيهقي والدر المنثور: "أبو حريز" والصواب ما في طبقات ابن سعد. وكان في المطبوعة: "فأتيت عبد الرحمن وسعيدا" والصواب ما أثبت من المخطوطة و"عبد الرحمن" هو"عبد الرحمن بن عوف" و"سعد" هو: "سعد بن أبي وقاص". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 أشعث بن سوار، عن ابن سيرين قال: كان رجل على ناقة وهو محرم، فأبصر ظبيًا يأوي إلى أكمة، فقال: لأنظرنّ أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ (1) فوقعت عَنز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها، (2) فأتى عمر فذكر ذلك له، فحكم عليه هو وابن عوف عنزا عفراء= قال: وهي البيضاء. 12596 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن محمد: أن رجلا أوطأ ظبيًا وهو محرم، (3) فأتى عمر فذكر ذلك له، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف، فأقبل على عبد الرحمن فكلمه، ثم أقبل على الرجل فقال: أهد عنزا عفراء. 12597 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شيء لم يمض فيه حكومة، استقبل به، فيحكم فيه ذوا عدل. (4) 12598 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن يعلي، عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولدَ أرنب، فقال: فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى ذكره:"يحكم به ذوا عدل منكم". (5) 12599 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف،   (1) في المطبوعة: "لأنظر أنا أسبق" وفي المخطوطة: "لأنظر وأنا أسبق" وصواب قراءتها ما أثبت. (2) "العنز" الأنثى من المعزى والأوعال والظباء. (3) انظر تفسير"أوطأ" فيما سلف ص: 26 تعليق: 1. (4) أي لم يمض فيه حكم سابق. وقوله: "استقبل به" يعني: ابتدأ النظر فيه، بغير حكم سابق. (5) الأثر: 12598-"عمرو بن حبشي" تابعي ثقة، مضى ومضى ضبط اسمه برقم: 2340. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 عن حميد، عن بكر: أن رجلين أبصرا طبيًا وهما محرمان، فتراهنا، وخطرُ كل واحد منهما لمن سبق إليه. (1) فسبق إليه أحدهما، فرماه بعصاه فقتله. فلما قدما مكة، أتيا عمر يختصمان إليه، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فذكرا ذلك له، فقال عمر: هذا قِمارٌ، ولا أجيزه! ثم نظر إلى عبد الرحمن، فقال: ما ترى! قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلما قَفَّى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه: ما درى عُمر ما يقول حتى سأل الرجل! فردّهما عمر فقال: إن الله تعالى ذكره لم يرضَ بعمر وحده، فقال:"يحكم به ذوا عدل منكم"، وأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف. * * * وقال آخرون: بل ينظر العَدْلان إلى الصيد المقتول، فيقوّمانه قيمته دراهمَ، ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هَدْيًا. فالحاكمان يحكمان، في قول هؤلاء، بالقيمة. وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمتَه في الموضع الذي أصابه فيه. * * * وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول:"ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته"، (2) وهو قول جماعة من متفقِّهة الكوفيين. * * * وأما قوله:"هديًا" فإنه مُصَدَّر على الحال من"الهاء" التي في قوله:"يحكم به". * * * وقوله:"بالغ الكعبة" من نعت"الهدي" وصفته. وإنما جاز أن ينعت به، وهو مضاف إلى معرفة، (3) لأنه في معنى النكرة. وذلك أن معنى قوله:"بالغ   (1) "الخطر" (بفتحتين) : الرهن وهو السبق الذي يترامى عليه في التراهن. و"أخطر المال" جعله خطرا بين المتراهنين، و"تخاطروا": تراهنوا وكان في المطبوعة: "وجعل كل واحد منهما" وهذه الكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة جدا، رأيت أن أستظهر قراءتها كذلك من معنى الرهان. وهو الصواب إن شاء الله. (2) هو رثم: 12583. (3) في المطبوعة: "ينعت وهو مضاف" حذف"به" فاختل الكلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 الكعبة"، يبلغُ الكعبة. فهو وإن كان مضافًا فمعناه التنوين، لأنه بمعنى الاستقبال، وهو نظير قوله: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [سورة الأحقاف:24] ، فوصف بقوله:"ممطرنا""عارضًا"، لأن في"ممطرنا" معنى التنوين، لأن تأويله الاستقبال، فمعناه: هذا عارض يمطرنا. فكذلك ذلك في قوله:"هديًا بالغً الكعبة". * * * القول في تأويل قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو عليه كفارة طعام مساكين= و"الكفارة" معطوفة على"الجزاء" في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". واختلف القرأة في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: (أو كفارة طعام مساكين) بالإضافة. وأما قرأة أهل العراق، فإنّ عامتهم قرءوا ذلك بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام": أو كفارة طعام مساكين * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم". (1) . * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"أو كفارة طعام مساكين". (2) فقال بعضهم: معنى ذلك أنّ القاتل وهو محرم صيدًا عمدًا، لا يخلو من   (1) انظر ما سلف ص: 13ن 14. (2) انظر تفسير"الكفارة" فيما سلف 10: 531 تعليق: 11 والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى ذكره: من مثل المقتول هديًا بالغَ الكعبة، أو طعامُ مسكين كفارة لما فعل، أو عدلُ ذلك صيامًا= إلا أنه مخيَّر في أيِّ ذلك شاء فعل، وأنه بأيِّها كان كفَّر فقد أدّى الواجب عليه. وإنما ذلك إعلامٌ من الله تعالى عبادَه أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرُجَ حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرًا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم، لا يجزيه غيرُ ذلك ما دام للمثل واجدًا. قالوا: فإن لم يكن له واجدًا، أو لم يكن للمقتول مثلٌ من النعم، فكفارته حينئذ إطعام مساكين. * ذكر من قال ذلك: 12600 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعامُ مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وَبال أمره" قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجدها، أطعم عشرين مسكينًا. (1) فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بَدَنَة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام مدٌّ مُدٌّ شِبَعَهم. (2) 12601 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد   (1) في المطبوعة: "فإن لم يجد" وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 12600- وسيأتي برقم: 12633 في المطبوعة: "يشبعهم" وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي في المخطوطة هناك: "وشبعهم" بالواو والجيد ما هنا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 وأنتم حرمٌ" إلى قوله:"يحكم به ذوا عدل منكم" فالكفارة: من قتل ما دون الأرنب، إطعام. 12602 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءَه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد جزاءه، قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قوِّمت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل صاع يومًا. قال: إنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً. 12603 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن زهير، عن جابر، عن عطاء ومجاهد وعامر:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهَدْي. (1) 12604 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئًا من الصيد، عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قومت الدراهم طعامًا، ثم صامَ لكل نصف صاع يومًا. 12605- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال: إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه، فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع، صام له يومًا. ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن هديٍ، فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به، حكم عليه الصوم، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="كفارة طعام مساكين"، قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي="أو عدل ذلك صيامًا"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به، مما لا يبلغ ثمن هدي، حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يومًا.   (1) زاد في المطبوعة: "ليذوق" وقطع الآية، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 12606 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتل منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثلُه هديًا بالغَ الكعبة. ومن لم يجد، ابتاع بقيمته طعامًا، فيطعم كل مسكين مُدَّين. فإن لم يجد، صام عن كل مدَّين يومًا. 12607 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن قتله منكم متعمدًا"، إلى قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: إذا قتل صيدًا، فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم. فإن لم يجد، حكم عليه، ثم [قُوِّم] الفداءُ، كم هو درهمًا، ثمّ قدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين، (1) فصام عن كل مسكين يومًا، ولا يحل طعام المسكين، لأن من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء. 12608- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد فيما جزاؤه شاة، (2) فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم". وما كان من كفارة بإطعام مساكين، (3) مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي"أو عدل ذلك صيامًا"، (4) قال عدل النعامة أو العصفور، (5) أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء فقال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فلصاحبه أن يختار ما شاء.   (1) في المطبوعة: "فإن لم يجد ما حكم عليه قوم الفداء كم هو درهما، وقدر ثمن ذلك..ز" وفي المخطوطة: "فإن لم يجد حكم عليه ثم الفداء كم هو درهما بين قدر ثمن ذلك ... " ومكان (بين) (ثم) بين القوسين والعبارة بعد ذلك كله مشكلة، لم أستطع أن أهتدي إلى مكانها في كتاب آخر ولا أن ألتمس لها تحريفا أرضى عنه. (2) في المطبوعة: "مما جزاؤه" وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "من كفارة طعام" وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة: زاد في الآية"ليذوق" ثم قطع الآية. (5) في المطبوعة: "أو العصفور" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 12609 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، فإن لم يجد جزاءً، قوِّم عليه الجزاءُ طعامًا، ثم صاع لكل صاع يومين. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم، الخيارُ بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي: الجزاء بمثله من النعم، والطعام، والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، فعليه أن يجزي بمثله من النعم، أو يكفر بإطعام مساكين، أو بعدل الطعام من الصيام. * ذكر من قال ذلك: 12610 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، في قول الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم له ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إن أصابَ إنسان محرم نعامة، فإن له= وإن كان ذا يسار (1) أن يهدي ما شاء، جزورًا، أو عدلها طعامًا، أو عدلها صيامًا. قال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء. 12611 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قال:"ما كان في القرآن: أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل. 12612 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط وعبد الأعلى، عن داود،   (1) في المطبوعة: "إن كان ذا يسار" حذف الواو كما فعل في الأثر السالف: ص: 19 تعليق: 2 والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 عن عكرمة قال: ما كان في القرآن"أو""أو"، فهو فيه بالخيار. وما كان:"فمن لم يجد"، فالذي يليه ثم الذي يليه. (1) 12613 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن، مثله. 12614 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن عطاء ومجاهد، أنهما قالا في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قالا ما كان في القران:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل. 12615 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: ما كان في القرآن:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل. 12616 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، عن الحسن= قال وأخبرنا عبيدة، عن إبراهيم= قالا كل شيء في القرآن"أو""أو"، فهو بالخيار، أيّ ذلك شاء فعل. (2) 12617 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن"أو""أو" فصاحبه مخيَّر فيه، وكل شيء:"فمن لم يجد" فالأول، ثم الذي يليه. * * * واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة، في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم، إذا اختار الكفارة بأحدهما دونَ الهدي.   (1) في المطبوعة: "فمن لم يجد فالأول ثم الذي يليه" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض. (2) الأثر: 12616-"أبو حرة البصري" هو"واصل بن عبد الرحمن" مضى برقم: 6385 وكان في المطبوعة هنا"أبو حمزة" والصواب من المخطوطة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك، فإنّ الواجب عليه أن يقوِّم المثلَ من النعم طعامًا، ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يومًا * ذكر من قال ذلك: 12618 - حدثنا هناد قال، أخبرنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"أو عدل ذلك صيامًا"؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاة، أقيمت الشاة طعامًا، ثم جعل مكان كل مدّ يومًا يصومه. * * * وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم، أن يقوِّم الصيد المقتولَ طعامًا، ثم الصدقة بالطعام إن اختار الصدقة. (1) وإن اختار الصوم صام. * * * ثم اختلفوا أيضا في الصوم. فقال بعضهم: يصوم لكل مدّ يومًا. * * * وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يومًا. وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا. * * * * ذكر من قال: المقوَّم لإطعام هو الصيد المقتول. (2) 12619 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد"، الآية، قال: كان قتادة يقول: يحكمان في النعم، فإن كان ليس   (1) في المطبوعة: "ثم يتصدق بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة وهو لا بأس به. (2) في المطبوعة: "المتقوم للإطعام" وفي المخطوطة بهذا الرسم غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 عنده ما يبلغ ذلك، (1) نظروا ثمنه فقوَّموه طعامًا، ثم صام مكان كل صاع يومين. * * * وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالإطعام، لأن من وجد سبيلا إلى التكفير بالإطعام، فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا. ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالإطعام في هذا الموضع، ليدلّ على صفة التكفير بالصوم= لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد. (2) وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل. (3) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدًا مثلُ الذي قتل من النعم= لا القيمة، إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم. وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم. والدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل، والله تعالى ذكره إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا" أن يكون تخييرًا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره، جعل ما أوجبَ في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلالا قبل حال   (1) في المطبوعة: "فإن كان ليس صيده ما يبلغ ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "لأنه جعل التكفير ... " وصوابه ما في المطبوعة. (3) انظر ما سلف ص: 15 وما بعدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 إحرامه، [عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه] وحلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد. (1) ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه. فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته، (2) مخيَّر في تكفيره، فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك (3) فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، (4) . ومن أبى ما قلنا فيه، قيل له: حكم الله تعالى ذكره على قاتل الصيد بالمثل من النعم، أو كفارة طعام مساكين، أو عدله صيامًا= كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك، فزعمتَ أن أحدهما مخيَّر في تكفير ما جعل منه، عِوَضٌ بأيّ الثلاث شاء، وأنكرت أن يكونَ ذلك للآخر، فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك= فجعل الخيارَ فيه حيث أبيت، وأبى حيث جعلته له= فرقٌ من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا إذا ألزم في الآخر مثله. (5)   (1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "كما جعل الفدية من صيام او صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه، نظير الصيد". وهو كلام غير مستقيم وهو اختصار لما في المخطوطة. وكان في المخطوطة هكذا: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان حلالا قبل حال إحرامه كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد". وهي جملة مختلطة فيها بلا شك زيادة من الناسخ وهو قوله: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة او نسك" واستظهرت أن مكان هذه العبارة كما وضعته بين القوسين، لتتم المناظرة بين الفعلين والعقوبتين والجزاءين وبذلك استقام الكلام إن شاء الله. (2) في المطبوعة: "من إيذائه" وأثبت ما في المخطوطة وهو غير منقوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "في تكفيره فعليه ذلك" وهو خطأ محض صوابه ما أثبت. (4) في المطبوعة: "فمثله إن شاء الله قاتل الصيد" وفي المخطوطة: "فمثله مما شاله قاتل الصيد" واستظهرت الصواب من نص الآية"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم". (5) انظر ما قاله أبو جعفر في الحلق فيما سلف 4: 76- 78. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام. فقال بعضهم: يقوَّم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه. (1) وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، (2) وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه. * * * وقال آخرون: بل يقوَّم ذلك بسعر الأرض التي يكفِّر فيها. (3) * ذكر من قال ذلك: 12620 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال في محرم أصاب صيدًا بخراسان، قال: يكفر بمكة أو بمنًى. وقال: يقوّم الطعام بسعر الأرض التي يكفّر بها. 12621 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، في رجل أصاب صيدًا بخراسان، قال: يحكم عليه بمكة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن قاتل الصيد إذا جزأه بمثله من النَّعم، فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه، (4) من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام. فإن جزاه بالإطعام، قوّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه، لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام. ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى ذكره؛ إنما شَرَط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي   (1) في المطبوعة: "قيمته بالموضع" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض وليس في المخطوطة"فيه" وإثباتها واجب. (2) يعني ما سلف رقم: 12583، 12584/ 12604، 12605. (3) في المطبوعة: "يكفر بها" وأثبت ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "في خلق" والجيد ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 بغير الهدى أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم. * ذكر من قال ذلك: 12622 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة. وما كان من صدقة أو صوم، حيث شاء. * * * وقد خالف ذلك مخالفون، فقالوا: لا يجزئ الهدى والإطعام إلا بمكة. فأما الصوم، فإن لم يكن كفَّر، به يصوم حيث شاء من الأرض. (1) * ذكر من قال ذلك: 12623- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال: الدم والطعام بمكة، والصيامُ حيث شاء. 12624 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن مالك بن مغول، عن عطاء قال: كفارة الحج بمكة. 12625 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أين يُتصدق بالطعام إن بدا له؟ قال: بمكة، من أجل أنه بمنزله الهدي، قال:"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو هديًا بالغ الكعبة"، من أجل أنه أصابه في حَرَم = يريد البيت = فجزاؤه عند البيت. * * *   (1) في المطبوعة: "فأما الصوم فإن كفر به يصوم حيث شاء من الأرض" وفي المخطوطة: "فإن لم يكن كفر به أن يصومه حيث شاء من الأرض" وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 فأما الهدي، فإنّ من جَزَى به ما قتل من الصيد، (1) فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة كما قال تعالى ذكره (2) وينحره أو يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم= وعنَى بالكعبة في هذا الموضع، الحرم كله. (3) ولمن قدَّم بهديه الواجبَ من جزاء الصيد، أن ينحره في كل وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده، ويطعمه. وكذلك إن كفر بالطعام، (4) فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب. وإن كفّر بالصوم فكذلك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالإطعام على ما قد بينا فيما مضى. * ذكر من قال ذلك: 12626 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء:"أو عدل ذلك صيامًا"، هل لصيامه وقت؟ قال: لا إذ شاء وحيث شاء، وتعجيله أحبُّ إليّ. 12627 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: رجل أصابَ صيدًا في الحج أو العمرة، فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرَّم أو غيره من الشهور، أيجزئ عنه؟ قال: نعم. ثم قرأ:"هديًا بالغ الكعبة" = قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ. (5)   (1) في المطبوعة: "فأما الهدي، فإنه من جراء ما قتل من الصيد" وهو كلام فاسد جدا وفي المخطوطة: "فإن من جرائه ما قتل من الصيد" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. (2) في المطبوعة: "إلا أن يبلغه الكعبة طيبا وينحره أو يذبحه" وهو فاسد المعنى وفي المخطوطة: "إلا أن يبلغه الكعبة طيبا قال تعالى ذكره وينحره ... " وصواب قراءة"طسا" غير منقوطة"كما" كما أثبتها. (3) في المطبوعة: "ويعني بالكعبة" وفي المخطوطة"وعنا بالكعبة" وصواب قراءتها ما أثبت. (4) في المطبوعة: "بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة. (5) الأثر: 12627-"يحيى" هو"ابن أبي زائدة" وهو: "يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" ومضى مرارا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 12628- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليم، عن عطاء قال: إذا قدمتَ مكة بجزاء صيدٍ فانحره، فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة"، إلا أن يقدَم في العشر، فيؤخِّرُه إلى يوم النحر. (1) 12629- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: يتصدّق الذي يصيب الصيدَ بمكة. فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو على قاتل الصيد محرِمًا، عدلُ الصّيد المقتول من الصيام. وذلك أن يقوّم الصيد حيًّا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كل مدٍّ يومًا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عَدَل المدَّ من الطعام بصوم يوم في كفَّارة المُوَاقع في شهر رمَضَان. (2) * * * فإن قال قائل: فهلا جعلت مكان كلّ صاع في جزاءِ الصيد، صومَ يوم، قياسًا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في نظيره، وذلك حكمه على كَعْب بن عُجْرة إذ أمره أن يطعم إنْ كفَّر بالإطعام فَرْقًا من طعام، وذلك ثلاثة آصُعٍ بين ستّة مساكين (3) = إنْ كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام، فجعل الأيام   (1) في المطبوعة: "فيخر" بغير ضمير وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر الأخبار في كفارة من أتى أهله في نهار رمضان وهو صائم في السنن الكبرى البيهقي 4: 221- 225. (3) انظر خبر"كعب بن عجرة" إذ شكا رأسه من صئبانه، فيما سلف في التفسير 4: 58- 69 الآثار رقم: 3334- 3359. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 الثلاثة في الصوم عَدْلا من إطعام ثلاثة آصع، فإن ذلك بالكفارة في جزاءِ الصيد، أشبهُ من الكفارة في قتلِ الصيد بكفَّارة المُواقع امرأتَه في شهر رمضان؟. قيل: إن"القياس"، إنما هو رَدُّ الفروع المختلف فيها، إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها. ولا خلافَ بين الجميع من الحجّة أنه لا يجزئ مكفِّرًا كفَّر في قتل الصيد بالصوم، أن يعدِلَ صوم يوم بصاعِ طعام. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز خلافها فيما حدَّثت به من الدين مجمعةً عليه، (1) صحَّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعامَ في قتل الصيد، مخالف حكم معادلته إيَّاه في كفارة الحلق، إذْ كان غير جائز ردّ أصْلٍ على أصْلٍ قياسًا. وإنما يجوز أن يقاس الفرعُ على الأصل. (2) وسواء قال قائل:"هلا رددتَ حكم الصوم في كفارة قتلِ الصيد، على حكمه في حَلْق الأذى فيما يُعْدل به من الطعام"؟ = وآخر قال:"هلا رددت حكم الصوم في الحلق، على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يُعدلُ به من الطعام، فتُوجب عليه مكان كل مدٍّ أو مكان كل نصف صاع صومَ يوم"؟ * * * وقد بينا فيما مضى قبل أن"العَدْل" في كلام العرب بالفتح، هو قدر الشيء من غير جنسه= (3) وأن"العِدْل" هو قدره من جنسه. (4) وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول:"العدل" مصدر من قول القائل:"عَدَلت بهذا عَدْلا حسنًا". قال:"والعَدْل" أيضًا بالفتح،   (1) في المطبوعة: "حدت به من الدين" (بتشديد الدال والتاء في آخره) وفي المخطوطة"حدث به" بالثاء وصواب قراءتها ما أثبت. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا كان غير جائز وداخل على آخر قياسا" وفي المخطوطة مثلها مهملة غير منقوطة. وهو كلام لا معنى له، بل الصواب المحض ما أثبت وذلك أن الكاتب كتب: "وداحل" وصوابها: "رد أصل" ثم كتب"على أحر" وصوابها: "على أصل" وهو ظاهر كلام أبي جعفر كما رأيت قبل، وكما ترى بعد. (3) في المطبوعة: "وهو قدر ... " بزيادة"الواو" وهو خطأ. (4) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 2: 35، 574. ثم معاني القرآن للفراء 1: 320، ثم مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 53، 175، 176. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 المثل. ولكنهم فرَّقوا بين"العدل" في هذا وبين"عِدْل المتاع"، بأن كسروا"العين" من"عِدْل المتاع"، وفتحوها من قول الله تعالى: (1) وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] ، وقول الله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا"، كما قالوا:"امرأة رَزان" وحجر رَزين". (2) وقال بعضهم:"العدل" هو القسط في الحق، و"العِدْل" بالكسر، المثل. وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى. (3) . * * * وأما نصب"الصيام" فأنه على التفسير، (4) كما يقال:"عندي ملء زقٍّ سمنًا"، و"قدر رطلٍ عسلا". (5) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. (6)   (1) في المطبوعة: "من قولهم" وفي المخطوطة: "من قول هم" وهو خطأ غريب والصواب ما كتبت إن شاء الله. (2) نص هذا الكلام ذكره صاحب لسان العرب في مادة (عدل) ولم يشر إليه في مادة (رزن) فهو مما يقيد في اللسان في موضعه. وجاء في اللسان"وعجز رزين" وهو خطأ يصحح، إنما الصواب"وحجر" و"حجر رزين": ثقيل. وقد صرح صاحب أساس البلاغة فقال: "وامرأة رزان، ولا يقال"رزينة". (3) يعني ما سلف في 2: 35. (4) "التفسير" هو التمييز وانظر ما سلف في فهارس المصطلحات. (5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 320. (6) عند هذا الموضع انتهى المجلد الثامن من مخطوطة التفسير التي اعتمدناها. وفيها هنا ما نصه: "تم المجلد الثامن بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا. يتلوه في التاسع إن شاء الله تعالى: ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء: ما "عَدْل ذلك صيامًا"؟ قال: عدل الطعام من الصيام. وكان الفراغ منه في شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وسبعمئة". ثم يليه في أول الجزء التاسع ما نصه: "بسْم الله الرَّحمن الرحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ بقية تفسير: "أَوْ عَدْلُ ذلك صِيَامًا". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 12630- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: عَدْل الطعامِ من الصيام. قال: لكل مدٍّ يومًا، يأخذ زعَم بصيام رمضان وبالظِّهار. (1) وزعم إن ذلك رأى يراه، ولم يسمعه من أحد، ولم تمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين، قلت: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاةٌ، قوِّمت طعامًا، ثم صام مكان كل مدٍّ يومًا. قال: ولم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة؟ 12631 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: بصوم ثلاثةَ أيام إلى عشرة أيام. 12632 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد:"أو عدل ذلك صيامًا"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به مما لا يبلُغ ثمنَ هدي، حكم عليه الصيامُ مكان كل نصفِ صاعٍ يومًا. 12633 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إذ قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام   (1) في المطبوعة: "يؤخذ" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. ومعنى قوله: "يأخذ" هنا، يعني به يقيس ذلك بكفارة المواقع أهله في نهار رمضان، وبكفارة الظهار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامةً أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام: مدٌّ مدٌّ، شِبَعَهم. (1) 12634 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد، [سألته] المحرِم يصيب الصيد (2) فيكون عليه الفدية، شاة، أو البقرة أو البدنة. فلا يجد، (3) فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك، فإن لم يجد ثمنه، قوّم ثمنه طعامًا يتصدق به لكل مسكين مُدّ، ثم يصومُ بكُلّ مدٍّ يومًا. (4) * * * القول في تأويل قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرمًا ما أوجبت من الجزاء والكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، (5) كي يذوق وبال أمره وعذابه. * * * يعني:"بأمره"، ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عز وجل عن قتله في حال إحرامه. * * *   (1) الأثر: 12633- مضى هذا الأثر برقم: 12600 وفيه"شبعهم" بغير واو. وفي المخطوطة هنا"وشبعهم" بالواو والجيد حذف الواو. وفي المطبوعة هنا غيرها كما غيرها في الموضع السالف وكتب: "يشبعهم". (2) في المطبوعة: "عن سعيد: المحرم ... " وفي المخطوطة: "عن سعيد: عن المحرم" فظاهر أنه سقط من الناسخ قوله: "وسألته" كما أثبتها بين القوسين وهو حق السياق كما ترى. والذي حذفه لناشر"عن" حذف مفسد للكلام. (3) في المطبوعة: " ... أو البدنة فإن لم يجد فما عدل ذلك ... " وهو تغيير فاسد جدا، أداه إليه التصرف المعيب كما رأيت في التعليق السالف. (4) في المطبوعة: "لكل مد" باللام وأثبت ما في المخطوطة. (5) في المطبوعة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" وهو كلام لا معنى له، وفي المخطوطة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها كما أثبته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 يقول: فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها، لأذيقه عقوبة ذنبه. بإلزامه الغرامة، والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه. (1) . * * * وأصل"الوبال"، الشدّة في المكروه، ومنه قول الله عز وجل: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا [سورة المزمل:16] . * * * وقد بيّن تعالى ذكره بقوله:"ليذوق وبالَ أمره"، أنَّ الكفاراتِ اللازمةَ الأموالَ والأبْدَانَ، عقوباتٌ منه لخلقه، وإن كانت تمحيصًا لهم، وكفارةً لذُنُوبهم التي كفَّروها بها. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 12635 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وبال أمره"، فعقوبة أمرِه. * * * القول في تأويل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} قال أبو جعفر: يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله، أيها المؤمنون، عمَّا سلف منكم في جاهليتكم، من إصابتكم الصيد وأنتم حُرُم، وقتلِكموه، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم، ولا يلزمكم له كفارةً في مال ولا نفس. ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم،   (1) انظر تفسير"ذاق" فيما سلف 7: 96، 446، 4528: 487. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يَقْتُله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَه، فينتقم الله منه. (1) * * * وقد يحتمل أن يكون معناه: (2) من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة. فأما في الدنيا، فإن عليه من الجزاء والكفَّارة فيها ما بيَّنت. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: 12636 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"عفا الله عما سلف"؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال قلت: ما"ومن عاد فينتقم الله منه"؟ قال: من عاد في الإسلام، فينتقم الله منه. وعليه مع ذلك الكفارة. 12637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء، فذكر نحوه= وزاد فيه، وقال: وإن عاد فقتل، عليه الكفارة. قلت: هل في العَوْد من حدٍّ يعلم؟ قال: لا قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، ولكن يفتدي. 12638- حدثنا سفيان قال، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام، وعليه مع ذلك الكفارة. قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا. (3)   (1) انظر تفسير"عفا" فيما سلف من فهارس اللغة= وتفسير"سلف" فيما سلف 6: 14/ 8: 137، 150. (2) في المطبوعة: "أن يكون ذلك معناه" زاد"ذلك" ليهلك العبارة!! وليست في المخطوطة. (3) الأثر: 12638-"سفيان" هو: "سفيان بن وكيع". مضى مرارا. *و"محمد بن بكر بن عثمان البرساني" مضى برقم: 5438. *و"أبو خالد" هو الأحمر"سليمان بن حيان الأزدي" مضى برقم: 3956. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 12639- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"عفا الله عما سلف"، عمَّا كان في الجاهلية="ومن عاد"، قال: في الإسلام="فينتقم الله منه"، وعليه الكفارة. قال قلت لعطاء: فعليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا. 12640- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يحكم عليه في الخطإ والعمد والنسيان، وكلَّما أصاب، قال الله عز وجل:"عفا الله عما سلف"، قال: ما كان في الجاهلية="ومن عاد فينتقم الله منه"، مع الكفارة= قال سفيان، قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا. 12641- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"عفا الله عما سلف"، قال: عما كان في الجاهلية. 12642 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يحكم عليه كلَّما عاد. 12643 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: كلَّما أصاب المحرم الصيد ناسيًا حُكِم عليه. 12644 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم قال: كلَّما أصاب الصيدَ المحرمُ حُكِم عليه. 12645 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: من قتل الصيد ثم عاد، حكم عليه. 12646 - حدثنا عمرو قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: يحكم عليه، أفيُخْلَع! أفيُتْرك!. (1)   (1) في المطبوعة: "فيخلع أو يترك" فأفسد معنى الكلام إفسادا والصواب من المخطوطة. وهذا الاستفهام تعجب ممن سأله: "أيحكم عليه كلما عاد" فأجابه بذلك تأكيدا للحكم عليه كلما قتل الصيد. يعني أن العائد عليه الحكم في كل مرة! وإلا لأصبح مخلوعا متروكا يفعل بعد ذلك ما شاء في قتله الصيد وهو محرم. وانظر الأثر الآتي رقم: 12652. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 12647 - حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال: يحكم عليه. 12648 - حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات بن سلمان، عن عبد الكريم، عن عطاء قال: يحكم عليه كلَّما عاد. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، بإلزامه الكفّارة. * ذكر من قال ذلك: 12649 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن زهير، عن سعيد بن جبير وعطاء في قوله الله تعالى ذكره:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قالا"ينتقم الله"، يعني بالجزاء="عفا الله عما سلف"، في الجاهلية. * * * وقال آخرون في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتلَ منكم الصيدَ حرامًا في أول مرة. ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حرامًا، فاللهُ وليُّ الانتقام منه، دون كفارة تلزمه لقتله إياه. * ذكر من قال ذلك: 12650 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) الأثر: 12648-"كثير بن هشام الكلابي" أبو سهل الرقي. نزل بغداد روى عنه أحمد وإسحق وابن معين ومحمد بن بشار بندار وغيرهم. مترجم في التهذيب والكبير للبخاري 4 1/218 وابن أبي حاتم 3/2/158. و"الفرات بن سلمان الحضرمي الجزري الرقي" قال أبو حاتم: "لا بأس به محله الصدق صالح الحديث مترجم في تعجيل المنفعة: 331 والبخاري في الكبير 41/129 ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم 32/80 وكان في المطبوعة: "بن سليمان" والصواب من المخطوطة. ثم انظر إسناد الأثر التالي رقم: 12663 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: من قتل شيئًا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له:"ينتقم الله منك"، كما قال الله عز وجل. 12651- حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال. إذا أصاب المحرم الصيدَ حُكم عليه. فإن عاد، لم يحكم عليه، وكان ذلك إلى الله عز وجل، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية:"ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام". 12652- حدثنا هناد قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا داود، عن عامر قال: جاء رجل إلى شريح فقال: إني أصبت صيدًا وأنا محرم! فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئًا؟ قال: لا. قال: لو قلت"نعم"، وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك، إنه عزيز ذو انتقام! قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: بل يحكم عليه، أفَيخْلَع! (1) 12653- حدثني أبو السائب وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا أصابَ الرجلُ الصيدَ وهو محرم، قيل له أصبت صيدًا قبل هذا؟ (2) فإن قال:"نعم"، قيل له: اذهب، فينتقم الله منك! وإن قال"لا"، حكم عليه. 12654- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، في الذي يقتل الصيد ثم يعود، قال: كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه، أمرُه إلى الله عز وجل. 12655 - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن داود بن أبي هند،   (1) في المطبوعة: "أو يخلع" غير ما في المخطوطة بلا طائل والصواب ما أثبت من المخطوطة وانظر ما فعله في خاتمة الأثر رقم: 12646 والتعليق عليه ص49. رقم: 1. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "مثل هذا" وهو خطأ صوابه ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 عن الشعبي: أن رجلا أتى شريحًا فقال: أصبت صيدًا؟ ، قال: أصبت قبله صيدًا؟ قال: لا. قال: أما إنك لو قلت"نعم"، لم أحكم عليك. 12656 - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا داود، عن الشعبي، عن شريح، مثله. 12657 - حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن الأشعث، عن محمد، عن شريح، في الذي يصيب الصيد قال: يحكم عليه، فإن عاد انتقمَ الله منه. 12658 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكّام بن سلم، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم بحكم به ذوا عدل منكم"، قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة، فإن عاد لم يحكم عليه، وقيل له:"اذهب ينتقم الله منك"، ويحكم عليه في الخطأ أبدًا. 12659 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير قال: رُخّص في قتل الصيد مرة، فمن عاد لم يدعه الله تعالى ذكره حتى ينتقم منه. 12660 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، مثله. 12661 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، جميعًا عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيمن أصاب صيدًا فحكم عليه، ثم أعاد، قال: لا يحكم، ينتقم الله منه. 12662 - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما قال الله عز وجل:"ومن قتله منكم متعمدًا"، يقول: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه، فذلك الذي يحكم عليه، فإن عاد لا يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك". 12663 - حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 بن سلمان، عن عبد الكريم، عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك". (1) 12664 - حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود، قال: لا يحكم عليه. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذكره ذلك عليكم. ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه، عالمًا بتحريمه ذلك عليه، عامدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه، فإن الله هو المنتقم منه، ولا كفارة لذنبه ذلك، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا. * ذكر من قال ذلك: 12665 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: من عاد بعد نهي الله - بعد أن يعرف أنه محرَّم، وأنه ذاكرٌ لِحُرْمه (2) - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه، ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتلَ الصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه محرَّم، وأنه حَرام، (3) فذلك يوكل إلى نقمة الله، فذلك الذي جعل الله عليه النقمة. * * * وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل. (4) * * *   (1) الأثر: 12663-"كثير بن هشام الكلابي" و"الفرات بن سلمان الجزري" مضيا قريبا برقم: 12648، وكان في المطبوعة هنا أيضا"الفرات بن سليمان" وهو خطأ صوابه ما في المخطوطة. (2) "الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء) : الإحرام وقد سلف شرحه. (3) "حرام" أي: محرم. (4) يعني ما سلف رقم: 12662. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 وقال آخرون: عُنِي بذلك شخصٌ بعينه. * ذكر من قال ذلك: 12666 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، حدثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدًا وهو محرم، فتجُوِّز له عنه. ثم عاد، فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته، فذلك قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال: معناه:"ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة"، لأن الله عز وجل إذْ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا= وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدًا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم" = أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة، بل أعلم عبادَه ما أوجبَ من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدًا، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل:"ولا كفارة عليه في الدنيا". * * * فإن ظن ظانّ أن الكفارة مزيلةٌ العقابَ، (2) ولو كانت الكفارةُ لازمةً له في الدنيا، لبطلَ العقاب في الآخرة، فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عز وجلّ أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقصُ من بعض، وينقص من بعض مما يزيد في بعض، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزانيَ البكرَ والزانيَ الثيِّبَ المحصن، وبين سارق   (1) الأثر: 12666-"زيد""أبو المعلى" مترجم في"زيد بن مرة" و"زيد بن أبي ليلى""أبو المعلى" مولى بني العدوية. قال أبو حاتم: "صالح الحديث" وقال أبو داود الطيالسي: "وكان ثقة". مترجم في لسان الميزان 2: 511 والكبير للبخاري 2/1/370، وعلق عليه ناشر التاريخ. تعليقا وافيا. وابن أبي حاتم 1/2/573. (2) في المطبوعة: "مزيلة للعقاب" بزيادة اللام وهو تغيير لعبارة أبي جعفر في المخطوطة. وقوله: "العقاب" منصوب مفعول به لقوله: "مزيلة". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 ربع دينار وبين سارق أقلَّ من ذلك. فكذلك خالف بين عقوبته قاتلَ الصيد من المحرمين عمدًا ابتداءً، وبين عقوبته عَوْدًا بعد بدء. فأوجب على الباديء المثلَ من النعم، أو الكفارة بالإطعام، أو العدل من الصيام، وجعل ذلك عقوبة جُرْمه بقوله:"ليذوق وبال أمره"، وجعل على العائد بعد البدء، وزاده من عقوبته ما أخبر عبادَه أنه فاعل به من الانتقام، تغليظًا منه عز وجل للعود بعد البدء. ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة، لوجب أن لا يكون حدٌّ في شيء، مخالفًا حدًّا في غيره، ولا عقابٌ في الآخرة، أغلظ من عقابٍ. وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان. * * * وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نَهْي الله عن قتله = لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم، وذلك قتله على استحلال قتله. قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه= وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال= فعليه الجزاء والكفارة كلَّما عاد. وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل. وكفي خطأ بقوله، خروجه عن أقوال أهل العلم، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عمّ بقوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، كلَّ عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أوّل الآية، ولم يخصّ به عائدًا منهم دون عائد. فمن ادَّعى في التنزيل ما ليس في ظاهره، كُلِّف البرهانَ على دعواه من الوجه الذي يجب التسليمُ له. * * * وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدًا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه، فينتقم الله منه، كان معنى قوله: (1) "عفا الله عما سلف"،   (1) في المطبوعة: "فإن معنى قوله" وهو خطأ في قراءة المخطوطة وإفساد للسياق والمعنى جميعا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 إنما هو: عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءًا= (1) فإنّ في قول الله تعالى ذكره:"ليذوق وبال أمره"، دليلا واضحًا على أن القول في ذلك غير ما قال، لأن العفو عن الجرم: تركُ المؤاخذة به. ومن أذيق وبال جرمه، فقد عوقب به. وغير جائز أن يقال لمن عوقب:"قد عفي عنه". وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض. * * * فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أوّل مرّة، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟ قيل له: فإن كان ذلك جائزًا أن يكون تأويلَ الآية عندك= وإن كان مخالفًا لقول أهل التأويل= فما تُنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله تعالى ذكره على العود بعد البدء، هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة، (2) مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره، فيذيقه في عوده بعد البدء وبالَ أمره الذي أذاقه المرة الأولى= ويترك عفوَه عما عفا عنه في البدء، فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) } قال أبو جعفر: يقول عز وجل: والله منيعٌ في سلطانه، لا يقهره قاهرٌ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته، مانع. لأن   (1) قوله: "فإن قول الله..ز" جواب قوله: "فأما من زعم ... ". (2) يقال: "عفا له ذنبه" متعديا و"عفا له عن ذنبه" لازما. (3) في المطبوعة: "فلم يقل في ذلك شيئا" وفي المخطوطة: "فلم يقول ... " وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة المَنَعة. (1) وأما قوله:"ذو انتقام"، فإنه يعني به: معاقبتَه لمن عصاه على معصيته إياه. * * *   (1) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف 10: 289 تعليق 1، والمراجع هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 القول في تأويل قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"أحل لكم"، أيها المؤمنون،"صيد البحر" = وهو ما صيد طريًّا، كما:- 12667 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، ما صيد منه. (1) 12668 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال: حُدِّثت، عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر"، قال: فصيده ما أخذ. (2) 12669 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، ما صيد منه. (3) 12670 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي قال، حدثنا محمد بن سلمة   (1) الأثر: 12667-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: 3911 قال ابن سعد: "كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه". وقال شعبة: "أحاديثه واهية". وقد مضى الكلام فيه. وكان في المخطوطة هنا"عمرو بن أبي سلمة" وهو خطأ سيأتي على الصواب في رقم: 12687 في المخطوطة. وأبوه: "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394، ثقة. وهذا الخبر مختصر الخبر الآتي رقم: 12687 وسياتي تخريجه هناك. (2) الأثر: 12668- سيأتي هذا الخبر بنفس هذا الإسناد بغير هذا اللفظ برقم 12686. (3) الأثر: 12669- رواه البيهقي في السنن 9: 255 من طريق خلف بن خليفة عن حصين مطولا بنحوه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 الحرّاني، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، الطريّ. (1) 12671- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الهذيل بن بلال قال، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيدُه، ما صِيد. (2) 12672 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ. 12673 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسن بن علي بن الحنفيّ = أو: الحسين، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يقول: صيد البحر، ما اصطاده. (3)   (1) الأثر: 12670-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي القرشي" الأقطع مضى برقم: 6254. وكان في المطبوعة: "البرقي" وهو خطأ محض. و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي" ثقة مضى برقم: 175. (2) الأثر: 12671-"هذيل بن بلا الفزاري المدائني""أبو البهلول" ضعيف قال ابن معين"ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "هو لين ليس بالقوي". وقال ابن حيان: "يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل فصار متروكا". وقال ابن سعد: "كان ضعيفا". ولكن قال أبو حاتم: "محله الصدق يكتب حديثه". وضعفه النسائي والدارقطني. مترجم في الكبير 4/2/245 ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم 4/2/113 وفي تعجيل المنفعة: 430 ولسان الميزان 6: 192 وميزان الاعتدال 3: 251. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "هذيل ابن هلال" بالهاء وهو خطأ محض. وسيأتي على الصواب في المخطوطة: "بلال" في رقم: 12693، ولكن الناشر سيغيره هناك إلى"هلال" خطأ أيضا. *و"عبد الله بن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي" روى عن أبيه وقيل لم يسمع منه وروى عن عائشة وابن عباس وابن عمر. روى عنه"هذيل بن بلال" وجرير بن حازم وابن جريج والأوزاعي وعكرمة بن عمار وغيرهم. ثقة. وكان مستجاب الدعوة. مترجم في التهذيب. (3) الأثر: 12673="الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" لم أجد لأحدهما ترجمة في المراجع التي بين يدي. وكان في المطبوعة: "الجعفي" وهو تغيير بلا هدى. فإن"الجعفي" هو"الحسين بن علي الجعفي" مضى مرارا كثيرة وهو أجل من أن يشك في اسمه أبو جعفر أو سفيان بن وكيع. ثم انظر الأثر التالي رقم: 12692. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 12674 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ. 12675- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن العلاء بن بدر، عن أبي سلمة قال:"صيد البحر"، ما صيد. (1) 12676- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ. 12677 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، مثله. 12678- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: السمك الطريّ. 12679 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحل لكم صيد البحر"، أما"صيد البحر"، فهو السمك الطريّ، هي الحيتان. 12680 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: صيده، ما اصطدته طريًّا- قال معمر، وقال قتادة: صيده، ما اصطدته. (2) 12681 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر"، قال: حيتانه.   (1) الأثر: 12675-"العلاء بن بدر" نسب إلى جده وهو: "العلاء بن عبد الله بن بدر الغنوي" مضى برقم: 7939. (2) الأثر: 12680-"أبو سفيان" هو"أبو سفيان المعمري""محمد بن حميد اليشكري". مضى برقم: 1787، 8829. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 12682 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمر بن أبي سلمة قال، سئل سعيد عن صيد البحر فقال، قال مكحول، قال زيد بن ثابت: صيده، ما اصطدت. (1) 12683 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: يصطاد المحرِم والمحلُّ من البحر، ويأكلُ من صيده. 12684 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: قال أبو بكر: طعام البحر كلُّ ما فيه= وقال جابر بن عبد الله: ما حَسر عنه فكُلْ. وقال: كلّ ما فيه= يعني: جميع ما صيدَ (2) . 12685 - حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: هو كل ما فيه. * * * وعنى ب"البحر"، في هذا الموضع، الأنهار كلها. والعرب تسمى الأنهار"بحارًا"، كما قال تعالى ذكره: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) . (3)   (1) الأثر: 12682-"عمرو بن أبي سلمة التنيسي" مضى برقم: 3997، 5230، 5444، 6628، وكان في المطبوعة هنا"عمر بن أبي سلمة" وهو خطأ ذاك أقدم من هذا (انظر ما مضى رقم: 12667) . والصواب من المخطوطة. و"سعيد" هذا هو"سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي" مضى رقم: 6529 8966، 9071. ومضى أيضا في الأثر: 3977 غير مترجم في مثل هذا الإسناد. وهذا الخبر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232 ولم ينسبه لغير الطبري. (2) الأثر: 12684- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232، ولم ينسبه لغير الطبري. (3) مضى ذكر"البحر" في سورة البقرة: 50 (2: 50) ولم يشرح هذا الحرف هناك. وهذا من وجوه اختصار تفسيره. ولكن جاء تفسير"البحر" في الأثر السالف رقم: 3985 بغير هذا المعنى، فانظره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: أحل لكم، أيها المؤمنون، طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حِلِّكم وحَرَمكم، وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رَمى به إلى ساحله. * * * واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"وطعامه". فقال بعضهم: عني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتًا، نحو الذي قلنا في ذلك. * ذكر من قال ذلك: 12686- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال، حدثت عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، وطعامه، ما قَذَف. (1) 12687- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كنت بالبحرين، فسألونى عما قذف البحر. قال: فأفتيتهم أن يأكلوا. فلما قدمتُ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكرت ذلك له، فقال لي: بم أفتيتهم؟ (2) قال، قلت: أفيتهم أن يأكلوا؟ قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لعلوتك بالدِّرَّة! قال: ثم قال: إن الله تعالى قال في كتابه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، فصيده، ما صيد منه= وطعامه، ما قَذَف. (3)   (1) الأثر: 12686- مضى بهذا الإسناد بغير هذا اللفظ فيما سلف رقم: 12668. وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 242 والسيوطي في الدر المنثور 2: 331 وزاد نسبته لعبد بن حميد. (2) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" وهو الأصل وهو صواب. (3) الأثر: 12687- مضى مختصرا بهذا الإسناد رقم: 12667. وذكرت هناك ما قالوه في ضعف"عمر بن أبي سلمة". وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 254، من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانه عن عمر بن أبي سلمة بنحوه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 331 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن المنذر وأبي الشيخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 12688 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال: طعامه ما قَذَف. 12689- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله:"احل لكم صيد البحر وطعامه"، قال: طعامه ما قذف. 12690- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، مثله. 12691 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"طعامه"، كل ما ألقاه البحر. (1) 12692 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسن بن علي = أو: الحسين بن على الحنفي، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"طعامه"، ما لفظ من ميتته. (2) 12693- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الهذيل بن بلال قال، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال:"طعامه"، ما وجد على الساحل ميتًا. (3)   (1) الأثر: 12691-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي" مضى مرارا منها رقم: 29، 174، 4415، 7287، 7499. وهو غير الذي سيأتي بعده، كما أشرت إليه في التعليق على الأثر رقم: 12673. (2) الأثر: 12692-"الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" مضى الكلام عنه، وإني لم أجده فيما سلف رقم: 12673. وغيره هنا في المطبوعة وكتب"الجعفي" وهو هنا أيضا في المخطوطة: "الحنفي". (3) الأثر: 12693-"الهذيل بن بلال الفزاري المدائني" مضى برقم: 12671، وهو في المخطوطة هنا"بلال" ولكن غيره الناشر في المطبوعة فكتب: "هلال" وهو خطأ كما بينت هناك. *و"عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي" مضى أيضا برقم: 12671. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 12694 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس قال:"طعامه"، ما قذف به. 12695 - حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، هو كل ما فيه. 12696 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ميتته= قال عمرو: وسمعت أبا الشعثاء يقول: (1) ما كنت أحسب طعامه إلا مالحه. 12697 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ميتته. (2) 12698 - حدثنا حميد بن مسعدة (3) قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما قذف. 12699 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا معمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله، عن نافع قال: جاء عبد الرحمن إلى عبد الله فقال: البحر قد ألقى حيتانًا كثيرة؟ قال: فنهاه عن أكلها، ثم قال: يا نافع، هات   (1) في المطبوعة: "وسمع" وفي المخطوطة: "وسمعه" وصواب قراءتها ما أثبت كما سيأتي في رقم: 12702. (2) الأثر: 12697-"أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد" اسمه"عبد الله بن حفص" ثقة مضى برقم: 3035. (3) في المخطوطة: "جرير بن مسعدة" والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 المصحف! فأتيته به، فقرأ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال، قلت:"طعامه"، هو الذي ألقاه. قال: فالحقْهُ، فمُرْهُ بأكله. (1) 12700- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر، فقال: إن البحر قذف حيتانًا كثيرة ميتة، أفنأكلها؟ قال: لا تأكلوها! فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ"سورة المائدة"، فأتى على هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: اذهب، فقل له فليأكله، فإنه طعامه. (2) 12701 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه. 12702- حدثني المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس قال، قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: ميتته= قال عمرو: سمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب"طعامه" إلا مالحه. (3) 12703 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرنا نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر عن حيتان كثيرة ألقاها البحر، أميتة هي؟ قال: نعم! فنهاه عنها، ثم دخل البيت فدعا   (1) الأثر: 12699-"عبد الرحمن" هو: "عبد الرحمن بن أبي هريرة" و"عبد الله" هو"عبد الله بن عمر" وسيأتي تخريجه في الذي يليه. (2) الأثر: 12700- هو طريق أخرى للأثر السالف. *وهذا الخبر رواه مالك عن نافع بمثله في الموطأ: 494. ورواه البيهقي عن مالك في السنن الكبرى 9: 255. وسيأتي من طريق أخرى برقم: 12703. *ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 242 ولم يخرجه وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 332، وقصر في نسبته وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (3) الأثر: 12702- مضى هذا الأثر من رواية أبي جعفر عن"محمد بن المثنى" بمثل إسناده هنا رقم: 12696. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 بالمصحف فقرأ تلك الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، كل شيء أخرج منه، فكله، فليس به بأس. وكل شيء فيه يأكل، ميت أو بساحليه. (1) 12704 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر قال قتادة:"طعامه"، ما قذف منه. (2) 12705 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن ليث، عن شهر، عن أبي أيوب قال: ما لفظ البحر فهو طعامه، وإن كان ميتًا. 12706 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن شهر، قال: سئل أبو أيوب عن قول الله تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا"، قال: هو ما لفظ البحر. * * * وقال آخرون: عنى بقوله:"وطعامه"، المليح من السمك (3) = فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحل لكم سمك البحر ومَليحه في كل حال، في حال إحلالكم وإحرامكم. (4) * ذكر من قال ذلك: 12707 - حدثنا سليمان بن عُمَر بن خالد الرقيّ قال، حدثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وطعامه"، قال:"طعامه"، المالح منه. (5)   (1) الأثر: 12703- مضى هذا الخبر بثلاثة أسانيد أخرى رقم: 12699- 12701 وخرجته في رقم: 12700. وفي المطبوعة: "ميتا" بالنصب وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب لا بأس به. وفي المطبوعة: "بساحله" بالإفراد وفي المخطوطة بالتثنية كما أثبتها. (2) الأثر: 12704- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12680"أبو سفيان" هو: المعمري، "محمد بن حميد اليشكري". (3) "المليح" على وزن"فعيل" هو المملح يقال: "سمك مال ومليح ومملوح ومملح". (4) في المطبوعة أسقط من العبارة"في حال" وأثبتها من المخطوطة. (5) الأثر: 12707-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: 12670، وكذلك هو في المخطوطة أما في المطبوعة فقد جعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ في موضعين صوابه ما أثبت. أما قوله: "المالح منه" فقد استنكر الجوهري وغيره أن يقال: "سمك مالح" وقال يونس: "لم أسمع أحدا من العرب يقول: مالح". والذي لم يسمعه يونس سمعه غير هو جاء في فصيح الشعر وهكذا جاء في الآثار التي هنا وهو صواب لا شك فيه عندي والصواب ما قاله ابن بري أن وجه جوازه هذا من جهة العربية أن يكون على النسب مثل قولهم: "ماء دافق" أي ذو دفق. وكذلك"ماء مالح" أي: ذو ملح وكما يقال: "رجل تارس" أي ذو نرس و"رجل دارع" أي ذو درع. قال: ولا يكون هذا جاريا على الفعل وهو الصواب إن شاء الله. (انظر لسان العرب، مادة: ملح) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 12708- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، يعني: بطعامه، مالحه، وما قذف البحر منه، مالحه. (1) 12709- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، وهو المالح. 12710 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مجمّع التيمي، عن عكرمة في قوله:"متاعًا لكم" قال: المليح. (2) 12711 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سالم الأفطس وأبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: المليح. 12712 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن   (1) في المطبوعة: "وما قذف البحر من مالحه" غير ما في المخطوطة فأفسد العبارة. وقوله"مالحه" الأخيرة خبر المبتدأ"ما قذف البحر منه". (2) الأثر: 12710-"سفيان" هو الثوري. و"مجمع التيمي" هو: "مجمع بن سمعان "أو"مجمع بن صمعان" أبو حمزة التيمي الكوفي النساج الحائك. قال ابن عيينة: "كان له من الفضل غير قليل". روى عنه أبو حيان التيمي وسفيان الثوري. ووثقه يحيى بن معين. مترجم في الكبير للبخاري 4/1/409 وابن أبي حاتم 4/1/295. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سفيان بن مجمع التيمي" وهو خطأ لا شك فيه. وليس في الرواة من يسمى كذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 منصور، عن إبراهيم:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: المليح، وما لَفَظ. 12713 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"! فإن قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له. وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. (1) 12714 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال: المنبوذ، السمك المالح. 12715- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وطعامه"، قال: المالح. 12716- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"وطعامه"، قال: هو مليحُه. (2) ثم قال: ما قَذَف. 12717 - حدثنا ابن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه"، قال: مملوح السمك. 12718- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني الثوري، عن منصور قال: كان إبراهيم يقول:"طعامه"، السمك المليح. ثم قال بعد: ما قذفَ به. 12719- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال:"طعامه"، المليح. 12720 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن مجاهد قال:"طعامه"، السمك المليح.   (1) الأثر: 12713- سيأتي مطولا برقم: 12753. (2) في المطبوعة: "مالحه" وأثبت ما في المخطوطة وهكذا قراءتها على سوء كتابة الناسخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 12721 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير= قال شعبة، فقلت لأبي بشر: ما الصِّير؟ قال: المالح. (1) 12722- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا هشام بن الوليد قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قوله:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير. قال قلت: ما الصير؟ قال: المالح. 12723 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: أما"طعامه"، فهو المالح. 12724 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما تزوّدت مملوحًا في سفرك. 12725 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو قال، قال جابر بن زيد: كنا نُحَدَّث أن"طعامه" مليحه، ونكره الطافي منه. (2) * * *   (1) "الصير" (بكسر الصاد) ويقال له: "الصحناة" وقيل: هي السمكات المملوحة التي تعمل منها الصحناة وهي كالفسيخ في بلادنا ذكرها جرير في شعره فقال في هجاء آل المهلب وهم من الأزد: إن الخلافة لم تقدر ليملكها ... عبد لأزدية في بظرها عقف كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا و"الكنعد": ضرب من السمك. وقوله: "جدفوا" أكلوا"الجدف" (بفتحتين) وهو يكون باليمن تاكله الإبل فتجزأ به عن الماء ولا يحتاج مع اكله إلى شرب ماء. وفي المخطوطة في المواضع كلها: "الصر" مهملة لا تقرأ صوابها في المطبوعة. (2) الأثر: 12725-"سفيان" هو الثوري= أو"سفيان بن عيينة" كلاهما روى عن عمرو بن دينار."عمرو" هو"عمرو بن دينار". وكان في المطبوعة: "سفيان بن عمرو" وهو خطأ محض. و"جابر بن زيد الأزدي" هو"أبو الشعثاء" مضى كثيرا وترجم في: 5316، 5472. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 وقال آخرون:"طعامه"، ما فيه. * ذكر من قال ذلك: 12726 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: طعام البحر، ما فيه. 12726 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: ما جاء به البحر بموجه، هكذا. (1) 12728 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد قال:"طعامه"، كل ما صيد منه. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، قولُ من قال:"طعامه"، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد، فقال:"أحل لكم صيد البحر"، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه، فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه. وأما"المليح"، فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله:"احل لكم صيد البحر"، فلا وجه لتكريره، إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم   (1) في المطبوعة: "ماء به البحر بوجه" فغير وحذف"هكذا" كأنه ظن"هكذا" إشارة إلى استشكال كلمة"بموجه"! وهذا غريب. وقوله: "هكذا" يريد بذلك الإشارة إلى أنه جاء طافيا. (2) الأثر: 12728-"حميد بن عبد الرحمن بن حميد الراسي" مضى برقم: 4926، 8770. و"الحسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري" مضى برقم: 178، 5347، 7594. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 عبادَه تعالى ذكره: إحلالَه ما صيد من البحر بقوله:"أحل لكم صيد البحر". فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك:"ومليحه الذي صيد حلال لكم"، لأن ما صيد منه فقد بُيِّن تحليله، طريًّا كان أو مليحًا، بقوله:"أحل لكم صيد البحر" والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. * * * وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا خبر، وإن كان بعض نقلته يقف به على ناقلِه عنه من الصحابة، وذلك ما:- 12729 - حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا فهو طعامه". (1) * * * وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة. 12730 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو،   (1) الأثر: 12729، 12730-"عبدة بن سليمان الكلابي" قال أحمد: "ثقة ثقة وزيادة مع صلاح في بدنه". روى له أصحاب الكتب الستة. ومضى مرارا برقم: 222، 2323، 2758، 3022، ومواضع غيرها ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي ثقة وروى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: 8، 3015. و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" تابعي جليل إمام ثقة. مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394، وغيرها. وهذا الخبر لم أجد أحدا ذكره إلا السيوطي في الدر المنثور 2: 331 ولم ينسب هذا المرفوع إلا لابن جرير أما الخبر الآتي وهو الموقوف فإنه زاد نسبته لابن أبي حاتم. وأما الخبر الموقوف الثاني رقم: 12730 ففيه"ابن أبي زائدة" وهو"يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" وهو من حفاظ الكوفيين كان متقنا ثبتا صاحب سنة، مستقيم الحديث. روى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: 850، 4246. فإسناد المرفوع والموقوف كلاهما إسناد صحيح ورجالهما ثقات حفاظ. وكتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"متاعًا لكم"، منفعةً لمن كان منكم مقيمًا أو حاضرًا في بلده، يستمتع بأكله وينتفع به= (2) "وللسيارة"، يقول: ومنفعةً أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحًا. * * * و"السيارة"، جمع"سيّار". (3) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 12731 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني أبو إسحاق، عن عكرمة أنه قال في قوله:"متاعًا لكم وللسيارة"، قال: لمن كان بحضرة البحر="وللسيارة"، السَّفْر. 12732 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، ما قذف البحر، وما يتزوّدون في أسفارهم من هذا المالح= يتأوّلها على هذا. 12733- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع عن حماد قال، حدثنا   (1) الأثر: 12730- انظر التعليق على الأثر السالف. (2) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 8: 551 تعليق: 1 والمراجع هناك. (3) اقتصرت كتب اللغة على أن"السيارة": القافلة أو القوم يسيرون وأنه أنث على معنى الرفقة أو الجماعة. وجعله أبو جعفر جمعا، كقولهم"جمال" و"جمالة" (بتشديد الميم) و"حمار" و"حمارة". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، مملوح السمك، ما يتزودون في أسفارهم. 12734 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقيّ قال، حدثنا مسكين بن بكير قال، حدثنا عبد السلام بن حبيب النجاري، عن الحسن في قوله:"وللسيارة"، قال: هم المحرمون. (1) 12735 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، أما"طعامه"، فهو المالح منه، بلاغٌ يأكل منه السيار في الأسفار. (2) 12736 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال:"طعامه"، مالحه، وما قذف البحر منه، يتزوَّده المسافر= وقال مرة أخرى: مالحه، وما قذف البحر. فمالحه يتزوده المسافر. 12737 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا للكم وللسيارة"، يعني المالح يتزوّده. (3)   (1) الأثر: 12734-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: 6254، 12670، 12707ن وغيره في المطبوعة كما غيره فيما سلف فجعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ محض صوابه في المخطوطة. و"مسكين بن بكير الحراني" أبو عبد الرحمن الحذاء روى عنه أحمد بن حنبل ثقة. مترجم في التهذيب. أما "عبد السلام بن حبيب النجاري" فلم أجد في الرواة عن الحسن أو غيره من اسمه ذاك. ووجدت في الرواة عن الحسن البصري"عبد السلام بن أبي الجنوب المدني" وهو شيخ مدني متروك مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3/1/45 وميزان الاعتدال 2: 129. فلعله يكون هو. (2) "بلاغ" يعني"بلغة" (بضم الباء) وهو ما يتبلغ به المرء من الزاد أي يكتفي به حتى يبلغ مستقره. وكان في المطبوعة: "السيارة" بالتاء في آخره وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فيتزوده" والجيد ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 وكان مجاهد يقول في ذلك بما:- 12738 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وطعامه متاعا لكم"، قال: أهل القرَى="وللسيارة"، أهل الأمصَار. 12739- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"متاعًا لكم"، قال: لأهل القرى="وللسيارة"، قال: أهل الأمصار، والحيتانُ للناس كلهم. (1) * * * وهذا الذي قاله مجاهد: من أن"السيارة" هم أهل الأمصار، لا وجه له مفهوم، إلا أن يكون أراد بقوله:"هم أهل الأمصار"، هم المسافرون من أهل الأمصار، فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة، من أهل الأمصار كانوا أو من أهل القرى. فأما"السيارة"، فلا نعقله: المقيمون في أمصارهم. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "أهل الأمصار وأجناس الناس كلهم" وأداه إلى هذا ما جاء في الدر المنثور 2: 232 عن مجاهد: "وطعامه قال: حيتانه= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأسفار وأجناس الناس كلهم" ثم ما جاء في المخطوطة مما دخله التحريف وذلك: "أهل الأمصار والحباب للناس كلهم" والدر المنثور لا يوثق بطباعته والجملة فيه خطأ لا شك فيه، فقوله"أهل الأسفار" لا شك أنها"أهل الأمصار" وأما قوله: "حيتانه" هنا فإن ذلك من سوء اختصار السيوطي فإن"حيتانه" تفسير لقوله: "صيد البحر" كما مضى في الاثر رقم: 12681 من تفسير مجاهد لصيد البحر. وأما "طعامه" فقد فسرها مجاهد"السمك المليح" كما مضى في رقم: 12720 وهو مراد هنا في هذا الموضع. فظاهر أنه أراد: "طعامه السمك المليح= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأمصار= والحيتان للناس كلهم" يعني أنه لا يدخل قوله تعالى: "متاعا لكم وللسيارة" في بيان قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر" بل في بيان قوله: "وطعامه" وهو السمك المليح. هذا هو الصواب وأما ما في الدر المنثور وما في المطبوع من هذا التفسير فكلام لا يستقيم. (2) في المطبوعة: "فأما السيارة فلا يشمل المقيمين في أمصارهم وهو كلام مريض وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط وهذا صواب قراءته. والمعنى: فلا نعقله أن يكون معناه: المقيمون في أمصارهم. وقد مضى استعمال أبي جعفر"نعقله" في مثل هذه العبارة في مواضع سلفت ليس عندي الآن بيانها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 القول في تأويل قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وحرم الله عليكم، أيها المؤمنون، صيد البر="ما دمتم حرمًا"، يقول: ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم. (1) * * * ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحُرِّم عليكم صيدُ البر". فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرَّم علينا كل معاني صيد البر: من اصطياد، وأكل، وقتل، وبيع، وشراء، وإمساك، وتملُّك. * ذكر من قال ذلك: 12740 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه قال: حج عثمان بن عفان، فحج عليّ معه، قال: فأتي عثمان بلحم صيد صاده حَلال، فأكل منه، ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا! فقال عليّ:"وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (2)   (1) انظر تفسير"ما دام" فيما سلف 10: 185= وتفسير"حرم" فيما سلف: 7. (2) الأثر: 12740-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مولى بني هاشم صدوق في حفظه شيء بعد ما كبر. مضى برقم: 2028. و"عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" لقبه: "ببة" ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه رسول الله روى عن جماعة من الصحابة. روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الله بن الحارث عن نوفل: وهو خطأ صرف. وأبوه: "الحارث بن نوفل بن الحارث". روى عن رسول الله وعن عائشة. استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أعمال مكة، ومات بالبصرة في خلافة عثمان. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وقوله: "صاده حلال" يعني: رجل حلال غير محرم بحج. وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر، وإسناد آخر. في رقم: 12745، 12746. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 12741 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هرون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن صبيح بن عبد الله العبسي قال: بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض، (1) فنزل قديدًا، فمرّ به رجل من أهل الشام معه باز وصقر، فاستعاره منه، فاصطاد به من اليعاقيب، (2) فجعلهن في حظيرة. فلما مرّ به عثمان طبخهن، ثم قدمهن إليه، فقال عثمان: كلوا! فقال بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه. فلما جاء فرأى ما بين أيديهم، قال علي: إنا لن نأكل منه! فقال عثمان: مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيد، ولا يحل أكله وأنا محرم! فقال عثمان: بيِّن لنا! فقال عليّ:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فقال عثمان: أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (3) 12742- حدثنا تميم بن المنتصر وعبد الحميد بن بيان القناد قالا أخبرنا   (1) "العروض" (بفتح العين) : مكة والمدينة وأكنافهما. (2) "اليعاقيب" جمع"يعقوب" طائر وهو ذكر الحجل والقطا. (3) الأثر: 12741-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" ثقة مضى برقم: 6656، 5526. و"عمرو بن أبي قيس الرازي ثقة مضى برقم: 6887، 9346. و"سماك" هو"سماك بن حرب" ثقة مضى مرارا. و"صبيح بن عبد الله العبسي" روى عن علي وروى عنه سماك بن حرب. مترجم في الكبير البخاري 2/2 / 319 وابن أبي حاتم 2 /1/ 449. ولم يذكرا فيه جرحا. وقد مضى ذكره في التعليق على رقم: 7595 (وقع هناك خطأ فيما نقلته عن التاريخ الكبير"على الفروض" وصوابه"على العروض" فليصحح هناك وفي تاريخ البخاري) . وفي المخطوطة والمطبوعة: "صبيح بن عبيد الله" والتصحيح من البخاري وابن أبي حاتم. وهذا الخبر رواه البخاري مختصرا في التاريخ قال: "حدثني حسن بن خلف أخبرنا إسحق عن شريك عن سماك عن صبيح بن عبد الله العبسي". وهو الإسناد التالي لهذا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 إسحاق الأزرق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن صبيح بن عبيد الله العبسي قال: استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض= ثم ذكر نحوه، وزاد فيه، قال: فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث، ثم أتى فقيل له بمكة: هل لك في ابن أبي طالب، أهدي له صفيف حمار فهو يأكل منه! (1) فأرسل إليه عثمان، وسأله عن أكل الصفيف، فقال: أما أنتَ فتأكل، وأما نحن فتنهانا؟ فقال: إنه صيد عام أوّلَ وأنا حلال، فليس عليّ بأكله بأس، وصيد ذلك = يعني اليعاقيب = وأنا محرم، وذبحن وأنا حرَام. (2) 12743 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسًا بلحم الصيد للمحرم، وكرهه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. (3) 12744 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال. 12745 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث: أنه شهد عثمان وعليًّا أُتيا بلحم، فأكل عثمان ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: أنحن صِدْنا أو   (1) "الصفيف" هو لحم يشرح عراضا حتى ترق البضعة منه فتراها تشف شفيفا ويوسع مثل الزغفان ثم يشرر في الشمس حتى يجف. فإذا دق الصفيف فهو"القديد". وكان في المخطوطة في هذا الموضع"تصفف" وفي الذي يليه"التصفيف" غير منقوطة وهو رسم خطأ صوابه في المطبوعة. (2) الأثر: 12742-"إسحق الأزرق" هو إسحق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي" مضى برقم: 3339، 4224. وكان في المخطوطة والمطبوعة"أبو إسحق الأزرق، وهو خطأ وسهو من ناسخ وهو على الصواب في إسناد البخاري الذي نقلته آنفا في تخريج الأثر السالف. (3) الأثر: 12743-"عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري" مضى برقم: 2154، 6589، 6591، 6819. و"يونس" هو: "يونس بن عبيد بن دينار العبدي" مضى برقم: 2616، 4931. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 صيد لنا؟ فقرأ عليّ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (1) 12746 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: حج عثمان بن عفان، فحج معه علي، فأتي بلحم صَيدٍ صاده حلالٌ، فأكل منه وهو محرم، ولم يأكل منه عليّ، فقال عثمان: إنه صيدَ قبل أن نحرم! فقال له علي: ونحن قد نزلنا وأهالينا لنا حلال، (2) أفيحللن لنا اليوم؟ (3) 12747 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: أن عليًّا أتى بِشِقّ عَجُز حمار وهو محرم، فقال: إنّي محرم. (4) 12748 - حدثنا ابن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال، ما كان محرمًا. (5)   (1) الأثر: 12745- مضى هذا الخبر برواية"عبد الله بن الحارث بن نوفل" عن أبيه"الحارث بن نوفل" برقم: 12740، وسيأتي رقم: 12747. (2) في المطبوعة: "ونحن قد بدا لنا" وفي المخطوطة: "ونحن مر لنا" غير منقوطة وهذه قراءتها فيما أرجح. (3) الأثر: 12746-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" أحاديثه واهية، يكتب حديثه ولا يحتج به، مضى برقم: 3911، 12667. وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم: 12755، مختصرا بغير هذا اللفظ. (4) الأثر: 12747-"هرون" هو"هرون بن المغيرة" مضى قريبا برقم: 12741. و"عمرو" هو"عمرو بن أبي قيس" مضى أيضا برقم: 12741. و"عبد الكريم" هو"عبد الكريم بن مالك الجزوي" مضى برقم: 892، 1566. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن عمرو بن عبد الكريم" وهو خطأ. ليس في الرواة من يسمى بذلك. ومضى هذا الخبر بإسناديه رقم: 12740، 12745. (5) الأثر: 12748-"سعيد" هو"سعيد بن أبي عروبة". و"يعلى بن حكيم الثقفي" روى عن سعيد بن جبير وعكرمة ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. وثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة والنسائي وقال أبو حاتم: "لا بأس به" مترجم في التهذيب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 12749 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرنا نافع: أن ابن عمر كان يكره كل شيء من الصيد وهو حرام، أخذ له أو لم يؤخذ له، وَشِيقةً وغيرها. (1) 12750- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الله قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يأكل الصيدَ وهو محرم، وإن صاده الحلالُ. 12751 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني الحسن بن مسلم بن يناق: أنّ طاوسًا كان ينهى الحرامَ عن أكل الصيد، وشيقة وغيرها، صيد له أو لم يُصد له. 12752 - حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث قال، قال الحسن: إذا صاد الصيد ثم أحرمَ لم يأكل من لحمه حتى يحلّ. فإن أكل منه وهو محرم، لم ير الحسن عليه شيئًا. (2) 12753 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام وهارون عن عنبسة، عن سالم قال: سألت سعيد بن جبير، عن الصيد يصيده الحلال، أيأكل منه المحرم؟ فقال: سأذكر لك من ذلك، إن الله تعالى ذكره قال:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فنهي عن قتله، ثم قال:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، ثم قال تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"، فإن   (1) "الوشيقة": لحم يغلي في ماء وملح إغلاءة واحدة، ولا ينضج فيتهرأ ثم يخرج فيصير في الجبجبة وهو جلد بعير يقور، ثم يجعل ذلك اللحم فيه، فيكون لهم زادا في أسفارهم. (2) الأثر: 12752-"خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي" ثقة مضى برقم: 7507، 7818، 9878. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له، وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. ثم قال:"وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا"، وهو عليك حرام، صدته أو صاده حلال. (1) * * * وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، ما استحدَث المحرم صيدَه في حال إحرامه أو ذبحه، أو استُحْدِث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال، فلا بأس بأكله للمحرم. وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه، فغير محرم عليه إمساكه. * ذكر من قال ذلك: 12754 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة: أن سعيد بن المسيب حدّثه، عن أبي هريرة: أنه سئل عن صيد صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاه هو بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب رحمه الله فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك. (2) 12755 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: نزل عثمان بن عفان رحمه الله العَرْجَ وهو محرم، (3) فأهدى صاحبُ العرج له قَطًا، (4) قال: فقال لأصحابه: كلوا فإنه إنما اصطيد   (1) الأثر: 12753- مضى هذا الأثر مختصرا برقم: 12713. (2) الأثر: 12754- إسناده صحيح. وخرجه السيوطي في الدر المنثور باختلاف يسير في لفظه، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وسيأتي هذا الأثر بأسانيد أخرى رقم: 12756، 12757، 12762. (3) "العرج" (بفتح فسكون) وهي قرية جامعة على طريق مكة من المدينة، على جادة الحاج. (4) في المخطوطة: "رطا" غير منقوطة كأنها تقرأ"بطا" ولكن الذي جاء في الروايات السالفة وما سيأتي برقم: 12771 أنها"قطا "أو" يعاقيب" وهي ذكور الحجل والقطا، والصواب إن شاء الله ما كان في المطبوعة: "قطا". و"القطا": طائر كالحمام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 على اسمي، (1) قال: فأكلوا ولم يأكل. (2) 12756 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة كان بالرَّبَذة، فسألوه عن لحم صيدٍ صاده حلال، ثم ذكر نحو حديث ابن بزيع عن بشر. (3) 12757- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن عمر، نحوه. (4) 12758 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن لحم صيد يُهديه الحلال إلى الحرام، فقال: أكله عمر، وكان لا يرى به بأسًا. قال قلت: تأكله؟ قال: عمر خير مني. (5)   (1) قوله: "إنما اصطيد على اسمي" أي من أجله، وهو تعبير قديم يقيد، ولا يزال يجري على ألسنة العامة إلى هذا اليوم وهو صحيح فصيح. وانظر ما يفسره في خبر مالك في الموطأ: 354، وسيأتي رقم: 12764. (2) الأثر: 12755-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى قريبا رقم: 12746. وسيأتي من طريق أخرى برقم: 12771 بغير هذا اللفظ عن أبي سلمة من فعله هو. (3) الأثر: 12756، 12757- مضى برقم: 12754. (4) الأثر: 12756، 12757-مضى برقم: 12754. (5) الأثر: 12758، 12759_"أبو إسحق" هو: "أبو إسحق السبيعي الهمداني". و"أبو الشعثاء" سيأتي في الأثر رقم: 12763 أنه"أبو الشعثاء الكندي" وهو غير"أبي الشعثاء، جابر بن زيد" الذي مضى برقم: 5136، 5472، 12406، 12725. و"أبو الشعثاء الكندي" هو: "يزيد بن مهاصر" كوفي روى عن ابن عمر، وابن عباس. ترجم له البخاري في الكبير 4 /2 / 363 في"يزيد بن مهاصر" وقال: "كناه محمد بن عبد الله بن نمير" ولم يزد على ذلك. وترجم له ابن أبي حاتم 4/2/287 في"يزيد بن مهاصر أبو الشعثاء الكندي" ثم قال: "روى عنه أبو إسحق الهمداني وأبو العنبس ويونس بن أبي إسحق وأبو سنان الشيباني". ثم عاد فترجم له 42/391 وقال: "روى عنه أبو سنان الشيباني وسعيد بن سعيد الثعلبي. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: "لا يسمى وهو كوفي. قال علي بن المديني: أبو الشعثاء الذي روى عنه أبو إسحق الهمداني ويونس بن أبي إسحق، وأبو العنبس وأبو سنان هو الكندي وليس هو سليم [يعني: سليم بن أسود المحاربي]- سمعت أبي يقول: أبو الشعثاء الكندي اسمه: يزيد بن مهاصر. وخالف عليا في ذلك". فظاهر هذا أنه غير"أبي الشعثاء جابر بن زيد الأزدي" ولكني رأيت الحافظ ابن حجر قال في ترجمة"أبي العنبس" في التهذيب 8: 189 أنه روى عن"أبي الشعثاء جابر بن يزيد الكندي" فلا أدري أوهم الحافظ أم هكذا اختلف عليه في ذلك. وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 5: 189 من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن أبي إسحق، سمعت أبا الشعثاء". وسيأتي برقم: 12763، بغير هذا اللفظ مختصرا. وكتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 12759- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن صيد صاده حلال يأكل منه حرام، قال: كان عمر يأكله. قال قلت: فأنت؟ قال: كان عمر خيرًا مني. 12760 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: استفتاني رجلٌ من أهل الشام في لحم صيد أصابه وهو محرم، فأمرته أن يأكله. فأتيت عمر بن الخطاب فقلت له: إن رجلا من أهل الشام استفتاني في لحم صيد أصابه وهو محرم، قال: فما أفتيته؟ قال: قلت: أفتيته أن يأكله. قال: فوالذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة! وقال عمر: إنما نُهيت أن تصطاده. (1) 12761 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا خارجة عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن كعب قال: أقبلت في أناس محرمين، فأصبنا لحمَ حمار وحش، فسألني الناس عن أكله، فأفتيتهم بأكله، وهم محرمون. فقدمنا على عمر، فأخبروه أنّي أفتيتهم بأكل حمار الوحش وهم محرمون،   (1) الأثر: 12760- مضى مختصرا برقم: 12754، بغير هذا الإسناد."هشام" هو"هشام صاحب الدستوائي". و"يحيى" هو"يحيى بن أبي كثير الطائي" ثقة روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 9189، 11505- 11507. و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى مرارا، منها رقم: 12667. وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 188، من طريق: "حفص بن عبد الله السلمي، عن إبراهيم بن طهمان عن هشام" بمثله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 فقال عمر: قد أمَّرته عليكم حتى ترجعوا. (1) 12762 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: مررت بالرَّبَذة، فسألني أهلها عن المحرم يأكل ما صاده الحلال؟ فأفتيتهم أن يأكلوه. فلقيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. قال: بم أفتيتهم؟ (2) قال: أفتيتهم أن يأكلوا. قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لخالفتك. (3) 12763 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن يونس، عن أبي الشعثاء الكندي قال: قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قومًا حلالا ومعهم لحم صيد، فإما باعوهم، وإما أطعموهم؟ فقال: حلال. (4)   (1) الأثر: 12761-"مصعب بن المقدام الخثعمي" ثقة وضعفه بعضهم، ولكن روى له مسلم مضى برقم: 1291، 3001. و"خارجة" هو"خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني" وقد مضى برقم: 9668، قال أخي السيد أحمد هناك: "مختلف فيه جدا والأكثر على تضعيفه، ولكن أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك 1: 499: خارجة لم ينقم عليه إلا روايته عن المجهولين، وإذا روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة". و"زيد بن أسلم" ثقة ثبت. مضى كثيرا. و"عطاء" هو"عطاء بن يسار" مضى مرارا. و"كعب" هو"كعب الأحبار". وهذا الخبر صحيح، رواه مالك في الموطأ: 352 عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مطولا. ورواه البيهقي في السنن 5: 189، من طريق مالك. (2) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" فكتبتها على ما درجنا عليه"بم" وفي المطبوعة: "فبم". (3) الأثر: 12762- مضى حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة من طريقين أخريين رقم: 12754، 12756. وهذا الخبر رواه مالك في الموطأ 351 عن يحيى بن سعيد بغير هذا اللفظ ثم رواه بعد من طريق"ابن شهاب عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر" ولفظه أقرب إلى لفظ أبي جعفر هذا. (4) الأثر: 12763-"يونس" هو"يونس بن أبي إسحق السبيعي مضى مرارا وانظر التعليق على رقم: 12758، 12759. و"أبو الشعثاء الكندي" مضى الكلام في أمره واسمه فيما سلف في التعليق على الأثرين رقم 75: 12، 12759، ومضى تخريجه هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 12764 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا هشام= يعني ابن عروة= قال، حدثنا عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عبد الرحمن حدثه: أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى نزلوا بالرَّوحاء، فقُرِّب إليهم طير وهم محرمون، فقال لهم عثمان: كلوا، فإني غير آكله! فقال عمرو بن العاص: أتأمرنا بما لست آكلا؟ فقال عثمان: إني لولا أظنّ أنه اصطيد من أجلي، لأكلت! (1) فأكل القوم. (2) 12765 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن الزبير كان يتزوّد لحوم الوحش وهو محرم. (3) 12766 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام. 12767 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما صيد من شيء وأنت حرام فهو عليك حرام، وما صيد من شيء وأنت حلال فهو لك حلال.   (1) في المطبوعة: "صيد من أجلي" وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 12764-"يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" تابعي ثقة جليل، وينسب إلى جده فيقال: "يحيى بن حاطب" مضى برقم: 8367. و"عبد الرحمن" هو أبوه"عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" وهو في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة وفقهائهم، ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 191 من طريف أحمد بن يوسف السلمي، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه بنحوه. (3) الأثر: 12765- إسناده صحيح، رواه مالك في الموطأ: 350، عن هشام ابن عروة عن أبيه: "أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم" هذا لفظه. فأراد بقوله"لحوم الوحش" الظباء فهي من الوحش. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 12768 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، فجعل الصيد حرامًا على المحرم صيده وأكله ما دام حرامًا. وإن كان الصيدُ صِيدَ قبل أن يحرم الرجل، فهو حلالٌ. وإن صاده حرامٌ لحلال، فلا يحلّ له أكله. 12769 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، سألت أبا بشر عن المحرم يأكل مما صاده الحلال؟ قال: كان سعيد بن جبير ومجاهد يقولان: ما صيد قبل أن يُحرِم أكل منه، وما صيد بعد ما أحرم لم يأكل منه. 12770- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال: كان عطاء يقولُ إذا سئل في العَلانِية: أيأكل الحرامُ الوَشيقةَ والشيء اليابس؟ (1) = يقول بيني وبينه: لا أستطيع أن أبيِّن لك في مجلس، إن ذبح قبل أن نُحرم فكل، وإلا فلا تبع لحمه ولا تبتع. (2) * * * وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، وحرم عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله، بعد أن يكون مِلكه إياه على غير وجه الاصطياد له، وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى ذكره، عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني. * ذكر من قال ذلك: 12771- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم   (1) "الوشيقة" مضى تفسيرها في ص: 78، تعليق: 1. (2) هكذا هذا الخبر في المخطوطة إلا أنه كتب: "وإن ذبح قبل أن تحرم" بالواو. وأنا في شك من سياق هذا الخبر، أخشى أن يكون سقط منه شيء فإن السياق يقتضي أن يقال: إذا سئل في العلانية يقول: لا. ولكن هكذا جائ، ولم أجده في مكان آخر، فتركته على حاله حتى يصححه من يجده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 قال، حدثنا يحيى بن أيوب قال، أخبرني يحيى، أن أبا سلمة اشترى قَطًا وهو بالعَرْجِ وهو محرم، ومعه محمد بن المنكدر، فأكلها. (1) فعاب عليه ذلك الناس. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، عمَّ تحريم كل معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه، من غير أن يخص من ذلك شيئًا دون شيء، فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حرامًا، بيعه وشراؤه واصطياده وقتله، وغير ذلك من معانيه، إلا أن يجده مذبوحًا قد ذبحه حلال لحلال، فيحلّ له حينئذ أكله، للثابت عن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:- 12772 - حدثناه يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج= وحدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا مكي بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الملك بن جريج= قال، أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدي لنا طائرٌ، فمنا من أكل، ومنا من تَورَّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل، (3) وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "فأكله" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. (2) الأثر: 12771-"عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي" شيخ الطبري مضى برقم: 1909، 4612، 4923. و"ابن أبي مريم" هو"سعيد بن أبي مريم" مضى برقم: 160، 5455، 8335. و"يحيى بن أيوب الغافقي" مضى برقم: 3877، 4330. و"يحيى" هو"يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري" مضى برقم: 4859، 9679. و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف". مضى قريبا. (3) في المطبوعة: "وافق من أكل" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب الموافق لما في صحيح مسلم. وقوله: "وفق من أكل": دعا له بالتوفيق، واستصوب فعله. (4) الأثر: 12772-"يحيى بن سعيد" هو القطان. و"مكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد التميمي" الحافظ روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب. و"معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان التيمي" ثقة. وأبوه"عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي" هو"شارب الذهب" صحابي أسلم يوم الحديبية، وقيل يوم الفتح. وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 8: 111، 112، والبيهقي في السنن الكبرى 5: 188. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن الصعب بن جَثَّامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمارِ وحش يقطر دمًا، فردّه فقال: إنا حُرُم (1) = وفيما روي عن عائشة: أن وَشِيقة ظبي أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فردّها (2) وما أشبه ذلك من الأخبار؟ قيل: إنه ليس في واحد من هذه الأخبار التي جاءت بهذا المعنى، بيانُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ من ذلك ما ردّ وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه، وهو حلال لحلال، ثم أهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام، فرده وقال:"إنه لا يحل لنا لأنا حرم"، وإنما ذكر فيه أنه أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد فردّه. وقد يجوز أن يكون ردُّه ذلك من أجل أنّ ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. وقد بيَّن خبر جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لحم صيد [البر] للمحرم حلال إلا ما صاد أو صيد له"، (3) معنى ذلك كله. فإذ كان كلا الخبرين صحيحًا مخرجهما، فواجبٌ التصديقُ بهما، وتوجيه كلّ واحد منهما إلى الصحيح من وجه، وأن يقال:"ردُّه ما ردّ من ذلك من أجل   (1) حديث الصعب بن جثامة، رواه مسلم في صحيحه من طرق 8: 103- 106، والسنن الكبرى للبيهقي 5: 191، 194 واستوفى تخريجه هناك. (2) حديث عائشة رواه أحمد في المسند 6: 40. وقد مضى تفسير"الوشيقة" فيما سلف ص: 78 تعليق: 1. (3) حديث جابر بن عبد الله خرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 190، فانظر ما قاله فيه، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 333 وقال: أخرجه أحمد والحاكم وصححه. وزدت ما بين القوسين من الخبر، وهو ساقط من المخطوطة والمطبوعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 أنه كان صِيد من أجله= وإذنه في كل ما أذن في أكله منه، من أجل أنه لم يكن صِيد لمحرم ولا صاده محرم، فيصح معنى الخبرين كليهما. * * * واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله:"وحرم عليك صيد البر ما دمتم حرمًا". فقال بعضهم:"صيد البر"، كل ما كان يعيش في البرّ والبحر، وإنما"صيد البحر"، ما كان يعيش في الماء دون البرّ ويأوي إليه * ذكر من قال ذلك: 12773 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، قال: ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصده، (1) وما كان حياته في الماء فذاك. (2) 12774 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن عطاء قال: ما كان يعيش في البر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه، نحو السلحفاة والسرطان والضفادع. 12775 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن الحجاج، عن عطاء قال: كل شيء عاش في البر والبحر فأصابه المحرم، فعليه الكفارة. 12776 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال: خرجنا   (1) في المطبوعة: "لا تصيده" وفي المخطوطة: "ولا تصده" وهذا صواب قراءتها. (2) الأثر: 12773- في المخطوطة: "هل كان حياته في الماء فذاك" ولا أدري ما"وهل" هنا وما في المطبوعة أشبه بالصواب. وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 332/ بمثل ما في المطبوعة، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 حجاجًا معنا رجلٌ من أهل السَّواد معه شُصُوص طير ماءٍ، فقال له أبي حين أحرمنا: اعزل هذا عنا. (1) 12777 - وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت يزيد بن أبي زياد قال، حدثنا حجاج، عن عطاء: أنه كَرِه للمحرم أن يذبح الدجاج الزِّنجي، لأن له أصلا في البر. (2) * * * وقال بعضهم: صيد البر ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر. (3) * ذكر من قال ذلك: 12778- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، ابن جريج أخبرناه، قال: سألت عطاء عن ابن الماء، أصيد برّ أم بحر؟ وعن أشباهه؟ فقال: حيث يكون أكثر، فهو صيده. 12779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن عطاء بن أبي رباح قال، أكثر ما يكون حيث يُفْرِخ، فهو منه. * * *   (1) الأثر: 12776-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مضى قريبا برقم: 12740، وكان في حفظ يزيد شيء بعد ما كبر. و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي" روى عن أبيه وعكرمة. وروى عنه يزيد بن أبي زياد. وهو ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الملك عن سعيد بن جبير" وهو خطأ محض. (2) الأثر: 12777- هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى" وهذا إشعار بأنه سيروي الحديث السالف عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه ولكن اختلف الأمر جدا. فإذا هو عن"حجاج عن عطاء" وإذا معناه بمعزل عن معنى الحديث الذي قبله، بل هو بمعنى الحديث رقم: 12775 وعن حجاج عن عطاء أيضا ولكن ذلك من رواية"ابن حميد" لا من رواية"أبي كريب" فتبين بذلك أنه ليس يصح أن يكون هذا الأخير قد تأخر عن مكانه. فأخشى أن يكون الناسخ قد اضطرب فاضطرب تصحيح هذا الموضع. (3) في المخطوطة: "ما كان أكثر كونه في البر" بزيادة"أكثر" هنا، وهو لا يصح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) } قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه. يقول تعالى ذكره: واخشوا الله، أيها الناس، واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه (1) وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم صلى الله عليه وسلم، من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم وفي غيرها، فإنّ لله مصيرَكم ومرجعَكم، (2) فيعاقبكم بمعصيتكم إياه، ومجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له. * * * القول في تأويل قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، (3) ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم="والشهر الحرام والهدي والقلائد"، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض، إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره، وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم. * * * و"الكعبة"، سميت فيما قيل"كعبة" لتربيعها. * * *   (1) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (2) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف 4: 228 /229، 6/ 9: 425. (3) انظر تفسير"جعل" فيما سلف 3: 18. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 * ذكر من قال ذلك: 12780 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إنما سميت"الكعبة"، لأنها مربعة. 12781 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد المؤدب، عن النضر بن عربي، عن عكرمة قال: إنما سميت"الكعبة"، لتربيعها. (1) * * * وقيل"قيامًا للناس" بالياء، وهو من ذوات الواو، لكسرة القاف، وهي"فاء" الفعل، فجعلت"العين" منه بالكسرة"ياء"، كما قيل في مصدر:"قمت""قيامًا" و"صمت""صيامًا"، فحوّلت"العين" من الفعل: وهي"واو""ياء" لكسرة فائه. وإنما هو في الأصل:"قمت قوامًا"، و"صمت صِوَامًا"، وكذلك قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، فحوّلت، واوها ياء، إذ هي"قوام". (2) وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز: (3) قَِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين (4) فجاء به بالواو على أصله. * * * وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهرَ الحرام والهديَ والقلائد قوامًا لمن كان يحرِّم ذلك من العرب ويعظّمه، (5) بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه.   (1) الأثر: 12781-"هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي""أبو النضر" الإمام الحافظ مضى برقم: 184، 8239. و"أبو سعيد المؤدب" هو: "محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي" ثقة مأمون مضى برقم 8239، 12310. (2) انظر تفسير"قيام" فيما سلف 7: 568، 569. (3) هو حميد الأرقط. (4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 177. (5) في المطبوعة: "يحترم ذلك" وصوابه من المخطوطة وفي المخطوطة: "ويعطيه" وصوابه ما في المطبوعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 وأما"الكعبة"، فالحرم كله. وسمّاها الله تعالى"حرامًا"، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يُخْتلى خَلاها، أو يُعْضد شجرها، (1) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (2) * * * وقوله:"والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضًا قيامًا للناس، كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قيامًا. * * * و"الناس" الذين جعل ذلك لهم قيامًا، مختلفٌ فيهم. فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قيامًا للناس كلهم. * * * وقال بعضهم: بل عنى به العربَ خاصة. * * * وبمثل الذي قلنا في تأويل"القوام"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، القوام، على نحو ما قلنا. 12782 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا من سمع خُصَيفًا يحدث، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قوامًا للناس. 12783 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن سعيد بن جبير:"قيامًا للناس"، قال: صلاحًا لدينهم. 12784- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: حين لا   (1) "الخلي": الرطب الرقيق من النبات. و"اختلى الخلي": جزه وقطعه ونزعه. و"عضد الشجرة" قطعها. (2) انظر ما سلف 3: 45- 51. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 يرْجون جنة ولا يخافون نارًا، فشدّد الله ذلك بالإسلام. 12785- حدثني هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: شدةً لدينهم. 12786- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جيير، مثله. 12787 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قيامها، أن يأمن من توجَّه إليها. 12788 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يعني قيامًا لدينهم، ومعالم لحجهم. 12789 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، جعل الله هذه الأربعةَ قيامًا للناس، هو قوام أمرهم. * * * قال أبو جعفر: وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، (1) فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن"القوام" للشيء، هو الذي به صلاحه، كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، (2) لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "من قائلها" بالإفراد وما أثبته أولى بالصحة. (2) في المطبوعة: "كالملك" والصواب الجيد ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 في الجاهلية، وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 12790 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، (1) فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر تقلَّد قلادة من الإذْخِر أو من لِحَاء السمُر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، (2) حواجزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية. 12791- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ.   (1) عندي أن الصواب"ألقاها الله" باللام في هذا الموضع، والذي يليه، ولكن هكذا هي في المخطوطة. (2) "الإذخر": حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب ويطحن فيدخل في الطيب. و"اللحاء" قشر الشجر. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم) : شجر من الطلح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 12792 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والقلائد"، كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ، فيعرفون بذلك. * * * وقد أتينا على البيان عن ذكر:"الشهر الحرام"= و"الهدي"= و"القلائد"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، تصييرَه الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم، علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شيء"عليم"، لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم، وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الشهر الحرام" فيما سلف 3: 575- 579/4: 299، 300 وما بعدها/9: 466= وتفسير"الهدي" فيما سلف 4: 24، 25/9: 466/11: 22= وتفسير"القلائد" فيما سلف 9: 467- 470. (2) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 القول في تأويل قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: اعلموا، أيها الناس، أن ربكم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخف عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو يُحْصيها عليكم لمجازيكم بها، شديد عقابُه من عصاه وتمرَّد عليه، على معصيته إياه= وهو غفور لذنوب من أطاعه وأنابَ إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها= رحيم به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها. (1) * * * القول في تأويل قوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) } قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تهديد لعباده ووعيد. يقول تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، أيها الناس، بإنذاركم عقابَنا بين يدي عذاب شديد، وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم= إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا، ثم إلينا الثواب على الطاعة، (2) وعلينا العقاب على المعصية ="والله يعلم ما تبدون وما تكتمون"، يقول: وغير خفي علينا المطيعُ منكم، القابلُ رسالتنا، العاملُ بما أمرته بالعمل به= من المعاصي الآبي رسالتنا، التارك العمل بما أمرته بالعمل به، (3) لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق   (1) انظر تفسير"شديد العقاب" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف 10: 575. (3) في المطبوعة: "من المعاصي التارك العمل" أسقط ما كان في المخطوطة، وكان فيها: "من المعاصي التي، رسالتنا" هكذا كتبت وبين الكلام بياض ورسم"، " بالحمرة. فآثرت قراءتها كما أثبتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 به بلسانه="وما تكتمون"، يعني: ما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر، أو يقين وشك ونفاق. (1) يقول تعالى ذكره: فمن كان كذلك، لا يخفى عليه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس، مما في السموات وما في الأرض، وبيده الثواب والعقاب= فحقيق أن يُتَّقى، وأن يُطاع فلا يعصى. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي (2) = ولو أعجبك كثرة الخبيث"، يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله، ولو كثر أهل المعاصى فعجبت من كثرتهم، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته= وإن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنَّ من كثرة من يعصى الله فيُمْهِله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبَى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم، كما:-   (1) انظر تفسير"تبدون" و"تكتمون" في فهارس اللغة"بدا" و"كتم". (2) انظر تفسير: "استوى" فيما سلف 9: 85= وتفسير"الخبيث" فيما سلف 5: 558، 559/7: 424، 527= وتفسير"الطيب" فيما سلف 10: 513 تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 12793 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي،"لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة"الخبيث"، قال: الخبيث، هم المشركون= و"الطيب"، هم المؤمنون. * * * وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد به بعض أتباعه، يدل على ذلك قوله:"فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون" * * * القول في تأويل قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث، فتصيروا منهم="يا أولي الألباب"، يعني بذلك أهلَ العقول والحِجَى، الذين عقلوا عن الله آياته، وعرفوا مواقع حججه. (1) ="لعلكم تفلحون"، يقول: اتقوا الله لتفلحوا، أي: كي تنجحوا في طلبكم ما عنده. (2) * * *   (1) انظر تفسير"أولي الألباب" فيما سلف 3: 383/ 4: 162 /5: 580 /6: 211 وفي التعليق على المواضع السالفة خطأ، يصحح من هنا. (2) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 10: 564 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام، امتحانًا له أحيانًا، واستهزاءً أحيانًا. فيقول له بعضهم:"من أبي"؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته:"أين ناقتي"؟ فقال لهم تعالى ذكره: لا تسألوا عن أشياءَ من ذلك= كمسألة عبد الله بن حُذافة إياه من أبوه="إن تبد لكم تسؤكم"، يقول: إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه، ساءكم إبداؤها وإظهارها. وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر الرواية بذلك: 12794 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بُغَيل قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا أبو الجويرية قال: قال ابن عباس لأعرابيّ من بني سليم: هل تدري فيما أنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"؟ = حتى فرغ من الآية، فقال: كان قوم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل:"من أبي"؟ = والرجل تضل ناقته فيقول:"أين ناقتي"؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. (1)   (1) الأثر: 12794-"حفص بن بغيل الهمداني المرهبي"، ثقة مضى برقم: 9639، وكان في المطبوعة هنا"بعض بني نفيل"، وفي المخطوطة: "بعض بن نفيل"، وكله خطأ، وكذلك جاء خطأ في فتح الباري"حفص بن نفيل" بالفاء، وهو"بغيل" بالغين، على التصغير. و"زهير بن معاوية الجعفي"، هو"أبو خيثمة". ثقة ثبت، روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 2144، 2222. و"أبو الجويرية" هو"حطان بن خفاف بن زهير بن عبد الله بن رمح بن عرعرة الجعفي"، روى عن ابن عباس. ثقة، قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1109، وابن أبي حاتم 1/2/304. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 212) من طريق الفضل بن سهل، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الجويرية، بنحوه. وأشار إلى إسناد أبي جعفر، الحافظ ابن حجر في شرح الحديث. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 250، وذكر حديث البخاري: "تفرد به البخاري". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 334، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 12795 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس قال: سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوه بالمسألة، (1) فصعد المنبر ذات يوم، فقال:" لا تسألوني عن شيء إلا بيَّنْتُ لكم! (2) قال أنس: فجعلت أنظر يمينًا وشمالا فأرى كل إنسان لافًّا ثوبَه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحَى يُدعى إلى غير أبيه، (3) فقال: يا رسول الله، من أبي؟ فقال:"أبوك حذافة"! قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم أرَ الشرّ والخيرَ كاليوم قط! (4) إنه صُوِّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط! = وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية:"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (5)   (1) "أحفاه بالمسألة" و"أحفى السؤال": ألح عليه، وأكثر الطلب واستقصى في السؤال. (2) في المطبوعة: "إلا بينته" بالضمير كما في صحيح مسلم وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب أيضا. (3) يقال: "أنشأ فلان يفعل كذا" أي: أقبل يفعل أو ابتدأ يفعل وهو هنا في هذا الموضع والذي يليه، أحسنه أن يفسر: "أقبل"= و"لاحى الرجل أخاه": إذا نازعه وسابه وشاتمه. (4) في المطبوعة: "لم أر في الشر والخير" بزيادة"في" كما في مسلم: "لم أر كاليوم قط في الخير والشر" واتبعت المخطوطة فحذفت"في". (5) الأثر: 12795-"أبو عامر" هو العقدي: "عبد الملك بن عمرو القيسي"، ثقة مأمون، مضى مرارا كثيرة جدا. و"أبو داود" هو الطيالسي. و"هشام" هو الدستوائي. وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه من طرق (15: 114، 115) ، من طريق: يوسف ابن حماد المعنى، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، ثم أشار إلى روايته من طريق يحيى بن حبيب الحارثي، عن خالد بن الحارث، عن هشام= ومن طريق محمد بن بشار، عن محمد ابن أبي عدي، عن هشام. وهو مثل طريق أبي جعفر. وسيأتي أيضًا برقم: 12797. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 334، واقتصر على نسبته لابن جرير، وابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وقصر فلم ينسبه إلى صحيح مسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 12796 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني موسى بن أنس قال، سمعت أنسًا يقول، قال رجل: يا رسول الله، من أبي؟ قال:"أبوك فلان"! قال: فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (1) 12797- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: فحدَّثنا أن أنس بن مالك حدَّثهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفَوْه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال:"لا تسألوني اليومَ عن شيء إلا بينته لكم! فأشفقَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه   (1) الأثر: 12796="محمد بن معمر بن ربعي القيسي البحراني"، شيخ الطبري روى عنه أصحاب الكتب الستة، ومضى برقم: 241، 3056، 5393. و"روح بن عبادة القيسي"، مضى برقم: 3015، 3355، 3912. و"موسى بن أنس بن مالك الأنصاري"، تابعي ثقة قليل الحديث، مضى برقم: 11475. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه من طريقين عن شعبة، من طريق منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي، عن أبيه، عن شعبة (الفتح 8: 210- 212) مطولا، وأشار بعده إلى رواية النضر، وروح بن عبادة، عن شعبة= ثم رواه من طريق محمد بن عبد الرحيم، عن روح، عن شعبة، مختصرًا كالذي هنا (الفتح 13: 230) وخرجه الحافظ ابن حجر في الموضعين. ورواه مسلم في صحيحه (15: 112) ، من طريق محمد بن معمر، بمثل رواية أبي جعفر. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 334، وزاد نسبته إلى الترمذي، والنسائي، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 وسلم أن يكون بين يديه أمر قد حضر، فجعلتُ لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كُلا لافًّا رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجلٌ كان يُلاحَى فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال:"أبوك حذافة"! قال: ثم قام عمر = (1) أو قال: فأنشأ عمر = فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا عائذًا بالله = أو قال: أعوذ بالله = من سوء الفتن! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صُوِّرت لي الجنة والنارُ حتى رأيتهما دون الحائط. (2) 12798 - حدثنا أحمد بن هشام وسفيان بن وكيع قالا حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون، قال: سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله:"ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: ذاك يوم قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به! قال: فقام رجل، فكره المسلمون مَقامه يومئذ، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك حذافة، قال: فنزلت هذه الآية. (3) 12799 - حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: نزلت:"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم   (1) في المطبوعة: "ثم قال عمر" غير ما في المخطوطة، وهو الصواب. (2) الأثر: 12797- هو مكرر الأثر رقم: 12795 بنحو لفظه ورواه أبو جعفر هنا من طريق سعيد عن قتادة وهي طريق مسلم التي رواها في صحيحه، كما أشرت إليه في تخريج الخبر رقم: 12795. (3) الأثر: 12798-"أحمد بن هشام" شيخ أبي جعفر، لم أستطع أن أحدد من يكون، وهناك: "أحمد بن هشام بن بهرام"، "أبو عبد الله المدائني" مترجم في تاريخ بغداد 5: 197. و"أحمد بن هشام بن حميد"، "أبو بكر المصري"، سكن البصرة، وحدث بها. مترجم أيضًا في تاريخ بغداد 5: 198. وأما "معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري"، "أبو المثنى"، الحافظ البصري، فقد سلف برقم: 10482. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 تسؤكم"، في رجل قال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك فلان. 12800- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني سفيان، عن معمر، عن قتادة قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكثروا عليه، فقام مغضبًا خطيبًا فقال: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي إلا حدثتكم! فقام رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة. واشتدّ غضبه وقال: سلوني! فلما رأى الناس ذلك كثر بكاؤهم، فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا= قال معمر، قال الزهري، قال أنس مثل ذلك: فجثا عمر على ركبتيه= (1) فقال: رضينا بالله ربًّا= وبالإسلام دينًا= وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والذي نفسي بيده، لقد صُوِّرت لي الجنةُ والنارُ آنفًا في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر= قال الزهري، فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعقّ منك قط! أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس!! فقال: والله لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقتُه. (2) 12801 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام، فقام   (1) هذه إشارة من سفيان إلى رواية يونس عن الزهري ورواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: "برك عمر "أو" فبرك عمر على ركبتيه" كما في مسلم 15: 113، والبخاري (الفتح 13: 230) . (2) الأثر: 12800- هذا الخبر من رواية سفيان، عن معمر، عن قتادة عن أنس= ومن روايته عن معمر، عن الزهري، عن أنس. وأخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 13: 230) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، وأخرجه مسلم في صحيحه (15: 112) من يونس، عن الزهري، ثم أشار في (15: 114) إلى طريق عبد الرازق، عن معمر. أما خبر طريق قتادة، عن أنس، فقد مضى برقم: 12795، 12797. *وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 249. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 خطيبًا فقال: سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا نبأتكم به! فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له"عبد الله بن حذافة"، وكان يُطْعن فيه، قال: فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك فلان! فدعاه لأبيه. فقام إليه عمر فقبَّل رجله وقال: يا رسولَ الله، رضينا بالله ربًّا، وبك نبيًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا الله عنك! فلم يزل به حتى رَضِيَ، فيومئذ قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر". (1) 12802 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارٌّ وجهه! حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام آخر فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة! فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشِرْك، والله يعلمُ من آباؤنا! قال: فسكن غضبه، ونزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (2) * * *   (1) الأثر: 12801- روى الحاكم في المستدرك 3: 631 من طريق نعيم بن حماد عن هشيم عن سيار عن أبي وائل: "أن عبد الله بن حذافة بن قيس قال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبُوك حُذافة، الولد للفراش وللعَاهر الحجَرُ. قال: لو دعوتتي لحبشيٍّ لاتبعته! فقالت له أُمُّه: لقد عَرَّضتني! فقال: إنِّي أردتُ أن أستريح! ". (2) الأثر: 12802-"الحارث" هو"الحارث بن أبي أسامة" منسوبًا إلى جده، وهو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي"، مضت ترجمته برقم: 10295. و"عبد العزيز" هو"عبد العزيز بن أبان الأموي"، من مولد سعيد بن العاص، كان كذابًا يضع الأحاديث، وذمه يطول. ومضى برقم: 10295. و"قيس" هو"قيس بن الربيع الأسدي"، وهو ثقة، ولكنهم ضعفوه، ومضى أيضًا برقم 10295. و"أبو حصين" هو"عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي"، روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 642 643، 8961، 8962. و"أبو صالح" هو"ذكوان السمان"، من أجل الناس وأوثقهم. سلف مرارًا. وإسناد هذا الخبر إلى"قيس بن الربيع"، إسناد هالك، ولكن ابن كثير في تفسيره 2: 249، ساقه عن هذا الموضع من الطبري ثم قال: "إسناده جيد"، وكيف، وفيه"عبد العزيز بن أبان"؟ وذكر هذا الخبر، الجصاص في أحكام القرآن 2: 483، يقول: "روى قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي هريرة"، ولم يذكر إسناده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحجّ. * ذكر من قال ذلك: 12803 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا منصور بن وردان الأسدي قال، حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، لما نزلت هذه الآية: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) سورة آل عمران:97] ، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: أفي كل عام؟ فسكت. ثم قال: لا ولو قلت:"نعم" لوجبت"! فأنزل الله هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (1)   (1) الأثر: 12803-"منصور بن وردان الأسدي" العطار الكوفي، شيخ أحمد. روى عن فطر بن خليفة، وعلي بن عبد الأعلى. ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه أحمد. وقال ابن أبي حاتم: "يكتب حديثه". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/347، وابن أبي حاتم 4/1/180. "على بن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي"، أبو الحسن الأحول. وثقه البخاري والترمذي، وقال الدارقطني: "ليس بالقوي" مترجم، في التهذيب. وهذا الخبر، رواه أحمد في المسند رقم 905، من طريق منصور بن وردان الأسدي، عن علي بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البختري، عن علي قال، بمثل ما في رواية أبي جعفر غير موصولة. ورواه الترمذي في كتاب التفسير عن أبي سعيد، عن منصور بن وردان، بإسناده بمثل رواية أحمد، وقال: "هذا حديث حسن غريب من حديث علي". ورواه الحاكم في المستدرك 2: 293، 294، من طريق أحمد بن موسى بن إسحق التميمي، عن مخول بن إبراهيم النهدي، عن منصور بن وردان. ولم يقل فيه الحاكم شيئًا، وقال الذهبي في تعليقه: "مخول: رافضي، = وعبد الأعلى، هو ابن عامر، ضعفه أحمد". ورواه ابن ماجه في السنن رقم: 2884 من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، وعلي بن محمد، عن منصور بن وردان، بمثله. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 195/3: 250، وذكر خبر الترمذي وما قاله ثم قال: "وفيما قال نظر. لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي". و"قال أخي السيد أحمد في شرح المسند (رقم: 905) : "إسناده ضعيف، لانقطاعه، ولضعف عبد الأعلى بن عامر الثعلبي". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 12804 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن ابن عياض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،"إن الله كتب عليكم الحج! فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: من السائل؟ فقال: فلان! فقال: والذي نفسي بيده، لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم! فأنزل الله هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، حتى ختم الآية. (1) 12805 - حدثني محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد قال، سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، كتب الله عليكم   (1) الأثر: 12804-"عبد الرحيم بن سليمان الطائي الرازي"، الأشل. ثقة مضى برقم: 2028، 2030، 2254، 8156، 8157، 8161. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الرحمن بن سليمان"، والصواب من تفسير ابن كثير. و"إبراهيم بن مسلم الهجري" ضعيف، لين الحديث، مترجم في الكبير للبخاري 1/1/326، وضعفه، وابن أبي حاتم 1/1/131، وميزان الاعتدال للذهبي 1: 31. و"أبو عياض" هو: "عمرو بن الأسود العنسي"، ويقال: "عمير بن الأسود"، ثقة، مضى برقم: 11255. وكان في المطبوعة: "ابن عياض"، والصواب من المخطوطة. وهذا خبر ضعيف إسناده، لضعف"إبراهيم بن مسلم الهجري". ذكره الجصاص في أحكام القرآن 2: 483 ونقله ابن كثير في تفسيره عن هذا الموضع 3: 250. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 335، وزاد نسبته إلى الفريابي وابن مردويه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 الحج. فقام مِحْصن الأسدي فقال: أفي كل عام، يا رسول الله؟ فقال:"أمَا إنّي لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عنى ما سكتُّ عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، إلى آخر الآية. (1) 12806- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم= فذكر مثله، إلا أنه قام: فقام عُكَّاشة بن محصن الأسدي. (2) 12807 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر قال، حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان   (1) الأثر: 12805-"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق العبدي" ثقة، مضى برقم: 1591، 2575، 9951. وأبوه "علي بن الحسن بن شقيق" ثقة أيضًا مضى برقم: 1591، 2575. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن الحسين بن شقيق"، وهو خطأ. و"الحسين بن واقد المروزي"، ثقة، مضى برقم: 4810، 6311. و"محمد بن زياد القرشي الجمحي" أبو الحارث، روى له أصحاب الكتب الستة، روى عن أبي هريرة وعائشة، وعبد الله بن الزبير. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/82، وابن أبي حاتم 3/2/257. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده مختصرًا ومطولا. رواه مختصرًا من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وليس فيه ذكر الحج، ولا السؤال، ولا ذكر السائل، في المسند 2: 447، 448، من طريق وكيع، عن حماد، عن محمد بن زياد. ثم رواه: 2: 467، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد. ثم رواه مطولا فيه ذكر الحج، والسؤال عنه، والسائل"رجل"، لم يبين في الخبر اسمه (2: 508) من طريق يزيد بن هرون، عن الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، وليس فيه ذكر الآية ونزولها. ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه (9: 100) ، عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هرون بمثله. ورواه البخاري مختصرًا أيضًا (الفتح 13: 219- 224) من طريق إسمعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 325، 326 من طريق عبيد الله بن موسى، عن الربيع بن مسلم القرشي، ومن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن يزيد بن هرون. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 335، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، وابن مردويه، بمثل رواية أبي جعفر هنا. وفي جميع ذلك جاء"فقال رجل"، مبهمًا ليس فيه التصريح باسمه، وقال النووي في شرحه على مسلم (9: 101) : "هذا الرجل هو الأقرع بن حابس، كذا جاء مبينًا في غير هذه الرواية والرواية التي جاء فيها مبينا هي من حديث ابن عباس، وفيها: "فقام الأقرع بن حابس فقال"، رواها أحمد في مسنده من طرق عن ابن شهاب الزهري، عن أبي سنان، عن ابن عباس، وهي رقم: 2304، 2642، 3303، 3510، 3520 وكذلك رواها البيهقي في السنن الكبرى 4: 326. وقد أشار الحافظ ابن حجر في الفتح (13: 220) إلى حديث مسلم، وما فيه من زيادة السؤال عن الحج، ثم قال: "وأخرجه الدارقطني مختصرًا وزاد فيه"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"= وله شاهد عن ابن عباس، عند الطبري في التفسير". قلت: يعني الأثر السالف رقم: 12794، لا هذا الأثر. ولم يشر الحافظ إلى خبر الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد. وقد اختلف على"الحسين بن واقد" في اسم الرجل الذي سأل، فجاء في هذا الخبر"محصن الأسدي"، وفي الذي يليه"عكاشة بن محصن الأسدي"، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره 3: 250، 251، الخبر السالف رقم 12804، ثم قال: "ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة وقال: فقام محصن الأسدي، وفي رواية من هذا الطريق: عكاشة بن محصن، وهو أشبه"، ولم يزد على ذلك. وهذا اختلاف في اسم الرجل"الأقرع بن حابس"، أو "عكاشة بن محصن الأسدي"، وأوثقهما أن يكون"الأقرع بن حابس"، فإنها جاءت بأسانيد صحاح لا شك في صحتها. أما علة ما جاء في رواية أبي جعفر، فذلك أن"الحسين بن واقد المروزي"، ثقة، قال النسائي: "لا بأس به" ووثقه ابن معين. ولكن قال ابن حبان: "من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات"، وقال أحمد: "في أحاديثه زيادة، ما أدري أي شيء هي! ونفض يده"، وقال الساجي: "فيه نظر، وهو صدوق، يهم". و"رواية الثقات الحفاظ عن"محمد بن زياد، عن أبي هريرة"، لم يذكر فيها"عكاشة ابن محصن"، ولم يبين الرجل، ولكن الحسين بن واقد، رواه عن محمد بن زياد، فبين الرجل، وخالف البيان الذي روي من طرق صحاح عن ابن عباس أنه"الأقرع بن حابس"، فهذا من فعل"الحسين بن واقد"، ييد ما قاله أحمد وغيره: أن في أحاديثه زيادة لا يدري أي شيء هي! وكتبه محمود محمد شاكر. (2) الأثر: 12806- هو مكرر الأثر السالف، وقد ذكرت القول فيه هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 بن عمرو قال، حدثني سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: كتب عليكم الحج! " فقام رجل من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فغَلِقَ كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكتَ (1) واستغضب، (2) فمكث طويلا ثم تكلم فقال: من السائل؟ فقال الأعرابي: أنا ذا! فقال: ويحك! ماذا يُؤْمِنك أن قول"نعم"، ولو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت لكفرتم! ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحَرَج، (3) والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرَّمت عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه! قال: فأنزل الله تعالى عند ذلك:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء"، إلى آخر الآية. (4) 12808 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، وذلك أن رسول الله أذّن في الناس فقال:"يا قوم، كتب عليكم الحجّ! " فقام رجل من بني أسد فقال:   (1) في المطبوعة وابن كثير: "فعلا كلام رسول الله"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة"فعلن" كأن آخرها"نون" وهي غير منقوطة. وفي مجمع الزوائد: "فعلق" بالعين المهملة، وأرجح أن الصواب ما أثبته. يقال: "غلق فلان، في حدته" (بفتح الغين وكسر اللام) أي: نشب، قال شمر: "يقال لكل شيء نشب في شيء فلزمه: قد غلق"، ومنه: "استغلق الرجل": إذا ارتج عليه ولم يتكلم، يعني أنه انقطع كلامه. فكأن هذا هو الصواب إن شاء الله. وقوله بعد: "وأسكت" (بفتح الهمزة وسكون السين وفتح الكاف) بالبناء للمعلوم فعل لازم، بمعنى سكت. قال اللحياني: "يقال تكلم الرجل ثم سكت -بغير ألف- فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قيل: "أسكت"، وقيل": "أسكت" أطرق، من فكرة أو داء أو فرق. وفسروا الخبر أنه: "أعرض ولم يتكلم". وبعض الخبر في اللسان (سكت) . (2) في المطبوعة وابن كثير زيادة: "وأغضب واستغضب"، لا أدري من أين جاءا بها. وليست"وأغضب" في المخطوطة. وقوله: "واستغضب" ضبطت في المخطوطة بفتحة على الضاد، وكذلك ضبطت في لسان العرب (سكت) ولم يذكر أصحاب اللغة: "استغضب" لازمًا، بل ذكروا"غضب" و"أغضبته فتغضبب"، ولكن ما جاء هنا له شاهد من قياس اللغة لا يرد. فهذا مما يزاد على نص المعاجم. ولو قرئ: "استغضب" بالبناء للمجهول، لكان جيدًا أيضًا وهو قياس محض"استغضب، فغضب". (3) قوله: "أئمة الحرج"، يعني الذين يبتدئون السؤال عن أشياء، تحرم على الناس من أجل سؤالهم، فهم كالأئمة الذين تقدموا الناس، فألزموهم الحرج. و"الحرج" أضيق الضيق. (4) الأثر: 12807-"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، روى عنه أبو جعفر آنفًا رقم: 5973، وقال أخي السيد أحمد هناك: "لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب"، وصدق، لم يرد اسمه مبينًا كما جاء هنا وهناك. ولكن قد روى عنه أبو جعفر في مواضع من تاريخه 1: 39 قال: "حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا ابن عفير"، ثم روى عنه في المنتخب من كتاب"ذيل المذيل" (13: 39) : "حدثني زكرياء بن يحيى بن أبان المصري، قال، حدثنا أبو صالح كاتب الليث"، ثم في (13: 63) : "حدثني زكرياء بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا أحمد بن أشكاب" ثم في (13: 109) : "حدثني زكرياء بن يحيى قال، حدثنا أحمد بن يونس" فالذين حدث عنهم كلهم مصريون. وأخشى أن يكون هو"زكريا بن يحيى الوقار المصري"، "أبو يحيى" مترجم في لسان الميزان 2: 485، وابن أبي حاتم 1/2/601 وميزان الاعتدال 1: 350، روى عن عبد الله بن وهب المصري فمن بعده، وعن زكريا بن يحيى الأدم المصري، والقاسم بن كثير المصري. وولد زكريا بن يحيى الوقار سنة 174، ومات سنة 254، فهو مظنة أن يروى عنه أبو جعفر، كان من الصلحاء العباد الفقهاء، ولكن قال ابن عدي: "يضع الحديث، كذبه صالح جزرة. قال صالح: حدثنا زكريا الوقار، وكان من الكذابين الكبار". وقال أيضًا: "رأيت مشايخ مصر يثنون على أبي يحيى في العبادة والاجتهاد والفضل، وله حديث كثير، بعضه مستقيم، وبعضه موضوعات وكان هو يتهم بوضعها، لأنه يروى عن قوم ثقات أحاديث موضوعة. والصالحون قد رسموا بهذا: أن يرووا أحاديث موضوعة، ويتهم جماعة منهم بوضعها". وأما "أبو زيد": "عبد الرحمن بن أبي الغمر"، المصري الفقيه من شيوخ البخاري روى عنه خارج الصحيح، مضى برقم: 4329. وفي المطبوعة: "بن أبي العمر" بالعين المهملة وهو خطأ. و"أبو مطيع": "معاوية بن يحيى الشامي الأطرابلسي"، ثقة، وقال ابن معين: "ليس بذاك القوي"، وقال الدارقطني: "ضعيف". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/336، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4/1/384، ووثقه أبو زرعة. و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي"، ثقة مضى برقم: 7009. و"سليم بن عامر الكلاعي، الخبائري"، ثقة روى عن أبي أمامة، وغيره من الصحابة، مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/126، وابن أبي حاتم 2/1/211. وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا 3: 204 وقال: "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن جيد". ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 251 عن هذا الموضع من التفسير، وقال: "في إسناده ضعف"، وكأن علة ضعفه عنده، هو"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، وفي إسناده في ابن كثير خطأ، كتب"عبد العزيز بن أبي الغمر"، وهو خطأ محض. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 335، وزاد نسبته لابن مردويه. ثم انظر ما ختم به أبو جعفر فصله هذا ص: 112، أن مخرج هذا الأخبار صحاح عنده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغْضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، فقال: والذي نفس محمد بيده، لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تِبيانه. (1) 12809 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح قال، حدثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم"، قال: لما أنزلت آية الحج، نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحُجُّوا. فقالوا: يا رسول الله، أعامًا واحدًا أم كل عام؟، فقال: لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت"كل عام"، لوجبت، ولو وجبت لكفرتم. ثم قال الله تعالى ذكره: (2) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فوعظهم فانتهوا. 12810- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقيل:   (1) الأثر: 12808- قد بين أخي السيد أحمد في الخبر رقم: 305، ضعف هذا الإسناد الدائر في التفسير وقال: "هو إسناد مسلسل بالضعف من أسرة واحدة" ثم شرح الإسناد شرحًا مفصلا. (2) في المطبوعة أسقط"ثم" وهي لا غنى عنها في هذا الموضع وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 أواجب هو يا رسول الله كل عام؟ قال: لا لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما أطقتم، ولو لم تطيقوا لكفرتم. ثم قال: سلوني، فلا يسألني رجل في مجلسي هذا عن شيء إلا أخبرته، وإن سألني عن أبيه! فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة بن قيس. فقام عمر فقال: يا رسول، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، ونعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية من أجل أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوَصيلة والحامي. * ذكر من قال ذلك: 12811- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس"لا تسألوا عن أشياء"، قال: هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك:"ما جعل الله من كذا ولا كذا؟ (1) = قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم فال:"قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين". قال: فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس، فما لك تقول هذا؟ فقال: هَيْهَ. (2) 12812- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون،   (1) القائل هو"خصيف". (2) قوله: "هيه" هنا بفتح الهاء وسكون الياء وفتح الهاء الآخرة. يقال ذلك للشيء ينحى ويطرد. وأما "هيه" (بكسر الهاء الأولى وكسر الآخرة أو فتحها) فهي مثل"إيه"، تقال أمرًا للرجل، تستزيده من الحديث المعهود بينكما. وإشارة عكرمة بالطرد والتنحية، لما كان بين مجاهد وعكرمة وانظر ما سلف من سوء رأي مجاهد في عكرمة في التعليق على رقم: 10445، 10469. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 عن عكرمة قال: هو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبي= وقال سعيد بن جبير: هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ، كمسألة ابن حذافة إياه مَن أبوه، ومسألة سائله إذ قال:"الله فرض عليكم الحج"، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل. وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس، فقولٌ غير بعيد من الصواب، ولكنْ الأخبارُ المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، وكرهنا القولَ به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسئلة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها، كما كره الله لهم المسألة عن الحج:"أكل عام هو، أم عامًا واحدًا"؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه، فنزلت الآية بالنهي عن المسائل كلِّها، فأخبرَ كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله، وأجل غيره. (1) وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت صحاحٌ، فتوجيهها إلى الصواب من وجوهها أولى. * * *   (1) في المطبوعة: "أو أجل غيره"، استجلب "أو" مكان"واو" العطف، فأفسد الكلام إفسادًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه، من فرائض لم يفرضها الله عليهم، وتحليل أمور لهم يحلّلها لهم، وتحريم أشياء لم يحرِّمها عليهم قبلَ نزول القرآن بذلك: أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابًا ولا وحيًا، لا تسألوا عنه، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيانٌ بوحي وتنزيل ساءكم، لأن التنزيل بذلك إذا جاءكم إنما يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم، إما بإيجاب عمل عليكم، ولزوم فرض لكم، وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤونة وكلفة= وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي، كنتم من التقدم عليه في فُسْحة وسَعة= وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه، وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقًّا إلى ما كنتم ترونه باطلا ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها، وبعد ابتدائكم ببيان أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، (1) ليسَّر عليكم ما أنزلته إليه من بيان كتابي، وتأويل تنزيلي ووحيي (2) وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:- 12813 - حدثنا به هناد بن السري قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود   (1) في المطبوعة: "وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي"، وهو كلام بلا معنى، لم يحسن قراءة المخطوطة، لا فيها: "سان" غير منقوطة، فقرأها خلطأً. (2) في المطبوعة"بين لكم ما أنزلته إليه من إتيان كتابي"، وهي أيضًا كلام بلا معنى، وكان في المخطوطة هكذا"لسس عليكم ما أنزلته إليه من اساي كتابي"، وصواب قراءتها إن شاء الله هو ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني قال: إن الله تعالى ذكره فرَض فرائض فلا تضيِّعوها، ونهى عن أشياء فلا تَنْتَهِكوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. (1) 12814 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: كان عبيد بن عمير يقول: إن الله تعالى أحلّ وحرَّم، فما أحلّ فاستحلُّوه، وما حرَّم فاجتنبوه، وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه. ثم يتلو:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". 12815- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا الضحاك قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني عطاء، عن عبيد بن عمير أنه كان يقول: إنّ الله حرّم وأحلَّ، ثم ذكر نحوه. * * * وأما قوله:"عفا الله عنها" فإنه يعني به: عفا الله لكم عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها، أن يؤاخذكم بها، أو يعاقبكم عليها، إن عرف منها توبتكم وإنابتكم (2) ="والله غفورٌ"، يقول: والله ساتر ذنوب من تاب منها، فتارك أن يفضحه في الآخرة ="حليم" [ذو أناة عن] أن يعاقبه بها، لتغمده التائبَ منها برحمته، وعفوه، عن عقوبته عليها. (3) * * *   (1) الأثر: 12813- هذا الخبر، رواه أبو جعفر موقوفًا على أبي ثعلبة الخشني، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 336 مرفوعًا، ونسبه لابن المنذر، والحاكم وصححه. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 252 فقال: "وفي الحديث الصحيح أيضًا"، ولم أستطع أن أجده في المستدرك، أو غيره من الكتب الصحاح. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "إن عرف"، والسياق يقتضي: "إذ". (3) انظر تفسير"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة= وتفسير"حليم" فيما سلف 5: 117، 521/ 7: 327 وزدت ما بين القوسين من تفسير أبي جعفر السالف، فإن الكلام بغير ذلك أو شبهه غير مستقيم كل الاستقامة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 وبنحو الذي قلنا في ذلك، روي الخبر عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا. وذلك ما:- 12816 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تسألوا عن أشياء"، يقول: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد سأل الآيات قومٌ من قبلكم، فلما آتاهموها الله أصبحوا بها جاحدين، منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتُجَّ بها عليهم، وبرهانًا على صحة ما جُعلت برهانًا على تصحيحه= كقوم صالح الذين سألوا الآيةَ، فلما جاءتهم الناقة آيةً عقروها= وكالذين سألوا عيسى مائدة تنزل عليهم من السماء، فلما أعطوها كفروا بها، وما أشبه ذلك. فحذَّر الله تعالى المؤمنين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلكوا سبيل من قبلهم من الأمم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عند مسألتهموها، فقال لهم: لا تسألوا الآيات، ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فقد سأل الآيات من قبلكم قومٌ، فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين، كالذي:-   (1) الأثر: 12816- هو بعض الأثر السالف رقم: 12808. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 12817 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال؛ حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك. (1) 12818 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قد سألها قوم من قبلكم"، قد سأل الآيات قوم من قبلكم، وذلك حين قيل له: غيِّر لنا الصَّفا ذهبًا. * * * القول في تأويل قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بحر الله بحيرة، ولا سيَّب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حَمَى حاميًا = ولكنكم الذين فعلتم ذلك، أيها الكفرة، فحرَّمتموه افتراء على ربكم، كالذي:- 12819 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن ابن الهاد = وحدثني يونس قال، حدثنا عبد الله بن يوسف قال، حدثني الليث قال، حدثني ابن الهاد =، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرُّ قُصْبَه في النار، وكان أول من سيَّب السُّيَّب". (2)   (1) الأثر: 12817- هو بعض الأثر السالف رقم: 12808. (2) الأثر: 12819- رواه أبو جعفر بإسنادين: أولهما"محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري"، ثقة مضى برقم: 2377. وأبوه: "عبد الله بن عبد الحكم بن أعين"، الفقيه المصري، ثقة، مترجم في التهذيب، و"شعيب بن الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصري"، ثقة، مضى برقم: 3034، 5314 وأبوه"الليث بن سعد" الإمام الجليل القدر، مضى برقم: 186، 187، 2072، 2584، 9507. و"ابن الهاد" هو: "يزيد بن الهاد" منسوبا إلى جده، وهو: "يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد" ثقة، مضى برقم: 2031، 3034، 4314. وأما الإسناد الثاني فتفسيره: "يونس" هو"يونس بن عبد الأعلى الصدفي" ثقة مضى برقم: 1679، 3503 وغيرها. و"عبد الله بن يوسف التنيسي الكلاعي" ثقة من شيوخ البخاري. مترجم في التهذيب. وخبر أبي هريره هذا، من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رواه أحمد في المسند رقم: 8773، وأشار إليه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 214) وقد رواه قبل من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب، عن سعيد، ورواه أحمد قبل ذلك منقطعا رقم: 7696، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي هريرة وقد استوفى أخي السيد أحمد في شرحه بيان ذلك. وأما مسلم فقد رواه في صحيحه 17: 189 من طريق صالح بن كيسان، عن ابن شهاب عن سعيد. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 253، وذكر رواية البخاري الآنفة: "قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري هكذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف، وسكت ولم ينبه عليه= قال ابن كثير: وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد عن ابن الهاد عن الزهري نفسه، والله أعلم". وتفسير كلام ابن كثير أن ابن الهاد قد ثبت سماعه من الزهري. ولم يبين هو ما أراد أبو الحجاج بما قال ولم يفسره. ولم يشر الحافظ ابن حجر في الفتح (8: 214) إلى شيء مما قاله المزي. وأما "القصب" (بضم فسكون) : هي الأمعاء كلها. وأما قوله: "سيب السيب" فإن"سيب الدابة أو الناقة أو الشيء": تركه يسيب حيث شاء، أي يذهب حيث شاء. وأما "السيب" (بضم السين وتشديد الياء المفتوحة) فهو جمع"سائبة" على مثال"نائحة ونوح" و"نائم ونوم" كما سلف في تعليقي على الأثر رقم: 10447، وشاهده رواه ابن هشام في سيرته هذا البيت (1: 93) : حَوْلَ الوَصَائِل فِي شُرَيْفٍ ... حِقَّةٌ وَالحَامِيَاتُ ظُهُورُها وَالسُّيَّبُ وتجمع"سائبة" أيضًا على"سوائب" وهو القياس. وقد جاء في إحدى روايتي صحيح مسلم (17: 189) : "أول من سيب السيوب" (بضم السين والياء) وقال القاضي عياض في مشارق الأنوار: "أول من سيب السوائب، وفي الرواية الأخرى: أول من سيب السيوب"، ولم يبين ذلك. وبيانه أن"السيوب" جمع"سيب" (بفتح فسكون) مصدر سميت به"السائبة" وقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف في يوم الشورى: "وإن الحيلة بالنطق أبلغ من السيوب في الكلم" وفسروه تفسيرين، الأول ما في لسان العرب: "السيوب: ما سيب وخلى فساب أي ذهب" والآخر ما قاله الزمخشري في الفائق: "السيوب مصدر: ساب كان قياسا جمع"سائب" و"سائبة" على"سيوب" فإن ما جاء مصدره على"فعول" كان جمع"فاعل" منه على"فعول" مثل"شاهد وشهود" و"قاعد وقعود" و"حاضر وحضور" وقد ذكرت ذلك في تعليق سالف وانظر شرح الشافية 2: 158. فهذا تفسير ما أغفله القاضي عياض، والنووي في شرح صحيح مسلم. وكان في المطبوعة: "أول من سيب السائبة"، غير ما في المخطوطة وهو اطراح سيئ لأمانة العلم!! وكتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 12820 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم، رأيتُ عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدف يجرّ قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: عسَى أن يضرّني شبهه، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أوّل من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي". (1) 12821 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد عرفت أوّلَ من بَحَر البحائر، رجلٌ من مُدْلج كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرّم ألبانهما وظهورَهما، وقال: هاتان لله! ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار يؤذِي أهل النار ريح قُصْبه. (2) 12822 - حدثنا هناد قال، حدثنا عَبْدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرِضت عليَّ النار، فرأيت فيها عمرو بن فلان بن فلان بن خندف يجرّ قصْبه في النار، وهو أوّل من غيَّر دين إبراهيم، وسيب السائبة، وأشبه من رأيت به أكثم بن الجون! فقال أكثم: يا رسول الله، أيضرني شبهه؟ قال:"لا لأنك مُسلم، وإنه كافر". (3)   (1) الأثر: 12820-"محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي" روى له أصحاب الكتب الستة، تابعي ثقة كثير الحديث مضى برقم: 4249. و"أبو صالح" هو: "ذكوان السمان"، تابعي ثقة. مضى مرارًا. وأما "محمد بن إسحق"، صاحب السيرة، فقد مضى توثيق أخي السيد أحمد له في رقم: 221 وفي غيره من كتبه. وهذا الخبر ساقه ابن كثير في تفسيره 3: 254، هو ورقم: 12822، وفي البداية والنهاية 2: 189، ثم قال"وليس هذان الطريقان في الكتب من هذا الوجه" يعني الصحاح وإلا فإن هذا الخبر ثابت بإسناد محمد بن إسحق في سيرة ابن هشام 1: 78، 79 وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب بغير إسناد ص: 55 وذكره ابن الأثير بإسناده 1: 123، 124، وابن حجر في الإصابة (ترجمة: أكثم بن الجون) ونسبه لابن أبي عروبة وابن مندة من طريق ابن إسحق وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 338 فخلط في تخريجه تخليطا شديدا فقال: "أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه" وإنما ذلك رقم: 12822، الآتي بعد. وسيأتي هذا الخبر مطولا من طريق أخرى رقم: 12827، وهو إسناد أبي جعفر الثاني في رواية سيرة ابن إسحق. وقوله: "عسى أن يضرني شبهه" يعني: لعله يضرني شبهه، يتخوف أن يكون ذلك. وفي المطبوعة: "أخشى أن يضرني شبهه" وهو مخالف للرواية، وإنما اختلط عليه خط ناسخ المخطوطة إذ كتبها مختلطة: "تحتي" كأنه أراد أن يكتب شيئًا، ثم عاد عليه حتى صار"عسى" منقوطة وبمثل ما في المطبوعة، جاءني في الدر المنثور. وكثرة مثل ذلك دلتني على أن هذه النسخة المخطوطة التي ننشرها هي التي وقعت في يد السيوطي، والصواب ما أثبته من السيرة، ومن نقل عنها. وكان في المخطوطة أيضًا: "وحمى الحمى"، وهو خطأ محض، صوابه من مراجع هذا الخبر. (2) الأثر: 12821-"هشام بن سعد المدني""يتيم زيد بن أسلم" كان من أوثق الناس عن زيد وهو ثقة، وتكلم فيه بعضهم مضى برقم: 5490. وهذا خبر مرسل. وسيأتي من طريق معمر، عن زيد بن أسلم برقم: 12824. (3) الأثر: 12822-"عبدة" هو"عبدة بن سليمان الكلابي" ثقة مضى قريبا برقم: 12729. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبيدة" وهو خطأ صوابه في تفسير ابن كثير. و"محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي" و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضيا أيضًا في مثل هذا الإسناد رقم: 12729 وهذا إسناد رجاله ثقات. وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 4: 605، من طريق أبي حاتم الرازي، عن محمد ابن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو وفيه"فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف" مصرحا ثم قال: "وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وقد مر بك أن ابن كثير قال في تفسيره 3: 254 والبداية والنهاية 2: 189، أنه ليس في الكتب يعني الصحاح ولم يزد. وأما الحافظ ابن حجر فخرجه في الإصابة (ترجمة أكثم بن الجون) من طريق أحمد بن حنبل، عن محمد بن بشر العبدي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، بمثله ثم أشار إلى طريق الحاكم في المستدرك. ولكن أعياني أن أجد خبر أحمد في المسند. وأما الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم فقد رواه في كتاب جمهرة الأنساب ص: 223 من طريق علي بن عمر الدارقطني عن الحسين بن إسمعيل القاضي المحاملي عن سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن محمد بن عمرو. ثم قال أبو محمد بعد سياقه أحاديث البخاري ومسلم وهذا الحديث وهي أربعة هذا ثالثها: "أما الحديث الأول والثالث والرابع، ففي غاية الصحة والثبات" فحكم لهذا الخبر بالصحة. وفي المطبوعة هنا: "عمرو بن فلان بن فلان بن فلان بن خندف""فلان" ثلاث مرات وهو مخالف لما في المخطوطة، وخطأ بعد ذلك فإن ما بين"عمرو" و"خندف" اثنان لا ثلاثة. وهكذا في المخطوطة والمطبوعة: "لا لأنك مسلم" ولولا اتفاقهما لرجحت أن تكون: "لا إنك مسلم" كما في رواية غيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 12823 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجرّ قُصْبه في النار، وهو أوّل من سيّب السوائب. (1) 12824 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أوّل من سيب السوائب، وأوّل من غيَّر عهد إبراهيم! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب، لقد رأيته يجرّ قُصْبه في النار، يؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أوّل من بحر البحائر! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرّم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعدَ ذلك، فلقد رأيته في النار هو، وهما يعضّانه بأفواههما، ويخبطانه بأخفافهما. (2)   (1) الأثر: 12823- هذا خبر مرسل كما ترى، لم يرفعه عبد الرزاق. (2) الأثر: 12824- هذا أيضًا خبر مرسل، وهو طريق أخرى للخبر السالف رقم: 12821. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (8: 214، 215) ثم قال: "والأول أصح"، يعني ذكر هذا الرجل من بني مدلج، أنه أول من بحر البحائر، وأن الصواب ما جاء في الأخبار الصحاح قبل، أنه عمرو بن لحي. و"بنو مدلج" هم بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن اليأس ابن مضر بن نزار بن معد ليسوا من قريش. وكانت فيهم القيافة والعيافة، منهم"مجزز المدلجي" الذي سر النبي صلى الله عليه وسلم بقيافته (جمهرة الأنساب: 176، 177) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 و"البحيرة" الفعيلة من قول القائل:"بَحَرْت أُذن هذه الناقة"، إذا شقها،"أبحرُها بحرًا"، والناقة"مبحورة"، ثم تصرف"المفعولة" إلى"فعيلة"، فيقال:"هي بحيرة". وأما"البَحِرُ" من الإبل فهو الذي قد أصابه داءٌ من كثرة شرب الماء، يقال منه:"بَحِر البعيرُ يبحر بَحَرًا"، (1) ومنه قول الشاعر: (2) لأعْلِطَنَّهُ وَسْمًا لا يُفَارَقُهُ ... كَمَا يُحَزُّ بِحَمْيِ المِيسَمِ البَحِرُ (3) وبنحو الذي قلنا في معنى"البحيرة"، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 12825 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (4) أرأيت   (1) هذه على وزن"فرح يفرح فرحًا". (2) أعياني أن أجد قائله. (3) سيأتي في التفسير 29: 19 (بولاق) لسان العرب (بحر) ."علط البعير يعلطه علطًا" وسمه بالعلاط. و"العلاط" (بكسر العين) : سمة في عرض عنق البعير، فإذا كان في طول العنق فهو"السطاع" (بكسر السين) . هذا تفسير اللغة أنه في العنق وأما أبو جعفر الطبري فقد قال في تفسيره (29: 19) "والعرب تقول: والله لأسمنك وسما لا يفارقك يريدون الأنف" ثم ذكر البيت وقال: "والنجر": داء يأخذ الإبل فتكوى على أنوفها. وذكر هناك بالنون والجيم كما أثبته وله وجه سيأتي إلا أني أخشى أن يكون الصواب هناك، كما هو هنا بالباء والحاء، وقوله: "بحمى الميسم". يقال: "حمى المسمار حميا وحموا": سخن في النار و"أحميت المسمار في النار إحماء". و"الميسم" المكواة التي يوسم بها الدواب. وأما "البحر" فقد فسره أبو جعفر ولكن الأزهري قال: "الداء الذي يصيب البعير فلا يروى من الماء هو النجر بالنون والجيم، والبجر بالباء والجيم وأما البحر: فهو داء يورث السل". وهذا البيت في هجاء رجل وإيعاده بالشر شرا يبقى أثره. وكان في المطبوعة: "لأعطنك" بالكاف في آخره والصواب من المخطوطة ومما سيأتي في المطبوعة من التفسير (29: 19) ومن لسان العرب. (4) في المطبوعة، أسقط"له" وهي ثابته في المخطوطة: وهي صواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 إبلك ألست تنتجها مسلَّمةً آذانُها، فتأخذ الموسى فتجْدَعها، تقول:"هذه بحيرة"، وتشق آذانها، تقولون:"هذه صَرْم"؟ قال: نعم! قال: فإن ساعدَ الله أشدّ، وموسَى الله أحدَ! كلّ مالك لك حلالٌ، لا يحرَّم عليك منه شيء. (1) 12826- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت أبا الأحوص، عن أبيه قال أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تُنتَجُ إبل قومك صحاحًا آذانُها، فتعمد إلى الموسَى فتقطع آذانها فتقول:"هذه بُحْرٌ"، وتشقها أو تشق جلودها فتقول:"هذه صُرُمٌ"، فتحرّمها عليك وعلى أهلك؟ قال: نعم! قال: فإن ما آتاك الله لك حِلّ، وساعد الله أشدّ، وموسى الله أحدّ = وربما قال: ساعدُ الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحدّ من موساك. (2)   (1) الأثر: 12825- هذا الخبر رواه أبو جعفر بإسنادين هذا والذي يليه."عبد الحميد بن بيان القناد" شيخ أبي جعفر، مضى مرارا. و"محمد بن يزيد الكلاعي" الواسطي وثقه أحمد وهو من شيوخه مضى برقم: 11408. و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي" ثقة مضى برقم: 5694، 5777. و"أبو إسحق" هو السبيعي الإمام. مضى مرارا. و"أبو الأحوص" هو: "عوف بن مالك بن نضلة الجشمي" تابعي ثقة، مضى برقم: 6172. وأبوه: "مالك بن نضلة بن خديج الجشمي" ويقال: "مالك بن عوف بن نضلة" وبهذا ترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 17. وأما في التاريخ الكبير للبخاري 4/1/303، فإني رأيت فيه: "مالك بن يقظة الخزاعي والد أبي الأحوص له صحبة". و"أبو الأحوص" المشهور هو"عوف بن مالك بن نضلة" فظني أن الذي في التاريخ خطأ فإني لم أجد هذا الاسم في الصحابة فيكون فيه خطأ في"يقظة" وهو"نضلة" وفي"الخزاعي" وهو: "الجشمي" والله أعلم. وهذا الخبر جاء في المخطوطة كما أثبته وفي المطبوعة: "وتشق آذانها وتقول" بالإفراد فأثبت ما في المخطوطة. وقوله: "مسلمة آذانها" أي: سليمة صحاحًا. وسأشرح ألفاظه في آخر الخبر الآتي وما كان من الخطأ في المطبوعة والمخطوطة في"صرم" بعد تخريجه هناك. (2) الأثر: 12826- هذا الخبر، مكرر الذي قبله. *رواه من طريق شعبة، عن أبي إسحق مطولا أبو داود الطيالسي في مسنده: 184 رقم: 1303. *ورواه أحمد في المسند عن طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحق= ثم من طريق عفان عن شعبة في المسند 3: 473. *ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 10 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحق. *وخرجه ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم 3: 256 مطولا ولم ينسبه إلى غيره. *وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 337 مطولا جدًا ونسبه إلى أحمد، وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات. أما لفظه عند السيوطي فلا أدري لفظ من يكون، فإنه ليس لفظ من ذكرت آنفا تخريج الخبر من كتبهم. *ثم رواه أحمد في المسند 4: 136، 137 من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو ابن عمرو عن عمه أبي الأحوص عن أبيه بلفظ آخر مختلف كل الاختلاف. *وهذا شرح غريب هذين الخبرين."نتج الناقة ينتجها نتجا" (على وزن: ضرب) : إذا تولى نتاجها أي ولادها. وأما قوله في الخبر الثاني: "هل تنتج إبل قومك" فهو بالبناء للمجهول. يقال: "نتجت الناقة تنتج" (بالبناء للمجهول) : إذا ولدت. *و"جدع الأنف والأذن والشفة": إذا قطع بعض ذلك. وأما قوله: "هذه صرم" فقد كتبت في المخطوطة والمطبوعة في الخبرين"حرم" بالحاء وكذلك وقع في تفسير ابن كثير، والصواب من المراجع التي ذكرتها ومن بيان كتب اللغة في تفسير هذا الخبر. *وتقرأ"صرم" في الخبر الأول بفتح فسكون و"الصرم" القطع سماها المصرومة بالمصدر كما يدل على صواب ذلك من قراءته ما جاء في شرح اللفظ في لسان العرب مادة (صرب) . وأما في الخبر الثاني فإن قوله: "هذه بحر" (بضم الباء والحاء) جمع"بحيرة" وقوله: "هذه صرم" (بضم الصاد والراء) جمع"صريمة" وهي التي قطعت أذنها وصرمت. وهذا صريح ما قاله صاحب اللسان في مادتي"صرم" و"صرب" والزمخشري في الفائق"صرب" وروى أحمد في المسند 4: 136، 137: "صرماء" ولم تشر إليها كتب اللغة. وأما الومخشري وصاحب اللسان فقد رويا: "وتقول: صربى" (على وزن سكرى) . وقال في تفسيرها: كانوا إذا جدعوا البحيرة أعفوها من الحلب إلا للضيف فيجتمع اللبن في ضرعها من قولهم: "صرب اللبن في الضرع": إذا حقنه لا يحلبه. ورويا أنه يقال إن الباء مبدلة من الميم كقولهم"ضربة لازم، ولازب"، وأنه أصح التفسيرين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 وأما"السائبة": فإنها المسيَّبة المخلاة. وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه، فيحرِّم الانتفاع به على نفسه، كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبدَه سائبةً، فلا ينتفع به ولا بولائه. (1)   (1) انظر تفسير"السائبة" فيما سلف 3: 386 تعليق: 1. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 وأخرجت"المسيَّبة" بلفظ"السائبة"، كما قيل:"عيشة راضية"، بمعنى: مرضية. * * * وأما"الوصيلة"، فإن الأنثى من نَعَمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنًا بذكر وأنثى، قيل:"قد وصلت الأنثى أخاها"، بدفعها عنه الذبح، فسمَّوها"وَصيلة". * * * وأما"الحامي"، فإنه الفحل من النعم يُحْمَى ظهره من الركوب والانتفاع، بسبب تتابُعِ أولادٍ تحدُث من فِحْلته. * * * وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء، وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك. * ذكر الرواية بما قيل في ذلك: 12827 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، (1) عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ: أن أبا صالح السمان حدّثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعيّ: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قُصْبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به، ولا به منك! (2) فقال أكثم: أيضرّني شبهه يا نبيّ الله؟ قال: لا إنك مؤمن وهو كافر، (3) وإنه كان أوّل من غيَّر دين إسماعيل، ونصب الأوثان، وسيَّب السائبَ فيهم. (4)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق" وهو خطأ محض كما ترى في تخريجه. (2) مضى في الأثر: 12820، "فما رأيت رجلا" وهذه رواية أخرى. (3) في المطبوعة: "لا لأنك مسلم" غيرها وهي في المخطوطة وابن هشام كما أثبتها. (4) في المطبوعة: "سيب السوائب فيهم" وأثبت ما في المخطوطة وإن كان الناسخ كتب"السائب فيهم" وصوابه من سيرة ابن هشام. وهذا الشطر من الخبر هو حديث أبي هريرة وقد مضى آنفًا برقم: 12820 ومضى تخريجه هناك. أما الشطر الثاني الذي وضعته في أول السطر فإنه من كلام ابن إسحق نفسه، كما سترى في التخريج. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 = وذلك أن الناقة إذا تابعت بين عشرإناث ليس فيها ذكر، (1) سُيِّبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزَّ وبرها، ولم يشرَب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها، ثم خلّى سبيلها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي"البحيرة" ابنة"السائبة". و"الوصيلة"، أن الشاة إذا نَتَجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت"وصيلة"، قالوا:"وصلت"، فكان ما وَلدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، (2) إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله، ذكورُهم وإناثهم (3) . و"الحامي" أنّ الفحل إذا نُتِج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكرٌ، حمي ظهره ولم يركب، ولم يجزّ وبره، ويخلَّى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع به بغير ذلك. يقول الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" إلى قوله:"ولا يهتدون".   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "إذاتابعت ثنتي عشرة إناثا ليس فيهما ذكر" إلا أن في المخطوطة: "ليس فيهم" وهما خطأ محض، وصواب هذه العبارة هو ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها إلا أنني جعلت"فيهن" مكان"بينهن" في سيرة ابن هشام لما سيأتي بعد في الخبر"فيهن" مكان"بينهن" فيما يقابلها من سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 12827- صدر هذا الخبر إلى قوله: "سيب السائب فيهم" هو حديث أبي هريرة السالف رقم: 12820، وهو في سيرة ابن هشام 1: 78، 79، وقد خرجته هناك. وأما الشطر الثاني إلى آخر الخبر، فهو من كلام ابن إسحق وهو في سيرة ابن هشام 1: 91، 92. (3) في المطبوعة: لذكورهم دون إناثهم، وفي المخطوطة: لذكورهم بينهم، غير منقوطة والصواب من سيرة ابن هشام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 12828 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق في هذه الآية:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" = قال أبو جعفر: سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه = قال: فأتيت علقمة فسألتُه، فقال: ما تريد إلى شيء كانت يَصنعه أهل الجاهلية. (1) 12829 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم قال: أتيت علقمة، فسألته عن قول الله تعالى:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ"، فقال: وما تصنع بهذا؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية! قال: فأتيت مسروقًا فسألته، فقال:"البحيرة"، كانت الناقة إذا ولدت بطنًا خمسًا أو سبعًا، شقوا أذنها، وقالوا:"هذه بحيرة" = قال:"ولا سائبة"، قال: كان الرجل يأخذ بعضَ ماله فيقول:"هذه سائبة" = قال:"ولا وصيلة"، قال: كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث، وإذا ولدت ذكرًا وأنثى في بطن قالوا:"وصلت أخاها"، فلا يأكلونهما. قال: فإذا مات الذكر أكله الذكور دون الإناث = قال:"ولا حام"، قال: كان البعير إذا وَلد وولد ولده، قالوا:"قد قضى هذا الذي عليه"، فلم ينتفعوا بظهره. قالوا:"هذا حمًى". (2)   (1) في المطبوعة: "كانت تصنعه" والصواب من المخطوطة. (2) الأثر: 12829-"يحيى بن إبراهيم المسعودي" شيخ الطبري هو: "يحيى ابن إبراهيم بن محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى برقم: 84، 5379، 8811، 9744. وأبوه: "إبراهيم بن محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى برقم: 84، 5379، 8811، 9744. وأبوه"محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى في ذلك أيضا. وجده"أبو عبيدة بن معن المسعودي" مضى أيضًا. وكان في المطبوعة هنا: "هذا حام" وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 12830 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح قال: سألت علقمة عن قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، قال: ما تصنع بهذا؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية. 12831 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص:"ما جعل الله من بحيرة"، قال: البحيرة: التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت. 12832 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن الشعبي:"ما جعل الله من بحيرة". قال: البحيرة، المخضرمة (1) "ولا سائبة"، والسائبة: ما سُيِّب للعِدَى (2) = و"الوصيلة"، إذا ولدت بعد أربعة أبطن = فيما يرى جرير = ثم ولدت الخامس ذكرًا وأنثى، وصلتْ أخاها = و"الحام"، الذي قد ضرب أولادُ أولاده في الإبل. 12833- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: و"الوصيلة" التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرًا وأنثى، قالوا:"وصلت أخاها"، وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد.   (1) "المخضرمة" من النوق والشاء المقطوعة نصف الأذن أو طرف الأذن أو المقطوعة إحدى الأذنين وهي سمة الجاهلية. وفي الحديث: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على ناقة مخضرمة". (2) "العدي" (بكسر العين ودال مفتوحة) : الغرباء يعني الأضياف كما جاء في سائر الأخبار. هكذا هي في المخطوطة"العدي" أما المطبوعة ففيها: "للهدي" وهو تحريف وخطأ محض. ولو كان في كتابة الناسخ خطأ فأقرب ذلك أن تكون"للمعتري" يقال: "عراه يعروه واعتراه" إذا غشيه طالبا معروفه. ويقال: "فلان تعروه الأضياف وتعتريه" أي تغشاه وبذلك فسروا قول النابغة: أَتَيْتُكَ عَارِيًا خَلَقًا ثِيَابِيْ ... عَلَى خَوْفٍ تُظَنَّ بِيَ الظُّنُون أي: ضيفًا طالبًا لرفدك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 12834 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن زكريا، عن الشعبي: أنه سئل عن"البحيرة"، فقال: هي التي تجدع آذانها. وسئل عن"السائبة"، فقال: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم، فتذهب فتختلطُ بغنم الناس، (1) فلا يشرب ألبانها إلا الرجال، فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعًا. 12835 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة" وما معها:"البحيرة"، من الإبل يحرّم أهل الجاهلية وَبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة، (2) فهو"الحامي". و"الحامي"، اسمٌ. (3) و"السائبة" من الغنم على نحو ذلك، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد، كان على هيئتها. فإذا ولدت في السابع ذكرًا أو أنثى أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم. وإن توأمت أنثى وذكرًا فهي"وصيلة"، (4) لترك ذبح الذكر بالأنثى. (5) وإن كانتا أنثيين تركتا. 12836 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،   (1) في المطبوعة: " ... عند آلهتهم لتذبح فتخلط بغنم الناس" غير ما في المخطوطة فأفسد الكلام إفسادًا. وقوله: "فتذهب فتختلط" ذكرت في 7: 457 تعليق: 6 أن العرب تجعل"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام طلبا لتصوير حركة أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه" لا يراد بهما معنى"الذهاب" و"القعود" ومثلهما كثير في كلامهم ثم انظر هذا ص: 250ن 251، تعليق: 1. (2) "ضرب" من"الضراب" (بكسر الضاد) وهو سفاد الجمل الناقة ونزوه عليها. (3) في المطبوعة حذف قوله: "والحامي اسم" لظنه أنه زيادة لا معنى لها. ولكنه أراد أن"الحامي" اسم لهذا الجمل من ولد البحيرة، وليس باسم فاعل. (4) قوله: "توأمت" هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة ولم أجدهم قالوا في ذلك المعنى إلا: "أتأمت المرأة وكل حامل": إذا ولدت اثنين في بطن واحد. فهذا حرف لا أدري ما أقول فيه إلا أنه هكذا جاء هنا. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "ترك" بغير لام، والذي أثبته أشبه عندي بالصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، فالبحيرة، الناقة، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن، فيعمد إلى الخامسة، ما لم تكن سَقْبًا، (1) فيبتك آذانها، ولا يجزّ لها وبرًا، ولا يذوق لها لبنًا، فتلك"البحيرة" ="ولا سائبة"، كان الرجل يسيِّب من ماله ما شاء ="ولا وصيلة"، فهي الشاة إذا ولدت سبعًا، عمد إلى السابع، فإن كان ذكرًا ذبح، وإن كانت أنثى تركت، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما، قالوا:"وصلت أخاها"، فيتركان جميعًا لا يذبحان. فتلك"الوصيلة" = وقوله:"ولا حام"، كان الرجل يكون له الفحل، فإذا لقح عشرًا قيل:"حام، فاتركوه". 12837 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، ليسيِّبوها لأصنامهم ="ولا وصيلة"، يقول: الشاة ="ولا حام" يقول: الفحلُ من الإبل. 12838 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، تشديدٌ شدّده الشيطانُ على أهل الجاهلية في أموالهم، وتغليظ عليهم، فكانت"البحيرة" من الإبل، (2) إذا نتج الرجلُ خمسًا من إبله، نظر البطن الخامس، فإن كانت سقبًا ذبح فأكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرُهم وأنثاهم، وإن كانت حائلا = وهي الأنثى = تركت، فبتكت أذنها، فلم يجزّ لها وَبرٌ، ولم يشرب لها لبن، ولم يركب لها ظهرٌ، ولم يذكر لله عليها اسم.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فما لم يكن سقبا" وصواب ذلك ما أثبت. و"السقب" الذكر من ولد الناقة. قال الأصمعي: إذا وضعت الناقة ولدها فولدها ساعة تضعه"سليل" قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى. فإذا علم فإن كان ذكرا فهو"سقب". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "مثل الإبل" وهو خطأ لا شك فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 وكانت"السائبة"، يسيبون ما بدا لهم من أموالهم، فلا تُمنع من حوض أن تشرع فيه، (1) ولا من حمًى أن ترتع فيه = وكانت"الوصيلة" من الشاء، من البطن السابع، إذا كان جديًا ذبح فأكله الرجال دون النساء. وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم. وإن جاءت بذكر وأنثى قيل:"وصلت أخاها فمنعته الذبح" = و"الحام"، كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة، أو ولد ولده، قيل:"حام حمى ظهره"، فلم يزَمَّ ولم يخطم ولم يركب. 12839- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، فالبحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، إن كان الخامس سقبًا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم، وكانت أمه من عُرْض الإبل. وإن كانت رُبَعة استحيوها، (2) وشقوا أذن أمِّها، وجزّوا وبرها، وخلوها في البطحاء، فلم تجُزْ لهم في دية، ولم يحلبوا لها لبنًا، ولم يجزّوا لها وبرًا، ولم يحملوا على ظهرها، وهي من الأنعام التي حرمت ظهورها = وأما"السائبة"، فهو الرجل يسيِّب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله أو برأ من وَجع، أو ركب ناقة فأنجح، فإنه يسمي"السائبة" (3) يرسلها فلا يعرض لها أحدٌ من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا = وأما"الوصيلة"، فمن الغنم، هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة، فكان آخر ذلك جديًا، ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة، وإن كانت عناقًا استحيوها، (4) وإن كانت جديًا وعناقًا استحيوا الجدي من أجل العَناق، فإنها وصيلة وصلت   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا تمتنع"، والصواب ما أثبت. (2) "الربع" (بضم الراء وفتح الباء) : الفصيل الذي ينتح في الربيع، وهو أول النتاح، والأنثى"ربعة". (3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "يسمى السائبة"، وأرجح أن الصواب: "يسيب السائبة"، (4) "العناق" (بفتح العين) : الأنثى من ولد المعز. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 أخاها = وأما"الحام"، فالفحل يضرب في الإبل عشرَ سنين = ويقال: إذا ضرب ولد ولده = قيل:"قد حمى ظهره"، فيتركونه لا يمسُّ ولا ينحرُ أبدًا، ولا يمنع من كلأ يريده، وهو من الأنعام التي حُرِّمت ظهورها. 12840 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب في قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، قال:"البحيرة" من الإبل، التي يمنح درّها للطواغيت (1) = و"السائبة" من الإبل، كانوا يسيِّبونها لطواغيتهم = و"الوصيلة"، من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى بأنثى، (2) فيسمونها"الوصيلة"، يقولون:"وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر"، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم = أو: يذبحونها، الشك من أبي جعفر= و"الحام"، الفحل من الإبل، كان يضربُ. الضرابَ المعدودة. (3) فإذا بلغ ذلك قالوا:"هذا حام، قد حمى ظهره"، فترك، فسموه"الحام"= قال معمر قال قتادة، إذا ضرب عشرة. 12841- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال:"البحيرة" من الإبل، كانت الناقة إذا نُتِجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرًا، (4) كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى، بتكوا آذانها ثم أرسلوها، فلم ينحروا لها ولدًا، ولم يشربوا لها لبنًا، ولم يركبوا لها ظهرًا = وأما"السائبة"، فإنهم كانوا يسيِّبون بعض إبلهم، فلا تُمنع حوضًا أن تشرع فيه، ولا مرعًى أن ترتع فيه ="والوصيلة"، الشاة كانت إذا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع" بالعين، وصوابه بالحاء. (2) في المطبوعة: "تبكر"، والصواب من المخطوطة. ويقال: "ابتكرت الحامل"، إذا ولدت بكرها، و"أثنت" في الثاني، و"ثلثت" في الثالث. (3) في المطبوعة: "المعدود" بغير تاء في آخره، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. (4) في المطبوعة: "فإن كان الخامس"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرًا، ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت. 12842 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سلمان، عن الضحاك:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، أما"البحيرة" فكانت الناقة إذا نَتَجُوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبًا، وإن كان رُبَعة شقُّوا أُذنها واستحيوها، وهي"بحيرة"، وأما السَّقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نَتَجوها ميْتًا، فرجالهم ونساؤهم فيه سواءٌ، يأكلون منه = وأما"السائبة"، فكان يسيِّب الرجل من ماله من الأنعام، فيُهْمَل في الحمى، فلا ينتفع بظهره ولا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه = وأما"الوصيلة"، فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحُوا السابع إذا كان جديًا، وإن كان عناقًا استحيوه، وإن كان جديًا وعناقًا استحيوهما كليهما، وقالوا:"إن الجدي وصلته أخته، فحرَّمته علينا" = وأما"الحامي"، فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده قالوا:"قد حمى هذا ظهره، وأحرزه أولاد ولده"، (1) فلا يركبونه، ولا يمنعونه من حِمى شجر، ولا حوض مَا شرع فيه، وإن لم يكن الحوض لصاحبه. وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم: لا إن ركبوا، ولا إن حملوا، ولا إن حلبوا، ولا إن نتجوا، ولا إن باعوا. ففي ذلك أنزل الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، إلى قوله:"وأكثرهم لا يعقلون". 12843 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، قال: هذا شيء كان يعمل به أهل الجاهلية، (2) وقد ذهب. قال:"البحيرة"، كان الرجل   (1) في المطبوعة: "وأحرز أولاد ولده"، صوابه من المخطوطة."أحرزه": صانه وحفظه ووقاه. (2) في المطبوعة: "كانت تعمل به"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 يجدع أذني ناقته، ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه، لا تحلب ولا تركب = و"السائبة"، يسيبها بغير تجديع = و"الحام" إذا نتج له سبع إناث متواليات، قد حمي ظهره، ولا يركب، ولا يعمل عليه = و"الوصيلة"، من الغنم: إذا ولدت سبع إناث متواليات، حمت لحمها أن يؤكل. 12844- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا عبد الله بن يوسف قال، حدثنا الليث بن سعد قال، حدثني ابن الهاد، عن ابن شهاب قال، قال سعيد بن المسيب:"السائبة" التي كانت تسيَّب فلا يحمل عليها شيء = و"البحيرة"، التي يمنح دَرُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد (1) = و"الوصيلة"، الناقة البكر تبتكر أوّل نتاج الإبل بأنثى، (2) ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسمُّونها للطواغيت، يدعونها"الوصيلة"، أنْ وصلت أخواتها إحداهما بالأخرى (3) ="والحامي"، فحل الإبل، يضرب العَشْر من الإبل. فإذا نقضَ ضِرابه (4) يدعونه للطواغيت، وأعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئًا، وسموه"الحامي". * * * قال أبو جعفر: وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام، فلا نعرف قومًا يعملون بها اليوم.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع درها"، والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة والمخطوطة هنا"تبكر"، وانظر ما سلف ص: 131 تعليق2. (3) حذف في المطبوعة: "أخواتها"، ولا ضرورة لحذفها، فالكلام مستقيم. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "نقص ضرابه"، وهو لا معنى له، والصواب: "نفض" بالنون والفاء والضاد. يقال"نفضت الإبل وأنفضت": نتجت كلها. قال ذو الرمة: كِلاَ كَفْأَتَيهْا تُنْفِضَانِ، وَلَمْ يَجِدْ ... لَهَا ثِيلَ سَقْبٍ في النِّتَاجَيْنِ لاَ مِسُ يعني: أن كل واحد من الكفأتين (يعني النتاجين) تلقى ما في بطنها من أجنتها، فتوجد إناثًا ليس فيها ذكر. وقوله: "نفض ضرابه"، لم تذكر كتب اللغة هذه العبارة، ولكن هذا هو تفسيرها: أن تلد النوق التي ضربها إناثًا متتابعات ليس بينهن ذكر، كما سلف في الآثار التي رواها أبو جعفر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 فإذا كان ذلك كذلك= وكانَ ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه (1) = إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر، ولا في الشرك، نعرفه = إلا بخبر، (2) وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلافَ الذي ذكرنا، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: أما معاني هذه الأسماء، فما بيّنا في ابتداء القول في تأويل هذه الآية، وأما كيفية عمل القوم في ذلك، فما لا علم لنا به. وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا، وغير ضائرٍ الجهلُ بذلك إذا كان المرادُ من علمه المحتاجُ إليه، موصلا إلى حقيقته، (3) وهو أن القوم كانوا يحرِّمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله، (4) اتباعًا منهم خطوات الشيطان، فوبَّخهم الله تعالى ذكره بذلك، وأخبرهم أن كل ذلك حلال. فالحرام من كل شيء عندنا ما حرَّم الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم، بنصٍّ أو دليل، والحلال منه ما حلله الله ورسوله كذلك. (5) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب"الذين كفروا" في هذا الموضع، والمراد بقوله:"وأكثرهم لا يعقلون". فقال بعضهم: المعنيّ ب"الذين كفروا" اليهود، وب"الذين لا يعقلون"، أهل الأوثان.   (1) كان في المطبوعة: "لا توصل إلى عمله"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. (2) السياق: "لا يوصل إلى عمله. . . إلا بخبر". (3) في المطبوعة: "موصلا إلى حقيقته"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب المعنى. (4) في المطبوعة: "كانوا محرمين من أنعامهم"، والجيد من المخطوطة. (5) في المطبوعة: "ما أحله الله"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 * ذكر من قال ذلك: 12845 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن دواد بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب"، قال: أهل الكتاب ="وأكثرهم لا يعقلون"، قال: أهل الأوثان. (1) * * * وقال آخرون: بل هم أهل ملّة واحدة، ولكن"المفترين"، المتبوعون و"الذين لا يعقلون"، الأتباع. * ذكر من قال ذلك: 12846 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا خارجة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون"، هم الأتباع = وأما"الذين افتروا"، فعقلوا أنهم افتروا. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن المعنيين بقوله:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب"، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل، وحموا الحوامي، مثل عمرو بن لحي وأشكاله ممن سنّ لأهل الشرك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله دين الحق، (3) وأضافوا إلى الله تعالى ذكره: أنه هو الذي حرّم ما حرّموا، وأحلَّ ما أحلوا، افتراءً على الله الكذب وهم يعلمون، واختلاقًا عليه الإفك وهم يفهمون، (4) فكذبهم الله تعالى ذكره في   (1) الأثر: 12845 -"محمد بن أبي موسى"، مضى برقم: 10556. (2) في المطبوعة: "يعقلون أنهم افتروا"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "ممن سنوا لأهل الشرك،. . . وغيروا" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض، لا يرده أنه قال بعده"وأضافوا" بالجمع. (4) في المطبوعة: "وهم يعمهون"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 قيلهم ذلك، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا، فقال تعالى ذكره: ما جعلت من بحيرة ولا سائبة، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك، ويفترون على الله الكذب. = (1) وأن يقال، إن المعنيين بقوله:"وأكثرهم لا يعقلون"، هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين، فهم لا شك أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك لهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن وأخبروهم أنها من عند الله، كذبةٌ في إخبارهم، أفَكَةٌ، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقُّون، وفي إخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرَّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى ذكره كذب وباطل. (2) وهذا القول الذي قلنا في ذلك، نظير قول الشعبي الذي ذكرنا قبلُ. (3) ولا معنى لقول من قال:"عني بالذي كفروا أهل الكتاب"، وذلك أن النكير في ابتداء الآية من الله تعالى ذكره على مشركي العرب، فالختم بهم أولى من غيرهم، إذ لم يكن عرض في الكلام ما يُصرف من أجله عنهم إلى غيرهم. * * * وبنحو ذلك كان يقول قتادة: 12847 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأكثرهم لا يعقلون"، يقول: تحريمُ الشيطان الذي حرّم عليهم، (4) إنما كان من الشيطان، ولا يعقلون. * * *   (1) قوله: "وأن يقال"، معطوف على قوله في أول الفقرة: "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال. . .". (2) انظر تفسير"افترى" فيما سلف 6: 292/8: 451. (3) في المطبوعة، أسقط"قبل"، لسوء كتابتهافي المخطوطة. (4) في المطبوعة: "يقول: لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرم عليهم"، زاد وغير، فأفسد الجملة إفسادًا، وهو يظن أنه يصلحها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله، ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء (1) = أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به، ويقولون:"نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل". (2) قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله، لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون = ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب، (3) بل كانوا على ضلالة وخطأ. * * *   (1) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474، 483، 485/8: 513. (2) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 4: 244/7: 405. (3) في المطبوعة: "ما كانوا فيما هم به عاملون"، وفي المخطوطة: "كانوا" بغير"ما"، والسياق يقتضي ما أثبت، لأنه معطوف على قوله آنفاً: "يقول: لم يكونوا يعلمون. . ." الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره، وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها، فإنه"لا يضركم من ضَلّ"، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فحرمتم حرامه وحللتم حلاله. * * * ونصب قوله:"أنفسكم" بالإغراء، والعرب تغري من الصفات ب"عليك" و"عندك"، و"دونك"، و"إليك". (1) واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معناه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم. * ذكر من قال ذلك: 12848 - حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم"، فقال ابن مسعود:"ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم". (2)   (1) "الصفات" حروف الجر، والظروف، كما هو بين من سياقها. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 322، 323. (2) الأثر: 12848 -"سوار بن عبد الله بن سوار العنبري"، القاضي، شيخ الطبري. ثقة، مترجم في التهذيب. وأبوه: "عبد الله بن سوار العنبري" القاضي، ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي"، ثقة، روي له الستة، مضى برقم: 11408. وسيأتي تخريج الأثر في التعليق على رقم: 12850. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 12849 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب، عن الحسن قال: ذكر عند ابن مسعود (1) "يا أيها الذين آمنوا"، ثم ذكر نحوه. 12850- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن قال: قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم"؟ قال: ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّت عليكم فعليكم أنفسكم. (2) 12851 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا الربيع بن صبيح، عن سفيان بن عقال قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى ذكره يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ"، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب، (3) ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. (4)   (1) في المطبوعة: "ذكر ابن مسعود"، بإسقاط"عند"، والصواب من المخطوطة. (2) في الأثر: 12848 - 12850 - خبر الحسن، عن ابن مسعود، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 19، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود". (3) "الغيب" (بفتح الغين والياء) جمع"غائب"، مثل"خادم" و"خدم". (4) الأثر: 12851 -"الحسن بن عرفة العبدي البغدادي"، شيخ الطبري، مضى برقم: 9373. و"شبابة بن سوار الفزازي"، مضى برقم: 37، 6701، 10051. و"الربيع بن صبيح السعدي"، مضى برقم: 6403، 6404، 10533. و"سفيان بن عقال"، مترجم في الكبير2/2/94، وابن أبي حاتم 2/1/219، وكلاهما قال: "روي عن ابن عمر، روى عنه الربيع"، ولم يزيدا. وخرجه في الدر المنثور 2: 340، وزاد نسبته لابن مردويه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 12852 - حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قومٌ من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية:"عليكم أنفسكم"، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. (1) 12853- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عمرو بن عاصم قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي مازن، بنحوه. (2) 12854 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف، عن سوّار بن شبيب قال، كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جليدٌ في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، (3) وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً، (4) وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! (5) قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل، أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله   (1) الأثر: 12852، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني"، كان من صلحاء الأزد، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة، عن صاحب له، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44. ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة"، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن"، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد، من بني الحدان"، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ. وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ. (2) الأثر: 12852، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني"، كان من صلحاء الأزد، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة، عن صاحب له، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44. ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة"، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن"، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد، من بني الحدان"، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ. وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ. (3) في المطبوعة: "قد قرأوا" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. (4) في ابن كثير 3: 259، رواه عن هذا الموضع من التفسير، وزاد فيه هنا: ". . . أن يأتي دناءة، إلا الخير"، وليست في مخطوطتنا. (5) في المطبوعة: "وأي دناءة تزيد"، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 الحديث، فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! (1) عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون". (2) 12855- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، (3) ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانٌ تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا = أو قال: فلا يقبل منكم = فحينئذ: عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضلّ". (4) 12856- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه، (5) فقرأ رجل:"عليكم   (1) في المطبوعة، وابن كثير: "فتقتلهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب قديم. (2) الأثر: 12854 -"سوار بن شبيب السعدي الأعرجي"، و"بنو الأعرج"، حي من بني سعد. و"الأعرج" هو"الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، قطعت رجله يوم"تياس"، فسمي"الأعرج". وهو ثقة، كوفي، روى عن ابن عمر، روى عنه عوف، وعكرمة بن عمار. مترجم في الكبير 2/2/168، وابن أبي حاتم 2/1/270. وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 259، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 341، واقتصر على نسبته إلى ابن مردويه. (3) قوله: "إنها اليوم مقبولة"، يعني: كلمة الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (4) الأثر: 12855 - انظر التعليق على الآثار: 12848 - 12850. وكان في المطبوعة هنا: ". . . من ضل إذا اهتديتم"، بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة. (5) قوله: "يسندون إليه" أي: ينتهون إلى عمله ومعرفته وفقهه، ويلجئون إليه في فهم ما يشكل عليهم. ويقال: "أسندت إليه أمري"، أي: وكلته إليه، واعتمدت عليه. وقال الفرزدق: إلَى الأَبْرَشِ الكَلْبِيّ أَسْنَدْتُ حَاجَةً ... تَوَاكَلَها حَيًّا تَمِيمٍ ووَائِلِ وهذا كله مما ينبغي تقييده في كتب اللغة، فهو فيها غير بين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان. 12857- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان، (1) قال: انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة، فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) فقرأ رجل من القوم هذه الآية"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية، فإنما تأويلها في آخر الزمان. (3) 12858 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّي لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، (4) ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا:"إنك غلام   (1) في المطبوعة: "بني الجدان" بالجيم، وهو خطأ. (2) في المطبوعة: "فيها أصحاب رسول الله:، وفي المخطوطة: "فيها من أصحاب رسول الله"، فضرب بالقلم على"فيها" فأثبتها على الصواب. (3) الأثران: 12856، 12857 - انظر التعليق على الأثرين السالفين رقم: 12852، 12853. (4) في المطبوعة: "تنزع بآية من القرآن"، غير ما في المخطوطة، وما غيره صواب. ولكن يقال: "انتزع معنى جيدًا، ونزعه"، أي: استخرجه واستنبطه ويقال: "انتزع بالآية والشعر"، أي: تمثل به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 حدَثُ السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (1) 12859 - حدثنا هناد قال، حدثنا ليث بن هارون قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون"، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرُهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"! قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، (2) لَمَّا يجئ تأويل هذه بعد! (3) إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه ما وقع تأويلهن   (1) الأثر: 12858 -"ابن فضالة" هو: "مبارك بن فضالة بن أبي أمية"، أبو فضالة البصري. وفي تفسير ابن كثير: "حدثنا أبو فضالة"، ومضى برقم: 154، 597، 611، 1901. و"معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي"، أحد الأعلام، مضى مرارًا منها: 186، 187، 2072، 8472، 11255، ولم تذكر لمعاوية بن صالح، رواية عن جبير بن نفير، بل روى عنه ابنه عبد الرحمن بن جبير. و"جبير بن نفير" إسلامي جاهلي، مضى برقم: 6656، 7009. وهذا الخبر منقطع الإسناد، ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 260، والسيوطي في الدر المنثور 2: 340، ولم ينسبه لغير ابن جرير. (2) "مه"، هكذا في المطبوعة، وابن كثير، والدر المنثور و"مه" كلمة زجر بمعنى: كف عن هذا. وفي المخطوطة مكانها: "مهل"، وأخشى أن تكون خطأ من الناسخ، ولو كتب"مهلا"، لكان صوابًا، يقال: "مهلا يا فلان" أي: رفقًا وسكونًا، لا تعجل. (3) في المطبوعة: "لم يجئ"، ومثلها في ابن كثير والدر المنثور، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنه آيٌ وَقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير، (1) ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من الساعة، (2) ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، (3) فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلبَسوا شيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. (4) 12860- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم ذكر نحوه. (5) 12861- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا حرمي ......... قال: سمعت الحسن يقول: تأوّل بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فقال بعض   (1) في المطبوعة: "آي قد وقع" بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "على ما ذكر من أمر الساعة"، بزيادة"أمر"، وفي المخطوطة أسقط الناسخ"على"، وإثباتها هو الصواب. (3) في المطبوعة: "من أمر الحساب" بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة. (4) الأثر: 12859 -"ليث بن هرون"، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا. و"إسحق الرازي"، هو: "إسحق بن سليمان الرازي"، مضى برقم: 6456، 102338، 11240. وانظر الإسناد الآتي رقم: 12866. وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 258، 259، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339، 340، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، ونعيم بن حماد في الفتن، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب. وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه. (5) الأثر: 12860 - انظر الأثر السالف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم. (1) 12862 - حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرّملي قال، حدثنا أيوب بن سويد قال، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، عن عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فقال: لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبا ثعلبة، ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثَرة، وشحًّا مطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك! إنّ من بعدكم أيام الصبر، (2) للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عاملا! قالوا: يا رسول الله، كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: لا كأجر خمسين عاملا منكم. (3)   (1) الأثر: 12861 - هذا إسناد ناقص لا شك في ذلك. "أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي"، أبو الأشعث. روى عنه البخاري والترمذي والنسائي، وغيرهم. صالح الحديث. ولد في نحو سنة 156، وتوفي سنة 253. و"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي"، مضى برقم: 8513. ومات سنة 201، ومحال أن يكون أدرك الحسن وسمع منه. فإن"الحسن البصري" مات في نحو سنة 110 فالإسناد مختل، ولذلك وضعت بينه وبين الحسن نقطًا، دلالة على نقص الإسناد. (2) في المطبوعة: "أرى من بعدكم"، والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "المتمسك" بغير لام الجر، وكأن الصواب ما في المطبوعة. (3) الأثر: 12862 - سيأتي بإسناد آخر في الذي يليه. "إسمعيل بن إسرائيل اللآل الرملي"، مضى برقم: 10236، 12213، وذكرنا هناك أنه في ابن أبي حاتم"السلال"، ومضى هناك" 10236"الدلال"، وجاء هنا"اللآل"، صانع اللؤلؤ وبائعه، ولا نجد ما يرجح واحدة من الثلاث. و"أيوب بن سويد الرملي"، ثقة متكلم فيه. مضى برقم: 12213. و"عتبة بن أبي حكيم الشعباني الهمداني، ثم الأردني"، ثقة، ضعفه ابن معين. مضى برقم: 12213. و"عمرو بن جارية اللخمي"، ثقة، مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"عمرو بن خالد" وهو خطأ محض. وفي المخطوطة كتب"خالد" ثم جعلها"جارية"، وهو الصواب. و"أبو أمية الثعباني" اسمه"يحمد" (بضم الياء وكسر الميم) وقيل: اسمه"عبد الله بن أخامر". ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو ثعلبة الخشني" اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا. صحابي. وسيأتي تخريجه في الذي يليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 12863- حدثنا علي بن سهل قال، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن ابن المبارك وغيره، عن عتبة بن أبي حكيم، [عن عمرو بن جارية اللخمي] ، عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نَصنع بهذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بِخُوَيصة نفسك، (1) وذَرْ عوامَّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك.   (1) "خويصة" تصغير"خاصة". (2) الأثر: 12863 -"عتبة بن أبي حكيم"، في المخطوطة: "عبدة بن أبي حكيم"، وهو خطأ ظاهر. وفي المخطوطة والمطبوعة، أسقط: [عن عمرو بن جارية اللخمي] ، فوضعتها بين قوسين. وهذا هو نفسه إسناد الترمذي. وهذا الخبر، رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق سعيد بن يعقوب الطالقاني، عن عبد الله بن المبارك، عن عقبة بن أبي حكيم، بنحو لفظه هنا. ثم قال الترمذي: "قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة = قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: لا، بل أجر خمسين رجلا منكم". ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وأخرجه ابن ماجه في سننه رقم: 4014 من طريق هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن عتبة بن أبي حكيم، بنحو لفظه. ورواه أبو داود في سننه 4: 174، رقم: 4341، من طريق أبي الربيع سليمان بن داود العتكي، عن ابن المبارك، بمثله. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 258، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339، وزاد نسبته إلى البغوي في معجمه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والحاكم في المستدرك وصححه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 * ذكر من قال ذلك: 12864 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَ"، يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضره من ضل بعدُ، إذا عمل بما أمرته به. 12865 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيَّتي. 12866 - حدثنا هناد قال، حدثنا ليث بن هارون قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر الرازي، عن صفوان بن الجون قال: دخل عليه شابّ من أصحاب الأهواء، فذكر شيئًا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خصَّ بها أولياءه؟ "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل"، الآية. (1) 12867 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثنا أبو المطرف المخزومي قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، ما لم يكن سيف أو سوط. (2)   (1) الأثر: 12866 -"ليث بن هرون"، لم أجده، وانظر الإسناد السالف رقم 12859. و"إسحق"، هو: "إسحق بن سليمان الرازي"، وانظر رقم: 12859. وأما "صفوان بن الجون"، فهو هكذا في المخطوطة أيضًا، ولم أجد له ترجمة. وفي الدر المنثور 2: 341، "عن صفوان بن محرز"، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم. و"صفوان بن محرز بن زياد المازني، أو الباهلي". روى عن ابن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري. روى عنه جامع بن شداد، وعاصم الأحول، وقتادة. كان من العباد، اتخذ لنفسه سربًا يبكي فيه. مات سنة 74، مترجم في التهذيب. ومضى برقم: 6496. (2) الأثر: 12867 -"عبد الكريم بن أبي عمير"، مضى برقم: 7578، 11368 و"أبو المطوف المخزومي"، لم أجد له ذكرًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 12868- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال، تلا الحسن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فاعملوا بطاعة الله ="لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر. * ذكر من قال ذلك: 12869 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن سعد البقال، عن سعيد بن المسيب:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. 12870 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن أبي العميس، عن أبي البختري، عن حذيفة:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال: إذا أمرتم ونهيتم. 12871- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال، قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن الناس إذا رأوا الظالم = قال ابن وكيع = فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقابه. (2)   (1) الأثر: 12868-"ضمرة بن ربيعة الفلسطيني الرملي"، ثقة، مضى برقم: 7134. وكان في المطبوعة: "مرة بن ربيعة"، لم يحسن قراءة المخطوطة. وهذه الكلمة التي قالها الحسن، لو خفيت على الناس قديمًا، فإن مصداقها في زماننا هذا يراه المؤمن عيانًا في حيث يغدو ويروح. (2) الأثر: 12871 - خبر قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر، رواه أبو جعفر بأسانيد، من رقم: 12871 - 12878، موقوفًا على أبي بكر، إلا رقم: 12876، 12878، فرواهما متصلين مرفوعين، وإلا رقم: 12874، فهو مرسل. وأكثر طرق أبي جعفر طرق ضعاف. ورواه من طريق"إسمعيل بن أبي خالد"، عن قيس بن أبي حازم برقم: 12871، 12873. فمن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده رقم: 1، 16، 29، 30، 53، متصلا مرفوعًا. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 258: "وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم، من طرق كثيرة، عن جماعة كثيرة، عن إسمعيل بن أبي خالد، به متصلا مرفوعًا. ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره". و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي"، ثقة. مضى برقم: 5694، 5777. و"قيس بن أبي حازم الأحمسي"، ثقة، روى له الستة، روى عن جماعة من الصحابة، وهو متقن الرواية. مترجم في التهذيب. وهذا إسناد صحيح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 12872- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وابن فضيل، عن بيان، عن قيس قال، قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، يعمُّهم الله بعقابه. (1) 12873- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. 12874 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله:"عليكم أنفسكم"، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم.   (1) الأثر: 12872 -"ابن فضيل" هو: "محمد بن فضيل بن غزوان الضبي"، مضى مرارًا كثيرة. و"بيان" هو: "بيان بن بشر الأحمسي"، ثقة، مضى برقم 6501. وقد مضى تخريج الخبر في الذي قبله، وسيأتي من هذه الطريق أيضًا برقم: 12875. وهو إسناد صحيح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 12875- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا بيان، عن قيس بن أبي حازم قال، قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، عَمَّهم الله بعقابه. 12876 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثني عيسى بن المسيب البجلي قال، حدثنا قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى الناسُ المنكر فلم يغيِّروه، والظالم فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. (1) 12877- حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا سعيد بن سالم قال، حدثنا منصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن قيس بن أبي حازم قال: صَعد أبو بكر المنبرَ منبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدُّونها رُخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدَّ منها:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر،   (1) الأثر: 12876 -"الحارث" هو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، مضى مرارًا، آخرها رقم: 10553، وترجمته في رقم: 10295. و"عبد العزيز"، هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي"، مضت ترجمته برقم: 10295، قال ابن معين: "كذاب خبيث، يضع الأحاديث". و"عيسى بن المسيب البجلي"، قاضي الكوفة. وكان شابًا ولاه خالد بن عبد الله القسري. ضعيف متكلم فيه، حتى قال ابن حبان: "كان قاضي خراسان، يقلب الأخبار، ولا يفهم، ويخطئ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/288، وميزان الاعتدال 2: 317، وتعجيل المنفعة: 328، ولسان الميزان 4: 405. فهذا إسناد هالك، مع روايته من طرق صحاح عن قيس، عن أبي بكر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 أو ليعمنكم الله منه بعقاب. (1) 12878- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا إسحاق بن إدريس قال، حدثنا سعيد بن زيد قال، حدثنا مجالد بن سعيد، عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ :"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب. (2) * * * وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب.   (1) الأثر: 12877 -"أسد بن موسى المرداني"، "أسد السنة"، مضى برقم: 23، 2530. و"سعيد بن سالم القداح"، متكلم فيه، وثقه ابن معين، غير أن ابن حبان قال: "يهم في الأخبار حتى يجيء بها مقلوبة، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب. و"منصور بن دينار التميمي الضبي"، ضعفوه. مترجم في الكبير 4/ 1/ 347، وابن أبي حاتم 4/1/171، وميزان الاعتدال 3: 201، وتعجيل المنفعة: 412، ولسان الميزان 6: 95. و"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد"، ثقة، من صغار التابعين مضى برقم: 503، 504 فهذا خبر ضعيف الإسناد، مع روايته من طرق صحاح عن قيس، عن أبي بكر. (2) الأثر: 12878 -"محمد بن بشار"، هو"بندار"، مضى مئات من المرات. وكان في المطبوعة هنا"محمد بن سيار"، أساء قراءة المخطوطة. "وإسحق بن إدريس الأسواري البصري"، منكر الحديث، تركه الناس، قال ابن معين: "كذاب، يضع الحديث". وقال ابن حبان: "كان يسرق الحديث". مترجم في الكبير 1/1/382، وابن أبي حاتم 1/1/213، وميزان الاعتدال 1: 86، ولسان الميزان 1: 352. و"سعيد بن زيد بن درهم الجهضمي"، ثقة، متكلم فيه، حتى ضعفوا حديثه. مضى برقم: 11801. و"مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني"، قال أحمد: "يرفع حديثًا لا يرفعه الناس"، وهو ثقة، متكلم فيه. ومضى برقم: 1614، 2987، 2988، 11156. وهذا أيضًا إسناد ضعيف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 * ذكر من قال ذلك: 12879 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب. 12880- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال: أنزلت في أهل الكتاب. * * * وقال آخرون: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق. * ذكر من قال ذلك: 12881 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم"، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم، وفعلت وفعلت، وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل! فقال الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها، وهو:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه ="لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، (1) وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم   (1) في المطبوعة: "إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله"، وهو لا معنى له، أساء قراءة ما في المخطوطة، لسوء كتابتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك، لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه. وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله:"إذا اهتديتم"، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك:"إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر"، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 سبيلي بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم، وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم، (1) وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر، فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، (2) ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه، فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به:"يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم"، يقول: ليشهد بينكم ="إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية"، يقول: وقت الوصية="اثنان ذوا عدل منكم"، يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين، (3) كما:- 12882 - حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [سورة الطلاق: 2] ، قال: ذَوَي عقل. (4) واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ذوا عدل منكم". فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملتكم.   (1) انظر تفسير"المرجع" فيما سلف 6: 464/10: 391، تعليق: 2. (2) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) . (3) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. (4) الأثر: 12882 -"عبيد الله بن يوسف الجبيري"، "أبو حفص البصري"، شيخ الطبري، ثقة. روي له ابن ماجه. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة: "عبد الله بن يوسف"، وهو خطأ. ومضى في رقم: 109، ولم يترجم هناك. وهذا الخبر في تفسير الآية الثانية من"سورة الطلاق"، ولم يذكره أبو جعفر هناك في تفسير الآية. فهذا من ضروب اختصاره تفسيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 * ذكر من قال ذلك: 12883 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: شاهدان"ذوا عدل منكم"، من المسلمين. 12884 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين. 12885- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: اثنان من أهل دينكم. 12886 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته، عن قول الله تعالى ذكره:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: من الملة. 12887- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله = إلا أنه قال فيه: من أهل الملة. 12888- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: من أهل الملة. 12889- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، مثله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 12890- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة، فذكر مثله. 12891 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد، عن ابن أبي نجيح = وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد، مثله. 12892 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذوا عدل منكم"، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام. 12893 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ذوا عدل منكم"، قال: من المسلمين. 12894- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول:"اثنان ذوا عدل منكم"، أي: من أهل الإسلام. * * * وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدل من حَيِّ الموصِي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما. * * * واختلفوا في صفة"الاثنين" اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي، وما هما؟ فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي. * * * وقال آخرون: هما وصيان. * * * وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان. قولَه:"شهادة بينكم"، ليشهد شاهدان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 ذوا عدل منكم على وصيتكم. * * * وتأويل الذين قالوا:"هما وصيان لا شاهدان" قولَه:"شهادة بينكم"، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريضُ، من قولك:"شهدت وصية فلان"، بمعنى حضرته. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، تأويلُ من تأوّله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" فغير جائز أن يصرف ما عمَّه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائدُ من ذكره على العموم، (2) كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم. * * * وأولى المعنيين بقوله:"شهادة بينكم" اليمين، لا"الشهادة" التي يقوم بها مَنْ عنده شهادة لغيره، لمن هي عنده، على مَن هي عليه عند الحكام. (3) لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكمًا يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزًا صرفُ"الشهادة" في هذا الموضع، إلى"الشهادة" التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة.   (1) انظر تفسير"شهد" فيما سلف من فهارس اللغة، واختلاف معانيها. (2) في المطبوعة: "من ذكرهم"، وما في المخطوطة صواب محض. (3) كان صدر هذه العبارة في المخطوطة: "شهادة بينكم، لأن الشهادة. . ."، أسقط لفظ"اليمين"، وجعل"لا الشهادة"، "لأن الشهادة"، وهو فاسد، والذي في المطبوعة هو الصواب المحض إن شاء الله، وهو مطابق لما رواه القرطبي في تفسيره 6: 348، عن أبي جعفر الطبري. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 وفي حكم الآية في هذه، اليمينَ على ذوي العدل = وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله (1) "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله" = أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن"الشهادة" فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضَى بها للمشهود له على المشهود عليه = وفسادِ ما خالفه. * * * فإن قال قائل: فهل وجدتَ في حكم الله تعالى ذكره يمينًا تجب على المدَّعي، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟ فإن قلتَ:"لا"، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما"، هما المدعيين. وإن قلت:"بلى"، قيل لك: وفي أيّ حكم لله تعالى ذكره وجدتَ ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدَّعي قِبَل رجل مالا فيقرّ به المدّعَى عليه قِبَله ذلك، ويدّعي قضاءه. فيكون القول قول ربّ الدين = (2) والرجل يعرّف في يد الرجل السلعةَ، فيزعم المعرّف في يده أنه اشتراها من المدّعِي، أو أنّ المدعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجبَ الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه. (3)   (1) في المطبوعة هنا"في اليمين بقوله" غير ما في المخطوطة، وأفسد الكلام. والسياق"وفي حكم الآية. . . باليمين. . . أوضح الدليل. . .". (2) قوله: "والرجل يعترف"، معطوف على قوله: "في حكم الرجل. . . .". وكان في المطبوعة هنا"والرجل يعترف. . . فيزعم المعترفة"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبت كما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: ". . . على الجانبين فيما جنيا فيه"، وهو لا معنى له هنا. وفي المخطوطة: "على الجانبين فيما صاهما فيه"، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قولَه:"شهادة بينكم"، وقولَه:"اثنان ذوا عدل منكم". فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله:"شهادة بينكم"، شهادة اثنين ذوي عدل، ثم ألقيت"الشهادة"، وأقيم"الاثنان" مقامها، فارتفعا بما كانت"الشهادة" به مرتفعة لو جعلت في الكلام. (1) قال: وذلك = في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف = نظيرُ قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف: 82] ، وإنما يريد: واسأل أهل القرية، وانتصبت"القرية" بانتصاب"الأهل"، وقامت مقامه، ثم عطف قوله:"أو آخران" على"الاثنين". * * * وقال بعض نحويي الكوفة: رفع"الاثنين" ب"الشهادة"، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم. * * * وقال آخر منهم: رفعت"الشهادة"، ب"إذا حضر". وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال:"إذا حضر" فجعلها"شهادة" محذوفة مستأنفة، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق، لأنه قال تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال، وليست مما يثبت. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:"الشهادة" مرفوعة بقوله:"إذا حضر"، لأن قوله:"إذا حضر"،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بما كانت الشاهدة به مرتفعة"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما أثبت. (2) في المطبوعة: "مما ثبت"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، و"الاثنان" مرفوع بالمعنى المتوهَّم، وهو: أن يشهد اثنان = فاكتفي من قيل:"أن يشهد"، بما قد جرى من ذكر"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم". وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن"الشهادة" مصدر في هذا الموضع، و"الاثنان" اسم، والاسم لا يكون مصدرًا. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. (1) فالأمر وإن كان كذلك، فصرْفُ كل ذلك إلى أصح وُجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها. * * * القول في تأويل قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين. * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أو آخران من غيركم". فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم، نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: 12859 - حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا (2) حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب.   (1) "الأفعال": المصادر. وانظر فهارس المصطلحات فيما سلف. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يونس بن معاذ"، وهو خطأ محض. و"بشر بن معاذ" عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة" إسناد دائر في أكثر صفحات هذا التفسير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 12896- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب. 12897- حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (1) 12898 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، مثله. 12899- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب، أنهما قالا في قوله:"أو آخران من غيركم"، قالا من غير أهل ملتكم. 12900- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة قال، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول، مثل ذلك. 12901 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز قال: من غير أهل ملتكم. 12902 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 12903 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: إن كان قُرْبَه أحدٌ من المسلمين أشهدهم، وإلا أشهد رجلين من المشركين. 12904 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله:"أو آخران من غيركم"، قالا   (1) الأثر: 12897 -"أبو حفص الجبيري"، "عبيد الله بن يوسف"، مضى قريبًا رقم: 12882. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 من غير أهل ملتكم. (1) 12905- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد:"أو آخران من غيركم"، قال: من أهل الكتاب. 12906- حدثنا عمرو قال، حدثنا محمد بن سواء قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (2) 12907- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. 12908 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين. 12909 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. (3) فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرَيْن. (4)   (1) الأثر: 12904 -"أبو قتيبة" هو"سلم بن قتيبة الشعيري الفريابي". مضى برقم: 1899، 1924، 6395، 9714. وكان في المطبوعة: "قتيبة"، غير كنية، والصواب من المخطوطة. (2) الأثر: 12906 -"عمرو" هو"عمرو بن علي الفلاس"، مضى مرارًا. و"محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري". صدوق، ثقة، متكلم فيه. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "محمد بن سوار" وهو خطأ، وفي المخطوطة: "محمد بن سوا"، وأساء الناشر قراءته. (3) في المطبوعة: "فشهادتها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، وسيأتي كذلك في رقم: 12974. (4) الأثر: 12909 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني المثنى". والصواب ما أثبته، وسيأتي هذا الخبر في موضعين بهذا الإسناد على الصواب، وذلك رقم: 12943، 12974، ولذلك رددته إلى الصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 12910 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفَر. 12911- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصرانيّ إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية. (1) 12912 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح، نحوه. 12913 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كتب هشام بن هُبَيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين، فكتب:"لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرًا". 12914 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشهب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير الملة. 12915- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله. 12916- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة، عن ذلك فقال: من غير أهل الملة. 12917- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن   (1) في المطبوعة: "اليهود والنصارى"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الصلاة. 12918- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل دينكم. 12919- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الملة. 12920- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا أبو حرّة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل ملتكم. 12921- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال، سألت سعيد بن جبير عن [قول الله:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل ملتكم] . (1) 12922 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 12923- حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: من غير أهل ملتكم. 12924 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام. 12925 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، قال أبو إسحاق:"أو آخران من غيركم"، قال: من اليهود والنصارى = قال   (1) الأثر: 12921 - انتهى هذا الأثر في المخطوطة عند قوله: ". . . سعيد بن جبير عن" ووضع الناسخ في المخطوطة حرف (ط) بالأحمر في الهامش، دلالة على الخطأ والشك. أما المطبوعة، فزادت ما وضعته بين القوسين، وهو صواب في المعنى إن شاء الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصراني إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا في سفر. 12926 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقَا هذه. (1) قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدِما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما. (2) 12927 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدَقوقَا. 12928 - حدثنا عمرو قال، حدثنا عثمان بن الهيثم قال، حدثنا عوف، عن محمد: أنه كان يقول في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين. 12929 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"أو آحران من غيركم"، من غير أهل الإسلام. 12930- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد قال: من غير أهل الإسلام.   (1) "دقوقا" و"دقوقاء"، مقصورًا وممدودًا؛ مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الأخبار والفتوح، كان بها وقعة للخوارج، وكثر ذكرها في بعض أشعار الخوارج. وكان في المطبوعة: ". . . بدقوقا، ولم يجد أحدًا من المسلمين"، حذف ما أثبته من المخطوطة. وأساء. وظاهر من الخبر أن الشعبي قال هذا، وهو يومئذ بدقوقا. وهو أيضًا ثابت في سنن أبي داود. (2) الأثر: 12926 - رواه أبو داود في سننه 3: 417 رقم: 3605. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 12931 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش قال: قال زيد بن أسلم في هذه الآية:"شهادة بينكم" الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيِّكم وعشيرتكم. * ذكر من قال ذلك: 12932 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم. (2) 12933 - حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السُّنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. (3) 12934- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول:"اثنان ذوا عدل منكم"، أي: من عشيرته ="أو آخران من غيركم"، قال: من غير عشيرته.   (1) الأثر: 12931 -"عبد الله بن عياش بن عباس القتباني"، "أبو حفص" المصري. مضى برقم: 12177. وكان في المطبوعة: "عبد الله بن عباس"، وهو خطأ، وهو على الصواب في المخطوطة. (2) الأثر: 12932 -"عثمان بن الهيثم بن الجهم بن عيسى العصري العبدي"، وهو"الأشج العصري" ثقة. علق عنه البخاري. يروي عن عوف الأعرابي، مترجم في التهذيب. (3) الأثر: 12933 -"صالح بن أبي الأخضر اليمامي"، خادم الزهري، مضى برقم: 9312. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 12935 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل حيِّكم. 12936- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير حيكم. 12937- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا ثابت بن زيد، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل حيه = يعني: من المسلمين. 12938- حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير عشيرتك، ومن غير قومك، كلهم من المسلمين. 12939- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قوله:"أو آخران من غيركم"، قال: مسلمين من غير حيكم. 12940 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت"، إلى قوله:"والله لا يهدي القوم الفاسقين"، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما، أتراهما من [غير] أهل المرء الموصي، (1) أم هما من غير   (1) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها. وفي المخطوطة كما كانت في المطبوعة، إلا أن الناسخ وضع في الهامش علامة الشك، وهي هكذا (1) ، فأثبت الصواب إن شاء الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها، وقد كنا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا، فلا يذكرون فيها سُنة معلومة، ولا قضاءً من إمام عادل، ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضرُوا من وصية. فإن سلّموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدَّلوا قولَ الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حَلَف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، وهي صلاة المسلمين، فيقسمان بالله:"إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما [استحقا إثمًا في شيء من ذلك، فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا في شيء من ذلك] ، (1) قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوَّلان المستحلفان أول مرة، فيقسمان بالله لشهادتنا [أحق من شهادتكما] ، (2) على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به ="وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين" ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، الآية. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام. وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند   (1) هذه الجملة التي بين القوسين، ليست في المخطوطة، ووضع في المطبوعة مكانها: "فإن عثر"، واقتصر على ذلك، واستظهرت الجملة من سياق أبي جعفر. (2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من الآية والسياق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم = أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين. فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه. (1) وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى:"ذوا عدل منكم"، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه. وإذ صح ذلك بما دللنا عليه، فمعلوم أن معنى قوله:"أو آخران من غيركم"، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدَيْ وثَن، أو على أي دين كانا. لأنّ الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دونَ ملة، بعد أن يكونا من [غير] أهل الإسلام. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ وقتَ الوصية، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض. * * *   (1) في المطبوعة: "صرف مغلق كلام الله"، وفي المخطوطة: "معلق"، وصواب قراءتها"معنى" (2) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، وإلا فسد الكلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر:"الضارب في الأرض". (1) ="فأصابتكم مصيبة الموت"، يقول: فنزل بكم الموت. (2) * * * ووجَّه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم = وإنما فعل ذلك من فعله، لأنه وجَّه معنى"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم"، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيامَ صاحبها عند الحاكم، أو يُبطلها. * ذكر بعض من تأول ذلك كذلك: 12941 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"ذوا عدل منكم"، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين. 12942 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: اثنان من أهل دينكم ="أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب، إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم. 12943 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"شهادة بينكم" إلى قوله:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة.   (1) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593/7: 332/9: 123. (2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف 8: 514، 538، 555/10: 393، 404 الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 12944 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، قال: هذا في الحضر="أو آخران من غيركم"، في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، (1) فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما. 12945 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال: إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفر، فيشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب. 12946 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم"، فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره الله أن يشهد على وصيته عَدْلين من المسلمين. ثم قال:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين. * * * ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد   (1) في المطبوعة: "هذا الرجل"، زاد"في"، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي على الصواب في رقم: 12954. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. (1) وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد. * * * القول في تأويل قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم، أو كان أوصى إليهما = أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم. فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت، فأدَّيا إلى ورثتكم ما اتَّمنتموهما وادَّعوا عليهما خيانة خاناها مما اتُّمنا عليه، (2) فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما = يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو:"فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال"، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة ="فيقسمان بالله إن ارتبتم"، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها = و"الارتياب"، هو الاتهام (3) ="لا نشتري به ثمنًا"،   (1) في المطبوعة: "وقد يأمن الرجل على ماله"، وفي المخطوطة: "سمى الرجل" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت."أمن الرجل على كذا، وائتمنه، واتمنه" (الأخيرة، مشددة التاء) . وانظر ما سلف 5: 298، تعليق: 4. (2) في المطبوعة في المواضع كلها"ائتمن" مكان"اتمن"، وانظر التعليق السالف. (3) انظر تفسير"الارتياب" فيما سلف 6: 78، وتفسير"الريب" فيما سلف 8: 592، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا، يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، (1) أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وَليُّهم وميِّتهم. (2) * * * و"الهاء" في قوله:"به"، من ذكر"الله"، والمعنيُّ به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فعُرِف معنى الكلام، اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. (3) ="ولو كان ذا قربى"، يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا. (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. * ذكر من قال ذلك: 12947- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا. * * * وقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة"، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام:   (1) انظر تفسير"الاشتراء" و"الثمن" فيما سلف من فهارس اللغة (شرى) و (ثمن) . (2) في المطبوعة: "أوصى إلينا وإليهم وصيهم"، غير ما في المخطوطة مع وضوحه!! (3) في المطبوعة: "فيعرف من معنى الكلام، واكتفى به. . ."، وفي المخطوطة: "فيعرف معنى الكلام"، والصواب ما أثبت، بجعل"فيعرف""فعرف"، وحذف"من"، وحذف الواو من"واكتفى". (4) انظر تفسير"ذو القربى" فيما سلف 2: 292/3: 344/8: 334. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى. * * * واختلفوا في"الصلاة" التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال:"تحبسونهما من بعد الصلاة". فقال بعضهم: هي صلاة العصر. * ذكر من قال ذلك: 12948 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما، ولا غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. (1) 12949 - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. 12950 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله. 12951 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) الأثر: 12948 - انظر الأثر السالف رقم: 12926، والتعليق عليه. والأثر التالي رقم: 12953. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى"فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا رجل مات بغُرْبة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان. 12952 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثة قُبِل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خُنَّا ولا غيَّرنا. 12953- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن القطان قال، حدثنا زكريا قال، حدثنا عامر: أن رجلا توفي بدَقُوقا، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فأحلفهما أبو موسى دُبُر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا، وأن هذه الوصية. فأجازها. (1) * * * وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما. * ذكر من قال ذلك: 12954 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم"، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما لَهُ وعليه، قال: هذا في الحضر="أو آخران من غيركم" في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، هذا، الرجل   (1) الأثر: 12953 - انظر التعليق على رقم: 12948. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم". قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، (1) ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له:"إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبهم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال:"تحبسونهما من بعد صلاة العصر". لأن الله تعالى عرَّف"الصلاة" في هذا الموضع بإدخال"الألف واللام" فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت"الصلاة" في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم   (1) "العلج" (بكسر العين وسكون اللام) : الرجل من كفار العجم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات (1) = كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة"، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس. * * * وكان ابن زيد يقول في قوله:"لا نشتري به ثمنًا"، ما:- 12955 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا نشتري به ثمنًا"، قال: نأخذ به رشوة. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: (ولا نكتم شهادة الله) ، بإضافة"الشهادة" إلى"الله"، وخفض اسم الله تعالى = يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا. * * * وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:- 12956 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عامر: أنه كان يقرأ: (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين) = بقطع"الألف"، وخفض اسم الله = هكذا حدثنا به ابن وكيع. * * * وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا،   (1) انظر خبر العجلانيين في السنن الكبرى للبيهقي 7: 398، وما بعدها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين. * * * وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية، وذلك ما:- 12957- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد، عن ابن عون، عن الشعبي: أنه قرأ: (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين) = (1) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن"شهادة" ويخفض"الله" على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع"الألف" على الاستفهام. (2) * * * قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. (3) * * * وقرأها بعضهم: (ولا نكتم شهادة الله) ، بتنوين"الشهادة"، ونصب اسم"الله" بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: (ولا نكتم شهادة الله) ، بإضافة"الشهادة" إلى اسم"الله"، وخفض اسم"الله" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة. * * *   (1) في المطبوعة: "شهادة الله"، هو خطأ، صوابه في المخطوطة. وقراءة الشعبي أو قراءاته التي رويت عنه - مذكورة في تفسير أبي حيان 4: 44، والمحتسب لابن جني، فراجعها هناك. (2) الأثر: 12957 -"أحمد بن يوسف التغلبي الأحول"، مضى برقم: 5919، 5954، 7664، وكان في المطبوعة هنا"الثعلبي"، وهو خطأ بيناه هناك. و"عباد بن عباد الرملي الأرسوفي"، "أبو عتبة الخواص". روى عن ابن عون. مترجم في التهذيب. (3) في المطبوعة: "وخفض إنا لقراءة الشعبي"، وهو خلط لا معنى له، صوابه من المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. (1) 12958 - حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن زيد، عنه. القول في تأويل قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن عُثِر"، فإن اطُّلع منهما أو ظهر. (2) وأصل"العثر"، الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم:"عثرت إصبع فلان بكذا"، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس: بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا (3)   (1) في المطبوعة: "وإن كان صاحبها بعيدًا"، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك منه على كل حال، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. ولم أجد مقالة ابن زيد فيما بين يدي من الكتب. (2) في المطبوعة: "فيهما"، والصواب"منهما". (3) ديوانه: 83، من قصيدته في هوذة بن علي الحنفي، وقد مضى خبرها 2: 94، تعليق: 1، ومضى منها أبيات في 1: 106/2: 540، وقيل البيت في ذكر أرض مخوفة الليل، وهي"البلدة" المذكورة في البيت التالي: وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الجَوًّابُ دُلْجَتَهَا ... حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا لاَ يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤَنِّسُهُ ... بِاللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُومِ والضُّوَعَا كَلَّفْتُ مَجْهُولَها نَفْسِي، وَشَايَعَنِي ... هَمِّي عَلَيْهَا، إذَا مَا آلُهَا لَمَعَا "الدلجة": سير الليل. و"الشيع" الأصحاب. و"النئيم": صوت البوم، أو الصوت الضعيف من صوته. و"الضوع"، طائر من طيور الليل، إذا أحس بالصباح صدح، وقيل هو: "الكروان". و"الآل" السراب، و"اللوث": القوة، يصف ناقته أنها ذات لحم وشحم، قوية على السير. وقوله: "بذات لوث"، متعلق بقوله: "كلفت" و"عفرناة" (بفتح العين والفاء) صفة للناقة بأنها قوية كأنها من نشاطها مجنونة. و"التعس"؛ الانحطاط والعثور. وقوله: "ولعًا"، كلمة تقال للعاثر، يدعى له بأن ينتعش من عثرته، ومعناها الارتفاع، "لعا لفلان" أي أقامه الله من عثرته، لما وصف الأعشي ناقته بالقوة والنشاط، أنكر أن يكون لها عثرة في سرعتها، فإذا عثرت، كان الدعاء عليها بأن يكبها الله لمنخريها، أولى به من أن يدعو بإقالة عثرتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 يعني بقوله:"عثرت"، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. (1) ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا، كقولهم: (عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ) ، بمعنى: وقعت. (2) * * * وأما قوله:"على أنهما استحقا إثمًا"، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية = بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله ="على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا، أو غيرا وصيته، أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما (3) ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما.   (1) في المطبوعة: "ميسم خفها حجر أو غيره"، والصواب ما أثبت. و"المنسم" (بفتح فسكون فكسر) : طرف خف البعير، والنعامة والفيل. و"منسما البعير" ظفراه اللذان في يديه، وهما له كالظفر للإنسان. (2) هذا مثل. مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 181، الأمثال للميداني 1: 395، والأمثال لأبي هلال العسكري: 142. قوله"بأخرة" (بفتح الألف والخاء والراء) أي: أخيرًا. تقول: "ما عرفته إلا بأخرة"، أي: أخيرًا."ونجد"، هي الأرض المعروفة."قردة". وجمعها"قرد" (كله بفتحات) ، هو: ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد، وهو نفاية الصوف. وأصله أن المرأة تترك الغزل وهي تجد ما تغزل من قطن أو كتان، حتى إذا فاتها، تتبعت القرد (نفاية الصوف) في القمامات، ملتقطة لتغزله. ويضرب مثلا في التفريط مع الإمكان، ثم الطلب مع الفوت. قال أبو هلال: "وهذا مثل قول العامة: نعوذ بالله من الكسلان إذا نشط". وروى هذا المثل صاحب لسان العرب في (قرد) ، ونصه"عكرت على الغزل. . ."، وفسره"عكرت، أي: عطفت". وهو بهذه الرواية لا شاهد فيه. (3) قوله"فأثما. . . بربهما"، انظر ما قلت في"أثم بربه" فيما سلف 4: 530 تعليق: 3، / ثم 6: 92، تعليق: 2، وبيانه هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 12959 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا. 12960 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله. 12961 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو آخران من غيركم"، من غير المسلمين="تحبسونهما من بعد الصلاة"، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد". فذلك قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد"، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. 19262 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما. * * * واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، (1) بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا. فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. (2) وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله. * ذكر من قال ذلك: 12963 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"ذوا عدل منكم"، من أهل الإسلام ="أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض" إلى:"فيقسمان بالله"، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة، فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى ذكره من الفريضة، (3) يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام="فآخران يقومان مقامهما"، من أولياء الميت، فيحلفان بالله:"ما كان صاحبنا ليوصي بهذا"، أو:"إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما". 12964 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السديّ قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين"، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير   (1) في المخطوطة: "فمن نقلها"، والصواب ما في المطبوعة، أو شبيه بالصواب. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "لغير الذي يجوز"، وصواب قراءتها ما أثبت. (3) "الفريضة"، يعني المواريث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 مرضيين عندهم، أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما، أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، (1) وحلفوا بالله:"لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا". فذلك قوله:"فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان". * * * وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما. (2) * ذكر من قال ذلك: 12965 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله"، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا". أي بدعواهما لأنفسهما ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه = أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم   (1) في المطبوعة: "فأقبل الأولياء فشهدوا"، وفي المخطوطة: "فأقبل الأولياء شهدوا"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) في المخطوطة: "إذا ارتابا". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك = ولا -إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، (1) ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره، فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحًا فسادُه. وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد (2) = من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت، إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال:"ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله". على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى به حين نزلت هذه الآية، بين الذين نزلت فيهم وبسببهم. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "فلم نجد ذلك كذلك صح. . ."، وأثبت ما في المخطوطة، وسياقه"ولا. . . صح بخير عن الرسول"، وقوله: "إذا لم نجد ذلك كذلك" اعتراض. (2) السياق: "فالقول بأن الشاهدين. . . أفسد"، يعني: أفسد من القول السابق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 12966- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، (1) فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم". (2)   (1) "الجام": إناء من فضة، وهو عربي صحيح."مخوص بالذهب": عليه صفائح من ذهب على هيئة خوص النخل، وهو ورقه. و"التخويص": أن يجعل على الشيء صفائح من الذهب، على قدر عرض خوص النخل. (2) الأثر: 12966 -"محمد بن أبي القاسم"، الطويل، الكوفي. روى عن أبيه، وعبد الله وعبد الملك، ابني سعيد بن جبير، وعن عكرمة. وروى عنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبو أسامة، وحماد بن أسامة. وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال البجيري وقال البخاري": "لا أعرف محمد بن أبي القاسم كما أشتهي، وكان علي بن عبد الله يستحسن هذا الحديث (يعني حديث تميم الداري) قيل له: رواه غير محمد بن أبي القاسم؟ قال: لا. قال: وروى عنه أبو أسامة، إلا أنه غير مشهور". وقال الحافظ ابن حجر، بعد ذكر محمد بن أبي القاسم: "وما له في البخاري، ولا لشيخه عبد الملك بن سعيد بن جبير، غير هذا الحديث الواحد. ورجال الإسناد الإسناد، ما بين علي بن عبد الله المديني (شيخ البخاري) ، وابن عباس، كوفيون". و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي"، الكوفي، عزيز الحديث، ثقة. مضى برقم: 12776. و"تميم الداري"، هو"تميم بن أوس بن خارجة اللخمي"، منسوب إلى جده"الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم"، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة تسع وأسلم. وكان نصرانيا، وهو الذي قال لرسول الله: "ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت يصنع بالشأم! " فصنع المنبر. وكان عابدًا. وأما "عدي بن بداء" (بتشديد الدال) ، فكان نصرانيا، ذكر أنه أسلم، ولكن صحح ابن حجر في ترجمته في الإصابة أنه مات نصرانيًّا. وهذا الحديث، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5: 307 309) ، وفي التاريخ الكبير 1/1/215، وأبو داود في سننه 3: 418، ورقم: 3606، والبيهقي في السنن الكبرى 10: 165، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 133، وأحكام القرآن للجصاص 2: 490، والترمذي في سننه (في كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة". وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 266، نقلا عن الطبري، ولم يذكر روايته في صحيح البخاري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 342، فقصر في نسبته إلى البخاري في صحيحه، ونسبه إليه في التاريخ، ثم زاد نسبته إلى ابن المنذر، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 12967 - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة الحراني قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب، عن ابن عباس، عن تميم الدرايّ في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت"، قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء = وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشأم قبل الإسلام. فأتيا الشأم لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جامُ فضّة يريد به الملك، وهو عُظم تجارته، (1) فمرض، فأوصى إليهما، وأمرهما أن يُبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجامَ فبعناه بألف درهم، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاء، [فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألوا عنه] ، (2) فقلنا: ما ترك غيرَ هذا، وما دفع إلينا غيره: قال تميم: فلما أسلمتُ بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثَّمت من ذلك، (3) فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمئة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها! فوثبوا إليه، (4) فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) في المخطوطة: "وهي عظم"، وأثبت ما في المطبوعة، لمطابقته لما في المراجع الأخرى. وقوله: "عظم تجارته"، أي: معظمها، يعني أن الجام كان أنفس ما معه وأغلاه ثمنًا. (2) هذه الجملة التي بين القوسين، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وهي ثابتة في المراجع الأخرى، وأثبتها من نص الناسخ والمنسوخ. (3) "تأثم من الشيء"، تحرج منه، ووجده إثمًا يريد البراءة منه. (4) قوله: "فوثبوا إليه"، حذفها ناشر المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة، وفي الناسخ والمنسوخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 فسألهم البينة، فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، (1) فنزعتُ الخمسمئة من عدي بن بدَّاء. (2) 12968 - حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة وابن سيرين وغيره = قال، وثنا الحجاجُ، عن ابن جريج، عن عكرمة = دخل حديث بعضهم في بعض:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال: كان عدي وتميم الداري، وهما من لَخْم، نصرانيَّان، يتَّجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حوَّلا متجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشأم تاجرًا، فخرجوا جميعًا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيَّته بيده تم دسَّها في متاعه، ثم أوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا، ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئًا، فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا لا! قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ (3) قالا لا! قالوا: فهل تَجَر   (1) في المخطوطة: "حلفا"، بغير فاء، وأثبت ما في المطبوعة والمراجع. (2) الأثر: 12967 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني"، "أبو مسلم الحراني"، ثقة مأمون، مضت ترجمته برقم: 10411، وكان في المطبوعة هنا: "الحسن بن أبي شعيب" أسقط"بن أحمد"، مع ثبوتها في المخطوطة، وعذره أنه رأى الناسخ كتب"الحسن بن يحيى أحمد قال ابن أبي شعيب"، وضرب على"يحيى" وعلى"قال"، فضرب هو أيضا على"بن أحمد" فحذفها! ! وهو تساهل رديء. و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي"، ثقة، مضت ترجمته برقم: 175، وقد ورد في إسناد محمد ابن إسحق، مئات من المرات. و"أبو النضر" هو"محمد بن السائب الكلبي"، ضعيف جدًا، رمي بالكذب. وقد روى الثوري عن الكلبي نفسه أنه قال: "ما حدثت عني، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فهو كذب، فلا تروه". مضت ترجمته برقم: 72، 246، 248. وأما "باذان، مولى أم هانئ"، أو "باذام" فهو "أبو صالح"، ثقة، مضى برقم: 112، 168 وغيرها. وهو مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/144، وابن أبي حاتم 1/1/431. وكان في المطبوعة والمخطوطة، والناسخ والمنسوخ جميعًا"زاذان، مولى أم هانئ"، وهذا شيء لم يقله أحد، ولذلك غيرته إلى الصواب الذي أجمعوا عليه، وكأنه خطأ من الناسخ. وأما "تميم الداري"، و"عدي بن بداء" فقد سلفا في الأثر السابق. وأما "بريل بن أبي مريم"، مولى بني سهم، أو مولى عمرو بن العاص السهمي، صاحب هذه التجارة، فقد ترجم له ابن حجر في الإصابة في"بديل" بالدال، وكذلك ابن الأثير في أسد الغابة. وكان بديل مسلمًا من المهاجرين. يقال في اسمه"بديل بن أبي مريم"، و"بديل بن أبي مارية"، ثم اختلف في"بديل"، فروي بالدال، وروي"بريل" بالراء، وروي"بزيل" بالزاي، وروي"برير"، وقال ابن الأثير: "والذي ذكره الأئمة في كتبهم: يزيل، بضم الباء وبالزاي، ونحن نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى". هكذا قال ووعد، ثم لم أجد له ذكرًا في كتابه بعد ذلك، فلا أدري أنسي ابن الأثير، أم في كتابه خرم أو نقص!! وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5: 308، ما لم يذكره في الإصابة، فقال: "بزيل" بموحدة، وزاي، مصغر. وكذا ضبطه ابن ماكولا، ووقع في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن تميم نفسه عنه الترمذي والطبري (يعني هذا الخبر) : بديل، بدال، بدل الزاي. ورأيته في نسخة من تفسير الطبري: بريل، براء بغير نقطة. ولابن مندة من طريق السدي، عن الكلبي: بديل بن أبي مارية". ثم قال: "ووهم من قال فيه: بديل بن ورقاء، فإنه خزاعي، وهذا سهمي، وكذا وهم من ضبطه بذيل، بالذال المعجمة". وكان في المطبوعة"بديل"، ولكني أثبت ما في المخطوطة، وأخشى أن تكون مخطوطتنا هذه، هي"النسخة الصحيحة من تفسير الطبري" التي ذكرها الحافظ ابن حجر، أو هي منقولة عن النسخة التي ذكرها ووصفها وصححها. وهذا الخبر، رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 133، والترمذي في سننه في كتاب التفسير؛ بهذا الإسناد نفسه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح. وأبو النضر، الذي روى عنه محمد بن إسحق هذا الحديث، هو عندي: محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير. سمعت محمد بن إسمعيل. يقول: محمد بن سائب الكلبي، يكنى أبا النضر، ولا نعرف لسالم أبي النضر المديني رواية عن أبي صالح (باذان) مولى أم هانئ. وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار، عن غير هذا الوجه"، ثم ساق الترمذي الأثر السالف بإسناده. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 341، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي نعيم في المعرفة. (3) قولهم: "فهل استهلك من متاعه شيئًا"، أي: أضاعه وافتقده، وهذا حرف لم تقيده كتب اللغة، استظهرت معناه من السياق. وقد جاء في حديث عائشة (صحيح مسلم 2: 59، وتفسير الطبري رقم: 9640) أن عائشة: "استعارت من أسماء قلادة فهلكت"، أي: ضاعت، كما فسرته فيما سلف 8: 404، رقم: 2. فقوله: "استهلك" هنا، من معنى هذا الحرف الذي لم تقيده كتب اللغة ببيان واضح، وهو"استفعل"، بمعنى: وجده قد ضاع. وهو من صحيح القياس وجيده، وهذا شاهده إن شاء الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 تجارة؟ (1) قالا لا! قالوا: فإنا قد فقدنا بعضَه! فاتُّهما، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"إنا إذا لمن الآثمين". قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غيرَ هذا، ولا كتمنا". قال: فمكثنا ما شاء الله أن يمكثَا، (2) ثم ظُهِرَ معهما على إناء من فضةٍ منقوش مموَّه بذهب، (3) فقال، أهله: هذا من متاعه؟ قالا نعم، ولكنا اشترينا منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذِّب أنفسنا! (4) فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأخرى:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيَّبا ويستحقَّانه. ثم إنّ تميمًا الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: صدق الله ورسوله: أنا أخذت الإناء! (5) 12969- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، الآية كلها. قال: هذا شيء [كان] حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة، (6) وكانت الأرض كلها كفرًا، (7) فقال الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين ="أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، قال: كان الرجل يخرج مسافرًا، والعرب أهلُ كفر، فعسى أن يموت في سفره، فيُسند وصيته إلى رجلين منهم ="فيقسمان بالله إن ارتبتم"، في أمرهما. إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا، فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، أنما حلفا على باطل وكذب ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" بالميت ="فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه! قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما، فلما عثر على ذلك رُدّت القسامة على وارثه، (8) فأقسما، ثم ضمن هذان. قال الله تعالى:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، (9) فتبطل أيمانهم ="واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين"، الكاذبين، الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميمٌ الداريّ وصاحب له، وكانا يومئذ مشركين، ولم يكونا أسلما، فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجلٌ، وجاءا بتركته. فقال أولياء الميت:   (1) "تجر يتجر تجرًا وتجارة" (على وزن: نصر ينصر) : باع وشرى. وأرادوا به هنا معنى الشراء بالعوض، فيما أستظهر، فإنهم قد سألوه قبل عن البيع والابتياع. (2) في المطبوعة: "فمكثنا ما شاء الله أن نمكث"، غير الناشر ما في المخطوطة، وأفسد. (3) "ظهر" (بالبناء للمجهول) ، أي: عثر معها على إناء. (4) في المخطوطة: "نفسا" غير منقوطة، ولو شئت قرأتها: "نفسينا"، مكان"أنفسنا"، وهما صواب. (5) الأثر: 12968 -"أبو سفيان" هو: المعمري، "محمد بن حميد اليشكري"، مضى برقم: 1787، 8829. و"الحسين" الراوي عنه، هو"سنيد بن داود"، مضى مرارًا. و"ابن أبي مارية"، هو"بديل بن أبي مارية"، وقد بينت ذلك في التعليق على الأثر السالف. وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 342، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. (6) الزيادة بين القوسين، لا بد منها للسياق، وكان في المخطوطة: ". . . لم يكن السلام"، والصواب ما في المطبوعة. (7) في المطبوعة: "كفر" بالرفع، وأخشى أن يكون الأصل: "وكانت الأرض كلها دار كفر"، أو ما أشبه ذلك، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو صواب أيضًا. (8) "القسامة" (بفتح القاف) ، أراد بها هنا: اليمين. (9) قوله تعالى: "بعد أيمانهم" لم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة، والصواب إثباتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 كان مع صاحبنا كذا وكذا، وكان معه إبريق فضة! وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به! فحلفا خَلْف الصلاة، ثم عثر عليهما بعدُ والإبريق معهما. فلما عثر عليهما، رُدَّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم، ثم ضمنهما الذي حلف عليه الأوليان. 12970- حدثنا الربيع قال، حدثنا الشافعي قال، أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان = قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك = في قول الله:"اثنان ذوا عدل منكم"، أن رجلين نصرانيين من أهل دارِين، أحدهما تميمي، والآخر يماني، صاحَبهما مولًى لقريش في تجارة، فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلومٌ قد علمه أولياؤه، من بين آنية وبزّ ورِقَة. (1) فمرض القرشي، فجعل وصيته إلى الداريّين، فمات، وقبض الداريّان المال والوصية، فدفعاه إلى أولياء الميت، وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلّة المال، فقالوا للداريَّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا، فوُضِع فيه، (2) وهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا! قالوا: فإنكما خنتمانا! فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى آخر الآية. فلما نزل: أن يُحْبسا من بعد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السموات:"ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، وإنا لا نشتري بأيماننا   (1) "البز": الثياب، أو ضروب منها، وبائعها يقال له: "البزاز". و"الرقة" (بكسر الراء وفتح القاف) : الفضة، وأصلها"الورق" (بفتح الواو وكسر الراء) ، ثم حذفت الواو، وجعلت الهاء في آخرها عوضًا عن الواو. (2) يقال: "وضع في تجارته يوضع ضعة، ووضيعة فهو موضوع فيها" ويقال: "أوضع" (كلاهما بالبناء للمجهول) ، ويقال: "وضع في تجارته وضعًا" (مثل: فرح فرحًا) : غبن فيها، وخسر من رأس المال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 ثمنًا قليلا من الدنيا، ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فلما حلفا خلَّى سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميت، فأُخذ الداريَّان، فقالا اشتريناه منه في حياته! وكذبا، فكلِّفا البينة، فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"فإن عثر"، يقول: فإن اطُّلع ="على أنهما استحقا إثمًا"، يعني الداريين، إن كتما حقًّا ="فآخران"، من أولياء الميت ="يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فيقسمان بالله:"إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي يُطلب قبل الداريين لحقّ، وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، هذا قول الشاهدين أولياء الميت ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها"، يعني: الداريَّين والناس، أن يعودوا لمثل ذلك. (1) * * * قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا، دليلٌ واضح على صحة ما قلنا، من أنّ حكم الله تعالى ذكره باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى وَرَثته على المسنَد إليهما الوصية، خيانةً فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيه المدعي ذلك قِبَله إلا بيمين = وأن نقل اليمين إلى ورثة الميت بما أوجبه الله تعالى ذكره، بعد أن عثر على الشاهدين [أنهما استحقا إثمًا] ، في أيمانهما، (2) ثم ظُهِر على كذبهما فيها، إن القوم ادَّعوا   (1) الأثر: 12970 -"معاذ بن موسى الجعفري"، "أبو سعيد"، لم أجد له ترجمة إلا في تعجيل المنفعة: 406، لم يزد على أن قال: "معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف. وعند الشافعي، رحمه الله تعالى". وكان في المطبوعة: "سعيد بن معاذ بن موسى" وهو خطأ، مخالف للمخطوطة. و"بكير بن معروف الأسدي"، "أبو معاذ النيسابوري، الدامغاني" صاحب التفسير، وهو صاحب مقاتل. قال ابن عدي: "ليس بكثير الرواية، وأرجو أنه لا بأس به، وليس حديثه بالمنكر جدًا"، مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/117، وابن أبي حاتم 1/1/406. وكان في المطبوعة: "بكر"، وهو خطأ صرف. وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 164 من طريق إسمعيل بن قتيبة، عن أبي خالد يزيد بن صالح، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان. ثم رواه (10: 165) من طريق أبي العباس الأصم، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، ثم أحال لفظه على الذي قبله. (2) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، استظهرتها من نص الآية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 فيما صَحَّ أنه كان للميت دعوًى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، مما يكون اليمينُ فيها على ورثة الميت دون المدَّعَى، وتكون البينة فيها على المدعي= وفسادِ ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. (1) وفيها أيضًا، (2) البيانُ الواضح على أن معنى"الشهادة" التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى في مواضع أُخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، [سورة النور:6] . فالشهادة في هذا الموضع، معناها القَسم، من قول القائل:"أشهد بالله إني لمن الصادقين"، (3) وكذلك معنى قوله:"شهادة بينكم" إنما هو: قسَم بينكم ="إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية"، أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم، إن كانا اتُّمنا على مال فارتيب بهما، أو اتُّمِنَ آخران من غير المؤمنين فاتُّهما. (4) وذلك أن الله تعالى ذكره، لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظُهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال:"فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما". ومعلومٌ أنّ أولياء الميت المدعين قِبل اللذين ظُهر على خيانتهما، غير جائز أن يكونا شهداء، بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعًى عليه لمدّع. لأنه لا يعلم لله تعالى ذكره حكم قضى فيه لأحد بدعواه ويمينه على مدعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعَى عليه ولا برهان. فإذ كان معلومًا أن قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، إنما معناه: قسمُنا أحق من قَسَمهما = وكان قسم اللذين عُثر على أنهما أثِمَا، هو الشهادة التي ذكر   (1) في المطبوعة: "مما قلنا من التأويل"، وفي المخطوطة: "ما قبلنا من التأويل"، وصواب القراءة ما أثبت. (2) قوله: "وفيها أيضًا"، الضمير عائد على قوله في أول الفقرة السالفة: "ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا"، وهي عطف عليه. (3) في المطبوعة: "إنه لمن الصادقين"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) انظر ما كتبه في"اتمن" فيما سلف ص: 172، تعليق: 1، 2 الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 الله ذكره تعالى في قوله:"أحق من شهادتهما" = صحَّ أن معنى قوله:"شهادة بينكم"، بمعنى:"الشهادة" في قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنها بمعنى القسم. * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"من الذين استحق عليهم الأوليان". فقرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشأم: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ، بضم"التاء". * * * وروي عن علي، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ، بفتح"التاء". * * * واختلفت أيضًا في قراءة قوله:"الأوليان". فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشأم والبصرة: (الأَوْلَيَان) . * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (الأَوَّلِينَ) . * * * وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوَّلانِ) . * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في قوله:"من الذين استحق عليهم"، قراءة من قرأ بضم"التاء"، لإجماع الحجة من القرأة عليه، مع مشايعة عامة أهل التأويل على صحة تأويله، (1) وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت، الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم،   (1) في المطبوعة: "مع مساعدة أهل التأويل"، وفي المخطوطة: "مع مساعه" غير منقوطة، وآثرت قراءتها كما كتبتها. و"المشايعة"، الموافقة والمتابعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 يقومان مقام المستحقَّيْ الإثم فيهما، بخيانتهما ما خانَا من مال الميت. وقد ذكرنا قائلي ذلك، أو أكثر قائليه، فيما مضى قبل، ونحن ذاكُرو باقيهم إن شاء الله ذلك: 12971 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شهادة بينكم"، أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، لا يحضُره غير اثنين منهم. فإن رضي ورَثته ما عاجل عليه من تركته فذاك، وحلف الشاهدان إن اتُّهما: إنهما لصادقان ="فإن عثر" وُجد ......... ، (1) حلف الاثنان الأوليان من الورثة، فاستحقّا وأبطَلا أيمانَ الشَّاهدين. * * * وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح"التاء"، أرادوا أن يوجهوا تأويلَه إلى:"فآخران يقومان مقامهما"، مقام المؤتمنين اللذين عُثِر على خيانتهما في القَسم، و"الاستحقاق به عليهما"، دعواهما قِبَلهما = من"الذين استحقَّ" على المؤتمنين على المالِ على خيانتهما القيامَ مقامهما في القَسَم والاستحقاق، الأوليان بالميت. (2) وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه، فقرأ ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ بفتح"التاء" = و"الأوليان"، (3) على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهبٌ صحيحٌ، وقراءةٌ غير مدفوعة صحَّتها، غير أنا نختار الأخرى،   (1) في المطبوعة: "فإن عثر، وجد لطخ حلف الاثنان. . ."، وقوله: "لطخ" هنا من عجائب الكلام، وفي المخطوطة بعد: "فإن عثر وجد" بياض إلى آخر السطر، مع علامات بعد الكلام بالحمرة. والظاهر أن النسخة التي نقل عنها ناشر المطبوعة، كان فيها في هذا الموضع حرف (ط) دلالة على الخطأ، فكتب مكانها ما كتب. ووضعت أنا مكان البياض في المخطوطة نقطًا، والظاهر أن سياق الكلام كان: "فإن عثر، وجد أنها استحقا إثمًا" حلف الاثنان. . ."، ولكني آثرت ترك البياض كما هو في المخطوطة، والمعنى ظاهر. (2) في المطبوعة: "في الأوليان" بزيادة"في"، أثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. (3) في المطبوعة، حذف قوله: "والأوليان"، وساق الكلام على سياق واحد. وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 لإجماع الحجة من القرأة عليها، مع موافقتها التأويل الذي ذكرْنا عن الصحابة والتابعين. 12972- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن وكريب، عن علي: أنه كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانْ) . (1) 12973 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن واصل مولى أبي عُيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان) . (2) * * * قال أبو جعفر: وأما أولى القراءات بالصَّواب في قوله:"الأوليان" عندي،   (1) الأثر: 12972 -"أبو إسحق"، هو السبيعي. و"أبو عبد الرحمن" هو"السلمي" القارئ، "عبد الله بن حبيب" مضى برقم: 82. و"كريب" هو"كريب بن أبي كريب"، روى عن علي. وروى عنه أبو إسحق، مترجم في الكبير4/1/231، وابن أبي حاتم 3/2/168، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه في لسان الميزان، وقال: "يروي المقاطيع، من ثقات ابن حبان". (2) الأثر: 12973 -"مالك بن إسمعيل بن درهم النهدي"، "أبو غسان"، مضى برقم: 2989، 4433، 4926، 8292. وأخشى أن يكون راوي هذا الخبر هو"مؤمل بن إسمعيل العدوي"، لا"مالك بن إسمعيل"، ولكن هكذا ثبت في المخطوطة. و"حماد بن زيد بن درهم الأزدي"، مضى برقم: 856، 1682، 5454. و"واصل مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة"، ثقة، روى عن يحيى بن عقيل الخزاعي، والحسن البصري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزبير المكي. روى عنه هشام بن حسان من أقرانه، ومهدي بن ميمون، وحماد بن زيد، وغيرهم. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/172، وابن أبي حاتم 4/2/30. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وائل بن أبي عبيدة"، وهو خطأ لا شك فيه، بيانه في التاريخ الكبير للبخاري. و"يحيى بن عقيل الخزاعي البصري"، روى عن يحيى بن يعمر، وابن أبي أوفى، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: "ليس به بأس"، مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/292 وابن أبي حاتم 4/2/176. وأما "يحيى بن يعمر القيس الجدلي"، فهو ثقة جليل، يروي عن الصحابة والتابعين. كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن، وهو أول من نقط المصاحف. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/311، وابن أبي حاتم 4/2/196. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 فقراءة من قرأ: (الأَوْلَيَانِ) لصحة معناها. (1) وذلك لأن معنى:"فآخران يقومان مقامهما من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان":فآخران يقومان مقامهما من الذي استُحقّ] فيهم الإثم، (2) ثم حذف"الإثم"، وأقيم مقامه"الأوليان"، لأنهما هما اللذان ظَلَما وأثِما فيهما، بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم، وعُثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان اُّتمنهما عليه الميت، (3) كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مِثل ذلك، من حذفهم الفعل اجتراء بالاسم، (4) وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. (5) ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله:"شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان"، ومعناه: أن يشهد اثنان، وكما قال:"فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا"، فقال:"به"، فعاد بالهاء على اسم الله، وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله، فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر، والمراد به:"لا نشتري بالقسم بالله"، استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ، بذكر"الأوليين" من ذكر"الإثم" الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إيَّاهما، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته، وذلك قوله:"فإن عثر على أنَّهما استحقا إثمًا". * * * وأما الذين قرءوا ذلك (الأَوَّلِينَ) ، فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن"الذين"، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع، إذْ كان"الذين" جميعًا، (6) وخفضًا،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بصحة معناها" بالباء، والصواب ما أثبته. (2) الذي وضعته بين الأقواس، هو حق السياق والمعنى، فإن السياق يقتضي أن يذكر الآية، ثم يذكر تأويلها، وهكذا فعلت، وهو الصواب إن شاء الله. (3) في المطبوعة: "ائتمنهما"، وانظر ما كتبته سالفًا ص: 172، تعليق 1، 2، وص: 193 تعليق: 4. (4) "الفعل"، هو المصدر، كما سلف مرارًا، وانظر فهارس المصطلحات. (5) انظر ما سلف ص: 160. (6) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 إذ كان"الذين" مخفوضًا، وذلك وجه من التأويل، غير أنه إنما يقال للشيء"أوّل"، إذا كان له آخر هو له أوّل. وليس للذين استحق عليهم الإثم، آخرهم له أوّل. بل كانت أيمان اللذين عثر على أنهما استحقَّا إثمًا قبل أيمانهم، فهم إلى أن يكونوا = إذ كانت أيمانهم آخرًا = أولى أن يكونوا"آخرين"، من أن يكونوا"أوّلين"، وأيمانهم آخرة لأولى قبلها. * * * وأما القراءة التي حكيت عن الحسن؛ فقراءةٌ عن قراءَة الحجة من القرأة شاذة، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بُعدها من الصواب. * * * واختلف أهل العربية في الرافع لقوله:"الأوليان"، إذا قرئ كذلك. فكان بعض نحويي البصرة (1) يزعم أنه رفع ذلك، بدلا من:"آخران" في قوله:"فآخران يقومان مقامهما". وقال: إنما جاز أن يبدل"الأوليان"، وهو معرفة، من"آخران" وهو نكرة، لأنه حين قال:"يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم"، كان كأنه قد حدَّهما حتى صارا كالمعرِفة في المعنى، فقال:"الأوليان"، فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا = مما يجري على المعنى = كثير، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز: (2) عَلَيَّ يَوْمَ يَمْلِكُ الأُمُورَا ... صَوْمُ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورَا وَبَادِنًا مُقَلَّدًا مَنْحُورَا (3)   (1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعض نحويي. . ."، والصواب ما أثبت. (2) لم أعرف قائله. (3) "البادن": الضخم السمين المكتنز، ولم أجدهم قالوا: "البادن" وأرادوا به"البدنة" (بفتح الباء والدال) ، وهي الناقة التي كانوا يسمنونها ثم تهدى إلى البيت، ثم تنحر عنده. ولعل الراجز استعملها على الصفة، ومع ذلك فهي عندي غريبة تقيد. و"المقلد"، الذي وضعت عليه القلائد، إشعارًا بأنه هدي يساق إلى الكعبة. ذكر الراجز ما نذره إذا ولى هذا الرجل أمور الناس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 قال: فجعله: عليَّ واجب، لأنه في المعنى قد أوجب. (1) * * * وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون"الأوليان" بدلا من:"آخران"، من أجل أنه قد نَسَق"فيقسمان" على"يقومان" في قوله (2) "فآخران يقومان"، فلم يتمّ الخبر بعد"مِنْ". (3) قال: ولا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر. (4) وقال: غير جائز:"مررت برجل قام زيدٍ وقَعَد"، و"زيد" بدل من"رجل". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:"الأوليان" مرفوعان بما لم يسمَّ فاعله، وهو قوله: (اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ) وأنهما وُضِعا موضع الخبر عنهما، (5) فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما. وذلك أن معنى الكلام:"فآخران يقومان مَقامهما من الذين استُحِقَّ عليهم الإثم بالخيانة"، فوضع"الأوليان" موضع"الإثم" كما قال تعالى ذكره في موضع آخر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة: 19] ، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارةَ المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر   (1) تركت هذه الجملة كما هي في المخطوطة والمطبوعة. وإن كنت أرجح أنه استشهد بالرجز على أنه نصب"صوم شهور"، وعطف عليه"وبادنًا مقلدًا منحورًا"، على معنى: قد أوجبت على نفسي صوم شهور، وبادنًا مقلدًا منحورًا. فإن صح ذلك فيكون صواب هذه العبارة: "فجعله: على واجب = لأنه في المعنى: قد أوجبت". (2) "نسق"، أي: عطف. (3) في المطبوعة: "فلم يتم الخبر عند من قال. . ."، غير ما في المخطوطة، وهذا خطأ محض. الصواب ما في المخطوطة، يريد: بعد"من الذين استحق عليهم الأوليان". (4) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بغير واو، والصواب إثباتها كما يدل عليه السياق. ثم كتب في المطبوعة بعد ذلك"كما قال: غير جائز. . ."، بزيادة"كما"، وهي في المخطوطة، مكتوبة متصلة بالراء، فآثرت قراءتها"وقال"، لأنه حق السياق. (5) في المطبوعة: "وأنهما موضع الخبر" أسقط"وضعا"، وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 = وكما قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، [سورة البقرة: 93] ، وكما قال بعض الهذليين. (1) يُمَشِّي بَيْنَنَا حَانُوتُ خَمْرٍ ... مِنَ الخُرْسِ الصَّرَاصِرَةِ الْقِطَاطِ (2) وهو يعني: صاحب حانوت خمر، فأقام"الحانوت" مقامه، لأنه معلوم أن"الحانوت"، لا يمشي! ولكن لما كان معلومًا عنده أنَّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه، حذف"الصاحب"، واجتزأ بذكر"الحانوت" منه. فكذلك قوله:"من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان"، إنما هو من الذين استُحِقّ فيهم خيانتهما، فحذفت"الخيانة" وأقيم"المختانان"، مقامها. فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر. * * * وأما قوله:"عليهم" في هذا الموضع، فإن معناها: فيهم، كما قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، [سورة البقرة: 102] ، يعني: في   (1) هو المنخل الهذلي (2) ديوان الهذليين 2: 21، والمعاني الكبير: 472. واللسان (حنت) (قطط) (خرص) ، من قصيدة له طويلة، يذكر مواضي أيامه، ثم يقول بعد البيت في صفة الخمر: رَكُودٍ في الإنَاءِ لَهَا حُمَيَّا ... تَلَذُّ بأَخْذِها الأَيْدِي السَّوَاطِي مُشَعْشَعَةٍ كَعَيْنِ الدَّيكِ، لَيْسَتَْتْ، ... إذَا ذِيقَتْ، مِنَ الخَلِّ الخِمَاطِ وقوله: "الخرس"، جمع"أخرس"، وهو الذي ذهب كلامه عيًا أو خلقة. ويعني به: خدمًا من العجم لا يفصحون، فلذلك سماهم"خرسًا". وروى بعضهم"من الخرص"، وهو خطأ، فيه نبّه عليه الأزهري رحمه الله. و"الصراصرة" نبط الشأم. وعندي أنهم سموا بذلك، لشيء كان في أصواتهم وهم يتكلمون، في أصواتهم صياح وارتفاع وامتداد، كأنه صرصة البازي. و"القطاط" جمع"قطط" (بفتحتين) و"قط" (بفتح وتشديد) : وهو الرجل الشديد جعودة الرأس. وقوله: "ركود في الإناء"، يعني أنها صافية ساكنة. و"حميا الخمر"، سورتها وأخذها بالبدن. و"الأيدي السواطي"، التي تسطو إليها، أي: تتناولها معجلة شديدة الرغبة فيها. و"مشعشعة": قد أرقها مزجها بالماء. و"الخماط" من الخمر: التي أصابتها ريح، فلم تستحكم ولم تبلغ الحموضة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 ملك سليمان، وكما قال: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه: 71] . ف"في" توضع موضع"على"، و"على" في موضع"في"، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام، (1) ومنه قول الشاعر: (2) مَتَى مَا تُنِْكرُوها تَعْرِفُوهَا ... عَلَى أَقْطَارِهَا عَلَقٌ نَفِيثُ (3) وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان"، أنهما رجلان آخرَان من المسلمين، أو رجلان أعدل من المقسمين الأوَّلَين * ذكر من قال ذلك: 12974 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على   (1) انظر ما سلف 1: 299/2: 411، 412، وغيرها من المواضع في باب تعاقب الحروف. (2) هو أبو المثلم الهذلي. (3) ديوان الهذليين 2: 224، مشكل القرآن: 295، 430، والمعاني الكبير: 969، 970، والاقتضاب: 451، والجواليقي: 373، واللسان (نفث) وغيرها. من أبيات في ملاحاة بينه وبين صخر الغي، من جراد دم كان أبو المثلم يطلب عقله، أي ديته، وقبل البيت: لَحَقٌ بَنِي شُغَارَةَ أن يَقُولوا ... لِصَخْرِ الغَيِّ: مَاذَا تَسْتَبِيثُ? أي: ماذا تستثير؟ وإنما أراد الحرب، فقال له بعد: "متى ما تنكروها. . ."، أي: إذا جاءت الحرب أنكرتموها، ولكن ما تكادون تنكرونها، حتى تروا الدم يقطر من نواحيها، يعني كتائب المحاربين. و"العلق": الدم، و"الأقطار": النواحي. و"النفيث"، الدم الذي تنفثه القروح والجروح. وقد خلط البطليوسي في شرح هذا الشعر، فزعم أن الضمير في قوله: "متى ما تنكروها"، عائد"إلى المقالة"، يعني هذا الهجاء بينهما، وأتى في ذلك بكلام لا خير فيه، أراد به الإغراب كعادته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 وصيته، فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدَا بخلاف شهادتهم، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين. (1) 12975 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر"، أي: اطلع منهما على خيانة، على أنهما كذبا أو كَتما، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلافِ ما قالا أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأوَّلين. 12976 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال: كان ابن عباس يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، كيف يكون"الأوليان"، أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟ 12977- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما؟ قال أبو جعفر: فذهب ابن عباس، فيما أرى، إلى نحو القول الذي حكيتُ عن شريح وقتادة، من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين، يقومان مقام النَّصرانيين، أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوزُ شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين. وفي إجماع جميع أهل العلم على أنْ لا حكم لله تعالى ذكره يجب فيه على شاهدٍ يمينٌ فيما قام به من الشهادة، دليلٌ واضح على أنّ غير هذا التأويل = الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى ذكره:"فآخران يقومان مقامهما" = أولى به.   (1) الأثر: 12974 - مضى هذا الخبر برقم: 12909، 12943، وانظر التعليق على رقم: 12909. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 وأما قوله"الأوليان"، فإن معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى. (1) وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى = ثم حذف"منهما"، (2) والعرب تفعل ذلك فتقول:"فلان أفضل"، وهي تريد:"أفضل منك"، وذلك إذا وضع"أفعل" موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه"الألف واللام"، فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى، فقالوا:"هذا الأفضل، وهذا الأشرف"، يريدون: هو الأشرف منك. * * * وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت. 12978 - حدثني يونس، عن ابن وهب، عنه. * * * القول في تأويل قوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: ="لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما"، يقول: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة = في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا، وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها="وما اعتدينا"، يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا. * * * وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، المجاوزة في الشيء حدَّه. (3) * * *   (1) السياق: "الأولى بالميت. . . فالأولى". (2) في المطبوعة: "ثم حذف فيهما"، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة غير منقوطة. (3) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 "إنا إذًا لمن الظالمين" يقول:"إنّا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين ="لمن الظالمين"، يقول: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه، (1) ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس. (2) * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء = إذا ارتبتم في أمرهم، واتهمتموهم بخيانة لمالِ من أوصى إليهم، من حبسهم بعد الصلاة، واستحلافكم إيَّاهم على ما ادَّعى قِبَلهم أولياء الميت ="أدنى" لهم"أن يأتوا بالشهادة على وجهها"، يقول: هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم، (3) ولا يكتموا، ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا (4) ="أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم"، يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله، أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب، فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته. * * *   (1) في المطبوعة: "لمن عدا ومن يأخذ"، غير ما في المخطوطة، وأساء أقبح الإساءة. (2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة. (3) انظر تفسير"أدنى" فيما سلف 6: 78/7: 548. (4) انظر تفسير"على وجهه" فيما سلف 2: 511. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد تقدّمت الروايةُ بذلك عن بعضهم، نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعضِ من بَقي منهم. 12979 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن عُثر على أنهما استحقّا إثمًا"، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شُهود المسلمين أقسْام، وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين. 12980 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة" الآية، يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم، وأن يخافوا العَقِب. (1) 12981 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم"، قال: فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمانُ هؤلاء. * * * وقال آخرون: [معنى ذلك تحبسونهما من بعد الصلاة. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، على أنهما استحقا إثمًا، فآخران يقومان مقامهما] . (2) * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: "وأن يخافوا العقاب"، والصواب ما في المخطوطة و"العقب" (بفتح فكسر) : العاقبة، وذلك عاقبة أمرهما في وبطلان أيمانهم، وعاقبة رد الفضيحة على أنفسهم. (2) هذه الجملة كلها مضطربة المعنى، ولا تطابق الأثر التالي، وظني أن في الكلام سقطًا، أسقط الناسخ سطرًا أو نحوه، وتركتها على حالها في المخطوطة والمطبوعة، ولكني وضعتها بين قوسين، شكًّا مني في صحتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 12982 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان بالله:"لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته". فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا:"إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما". فإن قال لهما ذلك، فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. * * * القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وخافوا الله، أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله، وأن تخونوا من اتَّمنكم (1) ="واسمعوا"، يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به، وانتهوا إليه ="والله لا يهدي القوم الفاسقين"، يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه. * * * وكان ابن زيد يقول:"الفاسق"، في هذا الموضع، هو الكاذب. (2) 12983 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"والله لا يهدي القومَ الفاسقين"، الكاذبين، يحلفون على الكذب. * * *   (1) انظر ما كتبته في"اتمن" فيما سلف ص: 197، تعليق: 3. (2) انظر تفسير"الفاسق" بهذا المعنى من تفسير ابن زيد، فيما سلف رقم: 12103 في الجزء 10: 376. ثم انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ، إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ، فذلك على معاني"الفسق" كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له. * * * ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين، هل هو منسوخ، أو هو مُحكَم ثابت؟ فقال بعضهم: هو منسوخ * ذكر من قال ذلك: 12984 - حدثنا أبو كريب قال، ثنا ابن إدريس، عن رجل قد سماه، عن حماد، عن إبراهيم قال: هي منسوخة. 12985 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هي منسوخة = يعني هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، الآية. * * * وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قولَ أكثرهم فيما مضَى. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غيرُ منسوخ (1) وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام، من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أنّ من ادُّعِي عليه   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أن حكم الآية منسوخ"، وهو خطأ فاحش، فإن أبا جعفر يقول بعد ذلك أنها غير منسوخة، كما سترى، فالصواب ما أثبته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 دَعْوى ممَّا يملكه بنو آدم، أنّ المدَّعَى عليه لا يبرئه مما ادُّعي عليه إلا اليمين، إذا لم يكن للمدَّعِي بيّنة تصحح دَعواه = وأنه إن اعترف في يَدِ المدَّعى [عليه] سلعةً له، (1) فادَّعَى أنها له دون الذي في يده، فقال الذي هي في يده:"بل هي لي، اشتريتها من هذا المدَّعِي"، أنّ القول قول من زَعَم الذي هي في يده أنه اشتراها منه، دون من هي في يده مع يمينه، إذا لم يكن للذي هي في يده بيّنة تحقق به دعواه الشراءَ منه. فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمرَ وصية الموصِي إلى عدلين من المسلمين، أو إلى آخرين من غيرهم، إنما ألزَم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عنه، الوصيَّين اليمينَ حين ادَّعَى عليهما الورثة ما ادَّعوا، ثم لم يلزم المدَّعَى عليهما شيئًا إذ حلفا، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفُوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم، فحينئذ ألزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورثَة الميِّت اليمين، لأن الوصيين تحوَّلا مُدَّعِيين بدعواهما ما وجدَا في أيديهما من مال الميِّت أنه لهما، اشتريَا ذلك منه، فصارَا مُقِرَّين بالمال للميِّت، مدَّعيين منه الشراء، فاحتاجا حينئذ إلى بيِّنةٍ تصحِّح دعواهما، وصارتْ وورثة الميتِ ربِّ السلعة، (2) أولى باليمين منهما. فذلك قوله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما"، الآية.   (1) في المطبوعة: "وأنه إن اعترف وفي يدي المدعي سلعة"، غير ما في المخطوطة، وفيها: "وأنه إن اعترف في يد المدعي سلعة"، فأثبت ذلك، وهو الصواب، وزدت"عليه" بين القوسين، لأنه حق المعنى. وقوله: "اعترف" بمعنى: عرفها وميزها، كما سيأتي في سائر الفقرة. (2) في المطبوعة: ". . . تصحح دعواهما، وورثة الميت رب السلعة"، حذف قوله"وصارت"، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها، وهي في المخطوطة ثابتة، إلا أن الناسخ أساء كتابتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 فإذ كان تأويل ذلك كذلك، فلا وجه لدعوَى مدَّعٍ أن هذه الآية منسوخة، لأنه غير جائز أن يُقْضَى على حُكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ، إلا بخبَرٍ يقطع العذرَ: أمّا من عند الله، أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بورود النَّقل المستفيض بذلك. فأمَّا ولا خبر بذلك، ولا يدفع صحته عقل، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 القول في تأويل قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (109) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله، أيها الناس. واسمعوا وَعْظه إياكم وتذكيرَه لكم، واحذروا يَوْم يَجْمع الله الرسل = ثم حذف"واحذروا"، واكتفى بقوله:"واتقوا الله واسمعوا"، عن إظهاره، كما قال الراجز: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا (1) يريد:"وسقيتها ماء باردًا"، فاستغنى بقوله"علفتها تبنًا" من إظهار"سقيتها"، إذ كان السامع إذا سَمِعه عرف معناه. فكذلك في قوله:"يوم يجمع الله والرسل"، حذف"واحذروا" لعلم السامع معناه، اكتفاءً بقوله:"واتقوا الله واسمعوا"، إذ كان ذلك تحذيرًا من أمر الله تعالى ذكره، خلقَه عقابَه على معاصيه. * * * وأما قوله:"ماذا أُوجبتم"، فإنه يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم، (2) حين   (1) مضى تخريج البيت وتفسيره فيما سلف 1: 264، وكان في المطبوعة هنا: "حتى غدت همالة"، غير ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"ماذا" فيما سلف 4: 292، 346، 347/8: 359. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 دعوتموهم إلى توحيدي، والإقرار بي، والعمل بطاعتي، والانتهاء عن معصيتي؟ ="قالوا لا علم لنا". * * * فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى قولهم:"لا علم لنا"، لم يكن ذلك من الرسل إنكارًا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم، ولكنهم ذَهِلوا عن الجواب من هَوْلِ ذلك اليوم، ثم أجابوا بعد أن ثَابَتْ إليهم عقولهم بالشَّهادة على أممهم. * ذكر من قال ذلك: 12986 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل. قال، حدثنا أسباط، عن السديّ:"يوم يجمع الله الرسل فيقول مَاذا أجبتم قالوا لا علم لنا"، قال: فذلك أنهم نزلوا منزلا ذَهِلت فيه العقول، (1) فلما سئلوا قالوا:"لا علم لنا"، ثم نزلوا منزلا آخر، فشهدوا على قومهم. 12987 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة ......... قال: سمعت الحسن يقول في قوله:"يوم يجمع الله الرسل"، الآية، قال: من هول ذلك اليوم. (2) 12988 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"، فيفزعون، فيقول: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا علم لنا! * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علّمتنا.   (1) في المطبوعة: "ذلك أنهم لما نزلوا"، وفي المخطوطة: "فذلك أنهم لما نزلوا" وأثبت ما في المخطوطة، وحذفت"لما" لأنه لا موضع لها هنا، وكأنها زيادة من عجلة الناسخ. (2) الأثر: 12987 - هذا إسناد ناقص بلا شك، بين"عتبة"، و"الحسن البصري"، فوضعت مكانه النقط، وقد أعجلت أن أجد مثله فيما سلف، فتركته حتى أجد تمامه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 * ذكر من قال ذلك: 12989- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"، فيقولون: = لا علم لنا إلا ما علمتنا ="إنك أنتَ علام الغيوب". * * * وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا، إلا علمٌ أنت أعلَمُ به منَّا. * ذكر من قال ذلك: 12990- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا"، إلا علم أنت أعلم به منا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"ماذا أجبتم"، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ * ذكر من قال ذلك: 12991 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ ="قالوا قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب". * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال:"معناه: لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منّا"، لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا:"لا علم لنا إنَّك أنتَ علام الغيوب"، أي: إنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفيِّ العلوم وجليِّها. فإنما نَفى القومُ أن يكون لهم بما سُئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره = لا أنَّهم نَفَوا أن يكونوا علموا ما شاهدُوا. كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنَّهم يُخْبرون بما أجابتهم به الأمم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 وأنهم يسْتشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء، (1) فقال تعالى ذكره: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [سورة البقرة:143] . * * * وأما الذي قاله ابن جريج، من أن معناه:"ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ " فتأويل لا معنَى له. لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يَحدُث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك، وإذا سئلت عَمَّا عملت الأمم بعدها والأمر كذلك، فإنما يقال لها: ماذا عَرَّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهرُ خَبر الله تعالى ذكره عن مسألته إيّاهم، يدلّ على غير ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يومَ يجمع الله الرسلَ فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا ="إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس". * * * ف"إذْ" من صلة"أجبتم"، كأنّ معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى. * * *   (1) في المطبوعة: "سيشهدون على تبليغهم"، حرف ما في المخطوطة وأساء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إيَّاها في عهد عيسى، ولم يكن في عهد عيسى من الرُّسل إلا أقلُّ ذلك؟ (1) قيل: جائزٌ أن يكون الله تعالى ذكره عنى بقوله:"فيقول ماذا أجبتم"، الرسلَ الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى، فخرَج الخبر مخرج الجميع، والمراد منهم من كان في عهد عيسى، كما قال تعالى ذكره: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سورة آل عمران: 173] ، والمراد واحدٌ من الناس، وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس. (2) قال أبو جعفر: ومعنى الكلام:"إذ قال الله"، حين قال ="يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس"، يقول: يا عيسى اذكر أياديّ عندك وعند والدتك، (3) إذ قوّيتك برُوح القُدس وأعنتُك به. (4) * * * وقد اختلف أهل العربية في"أيدتك"، ما هو من الفعل. فقال بعضهم: هو"فعّلتك"، ["من الأيد"] ، كما قولك:"قوّيتك""فعّلت" من"القوّة". (5) * * * وقال آخرون: بل هو"فاعلتك" من"الأيد".   (1) في المطبوعة: "إلا أقل من ذلك"، زاد"من"، فأفسد الكلام، والصواب ما في المخطوطة. (2) انظر ما سلف: 405 413. (3) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة (نعم) . (4) انظر تفسير"أيد" فيما سلف 2: 319/5: 379/6: 242. (5) الزيادة بين القوسين، لا بد منها. وفي المطبوعة: "كما في قوله" بزيادة"في"، والصواب ما في المخطوطة بحذفها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 وروي عن مجاهد أنه قرأ: (إذْ آيَدْتُك) ، بمعنى"أفعلتك"، من القوّة والأيد. (1) . * * * وقوله:"بروح القدس"، يعني: بجبريل. يقول: إذ أعنتك بجبريل. * * * وقد بينت معنى ذلك، وما معنى"القدس"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * القول في تأويل قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قِيله، لعيسى:"اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس"، في حال تكليمك الناسَ في المهدِ وكهلا. * * * وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره: أنه أيده بروح القدس صغيرًا في المهد،   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 325. وهذا الذي ذكره هنا في"أيدتك" تفصيل أغفله في بيانه السالف في: 2: 319، وهذا من ضروب اختصاره في التفسير، وهو دال أيضًا على طريقته في تأليف هذا التفسير. (2) انظر تفسير"روح القدس" فيما سلف 2: 320، 321/5: 379. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 وكهلا كبيرًا = فردّ"الكهل" على قوله"في المهد"، لأن معنى ذلك: صغيرًا، كما قال الله تعالى ذكره: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، [سورة يونس: 12] . * * * وقوله:"وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك"إذ علمتك الكتاب"، وهو الخطّ ="والحكمة"، وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك، وهو الإنجيل ="وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير"، يقول: كصورة الطير ...... (1) ="بإذني"، يعني بقوله"تخلق" تعمل وتصلح -"من الطين كهيئة الطير بإذني"، يقول: بعوني على ذلك، وعلمٍ منّي به ="فتنفخ فيها"، يقول: فتنفخ في الهيئة، قتكون الهيئة والصورة طيرًا بإذني ="وتبرئ الأكمه"، يقول: وتشفي"الأكمهَ"، وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا، المطموس البصر="والأبرص بإذني". * * * وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرًا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * *   (1) مكان هذا النقط بياض في المخطوطة، وفي هامشها حرف (ط) ، دلالة على موضع خطأ. فأثبتها كذلك. وإن كنت أرجح أن سياق أبي جعفر يقتضي أن تكون عبارته هكذا: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير، يعني بقوله: "تخلق"، تعمل وتصلح"من الطين كهيئة الطير"، يقول: كصورة الطير: "بإذني"، يقول: بعوني على ذلك. . . ومع ذلك، فقد تركت ما في المخطوطة على ما هو عليه. (2) انظر تفسير"المهد" فيما سلف 6: 417 = وتفسير"الكهل" 6: 417، 418 = وتفسير"الكتاب"، و"الحكمة" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) و (حكم) = وأما تفسير"خلق" و"هيأة" بهذا المعنى، فلم يذكره فيما سلف، وإن كان ذلك مضى في 6: 424 وتفسير"أبرأ" 6: 428 = وتفسير"الأكمه" 6: 428 - 430 = وأما "الأبرص" فلم يفسره = وتفسير"الإذن" فيما سلف 10: 145، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 وقوله"وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات"، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفِّي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك، (1) وقد هموا بقتلك ="إذ جئتهم بالبينات"، يقول: إذ جئتهم بالأدِلة والأعلام المعجزة على نبوّتك، (2) وحقيقة ما أرسلتك به إليهم. (3) ="فقال الذين كفروا منهم"، يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدُوا نبوَّتك وكذبوك من بني إسرائيل="إن هذا إلا سحر مبين". * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين عمَّا أتى به لمن رأه ونظر إليه، أنه سحر لا حقيقةَ له. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: (إن هذا إلا ساحر مبين) ، بمعنى:"ما هذا"، يعني به عيسى،"إلا ساحر مبين"، يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه، أنه ساحرٌ لا نبيٌّ صادق. (4) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنَّهما قراءتان معروفتان صحيحتَا المعنى، متفقتان غير مختلفتين. وذلك أن كل من كان موصوفًا بفعل"السحر"، فهو موصوف بأنه"ساحر". ومن كان موصوفًا بأنه"ساحر"، فأنه موصوف بفعل   (1) انظر تفسير"الكف" فيما سلف 8: 548، 579/ 9: 29/10: 101 (2) انظر تفسير"البينات" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (3) في المطبوعة: "وحقية ما أرسلتك"، غيرها كما فعل مرارًا كثيرة فيما سلف، والصواب ما في المخطوطة، وانظر ما سلف 10: 242، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 "السحر". فالفعل دالٌ على فاعله، والصفة تدلُّ على موصوفها، والموصوف يدل على صفته، والفاعلُ يدلُّ على فعله. فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر أيضًا، يا عيسى، إذ ألقيت (1) ="إلى الحواريين"، وهم وزراء عيسى على دينه. * * * وقد بينا معنى ذلك، ولم قيل لهم"الحواريون"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله:"وإذ أوحيت"، وإن كانت متفقة المعاني. فقال بعضهم، بما:- 12992 - حدثني به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل   (1) انظر تفسير"أوحى" فيما سلف 6: 405، 406/9: 399. (2) انظر تفسير"الحواريون" فيما سلف 6: 449 - 451. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أوحيت إلى الحواريين"، يقول: قدفت في قلوبهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذْ ألقيتُ إلى الحواريين أنْ صدّقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا:"آمنا"، أي: صدقنا بما أمرتنا أن نؤمنَ يا ربنا ="واشهد" علينا"بأننا مسلمون"، يقول: واشهد علينا بأننا خاضِعُون لك بالذّلة، سامعون مطيعُون لأمرك. * * * القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا عيسى، أيضًا نعمتي عليك، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء - ف"إذ"، الثانية من صلة"أوحيت". * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يستطيع ربك" فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين: (هَلْ تَسْتَطِيعُ) بالتاء (رَبَّكَ) بالنصب، بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو: هل تستطيع أن تدعوَ ربَّك؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 أو: هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكِّين أن الله تعالى ذكره قادرٌ أن ينزل عليهم ذلك، وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟ (1) 12993 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة، ولكن قالوا: يا عيسى هل تَسْتطيع ربَّك؟ 12994- حدثني أحمد بن يوسف التَّغْلِبيّ قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا ابن مهدي، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن حسّان بن مخارق، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها كذلك: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) ، وقال: تستطيع أن تسأل ربَّك. وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون؟ (2) * * * وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق: (هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ) ، بمعنى: أن ينزل علينا ربُّك، كما يقول الرجل لصاحبه:"أتستطيع أن تنهض معنا في كذا"؟ وهو يعلم أنه يستطيع، ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مرادُ قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويُطِيعك أنْ تنزل علينا؟ * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 325. (2) الأثر: 12994 -"أحمد بن يوسف التغلبي"، مضى قريبًا برقم: 12957، وكان في المطبوعة هنا أيضًا: "الثعلبي"، وهو خطأ. و"جابر بن يزيد بن رفاعة العجلي"، ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/210، وابن أبي حاتم 1/1/498. "حسان بن مخارق". قال البخاري: "أراه: الشيباني"، مترجم في الكبير 2/1/31، وابن أبي حاتم 1/2/235، وقال المعلق على تاريخ البخاري: "في الثقات رجلان، أحدهما في التابعين: حسان بن مخارق الكوفي، يروي عن أم سلمة. روى عنه أبو إسحق الشيباني = والآخر في أتباع التابعين: حسان بن مخارق الشيباني، وقد قيل: حسان بن أبي المخارق، أبو العوام، يروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ: هل تستطيع ربك. روى عنه جابر بن يزيد، وجعلهما ابن أبي حاتم واحدًا". وكان في المطبوعة: "حيان بن مخارق" حرف ما هو صواب في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: (هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ) برفع"الربّ"، بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟ وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب، لما بيّنّا قبلُ من أن قوله:"إذ قال الحواريون"، من صلة:"إذ أوحيت"، وأنَّ معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريون أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربَّك؟ فبيِّنٌ إذ كان ذلك كذلك، أن الله تعالى ذكره قد كرِه منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قِيلهم ذلك، والإقرارِ لله بالقدرة على كل شيء، وتصديقِ رسوله فيما أخبرهم عن ربِّهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم، عند قيلهم ذلك له، استعظامًا منه لما قالوا:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين". ففي استتابة الله إيّاهم، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك، واستعظام نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم = (1) الدلالةُ الكافيةُ من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع"الرب"، إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى، لو كانوا قالوا له:"هل تستطيع أن تسأل ربَّك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟ أن يُستكبر هذا الاستكبار. فإن ظنّ ظانّ أنّ قولهم ذلك له إنما استُعظِمَ منهم، (2) لأنّ ذلك منهم كان مسألة آيةٍ، [فقد ظنّ خطأ] . (3) فإن الآيةَ، إنّما يسألها الأنبياء مَنْ كان بها مكذّبًا   (1) السياق: ". . . ففي استتابة الله إياهم. . . الدلالة الكافية. . ."، وما بينهما عطوف. (2) في المطبوعة: "إنما هو استعظام منهم"، غير ما في المخطوطة وزاد على نصها، فضرب على الكلام فسادا لا يفهم!! و"استعظم" بالبناء للمجهول. (3) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، لا أشك أن الناسخ قد أسقطها غفلة، فاضطرب سياق الكلام، وسياق حجة أبي جعفر، فاضطر الناشر أن يعبث بكلمات أبي جعفر لكي تستقيم معه، فأفسد الكلام إفسادًا بينًا لا يحل له. وقد رددت الكلام إلى أصله، كما سترى في التعليقات التالية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 ليتقرَّر عنده حقيقةُ ثبوتها وصحَّة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصَّفَا ذهبًا، ويفجر فجَاج مكة أنهارًا، مَنْ سأله من مشركي قومه = وكما كانت مسألة صالح الناقةَ من مكذّبي قومه = ومسألة شُعَيْب أن يسقط كِسْفًا من السماءِ، من كفّار من أرسل إليه. (1) فإنْ وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، (2) على هذا الوجه كانت مسألتهم، فقد أحلّهم الذين قرءوا ذلك ب"التاء" ونصب"الرب" محلا أعظم من المحلِّ الذي ظنوا أنَّهم يحيدون بهم عنه (3) = أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسلٌ، وأن الله تعالى ذكره على ما سألوا من ذلك قادر. فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك، وإنما كانت مسألتهم إيَّاه ذلك على نحو ما يسأل أحدُهم نبيَّه، إذا كان فقيرًا، أن يسأل له ربه أن يُغْنيه = وإن عرضتْ له حاجة، (4) أن يسأل له ربه أن يقضيَها، فليسَ ذلك من مسألةَ الآية في شيء، (5) بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه، فسأل نبيَّه مسألةَ ربه أن يقضيها له. وخبر الله تعالى ذكره عن القوم، ينبئ بخلاف ذلك. وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="نُريد أن نأكل منها وتطمئنَّ   (1) في المطبوعة: "من أرسل إليهم"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض. (2) في المطبوعة: "وكان الذين سألوا. . ."، حذف"فإن"، وعطف الكلام بعضه على بعض فاضطرب اضطرابًا فاحشًا. (3) في المطبوعة: "الذي ظنوا أنهم نزهوا ربهم عنه"، سبحانه وتعالى، ولكن ما فعله الناشر بنص المخطوطة جعل هذا الكلام كله لا معنى له. وكان في المخطوطة: "يحمدوا ربهم"، مضطربة الكتابة، فأساء الناشر قراءتها، وأبلغ في الإساءة حين غير الكلام على الوجه الذي نشره به. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "إن عرضت به حاجة"، وهو غير عربي، عربيته ما أثبت (5) في المطبوعة: "فأنى ذلك من مسألة الآية"، وفي المخطوطة: "فإن ذلك" وصواب ذلك ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 قلوبنا ونعلم أنْ قد صدقتنا". فقد أنبأ هذا من قِيلهم، (1) أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدَقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته. فلا بيان أبين من هذا الكلام، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبَهم مرضٌ وشك فى دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سَألوا ما سألوا من ذلك اختبارًا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 12995 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس: أنه كان يحدِّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجرَ العامل على من عمل له! ففعلوا، ثم قالوا: يا معلِّم الخير، قلت لنا:"إن أجر العامل على من عمل له"، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحدٍ ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نفرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبُنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين"، إلى قوله:"لا أعذبه أحدًا من العالمين". قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السماء عليها سبعةُ أحواتٍ وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم. 12996 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، قالوا: هل يطيعك ربُّك، إن سألته؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطَّعام إلا اللحم، فأكلوا منها. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقد أنبأ هذا عن قيلهم"، وهو خطأ محض، مخل بالسياق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 وأما"المائدة" فإنها"الفاعلة" من:"ماد فلان القوم يَميدهم مَيْدًا"، إذا أطعمهم ومارهم، ومنه قول رؤبة: نُهْدِي رُؤُوسَ المتْرَفينَ الأنْدَادْ ... إلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (1) يعني بقوله:"الممتاد"، المستعْطَى. ف"المائدة" المطعِمة، سميت"الخوان" بذلك، لأنها تطعم الآكل ممّا عليها. و"المائد"، المُدَار به في البحر، يقال:"مادَ يَمِيدُ مَيْدًا". * * * وأما قوله:"قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإنه يعني: قال عيسى للحواريّين القائلين له:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" = راقبوا الله، أيها القوم، وخافوه (2) أن يَنزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به، فاتقوا الله أن يُنزل بكم نقمته ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم مصدقيَّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟ * * *   (1) ديوانه: 40، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 183، واللسان (ميد) ، وسيأتي في التفسير 12: 84 (بولاق) ، من رجز تمدح فيه بنفسه، ومدح قومه تميما وسعدًا وخندفًا. ثم قبله في آخرها يذكر قومه: نَكْفِي قُريشًا مَنْ سَعَى بِالإفْسَادْ ... مِنْ كُلِّ مَرْهُوبِ الشِّقَاقِ جَحَّادْ ومُلْحِدٍ خَالَطَ أَمْرَ الإلْحَادْ وقوله: "نهدي" بالنون، لا بالتاء كما في لسان العرب، وكما كان في المطبوعة هنا. و"المترفون": المتنعمون المتوسعون في لذات الدنيا وشهواتها. و"الأنداد" جمع"ند" (بكسر النون) وهو هنا بمعنى"الضد"، يقال للرجل إذا خالفك، فأردت وجهًا تذهب إليه، ونازعك في ضده: "هو ندى، ونديدي". ويأتي أيضًا بمعنى"المثل والشبيه". ورواية الديوان، ورواية أبي جعفر في المكان الآتي بعد: "الصداد"، جمع"صاد"، وهو المعرض المخالف. يقول: نقتل الخارجين على أمير المؤمنين، ثم نهدي إليه رؤوسهم، وهو المسئول دون الناس. (2) في المطبوعة: "وخافوا"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 القول في تأويل قوله: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، في قولكم لي"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" =: إنا إنما قلنا ذلك، وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة، فنعلم يقينًا قدرته على كل شيء ="وتطمئن قلوبنا"، يقول: وتسكن قلوبنا، وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد، (1) "ونعلم أن قد صدقتنا"، ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث ="ونكون عليها"، يقول: ونكون على المائدة ="من الشاهدين"، يقول: ممن يشهد أن الله أنزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقكَ في نبوّتك. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف 5: 492/9: 165. (2) انظر تفسير"الشاهد" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 القول في تأويل قوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، أنه أجاب القوم إلى ما سألوا من مسألة ربه مائدةً تنزل عليهم من السماء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا". فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليومَ الذي نزلت فيه عيدًا نُعَظِّمه نحن ومن بعدَنا. * ذكر من قال ذلك: 12997 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا"، يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظِّمه نحن ومن بعدنا. 12998 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا"، قال: أرادوا أن تكون لعَقِبهم من بعدهم. 12999 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا"، قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ ="وآخرنا"، من بعدهم منهم. 13000- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، قال سفيان:"تكون لنا عيدًا"، قالوا: نصلي فيه. نزلت مرتين. * * * وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعًا. * ذكر من قال ذلك: 13001 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس أنه قال: أكل منها = يعني: من المائدة = حين وضعت بين أيديهم، آخر الناس، كما أكل منها أولهم. * * * وقال آخرون: معنى قوله"عيدًا"، عائدة من الله تعالى ذكره علينا، وحجة وبرهانًا. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال:"معناه: تكون لنا عيدًا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه، ونصلي له فيه، كما يعبد الناس في أعيادهم"، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في"العيد"، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال:"معناه: عائدة من الله علينا". وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به، أولى من توجيهه إلى المجهول منه، ما وجد إليه السبيل. * * * وأما قوله:"لأولنا وآخرنا"، فإن الأولى من تأويله بالصواب، قولُ من قال:"تأويله: للأحياء منا اليوم، ومن يجيء بعدنا منا"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"تكون لنا عيدًا"، لأن ذلك هو الأغلب من معناه. * * * وأما قوله:"وآية منك"، فإن معناه: وعلامةً وحجة منك يا رب، على عبادك في وحدانيتك، وفي صدقي على أنّي رسولٌ إليهم بما أرسلتني به (1) ="وارزقنا وأنت خير الرازقين"، وأعطنا من عطائك، فإنك يا رب خير من يعطي، وأجود من تفضَّل، لأنه لا يدخل عطاءه منٌّ ولا نكَد. (2) * * * وقد اختلف أهل التأويل في"المائدة"، هل أنزلت عليهم، أم لا؟ وما كانت؟ فقال بعضهم: نزلت، وكانت حوتًا وطعامًا، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداثٍ منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى ذكره. ذكر من قال ذلك: 13002 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا   (1) انظر تفسير"آية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (2) وانظر تفسير"الرزق" فيما سلف من فهارس اللغة (رزق) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلت المائدة، خبزًا وسمكًا. 13003 - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية قال:"المائدة"، سمكة فيها طعم كلِّ طعام. 13004- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل، عن مسروق، عن عطية قال:"المائدة"، سمك فيه من طعم كل طعام. 13005- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن قال: نزلت المائدة خبزًا وسمكًا. 13006 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خِوانٌ عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. 13007 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان، أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا"، قال: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات = قال الحسن، قال أبو بكر: (1) فحدَّثت به عبد الصمد بن معقل فقال: سمعت وهبًا، وقيل له: وما كان ذلك يُغْني عنهم؟ فقال: لا شيء، ولكن الله حَثَا بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكلوا جميعهم وأفضَلُوا. 13008 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال: هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا. 13009 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) "أبو بكر" هو"عبد الرزاق"، وهو: "عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"مائدة من السماء"، قال: مائدة عليها طعام، أُتوا بها؛ حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. ألوان من طعام ينزل عليهم. (1) 13010 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال:"لعلها لا تنزل غدًا! "، فرفعت. 13011 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عَمار بن ياسر، فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال فقلت: لا! قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد. قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإنّي أعذبكم عذابًا لا أعذّبه أحدا من العالمين! قال: فما تمّ يومهم حتى خبئوا ورَفعوا وخانوا، فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم معشر العرب، كنتم تتْبعون أذنابَ الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهارون على العرَب، ونهاكم أن تكنزوا الذهبَ والفضة. وايمْ الله. لا يذهبُ الليلُ والنهارُ حتى تكنزوهما، ويعذِّبكم عذابًا أليمًا. 13012 - حدثنا الحسن بن قزعة البصري قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر   (1) في المطبوعة، غير هذه العبارة تغيرًا شاملا مزيلا لمعناها، فكتب: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم"، وأثبت ما في المخطوطة. أما المعنى الذي صحح الناشر الأول عليه هذا الأثر، فهو مخالف لهذا كل المخالفة، لأنه من قول من قال: "لم تنزل على بني إسرائيل مائدة"، وهو قول مروي عن مجاهد فيما سيأتي رقم: 13021. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت المائدة خبزًا ولحمًا، وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادّخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير. (1) 13013- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في المائدة قال: كانت طعامًا ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا. * * * * ذكر من قال ذلك: 13014- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمرٌ من ثمر الجنة، فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا، قال: فخان القوم وخبئوا وادَّخروا، فحوّلهم الله قردة وخنازير. (2) 13015 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمرُ من ثمار الجنة، وأمروا أن لا   (1) الأثر: 13012 -"الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي البصري"، ثقة. مضى برقم: 8281. و"سفيان بن حبيب البصري"، ثقة، مضى برقم: 11302، 11321. و"خلاس بن عمرو الهجري"، مضى مرارًا، منها: 4557، 5134، وغيرهما. وكان في المطبوعة: "جلاس بن عمرو"، وهو خطأ. وهذا الخبر، رواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، بإسناده عن الحسن بن قزعة، ثم قال: "هذا حديث رواه أبو عاصم وغير واحد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار، موقوفًا. ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة = حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا سفيان بن حبيب، عن سعيد بن أبي عروبة، نحوه، ولم يرفعه. وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا". وانظر الأثر التالي رقم: 13014، وهو الخبر الموقوف. (2) الأثر: 13014 - انظر التعليق على رقم: 13012، وكان في المطبوعة هنا أيضًا"جلاس بن عمرو" وهو خطأ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، (1) وكانوا إذا فعلوا شيئًا من ذلك، أنبأهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبئوا وادّخروا لغدٍ. * * * وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم. * ذكر من قال ذلك: 13016 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال: كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل، اختلفت عليها الأيدي بكل طعام. 13017 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان قالا كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام. 13018- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن زاذان وميسرة، في:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء"، قالا رأوا الأيدي تختلف عليها بكل شيء إلا اللحم. (2) * * * وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة. * * * ثم اختلف قائلو هذه المقالة. فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لخلقه، نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات. * ذكر من قال ذلك: 13019 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أبلاهم الله به"، وهو لا يصح، صواب قراءته ما أثبت. (2) الأثران: 13017، 13018 -"زاذان الكندي الضرير"، مضى برقم: 9508. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء"، قال: مثل ضُرب، لم ينزل عليهم شيء. * * * وقال آخرون: إنّ القوم لما قيل لهم:"فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذِّبه عذابًا لا أعذِّبه أحدًا من العالمين"، استعفَوْا منها فلم تنزل. * ذكر من قال ذلك: 13020 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم:"فمن يكفر بعد منكم"، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل. 13021- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن: أنه قال في المائدة: لم تنزل. (1) 13022 - حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تَنزل عليهم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه. وإنما قلنا ذلك، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه. وبعدُ، فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف، وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك:"إني منزلها عليكم"، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره:   (1) الأثر: 13021 -"منصور بن زاذان الثقفي الواسطي"، أبو المغيرة. ثقة، روى عن أبي العالية، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين. مترجم في التهذيب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 "إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها، لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول:"إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول:"فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين"، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك. * * * وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون كان سمكًا وخبزًا، وجائزٌ أن يكون كانَ ثمرًا من ثمر الجنة، وغيرُ نافع العلم به، ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرَّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) } قال أبو جعفر: وهذا جواب من الله تعالى ذكره القومَ فيما سألوا نبيّهم عيسى مسألةَ ربهم، من إنزاله مائدة عليهم. فقال تعالى ذكره: إني منزلها عليكم، أيها الحواريون، فمطعمكموها ="فمن يكفر بعد منكم"، يقول: فمن يجحد بعد إنزالها عليكم، وإطعاميكموها - منكم رسالتي إليه، وينكر نبوة نبيِّي عيسى صلى الله عليه وسلم، ويخالفْ طاعتي فيما أمرته ونهيته ="فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين"، من عالمي زمانه. ففعل القوم، فجحدوا وكفروا بعد ما أنزلت عليهم، فيما ذكر لنا، فعذبوا، فيما بلغنا، بأن مُسِخوا قردة وخنازير، كالذي:- 13023 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إني منزلها عليكم" الآية، ذكر لنا أنهم حوِّلوا خنازير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 13024- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن أبي المغيرة القوّاس، عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشدّ الناس عذابًا ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. (1) 13025- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن عوف قال: سمعت أبا المغيرة القوّاس يقول: قال عبد الله بن عمرو: إنّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة: من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل فرعون. (2) 13026 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فمن يكفر بعد منكم"، بعد ما جاءته المائدة ="فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين"، يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحدًا من العالمين غير أهل المائدة. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"،"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّيَ إلهين من دون الله". * * *   (1) الأثران: 13025، 13026 -"أبو المغيرة القواس"، روى عن عبد الله بن عمرو. روى عنه عوف. وسئل أبو زرعة عن اسمه فقال: "لا أعلم أحدًا يسميه". ضعفه سليمان التيمي، ووثقه ابن معين. مترجم في الكنى للبخاري: 70، وابن أبي حاتم 4/2/439. (2) الأثران: 13025، 13026 -"أبو المغيرة القواس"، روى عن عبد الله بن عمرو. روى عنه عوف. وسئل أبو زرعة عن اسمه فقال: "لا أعلم أحدًا يسميه". ضعفه سليمان التيمي، ووثقه ابن معين. مترجم في الكنى للبخاري: 70، وابن أبي حاتم 4/2/439. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 وقيل: إن الله قال هذا القولَ لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا. * ذكر من قال ذلك: 13028 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت، وزعموا أنّ عيسى أمرَهم بذلك، فسأله عن قوله فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" إلى قوله:"وأنت على كل شيء شهيد". * * * وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة. * ذكر من قال ذلك: 13029 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، قال: والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، وأقرَّ له بالعبودية على نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول: أنه إنما كان يقول باطلا. 13030 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال: قال الله: يا عيسى، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟ فأُرْعِدت مفاصله، وخشي أن يكون قد قال، فقال: سبحانك، إن كنت قلته فقد علمته = الآية. 13031 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 عن قتادة في قوله:"يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول:"هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم"؟ = فعلى هذا التأويل الذي تأوَّله ابن جريج، يجب أن يكون"وإذ" بمعنى: و"إذا"، كما قال في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا، [سورة سبأ: 51] ، بمعنى: يفزعون، وكما قال أبو النجم: ثُمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنَّا إذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلا (1) والمعنى: إذا جزى، وكما قال الأسود: (2) فَالآنَ، إذْ هَازَلْتُهُنَّ، فإنَّمَا ... يَقُلْنَ: ألا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا!! ٌٌ (3) بمعنى: إذا هازلتهن.   (1) الأضداد لابن الأنباري: 102، والصاحبي: 112، واللسان (طها) وسيأتي بعد قليل في هذا الجزء ص: 317، بزيادة بيت. وقوله: "العلالي"، جمع"علية" (بكسر العين، وتشديد اللام المكسورة، والياء المشدودة) : وهي الغرفة العالية من البيت. وأرد بذلك: "في عليين"، المذكورة في القرآن. وقد قال هدبة من خشرم أيضًا، فتصرف: كأنَّ حَوْطًا، جزاهُ اللهُ مَغْفِرَةً ... وَجَنَّةً ذاتَ عِلِّيٍّ وأشْرَاعِ و"الأشراع"، السقائف. (2) هو الأسود بن يعفر النهشلي، أعشى بني نهشل. (3) ديوان الأعشين: 293، والأضداد لابن الأنباري: 101، من قصيدة له، ذهب أكثرها فلم يوجد منها في الكتب المطبوعة، غير هذا البيت، وخمسة أبيات أخرى، في ديوانه، وفي العيني (هامش خزانة الأدب 4: 103) ، وهي أبيات جياد: صَحَا سَكَرٌ مِنْه طَوِيلٌ بِزَيْنَيَا ... تَعَاقَبَهُ لَمَّا اسْتَبَانَ وجَرَّبَا وَأَحْكَمَهُ شَيْبُ القَذَالِ عَنِ الصِّبَا ... فَكَيْفَ تَصَابِيه وَقَدْ صَار أَشْيَبَا? وَكَان لَهُ، فِيمَا أَفَادَ، خَلاَئِلٌ ... عَجِلْنَ، إذَا لاقَيْنَهُ، قُلْنَ: مَرْحَبَاٌ!! فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بهِ ... أصَعَّدَ فَي عُلْوِ الهَوَى أم تَصَوَّبَا? طَوَامِحُ بالأَبْصَارِ عَنْه، كَأَنَّمَا ... يَرَيْنَ عَلَيْهِ جُلَّ أَدْهَمَ أجْرَبَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 وكأنّ من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا، وجَّه تأويل الآية إلى:"فمن يكفر بعدُ منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين" في الدنيا = وأعذبه أيضًا في الآخرة:"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله". * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك، قولُ من قال بقول السدي، وهو أن الله تعالى ذكره قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وأن الخبرَ خبرٌ عما مضى، لعلَّتين: إحداهما: أن"إذْ" إنما تصاحب = في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها = الماضيَ من الفعل، وإن كانت قد تدخلها أحيانًا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها. وذلك غير فاشٍ، ولا فصيح في كلامهم، (1) وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، (2) أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر. والأخرى: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم. * * * فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟ قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل:   (1) انظر ما سلف من القول في"إذ" و"إذا" 1: 349 - 444، 493/3: 92، 98/6: 407، 550/7: 333/9: 627. وانظر ما سيأتي ص: 317. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "فتوجيه" بالفاء، والجيد ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيُه، كما يقول القائل لآخر:"أفعلت كذا وكذا"؟ مما يعلم المقولُ له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له:"أفعلته"، على وجه النهي عن فعله، والتهديد له فيه. والآخر: إعلامه أنّ قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده، وبدّلوا دينهم بعده. فيكون بذلك جامعًا إعلامَه حالَهم بعده، وتحذيرًا له قيله. (1) * * * قال أبو جعفر: وأما تأويل الكلام، فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين"، أي: معبودين تعبدونهما من دون الله. قال عيسى: تنزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به (2) = ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق"، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك، وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ = (3) "إن كنت قلته فقد علمته"، يقول: إنك لا يخفى عليك شيء، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به. * * * القول في تأويل قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرةُ من النصارى، أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به، فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت   (1) في المطبوعة: "وتحذيره"، غير ما كان في المخطوطة لغير طائل. (2) انظر تفسير"سبحان" فيما سلف 1: 474 - 476، 495/2: 537/6: 423. (3) في المطبوعة: "فهل يكون للعبد"، وفي المخطوطة: "فيكون يكون للعبد"، هكذا ورجحت قراءتها كما أثبتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 قلته فقد علمته". ثم قال:"تعلم ما في نفسي"، يقول: إنك، يا رب، لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما قد نطقتُ به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس: ا"تخذوني وأمي إلهين من دون الله"، كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به؟ ="ولا أعلم ما في نفسك"، يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه ="إنك أنت عَلام الغيوب"، يقول: إنك أنت العالم بخفيّات الأمور التي لا يطلع عليها سواك، ولا يعلمها غيرك. (1) * * * القول في تأويل قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى، يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم:"اعبدوا الله ربي وربكم" ="وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم"، يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم (2) ="فلما توفيتني"،   (1) انظر تفسير"علام الغيوب" فيما سلف قريبًا: 211 = وتفسير"الغيب" 1: 236، 237/6: 405/10: 585. (2) انظر تفسير: "شهيد" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) = وتفسير"ما دام" فيما سلف 10: 185/ 11: 74. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 يقول: فلما قبضتني إليك (1) ="كنت أنت الرقيب عليهم"، يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، (2) لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم. وفي هذا تبيانُ أن الله تعالى ذكره إنما عرّفه أفعالَ القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله". ="وأنت على كل شيء شهيد" يقول: وأنت تشهد على كل شيء، لأنه لا يخفى عليك شيء، وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيتُ وشهدت. * * * وبنحو الذي قلنا في قوله:"كنت أنت الرقيب عليهم"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13032 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"كنت أنت الرقيب عليهم"، أما"الرقيب"، فهو الحفيظ. 13033 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"كنت أنت الرقيب عليهم"، قال: الحفيظ. * * * وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربَّه من الله تعالى، توقيفًا منه له فيه. (3) * ذكر من قال ذلك: 13034 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن معمر،   (1) انظر تفسير"توفاه" فيما سلف 6: 455 - 461/8: 73/9: 100. (2) انظر تفسير"الرقيب" فيما سلف 7: 523. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "توفيقًا" (بالفاء قبل القاف) ، في هذا الموضع وما يليه. وهو خطأ من الناسخ والناشر لا شك فيه، صوابه ما أثبت. يقال: "وقفت الرجل على الكلمة توقيفًا"، إذا علمته الكلمة لم يكن يعلمها، أو غابت عنه. أي أنها كانت من تعليم الله إياه، لم يقلها من عند نفسه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 عن ابن طاوس، عن أبيه:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق"، قال: الله وقَّفَه. (1) 13035- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري قال، قرئ على سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه طاوس قال: احتج عيسى، والله وقّفه:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، الآية. 13036 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال: قال الله تعالى ذكره:"يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"؟ قال: فأُرعدت مفاصله، وخشى أن يكون قد قالها، فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب". * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها ="فإنهم عبادك"، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به ="وإن تغفر لهم"، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم ="فإنك أنت العزيز"، (2) في   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "الله وفقه"، وانظر التعليق السالف، وكذلك ما سيأتي في الأثر التالي. (2) انظر تفسير"العباد"، و"المغفرة"، و"العزيز"، و"الحكيم" فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) ، (غفر) ، (عزز) ، (حكم) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه ="الحكيم"، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب، كالذي:- 13037 - حثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم"، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام ="فإنك أنت العزيز الحكيم". وهذا قول عيسى في الدنيا. 13038 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"، قال: والله ما كانوا طعَّانين ولا لعَّانين. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"هذا يوم ينفع الصادقين". فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: (هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) ، بنصب"يوم". * * * وقرأه بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة، وعامة قرأة أهل العراق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ، برفع"يوم". فمن رفعه رفعه ب"هذا"، وجعل"يوم" اسمًا، وإن كانت إضافته غير محضة، لأنه قد صار كالمنعوت. (1)   (1) في المطبوعة: "لأنه صار"، أسقط"قد". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل"اليوم" و"الليلة"، عملهم فيما بعدها. إن كان ما بعدها رفعًا رفعوها، كقولهم:"هذا يومُ يركب الأمير"، و"ليلةُ يصدر الحاج"، و"يومُ أخوك منطلق". وإن كان ما بعدها نصبًا نصبوها، وذلك كقولهم:"هذا يومَ خرج الجيش، وسار الناس"، و"ليلةَ قتل زيد"، ونحو ذلك، وإن كان معناها في الحالين"إذ" و"إذا". * * * وكأن من قرأ هذا هكذا رفعًا، وجَّه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة. * * * وكذلك كان السدي يقول في ذلك. 13039 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال الله:"هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم"، هذا فصل من كلام عيسى، وهذا يوم القيامة. * * * يعني السدي بقوله:"هذا فصل من كلام عيسى": أن قوله:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" إلى قوله:"فإنك أنت العزيز الحكيم"، من خبر الله عز وجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة. * * * وأما النصب في ذلك، فإنه يتوجه من وجهين: أحدهما: أن إضافة"يوم" ما لم تكن إلى اسم، تجعله نصبًا، لأن الإضافة غير محضة، وإنما تكون الإضافة محضة، إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير"اليوم" في ذلك:"الحين" و"الزمان"، وما أشبههما من الأزمنة، كما قال النابغة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ ألَمَّا تَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ (1) والوجه الآخر: أن يكون مرادًا بالكلام: هذا الأمر وهذا الشأن، يومَ ينفع الصادقين = فيكون"اليوم" حينئذ منصوبًا على الوقت والصفة، بمعنى: هذا الأمر في يوم ينفع الصادقين صدقهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: (هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) ، بنصب"اليوم"، على أنه منصوب على الوقت والصفة. لأن معنى الكلام: إنّ الله جل وتعالى ذكره أجاب عيسى حين قال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته"، إلى قوله:"فإنك أنت العزيز الحكيم"، فقال له عز وجل: هذا القولُ النافعُ = أو هذا الصدق النافع = يوم ينفع الصادقين صدقهم. ف"اليوم" وقت القول والصدق النافع. * * * فإن قال قائل: فما موضع"هذا"؟ قيل: رفع. فإن قال: فأين رَافعه؟   (1) ديوانه: 38، ومعاني القرآن للفراء 1: 327، وسيبويه 1: 369، والخزانة 3: 151 والعيني (هامش الخزانة) 3: 406/ 4: 357، وسيأتي في هذا التفسير 19: 88/ ثم 30: 57، (بولاق) ، ورواية أبي جعفر هنا"ألما تصح" كرواية الفراء، وفي سائر المراجع"ألما أصح". وهما روايتان صحيحتا المعنى. وهذا البيت من قصيدته التي قالها معتذرا إلى النعمان بن المنذر، متنصلا مما قذفه به مرة بن ربيعة عند النعمان، يقول قبله: فَكَفْكَفْتُ مِنِّي عَبْرَةً فَرَدَدْتُهَا ... على النَّحْرِ، مِنْها مُسْتَهِلٌّ ودامِعٌ يقول: عاقبت نفسي على تشوقها إلى ما فات من صباي، فقد شبت وشابت لداتي، وقلت لنفسي: ألم تفق بعد من سكرة الصبا، وعهد الناس بالمشيب أنه يكف من غلواء الشباب! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 قيل: مضمر. وكأنه قال: قال الله عز وجل: هذا، هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، كما قال الشاعر: (1) أَمَا تَرَى السَّحَابَ كَيْفَ يَجْرِي ? ... هذا، وَلا خَيْلُكَ يَا ابْن بِشْرِ يريد: هذا هذا، ولا خيلك. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم ذلك، في الآخرة عند الله ="لهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يقول: للصادقين في الدنيا، جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، ثوابًا لهم من الله عز وجل على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله، فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه ="خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها ="أبدًا"، دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. (2) * * * وقد بينا فيما مضى أن معنى"الخلود"، الدوام والبقاء. (3) * * * القول في تأويل قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رَضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين   (1) لم أعرف هذا الراجز (2) انظر تفسير"أبدًا" فيما سلف 9: 227/10: 185. (3) انظر فهارس اللغة فيما سلف (خلد) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 صدقوا في الوفاء له بما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ="ورضوا عنه"، يقول: ورضوا هم عن الله تعالى ذكره في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه فيما أمرهم ونهاهم، من جزيل ثوابه (1) ="ذلك الفوز العظيم"، يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم، هو الظفر العظيم بالطَّلِبة، (2) وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا، ولها كانوا يعملون فيها، فنالوا ما طلبوا، وأدركوا ما أمَّلوا. * * * القول في تأويل قوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيها النصارى،"لله ملك السموات والأرض"، يقول: له سلطان السموات والأرض (3) ="وما فيهن"، دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم، ودون أمه، ودون جميع من في السموات ومن في الأرض، فإن السموات والأرض خلق من خلقه وما فيهن، وعيسى وأمُّه من بعض ذلك بالحلول والانتقال، يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال، أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن. ينبِّههم وجميعَ خلقه على موضع حجته عليهم، ليدَّبروه ويعتبروه فيعقلوا عنه ="وهو على كل شيء   (1) انظر تفسير"الرضا" فيما سلف 6: 262/9: 480/10: 144. (2) انظر تفسير"الفوز". فيما سلف 7: 452، 472/8: 71. (3) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 8: 480، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 قدير"، (1) يقول تعالى ذكره: والله الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، قادرٌ على إفنائهن وعلى إهلاكهن، وإهلاك عيسى وأمه ومن في الأرض جميعًا كما ابتدأ خلقهم، لا يعجزه ذلك ولا شيء أراده، لأن قدرته القدرةُ التي لا تشبهها قدرة، وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة. * * * (آخر تفسير سورة المائدة) (2)   (1) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) . (2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "آخر تفسير سورة المائدة صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيم يَتْلُوهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، تَفْسِيرُ سُورَةِ الأَنْعَامِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمينَ" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 تفسير سورة الأنعام القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنعام بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يسِّرْ * * * القول في تأويل قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"الحمد لله"، الحمدُ الكامل لله وحده لا شريك له دون جميع الأندادِ والآلهة، ودون ما سواه مما تعبده كَفَرةُ خلْقه من الأوثان والأصنام. وهذا كلام مخرجه مَخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر. يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خَلَقَكم، أيها الناس، وخلق السماوات والأرض، ولا تشركوا معه في ذلك أحدًا أو شيئًا، (1) فإنه المستوجب عليكم الحمدَ بأياديه عندكم ونعمة عليكم، لا من تعبدونه من دونه، وتجعلونه له شريكًا من خَلْقه. * * * وقد بينا الفصل بين معنى"الحمد و"الشكر" بشواهده فيما مضى قبل. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وأظلم الليلَ، وأنارَ النَّهار، كما:-   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحدا شيئًا"، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) انظر تفسير"الحمد" فيما سلف 1: 135 - 141. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 13040 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجعل الظلمات والنور"، قال: الظلمات ظلمة الليل، والنور نورُ النهار. 13041 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أمّا قوله:"الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور"، فإنه خلق السَّماوات قبل الأرض، والظلمةَ قبل النور، والجنّة قَبل النار. * * * فإن قال قائل: فما معنى قوله إذًا:"جعل". قيل: إن العرب تجعلها ظرفًا للخبرِ والفِعْل فتقول:"جعلت أفعل كذا"، و"جعلت أقوم وأقعد"، تدل بقولها"جعلت" على اتصال الفعل، كما تقول"علقت أفعل كذا" = لا أنها في نفسها فِعْلٌ. يدلُّ على ذلك قول القائل:"جعلت أقوم"، وأنه لا جَعْلَ هناك سوى القيام، وإنما دَلَّ بقوله:"جعلت" على اتّصال الفعل ودوامه، (1) ومن ذلك قول الشاعر: (2) وَزَعَمْتَ أنَّكَ سَوْفَ تَسْلُكُ فَارِدًا ... وَالمَوْتُ مُكْتَنِعٌ طَرِيقَيْ قَادِرِ فَاجْعَلْ تَحَلَّلْ مِنْ يَمِينِكَ إنَّمَا ... حِنْثٌ اليَمِينِ عَلَى الأثِيمِ الفَاجِرِ (3)   (1) انظر ما كتبته على الأثر رقم: 8317، ج 7: 547، تعليق: 6/ ثم الأثر: 12834، ج: 11: 128، تعليق: 1، في قوله: "فذهب ينزل" وقوله: "تذهب فتختلط"، وقد سميتها هناك ألفاظ الاستعانة. وقد أجاد أبو جعفر العبارة عن هذا المعنى، فقيده وحفظه. (2) لم أعرف قائله. (3) لم أجد البيتين فيما بين يدي من الكتب، وإن كنت أذكر أني قرأتهما قبل، ثم لا أدري أين؟ وكان البيت الأول في المطبوعة: وَزَعَمْتَ أَنَّكَ سَوفَ تَسْلُك قادِرًا ... وَالموتُ مُتَّسِعٌ طَرِيقي قادِرِ وهو كلام صفر من المعنى. وكان في المخطوطة هكذا. وزعمتَ أنك سوف تسلك مال را ... الموت ملسع طريقي قادرِ ورجحت قراءته كما أثبته، وكما أتوهم أني أذكر من معنى الشعر، وأظنه من كلام شاعر يقوله لأخيه أو صاحبه، أراد أن ينفرد في طريقه وحلف ليفعلن ذلك، فسخر منه، وقال له ما قال. وقوله: "فارد"، أي منفردًا منقطعًا عن رفيقك وصاحبك. وقوله: "والموت مكتنع"، أي: دان قد أشرف عليك. يقال"كنع الموت واكتنع" دنا وقرب، قال: الراجز: وَاكْتَنَعَتْ أُمُّ اللُّهَيْمِ وَاكْتَنَعْ و"أم اللهيم"، كنية الموت، لأنه يلتهم كل شيء. هذا اجتهادي في تصحيح الشعر، حتى يوجد في مكان غيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 يقول:"فاجعل تحلّل"، بمعنى: تحلل شيئًا بعد شيء = لا أن هناك جَعْلا من غير التحليل. فكذلك كل"جَعْلٍ" في الكلام، إنما هو دليل على فعلٍ له اتصال، لا أن له حظًّا في معنى الفعْل. * * * فقوله:"وجعل الظلمات والنور"، إنما هو: أظلم ليلَهما، وأنارَ نَهارَهُما. * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معجِّبًا خلقَه المؤمنين من كفَرة عباده، ومحتجًّا على الكافرين: إنّ الإله الذي يجبُ عليكم، أيها الناس، حمدُه، هو الذي خلَق السماوات والأرض، الذي جعل منهما معايشَكم وأقواتكم، وأقواتَ أنعامكم التي بها حياتكم. فمن السماوات ينزل عليكم الغيثُ، وفيها تجري الشمس والقمر باعتِقابٍ واختلاف لمصالحكم. ومن الأرض ينبُتُ الحب الذي به غذاؤكم، والثمارُ التي فيها ملاذُّكم، مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها = والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 أيها الناس ="بربهم"، الذي فعل ذلك وأحدثه ="يعدلون"، يجعلون له شريكًا في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثانَ، وليس منها شيء شرِكه في خلق شيءٍ من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله، وهم يشركون في عبادتهم إيّاه غيره. فسبحان الله ما أبلغها من حجة، وأوجزها من عظة، لمن فكَّر فيها بعقل، وتدبرها بفهم! * * * ولقد قيل: إنها فاتحة التوراة. * ذكر من قال ذلك: 13042 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال: فاتحة التوراة فاتحة"الأنعام":"الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجَعَل الظلمات والنور ثم الذين كَفَروا بربِّهم يعدلون". (1) 13043 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب، مثله = وزاد فيه: وخاتمة التوراة خاتمة"هود". * * * يقالُ من مساواة الشيء بالشيء:"عدلتُ هذا بهذا"، إذا ساويته به،"عَدْلا". وأما في الحكم إذا أنصفت فيه، فإنك تقول:"عَدَلت فيه أعدلُ عَدْلا". (2)   (1) الأثر: 13042 -"عبد العزيز بن عبد الصمد العمي"، "أبو عبد الصمد"، ثقة حافظ، من شيوخ أحمد، روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب. و"أبو عمران الجوني" هو"عبد الملك بن حبيب الأزدي"، ثقة، مضى برقم: 80. و"عبد الله بن رباح الأنصاري"، ثقة، مضى برقم: 4810. و"كعب"، هو كعب الأحبار المشهور بأخباره الإسرائيلية. (2) انظر تفسير"العدل فيما سلف 2: 35/11: 43، 44. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله:"يعدلون"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13044 - حدثني ابن محمد عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يعدلون"، قال: يشركون. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بذلك: فقال بعضهم: عُني به أهل الكتاب. * ذكر من قال ذلك: 13045 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية:"الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربِّهم يعدِلون"، قال له: أليس الذين كفروا بربِّهم يعدلون؟ قال: بلى! قال: وانصرف عنه الرجل، فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى، إن هذا قد أراد تفسيرَ هذه غير هذا! إنه رجلٌ من الخوارج! فقال: ردّوه عليّ. فلما جاءه قال: هل تدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قال: لا! قال: إنها نزلت في أهل الكتاب، اذهبْ، ولا تضعها على غير حدِّها. (1)   (1) الأثر: 13045 -"يعقوب القمي"، هو"يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي"، ثقة، مضى برقم: 617، 7269، 8158. و"جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، ثقة، مضى برقم: 87، 617، 4347، 7269. و"ابن أبزى" هو: "سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي"، ثقة، مضى برقم: 9656، 9657، 9672. وأراد السائل من الخوارج بسؤاله، الاستدلال بالآية على تكفير أهل القبلة، في أمر تحكيم علي بن أبي طالب. وذلك هو رأي الخوارج. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 وقال آخرون: بل عُنى بها المشركون من عبدةِ الأوثان. * ذكر من قال ذلك: 13046 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ثم الذين كفروا بربهم يعدلون"، قال: [هؤلاء: أهل صراحيه] . (1) 13047- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ثم الذين كفروا بربهم يعدلون"، قال: هم المشركون. 13048 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ثم الذين كفروا بربهم يعدلون"، قال: الآلهة التي عبَدوها، عدلوها بالله. قال: وليس لله عِدْلٌ ولا نِدٌ، وليس معه آلهة، ولا اتخذ صاحبةً ولا ولدًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّ الذين كفروا بربهم يعدلون، فعمّ بذلك جميع الكفّار، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. فجميعهم داخلون في ذلك: يهودهم، ونصاراهم، ومجوسهم، وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر. * * * القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"هو الذي خلقكم من طين"، أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وأظلم ليلهما وأنَار نهارهما، ثم كفر به مع   (1) في المطبوعة: "هؤلاء أهل صراحة"، وهو كلام لا معنى له، وفي المخطوطة ما أثبته بين القوسين، لم أستطع أن أحل رموزه، فلعله يوجد بعد في كتاب غير الكتب التي في أيدينا، فتبين صحته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 إنعامه عليهم الكافرون، (1) وعدلوا به من لا ينفعهم ولا يضرُّهم. هو الذي خلقكم، أيها الناس، من طين. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره: أنَّ الناس وَلدُ مَنْ خلقه من طين، فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم، إذ كانوا وَلَده. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13049- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"هو الذي خلقكم من طين"، بدءُ الخلق، خلقَ الله آدم من طين. 13050 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هو الذي خلقكم من طين"، قال: هو آدم. 13051- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"خلقكم من طين"، فآدم. 13052 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قال: خلق آدم من طين، وخلق الناس من سُلالةٍ من ماءٍ مَهين. 13053 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"خلقكم من طين"، قال: خلق آدم من طين، ثم خلقنا من آدم حين أخذَنا من ظهره. * * *   (1) في المطبوعة: "فكفر به"، أما المخطوطة، ففيها الذي أثبته إلا أنه كتب"ثمكفر به" ووصل"ثم" بقوله: "كفر"، وهذا من عجب الكتابة ولطائف النساخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى قوله:"ثم قضى أجلا"، ثم قضى لكم، أيها الناس،"أجلا". وذلك ما بين أن يُخْلق إلى أن يموت ="وأجل مسمى عنده"، وذلك ما بين أن يموت إلى أن يبعث. * ذكر من قال ذلك: 13054- حدثنا ابن وكيع وهناد بن السري قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن في قوله:"قضى أجلا"، قال: ما بين أن يخلق إلى أن يموت ="وأجل مسمى عنده"، قال: ما بين أن يموت إلى أن يبعث. (1) 13055 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عِنده"، كان يقول: أجل حياتك إلى أن تموت، وأجل موتك إلى أن تُبْعث. فأنت بين أجَلين من الله تعالى ذكره. 13056 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم:"قضى أجلا وأجل مسمى عنده"، قال: قضى أجل الموت، وكل نفسٍ أجلها الموت. قال: ولن يؤخر الله نفسًا   (1) الأثر: 13054 -"وكيع" هو"وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي". وأبوه: "الجراح بن مليح الرؤاسي"، مضيا في مواضع مختلفة. و"أبو بكر الهذلي" مختلف في اسمه قيل هو: "سلمى بن عبد الله بن سلمى"، وقيل: "روح بن عبد الله". ومضى برقم: 597، 8376، وهو ضعيف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 إذا جاء أجلها ="وأجل مسمى عنده"، يعني: أجل الساعة، ذهاب الدنيا، والإفضاءُ إلى الله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم قضى الدنيا، وعنده الآخرة. * ذكر من قال ذلك: 13057 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:"أجلا"، قال: الدنيا ="وأجل مسمى عنده"، الآخرة. 13058 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو عاصم، عن زكريا بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قضى أجلا"، قال: الآخرة عنده ="وأجل مسمى"، الدنيا. 13059- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أجلا"، قال: الآخرة عنده ="وأجل مسمًّى"، قال: الدنيا. 13060- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أجلا"، قال: الآخرة عنده ="وأجل مسمى"، قال: الدنيا. 13061- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن:"ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده"، قالا قضى أجل الدنيا، من حين خلقك إلى أن تموت ="وأجل مسمى عنده"، يوم القيامة. 13062 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 عن مجاهد وعكرمة:"ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده"، قال: قَضَى أجل الدنيا ="وأجل مسمى عنده"، قال: هو أجل البعث. 13063- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة:"ثم قضى أجلا"، قال: الموت ="وأجل مسمى عنده"، الآخرة. 13064- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله:"قضى أجلا وأجل مسمى عنده"، قالا قضى أجل الدنيا، منذ يوم خلقت إلى أن تموت ="وأجل مسمى عنده"، يوم القيامة. 13065- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"قضى أجلا"، قال: أجل الدنيا ="وأجل مسمى عنده"، قال: البعث. 13066- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عنده"، يعني: أجل الموت ="والأجل المسمى"، أجلُ الساعة والوقوفِ عند الله. 13067 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قضى أجلا"، قال: أمّا"قضى أجلا"، فأجل الموت ="وأجل مسمى عنده"، يوم القيامة. * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 13068 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"ثم قضى أجلا وأجل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 مسمى عنده"، قال: أمّا قوله:"قضى أجلا"، فهو النومُ، تُقْبض فيه الروح، ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة ="وأجل مسمى عنده"، هو أجل موت الإنسان. * * * وقال آخرون بما:- 13069 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب في قوله:"هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون"، قال: خلق آدم من طين، ثم خلقنا من آدم، أخذنا من ظهره، ثم أخذ الأجل والمِيثاق في أجلٍ واحد مسمًّى في هذه الحياة الدنيا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم قضى أجلَ الحياة الدنيا ="وأجلٌ مسمى عنده"، وهو أجل البَعْث عنده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى ذكره نبَّه خلقَه على موضع حُجَّته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس، إن الذي يعدِلُ به كفارُكم الآلهةَ والأندادَ، هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورًا أجساًما أحياءً، بعد إذ كنتم طينًا جمادًا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم، ليعيدكم ترابًا وطينًا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم = وأجل مسمى عندَه لإعادتكم أحياءً وأجسامًا كالذي كنتم قبل مماتكم. (1) وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، [سورة البقرة: 28] . * * *   (1) انظر تفسير"الأجل" فيما سلف 5: 7/6: 43، 76/8: 548. = وتفسير"مسمى" فيما سلف 6: 43. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم أنتم تَشكُّون في قدرة من قَدَر على خلق السماوات والأرض، وإظلام الليل وإنارة النهار، وخلقكم من طين حتى صيَّركم بالهيئة التي أنتم بها = على إنشائه إياكم من بعد مماتكم وفنائكم، (1) وإيجاده إيّاكم بعد عدمكم. * * * و"المرية" في كلام العرب، هي الشك. وقد بيّنت ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وقد:- 13070 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ثم أنتم تمترون"، قال: الشك. قال: وقرأ قول الله: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [سورة هود: 17] ، قال: في شكٍّ منه. 13071 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ثم أنتم تمترون"، بمثله. * * *   (1) في المطبوعة: "وعلى إنشائه" بزيادة الواو، وهي مفسدة وهي خطأ صرف، لم يفهم سياق أبي جعفر، فإن قوله: "على إنشائه إياكم" متعلق بقوله: "ثم أنتم تشكون في قدرة من قدر. . ."، أي: تشكون في قدرة من فعل ذلك، على إنشائه إياكم. (2) انظر تفسير"الامتراء" فيما سلف 3: 190، 191/6: 472. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 القول في تأويل قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذي له الألوهةُ التي لا تنبغي لغيره، المستحقَّ عليكم إخلاصَ الحمد له بآلائه عندكم، أيها الناس، الذي يعدل به كفاركم مَن سواه، هو الله الذي هو في السماوات وفي الأرض يعلم سِرَّكم وجَهْركم، فلا يخفى عليه شيء. يقول: فربكم الذي يستحقُّ عليكم الحمدَ، ويجب عليكم إخلاصُ العبادة له، هو هذا الذي صفته = لا من لا يقدر لكم على ضرّ ولا نفع، ولا يعمل شيئًا، ولا يدفع عن نفسه سُوءًا أريد بها. * * * وأما قوله:"ويعلم ما تكسبون"، يقول: ويعلم ما تَعمَلون وتجرَحُون، فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما تأتي هؤلاء الكفار الذين بربهم يعدِلون أوثانَهم وآلهتهم ="آية من آيات ربهم"، يقول: حجّة وعلامة ودلالة من حُجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته، وحقيقة نبوتك، يا محمد، وصدق ما أتيتهم به من عندي (2) ="إلا كانوا عنها معرضين"، يقول: إلا   (1) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 10: 297، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 أعرضوا عنها، يعني عن الآية، فصدّوا عن قَبُولها والإقرار بما شهدت على حقيقته ودلّت على صحته، جهلا منهم بالله، واغترارًا بحلمه عنهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقد كذب هؤلاء العادلون بالله، الحقَّ لما جاءهم، وذلك"الحق"، هو محمد صلى الله عليه وسلم (2) كذّبوا به، وجحدوا نبوَّته لما جاءهم. قال الله لهم متوعّدًا على تكذيبهم إياه وجحودِهم نبوَّته: سوف يأتي المكذّبين بك، يا محمد، من قومِك وغيرهم ="أنْباء ما كانوا به يستهزءون"، يقول: سوف يأتيهم أخبارُ استهزائهم بما كانوا به يستهزئون من آياتي وأدلَّتي التي آتيتهم. (3) ثم وفى لهم بوعيده لمّا تمادَوا في غيِّهم، وعَتْوا على ربهم، فقتلتهم يوم بدرٍ بالسَّيف. * * *   (1) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 9: 310، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الحق" فيما سلف 10: 377، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"النبأ" فيما سلف 10: 391، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير"الاستهزاء" فيما سلف 1: 301 - 303. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم يرَ هؤلاء المكذبون بآياتي، الجاحدون نبوّتك، كثرةَ من أهلكت من قبلهم من القُرون = وهم الأمم = الذين وطَّأت لهم البلادَ والأرض توطئة لم أوطِّئها لهم، (1) وأعطيتهم فيها ما لم أعطهم؟ كما:- 13072 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم"، يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم. * * * قال أبو جعفر: أمطرت فأخرجت لهم الأشجارُ ثمارها، وأعطتهم الأرض رَيْع نَباتها، وجابوا صخورَ جبالها، ودرَّت عليهم السماء بأمطارها، وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني، فغمَطُوا نعمة ربهم، وعصوا رسولَ خالقهم، وخالفوا أمرَ بارئهم، وبغَوْا حتى حقَّ عليهم قَوْلي، فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم، وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم، وأهلكت بعضهم بالرَّجفة، وبعضهم بالصيحة، وغير ذلك من أنواع العذاب. * * * ومعنى قوله:"وأرسلنا السماء عليهم مدرارًا"، المطرَ. ويعني بقوله:"مدرارًا"، غزيرة دائمةً ="وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين"، يقول: وأحدثنا من بعد   (1) في المطبوعة: "وطأة لم أوطئها"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 الذين أهلكناهم قرنًا آخرين، فابتدأنَا سِواهم. * * * فإن قال قائل: فما وجهُ قوله:"مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم"؟ ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غَيَبٍ بقوله:"ألم يروا كم أهلكنا من قَبَلهم من قرن"؟ قيل: إن المخاطب بقوله:"ما لم نمكن لكم"، هو المخبر عنهم بقوله:"ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن"، ولكن في الخبر معنى القول = ومعناه: قُلْ، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحقِّ لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرْن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم. والعرب إذا أخبرت خبرًا عن غائبٍ، وأدخلت فيه"قولا"، فعلت ذلك، فوجهت الخبرَ أحيانًا إلى الخبر عن الغائب، وأحيانًا إلى الخطاب، فتقول:"قلت لعبد الله: ما أكرمه"، و"قلت لعبد الله: ما أكرمك"، وتخبر عنه أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، ثم تعود إلى الخطاب. وتخبر على وجه الخطاب له، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب. وذلك في كلامها وأشعارها كثيرٌ فاشٍ. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وقد كان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: كأنه أخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطبه معهم. وقال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [سورة يونس: 22] ، فجاء بلفظ الغائب، وهو يخاطب، لأنه المخاطَب. * * *   (1) انظر ما سلف 1: 153 - 154/ 2: 293، 294، 357، 388/ 3: 170/ 6: 564. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 القول في تأويل قوله: {وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) } قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الأوثانَ والآلهة والأصنام. يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقهون الآيات، أم كيف يستدِلُّون على بُطْلان ما هم عليه مُقِيمون من الكفر بالله وجحودِ نبوتك، بحجج الله وآياته وأدلته، وهم لعنادهم الحقَّ وبعدِهم من الرشد، لو أنزلت عليك، يا محمد، الوحيَ الذي أنزلته عليك مع رسولي، في قِرْطاس يعاينونه ويمسُّونه بأيديهم، (1) وينظرون إليه ويقرءونه منه، معلَّقًا بين السماء والأرض، بحقيقة ما تدعوهم إليه، وصحَّةِ ما تأتيهم به من توحيدي وتنزيلي، لقال الذين يعدلُون بي غيري فيشركون في توحيدِي سواي:"إنْ هذا إلا سحرٌ مبينٌ"، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرتَ به أعيننا، ليست له حقيقة ولا صحة (2) ="مبين"، يقول: مبين لمن تدبّره وتأمَّله أنه سحر لا حقيقة له. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13073 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم"، قال: فمسوه ونظروا إليه، لم يصدِّقوا به.   (1) انظر تفسير"لمس" فيما سلف 8: 399/ 10: 83. (2) انظر تفسير"السحر" فيما سلف 2: 436 - 442. (3) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 10: 575، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 13074 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولو نزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم"، يقول: فعاينوه معاينة ="لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحرٌ مبين". 13075 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولو نزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم"، يقول: لو نزلنا من السماء صُحُفًا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم، لزادهم ذلك تكذيبًا. 13076- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو نزلنا عليك كتابًا في قرطاس"، الصحف. 13077- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"في قرطاس"، يقول: في صحيفة ="فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إنْ هذا إلا سحرٌ مبين". * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المكذبون بآياتي، العادلون بي الأندادَ والآلهةَ، يا محمد، لك لو دعوتهم إلى توحيدي والإقرار بربوبيتي، وإذا أتيتهم من الآيات والعبر بما أتيتهم به، واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعتَ به عذرَهم: هَلا نزل عليك ملك من السماء في صورته، (1) يصدّقكَ على ما جئتنا به، ويشهد لك بحقيقة ما تدَّعي من أنَّ الله أرسلك إلينا!   (1) انظر تفسير"لولا" فيما سلف 2: 552، 553/10: 448 وما سيأتي ص: 343. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن المشركين في قِيلهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [سورة الفرقان: 7] ، ="ولو أنزلنا مَلَكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون"، يقول: ولو أنزلنا ملكًا على ما سألوا، ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي، لجاءهم العذابُ عاجلا غيرَ آجل، (1) ولم يُنْظروا فيؤخَّروا بالعقوبة مراجعةَ التوبة، (2) كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الآيات، ثم كفرت بعد مجيئها، من تعجيل النقمة، وترك الإنظار، كما:- 13078 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون"، يقول: لجاءهم العذاب. 13079 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون"، يقول: ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكًا، ثم لم يؤمنوا، لم يُنْظَروا. 13080 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"لولا أنزل عليه ملك" في صورته ="ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر"، لقامت الساعة. 13081 - حدثنا ابن وكيع، عن أبيه قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان الثوري، عن عكرمة:"لقضي الأمر"، قال: لقامت الساعة. 13082- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر"، قال يقول: لو أنزل الله ملكًا   (1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542/4: 195/9: 164. (2) انظر تفسير"انظر" فيما سلف 3: 264/6: 577. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 ثم لم يؤمنوا، لعجل لهم العذاب. * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 13083- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، أخبرنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قوله:"ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون"، قالا لو آتاهم ملك في صورته لماتوا، ثم لم يؤخَّرُوا طرفةَ عينٍ. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 القول في تأويل قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلِين بي، القائلين: لولا أنزل على محمّدٍ ملك بتصديقه- ملكًا ينزل عليهم من السماء، يشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم باتباعه ="لجعلناه رجلا"، يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر، لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته. يقول: وإذا كان ذلك كذلك، فسواء أنزلت عليهم بذلك ملكًا أو بشرًا، إذ كنت إذا أنزلت عليهم ملكًا إنما أنزله بصورة إنسيّ، وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابتة: بأنك صادق، وأنّ ما جئتهم به حق. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13084 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"ولو جعلناه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 ملكًا لجعلناه رجلا"، يقول: ما آتاهم إلا في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة. 13085 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا"، في صورة رجل، في خَلْق رجل. 13086 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا"، يقول: لو بعثنا إليهم ملكًا لجعلناه في صورة آدم. (1) 13087 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا"، يقول: في صورة آدمي. 13088 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 13089 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا" قال: لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل، لم نرسله في صورة الملائكة. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وللبسنا عليهم": ولو أنزلنا ملكًا من السماء مصدِّقًا لك، يا محمد، شاهدًا لك عند هؤلاء العادلين بي، الجاحدين آياتِك على حقيقة نبوّتك، فجعلناه في صورة رجل من بني آدم،   (1) في المطبوعة: "آدمي"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 إذ كانوا لا يُطيقون رؤية الملك بصورته التي خلقتُه بها= التبس عليهم أمرُه، فلم يدروا أملك هو أمْ إنسيّ! فلم يوقنوا به أنَّه ملك، ولم يصدّقوا به، وقالوا:"ليس هذا ملكًا"! وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقة أمرك، وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك. * * * يقال منه:"لَبَست عليهم الأمر أَلْبِسُه لَبْسًا"، إذا خلطته عليهم ="ولبست الثوبَ ألبَسُه لُبْسًا". و"اللَّبوس"، اسم الثياب. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (2) 13089- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وللبسنا عليهم ما يلبسون"، يقول: لشبَّهنا عليهم. 13090 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وللبسنا عليهم ما يلبسون"، يقول: ما لبَّس قوم على أنفسهم إلا لَبَّس الله عليهم. واللَّبْس إنما هو من الناس. 13091- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وللبسنا عليهم ما يلبسون"، يقول: شبَّهنا عليهم ما يشبِّهون على أنفسهم. * * * وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول آخر، وهو ما:- 13092 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) انظر تفسير"اللبس" فيما سلف 1: 567، 568/6: 503 - 505 = وتفسير"اللباس" فيما سلف 1: 567، 568/ 3: 489، 490. (2) انظر أثرًا آخر في تفسير هذه الآية فيما سلف رقم: 882 (ج 1: 567) ، لم يذكره في الآثار المفسرة، وهو باب من أبواب اختصاره لتفسيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وللبسنا عليهم ما يلبسون"، فهم أهل الكتاب، فارقوا دينهم، وكذَّبوا رسلهم، وهو تحريفُ الكلام عن مواضعه. 13093 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"وللبسنا عليهم ما يلبسون"، يعني: التحريفَ، هم أهل الكتاب، فرقوا كتبهم ودينَهم، وكذَّبوا رسلهم، فلبَّس الله عليهم ما لبَّسوا على أنفسهم. * * * وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الآيات من أوّل السورة، بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الأوثان، أشبهُ منها بأمرِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، مسليًّا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبةَ ما يلقى منهم من أذىَ الاستهزاء به، والاستخفاف في ذات الله: هَوِّنْ عليك، يا محمد، ما أنت لاقٍ من هؤلاء المستهزئين بك، المستخفِّين بحقك فيّ وفي طاعتي، وامضِ لما أمرتك به من الدُّعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيِّهم، وأصَرُّوا على المقام على كفرهم، نسلك بهم سبيلَ أسلافهم من سائر الأمم من غيرهم، من تعجيل النقمة   (1) انظر ما سلف ص: 254. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 لهم، وحلول المَثُلاثِ بهم. فقد استهزأت أمم من قبلك برسلٍ أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك، وفعلوا مثل ما فعل قومُك بك ="فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون"، يعني بقوله:"فحاق"، فنزل وأحاط بالذين هزئوا من رسلهم ="ما كانوا به يستهزئون"، يقول: العذابُ الذي كانوا يهزءون به، وينكرون أن يكون واقعًا بهم على ما أنذرتهم رسلهم. * * * يقال منه:"حاق بهم هذا الأمر يَحِيقُ بهم حَيْقًا وحُيُوقًا وحَيَقَانًا". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13094- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فحاق بالذين سخروا منهم"، من الرسل ="ما كانوا به يستهزئون"، يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"قل"، يا محمد = لهؤلاء العادلين بيَ الأوثانَ والأندادَ، المكذِّبين بك، الجاحدين حقيقة ما جئتهم به من عندي="سيروا في الأرض"، يقول: جولوا في بلاد المكذِّبين رسلَهم، الجاحدين آياتي مِنْ قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس ="ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين"، يقول: ثم انظروا كيف أعقَبَهم تكذيبهم ذلك، الهلاكَ والعطبَ وخزيَ الدنيا وعارَها، وما حَلَّ بهم من سَخَط الله عليهم، من البوار وخراب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 الديار وعفوِّ الآثار. فاعتبروا به، إن لم تنهكم حُلُومكم، ولم تزجركم حُجج الله عليكم، عمَّا أنتم [عليه] مقيمون من التكذيب، (1) فاحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحلّ بكم مثلُ الذي حلّ بهم. * * * وكان قتادة يقول في ذلك بما:- 13095- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين"، دمَّر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيَّرهم إلى النار. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم ="لمن ما في السماوات والأرض"، يقول: لمن ملك ما في السماوات والأرض؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبدَ كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه = لا للأوثان والأنداد، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضُرًّا. وقوله:"كتب على نفسه الرحمة"، يقول: قضى أنَّه بعباده رحيم، لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة. (2) وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة.   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام. (2) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 10: 359، تعليق: 1. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي، الجاحدين نبوّتك، يا محمد، إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم، وإني قد قضيت في خَلْقي أنّ رحمتي وسعت كل شيء، كالذي:- 13096 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما فرغ الله من الخلق، كتب كتابًا:"إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي". (1) 13097 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: إنّ الله تعالى ذكره لما خلق السماء والأرض، خلق مئة رحمةٍ، كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض. فعنده تسع وتسعون رحمةً، وقسم رحمة بين الخلائق. فبها يتعاطفون، وبها تشرب الوَحْش والطير الماءَ. فإذا كان يوم ذلك، (2) قصرها الله على المتقين، وزادهم تسعًا وتسعين. (3) 13098- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن أبي عثمان، عن سلمان، نحوه = إلا أن ابن أبي عدي لم يذكر في حديثه:"وبها تشرب الوحش والطير الماء". (4)   (1) الأثر: 13096 - إسناده صحيح. وهو حديث مشهور. "ذكوان"، هو"أبو صالح". ورواه البخاري (الفتح 13: 325) من طريق أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بغير هذا اللفظ، مطولا. وانظر تعليق أخي السيد أحمد على المسند رقم: 7297، 7491، 7520. (2) في المطبوعة: "فإذا كان يوم القيامة، قصرها"، وأثبت ما في المخطوطة. وأما سائر المراجع فذكرت ما كان في المطبوعة. والذي في المخطوطة جائز، فإن"ذلك" إشارة إلى معهود معروف، وهو يوم القيامة. (3) الأثران: 13097، 13098 -"داود"، هو"داود بن أبي هند" مضى مرارًا. و"أبو عثمان"، هو"أبو عثمان النهدي": "عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي النهدي"، تابعي ثقة، أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب. (4) الأثران: 13097، 13098 -"داود"، هو"داود بن أبي هند" مضى مرارًا. و"أبو عثمان"، هو"أبو عثمان النهدي": "عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي النهدي"، تابعي ثقة، أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 13099- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات والأرض، ثم خلق مئة رحمة = أو: جعل مئة رحمة = قبل أن يخلق الخلق. ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال: فبها يتراحمون، وبها يتباذلون، وبها يتعاطفون، وبها يتزاورون، (1) وبها تحنُّ الناقة، وبها تثُوجُ البقرة، (2) وبها تيعر الشاة، (3) وبها تتَّابع الطير، وبها تتَّابع الحيتان في البحر. (4) فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده. ورحمته أفضل وأوسع. 13100- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان في قوله:"كتب على نفسه الرحمة"، الآية قال: إنا نجد في التوراة عَطْفتين= ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: (5) "وبها تَتَابع الطير، وبها تَتَابع الحيتان في البحر". (6)   (1) في المخطوطة، فوق"يتزاورون"، حرف (ط) ، دلالة على الشك أو الخطأ. ولا أدري ما أراد بذلك، والذي في المخطوطة والمطبوعة، مثله في الدر المنثور. (2) في المطبوعة: "تنئج البقرة"، وفي الدر المنثور: "تنتج البقرة"، وهو خطأ. والذي في المطبوعة، صواب في المعنى. يقال: "نأج الثور ينئج"، إذا صاح. وأما الذي في المخطوطة، فهو صواب أيضًا، ولذلك أثبته، يقال: "ثاجت البقرة تثاج وتثوج، ثوجًا وثواجًا": صوتت. قال صاحب اللسان: "وقد يهمز، وهو أعرف. إلا أن ابن دريد قال: ترك الهمز أعلى". (3) "يعرت الشاة تيعر يعارًا": صاحت. (4) أنا في شك في قوله"تتابع الطير" و"تتابع الحيتان"، ولكن هكذا هو المطبوعة والمخطوطة، وهو معنى شبيه بالاستقامة. وانظر التعليق التالي. (5) في المطبوعة: "إلا أنه ما قال"، زاد"ما"، لأنه استشكل عليه الكلام، فإن الذي قاله في هذا الخبر، هو الذي قاله في الخبر السالف. والظاهر والله أعلم أن الأولى كما ضبطتها هناك"تتابع" (بفتح ثم تاء مفتوحة مشددة) وأن هذه الثانية"تتابع" (بفتح التاء الثانية غير مشددة) على حذف إحدى التاءات الثلاث. (6) الأثران: 13099، 13100 - خرجهما السيوطي في الدر المنثور 3: 6، وقال: "أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سلمان. . ."، وساق الخبر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 13101 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال ابن طاوس، عن أبيه: إن الله تعالى ذكره لما خلق الخلق، لم يعطف شيء على شيء، حتى خلق مئة رحمة، فوضع بينهم رحمة واحدة، فعطف بعضُ الخلق على بعض. 13102- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، بمثله. 13103 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، وأخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة، حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عز وجلّ من القضاء بين خلقه، أخرج كتابًا من تحت العرش فيه:"إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين"، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة = أو قال:"مِثلا أهل الجنة"، ولا أعلمه إلا قال:"مثلا"، وأما"مثل" فلا أشك = مكتوبًا ها هنا، وأشار الحكم إلى نحره،"عتقاء الله"، فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله، فإن الله يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [سورة المائدة: 37] ؟ قال: ويلك! أولئك أهلها الذين هم أهلها. 13104- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة، أخرج الله كتابًا من تحت العرش = ثم ذكر نحوه، غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله:"يريدون أن يخرجوا من النار"؟ = وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى. 13105- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 قضى الله الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش:"إنّ رحمتي سبقت غضبي". (1) 13106 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة، فأهبط رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجن والإنس، وطائر السماء، وحيتان الماء، ودوابّ الأرض وهوامّها. وما بين الهواء. واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة، حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمةَ التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا، (2) فحواها إلى ما عنده، فجعلها في قلوب أهل الجنة، وعلى أهل الجنة. (3) 13107 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمرو: إن لله مئة رحمة، أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة، يتراحم بها الجنّ والإنس، والطير والبهائم وهوامُّ الأرض. 13108 - حدثنا محمد بن عوف قال، أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج قال، حدثنا صفوان بن عمرو قال، حدثني أبو المخارق زهير بن سالم قال، قال عمر لكعب: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد، ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت (4) "أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي". (5) * * *   (1) الأثر: 13105 - رواه أحمد في مسنده بهذا الإسناد رقم: 8112، ولفظه: "غلبت غضبي". وانظر تعليق أخي السيد أحمد عليه هناك. وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 13096. (2) "اختلج الشيء": جذبه وانتزعه. (3) الأثر: 13106 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 6، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ. (4) هكذا في المطبوعة، وفي الدر المنثور، "يتلوها"، وهي في المخطوطة كذلك، إلا أنها غير منقوطة، وأنا في ريب من أمر هذا الحرف، أخشى أن يكون محرفًا عن شيء آخر لم أتبينه، وإن كان المعنى مستقيما على ضعف فيه. (5) الأثر: 13108 -"محمد بن عوف بن سفيان الطائي"، شيخ الطبري مضى، برقم: 5445، 12194. و"أبو المغيرة": عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، مضى برقم: 10371، 12194. و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي"، مضى برقم: 7009، 12807. و"أبو المخارق": "زهير بن سالم العنسي". ذكره ابن حبان في الثقات، "روى له أبو داود وابن ماجه حديثًا واحدًا". وقال الدارقطني: "حمصي، منكر الحديث"، مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/390، وابن أبي حاتم 1/2/587، وميزان الاعتدال 1: 353. وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 6، ولم ينسبه لغير ابن جرير. وهو خبر كما ترى، عن كعب الأحبار، مشوب بما كان من دأبه في ذكر الإسرائليات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 القول في تأويل قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} قال أبو جعفر: وهذه"اللام" التي في قوله:"ليجمعنكم"، لام قسم. * * * ثم اختلف أهل العربية في جالبها، فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت"الرحمة" غاية كلام، ثم استأنفت بعدها:"ليجمعنكم". قال: وإن شئت جعلتَه في موضع نصب = يعني: كتب ليجمعنكم = كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام: 54] ، يريد: كتب أنه من عمل منكم = قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جوابُ كلام الأيمان ب"أن" المفتوحة وب"اللام"، (1) فيقولون:"أرسلت إليه أن يقوم"،"وأرسلت إليه ليقومن". قال: وكذلك قوله: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ، [سورة يوسف: 35] . قال: وهو في القرآن كثير. ألا ترى أنك لو قلت:"بدا لهم أن يسجنوه"، لكان صوابًا؟ (2)   (1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وهو في معاني القرآن"جواب الأيمان"، وهو الأجود. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 328. وهذا نص كلامه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصبت"لام""ليجمعنكم"، لأن معنى:"كتب" [: فرضَ، وأوجب، وهو بمعنى القسم] ، (1) كأنه قال: والله ليجمعنكم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يكون قوله:"كتب على نفسه الرحمة"، غايةً، وأن يكون قوله:"ليجمعنكم"، خبرًا مبتدأ = ويكون معنى الكلام حينئذ: ليجمعنكم الله، أيها العادلون بالله، ليوم القيامة الذي لا ريب فيه، لينتقم منكم بكفركم به. وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال"كتب" في"ليجمعنكم"، لأن قوله:"كتب" قد عمل في الرحمة، فغير جائز، وقد عمل في"الرحمة"، أن يعمل في"ليجمعنكم"، لأنه لا يتعدَّى إلى اثنين. * * * فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ، [سورة الأنعام: 54] بفتح"أنّ"؟ قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك، فإن"أنّ" بيانٌ عن"الرحمة"، وترجمة عنها. لأن معنى الكلام: كتب على نفسه الرحمة أن يرحم [من تاب] من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة ويعفو، (2) و"الرحمة"، يترجم عنها ويبيَّن معناها بصفتها. وليس من صفة الرحمة"ليجمعنكم إلى يوم القيامة"، فيكون مبينًا به عنها. فإذ كان ذلك كذلك، فلم يبق إلا أن تنصب بنية تكرير"كتب" مرة أخرى معه، ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك، فيوجَّه إلى ما ليس بموجود في ظاهره.   (1) الزيادة التي بين القوسين، استظهرتها من سياق التفسير، ليستقيم الكلام. وهي ساقطة من المخطوطة والمطبوعة. (2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام، استظهرتها من معنى الآية. وانظر ما سيأتي في تفسيرها ص: 392، 393. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 وأما تأويل قوله:"لا ريب فيه"، فإنه لا شك فيه، (1) يقول: في أنّ الله يجمعكم إلى يوم القيامة، فيحشركم إليه جميعًا، ثم يؤتى كلَّ عامل منكم أجرَ ما عمل من حسن أو سيئ. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"الذين خسروا أنفسهم"، العادلين به الأوثانَ والأصنامَ. يقول تعالى ذكره: ليجمعن الله ="الذين خسروا أنفسهم"، يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندَّ والعَدِيل، فأوبقوها بإستيجابهم سَخَط الله وأليم عقابه في المعاد. (2) * * * وأصل"الخسار"، الغُبْنُ. يقال منه": خسر الرجل في البيع"، إذا غبن، كما قال الأعشى: لا يَأخُذُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ ... وَلا يُبَالِي خَسَرَ الخَاسِر (3)   (1) انظر تفسير"الريب" فيما سلف 8: 592، تعليق: 5، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة والمخطوطة "بإيجابهم سخط الله" وهو لا يستقيم صوابه ما أثبت. (3) ديوانه: 105، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 187. وهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة"خسر الخاسر"، ورواية ديوانه وغيره: "غَبَنَ الْخَاسِر" بتحريك الباء بالفتح. والذي نص عليه أصحاب اللغة أن"الغبن" بفتح وسكون، في البيع، وأن"الغبن" (بفتحتين) في الرأي، وهو ضعفه. فكأن ما جاء في رواية ديوان الأعشى، ضرورة، حركت الباء وهي ساكنة إلى الفتح. وأما رواية أبي جعفر، فهي على الصواب يقال: "خسر خسرًا (بفتح فسكون) ، وخسرًا (بفتحتين) ." وهذا البيت من قصيدته في هجاء علقمة بن علاثة ومدح عامر بن الطفيل، ذكرت خبرها في أبيات سلفت منها 1: 474/2: 131/5: 477، 478. وقبل البيت: حَكَّمْتُمُونِي، فَقَضَى بَيْنَكُمْ ... أَبْلَجُ مِثْلُ القَمَرِ البَاهِرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وموضوع"الذين" في قوله:"الذين خسروا أنفسهم"، نصبٌ على الرد على"الكاف والميم" في قوله:"ليجمعنكم"، على وجه البيان عنها. وذلك أنّ الذين خسروا أنفسهم، هم الذين خوطبوا بقوله:" ليجمعنّكم". * * * وقوله:"فهم لا يؤمنون"، يقول:"فهم"، لإهلاكهم أنفسهم وغَبْنهم إياه حظَّها ="لا يؤمنون"، أي لا يوحِّدون الله، ولا يصدِّقون بوعده ووعيده، ولا يقرُّون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يؤمن هؤلاء العادلون بالله الأوثانَ، فيخلصوا له التوحيد، ويُفْرِدوا له الطاعة، ويقرّوا بالألوهية، جهلا ="وله ما سكن في الليل والنهار"، يقول: وله ملك كل شيء، لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكنٌ في الليل والنهار. فمعلوم بذلك أن معناه ما وصفنا="وهو السميع"، يقول: وهو السميع ما يقول هؤلاء المشركون فيه، من ادّعائهم له شريكًا، وما يقول غيرهم من خلقه (2) ="العليم"، بما يضمرونه في أنفسهم، وما يظهارونه بجوارحهم، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو يحصيه عليهم، ليوفّي كل   (1) انظر تفسير"الخسار" فيما سلف 10: 409، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "من خلاف ذلك"، غير ما في المخطوطة بسوء رأيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 إنسان ثوابَ ما اكتسبَ، وجزاء ما عمل. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله:"سكن"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13109 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وله ما سكن في الليل والنهار"، يقول: ما استقرَّ في الليل والنهار. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثانَ والأصنامَ، والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك، الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان: أشيئًا غيرَ الله تعالى ذكره:"أتخذ وليًّا"، أستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث، (1) كما:- 13110 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل أغير الله اتخذ وليًّا"، قال: أما"الولي"، فالذي يتولَّونه ويقرّون له بالربوبية. * * * ="فاطر السماوات والأرض"، يقول: أشيئًا غير الله فاطر السماوات والأرض أتخذ وليًّا؟ ف"فاطر السماوات"، من نعت"الله" وصفته، ولذلك خُفِض. (2)   (1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف 10: 424، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 328، 329. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 ويعني بقوله:"فاطر السماوات والأرض"، مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما، كالذي:- 13111 - حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما"فاطر السماوات والأرض"، حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه:"أنا فَطَرتها"، يقول: أنا ابتدأتها. 13112 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فاطر السماوات والأرض"، قال: خالق السماوات والأرض. 13113 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاطر السماوات والأرض"، قال: خالق السماوات والأرض. * * * يقال من ذلك:"فطرها الله يَفطُرُها وَيفطِرها فَطرًا وفطورًا" (1) = ومنه قوله: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [سورة الملك: 3] ، يعني: شقوقًا وصدوعًا. يقال:"سيف فُطارٌ"، إذا كثر فيه التشقق، وهو عيب فيه، ومنه قول عنترة: وَسَيْفِي كَالْعَقِيقَةِ فَهْوَ كِمْعِي، ... سِلاحِي، لا أَفَلَّ وَلا فُطَارَا (2)   (1) هذه العبارة عن معنى"فطر"، فاسدة جدًا، ولا شك عندي في أن الكلام قد سقط منه شيء، فتركته على حاله، مخافة أن يكون في نص أبي جعفر شيء لم تقيده كتب اللغة. ومن شاء أن يستوفي ذلك، فليراجع كتب اللغة. (2) ديوانه، في أشعار الستة الجاهلين: 384، وأمالي ابن الشجري 1: 19، واللسان (فطر) (عقق) (كمع) (فلل) ، من أبياته التي قالها وتهدد بها عمارة بن زياد العبسي، وكان يحسد عنترة على شجاعته، ويظهر تحقيره، ويقول لقومه بني عبس: "إنكم قد أكثرتم من ذكره، ولوددت أني لقيته خاليا حتى أريحكم منه، وحتى أعلمكم أنه عبد"! فقال عنترة: أحَوْلِي تَنْفُضُ اسْتُكَ مِذْرَوَيهَا ... لِتَقْتُلَنِي? فَهَا أنَا ذَا، عُمَارَا! مَتَى ما تَلْقَنِى خِلْوَينَ، تَرْجُفْ ... رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وتُسْتَطَارَا وَسَيْفِي صَارِمٌ قَبَضَتْ عَلَيْهِ ... أشَاجِعُ لا تَرَى فِيهَا انْتِشَارَا وسَيْفِي كالعَقِيقِة. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و"العقيقة": شقة البرق، وهو ما انعق منه، أي: تشقق. و"الكمع" و"الكميع" الضجيع. و"الأفل": الذي قد أصابه الفل، وهو الثلم في حده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 ومنه يقال:"فَطَر ناب الجمل"، إذا تشقق اللحم فخرج، ومنه قوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [سورة الشورى: 5] ، أي: يتشققن، ويتصدعن. * * * وأما قوله:"وهو يطعم ولا يطعم"، فإنه يعني: وهو يرزق خلقه ولا يرزق، كما:- 13114 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" وهو يطعم ولا يطعم"، قال: يَرْزق، ولا يُرزق. * * * وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: (1) (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ) ، أي: أنه يُطعم خلقه، ولا يأكل هو = ولا معنى لذلك، لقلة القراءة به. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أنه كان يقول ذلك"، وهو خلط شديد، صواب قراءته ما أثبت. وهذه القراء التالية، ذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات: 36، ونسبها إلى الأعمش، وذكرها أبو حيان في تفسيره 4: 85، 86، ونسبها أيضًا إلى مجاهد وابن جبير، وأبي حيوة، وعمرو بن عبيد، وأبي عمرو، في رواية عنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله، ويحثّونك على عبادتها: أغير الله فاطر السماوات والأرض، وهو يرزقني وغيري ولا يرزقه أحد، أتخذ وليًّا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضًا: إني أمرني ربي:"أن أكون أول من أسلم" يقول: أوّل من خضع له بالعبودية، وتذلّل لأمره ونهيه، وانقاد له من أهل دهرِي وزماني ="ولا تكوننَّ من المشركين"، يقول: وقل: وقيل لي: لا تكونن من المشركين بالله، الذين يجعلون الآلهة والأنداد شركاء. = وجعل قوله:"أمرت" بدلا من:"قيل لي"، لأن قوله"أمرت" معناه:"قيل لي". فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين= فاجتزئ بذكر"الأمر" من ذكر"القول"، إذ كان"الأمر"، معلومًا أنه"قول". * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله، الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إنّ ربي نهاني عن عبادة شيء سواه ="وإني أخاف إن عصيت ربي"، فعبدتها ="عذاب يوم عظيم"، يعني: عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى ب"العظم" لعظم هَوْله، وفظاعة شأنه. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 القول في تأويل قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) } قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، بضم"الياء" وفتح"الراء"، بمعنى: من يُصرف عنه العذاب يومئذ. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: (مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ) ، بفتح"الياء" وكسر"الراء"، بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئذ. * * * وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي، قراءة من قرأه: (يَصْرِفْ عَنْهُ) ، بفتح"الياء" وكسر"الراء"، لدلالة قوله:"فقد رحمه" على صحة ذلك، وأنّ القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله:"من يصرف"، على وجه ما لم يسمَّ فاعله، كان الوجه في قوله:"فقد رحمه" أن يقال:"فقد رُحِم" غير مسمى فاعله. وفي تسمية الفاعل في قوله:" فقد رحمه"، دليل بيِّن على أن ذلك كذلك في قوله:"من يَصرف عنه". * * * وإذا كان ذلك هو الوجه الأولَى بالقراءة، فتأويل الكلام: منْ يصرف عنه من خلقه يومئذ عذابه فقد رحمه ="وذلك هو الفوز المبين"، ويعني بقوله:"وذلك"، وصرفُ الله عنه العذاب يوم القيامة، ورحمته إياه ="الفوز"، أي: النجاة من الهلكة، والظفر بالطلبة (1) ="المبين"، يعني الذي بيَّن لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطَّلِبة. (2)   (1) انظر تفسير"الفوز" فيما سلف ص: 245، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 265، تعليق 3، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 وبنحو الذي قلنا في قوله:"من يصرف عنه يومئذ" قال أهل التأويل: * ذكر من قال ذلك: 13115 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله"من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه"، قال: من يصرف عنه العذاب. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن يصبك الله (1) ="بضر"، يقول: بشدة في دنياك، وشظَف في عيشك وضيق فيه، (2) فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أوّل من أسلم لأمره ونهيه، وأذعن له من أهل زمانك، دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام، ودون كل شيء سواها من خلقه ="وإن يمسسك بخير"، يقول: وإن يصبك بخير، أي: برخاء في عيش، وسعة في الرزق، وكثرة في المال، فتقرّ أنه أصابك بذلك ="فهو على كل شيء قدير"، يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك، فهو على كل شيء قدير (3) هو القادر على نفعك وضرِّك، وهو على كل شيء يريده قادر، لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه، ليس كالآلهة الذليلة المَهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها، ولا دفع ضر عنها ولا غيرها. يقول تعالى ذكره: فكيف   (1) انظر تفسير"المس" فيما سلف 10: 482، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الضر" فيما سلف 7: 157/10: 334. (3) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 تعبد من كان هكذا، أم كيف لا تخلص العبادة، وتقرُّ لمن كان بيده الضر والنفع، والثواب والعقاب، وله القدرة الكاملة، والعزة الظاهرة؟ * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وهو"، نفسَه، يقول: والله الظاهر فوق عباده (1) = ويعني بقوله:"القاهر"، المذلِّل المستعبد خلقه، العالي عليهم. وإنما قال:"فوق عباده"، لأنه وصف نفسه تعالى ذكره بقهره إياهم. ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه. فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عبادَه، المذلِّلهم، العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم، وهم دونه ="وهو الحكيم"، يقول: والله الحكيم في علِّوه على عباده، وقهره إياهم بقدرته، وفي سائر تدبيره (2) ="الخبير"، بمصالح الأشياء ومضارِّها، الذي لا يخفي عليه عواقب الأمور وبواديها، ولا يقع في تدبيره خلل، ولا يدخل حكمه دَخَل. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "والله القاهر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب في التفسير. (2) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) . (3) انظر تفسير (الخبير" فيما سلف من فهارس اللغة (خبر) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 القول في تأويل قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يكذّبون ويجحدون نبوَّتك من قومك: أيُّ شيء أعظم شهادة وأكبر؟ ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة:"الله"، الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في [شهادة] غيره من خلقه من السهو والخطأ، والغلط والكذب. (1) ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الأشياء شهادة، شهيدٌ بيني وبينكم، بالمحقِّ منا من المبطل، والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه، وقد رضينا به حكمًا بيننا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل: * ذكر من قال ذلك: 13116 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"أيّ شيء أكبر شهادة"، قال: أمر محمد أن يسأل قريشًا، ثم أمر أن يخبرهم فيقول:"الله شهيد بيني وبينكم". 13117- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. * * *   (1) الزيادة بين القوسين لا بد منها للسياق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 القول في تأويل قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك:"الله شهيد بيني وبينكم" ="وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به" عقابَه، وأُنذر به من بَلَغه من سائر الناس غيركم = إن لم ينته إلى العمل بما فيه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والإيمان بجميعه = نزولَ نقمة الله به. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 13118 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أيّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا أيها الناس، بلِّغوا ولو آية من كتاب الله، فإنه من بَلَغه آيةٌ من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله، أخذه أو تركه. (2) 13119- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لأنذركم به ومن بلغ"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلِّغوا عن الله، فمن بلغه آيه من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله. 13120 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي   (1) قوله: "نزول" منصوب، مفعول به لقوله قبله: "وأنذر به من بلغه". = وانظر تفسير"الوحي" فيما سلف ص: 217، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المخطوطة: "أخذه أو تاركه"، وجائر أن تقرأ: "آخذه أو تاركه". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 = عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي:"لأنذركم به ومن بلغ"، قال: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ:"ومن بلغ أئنكم لتشهدون". 13121 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح قال: سألت ليثًا: هل بقي أحدٌ لم تبلغه الدعوة؟ قال: كان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآنُ فهو داعٍ، وهو نذير. ثم قرأ:"لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون". 13122 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن بلغ"، من أسلم من العجم وغيرهم. 13123- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13124- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن يزيد قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب في قوله:"لأنذركم به ومن بلغ"، قال: من بلغه القرآن، فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم. 13125 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به"، يعني أهل مكة ="ومن بلغ"، يعني: ومن بلغه هذا القرآن، فهو له نذير. 13126- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت سفيان الثوري يحدّث، لا أعلمه إلا عن مجاهد: أنه قال في قوله:"وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به"، العرب ="ومن بلغ"، العجم. 13127 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 حدثنا أسباط، عن السدي:"لأنذركم به ومن بلغ"، أما"من بلغ"، فمن بلغه القرآن فهو له نذير. 13128 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ"، قال يقول: من بلغه القرآن فأنا نذيره. وقرأ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف: 158] . قال: فمن بلغه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم نذيره. * * * قال أبو جعفر: فمعنى هذا الكلام: لأنذركم بالقرآن، أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم. * * * ف"من" في موضع نصب بوقوع"أنذر" عليه،"وبلغ" في صلته، وأسقطت"الهاء" العائدة على"من" في قوله:"بلغ"، لاستعمال العرب ذلك في صلات"مَن" و"ما" و"الذي". (1) * * * القول في تأويل قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين، الجاحدين نبوَّتك، العادلين بالله، ربًّا غيره:"أئنكم"، أيها المشركون ="لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى"، يقول: تشهدون أنّ معه معبودات غيره من الأوثانَ والأصنام. * * * وقال:"أُخْرَى"، ولم يقل"أخَر"، و"الآلهة" جمع، لأن الجموع يلحقها،   (1) انظر معاني القرآن 1: 329. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 التأنيث، (1) كما قال تعالى: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى [سورة طه: 51] ، ولم يقل:"الأوَل" ولا"الأوَّلين". (2) * * * ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد ="لا أشهد"، بما تشهدون: أن مع الله آلهة أخرى، بل أجحد ذلك وأنكره ="قل إنما هو إله واحد"، يقول: إنما هو معبود واحد، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة ="وإنني برئ مما تشركون"، يقول: قل: وإنني بريء من كلّ شريك تدعونه لله، وتضيفونه إلى شركته، وتعبدونه معه، لا أعبد سوى الله شيئًا، ولا أدعو غيره إلهًا. * * * وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود بأعيانهم، من وجه لم تثبت صحته، وذلك ما:- 13129 - حدثنا به هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، جاء النحَّام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحريّ بن عمير فقالوا: يا محمد، ما تعلم مع الله إلهًا غيرَه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو! فأنزل الله تعالى فيهم وفي قولهم:"قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم" إلى قوله:"لا يؤمنون". (3) * * *   (1) انظر تفسير"أخرى" فيما سلف 3: 459/6: 173. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 329. (3) الأثر: 13129 - سيرة ابن هشام 2: 217، وهو تابع الأثر السالف رقم: 12284.هذا، وقد مر هذا الإسناد مئات من المرات، وهو إسناد أبي جعفر إلى ابن إسحق، ثم من ابن إسحق إلى ابن عباس، وهذه أول مرة يذكر أبو جعفر أن هذا الإسناد لم تثبت صحته عنده، كما قدم قبل ذكره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين"آتيناهم الكتاب"، التوراة والإنجيل = يعرفون أنما هو إله واحد =، لا جماعة الآلهة، وأن محمدًا نبيُّ مبعوث ="كما يعرفون أبناءهم". وقوله:"الذين خسروا أنفسهم"، من نعت"الذين" الأولى. * * * ويعنى بقوله:"خسروا أنفسهم"، أهلكوها وألقوها في نار جهنم، بإنكارهم محمدًا أنه لله رسول مرسل، وهم بحقيقة ذلك عارفون (1) ="فهم لا يؤمنون"، يقول: فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون. * * * وقد قيل: إنّ معنى"خسارتهم أنفسهم"، أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار. فإذا كان يوم القيامة، جعل الله لأهل الجنة منازلَ أهل النار في الجنة، وجعل لأهل النار منازلَ أهل الجنة في النار، فذلك خسران الخاسرين منهم، لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار، بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله، وظلمهم أنفسهم، وذلك معنى قول الله تعالى ذكره: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، [سورة المؤمنون: 11] . (2) * * *   (1) انظر تفسير"خسر" فيما سلف قريبًا ص: 281، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 329، 230. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 وبنحو ما قلنا في معنى قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال أهل التأويل. (1) * ذكر من قال ذلك: 13130 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، يعرفون أنّ الإسلام دين الله، وأن محمدًا رسول الله، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. 13131- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، النصارى واليهود، يعرفون رسول الله في كتابهم، كما يعرفون أبناءهم. 13132 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، [يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: (2) ="كما يعرفون أبناءهم"، لأن نَعْته معهم في التوراة] . 13133- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. قال: زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم، أنهم قالوا: والله لنحن أعرف به من أبنائنا، من أجل الصفة والنعت الذي نجده   (1) انظر تأويل نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 187، 188، [سورة: البقرة 146] . (2) الأثر: 13132 - هذا الأثر مبتور في المطبوعة والمخطوطة، والزيادة بين القوسين من الدر المنثور 3: 8، من تفسير السدي، من رواية أبي الشيخ، والظاهر أن هذا النقص قديم في نسخ تفسير أبي جعفر، وأن نسخة السيوطي، كانت مبتورة هنا أيضًا، ولذلك لم ينسب هذا الأثر إلا إلى أبي الشيخ وحده، دون ابن جرير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 في الكتاب، وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدثَ النساء! (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أشدُّ اعتداءً، وأخطأ فعلا وأخطأ قولا ="ممن افترى على الله كذبًا"، يعني: ممن اختلق على الله قيلَ باطل، (2) واخترق من نفسه عليه كذبًا، (3) فزعم أن له شريكًا من خلقه، وإلهًا يعبد من دونه - كما قاله المشركون من عبدة الأوثان - أو ادعى له ولدًا أو صاحبةً، كما قالته النصارى ="أو كذب بآياته"، يقول: أو كذب بحججه وأعلامه وأدلته التي أعطاها رسله على حقيقة نبوتهم، كذّبت بها اليهود (4) ="إنه لا يفلح الظالمون"، يقول: إنه لا يفلح القائلون على الله الباطل، ولا يدركون البقاءَ في الجنان، والمفترون عليه الكذب، والجاحدون بنبوة أنبيائه. (5) * * *   (1) يعني: لا يدرون أسلم لهم أبناؤهم من أصلابهم، أم خالطهم سفاح من سفاحهن! وانظر رواية ذلك في خبر عمر بن الخطاب، وسؤاله عبد الله بن سلام، والله أعلم بصحيح ذلك = في معاني القرآن للفراء 1: 329. (2) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 136، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) "اخترق" و"اختلق" و"افترى": ابتدع الكذب، وفي التنزيل: "وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون" (الأنعام: 100) . (4) انظر تفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (5) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ص: 97، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 القول في تأويل قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المفترين على الله كذبًا، والمكذبين بآياته، لا يفلحون اليومَ في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعًا- يعني: ولا في الآخرة. ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظَهر عما حذف. * * * وتأويل الكلام: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا،"ويوم نحشرهم جميعًا"، فقوله:"ويوم نحشرهم"، مردود على المراد في الكلام. لأنه وإن كان محذوفًا منه، فكأنه فيه، لمعرفة السامعين بمعناه =" ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم"، يقول: ثم نقول، إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب، بادِّعائهم له في سلطانه شريكًا، والمكذِّبين بآياته ورسله، فجمعنا جميعهم يوم القيامة (1) ="أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون"، أنهم لكم آلهة من دون الله، افتراء وكذبًا، وتدعونهم من دونه أربابًا؟ فأتوا بهم إن كنتم صادقين! * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم:"أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون"؟ = إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك، إذ فتناهم فاختبرناهم، (2)   (1) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف ص: 89، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسيره"الفتنة" فيما سلف 10: 478، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 "إلا أن قالوا والله ربّنا ما كنا مشركين"، كذبًا منهم في أيمانهم على قِيلهم ذلك. * * * ثم اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ) بالتاء، بالنصب، (1) بمعنى: لم يكن اختبارَناهم لهم إلا قيلُهم (2) "والله ربنا ما كنا مشركين" = غير أنهم يقرءون"تكن" بالتاء على التأنيث. وإن كانت للقول لا للفتنة، لمجاورته الفتنة، وهي خبر. (3) وذلك عند أهل العربية شاذٌ غير فصيح في الكلام. وقد روي بيتٌ للبيد بنحو ذلك، وهو قوله: فَمَضَى وَقَدَّمَهَا، وكانت عادةً ... مِنْهُ إذا هيَ عَرَّدَتْ إقْدَامُهَا (4) فقال:"وكانت" بتأنيث"الإقدام"، لمجاورته قوله:"عادة". * * * وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفيين: (ثُمَّ لَمْ يَكُنْ) بالياء، (فِتْنَتَهُمْ) بالنصب، (إلا أَنْ قَالُوا) ، بنحو المعنى الذي قصده الآخرون الذين ذكرنا قراءتهم. غير أنهم ذكَّروا"يكون" لتذكير"أن". (5) قال أبو جعفر: وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب، لأن"أنْ" أثبت في المعرفة من"الفتنة". (6) * * *   (1) في المطبوعة، حذف قوله: "بالتاء"، لغير طائل. (2) في المطبوعة: "اختبارنا لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو فصيح العربية. (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 188. (4) من معلقته الباهرة. وانظر ما قاله ابن الشجري في الآية والبيت في أماليه 1: 130. والضمير في قوله: "فمضى" إلى حمار الوحش، وفي قوله: "وقدمها" إلى أتنه التي يسوقها إلى الماء. و"عردت": فرت، وعدلت عن الطريق التي وجهها إليها. وشعر لبيد لا يفصل بعضه عن بعض في هذه القصيدة، فلذلك لم أذكر ما قبله وما بعده. فراجع معلقته. (5) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 188. (6) أغفل أبو جعفر قراءة الرقع في"فتنتهم"، وهي قراءتنا في مصحفنا، قراءة حفص. وأنا أرجح أن أبا جعفر أغفلها متعمدًا، وقد استوفى الكلام في هذه الآية ونظائرها فيما سلف 7: 273-275. وانظر تفسير أبي حيان 4: 95. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ثم لم تكن فتنتهم". فقال بعضهم: معناه: ثم لم يكن قولهم. * ذكر من قال ذلك: 13134 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة في قوله:"ثم لم تكن فتنتهم"، قال: مقالتهم = قال معمر: وسمعت غير قتادة يقول: معذرتهم. 13135 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ثم لم تكن فتنتهم"، قال: قولهم. 13136- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبى، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا"، الآية، فهو كلامهم ="قالوا والله ربنا ما كنا مشركين". 13137 - حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك:"ثم لم تكن فتنتهم"، يعني: كلامهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: معذرتهم. * ذكر من قال ذلك: 13138 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة:"ثم لم تكن فتنتهم"، قال: معذرتهم. 13139- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين"، يقول: اعتذارهم بالباطل والكذب. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم، اعتذارًا مما سلف منهم من الشرك بالله ="إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين"، فوضعت"الفتنة" موضع"القول"، لمعرفة السامعين معنى الكلام. = وإنما"الفتنة"، الاختبار والابتلاء (1) = ولكن لما كان الجواب من القوم غيرَ واقع هنالك إلا عند الاختبار، وضعت"الفتنة" التي هي الاختبار، موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم. * * * واختلفت القرأة أيضًا في قراءة قوله:"إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين". فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: وَاللَّهِ رَبِّنَا، خفضًا، على أن"الرب" نعت لله. * * * وقرأ ذلك جماعة من التابعين: (وَاللهِ رَبَّنَا) ، بالنصب، بمعنى: والله يا ربنا. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: (وَاللهِ رَبَّنَا) ، بنصب"الرب"، بمعنى: يا ربَّنا. وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم:"أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون"؟ وكان من جواب القوم لربهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين = فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا. يقول الله تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. * * *   (1) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف قريبًا ص 297، رقم: 2، والمراجع هناك. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 330. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 ويعني بقوله:"ما كنا مشركين"، ما كنا ندعو لك شريكًا، ولا ندعو سواك. (1) * * * القول في تأويل قوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، فاعلم، كيف كذَب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الأوثانَ والأصنامَ، في الآخرة عند لقاء الله = على أنفسهم بقيلهم:"والله يا ربنا ما كنا مشركين"، واستعملوا هنالك الأخلاق التي كانوا بها يتخلّقون في الدنيا، (2) من الكذب والفرية. * * * ومعنى"النظر" في هذا الموضع، النظر بالقلب، لا النظر بالبصر. وإنما معناه: تبين فاعلم كيف كذبوا في الآخرة. * * * وقال:"كذبوا"، ومعناه: يكذبون، لأنه لما كان الخبر قد مضى في الآية قبلها، صار كالشيء الذي قد كانَ ووُجد. * * * ="وضل عنهم ما كانوا يفترون"، يقول: وفارقهم الأنداد والأصنام، وتبرءوا منها، فسلكوا غير سبيلها، لأنها هلكت، [وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتراء] ، (3)   (1) انظر ما سلف رقم: 9520 - 9522 (ج 8: 373، 374) . (2) في المطبوعة: "بها متخلقين"، وفي المخطوطة: "بها متخلقون"، وهذا صواب قراءتها. (3) هكذا جاء في المطبوعة ما وضعته بين القوسين، وهو في المخطوطة: "وعبدوا الذين كانوا يعبدونها إصرا"، غير منقوطة. ولم أهتد إلى الصواب، وأخشى أن يكون سقط من الكلام سطر أو بعضه، فلذلك آثرت أن أضع ما في المطبوعة بين قوسين، ولأني في ريبة من أمره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله، وعبادتهم إياها، وإشراكهم إياها في سلطان الله، فضلت عنهم، وعوقب عابدُوها بفريتهم. * * * وقد بينا فيما مضى أن معنى"الضلال"، الأخذ على غير الهدى. (1) * * * وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سَعةَ رحمة الله يومئذ. ذكر الرواية بذلك: 13140 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو، عن مطرّف، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: أتى رجلٌ ابنَ عباس فقال: سمعت الله يقول:"والله ربنا ما كنا مشركين"، (2) وقال في آية أخرى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، [سورة النساء: 42] ؟ قال ابن عباس: أما قوله:"والله ربنا ما كنا مشركين"، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام: قالوا:"تعالوا نجحد"، فقالوا:"والله ربنا ما كنا مشركين"، فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم،"ولا يكتمون الله حديثًا". (3)   (1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف 10: 124، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "أتى رجل ابن عباس فقال، قال الله: والله ربنا. . ."، أما المخطوطة ففيها خرم، كان فيها: "أتى رجل ابن عباس وقال في آية أخرى"، ولذلك تصرف ناشر المطبوعة. والذي أثبته هو الصواب، وهو نص الأثر الذي رواه أبو جعفر قديمًا، كما سيأتي في التخريج. وقد صححت حروفًا في هذا الخبر من الأثر السالف ولم أشر إليها هنا. (3) الأثر: 13140 - مضى هذا الخبر برقم: 9520 (ج 8: 373) .هذا وقد اختصر أبو جعفر أخبار ابن عباس هذه، فإنه روى هناك خبرين آخرين رقم: 9521، 9522، تبين منهما أن السائل هو نافع بن الأزرق، وكان يأتي ابن عباس ليلقى عليه متشابه القرآن. وهذا من ضروب اختصار أبي جعفر في تفسيره هذا. وأيضًا فإنه سيأتي هنا آثار في تفسير آية سورة النساء: 42 (ج 8: 371 - 375) لم يذكرها هناك، كما سترى في الآثار التالية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 13141 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"والله ربنا ما كنا مشركين"، قال: قول أهل الشرك، حين رأوا الذنوب تغفر، ولا يغفر الله لمشرك ="انظر كيف كذبوا على أنفسهم"، بتكذيب الله إياهم. 13142- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 13143 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" والله ربنا ما كنا مشركين"، ثم قال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، [سورة النساء"42] ، بجوارحهم. 13144 - حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن حمزة الزيات، عن رجل يقال له هشام، عن سعيد بن جبير:" ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين"، قال: حلفوا واعتذروا، قالوا:"والله ربنا". (1) 13145- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن سعيد بن جبير قال، أقسموا واعتذروا:"والله ربنا". 13146- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن حمزة الزيات، عن رجل يقال له هشام، عن سعيد بن جبير، بنحوه. 13147- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن سفيان بن زياد العُصْفري، عن سعيد بن جبير في قوله:"والله ربنا ما كنا مشركين"، قال: لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد، قال من فيها من المشركين:"تعالوا نقول: لا إله إلا الله، لعلنا نخرج مع هؤلاء". قال: فلم يصدَّقوا. قال: فحلفوا:"والله ربنا ما كنا مشركين". قال: فقال الله:"انظر كيف كذبوا   (1) الأثر: 13144 -"هشام"، الذي يروي عنه"حمزة الزيات"، لم أعرفه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون". (1) 13148 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي: يشركون. (2) 13149- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المنهال بن عمرو، عن سعيد عن جبير، عن ابن عباس في قوله:"والله ربنا ما كنا مشركين"، قال: لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم، قالوا: تعالوا إذا سئلنا قلنا:" والله ربنا ما كنا مشركين". فسئلوا، فقالوا ذلك، فختم الله على أفواههم، وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم، فودَّ الذين كفروا حين رأوا ذلك:"لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا". 13150- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا مسلم بن خلف، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يأتي على الناس يوم القيامة ساعة، لما رأوا أهلُ الشرك أهلَ التوحيد يغفر لهم (3) فيقولون:"والله ربنا ما كنا مشركين"، قال:"انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون". (4) 13151- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، قال حدثنا سفيان عن رجل، عن سعيد بن جبير: أنه كان يقول:"والله ربِّنا ما كنا مشركين"، يخفضها. قال: أقسموا واعتذروا = قال الحارث قال، عبد العزيز، قال سفيان مرة أخرى: حدثني هشام، عن سعيد بن جبير. * * *   (1) الأثر: 13147 -"سفيان بن زياد العصفري"، مضى برقم: 2331. (2) في المطبوعة: "يشركون به" بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "لما رأى أهل الشرك"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو لغة من لغات العرب جائزة. (4) الأثر: 13150 -"مسلم بن خلف"، لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ والأصنامَ من قومك، يا محمد ="من يستمع إليك"، يقول: من يستمع القرآن منك، ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك، وأمره ونهيه، ولا يفقه ما تقول ولا يُوعِيه قلبَه، ولا يتدبره، ولا يصغي له سمعه، ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنزيله الذي أنزله عليك، إنما يسمع صوتك وقراءَتك وكلامك، ولا يعقل عنك ما تقول، لأن الله قد جعل على قلبه"أكنّة". * * * = وهي جمع"كنان"، وهو الغطاء، مثل:"سِنان"،"وأسنة". يقال منه:"أكننت الشيءَ في نفسي"، بالألف،"وكننت الشيء"، إذا غطيته، (1) = ومن ذلك: بَيْضٌ مَكْنُونٌ، [سورة الصافات: 49] ، وهو الغطاء، (2) ومنه قول الشاعر: (3) تَحْتَ عَيْنٍ، كِنَانُنَا ... ظِلُّ بُرْدٍ مُرَحَّلُ (4)   (1) انظر ما سلف 5: 102، 103. (2) الأجود أن يقال: "وهو المغطى"، وكأنه كان كذلك، وكأن الذي في المطبوعة والمخطوطة تحريف. ولكن ربما عبر القدماء بمثل هذا التعبير، ولذلك تركته على حاله. وقد قال الطبري في ج 5: 102، وذكر الآية: "أي: مخبوء". (3) هو عمر بن أبي ربيعة. (4) ليس في ديوانه، ولكنه من قصيدته التي في ديوانه: 125 - 126، وهو في الأغاني 1: 184، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 46، 188، واللسان (كنن) ، وغيرها. من أبياته التي أولها: هَاجَ ذَا القَلَبَ مَنْزِلُ ... دَارِسُ الآيِ مُحْوِلُ وقبله في رواية أبي الفرج في أغانيه. أرْسَلَتْ تَسْتَحِثّى وَتُفَدِّي وتَعْذُل ... أَيُّنَا بَاتَ لَيْلَةً بَيْنَ غُصْنَيْنِ يُوبَلُ وروايته للبيت: تَحْتَ عَيْنٍ، يُكِنُّنَا ... بُرْدُ عَصْبٍ مُهَلْهَل ورواية ابن بري، وصحح رواية أبي عبيدة وأبي جعفر: تَحْتَ عَيْنٍ، كِنَانُنَا ... بُرْدُ عَصْبٍ مُرَحَّلُ "العين" في البيت السحاب. و"المرحل من الثياب، الذي عليه تصاوير الرحال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 يعني: غطاؤُهم الذي يكنُهم. (1) * * * ="وفي آذانهم وقرًا"، يقول تعالى ذكره: وجعل في آذانهم ثِقلا وصممًا عن فهم ما تتلو عليهم، والإصغاء لما تدعوهم إليه. * * * والعرب تفتح"الواو" من"الوَقْر" في الأذن، وهو الثقل فيها= وتكسرها في الحمل فتقول:"هو وِقْرُ الدابة". ويقال من الحمل:"أوقرْتُ الدَّابة فهي مُوقَرة" = ومن السمع:"وَقَرْتُ سمعه فهو موقور"، ومنه قول الشاعر: (2) وَلِي هَامَةٌ قَدْ وَقَّر الضَّرْبُ سَمْعَهَا وقد ذكر سماعًا منهم:"وُقِرَتْ أذنه"، إذا ثقلت"فهي موقورة" ="وأوقرتِ النخلةُ، فهي مُوقِر" كما قيل:"امرأة طامث، وحائض"، لأنه لا حظّ فيه للمذكر. فإذا أريد أن الله أوقرها، قيل"مُوقَرةٌ". * * *   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 188، وهو شبيه بنص كلامه. (2) لم أهتد إلى قائله، وإن كنت أذكر أني قرأت هذا الشعر في مكان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 وقال تعالى ذكره:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه"، بمعنى: أن لا يفقهوه، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا، (1) لأن"الكنّ" إنما جعل على القلب، لئلا يفقهه، لا ليفقهه. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13152 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا"، قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئًا، كمثل البهيمة التي تسمع النداء، ولا تدري ما يُقَال لها. 13153 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا"، أما"أكنة"، فالغطاءُ أكنّ قلوبهم، لا يفقهون الحق ="وفي آذانهم وقرًا"، قال: صمم. 13154 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ومنهم من يستمع إليك"، قال: قريش. 13155 - حدثني المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * *   (1) انظر ما سلف 9: 445، 446. (2) انظر تفسير"فقه" فيما سلف 8: 557. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (25) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام، الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك ="كل آية"، يقول: كل حجة وعلامة تدلُّ أهل الحجَا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبوتك (1) ="لا يؤمنوا بها"، يقول: لا يصدّقون بها، ولا يقرّون بأنها دالّة على ما هي عليه دالة ="حتى إذا جاؤوك يجادلونك"، يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به ="يجادلونك"، يقول: يخاصمونك (2) ="يقول الذين كفروا"، يعنى بذلك: الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها، يقولون لنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا حجج الله التي احتجَّ بها عليهم، وبيانَه الذي بيَّنه لهم ="إن هذا إلا أساطير الأوّلين"، أي: ما هذا إلا أساطير الأوّلين. * * * و"الأساطير" جمع"إسْطارة" و"أُسطُورة" مثل"أفكوهة" و"أضحوكة" = وجائز أن يكون الواحد"أسطارًا" مثل"أبيات"، و"أبابيت"، و"أقوال وأقاويل"، (3) من قول الله تعالى ذكره: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، [سورة الطور: 2] . من:"سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرا". * * *   (1) انظر تفسير"آية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (2) انظر تفسير"جادل" فيما سلف 4: 141/9: 190، 193. (3) يعني بقوله: "أسطارًا"، جمع"سطر"، كما هو بين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 فإذ كان من هذا: فإن تأويله: ما هذا إلا ما كتبه الأوَّلون. * * * وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل، ويقولون: معناه: إنْ هذا إلا أحاديث الأوّلين. 13156 - حدثني بذلك المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. 13157 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، أمّا"أساطير الأوّلين"، فأسَاجيع الأولين. (1) * * * وكان بعض أهل العلم = وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى = بكلام العرب يقول:"الإسطارةُ" لغةٌ، ومجازُها مجازُ الترهات. (2) * * * وكان الأخفش يقول: قال بعضهم: واحده"أسطورة". وقال بعضهم:"إسطارة". قال: ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو"العباديد" (3) و"المَذَاكير"، و"الأبابيل". (4) قال: وقال بعضهم: واحد"الأبابيل"،"إبِّيل"، وقال بعضهم:"إبَّوْل" مثل"عِجَّوْل"، (5) ولم أجد العرب تعرف له واحدًا، وإنما هو مثل"عباديد" لا واحد لها. وأما"الشَّماطيط"، فإنهم يزعمون   (1) "الأساجيع" جمع"أسجوعة": يراد به الكهان على هيئة كلامهم. (2) في المطبوعة: "لغة، الخرافات والترهات" غير ما في المخطوطة، وهو نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 189. وهذا من سيئ العبث بالكتب! (3) في المطبوعة: "عباييد"، وهو صواب، إلا أني أثبت ما في المخطوطة. يقال: "جاء القوم عباديد، وعبابيد"، أي متفرقون. (4) "المذاكير"، يقال في الفرد أيضًا. وفي الخبر أن عبدًا أبصر جارية لسيده، فجب السيد مذاكيره = فاستعمله لرجل واحد، وأراد به شيئه، وما تعلق به. و"أبابيل": جماعات من هنا، وجماعات من هنا. (5) يقال: "عجل" و"عجول" (بكسر العين، وتشديد الجيم المفتوحة، وسكون الواو) : ولد البقرة، وجمعه"عجاجيل". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 أن واحده"شمطاط". (1) قال: وكل هذه لها واحد، إلا أنه لم يستعمل ولم يتكلم به، لأن هذا المثال لا يكون إلا جميعًا. (2) قال: وسمعت العرب الفصحاء تقول:"أرسل خيله أبابيل"، تريد جماعات، فلا تتكلم بها بواحدة. (3) وكانت مجادلتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله في هذه الآية، فيما ذُكِر، ما:- 13158 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حتى إذا جاءوك يجادلونك" الآية، قال: هم المشركون، يجادلون المسلمين في الذَّبيحة، يقولون:"أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما قتل الله فلا تأكلون! وأنتم تتَّبعون أمرَ الله تعالى ذكره"! (4) * * *   (1) "شماميط": قطع متفرقة، يقال: "ذهب القوم شماميط": إذا تفرقوا أرسالا. (2) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فلا تتكلم بها موحدة"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد كرهت عبث الناشر بنص أبي جعفر!! (4) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القولُ في تأويل قوله {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَونَ عَنْهُ وَإنْ يُهْلِكُونَ} {إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وَصَلَّى اللهُ على مُحَمدٍ النبيِّ وَعَلى آلِهِ وَسَلّم كثيرًا الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينِ" ثم يتلوه ما نصه: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيمِ رَبِّ يَسِّرْ".رْ" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 القول في تأويل قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه". فقال بعضهم: معناه: هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله، ينهونَ الناس عن اتباع محمّد صلى الله عليه وسلم والقبول منه ="وينأَوْن عنه"، يتباعدون عنه. * ذكر من قال ذلك: 13159 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث وهانئ بن سعيد، عن حجاج، عن سالم، عن ابن الحنفية:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، قال: يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه، وينهون الناس عنه. (1) 13160 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، يعني: ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به ="وينأون عنه"، يعني: يتباعدون عنه. 13161 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، أن يُتَّبع محمد، ويتباعدون هم منه.   (1) الأثر: 13159 -"هانئ بن سعيد النخعي"، صالح الحديث، مترجم في الكبير 4/2/233، وابن أبي حاتم 4/2/102. و"حجاج" هو"حجاج بن أرطاة"، مضى مرارًا. و"سالم"، هو"سالم بن أبي الجعد"، مضى أيضًا. و"ابن الحنفية" هو: "محمد بن علي بن أبي طالب"، مضى أيضًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 13162 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، يقول: لا يلقونَه، ولا يَدَعُون أحدًا يأتيه. 13163 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول في قوله:"وهم ينهون عنه"، يقول: عن محمد صلى الله عليه وسلم. 13164 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، جمَعُوا النهي والنأي. و"النأي"، التباعد. (1) وقال بعضهم: بل معناه:"وهم ينهون عنه" عن القرآن، أن يسمع له ويُعمَل بما فيه. ذكر من قال ذلك: 13165 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وهم ينهون عنه"، قال: ينهون عن القرآن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ="وينأون عنه"، ويتباعدون عنه. 13166 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"وهم ينهون عنه"، قال: قريش، عن الذكر ="وينأون عنه"، يقول: يتباعدون. 13167- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، قريش، عن الذكر. ="ينأون عنه"، يتباعدون. 13168- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، قال: ينهون عن القرآن،   (1) في المخطوطة: "والنهي التباعد"، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة بلا شك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون عنه. 13169- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ينأون عنه"، قال:"وينأون عنه"، يباعدونه. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وهم ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم ="وينأون عنه"، يتباعدون عن دينه واتّباعه. * ذكر من قال ذلك: 13170 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وقبيصة = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول: نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن محمد أن يُؤذَى، وينأى عما جاء به أن يؤمن به. 13171- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، قال: نزلت في أبي طالب، ينهى عنه أن يؤذى، وينأى عما جاء به. 13172- حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، قال: نزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذُوا محمدًا، وينأى عمّا جاء به. 13173- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن القاسم بن مخيمرة قال: كان أبو طالب ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصدِّقه. (2)   (1) في المطبوعة: "يبعدون"، وفي المخطوطة: "يبعدونه"، وآثرت قراءتها كما أثبتها. (2) الأثر: 13173 -"القاسم بن مخيمرة الهمداني"، "أبو عروة"، روى عن عبد الله بن عمرو، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة، وغيرهم من التابعين. ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 4/1/167، وابن أبي حاتم 3/2/120. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 13174 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ومحمد بن بشر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن القاسم بن مخيمرة في قوله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، قال: نزلت في أبي طالب = قال ابن وكيع، قال ابن بشر: كان أبو طالب ينهي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذَى ولا يصدّق به. 13175- حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير، عن أبي محمد الأسدي، عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قول الله تعالى ذكره:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن أذى محمد، وينأى عما جاء به أن يتّبعه. (1) 13176 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن القاسم بن مخيمرة في قوله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"، قال: نزلت في أبي طالب. 13177 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب قال: ذاك أبو طالب، في قوله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه". (2) 13178 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني سعيد بن أبي أيوب قال، قال عطاء بن دينار في قول الله:"وهم ينهون عنه وينأون عنه"،   (1) الأثر: 13175 -"أبو محمد الأسدي"، لم أعرف من هو، ولم أجد من يكنى به. وأخشى أن يكون هو"عبد العزيز بن سياه الأسدي"، الآتي في الأثر رقم: 13177 و"عبد العزيز" يروي عنه يونس بن بكير. (2) الأثر: 13177 -"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضى مرارًا كثيرة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الله بن موسى"، وهو خطأ محض. و"عبد العزيز بن سياه الأسدي"، ثقة، محله الصدق، وكان من كبار الشيعة. وروى عنه عبيد الله بن موسى، ويونس بن بكير، ووكيع، وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/383. وانظر التعليق على الأثر السالف، فإني أرجح أن"أبا محمد الأسدي"، كنية: "عبد العزيز بن سياه الأسدي". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 أنها نزلت في أبي طالب، أنه كان ينهى الناسَ عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى عما جاء به من الهدى. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال: تأويلُه:"وهم ينهون عنه"، عن إتباع محمد صلى الله عليه وسلم مَنْ سواهم من الناس، وينأون عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلَها جرت بذكر جماعة المشركين العادِلين به، والخبرِ عن تكذيبهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله:"وهم ينهون عنه"، خبرًا عنهم، إذ لم يأتنا ما يدُلُّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. بل ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدلّ على صحة ما قلنا، من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبرًا عن خاصٍّ منهم. * * * وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وإن يرَ هؤلاء المشركون، يا محمد، كلَّ آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقولون:"إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأوَّلين وأخبارهم"! وهم ينهون عن استماع التنزيل، وينأون عنك فيبعدون منك ومن اتباعك ="وإن يهلكون إلا أنفسهم"، يقول: وما يهلكونَ بصدّهم عن سبيل الله، وإعراضهم عن تنزيله، وكفرهم بربهم - إلا أنفسهم لا غيرها، وذلك أنهم يكسِبُونها بفعلهم ذلك، سخط الله وأليم عقابه،   (1) الأثر: 13178 -"سعيد بن أبي أيوب الخزاعي المصري"، وهو"سعيد بن مقلاص"، ثقة ثبت. ومضى في الأثرين رقم: 5615، 6743، غير مترجم. مترجم في التهذيب، والكبير2/1/419، وابن أبي حاتم 2/1/66. و"عطاء بن دينار المصري"، من ثقات أهل مصر، مضى برقم: 160. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 وما لا قِبَل لها به (1) ="وما يشعرون"، يقول: وما يدرون ما هُمْ مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم. (2) * * * والعرب تقول لكل من بعد عن شيء:"قد نأى عنه، فهو ينأى نَأْيًا". ومسموع منهم:"نأيتُكَ"، (3) بمعنى:"نأيت عنك". وأما إذا أرادوا: أبعدتُك عني، قالوا:"أنأيتك". ومن"نأيتك" بمعنى: نأيتُ عنك، قول الحطيئة: نَأَتْكَ أُمَامَةُ إلا سُؤَالا ... وَأَبْصَرْتَ مِنْهَا بِطَيْفٍ خَيَالا (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم:" ولو ترى"، يا محمد، هؤلاء العادلين بربهم الأصنامَ والأوثانَ، الجاحدين نبوّتك، الذين وصفت لك صفتهم ="إذ وُقفوا"، يقول: إذ حُبِسوا ="على النار"، يعني: في النار- فوضعت"على" موضع"في" كما قال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو   (1) انظر تفسير"الهلاك" فيما سلف قريبًا ص: 263. (2) انظر تفسير"شعر" فيما سلف 1: 277، 278/6: 502. (3) في المطبوعة: "مسموع منهم: نأيت"، خطأ، صوابه في المخطوطة. (4) ديوانه: 31، من قصيدته التي مدح بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، معتذرًا له من هجاء الزبرقان بن بدر، وبعد البيت: خَيَالا يَرُوعُكَ عِنْدَ المَنَا ... مِ وَيَأْبَى مَعَ الصُّبْحِ إِلا زَوَالا كِنَانيَّةٌ، دَارُهَا غَرْبَةٌ ... تُجِدُّ وِصَالا وتُبْلِي وصَالا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة: 102] ، بمعنى في ملك سليمان. (1) * * * وقيل:"ولو ترى إذ وقفوا"، ومعناه: إذا وقفوا = لما وصفنا قبلُ فيما مضى: أن العرب قد تضع"إذ" مكان"إذا"، و"إذا" مكان"إذ"، وإن كان حظّ"إذ" أن تصاحب من الأخبار ما قد وُجد فقضي، وحظ"إذا" أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد، (2) ولكن ذلك كما قال الراجز، وهو أبو النجم: مَدَّ لَنَا فِي عُمْرِهِ رَبُّ طَهَا ... ثُمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنَّا إذْ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلَى (3) فقال:"ثم جزاه الله عنا إذ جزى" فوضع،"إذ" مكان"إذا". * * * وقيل:"وقفوا"، ولم يُقَل:"أُوقِفوا"، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب. يقال:"وقَفتُ الدابة وغيرها"، بغير ألف، إذا حبستها. وكذلك:"وقفت الأرضَ"، إذا جعلتها صدقةً حَبيسًا، بغير ألف، وقد:- 13179- حدثني الحارث، عن أبي عبيد قال: أخبرني اليزيديّ والأصمعي، كلاهما، عن أبي عمرو قال: ما سمعت أحدًا من العرب يقول:"أوقفت الشيء" بالألف. قال: إلا أني لو رأيت رجلا بمكانٍ فقلت:"ما أوقفك ها هنا؟ "، بالألف، لرأيته حسنًا. (4)   (1) انظر تفسير"على" بمعنى"في" فيما سلف 1: 299/ 2: 411، 412/11: 200، 201 ومواضع أخرى، التمسها في فهارس النحو والعربية. (2) انظر"إذا" و"إذ" فيما سلف ص: 236، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) مضى بيتان منها فيما سلف ص: 235، والبيت الأول من الرجز، في اللسان (طها) وقال: "وإنما أراد: رب طه، فحذف الألف". وكان رسم"طها" في المطبوعة والمخطوطة: "طه"، فآثرت رسمها كما كتبها صاحب اللسان (طها) . (4) الأثر: 13179 - انظر هذا الخبر في لسان العرب"وقف". وكان في المطبوعة: "الحارث بن أبي عبيد"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. وقد مضى هذا الإسناد مرارًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 ="فقالوا يا ليتنا نردّ"، يقول: فقال هؤلاء المشركون بربهم، إذ حُبسوا في النار:"يا ليتنا نردّ"، إلى الدنيا حتى نتوب ونراجعَ طاعة الله ="ولا نكذب بآيات ربنا"، يقول: ولا نكذّب بحجج ربنا ولا نجحدها ="ونكون من المؤمنين"، يقول: ونكون من المصدّقين بالله وحججه ورسله، متَّبعي أمره ونهيه. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والعراقيين: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، بمعنى: يا ليتنا نردُّ، ولسنا نكذب بآيات ربنا، ولكنّا نكون من المؤمنين. * * * وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفة: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بمعنى: يا ليتنا نرد، وأن لا نكذب بآيات ربنا، ونكونَ من المؤمنين. وتأوَّلوا في ذلك شيئًا:- 13180 - حدثنيه أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون قال: في حرف ابن مسعود: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ) بالفاء. * * * وذكر عن بعض قرأة أهل الشام، أنه قرأ ذلك: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ) بالرفع (وَنَكُونَ) بالنصب، كأنه وجَّه تأويله إلى أنهم تمنوا الردَّ، وأن يكونوا من المؤمنين، وأخبروا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إن رُدُّوا إلى الدنيا. * * * واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبًا ومرفوعًا. فقال بعض نحويي البصرة:"ولا نكذِّبَ بآيات ربِّنا ونكونَ من المؤمنين"، نصبٌ، لأنه جواب للتمني، وما بعد"الواو" كما بعد"الفاء". قال: وإن شئت رفعتَ وجعلته على غير التمني، كأنهم قالوا: ولا نكذِّبُ والله بآيات ربنا، ونكونُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 والله من المؤمنين. هذا، إذا كان على ذا الوجه، كان منقطعًا من الأوّل. قال: والرفع وجهُ الكلام، لأنه إذا نصب جعلها"واوَ" عطف. فإذا جعلها"واو" عطف، فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذِّبوا، وأن يكونوا من المؤمنين. قال: وهذا، والله أعلم، لا يكون، لأنهم لم يتمنوا هذا، إنما تمنوا الردّ، وأخبروا أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين. * * * وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو نصب"نكذب" و"نكون" على الجواب بالواو، لكان صوابًا. قال: والعرب تجيب ب"الواو"، و"ثم"، كما تجيب بالفاء. يقولون:"ليت لي مالا فأعطيَك"،"وليت لي مالا وأُعْطيَك"،"وثم أعطيَك". قال: وقد تكون نصبًا على الصَّرف، كقولك:"لا يَسَعُنِي شيء ويعجِزَ عَنك. (1) * * * وقال آخر منهم: لا أحبُّ النصب في هذا، لأنه ليس بتمنٍّ منهم، إنما هو خبرٌ، أخبروا به عن أنفسهم. ألا ترى أن الله تعالى ذكره قد كذَّبهم فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ؟ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمنِّي. * * * وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب"بالواو"، وبحرف غير"الفاء". وكان يقول: إنما"الواو" موضع حال، لا يسعني شيء ويضيقَ عنك"، أي: وهو يضيق عنك. قال: وكذلك الصَّرف في جميع العربية. قال: وأما"الفاء" فجواب جزاء:"ما قمت فنأتيَك"، أي: لو قمت لأتينَاك. قال: فهذا حكم الصرف و"الفاء". قال: وأمّا قوله:"ولا نكذب"، و"نكون" فإنما جاز، لأنهم قالوا:"يا ليتنا نرد"، في غير الحال التي وقفنا فيها على النار. فكان وقفهم في تلك،   (1) "الصرف"، مضى تفسيره فيما سلف 1: 569، تعليق: 1/3: 552، تعليق: 1/7: 247، تعليق: 2. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 فتمنَّوا أن لا يكونوا وُقِفُوا في تلك الحال. * * * قال أبو جعفر: وكأنّ معنى صاحب هذه المقالة في قوله هذا: ولو ترى إذ وقفوا على النار، فقالوا: قد وقفنا عليها مكذِّبين بآيات ربِّنا كفارًا، فيا ليتنا نردّ إليها فنُوقَف عليها غير مكذبين بآيات ربِّنا ولا كفارًا. وهذا تأويلٌ يدفعه ظاهر التنزيل، وذلك قول الله تعالى ذكره: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة، والتكذيب لا يقع في التمني. ولكن صاحب هذه المقالة أظنُّ به أنَّه لم يتدبر التأويل، ولَزِم سَنَن العربيّة. * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالرفع في كليهما، بمعنى: يا ليتنا نردّ، ولسنا نكذب بآيات ربِّنا إن رددنا، ولكنا نكون من المؤمنين= على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردُّوا إلى الدنيا، لا على التمنّي منهم أن لا يكذِّبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه، وأنهم كذبة في قيلهم ذلك. ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني، لاستحال تكذيبهم فيه، لأن التمني لا يكذَّب، وإنما يكون التصديقُ والتكذيبُ في الأخبار. * * * وأما النصب في ذلك، فإني أظنّ بقارئه أنه توخَّى تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه، (1) وذلك قراءته ذلك: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، على وجه جواب التمني بالفاء. وهو إذا قرئ بالفاء   (1) في المطبوعة: "فإني أظن بقارئه أنه برجاء تأويل قراءة عبد الله"، وهو كلام غث. وفي المخطوطة: ". . . أنه برحا تأويل قراءة عبد الله" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 كذلك، لا شك في صحة إعرابه. ومعناه في ذلك: أن تأويله إذا قرئ كذلك: لو أنّا رددنا إلى الدنيا ما كذَّبنا بآيات ربِّنا، ولكُنَّا من المؤمنين. فإن يكن الذي حَكَى من حكى عن العرب من السماع منهم الجوابَ بالواو، و"ثم" كهيئة الجواب بالفاء، صحيحًا، فلا شك في صحّة قراءة من قرأ ذلك: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ نصبًا على جواب التمني بالواو، على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء. وإلا فإن القراءة بذلك بعيدةُ المعنى من تأويل التنزيل. ولستُ أعلم سماعَ ذلك من العرب صحيحًا، بل المعروف من كلامها: الجوابُ بالفاء، والصرفُ بالواو. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 القول في تأويل قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء العادلين بربهم، (1) الجاحدين نبوتك، يا محمد، في قيلهم إذا وقفوا على النار:"يا ليتنا نردُّ ولا نكذب بأيات ربنا ونكون من المؤمنين" = الأسَى والندمُ على ترك الإيمان بالله والتصديق بك، (2) لكن بهم الإشفاق مما هو نازلٌ بهم من عقاب الله وأليم عذابه، على معاصيهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم، فأبداها الله منهم يوم القيامة وأظهرها على رؤوس الأشهاد، ففضحهم بها، ثم جازاهم بها جزاءَهم. يقول: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونها"من قبل ذلك في الدنيا، فظهرت ="ولو رُدُّوا"، يقول: ولو ردّوا إلى الدنيا فأمْهلوا   (1) في المطبوعة: "ما قصد هؤلاء"، وهو لا شيء ولكن حمله عليه أنه في المخطوطة"ما هؤلاء العادلين"، واستظهرت الصواب من قوله بعد: "لكن بهم الإشفاق". (2) السياق: "ما بهؤلاء العادلين بربهم. . . الأسى والندم. . .". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 ="لعادوا لما نهوا عنه"، يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك، من جحود آيات الله، والكفر به، والعمل بما يسخط عليهم ربِّهم =" إنهم لكاذبون"، في قيلهم:"لو رددنا لم نكذب بآيات ربّنا وكنا من المؤمنين"، لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب، لا إيمانًا بالله. * * * وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13181 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل"، يقول: بدت لهم أعمالهم في الآخرة، التي أخفوها في الدنيا. 13182 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل"، قال: من أعمالهم. 13183 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولو ردُّوا لعادُوا لما نهوا عنه"، يقول: ولو وصل الله لهم دُنيا كدنياهم، لعادوا إلى أعمالهم أعمالِ السوء. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين، العادلين به الأوثان والأصنام، الذين ابتدأ هذه السورة بالخبرعنهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 يقول تعالى ذكره:" وقالوا إنْ هي إلا حياتنا الدنيا"، يخبر عنهم أنهم ينكرون أنّ الله يُحيي خلقه بعد أن يُميتهم، ويقولون:"لا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور بعد الفناء". فهم بجحودهم ذلك، وإنكارهم ثوابَ الله وعقابَه في الدار الآخرة، لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية، لأنهم لا يرجون ثوابًا على إيمان بالله وتصديق برسوله وعملٍ صالح بعد موت، ولا يخافون عقابًا على كفرهم بالله ورسوله وسيّئٍ من عمل يعملونه. (1) * * * وكان ابن زيد يقول: هذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الكفرة الذين وقفوا على النار: أنهم لو ردُّوا إلى الدنيا لقالوا:"إن هي إلا حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين". 13184- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه"، وقالوا حين يردون:"إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين". * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"لو ترى"، يا محمد، هؤلاء القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ="إذ وقفوا"، يوم القيامة،   (1) في المطبوعة: "وشيء من عمل"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 أي: حبسوا، (1) "على ربهم"، يعني على حكم الله وقضائه فيهم ="قال أليس هذا بالحق"، يقول: فقيل لهم: أليس هذا البعثُ والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونَه في الدنيا، حقًّا؟ فأجابوا، فقالوا: بلى" والله إنه لحقّ ="قال فذوقوا العذاب"، يقول: فقال الله تعالى ذكره لهم: فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون (2) ="بما كنتم تكفرون"، يقول: بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا. * * * القول في تأويل قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله"، قد هلك ووُكس، في بيعهم الإيمان بالكفر (3) ="الذين كذبوا بلقاء الله"، يعني: الذين أنكروا البعثَ بعد الممات، والثواب والعقابَ، والجنةَ والنارَ، من مشركي قريش ومَنْ سلك سبيلهم في ذلك ="حتى إذا جاءَتهم الساعة"، يقول: حتى إذا جاءتهم السَّاعة التي يَبْعث الله فيها الموتى من قبورهم. * * * وإنما أدخلت"الألف واللام" في"الساعة"، لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها، وأنها مقصود بها قصدُ الساعة التي وصفت. * * *   (1) انظر تفسير"وقف" فيما سلف قريبا ص: 316. (2) انظر تفسير"ذاق العذاب" فيما سلف ص: 47، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"خسر" فيما سلف ص: 294، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 ويعني بقوله:"بغتة"، فجأةً، من غير علم من تفجؤه بوقت مفاجأتها إيّاه. * * * يقال منه:"بغتُّه أبغته بَغْتةً"، إذا أخذته كذلك: * * * ="قالوا يا حَسْرتَنا على ما فرّطنا فيها"، يقول تعالى ذكره: وُكس الذين كذبوا بلقاء الله ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار، فإذا جاءتهم الساعة بغتةً قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا، وتبيَّنوا خسارة صفقة بَيْعهم التي سلفت منهم في الدنيا، تندُّمًا وتلهُّفًا على عظيم الغَبْن الذي غبنوه أنفسهم، وجليلِ الخسران الذي لا خسرانَ أجلَّ منه ="يا حسرتنا على ما فرطنا فيها"، يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها، يعني: صفقتهم تلك. (1) * * * و"الهاء والألف" في قوله:"فيها"، من ذكر"الصفقة"، ولكن اكتفى بدلالة قوله:"قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله" عليها من ذكرها، إذ كان معلومًا أن"الخسران" لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت. (2) * * * وإنما معنى الكلام: قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانَه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سَخَطه وعقوبته، ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك، حتى تقوم الساعة، فإذا جاءتهم الساعة بغتةً فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم، قالوا حينئذ، تندمًا:"يا حسرتنا على ما فرطنا فيها". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير"الحسرة" فيما سلف 3: 295/7: 335. (2) في المطبوعة: "قد خسرت"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 13185 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يا حسرتنا على ما فرطنا فيها"، أمّا"يا حسرتنا"، فندامتنا ="على ما فرطنا فيها"، فضيعنا من عمل الجنة. 13186 - حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا يزيد بن مهران قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"يا حسرتنا"، قال:"يرى أهلُ النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا". (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين كذَّبوا بلقاء الله،"يحملون أوزارهم على ظهورهم". وقوله:"وهم" من ذكرهم ="يحملون أوزارهم"، يقول: آثامهم وذنوبهم. * * * واحدها"وِزْر"، يقال منه:"وَزَر الرجل يزِر"، إذا أثم، قال الله:"ألا ساء ما يزرون". (2) فإن أريد أنهم أُثِّموا، (3) قيل:"قد وُزِر القوم فهم يُوزَرُون، وهم موزورون". * * *   (1) الأثر: 13186 -"يزيد بن مهران الأسدي"، الخباز، أبو خالد. صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يغرب". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/2/290. وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 9، وقال: "أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدري"، وذكر الخبر. (2) في المطبوعة، حذف قوله: "قال الله: ألا ساء ما يزرون". (3) "أثموا" بضم الهمزة وتشديد الثاء المكسورة، بالبناء للمجهول أي: رموا بالإثم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 قد زعم بعضهم أن"الوِزْر" الثقل والحمل. ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد، ولا من رواية ثِقة عن العرب. * * * وقال تعالى ذكره:"على ظهورهم"، لأن الحمل قد يكون على الرأس والمنكِب وغير ذلك، فبيَّن موضع حملهم ما يحملون منْ ذلك. * * * وذكر أنّ حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم، نحو الذي:- 13187 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلْمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبُه ريحًا، (1) فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن صورتك! فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم! وتلا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، [سورة مريم: 85] . وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنُه ريحًا، فيقول، هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قَبّح صورتك وأنتن ريحك! فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا، أنا عملك السيئ، طالما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك = وتلا"وهم يحملون أوزارهم على ظُهورهم ألا ساء ما يزرون". (2)   (1) في المطبوعة: "استقبله عمله في أحسن صورة وأطيبه ريحًا"، وهو كلام غث غير مستقيم، وكان في المخطوطة: "استقبله أحسن صورة وأطيبه ريحًا"، سقط من الناسخ ما أثبته"شيء"، واستظهرته من قوله بعد: "يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحًا". (2) الأثر: 13187 -"الحكم بن بشير بن سلمان النهدي"، ثقة، مضى مرارًا رقم: 1497، 2872، 3014، 6171، 9646. وكان في المطبوعة هنا"سليمان" وهو خطأ، صححته في المخطوطة، والمراجع، كما سلف أيضًا. و"عمرو بن قيس الملائي"، مضى مرارًا، رقم: 886، 1497، 3956، 6171، 9646. وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 9، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. وإسناد أبي حاتم فيما رواه ابن كثير في تفسيره 3: 303: "حدثنا أبو سعيد الأشج، قال حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس، عن أبي مرزوق"، وساق الخبر مختصرًا بغير هذا اللفظ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 13188 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم"، فإنه ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، (1) إلا جاء رجل قبيح الوجه، أسودُ اللون، مُنتن الريح، عليه ثياب دَنِسة، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحًا! قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنًا! قال: ما أدْنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنسًا. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك! قال: فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذَّات والشهوات، فأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخلَه النار، فذلك قوله:"يحملون أوزارهم على ظهورهم". * * * وأما قوله تعالى ذكره:"ألا ساء ما يزرون"، فإنه يعني: ألا ساء الوزر الذي يزرون - أي: الإثم الذي يأثمونه بربهم، (2) كما:- 13189 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ألا ساء ما يزرون"، قال: ساء ما يعملون. * * *   (1) في المطبوعة: "قال ليس من رجل ظالم يموت"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) كان في المطبوعة: "الذي يأثمونه كفرهم بربهم"، زاد"كفرهم"، وأفسد الكلام. وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض. وقد بينت آنفا معنى قوله"أثم فلان بربه" 4: 530، تعليق: 3/6: 92/11: 180، تعليق: 3. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 القول في تأويل قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) } قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله تعالى ذكره هؤلاء الكفارَ المنكرين البعثَ بعد الممات في قولهم: إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، [سورة المائدة: 29] . يقول تعالى ذكره، مكذبًا لهم في قبلهم ذلك:"ما الحياة الدنيا"، أيها الناس ="إلا لعب ولهو"، يقول: ما باغي لذاتِ الحياة التي أدْنيت لكم وقرّبت منكم في داركم هذه، (1) ونعيمَها وسرورَها، فيها، (2) والمتلذذُ بها، والمنافسُ عليها، إلا في لعب ولهو، لأنها عما قليل تزول عن المستمتع بها والمتلذذِ فيها بملاذّها، أو تأتيه الأيام بفجائعها وصروفها، فَتُمِرُّ عليه وتكدُر، (3) كاللاعب اللاهي الذي يسرع اضمحلال لهوه ولعبه عنه، ثم يعقبه منه ندمًا، ويُورثه منه تَرحًا. يقول: لا تغتروا، أيها الناس، بها، فإن المغتر بها عمّا قليل يندم ="وللدار الآخرة خير للذين يتقون"، يقول: وللعمل بطاعته، والاستعدادُ للدار الآخرة بالصالح من الأعمال التي تَبقى منافعها لأهلها، ويدوم سرورُ أهلها فيها، خيرٌ من الدار التي تفنى وشيكًا، (4) فلا يبقى لعمالها فيها سرور، ولا يدوم لهم فيها نعيم ="للذين   (1) انظر تفسير"الحياة الدنيا" فيما سلف 1: 245. (2) سياق الجملة: "ما باغي لذات الحياة. . . ونعيمها وسرورها"، بالعطف ثم قوله: "فيها"، سياقه: "ما باغي لذات الحياة. . . فيها". وقوله بعد: "والمتلذذ بها" مرفوع معطوف على قوله: "ما باغي لذات الحياة". (3) في المطبوعة: "فتمر عليه وتكر" غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته، وهو الصواب"تمر" من"المرارة"، أي: تصير مرة بعد حلاوتها، وكدرة بعد صفائها. (4) في المطبوعة، حذف قوله"وشيكا"، كأنه لم يحسن قراءتها."وشيكا": سريعًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 يتقون"، يقول: للذين يخشون الله فيتقونه بطاعته واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى رضاه ="أفلا تعقلون"، يقول: أفلا يعقل هؤلاء المكذّبون بالبعث حقيقةَ ما نخبرهم به، من أن الحياة الدنيا لعب ولهوٌ، وهم يرون من يُخْتَرم منهم، (1) ومن يهلك فيموت، ومن تنوبه فيها النوائب وتصيبُه المصائب وتفجعه الفجائع. ففي ذلك لمن عقل مدَّكر ومزدجر عن الركون إليها، واستعباد النفس لها = ودليلٌ واضح على أن لها مدبِّرًا ومصرفًا يلزم الخلقَ إخلاصُ العبادة له، بغير إشراك شيءٍ سواه معه. * * * القول في تأويل قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قد نعلم"، يا محمد، إنه ليحزنك الذي يقول المشركون، وذلك قولهم له: إنه كذّاب ="فإنهم لا يكذبونك". * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك [فقرأته جماعة من أهل الكوفة: (فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ) بالتخفيف] ، (2) بمعنى: إنهم لا يُكْذِبونك فيما أتيتهم به من وحي الله، ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحًا، بل يعلمون صحته، ولكنهم يجحَدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به. * * *   (1) "اخترم الرجل" (بالبناء للمجهول) و"اخترمته المنية من بين أصحابه"، أخذته من بينهم وخلا منه مكانه، كأن مكانه صار خرمًا في صفوفهم. (2) هذه الزيادة بين القوسين، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، ولكن زيادتها لا بد منها، واستظهرتها من نسبة هذه القراءة، فهي قراءة علي ونافع والكسائي. انظر معاني القرآن للفراء 1: 331، وتفسير أبي حيان 4: 111، وغيرهما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون:"أكذبت الرجل"، إذا أخبرت أنه جاءَ بالكذب ورواه. قال: ويقولون:"كذَّبْتُه"، إذا أخبرت أنه كاذبٌ. (1) * * * وقرأته جماعة من قرأة المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بمعنى: أنهم لا يكذّبونك علمًا، بل يعلمون أنك صادق = ولكنهم يكذبونك قولا عنادًا وحسدًا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة، ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم. وذلك أن المشركين لا شكَّ أنه كان منهم قوم يكذبون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويدفعونه عما كان الله تعالى ذكره خصه به من النبوّة، فكان بعضهم يقول:"هو شاعر"، وبعضهم يقول:"هو كاهن"، وبعضهم يقول:"هو مجنون"، وينفي جميعُهم أن يكون الذي أتَاهم به من وحي السماء، ومن تنزيل رب العالمين، قولا. وكان بعضهم قد تبين أمرَه وعلم صحة نبوّته، وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوّته حسدًا له وبغيًا. * * * فالقارئ: (فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ) = بمعنى (2) أن الذين كانوا يعرفون   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 331. (2) في المطبوعة: "يعني به" وفي المخطوطة: "معنى أن الذين. . ."، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 حقيقة نبوّتك وصدق قولك فيما تقول، يجحدونَ أن يكون ما تتلوه عليهم من تنزيل الله ومن عند الله، قولا - وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علمًا صحيحًا = مصيبٌ، (1) لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته. وفي قول الله تعالى في هذه السورة: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة المائدة: 20] ، أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم المعاند في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم، مع علمٍ منهم به وبصحة نبوّته. (2) * * * وكذلك القارئ: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) = (3) بمعنى: أنهم لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عنادًا، لا جهلا بنبوّته وصدق لَهْجته = مصيب، (4) لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم مَنْ هذه صفته. وقد ذَهب إلى كل واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل. * * * * ذكر من قال: معنى ذلك: فإنهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون الحقّ على علم منهم بأنك نبيٌّ لله صادق. 13190 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك"، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزينٌ، فقال له: ما يُحزنك؟ فقال: كذَّبني هؤلاء! قال فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك، هم يعلمون أنك صادق،"ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون". 13191- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن   (1) السياق: "فالقارئ. . . مصيب". (2) في المطبوعة: ". . . على أنه قد كان فيهم العناد في جحود نبوته. . . مع علم منهم به وصحة نبوته"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب، إلا أنه في المخطوطة أيضًا"به وصحة نبوته"، فرأيت السياق يقتضي أن تكون"وبصحة"، فأثبتها. (3) في المطبوعة: "يعني أنهم. . ."، وأثبت ما في المخطوطة. (4) السياق: "وكذلك القارئ. . . مصيب". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 332 أبي صالح قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين، فقال له: ما يحزنك؟ . فقال: كذَّبني هؤلاء! فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك، إنهم ليعلمون أنك صادق،"ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون". 13192 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون"، قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون. 13193 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط: عن السدي في قوله:"قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون"، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة، إن محمدًا ابن أختكم، فأنتم أحقُّ مَنْ كَفَّ عنه، (1) فإنه إن كان نبيًّا لم تقاتلوهُ اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته! قفوا ههنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غُلب محمدٌ [صلى الله عليه وسلم] رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمدٌ فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئًا = فيومئذ سمّي"الأخنس"، وكان اسمه"أبيّ" = (2) فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل، فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا! فقال أبو جهل: وَيْحك، والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمّد قط، ولكن إذا ذهب بنو قُصَيِّ باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله:"فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون"،"فآيات الله"، محمدٌ صلى الله عليه وسلم.   (1) في تفسير ابن كثير 3: 305، في هذا الموضع: "فأنتم أحق من ذب عنه". (2) سمى"الأخنس"، لأنه من"خنس يخنس خنوسا"، إذا انقبض عن الشيء وتأخر ورجع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 333 13194- حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"فإنهم لا يكذبونك"، قال: ليس يكذّبون محمدًا، ولكنهم بآيات الله يجحدون. * * * * ذكر من قال: ذلك بمعنى: فإنهم لا يكذّبونك، ولكنهم يكذِّبون ما جئت به. 13195 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك، ولكن نتَّهم الذي جئت به! فأنزل الله تعالى ذكره:"فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون". 13196- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب: أنّ أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به! فأنزل الله تعالى ذكره:"فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون". * * * وقال آخرون: معنى ذلك، فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به. * ذكر من قال ذلك: 13197 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب:"فإنهم لا يكذبونك"، قال: لا يبطلون ما في يديك. * * * وأما قوله:"ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون"، فإنه يقول: ولكن المشركين بالله، بحجج الله وآي كتابه ورسولِه يجحدون، فينكرون صحَّة ذلك كله. * * * وكان السدي يقول:"الآيات" في هذا الموضع، معنيٌّ بها محمّد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبلُ. (1) * * *   (1) انظر آخر الأثر السالف رقم: 13193. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 334 القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) } قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتعزيةٌ له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إيّاه على ما جاءهم به من الحق من عند الله. يقول تعالى ذكره: إن يكذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك، فيجحدوا نبوّتك، وينكروا آيات الله أنّها من عنده، فلا يحزنك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله، حتى يأتي نصر الله، (1) فقد كُذبت رسلٌ من قبلك أرسلتهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه، فصبروا على تكذيب قومهم إياهم، ولم يثنهم ذلك من المضيّ لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه، حتى حكم الله بينهم وبينهم ="ولا مبدّل لكلمات الله"، يقول: ولا مغيِّر لكلمات الله = و"كلماته" تعالى ذكره: ما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من وعده إياه النصر على من خَالفه وضادّه، والظفرَ على من تولّى عنه وأدبر ="ولقد جاءك من نبإ المرسلين"، يقول: ولقد جاءك يا محمد، من خبر من كان قبلك من الرسل، (2) وخبر أممهم، وما صنعتُ بهم = حين جحدوا آياتي وتمادَوا في غيهم وضلالهم = أنباء = وترك ذكر"أنباء"، لدلالة"مِنْ" عليها. يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضًا من النصرة والظفر مثل الذي كان منِّي فيمن   (1) إذ في المخطوطة: "حتى أتاهم نصر الله"، وهو سهو من الناسخ، صوابه ما في المطبوعة. (2) انظر تفسير"النبأ" فيما سلف ص: 262، تعليق: 3، والمراجع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 335 كان قبلك من الرسل إذ كذبهم قومهم، واقتد بهم في صبرهم على ما لَقُوا من قومهم. * * * وبنحو ذلك تأوَّل من تأوَّل هذه الآية من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13198 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا"، يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمعون، ويخبره أن الرسل قد كُذّبت قبله، فصبروا على ما كذبوا، حتى حكم الله وهو خير الحاكمين. 13199 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"ولقد كذبت رسل من قبلك"، قال: يعزّي نبيَّه صلى الله عليه وسلم. 13200 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولقد كذبت رسل من قبلك"، الآية، قال: يعزِّي نبيّه صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك، يا محمد، إعراض هؤلاء المشركين عنك، وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحق الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 336 بعثتُك به، فشقَّ ذلك عليك، ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم (1) ="فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض"، يقول: فإن استطعت أن تتَّخذ سَرَبا في الأرض مثلَ نَافِقاء اليَرْبُوع، وهي أحد جِحَرِته فتذهب فيه (2) ="أو سُلمًا في السماء"، يقول: أو مصعدًا تصعد فيه، كالدَّرَج وما أشبهها، كما قال الشاعر: (3) لا تُحْرِزُ الْمَرْءُ أَحْجَاءُ البِلادِ، وَلا ... يُبْنَى لَهُ فِي السَّمَاوَاتِ السَّلالِيم (4) ="فتأتيهم بآية"، منها = يعني بعلامةٍ وبرهان على صحة قولك، (5) غير الذي أتيتك = فافعل. (6) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك: قال بعض أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13201 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف ص: 262، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"ابتغى" فيما سلف 10: 394، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) هو تميم بن أبي بن مقبل. (4) من قصيدة له جيدة، نقلها قديمًا، والبيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 190، وشرح شواهد المغني: 227، واللسان (سلم) (حجا) ، وغيرها، وقبل البيت، وهي أبيات حسان: إنْ يَنْقُصِ الدّهْرُ مِنِّي، فالفَتَى غَرَضٌ ... لِلدَّهْرِ، من عَوْدهِ وَافٍ وَمَثْلُومُ وَإنْ يَكُنْ ذَاكَ مِقْدَارًا أُصِبْتُ بِهِ ... فَسِيرَة الدَّهْرِ تَعْوِيجٌ وتَقْويمُ مَا أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَن الفَتَى حَجَرٌ ... تَنْبُو الحَوَادِثَ عَنْهُ وهو مَلْمُومُ لا يمنع المرءَ أنصارٌ وَرَابيةٌ ... تَأْبَى الهَوَانَ إذَا عُدَّ الجَرَاثِيمُ لا يُحْرِزُ المَرْءَ. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و"أحجاه البلاد": نواحيها وأطرافها. ويروى"أعناء البلاد"، وهو مثله في المعنى. (5) انظر تفسير"آية" فيما سلف في فهرس اللغة (أيي) . (6) قوله: "فافعل"، أي: "إن استطعت أن تبتغي نفقًا. . . فافعل". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 337 معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء"، و"النفق" السَّرب، فتذهب فيه ="فتأتيهم بآية"، أو تجعل لك سلَّمًا في السماء، (1) فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل. 13202 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض"، قال: سَرَبًا ="أو سلمًا في السماء"، قال: يعني الدَّرَج. 13203 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء"، أما"النفق" فالسرب، وأما"السلم" فالمصعد. 13204- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"نفقًا في الأرض"، قال: سربًا. * * * وتُرِك جواب الجزاء فلم يذكر، لدلالة الكلام عليه، ومعرفة السامعين بمعناه. وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يُفهم معناه عند المخاطبين به، فيقول الرجل منهم للرجل:"إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا، إن قدرت على مَعُونتنا"، ويحذف الجواب، وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل. فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب، لم يحذفوه. لا يقال:"إن تقم"، فتسكت وتحذف الجواب، لأن المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره،   (1) في المخطوطة: "تجعل لهم سلمًا"، والجيد ما في المطبوعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 338 حتى يقال:"إن تقم تصب خيرًا"، أو:"إن تقم فحسن"، وما أشبه ذلك. (1) ونظيرُ ما في الآية مما حذف جَوَابه وهو مراد، لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر: (2) فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ، وَلا تَذْ ... هَبْ بِكِ التُّرَّهَاتُ فِي الأهْوَالِ (3) والمعنى: فبحظٍّ مما نعيش فعيشي. (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار، يا محمد، فيحزنك تكذيبهم إياك، لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدِّين، وصوابٍ من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة، لجمعتهم على ذلك، ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأنّي القادرُ على ذلك بلطفي، ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم، من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم ="فلا تكونن"، يا محمد،"من الجاهلين"، يقول:   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 331، 332. (2) هو عبيد بن الأبرص. (3) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 3: 284. وكان البيت في المخطوطة على الصواب كما أثبته، وإن كان غير منقوط. أما المطبوعة، فكان فيها هكذا. فتحطْ مما يعش ولا تذهب ... بك التُرهّات في الأهوال أساء قراءة المخطوطة، وحرفه. (4) في المطبوعة: "والمعنى: فتحط مما يعش فيعشى"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 339 فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجَمع على الهدى جميع خلقه بلطفه، (1) وأنَّ من يكفر به من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه، ونافذ قضائه بأنه كائنٌ من الكافرين به اختيارًا لا إضطرارًا، فإنك إذا علمت صحة ذلك، لم يكبر عليك إعراضُ من أعرض من المشركين عما تدعُوه إليه من الحق، وتكذيبُ من كذَّبك منهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13205 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين. * * * قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، الدلالةُ الواضحة على خطإ ما قال أهل التَّفْويض من القدريّة، (2) المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاءَ توفيقه من خلقه، يلطفُ بها له حتى يهتدِيَ للحقّ، فينقاد له، وينيبَ إلى الرشاد فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله. وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاءَ الهداية لجميع من كفر به، حتى يجتمعوا على الهدى، فعلَ. ولا شك أنه لو فعل ذلك بهم، كانوا مهتدين لا ضلالا. وهم لو كانوا مهتدين، كان لا شك أنّ كونهم مهتدين كان خيرًا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى، تركٌ منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خيرٌ لهم فيه، مما هو قادر على فعله بهم، وقد   (1) انظر تفسير"الجاهل" فيما سلف 2: 182، وتفسير"جهالة" 8: 88 - 92. (2) "أهل التفويض": هم الذين يقولون: إن الأمر فوض إلى الإنسان، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان أو معصية، وهو خالق لأفعاله، والاختيار بيده. انظر ما سلف 1: 162، تعليق: 1. وأما "القدرية"، و"أهل القدر"، فهم الذين ينفون القدر. وأما الذين يثبتون القدر، وهم أهل الحق، فهم: "أهل الإثبات". وانظر ما سلف 1: 162، تعليق: 1. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 340 ترك فعله بهم. وفي تركه فعل ذلك بهم، أوضحُ الدليل أنه لم يعطهم كل الأسباب التي بها يصلون إلى الهداية، ويتسبّبون بها إلى الإيمان. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يكبُرنّ عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك، وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربّهم والإقرار بنبوّتك، فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك، (1) إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحق، وسهَّل لهم اتباع الرُّشد، دون من ختم الله على سمعه، فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحق إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رُعاتها، فهم كما وصفهم به الله تعالى ذكره: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة البقرة: 171] ="والموتى يبعثهم الله"، يقول: والكفارُ يبعثهم الله مع الموتى، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتًا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا إذ كانوا لا يتدبرون حُجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون فينزجرون عما هم عليه من تكذيب رُسل الله وخلافهم. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير"الاستجابة" فيما سلف 3: 483، 484/7: 486 - 488. (2) في المطبوعة: "ولا يتذكرون فينزجروا" وفي المخطوطة: "ولا يتذكروا فينزجروا" والصواب ما أثبته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 13206 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنما يستجيب الذين يسمعون"، المؤمنون، للذكر =" والموتى"، الكفار، حين يبعثهم الله مع الموتى. 13207- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13208 - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" إنما يستجيب الذين يسمعون"، قال: هذا مَثَل المؤمن، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله. والذين كذَّبوا بآياتنا صم وبكم، وهذا مثل الكافر أصم أبكم، لا يبصر هدًى ولا ينتفع به. 13209 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان الثوري، عن محمد بن جحادة، عن الحسن:"إنما يستجيب الذين يسمعون"، المؤمنون ="والموتى"، قال: الكفار. 13210- حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن جحادة قال: سمعت الحسن يقول في قوله:"إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله"، قال: الكفار. * * * وأما قوله:"ثم إليه يرجعون"، فإنه يقول تعالى ذكره: ثم إلى الله يرجع المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول، (1) والكفارُ الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئًا، فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب، ويعاقب هذا الكافرَ بما أوعدَ أهل الكفر به من العقاب، لا يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ثم إلى الله يرجعون المؤمنون"، وليس بشيء هنا، والجيد ما أثبته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 342 القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم، المعرضون عن آياته:"لولا نزل عليه آيه من ربه"، يقول: قالوا: هلا نزل على محمد آية من ربه؟ (1) كما قال الشاعر: (2) تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَل مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَي، لَولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا (3) بمعنى: هلا الكميَّ. * * * و"الآية"، العلامة. (4) * * * وذلك أنهم قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [سورة الفرقان: 7،8] . قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لقائلي هذه المقالة لك:"إنّ الله قادر على أن ينزل آية"، يعني: حجة على ما يريدون ويسألون="ولكن أكثرهم لا يعلمون"، يقول: ولكن أكثر الذين يقولون ذلك فيسألونك آية، (5) لا يعلمون ما عليهم في الآية إن نزلها من البلاء، ولا يدرون ما وجه ترك إنزال ذلك عليك، ولو علموا السبب الذي من أجله لم أنزلها عليك، لم يقولوا ذلك، ولم يسألوكه، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك. * * *   (1) انظر تفسير"لولا" فيما سلف 2: 552، 553/10: 448/ 11: 262، (2) هو جرير. (3) مضى البيت وتخريجه وتفسيره وصواب نسبته فيما سلف 2: 552، 553. (4) انظر تفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (5) في المخطوطة: "ولكن أكثرهم الذين يقولون"، والجيد ما في المطبوعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 343 القول في تأويل قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم، لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، (1) ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مجنَّسة وأصنافًا مصنفة، (2) تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب، ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاءَ أعمالها. يقول: فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يُضيع أعمالكم، ولا يُفَرِّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها، أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إذ كان قد خصكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يعمَّ به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحقَّ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميِّزون، والفهم   (1) انظر تفسير"دابة" فيما سلف 3: 275. (2) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 10: 465، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 344 الذي لم يعطه البهائم والطيرَ، الذي به بين مصالحكم ومضارِّكم تفرِّقون. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13211 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أمم أمثالكم"، أصناف مصنفة تُعرَف بأسمائها. 13212- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13213- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"، يقول: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة. 13214 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا أمم أمثالكم"، يقول: إلا خلق أمثالكم. 13215- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج، عن ابن جريج في قوله:"وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"، قال: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب. * * * وأما قوله:"ما فرطنا في الكتاب من شيء"، فإن معناه: ما ضيعنا إثبات شيء منه، كالذي:- 13216 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ما فرطنا في الكتاب من شيء"، ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب. 13217 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 345 "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، قال: لم نُغفِل الكتاب، ما من شيء إلا وهو في الكتاب. (1) 13218- وحدثني به يونس مرة أخرى، قال في قوله:"ما فرطنا في الكتاب من شيء"، قال: كلهم مكتوبٌ في أم الكتاب. * * * وأما قوله:"ثم إلى ربهم يحشرون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى"حشرهم"، الذي عناه الله تعالى ذكره في هذا الموضع. (2) فقال بعضهم:"حشرها"، موتها. * ذكر من قال ذلك: 13219- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن سعيد، عن مسروق، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"، قال ابن عباس: موت البهائم حشرها. (3) 13220- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ثم إلى ربهم يحشرون"، قال: يعني بالحشر، الموت. 13221- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ثم   (1) في المطبوعة: "لم نغفل ما من شيء. . ."، أسقط"الكتاب"، وهي ثابتة في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف ص: 297، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) الأثر: 13219 -"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، سلف قريبًا رقم: 13177، وكان هنا في المطبوعة والمخطوطة أيضًا"عبد الله بن موسى"، وهو خطأ، أشرت إليه فيما سلف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 346 إلى ربهم يحشرون"، يعني بالحشر: الموت. * * * وقال آخرون:"الحشر" في هذا الموضع، يعني به الجمعُ لبعث الساعة وقيام القيامة. * ذكر من قال ذلك: 13222 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر = عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة في قوله:"إلا أمم أمثالكم ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون"، قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائمَ والدوابَّ والطيرَ وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذَ للجمَّاء من القَرْناء، ثم يقول:"كوني ترابًا"، فلذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [سورة النبأ: 40] . (1) 13223 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر=، عن الأعمش، عمن ذكره، (2) عن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه   (1) الأثر: 13222 -"جعفر بن برقان الكلابي"، ثقة، مضى برقم: 4577، 7836.و"يزيد بن الأصم بن عبيد البكائي"، تابعي ثقة، مضى برقم: 7836.وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 316، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر الجذري، عن يزيد بن الأصم، وقال: "جعفر الجذري هذا، هو ابن برقان، قد احتج به مسلم، وهو صحيح على شرطه، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 308، 309، ثم قال: "وقد روي هذا مرفوعًا في حديث الصور". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 11، وزاد نسبته لأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. و"الجماء": الشاة إذا لم تكن ذات قرن. و"القرناء": الشاة الكبيرة القرن. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "عن الأعمش ذكره"، وهو سهو من الناسخ، صوابه من تفسير ابن كثير. وقوله"عمن ذكره" كأنه يعني: "منذر الثوري" أو "الهزيل بن شرحبيل" كما يتبين من التخريج. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 347 وسلم إذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون فيما انتطحتا؟ قالوا: لا ندري! قال:"لكن الله يدري، وسيقضي بينهما. (1) 13224- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليم قال، حدثنا فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أبا ذَرّ، أتدري فيم انتطحتا"؟ قلت: لا! قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما! قال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلِّب طائرٌ جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا. * * *   (1) الأثران: 13223، 13224 -"إسحق بن سليمان الرازي العبدي"، ثقة مضى برقم: 6456، 10238، 11240.و"فطر بن خليفة القرشي"، ثقة، مضى برقم: 3583، 6175، 7511. وكان في المطبوعة: "مطر بن خليفة"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. و"منذر الثوري"، هو: "منذر بن يعلى الثوري"، ثقة، قليل الحديث روى عن التابعين، لم يدرك الصحابة. مضى برقم: 10839. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 153، مختصرًا من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن منذر، عن أشياخ من التيم، قالوا، قال أبو ذر: "لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علمًا". ثم رواه أيضًا في المسند 5: 162، من ثلاث طرق، مطولا ومختصرًا كالسالف، أولها مطولا من طريق محمد بن جعفر، عن سليمان، عن منذر الثوري، عن أشياخ لهم، عن أبي ذر = ثم من الطريق نفسه مختصرًا كالسالف = ثم من طريق حجاج، عن فطر، عن المنذر، بمعناه. قد تبين من رواية أحمد أن الذي روى عنه الأعمش في الإسناد الأول، هو منذر الثوري نفسه. وإسناد هذه كلها إما منقطعة، كإسناد أبي جعفر = أو فيها مجاهيل، كأسانيد أحمد. ثم رواه أحمد في مسنده بغير هذا اللفظ، (5، 172، 173) من طريق عبيد الله بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن ثروان، عن الهزيل بن شرحبيل، عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا وشاتان تقترتان، فنطحت إحداهما الأخرى فأجهضتها. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: عجبت لها! والذي نفسي بيده ليقادن لها يوم القيامة".وكان في المسند: "عبد الرحمن بن مروان"، وهو خطأ، وإنما الراوي عن الهزيل، هو"ابن ثروان". وهذا إسناد حسن متصل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 348 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ كل دابة وطائر محشورٌ إليه. وجائز أن يكون معنيًّا بذلك حشر القيامة = وجائز أن يكون معنيًّا به حشر الموت = وجائز أن يكون معنيًّا به الحشران جميعًا، ولا دلالة في ظاهر التنزيل، ولا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ ذلك المراد بقوله:"ثم إلى ربهم يحشرون"، إذ كان"الحشر"، في كلام العرب الجمع، (1) ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [سورة ص: 19] ، يعني: مجموعة. فإذ كان الجمع هو"الحشر"، وكان الله تعالى ذكره جامعًا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت، كان أصوبُ القول في ذلك أن يُعَمَّ بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها = وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشورٌ إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله:"ثم إلى ربهم يحشرون"، ولم يخصص به حشرًا دون حشر. * * * فإن قال قائل: فما وجهُ قوله:"ولا طائر يطير بجناحيه"؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا:"كلمت فلانًا بفمي"، و"مشيت إليه برجلي"، و"ضربته بيدي"، خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم، ومن ذلك قوله تعالى ذكره: (إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَي) [سورة ص: 23] . (2)   (1) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف ص: 346، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: ذكر الآية كقراءتها في مصحفنا، هكذا: "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة"، وليس هذا موضع استشهاد أبي جعفر، والصواب في المخطوطة كما أثبته. وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وقد ذكرها أبو جعفر في تفسيره بعد (23: 91، بولاق) ثم قال: [وذلك على سبيل توكيد العرب الكلمة، كقولهم: هذا رجل ذكر"، ولا يكادون يفعلون ذلك إلا في المؤنث والمذكر الذي تذكيره وتأنيثه في نفسه، كالمرأة والرجل والناقة، ولا يكادون أن يقولوا: "هذه دار أنثى، وملحفة أنثى"، لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 349 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بحجج الله وأعلامه وأدلته (1) ="صمٌّ"، عن سماع الحق ="بكم"، عن القيل به (2) ="في الظلمات"، يعني: في ظلمة الكفر حائرًا فيها، (3) يقول: هو مرتطم في ظلمات الكفر، لا يبصر آيات الله فيعتبر بها، ويعلم أن الذي خلقه وأنشأه فدبَّره وأحكم تدبيره، وقدَّره أحسن تقدير، وأعطاه القوة، وصحح له آلة جسمه = لم يخلقه عبثًا، ولم يتركه سدًى، ولم يعطه ما أعطاه من الآلات إلا لاستعمالها في طاعته وما يرضيه، دون معصيته وما يسخطه. فهو لحيرته في ظلمات الكفر، وتردّده في غمراتها، غافلٌ عمَّا الله قد أثبت له في أمّ الكتاب، وما هو به فاعلٌ يوم يحشر إليه مع سائر الأمم. ثم أخبر تعالى ذكره أنه المضِلّ من يشاء إضلالَه من خلقه عن الإيمان إلى الكفر، والهادي إلى الصراط المستقيم منهم من أحبَّ هدايته، فموفّقه بفضله وطَوْله للإيمان به، وترك الكفر به وبرسله وما جاءت به أنبياؤه، وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلا من سبق له في أمّ الكتاب السعادة، ولا يضل منهم أحد إلا من سبق له فيها الشقاء، وأنّ بيده الخير كلُّه، وإليه الفضل كله، له الخلق والأمر. (4) * * *   (1) انظر تفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (2) انظر تفسير"صم" و"بكم" فيما سلف 1: 328 - 331/3: 315. (3) وحد الضمير بعد الجمع فقال: "حائرا فيها"، يعني الكافر المكذب بآيات الله، وهو جائز في مثل هذا الموضع من التفسير. (4) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . = وتفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 10: 429، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 350 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة: 13225 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"صم وبكم"، هذا مثل الكافر، أصم أبكم، لا يبصر هدًى، ولا ينتفع به، صَمَّ عن الحق في الظلمات، لا يستطيع منها خروجًا، متسكِّع فيها. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) } قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في معنى قوله:"أرأيتكم". فقال بعض نحويي البصرة:"الكاف" التي بعد"التاء" من قوله:"أرأيتكم" إنما جاءت للمخاطبة، وتركت"التاء" مفتوحة = كما كانت للواحد. قال: وهي مثل"كاف""رويدك زيدًا"، إذا قلت: أرود زيدًا = هذه"الكاف" ليس لها موضع مسمى بحرف، لا رفع ولا نصب، وإنما هي في المخاطبة مثل كاف"ذاك". ومثل ذلك قول العرب:"أبصرَك زيدًا"، (1) يدخلون"الكاف" للمخاطبة. * * * وقال آخرون منهم: معنى:" أرأيتكم إن أتاكم"، أرأيتم. قال: وهذه"الكاف" تدخل للمخاطبة مع التوكيد، و"التاء" وحدها هي الاسم، كما أدخلت"الكاف" التي تفرق بين الواحد والاثنين والجميع في المخاطبة، كقولهم:"هذا، وذاك، وتلك، وأولئك"، فتدخل"الكاف" للمخاطبة، وليست باسم، و"التاء" هو الاسم للواحد والجميع، تركت على حال واحدة، ومثل ذلك قولهم:   (1) في المطبوعة: "انصرك زيدًا" بالنون، والصواب بالباء كما سيأتي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 351 "ليسك ثَمَّ إلا زيد"، يراد: ليس = و"لا سِيَّك زيد"، فيراد: ولا سيما زيد = و"بلاك" فيراد،"بلى" في معنى:"نعم" = و"لبئسك رجلا ولنعمك رجلا". وقالوا:"انظرك زيدًا ما أصنع به" = و"أبصرك ما أصنع به"، بمعنى: أبصره. وحكى بعضهم:"أبصركُم ما أصنع به"، يراد: أبصروا = و"انظركم زيدًا"، أي انظروا. وحكي عن بعض بني كلاب:"أتعلمك كان أحد أشعرَ من ذي الرمة؟ " فأدخل"الكاف". وقال بعض نحويي الكوفة:"أرأيتك عمرًا" أكثر الكلام فيه ترك الهمز. قال: و"الكاف" من"أرأيتك" في موضع نصب، كأن الأصل: أرأيت نفسك على غير هذه الحال؟ قال: فهذا يثني ويجمع ويؤنث، فيقال:"أرأيتما كما" و"أرأيتموكم". و"وَأَرَأَيْتُنَّكُنَّ"، (1) أوقع فعله على نفسه، وسأله عنها، ثم كثر به الكلام حتى تركوا"التاء" موحدة للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع، فقالوا:"أرأيتكم زيدًا ما صنع"، و"أرأيتكنّ ما صنع"، فوحدوا التاء وثنوا الكاف وجمعوها، فجعلوها بدلا من"التاء"، (2) كما قال: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [سورة الحاقة: 19] ، و"هاء يا رجل"، و"هاؤما"، ثم قالوا:"هاكم"، اكتفى بالكاف والميم مما كان يثنى ويجمع. فكأن"الكاف" في موضع رفع، إذ كانت بدلا من"التاء". وربما وحدت للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، وهي كقول القائل:"عليك زيدًا"،"الكاف" في موضع خفض، والتأويل رفع. فأما ما يُجْلب فأكثر ما يقع على الأسماء، ثم تأتي بالاستفهام فيقال:"أرأيتك زيدًا هل قام"، لأنها صارت بمعنى: أخبرني عن زيد، ثم بيَّن عما يستخبر. فهذا أكثر الكلام. ولم يأت   (1) في المطبوعة فصل وكتب"أرأيتن كن"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لما في معاني القرآن للفراء. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 333، 334. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 352 الاستفهام يليها. (1) لم يقل:"أرأيتك هل قمت"، لأنهم أرادوا أن يبيِّنوا عمن يسأل، ثم تُبيّن الحالة التي يسأل عنها. وربما جاء بالجزاء ولم يأت بالاسم، (2) فقالوا:"أرأيت إن أتيت زيدًا هل يأتينا" (3) = و"أرأيتك" أيضًا = و"أرأيتُ زيدًا إن أتيته هل يأتينا"، إذا كانت بمعنى:"أخبرني"، فيقال باللغات الثلاث. * * * قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ: أخبروني، إن جاءكم، أيها القوم، عذاب الله، كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالصاعقة = أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم، وتبعثون لموقف القيامة، أغير الله هناك تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء، أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء؟ ="إن كنتم صادقين"، يقول: إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أنّ آلهتكم التي تدعونها من دون الله تنفع أو تضر. * * * القول في تأويل قوله: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مكذِّبًا لهؤلاء العادلين به الأوثان: ما أنتم، أيها المشركون بالله الآلهةَ والأندادَ، إن أتاكم عذابُ الله أو أتتكم الساعة،   (1) في المطبوعة، مكان"يليها""ثنيها" وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "وربما جاء بالخبر" وهو خطأ، صوابه في المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة ولا مهموزة. ومن أجل هذا التصرف، تصرف في عبارة أبي جعفر كما سترى في التعليق التالي. (3) في المطبوعة: "فقالوا: أرأيت زيدًا هل يأتينا"، حذف"إن أتيت" لسوء تصرفه كما في التعليق السابق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 353 بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم، بل تدعون هناك ربّكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره ="فيكشف ما تدعون إليه"، يقول: فيفرِّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه، عظيم البلاء النازل بكم إن شاء أن يفرج ذلك عنكم، لأنه القادر على كل شيء، ومالك كل شيء، دون ما تدعونه إلهًا من الأوثان والأصنام ="وتنسون ما تشركون"، يقول: وتنسون حين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة بأهوالها، ما تشركونه مع الله في عبادتكم إياه، فتجعلونه له ندًّا من وثن وَصنم، وغير ذلك مما تعبدونه من دونه وتدعونه إلهًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: = متوعدًا لهؤلاء العادلين به الأصنامَ = ومحذِّرَهم أن يسلك بهم إن هم تمادَوا في ضلالهم سبيلَ من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم، في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا = ومخبرًا نبيَّه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل =:"لقد أرسلنا"، يا محمد،"إلى أمم"، يعني: إلى جماعات وقرون (1) ="من قبلك فأخذناهم بالبأساء"، يقول: فأمرناهم ونهيناهم، فكذبوا رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا، فامتحناهم بالابتلاء ="بالبأساء"، وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة (2) ="والضراء"، وهي   (1) انظر تفسير"أمة" فيما سلف ص: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"البأساء فيما سلف 3: 349 - 252/ 4: 288. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 354 الأسقام والعلل العارضة في الأجسام. (1) * * * وقد بينا ذلك بشواهده ووجوه إعرابه في"سورة البقرة"، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * وقوله:"لعلهم يتضرعون" يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرعوا إليّ، ويخلصوا لي العبادة، ويُفْردوا رغبتهم إليَّ دون غيري، بالتذلل منهم لي بالطاعة، والاستكانة منهم إليّ بالإنابة. * * * وفي الكلام محذوفٌ قد استغني بما دلّ عليه الظاهرمن إظهاره دون قوله: (3) "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم"، وإنما كان سبب أخذه إياهم، تكذيبهم الرسل وخلافهم أمرَه = لا إرسال الرسل إليهم. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى الكلام:"ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك" رسلا فكذبوهم،"فأخذناهم بالبأساء". * * * و"التضرع": هو"التفعل" من"الضراعة"، وهي الذلة والاستكانة. * * *   (1) انظر تفسير"الضراء" فيما سلف 3: 349 - 352/4: 288/7: 214. (2) انظر المراجع كلها في التعليقين السالفين. (3) في المطبوعة: "بما دل عليه الظاهر عن إظهاره من قوله"، غير ما في المخطوطة، وأثبت في المخطوطة بنصه، وإن كنت أخشى أن يكون سقط من الناسخ كلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 355 القول في تأويل قوله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) } قال أبو جعفر: وهذا أيضًا من الكلام الذي فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عن ذكر ما تُرك. وذلك أنه تعالى ذكره أخبرَ عن الأمم التي كذّبت رسلها أنه أخذهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا له، (1) ثم قال:"فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا"، ولم يخبر عما كان منهم من الفعل عند أخذه إياهم بالبأساء والضراء. ومعنى الكلام:"ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون"، فلم يتضرعوا،"فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا". ومعنى:"فلولا"، في هذا الموضع، فهلا. (2) والعرب إذ أوْلَتْ"لولا" اسمًا مرفوعًا، جعلت ما بعدها خبرًا، وتلقتها بالأمر، (3) فقالت:"فلولا أخوك لزرتك" و"لولا أبوك لضربتك"، وإذا أوْلتها فعلا أو لم تُولها اسمًا، جعلوها استفهامًا فقالوا:"لولا جئتنا فنكرمك"، و"لولا زرت أخاك فنزورك"، بمعنى:"هلا"، كما قال تعالى ذكره: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [سورة المنافقون: 10] . وكذلك تفعل ب"لوما" مثل فعلها ب"لولا". (4) * * * فتأويل الكلام إذًا: فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المكذبة رسلَها، الذين لم يتضرعوا عند أخذِناهم بالبأساء والضراء ="تضرعوا"، فاستكانوا لربهم، وخضعوا لطاعته، فيصرف ربهم عنهم بأسه، وهو عذابه. * * *   (1) في المطبوعة حذف"له" وهي في المخطوطة: "به"، وهذا صواب قراءتها. (2) انظر تفسير"لولا" فيما سلف ص: 343، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "وتلتها"، غير ما في المخطوطة وأفسد الكلام. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 334، 335. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 وقد بينا معنى"البأس" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * ="ولكن قست قلوبهم"، يقول: ولكن أقاموا على تكذيبهم رسلهم، وأصرُّوا على ذلك، واستكبروا عن أمر ربهم، استهانةً بعقاب الله، واستخفافًا بعذابه، وقساوةَ قلب منهم. (2) "وزين لهم الشيطانُ ما كانوا يعملون"، يقول: وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الأعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم. * * * القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلما نسوا ما ذكروا به"، فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا، (3) كالذي:- 13226 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فلما نسوا ما ذكروا به"، يعني: تركوا ما ذكروا به. 13227 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن   (1) انظر تفسير"البأس" فيما سلف 3: 354، 355/8: 580. (2) انظر تفسير"قسا" فيما سلف 2: 233 - 237/10: 126، 127. (3) انظر تفسير"النسيان" فيما سلف 2: 9، 473 - 480/5: 164/6: 132، 133 - 135/10: 129. = وانظر تفسير"التذكير" فيما سلف 10: 130، تعليق 2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 357 ابن جريج قوله:"نسوا ما ذكروا به"، قال: ما دعاهم الله إليه ورسله، أبوْه وردُّوه عليهم. * * * ="فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء"، يقول: بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش، ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام، استدراجًا منَّا لهم، كالذي:- 13228 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل =، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:" فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، قال: رخاء الدنيا ويُسْرها، على القرون الأولى. 13229 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، قال: يعني الرخاء وسعة الرزق. 13230 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط. عن السدي قوله:"فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، يقول: من الرزق. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:" فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء"، وقد علمت أن بابَ الرحمة وباب التوبة [لم يفتحا لهم] ، لم تفتح لهم أبواب أخر غيرهما كثيرة؟ (1) قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ من معناه، وإنما معنى ذلك: فتحنا عليهم، استدراجًا منا لهم، أبوابَ كل ما كنا سددنا عليهم بابه، عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا، إذ لم يتضرعوا وتركوا أمر الله تعالى   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "أن باب الرحمة وباب التوبة لم يفتح لهم وأبواب أخر غيره كثيرة" إلا أن المخطوطة ليس فيها إلا"أبواب أخر" بغير واو، ورجحت أنه سقط من الكلام ما أثبته، وأن صوابه ما صححت من ضمائره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 358 ذكره، لأنّ آخر هذا الكلام مردودٌ على أوله. وذلك كما قال تعالى ذكره في موضع آخر من كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، [سورة الأعراف: 94-95] ، ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الآية [أنهم نسوا ما] ذكرهم، (1) بقوله:"فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، هو تبديله لهم مكانَ السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم، من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة، ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية، وهو"فتح أبواب كل شيء" كان أغلق بابه عليهم، مما جرى ذكره قبل قوله:"فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، فردّ قوله:"فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، عليه. * * * ويعني تعالى بقوله:"حتى إذا فرحوا بما أتوا"، يقول: حتى إذا فرح هؤلاء المكذّبون رسلهم بفتحنا عليهم أبوابَ السَّعة في المعيشة، والصحة في الأجسام، كالذي:- 13231 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا"، من الرزق. 13232 - حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدّث، عن حماد بن زيد قال: كان رجل يقول: رَحم الله رجلا تلا هذه الآية، ثم فكر فيها ماذا أريد بها:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة". 13233 - حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا ابن أبي رجاء رجل من أهل الشعر، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن النضر الحارثي في   (1) هذه الزيادة بين القوسين، يقتضيها السياق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 359 قوله:"أخذناهم بغتة"، قال: أُمهلوا عشرين سنة. (1) * * * ويعني تعالى ذكره بقوله:"أخذناهم بغتة"، أتيناهم بالعذاب فجأة، وهم غارُّون لا يشعرون أن ذلك كائن، ولا هو بهم حالٌّ، (2) كما:- 13234 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة"، قال: أعجبَ ما كانت إليهم، وأغَرَّها لهم. (3) 13235 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي"أخذناهم بغتة"، يقول: أخذهم العذابُ بغتةً. 13236 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أخذناهم بغتة"، قال: فجأة آمنين. * * * وأما قوله:"فإذا هم مبلسون"، فإنهم هالكون، منقطعة حججهم، نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلَهم، كالذي:- 13237- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال:   (1) الأثر: 13233 -"ابن أبي رجاء"، لم أعرفه، وكان في المطبوعة: "من أهل الثغر"، وحذف"رجل"، وأثبت ما في المخطوطة. و"محمد بن النضر الحارثي"، أبو عبد الرحمن العابد، مترجم في الكبير1/1/252، وابن أبي حاتم 4/1/110، وحلية الأولياء 8: 217، وصفة الصفوة 3: 93. وهذا الخبر رواه أبو نعيم في الحلية 8: 220 من طريق أبي بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أحمد بن إبراهيم، عن محمد بن منبه، ابن أخت ابن المبارك، عن عبد الله بن المبارك. فأخشى أن يكون"ابن أبي رجاء" هو"محمد بن منبه" ابن أخت بن المبارك. وعسى أن توجد ترجمته"محمد بن منبه"، فيعرف منها ما نجهل، ويصحح ما في المخطوطة أهو"رجل من أهل الشعر"، أم"من أهل الثغر"، كما في المطبوعة. (2) انظر تفسير"بغتة" فيما سلف ص: 325. (3) في المطبوعة: "وأعزها لهم" (بالعين والزاي) والصواب"أغرها"، من"الغرور" و"الغرة" (بالغين والراء المهملة) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 360 حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا هم مبلسون"، قال: فإذا هم مهلكون، متغيِّر حالهم. 13238 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ، عن مجاهد:"فإذا هم مبلسون"، قال: الاكتئاب. (1) 13239 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"فإذا هم مبلسون"، قال:"المبلس" الذي قد نزل به الشرّ الذي لا يدفعه. والمبلس أشد من المستكين، وقرأ: فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، [سورة المؤمنون: 76] . وكان أول مرة فيه معاتبة وبقيّة. (2) وقرأ قول الله:" أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون" ="فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا"، حتى بلغ"وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون"، ثم جاء أمرٌ ليس فيه بقية. (3) وقرأ:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"، فجاء أمر ليس فيه بقية. وكان الأوّل، لو أنهم تضرعوا كُشف عنهم. 13240 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن أبي شريح ضبارة بن مالك، عن أبي الصلت، عن حرملة أبي عبد الرحمن، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الله يعطي عبدَه في دنياه، إنما هو استدراج. ثم تلا هذه الآية:"فلما نسوا ما ذكِّروا به" إلى قوله:" والحمد لله رب العالمين". (4) 13241- وحدثت بهذا الحديث عن محمد بن حرب، عن ابن لهيعة، عن عقبة   (1) في المطبوعة: "فإذا هم مبلسون قال: فإذا هم مهلكون"، لا أدري من أين جاء بهذا. والذي في المخطوطة هو ما أثبت، إلا أنه غير منقوط، فرجحت قراءته كما أثبته. وسيأتي أن معنى"الإبلاس"، الحزن والندم. (2) في المطبوعة: "معاتبة وتقية"، ولا معنى لذلك هنا، وفي المخطوطة: "ولقية" وصواب قراءتها ما أثبت. و"البقية"، الإبقاء عليهم. (3) في المخطوطة والمطبوعة هنا في الموضعين: تقية"، وهو خطأ، انظر التعليق السالف. (4) الأثران: 13240، 13241 -"سعيد بن عمرو السكوني"، مضى برقم: 5563، 6521. و"بقية بن الوليد الحمصي"، مضى مرارًا، أولها رقم: 152، وآخرها: 9224. وهو ثقة، ولكنهم نعوا عليه التدليس. و"ضبارة بن مالك" نسب إلى جده هو"ضبارة بن عبد الله بن مالك بن أبي السليك الحضري الألهاني"، "أبو شريح الحمصي"، ويقال أيضًا"ضبارة بن أبي السليك"، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يعتبر حديثه من رواية الثقات عنه". وذكره ابن عدي في الكامل وساق له ستة أحاديث مناكير. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/343، وابن أبي حاتم 2/1/471. و"أبو الصلت"، مذكور في ترجمة"ضبارة" في التهذيب، وموصوف بأنه"الشامي"، ولم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من كتب التراجم. وأما "حرملة، أبو عبد الرحمن"، فهذا مشكل، فإن"حرملة بن عمران بن قراد التجيبي المصري"، كنيته"أبو حفص"، لم أجد له كنية غيرها. ولا أستخير أن يكون ذلك خطأ من ناسخ، فأخشى أن تكون"أبو عبد الرحمن"، كنية أخرى له. وهو ثقة، كان من أولى الألباب. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/64، وابن أبي حاتم 1/2/273.و"عقبة بن مسلم التجيبي المصري"، إمام المسجد العتيق، مصري تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. و"عقبة بن عامر الجهني"، قديم الهجرة والسابقة والصحبة. وكان عالمًا فقهيًا فصيح اللسان، شاعرًا، كاتبًا، وهو أحد من جمع القرآن. وهذا الخبر سيرويه أبو جعفر بعد من طريق ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم، ورواه أحمد في مسنده 4: 145، من طريق يحيى بن غيلان، عن رشدين بن سعد، عن حرملة بن عمران، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، بمثله. وخرجه الهيثمي في مجمع الزاوئد 7: 20، ونسبه لأحمد والطبراني، ولم يذكر في إسناده شيئًا من صحة أو ضعف. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 311 من رواية أحمد، وأشار إلى طريق ابن جرير، وابن أبي حاتم. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 12، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 بن مسلم، عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا رأيت الله تعالى ذكره يعطي العبادَ ما يسألون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم! ثم تلا"فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" الآية. * * * وأصل"الإبلاس" في كلام العرب، عند بعضهم: الحزن على الشيء والندم عليه = وعند بعضهم: انقطاع الحجة، والسكوت عند انقطاع الحجة = وعند الجزء: 11 ¦ الصفحة: 362 بعضهم: الخشوع = وقالوا: هو المخذول المتروك، ومنه قول العجاج: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا ? ... قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُه! وَأَبْلَسَا (1) فتأويل قوله:"وأبلسا"، عند الذين زعموا أن"الإبلاس"، انقطاع الحجة والسكوت عنده، بمعنى: أنه لم يُحِرْ جوابًا. (2) وتأوَّله الآخرون بمعنى الخشوع، وترك أهله إياه مقيمًا بمكانه. والآخرون بمعنى الحزن والندم. يقال منه:"أبلس الرجل إبلاسًا"، ومنه قيل: لإبليس"إبليس". (3) * * *   (1) مضى البيت وتخريجه وتفسيره فيما سلف 1: 509، ولم أشر هناك إلى مجيئه في التفسير في هذا الموضع ثم في 21: 18 (بولاق) ، وأزيد أنه في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 192، ومعاني القرآن للفراء 1: 335. (2) هو الفراء في معاني القرآن 1: 335. (3) انظر ما قاله أبو جعفر في تفسير"إبليس" فيما سلف 1: 509، 510. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 القول في تأويل قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فقطع دابر القوم الذين ظلموا"، فاستؤصل القوم الذين عَتَوا على ربهم، وكذّبوا رسله، وخالفوا أمره، عن آخرهم، فلم يترك منهم أحد إلا أهلك بغتةً إذ جاءهم عذاب الله. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13242 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 حدثنا أسباط، عن السدي:"فقطع دابر القوم الذين ظلموا"، يقول: قُطع أصل الذين ظلموا. 13243 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فقطع دابر القوم الذين ظلموا"، قال: استؤصلوا. * * * و"دابر القوم"، الذي يدبرُهم، وهو الذي يكون في أدبارهم وآخرهم. يقال في الكلام:"قد دَبَر القومَ فلانٌ يدبُرُهم دَبْرًا ودبورًا"، إذا كان آخرهم، ومنه قول أمية: فَاُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلا انْتَصَرُوا (1) * * * ="والحمد لله رب العالمين"، يقول: والثناء الكامل والشكر التام ="لله رب العالمين"، على إنعامه على رسله وأهل طاعته، (2) بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر، وتحقيق عِدَاتِهم ما وَعدوهم على كفرهم بالله وتكذيبهم رسله (3) = من نقم الله وعاجل عذابه. (4) * * *   (1) ديوانه: 32، من أبيات يحكى فيها صفة الموقف في يوم الحشر. يقال: "حص الشعر"، إذا حلقه، لم يبق منه شيئًا. (2) انظر تفسير"الحمد"، و"رب العالمين" فيما سلف في سورة الفاتحة. (3) في المطبوعة: "وتحقيق عدتهم ما وعدهم"، وفي المخطوطة: "عداتهم ما وعدوهم"، وصواب قراءة ذلك كله ما أثبته. (4) السياق: ". . . ما وعدوهم. . . من نقم الله وعاجل عذابه". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 364 القول في تأويل قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بي الأوثانَ والأصنامَ، المكذبين بك: أرأيتم، أيها المشركون بالله غيرَه، إن أصمَّكم الله فذهب بأسماعكم، وأعماكم فذهب بأبصاركم، وختم على قلوبكم فطبع عليها، حتى لا تفقهوا قولا ولا تبصروا حجة، ولا تفهموا مفهومًا، (1) أيّ إله غير الله الذي له عبادة كل عابد ="يأتيكم به"، يقول: يرد عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام، فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم، وعلى ردّه عليكم إذا شاء؟ وهذا من الله تعالى ذكره، تعليم نبيَّه الحجة على المشركين به، يقول له: قل لهم: إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا، وإنما يستحق العبادةَ عليكم من كان بيده الضر والنفع، والقبض والبسط، القادرُ على كل ما أراد، لا العاجز الذي لا يقدر على شيء. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"انظر كيف نصرف الآيات"، يقول: انظر كيف نتابع عليهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال والعبر، ليعتبروا ويذكروا فينيبوا، (2) ="ثم هم يصدفون"، يقول: ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج، وتنبيهنا إياهم بالعبر، عن الادّكار والاعتبار يُعْرضون. * * *   (1) انظر تفسير"الختم على القلب" فيما سلف 1: 258 262. (2) انظر تفسير"التصريف" فيما سلف 3: 275، 276. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 365 يقال منه:" صدف فلانٌ عني بوجهه، فهو يصدِفُ صُدوفًا وصَدفًا"، أي: عدل وأعرض، ومنه قول ابن الرقاع: إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ، ... وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ (1) وقال لبيد: يُرْوِي قَوامِحَ قَبْلَ اللَّيْلِ صَادِفَةً ... أَشْبَاهَ جِنّ، عَلَيْهَا الرَّيْطُ وَالأزُرُ (2) فإن قال قائل: وكيف قيل:"من إله غير الله يأتيكم به "، فوحّد "الهاء"،   (1) لم أجد البيت، ولم أعرف مكان القصيدة. (2) ديوانه، القصيدة رقم: 12، البيت: 22. وهذا البيت من أبيات أحسن فيها الثناء على نفسه، وقبله: ولا أقُولُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ ... يَا وَيْحَ نَفْسِيَ مَمَّا أَحْدَثَ القَدَرُ ولا أضِلُّ بأَصْحَابٍ هَدَيْتُهُمُ ... إذَا المُعَبَّدُ في الظَّلْمَاء يَنْتَشِرُ وأُرْبِحُ التَّجْرَ، إنْ عَزَّتْ فِضَالُهُمُ ... حَتَّى يَعُودَ سَلِيمًا حَوْلَهُ نَفَرُ غَرْبُ المَصَبَّةِ، مَحْمُودٌ مَصَارِعُهُ ... لاَهِي النَّهَارِ، أسِيرُ الليل، مُحْتَقِرُ يُرْوى قَوَامحَ. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا أضِلُّ بأَصْحَابٍ هَدَيْتُهُمُ ... إذَا المُعَبَّدُ في الظَّلْمَاء يَنْتَشِرُ وأُرْبِحُ التَّجْرَ، إنْ عَزَّتْ فِضَالُهُمُ ... حَتَّى يَعُودَ سَلِيمًا حَوْلَهُ نَفَرُ إِنْ يُتْلِفُوا يُخْلِفُوا فِي كُلِّ مَنْفَضَةٍ ... مَا أَتْلَفُوا لاِبْتِغَاءِ الحَمْدِ أوْ عَقَرُوا "المعبد": الطريق الموطوء، يقول: إذا انتشر الطريق المعبد، فصار طرقًا مختلفة، اهتديت إلى قصده ولزمته، فلم أضل. و"التجر" باعة الخمر، و"الفضال" بقايا الخمر في الباطية والدن. و"عزت": قلت وغلت. يقول: اشتري الخمر بالثمن الغالي إذا عزت، ثم أسقي أصحابي حتى يصرعوا حول الزق، كأنهم يعودون سليما ملدوغًا. وقوله: "غرب المصبة"، يصف"الزق"، يقول: يكثر ما يصبه من خمر، وإذا صرع شاربًا، كانت صرعته محمودة الأثر، محمودة العاقبة. وقوله: "لاهي النهار"، يعني أنه لا يمس بها، فإذا جاء الليل أخذوه كالأسير بينهم، ومحتقر، لأنه يدفع من هنا ومن هنا. وقوله: "يروى قوامح"، يعني الزق، يبلغ بهم الري، و"القوامح": التي كرهت الشراب وعافته. يقول: كانوا يكرهون الشراب نهارًا فيصدفون عنه، فإذا أقبل الليل أقبل على أشباه جن من النشاط والإقبال، عليهم الريط والأزر، يعني أنهم أهل ترف ونعمة إذا جاء الليل، وسمروا، وشربوا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 وقد مضى الذكر قبلُ بالجمع فقال:"أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأنصاركم وختم على قلوبكم"؟ قيل: جائز أن تكون"الهاء" عائدة على"السمع"، فتكون موحّدة لتوحيد"السمع" = وجائز أن تكون معنيًّا بها: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة، فتكون موحده لتوحيد"ما". والعرب تفعل ذلك، إذا كنتْ عن الأفعال وحّدت الكناية، وإن كثر ما يكنى بها عنه من الأفاعيل، كقولهم:"إقبالك وإدبارك يعجبني". (1) * * * وقد قيل: إن"الهاء" التي في"به" كناية عن"الهدى". (2) * * * وبنحو ما قلنا في تأويل قوله:"يصدفون"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13244- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يصدفون"، قال: يعرضون. 13245- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13246 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يصدفون"، قال: يعدلون. 13247 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"نصرف الآيات ثم هم يصدفون"، قال: يعرضون عنها.   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 335. (2) وهذا أيضًا ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 335. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 367 13248 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ثم هم يصدفون"، قال: يصدُّون. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ، المكذبين بأنك لي رسول إليهم: أخبروني (1) ="إن أتاكم عذاب الله"، وعقابه على ما تشركون به من الأوثان والأنداد، وتكذيبكم إيايَ بعد الذي قد عاينتم من البرهان على حقيقة قولي ="بغتة"، يقول: فجأة على غرة لا تشعرون (2) =" أو جهرة"، يقول: أو أتاكم عذاب الله وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه ="هل يهلك إلا القوم الظالمون"، يقول: هل يهلك الله منا ومنكم إلا من كان يعبد غير من يستحق علينا العبادة، وترك عبادة من يستحق علينا العبادة؟ وقد بينا معنى"الجهرة" في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته، وأنها من"الإجهار"، وهو إظهار الشيء للعين، (3) كما:- 13249 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"جهرة"، قال: وهم ينظرون. 13250- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) انظر تفسير"أرأيتكم" فيما سلف قريبًا ص: 351 353. (2) انظر تفسير"بغتة" فيما سلف: 325، 360. (3) انظر تفسير"الجهرة" فيما سلف 2: 80/9: 358. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 368 ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة"، فجأة آمنين ="أو جهرة"، وهم ينظرون. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نرسل رسلنا إلا ببشارة أهل الطاعة لنا بالجنة والفوز المبين يوم القيامة، جزاءً منَّا لهم على طاعتنا (1) = وبإنذار من عصَانا وخالف أمرنا، عقوبتنا إياه على معصيتنا يوم القيامة، جزاءً منا على معصيتنا، لنعذر إليه فيهلك إن هلك عن بينة (2) ="فمن آمن وأصلح"، يقول: فمن صدَّق من أرسلنا إليه من رسلنا إنذارهم إياه، وقبل منهم ما جاؤوه به من عند الله، وعمل صالحًا في الدنيا ="فلا خوف عليهم"، عند قدومهم على ربهم، من عقابه وعذابه الذي أعدَّه الله لأعدائه وأهل معاصيه ="ولا هم يحزنون"، عند ذلك على ما خلَّفوا وراءَهم في الدنيا. (3) * * *   (1) انظر تفسير"التبشير" فيما سلف 9: 318، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"النذير" فيما سلف 10: 158. (3) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 1: 551/2: 150، 512، 513/5: 519/7: 396. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 369 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين كذَّبوا بمن أرسلنا إليه من رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا، ودافعوا حجتنا، فإنهم يباشرهم عذابُنا وعقابنا، على تكذيبهم ما كذبوا به من حججنا (1) ="بما كانوا يفسقون"، يقول: بما كانوا يكذّبون. * * * وكان ابن زيد يقول: كل"فسق" في القرآن، فمعناه الكذب. (2) 13251 - حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه. (3) * * *   (1) انظر تفسير"المس" فيما سلف ص: 287، تعليق: 1؛ والمراجع هناك. (2) انظر ما سلف قريبًا ص: 206، تعليق: 2، والمراجع هناك. وانظر أيضًا الأثران رقم: 12103، 12983. (3) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القولُ في تأويل قوله {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إليِّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والبَصِيرُ أفَلا تتفكَّرُون} وَصَلَّى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرًا" ثم يتلوه ما نصه: "بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم رَبِّ أَعِنْ" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 370 القول في تأويل قوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المنكرين نبوّتك: لستُ أقول لكم إنّي الرب الذي له خزائنُ السماوات والأرض، وأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء، (1) فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون ربًّا إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية، وذلك هو الله الذي لا إله غيره ="ولا أقول لكم إني ملك"، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرًا بصورته لأبصار البشر في الدنيا، فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك (2) ="إن أتبع إلا ما يوحى إليّ"، يقول: قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ، وتنزيله الذي ينزله عليّ، (3) فأمضي لوحيه وأئتمر لأمره، (4) وقد أتيتكم بالحجج القاطعة من الله عذركم على صحة قولي في ذلك، وليس الذي أقول من ذلك بمنكر في عقولكم ولا مستحيل كونه، بل ذلك مع وجود البرهان على حقيقته هو الحكمة البالغة، فما وجه إنكاركم ذلك؟ وذلك تنبيه من الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على موضع حُجته على منكري نبوّته من مشركي قومه. ="قل هل يستوي الأعمى والبصير"، يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد،   (1) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف: 238، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"ملك" فيما سلف 1: 444 - 447/4: 262، 263. (3) انظر تفسير"الوحي" فيما سلف: 290، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) في المطبوعة: "وأمر لأمره"، والصواب من المخطوطة، ولم يحسن قراءتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 371 لهم: هل يستوي الأعمى عن الحق، والبصير به ="والأعمى"، هو الكافر الذي قد عَمى عن حجج الله فلا يتبيَّنها فيتبعها ="والبصير"، المؤمن الذي قد أبصرَ آيات الله وحججه، فاقتدى بها واستضاء بضيائها (1) ="أفلا تتفكرون"، يقول لهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله: أفلا تتفكرون فيما أحتجّ عليكم به، أيها القوم، من هذه الحجج، فتعلموا صحة ما أقول وأدعوكم إليه، من فساد ما أنتم عليه مقيمون من إشراك الأوثان والأنداد بالله ربّكم، وتكذيبكم إياي مع ظهور حجج صدقي لأعينكم، فتدعوا ما أنتم عليه من الكفر مقيمون، إلى ما أدعوكم إليه من الإيمان الذي به تفوزون؟ (2) * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13252 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"قل هل يستوي الأعمى والبصير"، قال: الضال والمهتدي. 13253- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13254 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"قل هل يستوي الأعمى والبصير"، الآية، قال:"الأعمى"، الكافر الذي قد عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه = و"البصير"، العبد المؤمن الذي أبصر بصرًا نافعًا، فوحّد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما آتاه الله. * * *   (1) انظر تفسير"الأعمى" و"البصير" فيما سلف من فهارس اللغة (عمى) ، و (بصر) . (2) في المخطوطة: "تعودون"، والجيد ما في المطبوعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 372 القول في تأويل قوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر، يا محمد، بالقرآن الذي أنزلناه إليك، القومَ الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، علمًا منهم بأن ذلك كائن، فهم مصدقون بوعد الله ووعيده، عاملون بما يرضي الله، دائبون في السعي، (1) فيما ينقذهم في معادهم من عذاب الله (2) ="ليس لهم من دونه وليّ"، أي ليس لهم من عذاب الله إن عذبهم =،"وليّ"، ينصرهم فيستنقذهم منه، (3) ="ولا شفيع"، يشفع لهم عند الله تعالى ذكره فيخلصهم من عقابه (4) =" لعلهم يتقون"، يقول: أنذرهم كي يتقوا الله في أنفسهم، فيطيعوا ربهم، ويعملوا لمعادهم، ويحذروا سَخطه باجتناب معاصيه. * * * وقيل:"وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا"، ومعناه: يعلمون أنهم يحشرون، فوضعت"المخافة" موضع"العلم"، (5) لأنّ خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك. (6) * * *   (1) في المطبوعة: "دائمون في السعي"، والصواب ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الإنذار" فيما سلف: 290، 369. = وتفسير"الحشر" فيما سلف ص: 346 - 349، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"ولى" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . (4) انظر تفسير"شفيع" فيما سلف 8: 580، تعليق: 3، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 4: 550/8: 298، 299، 318/9: 123، 267. (6) انظر معاني القرآن للفراء 1: 336. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 373 وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه ما أنزل الله إليه من وحيه، وتذكيرهم، والإقبال عليهم بالإنذار = وصدَّ عنه المشركون به، (1) بعد الإعذار إليهم، وبعد إقامة الحجة عليهم، حتى يكون الله هو الحاكم في أمرهم بما يشاء من الحكم فيهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) } قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين، قال المشركون له: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك! * ذكر الرواية بذلك: 13255 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو زبيد، عن أشعث، عن كردوس الثعلبي، عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب وعمار وبلال وخبّاب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتّبعك! فنزلت   (1) في المطبوعة: "وصده عن المشركين به"، غير ما في المخطوطة فأفسد الكلام إفسادًا لا يحل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 374 هذه الآية:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" ="وكذلك فتنا بعضهم ببعض"، إلى آخر الآية. (1) 13256- ......... حدثنا جرير، عن أشعث، عن كردوس الثعلبي، عن عبد الله قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه. (2) 13257 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن كردوس، عن ابن عباس قال: مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ من قريش، ثم ذكر نحوه. (3)   (1) الأثر: 13255 -"أبو زبيد" هو: "عبثر بن القاسم الزبيدي"، ثقة، مضى برقم: 12336، 12402، وكان في المطبوعة"أبو زيد" خالف المخطوطة وأخطأ. و"أشعث"، هو"أشعث بن سوار"، ثقة، مضى مرارًا و"كردوس الثعلبي"، هو"كردوس بن العباس الثعلبي"، تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/242، 243، وابن أبي حاتم 3/2/175، وفيها الاختلاف في اسم أبيه، وفي نسبته"التغلبي" بالتاء والغين، و"الثعلبي"، كما جاءت في رواية أبي جعفر. وهذا الخبر رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد، هذا واللذان يليانه. . . وأخرجه أحمد في مسنده رقم: 3985، من طريق أسباط، عن أشعث، عن كردوس، عن ابن مسعود، بمثله مختصرًا وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: "رواه أحمد والطبراني = وذكر زيادة الطبراني، وهي موافقة لما في التفسير = ورجال أحمد رجال الصحيح، غير كردوس، وهو ثقة". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 12، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية. (2) الأثر: 13256 - وضعت نقطًا في صدر هذا الإسناد، فإن أبا جعفر لا يدرك أن يروي عن"جرير بن عبد الحميد الضبي"، وإنما يروى عنه شيوخه، مثل"محمد بن حميد الرازي"، كما في الأثر رقم: 10، وغيره. (3) الأثر: 13257 - في المطبوعة والمخطوطة: "عن كردس، عن ابن عباس" وهو خطأ لا شك فيه، فإن هذا الخبر لم يرو عن غير ابن مسعود، وكردوس لم يذكر أنه روى عن ابن عباس، والخبر لم ينسبه أحد في الكتب إلى غير عبد الله بن مسعود، وكردوس، هو"كردوس بن عباس الثعلبي" كما سلف في التعليق رقم: 13255، وفي المخطوطة كتب"عن" بين"كردوس بن عباس"، من فوق، فكأنه زيادة من الناسخ. وهذا الخبر رواه أبو جعفر، غير مرفوع إلى عبد الله بن مسعود، فلا أدري أوهم الناسخ وأسقط، أم هكذا الرواية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 375 13258 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعد الأزدي = وكان قارئ الأزد =، عن أبي الكنود، عن خبّاب، في قول الله تعالى ذكره:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" إلى قوله:"فتكون من الظالمين"، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاريّ، فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب، في أناس من الضعفاء من المؤمنين. (1) فلما رأوهم حوله حَقَروهم، فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا العرب به فضلَنا، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال: نعم! قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابًا. قال: فدعا بالصحيفة، ودعا عليًّا ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يردون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين"، ثم قال:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين"، ثم قال:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة"، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفةَ من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول:"سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة"! فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، [سورة الكهف: 28] . قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد،   (1) في المطبوعة: "من ضعفاء المؤمنين"، غير ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 376 فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم. (1) 13259- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب بن الأرت = بنحو حديث الحسين بن عمرو، إلا أنه قال في حديثه: فلما رأوهم حوله نفّروهم، فأتوه فخلَوا به. وقال أيضًا:"فتكون من الظالمين"، ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض" الآية. وقال أيضًا: فدعانا فأتيناه وهو يقول:"سلام عليكم"، فدنونا منه يومئذ حتى وَضعنا ركبنا على ركبتيه = وسائر الحديث نحوه. (2)   (1) الأثر: 13258 -"الحسن بن عمرو بن محمد العنقري"، ضعيف لين، مضى برقم: 1625، 1883، 6139، 8035. وأبوه"عمرو بن محمد العنقري"، ثقة جائز الحديث، مضى برقم: 6139. و"أسباط"، هو"أسباط بن نصر الهمداني"، ضعفه أحمد، ورجح أخي توثيقه، كما مضى في التعليق على الأثر رقم: 168. وأما "السدي"، فهو"إسمعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي"، وهو ثقة، مضى أيضًا برقم: 168. و"أبو سعيد الأزدي"، قارئ الأزد، فهو"أبو سعد الأرحبي"، أو "أبو سعيد الأرحبي"، كما سيأتي في الأثر التالي، ذكره ابن حبان في الثقات، مضى برقم: 8700، وكان في المطبوعة هنا"أبو سعيد"، وأثبت ما في المخطوطة. و"أبو الكنود الأزدي"، مختلف في اسمه، قيل"عبد الله بن عامر"، وقيل"عبد الله بن عمران"، وغير ذلك. ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يرو له غير ابن ماجه من أصحاب الكتب الستة، روى له هذا الخبر نفسه. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر رواه ابن ماجه من هذه الطريق نفسها، مع زيادة يسيرة في لفظه، في سننه ص1382، رقم: 4127. وقال في الزوائد: "إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وقد روى مسلم، والنسائي، والمصنف بعضه من حديث سعد بن أبي وقاص و".أما ابن كثير، فقد قال في تفسيره، وذكر الخبر من تفسير ابن أبي حاتم من هذه الطريق نفسها (3: 315، 316) : "وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس، وعيينة، إنما أسلما بعد الهجرة بدهر". وهذا هو الحق إن شاء الله. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 13، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وأبي يعلى، وأبي نعيم في الحلية، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. (2) الأثر: 13259 -"أبو سعيد الأزدي"، هو"أبو سعيد الأرحبي"، وهو الذي سلف في الأثر السابق، وهو"أبو سعد" هناك، ولكنه هنا"أبو سعيد"، وكلاهما صواب كما أسلفت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 377 13260- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة = وحدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والكلبي: أنّ ناسًا من كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرَّك أن نتبعك، فاطرد عنا فلانًا وفلانًا، ناسًا من ضعفاء المسلمين! فقال الله تعالى ذكره:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه". 13261 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ" إلى قوله:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض" الآية، قال: وقد قال قائلون من الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن سرك أن نتبعك فاطرد عنا فلانًا وفلانًا = لأناس كانوا دونهم في الدنيا، ازدراهم المشركون، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية إلى آخرها. 13262 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"، بلال وابن أم عبد، كانا يجالسان محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش محقِّرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه! فنُهي عن طردهم، حتى قوله:"أليس الله بأعلم بالشاكرين"، قال:"قل سلام عليكم"، فيما بين ذلك، في هذا. 13263 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال، قال سعد: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم ابن مسعود، قال: كنا نسبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وندنو منه ونسمع منه، فقالت قريش: يدني هؤلاء دوننا! فنزلت:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي". (1)   (1) الأثر: 13263 -"سفيان"، هو الثوري. "المقدام بن شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي". ثقة. مترجم في التهذيب. وأبوه"شريح بن هانئ بن يزيد الحارث"، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وروى عن أبيه، وعمر، وعلي، وبلال، وسعد، وأبي هريرة، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة. مترجم في التهذيب. و"سعد" هو"سعد بن أبي وقاص"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سعيد"، وهو خطأ. وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 15: 187 من طريقين، من طريق سفيان، عن المقدام ابن شريح = وعن طريق إسرائيل، عن المقدام. ورواه ابن ماجه في سننه ص 1383 رقم: 4128، من طريق قيس بن الربيع، عن المقدام بن شريح، بمثله، بغير هذا اللفظ. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 13، وزاد نسبته لأحمد، والفريابي، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 13264 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عديّ، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف من الكفار، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءَنا، فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا، (1) كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، وتصديقنا له! قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلتَ ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية:"وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" إلى قوله:"أليس الله بأعلم بالشاكرين"، قال: وكانوا: بلال، وعمارُ بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد (2) = ومن الحلفاء: ابن   (1) "العسفاء" جمع"عسيف"، وهو العبد، والأجير المستهان به. (2) في المطبوعة: "وكانوا بلالا. . . وسالما. . . وصبيحا"، بالنصب، كما في الدر المنثور، وابن كثير، ولكن الذي في المخطوطة هو الصواب الجيد. هذا إن صح أن هذه الرواية هي الصواب، وإلا فإني وجدت في الإصابة، في ترجمة"صبيح" هذا وفيه: "عن حجاج، عن ابن جريج، وفيه: كانوا ثلاثة، عمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح". فإن صح هذا، كان خطأ قوله"بلال"، وإنما صوابه"ثلاثة"، ولكنني لا أستطيع أن أرجح ذلك الآن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 379 مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاريّ، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد = وأبو مرثد، من غنيّ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب = وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا" الآية. فلما نزلت، أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مَقالته، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم"، الآية. (1) 13265 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحيي من الله أن يرَاني مع سلمان وبلال وذَوِيهم، (2) فاطردهم عنك، وجالس فلانًا وفلانًا! قال فنزل القرآن:" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه" فقرأ، حتى بلغ:"فتكون من الظالمين"، ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلا أن تطردهم. ثم قال:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين". ثم قال: وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم، فأبلغهم منّي السلام، وبشرهم وأخبرهم أني قد غفرت لهم! وقرأ:"وإذا جاءك الذين يؤمنون   (1) الأثر: 13264 -"مسعود بن القاري"، هو"مسعود بن ربيعة بن عمرو القاري"، نسبة إلى"القارة"، وهو حليف بني زهرة. و"واقد بن عبد الله الحنظلي التميمي"، حليف بني عدي بن كعب. و"عمرو بن عبد عمرو بن فضلة الخزاعي"، "ذو الشمالين"، حليف بني زهرة. وقد روي أن عمارًا قال: "كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة كلهم أضبط: ذو الشمالين، وعمر بن الخطاب، وأبو ليلى"، و"الأضبط": الذي يعمل بيديه جميعًا. (2) قوله: "وذويهم" يعني: أصحابهم وأشباههم، وقد أسلفت في الجزء 3: 261، تعليق: 2، أن للنحاة كلامًا كثيرًا، ودعوى أن إضافة"ذو" إلى الضمير، يكون في ضرورة الشعر، وقلت إنه أتى في النثر قديمًا، وهذا الخبر من أدلة ما قلت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 380 بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة"، فقرأ حتى بلغ:"وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين"، قال: لتعرفها. * * * واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرَّهط، الذين نهى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، يدعون ربّهم به. فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس. (1) * ذكر من قال ذلك: 13266 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ"، يعني: يعبدون ربّهم ="بالغداة والعشيّ"، يعني: الصلوات المكتوبة. 13267- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن أبي حمزة، عن إبراهيم في قوله:"يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"، قال: هي الصلوات الخمس الفرائض. ولو كان ما يقول القُصَّاص، (2) هلك من لم يجلس إليهم. 13268 - حدثنا هناد بن السري وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل،   (1) في المطبوعة: "الصلوات المكتوبة"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) كان في المطبوعة والمخطوطة: "ولو كان يقول القصاص" بإسقاط"ما" وهو خطأ. "القصاص" جمع"قاص"، وهو الذي يتصدر في مسجد أو غيره، ثم يأخذ يعظ الناس، ويذكرهم بأخبار الماضين، فربما دخل قصصه الزيادة والنقصان، ولذلك جاء في الحديث: "القاص ينتظر المقت". وفي الحديث: "إن بني إسرائي لما قصوا هلكوا"، يعني: لما تزيدوا في الخبر والحديث وكذبوا، وهذا من شر الفعل، ولكن ما دخلت فيه بنو إسرائيل فعذبهم الله وأهلكهم به، ودخلناه نحن سعيًا، فعاقبنا الله بشتات أمرنا، وضعف علمائنا، وذهاب هيبتنا من صدور أعدائنا. فاللهم اهدنا سواء سبيلك. ثم انظر الأثر التالي رقم: 13270، والأثر: 132277، 13282 الجزء: 11 ¦ الصفحة: 381 عن الأعمش، عن إبراهيم:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"، قال: هي الصلاة. 13269 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"، الصلاة المفروضة، الصبح والعصر. 13270 - حدثني محمد بن موسى بن عبد الرحمن الكندي قال، حدثنا حسين الجعفي قال، أخبرني حمزة بن المغيرة، عن حمزة بن عيسى قال: دخلت على الحسن فسألته فقلت: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف: 28] ، أهم هؤلاء القُصّاص؟ قال: لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة. (1) 13271 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا ورقاء = جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"، قال: الصلاة المكتوبة. 13272 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"يدعون ربهم بالغداة والعشي"، قال: يعبدون ربّهم ="بالغداة والعشي"، يعني الصلاة المفروضة. 13273 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن   (1) الأثر: 13270 -"محمد بن موسى بن عبد الرحمن الكندي"، شيخ الطبري، لم أجد له ذكرًا. وكان في المطبوعة هنا"موسى بن عبد الرحمن الكندي"، غير ما في المخطوطة، وحذف"محمد بن"، وهذا تصرف معيب قبيح. و"حسين الجعفي" هو"حسين بن علي بن الوليد الجعفي"، مضى مرارًا كثيرة، وكان في المطبوعة: "حسن الجعفي"، وهو خطأ محض. و"حمزة بن المغيرة بن نشيط المخزومي" العابد، مضى برقم: 184. وأما "حمزة بن عيسى"، فلم أجد في الرواة من يسمى بذلك، وأرجح أن الناسخ أخطأ، فأعاد كتابة"حمزة"، فاختلط الاسم، فلا يصححه إلا أن يوجد في مكان آخر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 قتادة قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف: 28] ، هما الصلاتان: صلاة الصبح وصلاة العصر. 13274 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب قال، حدثنا محمد بن عجلان، عن نافع، عن عبد الله بن عمر في هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآية، أنهم الذين يشهدون الصلوات المكتوبة. (1) 13275 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، قالا الصلوات الخمس. 13276- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. 13277- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"، قال: المصلين المؤمنين، بلال وابن أم عبد = قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلّم الإمام ابتدر الناس القاصَّ، فقال سعيد: ما أسرعَ بهم إلى هذا المجلس! (2) قال مجاهد: فقلت يتأولون ما قال الله تعالى ذكره. قال: وما قال؟ قلت:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"، قال: وفي هذا ذَا؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن، إنما ذاك في الصلاة.   (1) الأثر: 13274 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 4: 219، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وهذا إسناد صحيح. (2) في المطبوعة: "ما أسرعهم إلى هذا المجلس"، وفي المخطوطة: "ما أسرع إلى هذا المجلس"، فرأيت أن يكون الصواب ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 383 13278 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن أبيه، عن منصور، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: الصلاة المكتوبة. (1) 13279 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: هي الصلاة. 13280- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع، عن أبيه، عن إسرائيل، عن عامر قال: هي الصلاة. 13281- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"، يقول: صلاة الصبح وصلاة العصر. 13282 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: صلى عبد الرحمن بن أبي عمرة في مسجد الرسول، فلما صلى قامَ فاستند إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فانثال الناس عليه، فقال: يا أيها الناس، إليكم! فقيل: يرحمك الله، إنما جاؤوا يريدون هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف: 28] . فقال: وهذا عُنِي بهذا! إنما هو في الصلاة. (2)   (1) الأثر: 13278 -"عبد الرحمن بن أبي عمرة بن محصن بن ثعلبة الأنصاري"، روى عن أبيه، وعثمان بن عفان، وعبادة بن الصامت. قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث" مترجم في التهذيب. وسيأتي هذا الأمر مطولا برقم: 13282. (2) الأثر: 13282 هو مطول الأثر السالف رقم: 13278. وقوله: "انثال عليه الناس": تتابعوا عليه وتقاطروا من كل ناحية. وهذا الخبر، دليل على صحة معرفة أئمتنا السالفين بحق دينهم، وحق كتابهم المنزل عليهم من ربهم = ودليل أيضًا على فساد ما وقع فيه علماؤنا وكتابنا، ومن تعرض منا لكتاب الله بالهوى، حتى صار هذا المرفوض الذي رفضه الأئمة، حجة يستدل بها الجهال من الصوفية وأهل المخرقة بالولايات وادعاء الكرامات. فاللهم باعد بيننا وبين الجهالة، واحملنا على سواء السبيل. * * * هذا وهذه الأخبار التي ذكرها هنا، وفسر فيها آية سورة الكهف: 28، لم يرو أكثره في تفسير"سورة الكهف"، وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر تفسيره هذا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 384 وقال آخرون: هي الصلاة، ولكن القوم لم يسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طردَ هؤلاء الضعفاء عن مجلسه، ولا تأخيرهم عن مجلسه، وإنما سألوه تأخيرهم عن الصفّ الأول، حتى يكونوا وراءهم في الصفّ. * ذكر من قال ذلك: 13283 - حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض" الآية، فهم أناس كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقراء، فقال أناس من أشراف الناس: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك فليصلُّوا خلفنا! * * * وقال آخرون: بل معنى"دعائهم" كان، ذكرُهم الله تعالى ذكره. * ذكر من قال ذلك: 13284 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قوله:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"، قال: أهل الذكر. 13285 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغذاة والعشي"، قال: هم أهل الذكر. 13286- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي"، قال: لا تطردهم عن الذكر. * * * وقال آخرون: بل كان ذلك، تعلمهم القرآن وقراءته. * ذكر من قال ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 13287 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الكهف: 28] ، قال: كان يقرئهم القرآن، من الذي يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم؟! (1) * * * وقال آخرون: بل عنى بدعائهم ربّهم، عبادتهم إياه. * ذكر من قال ذلك: 13288 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" يدعون ربهم بالغداة والعشي"، قال: يعني: يعبدون، ألا ترى أنه قال: لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [سورة غافر: 43] ، يعني: تعبدون. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "قال كان يقرئهم القرآن النبي صلى الله عليه وسلم" حذف من المخطوطة. ما أثبته: "من الذي يقص على"، ثم وصل الكلام، فأساء وخان وأفسد!! وهذا الكلام جملتان منفصلتان، الأولى: "كان يقرئهم القرآن" والأخرى الاستفهام: "من الذي يقص على النبي صلى الله عليه وسلم"، وكلتاهما رد على من تأول الآية، على أنها مراد بها القصاص وهم الوعاظ، كما يظهر من الآثار: 13267، 13270، 13277، 13282، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ هؤلاء القرآن، فأمر أن يصبر نفسه معهم. ولو كان مرادًا بالآية القصاص، لكان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورًا أن يصبر نفسه مع من يجلس يعظه ويذكره بالله - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم! فلذلك قال: "من الذي يقص على النبي صلى الله عليه وسلم! "، أي: من هذا الذي يعظ رسول الله ويذكره بالله وبأيام الله؟! وهذه حجة مبينة في فساد من تأول الآية على غير الوجه الصحيح الذي أجمعت عليه الحجة. (2) هكذا جاءت الآية في المخطوطة والمطبوعة، وأنا أكاد أقطع بأن ذلك خطأ، من سهو راو أو سهو من أبي جعفر نفسه، وأرجح أنه أراد آية"سورة غافر: 66 {قُلْ إنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدُ الذِّيِنَ تَدْعُونَ مِنْ دُون اللهِ} أما الآية التي استبدل بها، فلا يستقيم أن يكون الدعاء فيها بمعنى العبادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 386 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يطرُد قومًا كانوا يدعون ربّهم بالغداة والعشي، و"الدعاء لله"، يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلامًا = وقد يكون بالعمل له بالجوارح الأعمالَ التي كان عليهم فرضُها، وغيرُها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابدَه بما هو عامل له. (1) وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها، فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي، لأن الله قد سمى"العبادة"،"دعاء"، فقال تعالى ذكره: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، [سورة غافر: 60] . وقد يجوز أن يكون ذلك على خاصّ من الدعاء. ولا قول أولى بذلك بالصحة، من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي، فيعمُّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم، ولا يخصُّون منها بشيء دون شيء. فتأويل الكلام إذًا: يا محمد، أنذر القرآن الذي أنزلته إليك، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون = فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير، في العمل له دائبون (2) = إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك، استكبارًا على الله = ولا تطردهم ولا تُقْصِهم، فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناؤه، فإن الذين نهيتُك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألونه عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوّعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة   (1) في المطبوعة: والمخطوطة التي ترضى والعامل له عابده"، وهو لا يستقيم، وكأن الصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "دائمون"، وأرجح أن الذي أثبت هو الصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 387 والعشي، يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنوّ من رضاه ="ما عليك من حسابهم من شيء"، يقول: ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شيء = وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شيء ="فتطردهم"، حذارَ محاسبتي إياك بما خوّلتهم في الدنيا من الرزق. * * * وقوله:"فتطردهم"، جواب لقوله:"ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء". وقوله:"فتكون من الظالمين" جواب لقوله:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم". * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض"، وكذلك اختبرنا وابتلينا، كالذي:- 13289 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر = وحدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر = عن قتادة:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض"، يقول: ابتلينا بعضهم ببعض. * * * وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى"الفتنة"، وأنها الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * *   (1) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف ص: 297، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 وإنما فتنة الله تعالى ذكره بعضَ خلقه ببعضٍ، مخالفتُه بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق، فجعل بعضًا غنيًّا وبعضًا فقيرًا، وبعضًا قويًّا، وبعضًا ضعيفًا، فأحوج بعضهم إلى بعض، اختبارًا منه لهم بذلك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13290 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكذلك فتنا بعضهم ببعض"، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء:"أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا"، يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاءً وسُخريًّا. (1) * * * وأما قوله:"ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا"، يقول تعالى: اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعزّ والذل، والقوة والضعف، والهدى والضلال، كي يقول من أضلّه الله وأعماه عن سبيل الحق، للذين هداهم الله ووفقهم:"أهؤلاء منّ الله عليهم"، بالهدى والرشد، وهم فقراء ضعفاء أذلاء (2) ="من بيننا"، ونحن أغنياء أقوياء؟ استهزاءً بهم، ومعاداةً للإسلام وأهله. يقول تعالى ذكره:"أليس الله بأعلم بالشاكرين"، وهذا منه تعالى ذكره إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق، وخذلهم عنه وهم أغنياء = وتقريرٌ لهم: أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرًا نعمتي، ممن هو لها كافر. فمنِّي على من مَنَنْتُ عليه منهم بالهداية، جزاء شكره   (1) في المطبوعة: "سخرية"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"المن" فيما سلف 7: 369/9: 71. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 389 إياي على نعمتي، وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد، عقوبة كفرانه إياي نعمتي، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير، لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحدٌ إلا جزاءً على عمله الذي اكتسبه، لا على غناه وفقره، لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها الذين نهى الله نبيَّه عن طردهم. وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه. (1) وقال آخرون: عنَى بها قومًا استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب أصابوها عظامٍ، فلم يؤيسهم الله من التوبة. * ذكر من قال ذلك: 13291- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان، عن مجمع قال، سمعت ماهان قال: جاء قوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوبًا عظامًا. قال ماهان: فما إخاله ردّ عليهم شيئًا. قال: فأنزل   (1) انظر ما سلف رقم: 13258، وما بعده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 390 الله تعالى ذكره هذه الآية:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم" الآية. (1) 13292- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن مجمع، عن ماهان: أنّ قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا! فما إخاله ردّ عليهم شيئًا، فانصرفوا فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة". قال: فدعاهم فقرأها عليهم. 13293- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجمّع التميمي قال، سمعت ماهان يقول: فذكر نحوه. * * * وقال آخرون: بل عُني بها قومٌ من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم، فكان ذلك منهم خطيئة، فغفرها الله لهم وعفا عنهم، وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد، وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية، قولُ من قال: المعنيُّون بقوله:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم"، غيرُ الذين نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم. لأن قوله:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا"، خبر مستأنَفٌ بعد تقضِّي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله   (1) الآثار: 13291 - 13293 -"سفيان" هو: ابن عيينة. و"مجمع"، هو"مجمع بن صمان" أبو حمزة التميمي"، ثقة، مضى برقم: 12710. و"ماهان" الحنفي، أبو سالم الأعور العابد، مضى برقم: 3226. (2) انظر ما سلف رقم: 13264، 13265. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 391 عليه وسلم عن طردهم. ولو كانوا هم، لقيل:"وإذا جاؤوك فقل سلام عليكم". وفي ابتداء الله الخبرَ عن قصة هؤلاء، وتركه وصلَ الكلام بالخبر عن الأولين، ما ينبئ عن أنهم غيرُهم. فتأويل الكلام إذًا = إذ كان الأمر على ما وصفنا = وإذا جاءك، يا محمد، القومُ الذين يصدِّقون بتنزيلنا وأدلتنا وحججنا، فيقرّون بذلك قولا وعملا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم، هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها، وقل لهم:"سلام عليكم"، أَمَنَةُ الله لكم من ذنوبكم، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها (1) ="كتب ربكم على نفسه الرحمة"، يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه (2) ="أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تابَ من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم". * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرأة المدنيين: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا) ، فيجعلون"أنّ" منصوبةً على الترجمة بها عن"الرحمة" = (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، على ائتناف"إنه" بعد"الفاء" فيكسرونها، ويجعلونها أداة لا موضع لها، بمعنى: فهو له غفور رحيم = أو: فله المغفرة والرحمة. (3) * * * وقرأهما بعض الكوفيين بفتح"الألف" منهما جميعًا، بمعنى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ = ثم ترجم بقوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ، عن الرحمة، (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فيعطف ب"أنه" الثانية على"أنه" الأولى، ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت. (4) * * *   (1) انظر تفسير"سلام" فيما سلف 10: 145، ومادة (سلم) في فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 273، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 336، 337. (4) انظر ما قاله أبو جعفر في بيان هذه القراءة فيما سلف ص: 278 - 280. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة: بكسر"الألف" من"إنه" و"إنه" على الابتداء، وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأهما بالكسر: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ) ، على ابتداء الكلام، وأن الخبر قد انتهى عند قوله:"كتب ربكم على نفسه الرحمة"، ثم استؤنف الخبر عما هو فاعلٌ تعالى ذكره بمن عمل سوءًا بجهالة ثم تاب وأصلح منه. * * * ومعنى قوله:"إنه من عمل منكم سوءًا بجهالة"، أنه من اقترف منكم ذنبًا، فجهل باقترافه إياه (2) = ثم تاب وأصلح ="فإنه غفورٌ"، لذنبه إذا تاب وأناب، وراجع العمل بطاعة الله، وترك العود إلى مثله، مع الندم على ما فرط منه ="رحيم"، بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13294- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عثمان، عن مجاهد:"من عمل منكم سوءًا بجهالة"، قال: من جهل: أنه لا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته ركب الأمر. 13295 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. 13296- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 336، 337. (2) انظر تفسير"الجهالة" فيما سلف 8: 89 - 93، وهو بيان جيد جدًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 393 " يعملون السوء بجهالة"، قال: من عمل بمعصية الله، فذاك منه جهل حتى يرجع. 13297- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا بكر بن خنيس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"من عمل منكم سوءًا بجهالة"، قال: كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل. (1) 13298 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال: كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة". (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وكذلك نفصل الآيات"، وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها، يا محمد، إلى هذا الموضع، حجتَنا على المشركين من عبدة الأوثان، وأدلتَنا، وميَّزناها لك وبيَّناها، كذلك نفصِّل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل   (1) الأثر: 13297 -"بكر بن خنيس الكوفي" العابد، يروى عن ليث بن أبي سليم، وعبد الرحمن بن زياد، وإسمعيل بن أبي خالد، وعطاء بن أبي رباح. قال ابن عدي: "وهو ممن يكتب حديثه، ويحدث بأحاديث مناكير عن قوم لا بأس بهم، وهو نفسه رجل صالح، إلا أن الصالحين يشبه عليهم الحديث، وربما حدثوا بالتوهم، وحديثه في جملة الضعفاء، وليس ممن يحتج بحديثه"، وقيل فيه ما هو أشد. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 13298 -"خالد بن دينار التميمي السعدي"، "أبو خلدة"، ثقة، مضى برقم: 44، 12239. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 394 غيرهم، فنبينها لك، حتى تبين حقه من باطله، وصحيحهُ من سقيمه. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولتستبين سبيل المجرمين". فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء (سَبِيلَ الْمُجِرمِينَ) بنصب"السبيل"، على أن"تستبين"، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كأن معناه عندهم: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيل المجرمين. * * * وكان ابن زيد يتأول ذلك: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيلَ المجرمين الذين سألوك طردَ النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه. 13299 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن ريد:"ولتستبين سبيلَ المجرمين"، قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء. * * * وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصرين: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء (سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ) برفع"السبيل"، على أن القصد للسبيل، ولكنه يؤنثها = وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصل الآيات، ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (وَلِيَسْتَبِينَ) بالياء (سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ) برفع"السبيل" على أن الفعل للسبيل، ولكنهم يذكرونه = ومعنى هؤلاء في هذا الكلام، ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في:" ولتستبين" ورفع"السبيل"، واحدٌ، وإنما الاختلاف بينهم في تذكير"السبيل" وتأنيثها. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندي في"السبيل" الرفع، لأن الله تعالى ذكره فصَّل آياته في كتابه وتنزيله، ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميعُ من خوطب بها، لا بعضٌ دون بعض.   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 337. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 395 ومن قرأ"السبيل" بالنصب، فإنما جعل تبيين ذلك محصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما القراءة في قوله:"ولتستبين"، فسواء قرئت بالتاء أو بالياء، لأن من العرب من يذكر"السبيل" = وهم تميم وأهل نجد = ومنهم من يؤنث"السبيل" = وهم أهل الحجاز. وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، ولغتان مشهورتان من لغات العرب، وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلافٌ لقراءته بالأخرى، ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى = بعد أن يرفع"السبيل" = للعلة التي ذكرنا. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله:"نفصل الآيات" قال أهل التأويل. 13300 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وكذلك نفصل الآيات"، نبين الآيات. 13301 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في:"نفصل الآيات"، نبين. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين بربّهم من قومِك، العادلين به الأوثان والأنداد، الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان: إنّ الله نهاني أن أعبد الذين   (1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) = وتفسير"استبان" في مادة (بين) من فهارس اللغة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 396 تدعون من دونه، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك، ولا أوافقكم عليه، ولا أعطيكم محبّتكم وهواكم فيه. وإن فعلت ذلك، فقد تركت محجَّة الحق، وسلكت على غير الهدى، فصرت ضالا مثلكم على غير استقامة. (1) * * * وللعرب في"ضللت" لغتان: فتح"اللام" وكسرها، واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها، وبها قرأ عامة قرأة الأمصار، وبها نقرأ لشهرتها في العرب. وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها، والقراأة بها قليلون. فمن قال"ضَلَلتُ" قال:"أَضِلُّ"، ومن قال"ضَلِلتُ" قال في المستقبل"أَضَلُّ". وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلنَا) بفتح اللام [سورة السجدة: 10] . * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين لك إلى الإشراك بربك =" إني على بيّنة من ربي"، أي إني على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي ="من ربي"، يقول: من توحيدي، (2) وما أنا عليه من إخلاص عُبُودته (3) من غير إشراك شيء به. * * * وكذلك تقول العرب:"فلان على بينة من هذا الأمر"، إذا كان على بيان   (1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . (2) في المطبوعة: "توحيده"، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "عبوديته"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 397 منه، (1) ومن ذلك قول الشاعر: (2) أَبَيِّنَةً تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ ... وقَوْلِ سُوَيْدٍ قَدْ كَفَيْتُكُمُ بِشْرَا (3) * * * "وكذبتم به" يقول: وكذبتم أنتم بربكم = و"الهاء" في قوله"به" من ذكر الرب جلّ وعز =" ما عندي ما تستعجلون به"، يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي، ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوحيده، فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [سورة الأنبياء: 3] . وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام. وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون = فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك، وإنما أنت رسول، وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به، وأنّ الله يقضي الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحقُّ منكم والمبطل (4) ="وهو خير الفاصلين"، أي: وهو خير من بيّن وميّز بين المحق والمبطل وأعدلهم، لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حَيْف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة، ولا في قضائه جور، لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور، فهو أعدل الحكام وخيرُ الفاصلين. وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: (وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ) . 13302 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أنه قال: في قراءة عبد الله:   (1) انظر تفسير"البينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (2) لم أعرف قائله. (3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 193. (4) انظر تفسير"الفصل" فيما سلف 5: 338. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 398 (يَقْضِي الْحَقَّ وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ) . * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يقصُّ الحق". (1) فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة أهل الكوفة والبصرة:" إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ"، بالصاد، بمعنى"القصص"، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى ذكره: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [سورة يوسف: 3] . وذكر ذلك عن ابن عباس. 13303 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال،"يقص الحق"، وقال: نحن نقص عليك أحسن القصص. * * * وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة والبصرة: (إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقْضِي الْحَقَّ) بالضاد، من"القضاء"، بمعنى الحكم والفصل بالقَضَاء، (2) واعتبروا صحة ذلك بقوله:"وهو خير الفاصلين"، وأن"الفصل" بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقَصَص. * * * وهذه القراءة عندنا أولى القراءَتين بالصواب، لما ذكرنا لأهلِها من العلّة. * * * فمعنى الكلام إذًا: ما الحكم فيما تستعجلون به، أيها المشركون، من عذاب الله وفيما بيني وبينكم، إلا الله الذي لا يجور في حكمه، وبيده الخلق والأمر، يقضي الحق بيني وبينكم، وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "يقضي الحق"، وهو سهو هنا، والصواب ما أثبته. (2) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543، وسائر فهارس اللغة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 399 القول في تأويل قوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأوثان، المكذبيك فيما جئتهم به، السائليك أن تأتيهم بآية استعجالا منهم بالعذاب: لو أنّ بيدي ما تستعجلون به من العذاب ="لقضي الأمر بيني وبينكم"، ففصل ذلك أسرع الفصل، بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه، ولكن ذلك بيد الله، الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين، الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلا لله في غير موضعها، فيعبدون من دونه الآلهة والأصنام، وهو أعلم بوقت الانتقام منهم، وحالِ القضاء بيني وبينهم. * * * وقد قيل: معنى قوله:"لقضي الأمر بيني وبينكم"، بذبح الموت. (1) 13304 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج قال، بلغني في قوله:"لقضي الأمر"، قال: ذبح الموت. * * * وأحسب أن قائل هذا القول، نزع لقوله (2) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [سورة مريم: 39] ، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدل على معنى ما قاله هذا القائل في"قضاء الأمر"، (3) وليس   (1) في المطبوعة: "الذبح للموت"، وفي المخطوطة: "الذبح الموت"، وآثرت قراءتها كما أثبتها. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أن قائل هذا النوع نزع"، وهو كلام عجب، لا أظن أبا جعفر يتدانى إلى مثله. والصواب ما أثبته بلا شك. (3) رواه أبو جعفر في تفسيره 16: 66 (بولاق) ، وهو الخبر الذي جاء فيه أنه يجاه يوم القيامة بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي في أهل الجنة والنار هل يعرفونه، فيقولون: لا! فيقال: هذا الموت، ثم يؤخذ فيذبح، ثم ينادي: يا أهل النار، خلود فلا موت، ويا أهل الجنة، خلود فلا موت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 400 قوله: "لقضي الأمر بيني وبينكم" من ذلك في شيء، وإنما هذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصلَ القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي، لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك، ولكنه بيد من هو أعلم بما يُصلح خلقه، منّي ومن جميع خلقه. * * * القول في تأويل قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال أبو جعفر: يقول: وعند الله مفاتح الغيب. (1) و"المفاتح": جمع"مِفْتَح"، يقال فيه:"مِفْتح" و"مِفْتَاح". فمن قال:"مِفْتَح"، جمعه"مفاتح"، ومن قال:"مفتاح"، جمعه"مفاتيح". * * * ويعني بقوله:"وعنده مفاتح الغيب"، خزائن الغيب، كالذي:- 13305- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعنده مفاتح الغيب"، قال، يقول: خزائن الغيب. 13306- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن ابن مسعود قال: أعطي نبيُّكم كل شيءٍ إلا مفاتح الغيب. (2)   (1) في المطبوعة: "يقول: وعنده مفاتح الغيب"، والصواب ما في المخطوطة. (2) الأثر: 13306 -"عبد الله بن سلمة المرادي"، تابعي ثقة، من فقهاء الكوفة بعد الصحابة. مضى برقم: 12398. وهذا خبر الإسناد، رواه أحمد في مسنده: 3659، انظر شرح أخي السيد أحمد لهذا الخبر هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 401 13307 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"وعنده مفاتح الغيب"، قال: هن خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ إلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان: 34] . * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم بالظالمين من خلقه، وما هم مستحقُّوه وما هو بهم صانع، فإنّ عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه، ولن يعلموه ولن يدركوه (1) ="ويعلم ما في البر والبحر"، يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضًا عنكم، لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين، يعلمه العباد. فكأن معنى الكلام: وعند الله علم ما غابَ عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثرَ بعلمه نفسَه، ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعُكم، لا يخفى عليه شيء، لأنه لا شيءَ إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد، وذلك هو الغيب. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "ولم يعلموه، ولن يدركوه"، وفي المخطوطة: "ولم يعلموه ولا يدركوه"، والصواب الدال عليه السياق، هو ما أثبته. (2) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف ص: 371 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 402 القول في تأويل قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقةٌ في الصحاري والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها ="ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين"، يقول: ولا شيء أيضًا مما هو موجود، أو ممّا سيوجد ولم يوجد بعد، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، مكتوبٌ ذلك فيه، ومرسوم عددُه ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحالُ التي يفنى فيها. ويعني بقوله:"مبين"، أنه يبين عن صحة ما هو فيه، بوجود ما رُسم فيه على ما رُسم. (1) * * * فإن قال قائل: وما وجهُ إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين، ما لا يخفى عليه، وهو بجميعه عالم لا يُخَاف نسيانَه؟ قيل له: لله تعالى ذكره فعل ما شاء. وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانًا منه لحفَظَته، واختبارًا للمتوكلين بكتابة أعمالهم، فإنهم فيما ذُكر مأمورون بكتابة أعمال العباد، ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ، حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم. وقيل إن ذلك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، [سورة الجاثية: 29] . وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك، مما هو أعلم به، إمّا بحجة يحتج بها على بعض ملائكته، وأما على بني آدم وغير ذلك، وقد:-   (1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 403 13308 - حدثني زياد بن يحيى الحسّاني أبو الخطاب قال، حدثنا مالك بن سعير قال، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرِز إبرة، إلا عليها ملك موكّل بها يأتي الله بعلمها: (1) يبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رَطبت. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "يأتي الله يعلمه يبسها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، وهذا عبث من الناشر. (2) الأثر: 13308 -"زياد بن يحيى بن زياد بن حسان الحساني النكري"، أبو الخطاب، ثقة، روى له الستة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/549. هذا، وقد جاء في المخطوطة وتفسير ابن كثير"زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن الذي يروي عن"مالك بن سعير" هو"زياد بن يحيى الحساني، أبو الخطاب"، فضلا عن أنه ليس في الرواة من يسمى"زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب". و"مالك بن سعير بن الخمس التميمي"، قال أبو زرعة وأبو حاتم: "صدوق"، وضعفه أبو داود، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو مترجم في التهذيب، والبخاري في الكبير 4/1/315، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4/1/209. و"يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي" هو مولى"عبد الله بن الحارث"، مضى مرارًا، آخرها رقم: 12740. و"عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم"، هو"ببة"، ثقة، مضى برقم: 12740. وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره من طريق ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري، عن مالك بن سعير، بمثله. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 15، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وأبي الشيخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 404 القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وقل لهم، يا محمد، والله أعلم بالظالمين، والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم ="ويعلم ما جرحتم بالنهار"، يقول: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 404 ومعنى"التوفي"، في كلام العرب استيفاء العدد، (1) كما قال الشاعر: (2) إِنَّ بَنِي الأدْرَم لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ ... وَلا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي العَدَدْ (3) بمعنى: لم تدخلهم قريش في العدد. * * * وأما"الاجتراح" عند العرب، فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه، وهي"الجوارح" عندهم، جوارح البدن فيما ذكر عنهم. ثم يقال لكل مكتسب عملا"جارح"، لاستعمال العرب ذلك في هذه"الجوارح"، ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكل مكتسب كسبًا، بأيّ أعضاء جسمه اكتسب:"مجترِح". (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13309 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"، أما"يتوفاكم بالليل" ففي النوم = وأما"يعلم ما جرحتم بالنهار"، فيقول: ما اكتسبتم من الإثم. 13310 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"، يعني: ما اكتسبتم من الإثم.   (1) انظر تفسير: التوفي" فيما سلف 6: 455، 456/8: 73/9: 100/11: 239 (2) هو منظور الوبري. (3) اللسان (وفي) ، وسيأتي في التفسير 21: 61 (بولاق) ، وكان في المطبوعة هنا: "إن بني الأدم"، وفي اللسان"إن بني الأدرد"، وهما خطأ، صوابه ما جاء في التفسير بعد. و"بنو الأدرم" هو بنو"تيم بن غالب بن فهر بن مالك"، وهم من قريش الظواهر، لا قريش الأباطح. وهذا الراجز يهجوهم بأن قريشًا أهل الأباطح، لا يجعلون بني الأدرم (وهم من قريش الظواهر) تمامًا لعددهم، ولا يستوفون بهم عددهم إذا عدوا. (4) انظر تفسير"الجوارح" و"الاجتراح" فيما سلف 9: 543، 544. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 405 13311 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"ما جرحتم بالنهار"، قال: ما عملتم بالنهار. 13312- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 13313 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وهو الذي يتوفاكم بالليل"، يعني بذلك نومهم ="ويعلم ما جرحتم بالنهار"، أي: ما عملتم من ذنب فهو يعلمه، لا يخفى عليه شيء من ذلك. 13314 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"، قال: أمّا وفاته إياهم بالليل، فمنامهم = وأما"ما جرحتم بالنهار"، فيقول: ما اكتسبتم بالنهار. * * * قال أبو جعفر: وهذا الكلام وإن كان خبرًا من الله تعالى عن قدرته وعلمه، فإنّ فيه احتجاجًا على المشركين به، الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم. فقال تعالى ذكره محتجًا عليهم:"وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى"، يقول: فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار، لتبلغوا أجلا مسمى، وأنتم ترون ذلك وتعلمون صحّته، غير منكرٍ له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم، ثم ردِّها إلى أجسادكم، وإنشائكم بعد مماتكم، فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون، وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك، القدرةُ على ما لم تعاينوه. وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك، شبيه ما رأيتم وعاينتم. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 406 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) } (1) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ثم يبعثكم"، يثيركم ويوقظكم من منامكم (2) ="فيه" يعني في النهار، و"الهاء" التي في"فيه" راجعة على"النهار" (3) ="ليقضي أجلٌ مسمى"، يقول: ليقضي الله الأجل الذي سماه لحياتكم، وذلك الموت، فيبلغ مدته ونهايته (4) ="ثم إليه مرجعكم"، يقول: ثم إلى الله معادكم ومصيركم (5) ="ثم ينبئكم بما كنتم تعملون"، يقول: ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا، (6) ثم يجازيكم بذلك، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13315 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ثم يبعثكم فيه"، قال: في النهار. 13316 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:" ثم يبعثكم فيه"، في النهار، و"البعث"، اليقظة. 13317- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.   (1) أسقط في المطبوعة والمخطوطة: "ثم يبعثكم فيه"، وهو نص التلاوة. (2) انظر تفسير"البعث" فيما سلف 2: 84، 85/5: 457/10: 229. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "والهاء التي فيه راجعة"، بإسقاط"في"، والصواب إثباتها. (4) انظر تفسير"أجل مسمى" فيما سلف 6: 43/11: 259. (5) انظر تفسير"المرجع" فيما سلف 6: 464/10: 391/11: 154. (6) انظر تفسير"النبأ" فيما سلف ص: 335 تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 407 13318 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ثم يبعثكم فيه"، قال: بالنهار. (1) 13319 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"ثم يبعثكم فيه"، قال: يبعثكم في المنام. * * * ="ليقضي أجل مسمى"، وذلك الموت. * ذكر من قال ذلك: 13320 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليقضي أجل مسمى"، وهو الموت. 13321 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ليقضي أجل مسمى"، قال: هو أجل الحياة إلى الموت. 13322 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"ليقضي أجل مسمى"، قال: مدّتهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"وهو القاهر"، والله الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته، (2) لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم، المذلَّل المعْلُوّ عليه   (1) في المطبوعة: "في النهار"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير"القاهر" فيما سلف ص: 288. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 408 لذلته (1) ="ويرسل عليكم حفظة"، وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلا ونهارًا، يحفظون أعمالكم ويحصونها، ولا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يُضيعون. (2) وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13323 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" ويرسل عليكم حفظة"، قال: هي المعقبات من الملائكة، يحفظونه ويحفظون عمله. 13324 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، يقول: حفظة، يا ابن آدم، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك، إذا توفَّيت ذلك قبضت إلى ربك ="حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم برسل يعقِّب بينها، يرسلهم إليكم بحفظكم وبحفظ أعمالكم، إلى أن يحضركم الموت، وينزل بكم أمر الله، فإذا جاء ذلك أحدكم، توفاه أملاكنا الموكَّلون بقبض الأرواح، ورسلنا المرسلون به ="وهم لا يفرطون"، في ذلك فيضيعونه. (3) * * * فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت، فكيف قيل:"توفته رسلنا"،"والرسل" جملة وهو واحد؟ أو ليس قد قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ   (1) في المطبوعة: "المغلوب عليه لذلته" وهو خطأ وسوء تصرف، والذي في المخطوطة هو الصواب. (2) انظر تفسير"الحفظ" بمعانيه فيما سلف 5: 167/8: 296، 297، 562/10: 343، 562. (3) انظر تفسير"التوفي" فيما سلف ص: 405 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 409 الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [سورة السجدة: 11] ؟ قيل: جائز أن يكون الله تعالى ذكره أعان ملك الموت بأعوان من عنده، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت، فيكون"التوفي" مضافًا = وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت = إلى ملك الموت (1) إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره، كما يضاف قتلُ من قتل أعوانُ السلطان وجلدُ من جلدوه بأمر السلطان، إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده. * * * وقد تأول ذلك كذلك جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13325 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم في قوله:"حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، قال: كان ابن عباس يقول: لملك الموت أعوانٌ من الملائكة. 13326- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله في قوله:"توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، قال: سئل ابن عباس عنها فقال: إن لملك الموت أعوانًا من الملائكة. 13327 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم في قوله:"توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، قال: أعوان ملك الموت. 13328- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، قال: الرسل توفَّى الأنفس، ويذهب بها ملك الموت. 13329 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن الحسن بن عبيد الله،   (1) السياق: "فيكون التوفي مضافًا. . . إلى ملك الموت". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 410 عن إبراهيم، عن ابن عباس:"توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، أعوان ملك الموت من الملائكة. (1) 13330- [حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن الحسن بن عبيد الله، عن ابن عباس:"توفته رسلنا وهم لا يفرطون". قال: أعوان ملك الموت من الملائكة] . (2) 13331- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم:"توفته رسلنا"، قال: هم الملائكة أعوان ملك الموت. 13332 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"توفته رسلنا"، قال: إن ملك الموت له رسل، فيرسل ويرفع ذلك إليه = وقال الكلبي: إن ملك الموت هو يلي ذلك، فيدفعه، إن كان مؤمنًا، إلى ملائكة الرحمة، وإن كان كافرًا إلى ملائكة العذاب. 13333 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"توفته رسلنا"، قال: يلي قبضَها الرسل، ثم يدفعونها إلى ملك الموت. 13334 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور عن إبراهيم في قوله:"توفته رسلنا"، قال: تتوفاه الرسل، ثم يقبض منهم ملك الموت الأنفس = قال الثوري: وأخبرني الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم قال: هم أعوان لملك الموت = قال الثوري: وأخبرني   (1) الأثر: 13329 - كان تفسير هذه الآية في هذا الخبر: "قال: الرسل توفى الأنفس، ويذهب بها ملك الموت"، وهذا مخالف كل المخالفة لما في المخطوطة، فأثبت ما فيها، وكأنه الصواب إن شاء الله. (2) الأثر: 13330 - هذا الأثر ليس في المخطوطة، ولذلك وضعته بين قوسين، وظني أنه تكرار من تصرف ناسخ، فإن إسناده إسناد الذي قبله، إلا أنه ليس فيه"عن إبراهيم" بين"الحسن بن عبيد الله" و"ابن عباس". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 411 رجل، عن مجاهد قال: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان يتوفَّون الأنفس ثم يقبضها منهم. 13335 حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن ابن عباس في قوله:"توفته رسلنا"، قال: أعوان ملك الموت من الملائكة. 13336 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم قال: الملائكة أعوان ملك الموت. 13337- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"توفته رسلنا"، قال: يتوفونه، ثم يدفعونه إلى ملك الموت. 13338 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه قال: سألت الربيع بن أنس عن ملك الموت، أهو وحده الذي يقبض الأرواح، قال: هو الذي يلي أمرَ الأرواح، وله أعوان على ذلك، ألا تسمع إلى قول الله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ؟ [سورة الأعراف: 37] . وقال:" توفته رسلنا وهم لا يفرطون"، غير أن ملك الموت هو الذي يسير كل خطوة منه من المشرق إلى المغرب. قلت: أين تكون أرواح المؤمنين؟ قال: عند السدرة في الجنة. 13339- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن مجاهد قال: ما من أهل بيت شَعَرٍ ولا مَدَرٍ إلا وملك الموت يُطيف بهم كل يوم مرتين. * * * وقد بينا أن معنى"التفريط"، التضييع، فيما مضى قبل. (1) وكذلك تأوله المتأوّلون في هذا الموضع.   (1) انظر تفسير"التفريط" فيما سلف ص: 345، 346. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 412 13340- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وهم لا يفرطون"، يقول: لا يضيعون. 13341 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وهم لا يفرطون"، قال: لا يضيعون. * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم ردت الملائكة الذين توفَّوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم، إلى الله سيدهم الحق، (1) "ألا له الحكم"، يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه (2) =" وهو أسرعُ الحاسبين"، يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم، أيها الناس، وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها، (3) لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، ولا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (4) [سورة سبأ: 3] . * * *   (1) انظر تفسير"المولى" فيما سلف 6: 141/7: 278، وغيرها من فهارس اللغة مادة (ولي) . (2) انظر تفسير"الحكم" فيما سلف 9: 175، 324، 462. (3) انظر تفسير"الحساب" فيما سلف: 207، 274، 275/6: 279. (4) هذا تضمين آية"سورة سبأ": 3. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 413 القول في تأويل قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم ="من ظلمات البر"، إذا ضللتم فيه فتحيَّرتم، فأظلم عليكم الهدى والمحجة = ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه، فأخطأتم فيه المحجة، فأظلم عليكم فيه السبيل، فلا تهتدون له = غير الله الذي إليه مفزعكم حينئذ بالدعاء (1) ="تضرعًا"، منكم إليه واستكانة جهرًا (2) ="وخفية"، يقول: وإخفاء للدعاء أحيانًا، وإعلانًا وإظهارًا تقولون: لئن أنجيتنا من هذه يا رب (3) = أي من هذه الظلمات التي نحن فيها ="لنكونن من الشاكرين"، يقول: لنكونن ممن يوحدك بالشكر، ويخلص لك العبادة، دون من كنا نشركه معك في عبادتك. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) في المطبوعة: "الذي مفزعكم"، والصواب من المخطوطة. (2) انظر تفسير"التضرع" فيما سلف ص: 355. (3) في المطبوعة والمخطوطة، كان نص الآية {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ} وهي قراءة باقي السبعة، وقراءتنا المثبتة في مصحفنا هي قراءة الكوفيين. وقد جرى أبو جعفر في تفسيره على قراءة عامة الناس، ولم يشر إلى قراءتنا، وجرى على ذلك في تفسيره الآية. وقال القرطبي: قرأ الكوفيون"لئن أنجانا"، واتساق المعنى بالتاء، كما قرأ أهل المدينة والشام. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 338. وظني أن أبا جعفر قد اختصر التفسير في هذا الموضع اختصارًا شديدًا، فترك كثيرًا كان يظن به أن يقوله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 414 * ذكر من قال ذلك: 13342 - حدثني محمد بن سعيد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية"، يقول: إذا أضل الرجل الطريق، دعا الله:"لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين". (1) 13343 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر"، يقول: من كرْب البر والبحر. * * * القول في تأويل قوله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم سواه من الآلهة، إذا أنت استفهمتهم عمن به يستعينون عند نزول الكرب بهم في البر والبحر: الله القادرُ على فَرَجكم عند حلول الكرب بكم، ينجيكم من عظيم النازل بكم في البر والبحر من همّ الضلال وخوف الهلاك، ومن كرب كل سوى ذلك وهمّ = لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته، ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه، التي لا تقدر لكم على نفع ولا ضرّ، ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب، ودفع الحالِّ بكم من جسيم الهم، تعدلون به آلهتكم وأصنامكم، فتشركونها في عبادتكم إياه. وذلك منكم جهل   (1) تركت الخبر على قراءة الناس لا قراءتنا في مصحفنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 415 بواجب حقه عليكم، وكفر لأياديه عندكم، وتعرضٌ منكم لإنزال عقوبته عاجلا بكم. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم غيره من الأصنام والأوثان، يا محمد: إن الذي ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر ومن كل كرب، ثم تعودون للإشراك به، هو القادر على أن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم، لشرككم به، وادّعائكم معه إلهًا آخر غيره، وكفرانكم نعمه، مع إسباغه عليكم آلاءه ومِنَنه. * * * وقد اختلف أهل التأويل في معنى"العذاب" الذي توعد الله به هؤلاء القوم أن يبعثه عليهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم. فقال بعضهم: أما العذاب الذي توعدهم به أن يبعثه عليه من فوقهم، فالرجم. وأما الذي توعدهم أن يبعثه عليهم من تحتهم، فالخسف. * ذكر من قال ذلك: 13344 - حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: عذابًا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، قال: الخسف. (1) 13345 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن الأشجعي،   (1) في المطبوعة، كنص الآية، ولكني رددت ما في المخطوطة إلى حاله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 416 عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير، مثله. 13346 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سلمة، عن شبل، عن ابن نجيح، عن مجاهد:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم"، قال الخسف. 13347 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم"، فعذاب السماء ="أو من تحت أرجلكم"، فيخسف بكم الأرض. 13348 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم" قال: كان ابن مسعود يصيح وهو في المجلس أو على المنبر: ألا أيها الناس، إنه نزل بكم. إن الله يقول:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم"، لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحد ="أو من تحت أرجلكم"، لو خسف بكم الأرض أهلككم، لم يبق منكم أحد ="أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض"، ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث. (1) * * * وقال آخرون: عنى بالعذاب من فوقكم، أئمةَ السوء ="أو من تحت أرجلكم"، الخدم وسِفلة الناس. * ذكر من قال ذلك: 13349 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت خلادًا يقول: سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول: إن ابن عباس كان يقول في هذه:   (1) في المطبوعة خلاف ما في المخطوطة، وفي المخطوطة أخطاء. في المخطوطة: ". . . عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو جاءكم عذاب من السماء"، وفيها أيضًا: "أو من تحت أرجلكم يخسف بكم الأرض"، وصواب هاتين فيما في المطبوعة، وكان في المطبوعة نصب"أحد" في الموضعين، وكان فيها أيضًا: "أهلككم ولم يبق" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 417 "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم"، فأما العذاب من فوقكم، فأئمة السوء = وأما العذاب من تحت أرجلكم، فخدم السوء. (1) 13350- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم"، يعني من أمرائكم =" أو من تحت أرجلكم"، يعني: سفلتكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: عنى بالعذاب من فوقهم، الرجمَ أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم = ومن تحت أرجلهم، الخسفَ وما أشبهه. وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى"فوق" و"تحت" الأرجل، هو ذلك، دون غيره. وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح، غير أن الكلام إذا تُنُوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها. * * *   (1) الأثر: 13349 -"خلاد"، هو"خلاد بن سليمان الحضرمي المصري"، كان خياطًا أميًّا لا يكتب، وكان من الخائفين. روى عنه ابن وهب. ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/172، وابن أبي حاتم 1/2/365. وأما "عامر بن عبد الرحمن"، فإن البخاري وابن أبي حاتم، ذكراه في ترجمة خلاد، وذكر أنه سمع منه، ولكني لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع. وهذا عجيب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 418 القول في تأويل قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو يخلطكم ="شيعًا"، فرقًا، واحدتها"شِيعة". * * * وأما قوله:"يلبسكم" فهو من قولك:"لبَسْت عليه الأمر"، إذا خلطت،"فأنا ألبِسه". وإنما قلت إن ذلك كذلك، لأنه لا خلاف بين القرأة في ذلك بكسر"الباء"، ففي ذلك دليل بَيِّنٌ على أنه من:"لبَس يلبِس"، وذلك هو معنى الخلط. وإنما عنى بذلك: أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابًا مفترقة. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13351 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو يلبسكم شيعًا"، الأهواء المفترقة. 13352- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو يلبسكم شيعًا"، قال: يفرق بينكم. 13353- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو يلبسكم شيعًا"، قال: ما كان منكم من الفتن والاختلاف. (2) 13354 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في   (1) انظر تفسير"لبس" فيما سلف 1: 567، 568/6: 503 - 505/11: 270 (2) في المطبوعة: "من التفرق"، وفي المخطوطة: "من العير" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 419 قوله:"أو يلبسكم شيعًا"، قال: الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف، والأهواء، وسفك دماء بعضهم بعضًا. 13355 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أو يلبسكم شيعًا"، قال: الأهواء والاختلاف. 13356- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو يلبسكم شيعًا"، يعني بالشيع، الأهواء المختلفة. * * * وأما قوله:"ويذيق بعضكم بأس بعض"، فإنه يعني: بقتل بعضكم بيد بعض. * * * والعرب تقول للرجل ينال الرجل بسلام فيقتله به:"قد أذاق فلان فلانًا الموت"، و"أذاقه بأسه"، وأصل ذلك من:"ذوق الطعام" وهو يطعمه، ثم استعمل ذلك في كل ما وصل إلى الرجل من لذة وحلاوة، أو مرارة ومكروه وألم. (1) * * * وقد بينت معنى"البأس" في كلام العرب فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13357- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) انظر تفسير"الذوق" فيما سلف 7: 96، 446، 452/8: 487/11: 47، 324 ولكنه لن يبينه بيانًا شافيًا في المواضع السالفة، وأبان عنه هنا إبانة تامة، وهذا ضرب من ضروب اختصاره في تفسيره. (2) انظر تفسير"البأس" فيما سلف 8: 580/11: 357. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 420 حدثنا أسباط، عن السدي:"ويذيق بعضكم بأس بعض"، بالسيوف. 13358 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد، عن أبي هارون العبدي، عن عوف البكالي أنه قال في قوله:"ويذيق بعضكم بأس بعض"، قال: هي والله الرجال في أيديهم الحراب، يطعُنون في خواصركم. 13359 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ويذيق بعضكم بأس بعض"، قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. 13360 - حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: عذاب هذه الأمة أهل الإقرار، بالسيف"أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض" = وعذاب أهل التكذيب، الصيحة والزلزلة. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: عني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيهم نزلت. * ذكر من قال ذلك: 13361 - حدثني محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم" الآية، قال: فهن أربع، وكلهن عذاب، فجاء مستقرّ اثنتين، (1) بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعًا، وأذيق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان، فهما لا بدّ واقعتان = يعني: الخسف والمسخ. (2)   (1) في المطبوعة: "فجاء منهن اثنتان"، غير ما في المخطوطة، وهو واضح فيها جدًا، وهو صواب أيضًا. (2) الأثر: 13361 -"محمد بن عيسى الدامغاني"، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: 3225. وانظر خبر أبي العالية، عن أبي بن كعب، رقم: 13380. وتخريجه هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 421 13362 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من فوقكم أو من تحت أرجلكم"، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعفاكم منه ="أو يلبسكم شيعًا"، قال: ما كان فيكم من الفتن والاختلاف. 13363- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13364 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا"، الآية. ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلى ذات يوم الصبح فأطالها، فقال له بعض أهله: يا نبي الله، لقد صلّيت صلاة ما كنت تصَليها؟ قال: إنها صلاةُ رَغبة ورَهبة، وإني سألت ربّي فيها ثلاثًا، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم، فيهلكهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يسلط على أمتي السنة، فأعطانيها. (1) وسألته أن لا يلبسهم شيعًا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله. 13365 - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، سمع جابرًا يقول: لما أنزل الله تعالى ذكره على النبي صلى الله عليه وسلم:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم"، قال: أعوذ بوجهك ="أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض"، قال: هاتان أيسر = أو: أهون. (2)   (1) "السنة"، الجدب والقحط. (2) الأثر: 13665 -"أحمد بن الوليد القرشي"، مضى برقم: 1692: "وأحمد بن الوليد" بدون نسبة، وقال أخي السيد أحمد هناك: "ولم أعرف من هو". وأزيد أني وجدت أبا جعفر يروي في تاريخه 1: 167 عن شيخه"أحمد بن الوليد الرملي" ثم سماه"أحمد بن الوليد" بلا نسبة، وهو يروي في هذه الأسانيد، عن: "إبراهيم بن زياد"، و"إسحق بن المنذر" و"عبد الملك بن يزيد"، و"عمرو بن عون" و"محمد بن الصباح" و"سعدويه". ثم روي عنه في المنتخب من ذيل المذيل (تاريخه 13: 104) ، وروى"أحمد بن الوليد" في هذا الإسناد، عن"الربيع بن يحيى". جمعت هذا حتى أتحقق معرفته ونسبته، أما تخريج الخبر، ففي التعليق التالي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 422 13366- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر، قال: لما نزلت:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم"، قال: نعوذ بك، نعوذ بك ="أو يلبسكم شيعًا"، قال: هو أهون. (1) 13367 - حدثني زياد بن عبيد الله المزني قال، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال، حدثنا أبو مالك قال، حدثني نافع بن خالد الخزاعي، عن أبيه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، فقال: قد كانت صلاة رغبة ورهبة، فسألت الله فيها ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، وبقي واحداة. سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به مَن قبلكم، فأعطانيها. وسألت الله أن لا يسلِّط عليكم عدوًّا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها. وسألته أن لا يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها = قال أبو مالك: فقلت له: أبوك سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)   (1) الأثران: 13365، 13366 -"عمرو"، هو"عمرو بن دينار". رواه البخاري (الفتح 8: 219) من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار. وقال الحافظ ابن حجر: "وقع في الاعتصام من وجه آخر، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمعت جابرًا، وكذا للنسائي من طريق معمر، عن عمرو بن دينار ويعني ما رواه البخاري الفتح 13، 329 وسيأتي من طريق معمر، عن عمرو بن دينار فيما يلي رقم: 13372. ورواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". (2) الأثر: 13367 -"زياد بن عبيد الله المزني"، هكذا جاء هنا"المزني"، ومضى برقم: 8284: "زياد بن عبيد الله المري"، وقد كتب عنه أخي السيد أحمد فيما سلف، وقال إنه لم يعرفه، وقال إنه من المحتمل أن يكون: "زياد بن عبد الله بن خزاعي"، لأنه يروى أيضًا عن"مروان بن معاوية"، ولكن مجيئه هنا أيضًا"زياد بن عبيد الله" يضعف هذا الاحتمال. و"مروان بن معاوية الفزاري" ثقة، من شيوخ أحمد. مضى برقم: 1222، 3322، 3842، 7685. و"أبو مالك" هو"الأشجعي"، واسمه"سعد بن طارق بن أشيم"؛ روى عن أبيه، وأنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وربعي بن حراش، وغيرهم، وثقه أحمد. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/59، وابن أبي حاتم 2/1/86. و"نافع بن خالد الخزاعي"، روى عن أبيه، روى عنه أبو مالك الأشجعي سعد بن طارق، مترجم في لسان الميزان 6: 145، والكبير للبخاري 4/2/85، وابن أبي حاتم 4/1/457. ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم فيه جرحًا، ولكن الحافظ ابن حجر أخطأ في لسان الميزان خطأ شنيعًا، فقال: "قال ابن أبي حاتم عن أبيه في ترجمته: هو ونافع مجهولان"، وهو سهو شديد، فإن الذي قال ذلك عنه ابن أبي حاتم، خالد آخر، وهو موجود في كتابه 1/2/362 برقم: 1643 هكذا: "خالد، روى عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه ابنه محمد. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هما مجهولان". أما "خالد الخزاعي"، فقد قال عنه: "روى عنه ابنه نافع، يعد في الكوفيين، سمعت أبي يقول ذلك"، وهو موجود قبل تلك الترجمة برقم: 1642. وهذا سهو شديد ينبغي أن يصحح. وأبوه: "خالد الخزاعي الأزدي" غير مبين النسب، ترجم له البخاري في الكبير 2/1/127، وقال: "يعد في الكوفيين"، وقال ابن أبي حاتم 1/2/362: "له صحبة، روى عنه ابنه نافع"، كما ذكرت قبل. وترجم له الحافظ في الإصابة. وهذا خبر رجاله ثقات، كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمته. وقد أشار إلى هذا الخبر، البخاري في تاريخه 2/1/127، من طريق ابن أبي زائدة، عن سعد بن طارق، عن نافع بن خالد الخزاعي، قال حدثني أبي، وكان من أصحاب الشجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى والناس ينظرون، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود. وأشار إليه الحافظ أيضًا في الفتح (8: 221) ، وأما في الإصابة فقد قال: "روى الحسن بن سفيان، وأبو يعلى، والطبراني في تفسيره، وغيرهم، من طريق أبي مالك. . . ." ثم ذكر الخبر وقال: "رجاله ثقات". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 222، بنحوه، ثم قال: "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح، غير نافع بن خالد. وقد ذكره ابن أبي حاتم، ولم يجرحه أحد. ورواه البزار". وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 329، من رواية الحافظ أبي بكر بن مردويه، عن عبد الله بن إسمعيل بن إبراهيم الهاشمي، وميمون بن إسحق بن الحسن الحنفي، كلاهما عن أحمد بن عبد الجبار، عن محمد بن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، مطولا. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 19، ونسبه لابن جرير وابن مردويه، ولم يزد شيئًا. وأخرج الترمذي في الفتن، من حديث خباب بن الأرت، مثله، كما سيأتي في رقم: 13370. وقوله: "يستبيح بيضتهم"، يريد: جماعتهم وأصلهم ومجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم. يقول: لا تسلط عليهم عدوًا يستأصلهم ويهلكهم جميعًا. قالوا: وذلك أن أصل البيضة إذا أهلك، كان ذلك هلاك كل ما فيها من طعم أو فرخ. وإذا لم يهلك أصل البيضة، ربما سلم بعض فراخها. وقال غيرهم: "البيضة": ساحة القوم ومعظم دارهم. وهذا أقرب عندي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 423 13368 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 424 معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إن الله زَوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربَها، وإنّ ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمرَ والأبيض، وإني سألت ربّي أن لا يهلك قومي بسَنَةٍ عامة، وأن لا يلبسهم شيعًا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يردّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلِّط عليهم عدوًّا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، (1) حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، وبعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يسبي بعضًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي، لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة. (2) 13369- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه = إلا أنه قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين. (3) 13370 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن الزهري قال: راقب خباب بن الأرتّ، وكان بدريًّا، النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، حتى إذا فرغ، وكان في الصبح، قال له: يا رسول الله، لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها؟ قال: أجل، إنها صلاة رَغَبٍ ورَهَبٍ، سألت ربي ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم، فأعطاني. وسألته أن لا يسلط علينا عدوًّا، فأعطاني. وسألته أن لا يلبسنا شيعًا، فمنعني. (4)   (1) في المطبوعة: "فيهلكهم"، وفي المخطوطة: "فيهلكوهم هم"، وخلط في كتابتها، والصواب من المسند. (2) الأثر: 13268 -"أبو الأشعث الصنعاني"، هو"شراحبيل بن آدة"، من صنعاء الشام، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو أسماء الرحبي"، هو"عمرو بن مرثد" تابعي ثقة، مضى برقم: 4844. و"شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري"، صحابي، قال عباد بن الصامت: "شداد بن أوس. من الذين أوتوا العلم والحلم، ومن الناس من أوتى أحدهما". وهذا الخبر، رواه أحمد في مسنده 4: 123، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، بمثل رواية أبي جعفر. وأشار إلى روايته من حديث شداد، الحافظ ابن حجر في الفتح (8: 221) وقال: "وأخرج الطبري من حديث شداد، نحوه، بإسناد صحيح"، يعني: نحو حديث ثوبان كما سأشير إليه بعد. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 328، 329، من مسند أحمد، وقال: "ليس في شيء من الكتب الستة، وإسناده جيد قوي. وقد رواه ابن مردويه من حديث حماد بن زيد، وعباد بن منصور، وقتادة، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه والله أعلم". وروي هذا الخبر بنحو هذا اللفظ من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. بنحو هذا اللفظ. رواه مسلم في صحيحه 18: 12، 14، وأبو داود في سننه 4: 138، مطولا، وخرجه السيوطي عن ثوبان. في الدر المنثور 3: 17، وقال: "أخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبزار، وابن حبان، والحاكم وصححه، واللفظ له، وابن مردويه" ثم ساق لفظ الحاكم في المستدرك. مطولا. قوله: "زوى لي الأرض": جمعها وقبضها حتى يراها جميعًا. و"السنة": القحط. وقال النووي في شرح مسلم: "وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة وقعت كلها بحمد الله، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: المراد بالكنزين الذهب والفضة. والمراد كنزي كسرى وقيصر، ملكي العراق والشام. فيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداد في جهتي المشرق والمغرب. وهكذا وقع. وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب. وصلوات الله وسلامه على رسوله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى". (3) الأثر: 13369 - انظر التعليق على الأثر السالف. ومن هذه الطريق، رواه أحمد في مسنده 4: 123، بمثل ما ذكر أبو جعفر. (4) الأثر: 13370 - هذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 108، والترمذي في كتاب الفتن، موصولا، من طريق الزهري، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن خباب بن الأرت، عن خباب بن الأرت، مولى بني زهرة. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 328، من مسند أحمد، ثم قال: "ورواه النسائي من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، به، ومن وجه آخر. وابن حبان في صحيحه بإسناديهما عن صالح ابن كيسان. والترمذي في الفتن من حديث النعمان بن راشد، كلاهما عن الزهري، به. وقال: حسن صحيح". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 18، وقال: "أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن مردويه، عن خباب بن الأرت"، وساق الخبر. وقوله: "رغب ورهب" كلاهما بفتحتين، أي: الرغبة والرهبة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 425 13371- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"أو يلبسكم شيعًا"، قال: راقب خبابُ بن الأرت، وكان بدريًّا، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه = إلا أنه قال: ثلاث خصلات. (1) 13372- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك ="أو من تحت أرجلكم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك ="أو يلبسكم شيعًا"، قال: هذه أهون. (2) 13373 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألت ربّي أربعًا، فأعطيت ثلاثًا ومنعت واحداة: سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم يستبيح بيضتهم، ولا يسلط عليهم جوعًا، ولا يجمعهم على ضلالة، فأعطيتهن = وسألته أن لا   (1) الأثر: 13371 - انظر التعليق على الأثر السالف. (2) الأثر: 13372 - انظر التعليق على الأثرين السالفين رقم: 13365، 13366، فهذه طريق أخرى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 427 يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض، فمنعتُ. 13374 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سألت ربي خصالا فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة: سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة، فأعطانيها. وسألته لا يُظهر عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم من قبلهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها. 13375 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية، قوله:"ويذيق بعضكم بأس بعض"، قال الحسن: ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يُشهده عليهم:"انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون"، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ، فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولا يلبس أمته شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل، فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إنك سألت ربك أربعًا، فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين: لن يأتيهم عذاب من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم، فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها وردِّ كتاب ربها، ولكنهم يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض، (1) وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتاب والتصديق بالأنبياء، ولكن يعذبون بذنوبهم، وأوحي إليه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، يقول: من أمتك = {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} = من العذاب وأنت حي = {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [سورة الزخرف: 41،42] . فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فراجع ربه، فقال: أيّ مصيبة أشدّ من أن   (1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "ولكنهم يلبسهم. . ."، وهو جائز، والأجود"ولكنه يلبسهم"، وأخشى أن يكون ما في النسخ من الناسخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 428 أرى أمتي يعذب بعضها بعضًا! وأوحي إليه: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ، [سورة العنكبوت: 1،3] ، فأعلمه أن أمته لم تخصّ دون الأمم بالفتن، وأنها ستبلى كما ابتليت الأمم. ثم أنزل عليه: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة المؤمنون: 93،94] ، فتعوّذ نبي الله، فأعاذه الله، لم يرَ من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة. ثم أنزل عليه آية حذّر فيها أصحابه الفتنة، فأخبره أنه إنما يُخَصّ بها ناسٌ منهم دون ناس، فقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، [سورة الأنفال: 25] ، فخصّ بها أقوامًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعده، وعصم بها أقوامًا. 13376 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما يكون في أمته من الفرقة والاختلاف، فشق ذلك عليه، ثم دعا فقال: اللهم أظهر عليهم أفضلهم بقية. (1) 13377 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود قال، أخبرنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن أبي الزبير قال: لما نزلت هذه الآية:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك! = قال:"أو من تحت أرجلكم"، قال: أعوذ بالله من ذلك = قال:"أو يلبسكم شيعًا"، قال: هذه أيسر! ولو استعاذه لأعاذه. (2)   (1) في المطبوعة: "أفضلهم تقية"، وكأن صواب قراءتها ما أثبت، فإنها في المخطوطة غير منقوطة"وقوله: "بقية"، أي: إبقاء على من يظهر عليه ويظفر به. (2) الأثر: 13377 -"خالد بن يزيد" هو الجمحي، المصري. مضى برقم: 3965، 5465، 9185، 9507، 12283. و"أبو الزبير"، هو"محمد بن مسلم المكي"، مضى مرارًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 429 13378- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا المؤمل البصري قال، أخبرنا يعقوب بن إسماعيل بن يسار المديني قال، حدثنا زيد بن أسلم قال: لما نزلت:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض بالسيوف! فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله! قال: نعم! فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدًا! فأنزل الله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. (1) * * * وقال آخرون: عنى ببعضها أهل الشرك، وببعضها أهل الإسلام. * ذكر من قال ذلك: 13379- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هارون بن موسى، عن حفص بن سليمان، عن الحسن في قوله:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم"، قال: هذا للمشركين =" أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض"، قال: هذا للمسلمين. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره توعَّد بهذه الآية أهلَ الشرك به من عبدة الأوثان، وإياهم خاطبَ بها، لأنها   (1) الأثر: 13378 -"المؤمل البصري"، هو: "مؤمل بن إسمعيل البصري"، وقد سلف مرارًا برقم: 2057، 3337، 5728، 8356، 8367. وأما "يعقوب بن إسمعيل بن يسار المديني"، فلم أجد له ذكرًا في كتب التراجم، وهذا غريب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 430 بين إخبار عنهم وخطاب لهم، وذلك أنها تتلو قوله:"قل ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخُفْية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون"، ويتلوها قوله:" وكذب به قومك وهو الحق". وغير جائز أن يكون المؤمنون كانوا به مكذبين، فإذا كان غير جائز أن يكون ذلك كذلك، وكانت هذه الآية بين هاتين الآيتين، كان بيّنًا أن ذلك وعيدٌ لمن تقدّم وصف الله إياه بالشرك، وتأخر الخبر عنه بالتكذيب = لا لمن لم يجر له ذكر. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فإنه قد عم وعيدُه بذلك كلَّ من سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله، والتكذيب بآيات الله من هذه وغيرها. وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة"، فجائز أن هذه الآية نزلت في ذلك الوقت وعيدًا لمن ذكرتُ من المشركين، ومن كان على منهاجهم من المخالفين ربهم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعيذ أمته مما ابتلى به الأمم الذين استوجبوا من الله تعالى ذكره بمعصيتهم إياه هذه العقوبات، فأعاذهم بدعائه إياه ورغبته إياه، من المعاصي التي يستحقون بها من هذه الخلال الأربع من العقوبات أغلظها، ولم يُعذهم من ذلك ما يستحقون به اثنتين منها. وأما الذين تأوّلوا أنه عني بجميع ما في هذه الآية هذه الأمة، فإني أراهم تأوّلوا أن في هذه الأمة من سيأتي من معاصي الله وركوب ما يُسخط الله، نحو الذي ركب مَن قبلهم من الأمم السالفة، من خلافه والكفر به، فيحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من المثلات والنقمات، وكذلك قال أبو العالية ومن قال بقوله:"جاء منهن اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. وبقيت اثنتان، الخسف والمسخ"، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 431 وسلم أنه قال:"سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف"، (1) = وأن قومًا من أمته سيبيتون على لهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير. (2) وذلك إذا كان، فلا شك أنه نظير الذي في الأمم الذين عتوا على ربهم في التكذيب وجحدوا آياته. وقد روي نحو الذي روي عن أبي العالية، عن أبيّ. 13380 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان قال، أخبرنا أبي =، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب:"قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا"، قال: أربع خِلال، وكلهن عذاب، وكلهن واقعٌ قبل يوم القيامة، فمضت اثنتان بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعًا، وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف والرجم. (3) * * *   (1) هذا حديث عائشة، رواه الترمذي في الفتن بإسناده، ونصه: "عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر هذه الأمة خسفٌ ومَسْخٌ وقَذْفٌ. قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا ظهر الخَبَثُ"، قال الترمذي: "هذا حديثٌ غريبٌ من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وعبد الله بن عمر، تكلم فيه يحيى بن سعيد من قبل حفظه" يعني راوي الخبر: "عبد الله بن عمر، عن عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة". (2) روى البخاري (الفتح 10: 47 - 49) من حديث أبي مالك وأبي عامر الأشعري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليكونن من أُمتي قومٌ يستحِلُّون الحِرِ (أي: الزنا) والحرير والخمر والمعازف، وليزلنَّ أقوامٌ إلى جنب عَلَم، تروح عليهم سارحةٌ لهم، فيأتيهم رجلٌ لحاجته، فيقولون: ارجع إلينا غدًا! فيبيِّتهم الله تعالى ويضع العَلَم، ويمسخ آخرين قِردةً وخنازير إلى يوم القيامة". (3) الأثر: 13380 - إسناده صحيح، رواه أحمد في مسنده 5: 134، 135 من طريق وكيع، عن أبي جعفر الراوي، عن الربيع. عن أبي العالية، مثله. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 21، ثم قال: "رواه أحمد، ورجاله ثقات. قلت: والظاهر أن من قوله: فمضت اثنتان، إلى آخره، من قول رفيع (يعني أبا العالية) ، فإن أبي بن كعب لم يتأخر إلى زمن الفتنة". وذكر مثل ذلك من علة هذا الخبر، الحافظ ابن حجر في الفتح (8: 220) ثم قال: "وأعل أيضًا بأنه مخالف لحديث جابر وغيره. وأجيب بأن طريق الجمع: أن الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره، مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم. وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: "قل هو القادر"، إلى آخرها فقال: أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد. وهذا يحتمل أن لا يخالف حديث جابر بأن المراد بتأويلها ما يتعلق بالفتن ونحوها". وذكر الخبر ابن كثير في تفسيره 3: 331، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 17، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية. * * * وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: يتلوه القول في تأويل قوله: {انظر كيف نصرِّفُ الآيات لعَلَّهم يَفْقَهونَ} وصلى الله على محمد النبيّ وعلى آله وسلم كثيرًا. ثم يبدأ بعده بما نصه: "بسم الله الرحْمن الرحيم رَبِّ يَسِّر" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 432 القول في تأويل قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء المكذبين بربّهم = الجاحدين نعمه، وتصريفناها فيهم (1) =" لعلهم يفقهون"، يقول: ليفقهوا ذلك ويعتبروه، (2)   (1) انظر تفسير"تصريف الآيات" فيما سلف: 365 (2) انظر تفسير"فقه" فيما سلف 8: 557/11: 307 الجزء: 11 ¦ الصفحة: 433 فيذّكروا ويزدجروا عما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله منهم، من عبادة الأوثان والأصنام، والتكذيب بكتاب الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكذب، يا محمد، قومك بما تقول وتخبر وتوعد من الوعيد ="وهو الحق"، يقول: والوعيدُ الذي أوعدناهم على مقامهم على شركهم: من بعث العذاب من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، أو لبسهم شيعًا، وإذاقة بعضهم بأس بعض ="الحق" الذي لا شك فيه أنه واقع إن هم لم يتوبوا وينيبوا مما هم عليه مقيمون من معصية الله والشرك به، إلى طاعة الله والإيمان به ="قل لست عليكم بوكيل"، يقول: قل لهم، يا محمد، لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، وإنما رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم (1) ="لكل نبأ مستقر"، يقول: لكل خبر مستقر، (2) يعني قرار يستقرّ عنده، ونهاية ينتهي إليه، فيتبين حقه وصدقه، من كذبه وباطله ="وسوف تعلمون"، يقول: وسوف تعلمون، أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم، أيها المشركون، حقيقته عند حلول عذابه بكم، (3) فرأوا ذلك وعاينوه، فقتلهم يومئذ بأيدي أوليائه من المؤمنين.   (1) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 9: 424، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"النبأ" فيما سلف ص: 407، تعليق: 6، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "وحقيقته عند حلول عذابه بكم"، وضع مكان"حقيقته""وحقيته"، وزاد"واوا". فعل بها ما فعل بصواحباتها فيما سلف ص: 216، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 434 وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13381 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفصل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكذب به قومك وهو الحق"، يقول: كذبت قريش بالقرآن، وهو الحق = وأما"الوكيل"، فالحفيظ =، وأما"لكل نبأ مستقر"، فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يَعِدهم من العذاب. 13382 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لكل نبأ مستقر"، لكل نبأ حقيقة، إما في الدنيا وإما في الآخرة ="وسوف تعلمون"، ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم. 13383- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لكل نبأ مستقر"، يقول: حقيقة. 13384 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون"، يقول: فعل وحقيقة، ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة. * * * وكان الحسن يتأوّل في ذلك أنه الفتنة التي كانت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 13385- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جعفر بن حيان، عن الحسن أنه قرأ:"لكل نبأ مستقر"، قال: حبست عقوبتها، حتى [إذا] عمل ذنبها أرسلت عقوبتها. (1) * * *   (1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 435 القول في تأويل قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت، يا محمد، المشركين الذين يخوضون في آياتنا التي أنزلناها إليك، ووحينا الذي أوحيناه إليك، = و"خوضهم فيها"، كان استهزاءَهم بها، وسبَّهم من أنزلها وتكلم بها، وتكذيبهم بها (1) ="فأعرض عنهم"، يقول: فصد عنهم بوجهك، وقم عنهم، ولا تجلس معهم (2) ="حتى يخوضوا في حديث غيره"، يقول: حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم ="وإما ينسينك الشيطان"، يقوله: وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا، ثم ذكرت ذلك، فقهم عنهم، ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوضُ فيه بما خاضوا به فيه. وذلك هو معنى"ظلمهم" في هذا الموضع. (3) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13386 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في   (1) انظر تفسير"الخوض" فيما سلف 9: 320. (2) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف ص: 337، تعليق: 1، والمراجع كلها. (3) انظر تفسير"الظلم" في فهارس اللغة فيما سلف (ظلم) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 436 آيات الله يكذبون بها، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكر مع القوم الظالمين. (1) 13387- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، أخبرنا معمر، عن قتادة بنحوه. 13388 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا"، قال: الذين يكذبون بآياتنا. 13389 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين"، قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبوه واستهزءوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وأما قوله:"وإما ينسينك الشيطان"، يقول: نَهْيَنَا فتقعد معهم، (2) فإذا ذكرت فقم. 13390 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يخوضون في آياتنا"، قال: يكذبون بآياتنا. 13391 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن ليث، عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.   (1) في المطبوعة: "بعد الذكرى"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض، كما سترى في التفسير ص: 439. (2) في المطبوعة: "يقول: نسيت فتعقد معهم"، وهو لا معنى له، وفي المخطوطة: "نهينا فتعقد معهم"، وهو مضطرب، واستظهرت صوابها من تفسير الآية فيما سلف. وقوله: "نهينا" مفعول قوله في الآية: "وإما ينسينك الشيطان"، وذلك على عادة أهل التأويل الأوائل في الاختصار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 437 13392 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا"، وقوله: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [سورة الأنعام: 159] ؛ وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران: 105] ؛ وقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى: 13] ، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمِراء والخصومات في دين الله. 13393 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا"، قال: يستهزئون بها. قال: نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم. فذلك قوله:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" = قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا، فنزلت:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم"، الآية. (1) 13394- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا"، قال: يكذبون. 13395 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قوله:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، يعني المشركين ="وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين"، إن نسيت فذكرتَ فلا تجلس معهم. * * *   (1) الأثر: 13393 - سيأتي، تفسير ابن جريج فيما بعد بتمامه رقم: 13396. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 438 القول في تأويل قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن اتقى الله فخافه، فأطاعه فيما أمره به، واجتنب ما نهاه عنه، فليس عليه بترك الإعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله، شيء من تبعة فيما بينه وبين الله، إذا لم يكن تركه الإعراضَ عنهم رضًا بما هم فيه، وكان لله بحقوقه متقيًا، (1) ولا عليه من إثمهم بذلك حرج، ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ ذكرى لأمر الله ="لعلهم يتقون"، يقول: ليتقوا. * * * ومعنى"الذكرى"، الذكرُ. و"الذكر" و"الذكرى" بمعنًى. * * * وقد يجوز أن يكون"ذكرى" في موضع نصب ورفع: فأما النصب، فعلى ما وصفت من تأويل: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى. وأما الرفع، فعلى تأويل: وما على الذين يتقون من حسابهم شيء بترك الإعراض، ولكن إعراضهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون. (2) * * * وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله، لأن قيامه عنهم كان مما يكرهونه، فقال الله له: إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم، ليتقوا الخوضَ فيها ويتركوا ذلك.   (1) هكذا في المخطوطة أيضا"بحقوقه متقيًا"، وأرجح أن تكون: "بخوفه متقيًا"، ولم أغيرها لأن الأخرى تكاد تكون جائزة. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 339. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 439 * ذكر من قال ذلك: 13396 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا، فنزلت:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، الآية، قال: فجعل إذا استهزءوا قام، فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم! فذلك قوله:"لعلهم يتقون"، أن يخوضوا فيقوم، ونزل:" وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، إن قعدوا معهم، ولكن لا تقعدوا. ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، [سورة النساء: 140] ، فنسخ قولَه:"وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، الآية. 13397 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، يقول: من حساب الكفار من شيء ="ولكن ذكرى"، يقول: إذا ذكرت فقم ="لعلهم يتقون" مساءتكم، إذا رأوكم لا تجالسونهم استحيوا منكم، فكفوا عنكم. ثم نسخها الله بعد، فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدًا، قال: وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا، الآية. 13398 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء"، إن قعدوا، ولكن لا تقعد. 13399- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 440 13400 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى"، قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذرْ هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبًا ولهوًا، (1) فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، (2) واللهوَ والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم، فأعرض عنهم، فإني لهم بالمرصاد، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعادَ إلى الله تعالى ذكره والمصيرَ إليه بعد الممات، كالذي:- 13401 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا} ، قال: كقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} ، [سورة المدثر: 11] . 13402- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * *   (1) انظر تفسير"ذر" فيما سلف 6: 22/7: 424. (2) انظر تفسير"اللعب" فيما سلف 10: 429، 432. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 441 وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، [سورة التوبة:5] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13403- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة:"وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا"، ثم أنزل في"سورة براءة"، فأمر بقتالهم. 13404- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال: قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة:"وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا"، ثم أنزل الله تعالى ذكره"براءة"، وأمر بقتالهم فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، [سورة التوبة: 5] . * * * وأما قوله:"وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت"، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه (1) =" أن تبسل نفس"، بمعنى: أن لا تبسل، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا (2) = وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق، (3) فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار= ولكن حذفت"لا"، لدلالة الكلام عليها. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أن تبسل نفس". فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.   (1) انظر تفسير"التذكير" فيما سلف 6: 63، 64، 66، 211/10: 130/11: 357 (2) انظر ما سلف 9: 445، 446. (3) في المطبوعة: "وذكر به"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 442 * ذكر من قال ذلك: 13405 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة قوله:"أن تبسل نفس بما كسبت"، قال: تُسلم. 13406 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن:"أن تبسل نفس"، قال: أن تُسلم. 13407- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن، مثله. 13408 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"أن تبسل"، قال: تسلم. 13409- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أن تبسل نفس"، قال: تسلم. 13410- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا، أسلموا. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس. * ذكر من قال ذلك: 13411- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"أن تبسل نفس"، قال: تؤخذ فتحبس. 13412- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 13413 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 443 قوله:"أن تبسل نفس بما كسبت"، أن تؤخذ نفس بما كسبت. * * * وقال آخرون: معناه: تُفضَح. * ذكر من قال ذلك: 13414 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت"، يقول: تفضح. * * * وقال آخرون: معناه: أن تجزَى. * ذكر من قال ذلك: 13415 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد قال، قال الكلبي:"أن تبسل"، أن تجزَى. * * * وأصل"الإبسال" التحريم، يقال منه:"أبسلت المكان"، إذا حرّمته فلم يقرب، (1) ومنه قوله الشاعر: (2) بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى، ... بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلامَتِي وَعِتَابِي (3)   (1) في المطبوعة: "فلم تقر به"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) هو ضمرة بن ضمرة النهثلي. (3) نوادر أبي زيد: 2، الأمالي 2: 279، الشعر والشعراء: 250، الوحشيات رقم: 424، الأزمنة والأمكنة 1: 160، اللسان (بسل) وغيرها، وبعد هذا البيت من أبيات حسان: قالها لامرأته إذ عاتبته على حلب إبله ونحرها لضيفه وأهله، وتحبب إليه الشح، وتنهاه عن بذل المال، في القحط والجدب: أَأَصُرُّهَا، وَبُنَيُّ عَمِّي سَاغِبٌ ... فَكَفَاكِ من إبَةٍ عَلَيَّ وَعَابِ! وَلَقَدْ عَلِمْتُ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... أَنْ سَوْفَ يَخلِجُني سَبيلُ صِحَابِي أرَأيتِ إنْ صَرَخَتْ بِلَيْلٍ هَامَتي ... وَخَرَجْتُ مِنْهَا عَارِيًا أثْوَابِي هَلْ تَخْمِشَنْ إبِلِي عَلَيَّ وُجُوهَهَا ... أمْ تَعْصِبَنَّ رُؤُوسَهَا بِسِلاَبِ!! "بكرت"، عجلت في أول السحر."بعد وهن"، أي بعد قومة من جوف الليل. أرقها ما يبذل لبني عمه من ماله، فلم تتأن به مطلع النهار حتى أخذت تلومه في وجه الصبح. ثم أخذ يذكرها بالمروءة فيقول: "أأصرها"، يعني النوق، يشد عليها الصرار (وهو خيط يشد فوق الخلف) ، لئلا تحلب، أو يرضعها ولدها، يقول: لا أفعل ذلك، وبني عمي جياع حتى، أرويهم؛ و"السغب" الجوع، فإن ذلك لؤم. و"الإبة" الخزي يستحي منه، و"العاب"، العيب. يقول: كفاك بهذا الفعل لؤمًا يخزي فاعله. ثم احتج عليها بما يجد بنو عمه وضيفانه من اللوعة عليه إذا مات، وأن الإبل لا تفعل ذلك. فقال لها: إن الموت سبيل كل حي، وأني سلك سبيل أصحابي الذين ذهبوا وخلفوني، فإن هذه السبيل تخجلني (أي: تجذبني وتنتزعني) كما خلجتهم من قبل. وقوله: "صرخت بليل هامتي"، وهو من عقائد الجاهلية، أبطله الله بالإسلام، يزعمون أن روح القتيل تصير طائرًا كالبومة يزقو عند قبره، يقول: اسقوني، اسقوني! وقوله: "عاريًا أثوابي" أي: عاريًا من أثوابي التي كنت أستمتع بلباسها في الدنيا. ويروى: "باليًا أثوابي"، ويعني عندئذ: أكفانه التي تبلى في التراب. وقول"هل تخمش إبلي"، أي: هل تلطم الإبل على وجوهها فيخمشها اللطم ويؤثر فيها ويجرحها، كما يفعل بنو عمي وبنات عمي إذا مت. و"السلاب": عصائب للرأس سود، يلبسنها عند الحداد. يقول: هذا حزن بنات عمي علي، فهل تفعل الإبل فعلهن حتى آسى على نحرها وإهلاكها في إطعامهم وإروائهم في زمان الجدب وهم جياع؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 444 أي: حرام [عليك ملامتي وعتابي] . ومنه قولهم:"أسد باسل"، (1) ويراد به: لا يقربه شيء، فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال:"أعط الراقي بُسْلَتَه"، (2) يراد بذلك: أجرته،"وشراب بَسِيل"، بمعنى متروك. وكذلك"المبسَلُ بالجريرة"، وهو المرتهن بها، قيل له:"مُبْسَل"، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي: وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ وَلا بِدَمٍ مُرَاقِ (3)   (1) كانت هذه العبارة في المطبوعة والمخطوطة: "أي حرام. ومنه قولهم: وعتابي أسد آسد"، وهو خطأ صرف. استظهرت صوابه من سياق الشرح، ومن معاني القرآن للفراء 1: 339، وزدت ما بين القوسين استظهارًا أيضًا. (2) في المطبوعة: "بسيلته"، وهو خطأ صرف، صوابه في المخطوطة، لم يحسن قراءتها. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 339. (3) نوادر أبي زيد: 151، مجاز القرآن 1: 194، المعاني الكبير: 1114، واللسان (بسل) (بعا) ، يقول: فَلَوْلا أَنَّنِي رَحُبَتْ ذِرَاعِي ... بِإعْطَاءِ المَفَارِقِ والحِقَاقِ وَإنْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهً، وَلا بِدَمٍ مُرَاقِ لَقِيتُمْ مِنْ تَدَرُّئِكُمْ عَلَيْنَا ... وَقَتْلِ سَرَاتِنَا ذَاتَ العَرَاقِي "المفارق" جمع"ناقة مفرق"، فارقها ولدها. و"الحقاق" جمع"حقة" (بكسر الحاء) ، وهي الناقة إذا استكملت السنة الثالثة، ودخلت في الرابعة. يقول: طابت نفسي ببذل ذلك من المال، لكن أحقن الدماء، وأبقي على الوشائج. و"بعا الذنب يبعوه بعوا": اجترمه واكتسبه. يقول لهم: وأسلمت إليكم بني في الفداء، ولم نجرم جريمة، ولم نرق دمًا، فنحمل الحمالة في الذي اجترحناه. و"تدرأ على فلان" أي: تطاول وتهجم. و"السراة" أشراف القوم. و"ذات العراقي"، أي: ذات الدواهي المنكرة، يقول: لولا ما فعلت إبقاء، لفعلنا بكم الأفاعيل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 445 وقال الشنفرى: (1) هُنَالِكَ لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي ... سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلا بِالْجَرَائِرِ (2) قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين، كيلا تُبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله (3) ="ليس لها من دون الله"، يقول: ليس لها، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها، أحدٌ ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها (4) ="ولا شفيع"، يشفع لها، لوسيلة له عنده. (5) * * *   (1) وتروى لتأبط شرا. (2) ديوانه (الطرائف) : 36، وفيه المراجع، ومجاز القرآن 1: 195، اللسان (بسل) . وقبله، وهي أبيات مشهورة: لا تَقْبُرُونِي، إنَّ قَبْرِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ، وَلِكنْ أبْشِرِي أمَّ عامِرِ إذَا احْتَمَلُوا رَأْسِي، وَفِي الرّأسِ أكْثَرِي، ... وَغُودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِري و"سمير الليالي": أبد الليالي، ويروى"سجيس الليالي"، وهو مثله. (3) انظر تفسير"كسب" فيما سلف ص: 261، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"من دون" فيما سلف 11: 486، وفهارس اللغة (دون) . (5) انظر تفسير"شفيع" فيما سلف ص: 373: تعليق 4، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 446 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت، يعني:"وإن تعدل كل عدل"، يعني: كل فداء. * * * يقال منه:"عَدَل يعدِل"، إذا فدى،"عَدْلا"، ومنه قول الله تعالى ذكره: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، [سورة المائدة: 95] ، وهو ما عادله من غير نوعه. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13416 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها. 13417 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قُبل منها. 13418- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، قال:"وإن تعدل"، وإن تفتد، يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها ="لا يؤخذ منه"، عدلا عن نفسه، لا يقبل منه. * * * وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تُقسط كل قسط لا يقبل منها. وقال: إنها التوبة في الحياة. (2)   (1) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 2: 34، 35، 574/11: 43، 44. (2) هو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 195. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 447 وليس لما قال من ذلك معنى، وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى ذكره يقبل توبته. * * * القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم، هم"الذين أبسلوا بما كسبوا"، يقول: أسلموا لعذاب الله، فرهنوا به جزاءً بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار، (1) ="لهم شرابٌ من حميم". * * * و"الحميم" هو الحارّ، في كلام العرب، وإنما هو"محموم" صرف إلى"فعيل"، ومنه قيل للحمّام،"حمام" لإسخانه الجسم، ومنه قول مرقش: فِي كُلِّ مُمْسًى لَهَا مِقْطَرَةٌ ... فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ (2) يعني بذلك ماء حارًّا، ومنه قول أبي ذويب الهذلي في صفة فرس:   (1) انظر تفسير"أبسل" فيما سلف قريبًا = وتفسير"كسب" ص: 446، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) المفضليات: 505، واللسان (قطر) (حمم) ، وسيأتي في التفسير 11: 61 (بولاق) . من قصيدته في ابنة عجلان، جارية صاحبته فاطمة بنت المنذر، وكان لابنه عجلان قصر بكاظمة، وكان لها حرس يجرون الثياب كل ليلة حول قصرها، فلا يطؤه إلا بنت عجلان. وكانت تأخذ كل عشية رجلا من أهل المال يبيت عندها، فبات عندها المرقش ليلة، وقال ذاك الشعر، فوصفها بالنعمة والترف. و"المقطرة": المجمرة، يكون فيها القطر (بضم فسكون) ، وهو العود الذي يتبخر به. و"الكباء": ضرب من العود. يصف ما هي فيه من الترف، بين تبخر بالعود الطيب، وتنزه بالاستحمام بالماء الساخن، من شدة عنايتها ببدنها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 448 تَأبَى بِدِرَّتِهَا إذَا مَا اسْتُضْغِبَتْ ... إلا الْحَمِيمَ فَإنّهُ يَتَبَضَّعُ (1) يعني بالحميم: عرق الفرس. * * * وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابًا من حميم، لأن الحارّ من الماء لا يروي من عطش. فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم، ولكن بما يزيدون به عطشًا على ما بهم من العطش ="وعذاب أليم"، يقول: ولهم أيضًا مع الشراب الحميم من الله العذابُ الأليم والهوان المقيم ="بما كانوا يكفرون"، يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله، وإنكارهم توحيده، وعبادتهم معه آلهة دونه. * * * 13419 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا"، قال يقال: أسلموا. 13420 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" أولئك الذين أبسلوا"، قال: فُضحوا. 13421 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا"، قال: أخذوا بما كسبوا. * * *   (1) ديوانه 17؛ المفضليات 879، اللسان (حمم) (بصع) (بضع) ، وغيرها. وهذا من الأبيات التي أخذت على أبي ذؤيب، وأنه لا علم له بالخيل. وقد اختلف في روايته. روي: وإذا ما استغضبت" و"إذ اما استكرهت"، ورواية الطبري مذكورة في اللسان في (بضع) وروي أيضًا"يتصبع" بالصاد. أي يسيل قليلا قليلا. و"تبضع العرق" بالضاد، سال سيلا منقطعًا. وانظر شرح هذا البيت في المراجع، فإنه يطول ذكره هنا. وأما رواية: "استضغبت"، وهي التي هنا، فقد فسرت بأنه: فزعت، لأن"الضاغب"، هو الذي يختبئ في الخمر ليفزع بمثل صوت الأسد. و"الضغاب" و"الضغيب" صوت الأرنب والذئب إذا تضور. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 449 القول في تأويل قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} قال أبو جعفر: وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت، إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر؟ فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره، أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره! * * * ="ونرد على أعقابنا"، يقول: ونرد إلى أدبارنا، فنرجع القهقري خلفنا، لم نظفر بحاجتنا. * * * وقد بينا معنى:"الرد على العقب"، وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها:"رد على عقبيه"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر ="بعد إذ هدانا الله، فوفقنا له، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان، يهوي في الأرض حيران. * * * وقوله:"استهوته"،"استفعلته"، من قول القائل:"هوى فلان إلى كذا يهوي   (1) انظر تفسير"الرد على الأعقاب" فيما سلف 3: 163، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 196. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 إليه"، ومن قول الله تعالى ذكره: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، [سورة إبراهيم: 37] ، بمعنى: تنزع إليهم وتريدهم. * * * وأما"حيران"، فإنه"فعلان" من قول القائل:"قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة"، (1) وذلك إذ ضل فلم يهتد للمحجَّة. ="له أصحاب يدعونه إلى الهدى"، يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه، يقولون له: ائتنا. * * * وترك إجراء"حيران"، لأنه"فعلان"، وكل اسم كان على"فعلان" مما أنثاه"فعلى" فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة. * * * قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشياطين، من أهل الشرك بالله = وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحق، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون، وهو له مفارق وعنه زائل، يقولون له:"ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى"! وهو يأبى ذلك، ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل، وخالف في ذلك جماعة. * ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا:   (1) "حيرورة"، مصدر مثل"صيرورة"، ولم تذكره كتب اللغة، فهذا مما يستفاد من أبي جعفر، ويزاد على كتب اللغة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 451 13422 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا"، قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد = صلى الله عليه وسلم. فقال الله تعالى ذكره:"قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا"، هذه الآلهة ="ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله"، فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضلّ الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم، يقولون:"ائتنا، فإنا على الطريق"، فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. 13423 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا"، قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعونَ إلى الله، كمثل رجل ضل عن الطريق تائهًا ضالا (1) إذ ناداه مناد:"يا فلان بن فلان، هلمّ إلى الطريق"، وله أصحاب يدعونه:"يا فلان، هلم إلى الطريق"! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله:" كالذي استهوته الشياطين في الأرض"، وهم"الغيلان" يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده، فيتبعها، فيرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في الهلكة، وربما أكلته   (1) قوله"تائهًا ضالا"، ساقطة من المطبوعة، ثابتة في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 452 = أو تلقيه في مضلّة من الأرض يهلك فيها عطشًا. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تُعبد من دون الله عز وجل. 13424 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"استهوته الشياطين في الأرض"، قال: أضلته في الأرض حيران. 13425 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ما لا ينفعنا ولا يضرنا"، قال: الأوثان. 13426 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"استهوته الشياطين في الأرض حيران"، قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، فذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي. (1) 13427- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، حدثنا رجل، عن مجاهد قال،"حيران"، هذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: الكافر حيران، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب. 13428 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا"، حتى بلغ"لنسلم لرب العالمين"، علمها الله محمدًا وأصحابه، يخاصمون بها أهلَ الضلالة. * * * وقال آخرون في تأويل ذلك، بما:- 13429 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) في المطبوعة: "كذلك مثل"، وفي المخطوطة: "لذلك مثل. . ."، والصواب ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 453 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى"، فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاعَ الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحار عن الحقّ وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه هدًى. يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس: إن الهدى هدى الله، والضلالة ما تدعو إليه الجنّ. * * * فكأنّ ابن عباس = على هذه الرواية = يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنّ ذلك هدى، وأنّ الله أكذبهم بقوله:"قل إنّ هدى الله هو الهدى"، لا ما يدعوه إليه أصحابه. وهذا تأويل له وجه، لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيرانَ إليه أصحابه"هدى"، وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه: أنهم هم الذين سموه، ولكن الله سماه"هدى"، وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله"الضلال" هدى، لأن ذلك كذب، وغير جائز وصف الله بالكذب، لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب، لو كان ذلك خبرًا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له:"تعال إلى الهدى"، فأما وهو قائل:"يدعونه إلى الهدى"، فغير جائز أن يكون ذلك، وهم كانوا يدعونه إلى الضلال. * * * وأما قوله:"ائتنا"، فإن معناه: يقولون: ائتنا، هلم إلينا = فحذف"القول"، لدلالة الكلام عليه. * * * وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: (يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا) . 13430 - حدثنا بذلك ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن شعبة، عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 454 أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله: (يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا) . 13431 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: في قراءة ابن مسعود: (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا) ، قال:"الهدى" الطريق، أنه بين. * * * وإذا قرئ ذلك كذلك، كان"البين" من صفة"الهدى"، ويكون نصب"البين" على القطع من"الهدى"، (1) كأنه قيل: يدعونه إلى الهدى البين، ثم نصب"البين" لما حذفت"الألف واللام"، وصار نكرة من صفة المعرفة. * * * وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال:"الهدى" في هذا الموضع، هو الهدى على الحقيقة. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، القائلين لأصحابك:"اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإنا على هدى" =: ليس الأمر كما زعمتم ="إن هدى الله هو الهدى"، يقول: إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه، وسبيلنا الذي أمرنا بلزومه، ودينه الذي شرعه لنا فبينه، هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها، لا عبادة الأوثان والأصنام   (1) انظر تفسير"القطع" فيما سلف من فهارس المصطلحات، وهذا بيان صريح أن"القطع" هو النكرة إذا صار صفة لمعرفة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 455 التي لا تضر ولا تنفع، فلا نترك الحق ونتبع الباطل ="وأمرنا لنسلم لرب العالمين"، يقول: وأمرَنا ربنا وربّ كل شيء تعالى وجهه، (1) لنسلم له، لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية، فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة. * * * وقد بينا معنى"الإسلام" بشواهده فيما مضى من كتابنا، بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وقيل:"وأمرنا لنسلم"، بمعنى: وأمرنا كي نسلم، وأن نسلم لرب العالمين = لأن العرب تضع"كي" و"اللام" التي بمعنى"كي"، مكان"أن" و"أن" مكانها. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمرنا أنْ أقيموا الصلاة. * * * وإنما قيل:"وأن أقيموا الصلاة"، فعطف ب"أن" على"اللام" من"لنسلم"، لأن قوله:"لنسلم" معناه: أن نسلم، فردّ قوله:"وأن أقيموا" على معنى:"لنسلم"، إذ كانت"اللام" التي في قوله:"لنسلم"، لامًا لا تصحب إلا المستقبل من الأفعال، وكانت"أن" من الحروف التي تدل على الاستقبال دلالة"اللام" التي في"لنسلم"، فعطف بها عليها، لاتفاق معنيهما فيما ذكرت.   (1) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . (2) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف من فهارس اللغة (سلم) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 456 ف"أن" في موضع نصب بالردّ على اللام. (1) * * * وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: إما أن يكون ذلك،"أمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة"، يقول: أمرنا كي نسلم، كما قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) [سورة يونس: 104] ، أي: إنما أمرت بذلك. (3) ثم قال:"وأن أقيموا الصلاة واتقوه"، أي: أمرنا أن أقيموا الصلاة = أو يكون أوصل الفعل باللام، والمعنى: أمرت أن أكون، كما أوصل الفعل باللام في قوله: هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ، [سورة الأعراف: 154] . * * * فتأويل الكلام: وأمرنا بإقامة الصلاة، وذلك أداؤها بحدودها التي فرضت علينا (4) ="واتقوه"، يقول: واتقوا رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له، فخافوه واحذروا سَخطه، بأداء الصلاة المفروضة عليكم، والإذعان له بالطاعة، وإخلاص العبادة له ="وهو الذي إليه تحشرون"، يقول: وربكم رب العالمين، هو الذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة، (5) فيجازي كلَّ عامل منكم بعمله، وتوفي كل نفس ما كسبت. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 339. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأمرت لأن أكون من المؤمنين"، وهذه ليست آية في كتاب الله، بل الآية هي التي ذكرت، وهي حق الاستدلال في هذا الموضع. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "إنما أمرت لذلك"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. (4) انظر تفسير"إقامة الصلاة" فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) (صلا) . (5) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف ص: 373 تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 457 القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد، الداعيك إلى عبادة الأوثان:"أمرنا لنسلم لرب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق، لا من لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر". * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"بالحق". فقال بعضهم: معنى ذلك، وهو الذي خلق السماوات والأرض حقًّا وصوابًا، لا باطلا وخطأ، كما قال تعالى ذكره: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا [سورة ص: 27] . قالوا: وأدخلت فيه"الباء" و"الألف واللام"، كما تفعل العرب في نظائر ذلك فتقول:"فلان يقول بالحق"، بمعنى: أنه يقول الحق. قالوا: ولا شيء في"قوله بالحق" غير إصابته الصواب فيه = لا أنّ"الحق" معنى غير"القول"، وإنما هو صفةٌ للقول، إذا كان بها القول، كان القائل موصوفًا بالقول بالحق، وبقول الحق. قالوا: فكذلك خلق السماوات والأرض، حكمة من حكم الله، فالله موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه = لا أنّ ذلك حقٌّ سوى خَلْقِهما خَلَقَهما به. (1) * * *   (1) في المطبوعة: "سوى خلقهما به"، أساء وحذف وبدل وأفسد الكلام، ثم ضبط"سوى" فعلا بتشديد الواو، وجعل"خلقهما به" مصدرًا منصوبًا بالفعل. وهو فساد وخطل. والصواب ما في المخطوطة: "سوى" (بكسر السين) بمعنى"غير" و"خلقهما" الأولى مصدر مضاف مجرور، و"خلقهما به" فعل ماض. وهذا حق المعنى وصوابه. وهذا من عبث الناشرين والمصححين، يستعيذ المرء من مثله، فإنه ناقض للأمانة أولا، ولمعاني العقل والفقه بعد ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 458 وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، [سورة فصلت: 11] . قالوا: فالحق، في هذا الموضع معنيّ به: كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله:"ويوم يقول كن فيكون قوله الحق"،"الحق" هو قوله وكلامه. (1) قالوا: والله خلق الأشياء بكلامه وقيله، فما خلق به الأشياء فغير الأشياء المخلوقة. (2) قالوا: فإذْ كان ذلك كذلك، وجب أن يكون كلام الله الذي خلق به الخلق غيرَ مخلوق. * * * وأما قوله:"ويوم يقول كن فيكون"، فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في"يوم يقول"، وفي معنى ذلك. فقال بعض نحويي البصرة:"اليوم" مضاف إلى"يقول كن فيكون". (3) قال: وهو نصب، وليس له خبر ظاهر، والله أعلم، وهو على ما فسرت لك = كأنه يعني بذلك أن نصبه على: واذكر يوم يقول كن فيكون. قال: وكذلك:"يوم ينفخ في الصور"، قال: وقال بعضهم: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة. (4) * * * وقال بعضهم:"يقول كن فيكون" للصور خاصة (5) = فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصور كن فيكون، قوله الحق يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة =   (1) هذه العبارة فيها في المخطوطة سقط وتكرار، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب. (2) كانت هذه العبارة في المطبوعة: "كما خلق به الأشياء غير المخلوقة"، وهو كلام ساقط جدًا، فاسد المعنى بل هو غاية في فساد المعنى. والذي في المخطوطة: "مما خلق به الأشياء بغير الأشياء المخلوقة"، وهي محرفة، صواب قراءتها ما أثبت، يدل على ذلك الجملة الآتية. ويعني أن الذي خلق به الأشياء - هو غير الأشياء المخلوقة، وإذا كان غيرها، فهو غير مخلوق. (3) في المخطوطة: "مضاف إلى كن فيكون"، والصواب ما في المطبوعة. (4) هذه الجملة الأخيرة لم أعرف لها هنا موقعًا، ولكني تركتها على حالها. وهي منقطعة عما بعدها بلا شك، فإن الذي يليها هو مقالة الفراء من الكوفيين. وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. (5) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 340. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 459 فيكون"القول" حينئذ مرفوعًا ب"الحق" و"الحق" ب"القول"، وقوله:"يوم يقول كن فيكون"، و"يوم ينفخ في الصور"، صلة"الحق". * * * وقال آخرون: بل قوله:"كن فيكون"، معنيٌّ به كل ما كان الله مُعِيده في الآخرة بعد إفنائه، ومنشئه بعد إعدامه = فالكلام على مذهب هؤلاء، متناهٍ عند قوله:"كن فيكون"، وقوله:"قوله الحق"، خبر مبتدأ = وتأويله: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، ويوم يقول للأشياء كن فيكون خلقهما بالحق بعد فنائهما. ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقَه أنه معيدهما بعد فنائهما عن أنه حق فقال: قوله هذا، الحقّ الذي لا شك فيه. وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور = ف يوم ينفخ في الصور"، يكون على هذا التأويل من صلة"الملك". وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله:"يوم ينفخ في الصور" من صلة"الحق". * * * وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني:"كن"، فيكون قوله الحق، فجعل"القول" مرفوعًا بقوله"ويوم يقول كن فيكون"، وجعل قوله:"كن فيكون"، للقول محلا وقوله:"يوم ينفخ في الصور"، من صلة"الحق" = كأنه وجه تأويل ذلك إلى: ويومئذ قوله الحق يوم ينفخ في الصور. وإن جعل على هذا التأويل"يوم ينفخ في الصور" بيانًا عن اليوم الأول، كان وجهًا صحيحًا. ولو جعل قوله:"قوله الحق"، مرفوعًا بقوله:"يوم ينفخ في الصور"، وقوله:"يوم ينفخ في الصور"، محلا وقوله:"ويوم يقول كن فيكون" من صلته، كان جائزًا. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 460 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنه المنفرد بخلق السماوات والأرض دون كل ما سواه، معرِّفًا من أشرك به من خلقه جهلَه في عبادة الأوثان والأصنام، وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه، ولا دفع ضر عنها = ومحتجًّا عليهم في إنكارهم البعثَ بعد الممات والثوابَ والعقاب، بقدرته على ابتداع ذلك ابتداءً، وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذر عليه إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه، فقال:"وهو الذي خلق"، أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء ="السماوات والأرض بالحق"، حجة على خلقه، ليعرفوا بها صانعها، وليستدلُّوا بها على عظيم قدرته وسلطانه، فيخلصوا له العبادة ="ويوم يقول كن فيكون"، يقول: ويوم يقول حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات كذلك:"كن فيكون"، كما شاء تعالى ذكره، فتكون الأرض غير الأرض = ويكون [الكلام] عند قوله:"كن فيكون" متناهيًا. (1) وإذا كان كذلك معناه، وجب أن يكون في الكلام محذوفٌ يدلّ عليه الظاهر، ويكون معنى الكلام: ويوم يقول كذلك:"كن فيكون" تبدل [السماوات والأرض] غير السماوات والأرض. (2) ويدلّ على ذلك قوله:" وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق"، ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال:"قوله الحق"، بمعنى وعدُه هذا الذي وَعدَ تعالى ذكره، من تبديله السماوات والأرض غير الأرض والسماوات، الحقُّ الذي لا شك فيه ="وله الملك يوم ينفخ في الصور"، فيكون قوله:"يوم ينفخ في الصور"، من صلة"الملك" = ويكون معنى   (1) في المطبوعة: "فتكون الأرض غير الأرض عند قوله: كن فيكون، متناهيًا"، وهي كلام سقيم، أسقط من المخطوطة: "ويكون"، هي ثابتة فيها، ولكن أسقط الناسخ ما وضعته بين القوسين، وبذلك استقامت العبارة. وهذا بين من السياق. (2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، وفي المخطوطة: "تبدله" مكان"تبدل" والصواب ما في المطبوعة. والناسخ في هذا الموضع قد أسقط الكلام وأفسده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 461 الكلام: ولله الملك يومئذ، لأن النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السماوات والأرض غيرهما. وجائز أن يكون"القول" أعنى:"قوله الحق"، = مرفوعًا بقوله:"ويوم يقول كن فيكون"، ويكون قوله:"كن فيكون" محلا للقول مرافعًا، فيكون تأويل الكلام: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، ويوم يبدلها غير السماوات والأرض، فيقول لذلك:"كن فيكون"،"قوله الحق". * * * وأما قوله:"وله الملك يوم ينفخ في الصور"، فإنه خُصّ بالخبر عن ملكه يومئذ، وإن كان الملك له خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة، لأنه عنى تعالى ذكره أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدّعي له، وأنه المنفرد به دون كل من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة، فأذعن جميعهم يومئذ له به، وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل. * * * واختلف في معنى"الصور" في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيًّا على الأرض، والثانية لنشر كل مَيْتٍ. واعتلوا لقولهم ذلك بقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [سورة الزمر: 68] ، وبالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذ سئل عن الصور: هو قرن يُنفخ فيه. (1) * * *   (1) رواه أحمد في مسند عبد الله بن عمرو رقم: 6507، وانظر تعليق أخي السيد أحمد عليه. ورواه أبو داود في سننه 4: 326، رقم: 326 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والترمذي في باب"ما جاء في الصور"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه الحاكم في المستدرك 4: 560، وقال: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. و"القرن"، البوق يتخذ من القرون، ينفخ فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 وقال آخرون:" الصور" في هذا الموضع جمع"صورة"، ينفخ فيها روحها فتحيا، كقولهم: (1) "سور" لسور المدينة، وهو جمع"سورة"، كما قال جرير: سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعَ (2) * * * والعرب تقول:"نفخ في الصور" و"نفخ الصور"، ومن قولهم:"نفخ الصور" (3) قول الشاعر: (4) لَوْلا ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ تُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ ... وَلا خُرَاسَانَ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ (5) قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن إسرافيلَ قد التقم الصور وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ"، (6) وأنه قال:"الصور قرن ينفخ فيه". (7) * * * وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله:"يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة"، يعني: أن عالم الغيب والشهادة، هو الذي ينفخ في الصور. 13432 - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"عالم الغيب والشهادة"،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "لقولهم"، والصواب بالكاف كما أثبته. (2) مضى تخريجه وتمامه فيما سلف 2: 17، 242. (3) انظر تفسير"نفخ" فيما سلف 6: 426، 427. (4) لم أعرف قائله. (5) معاني القرآن للفراء 1: 340، نسب قريش: 345، المعرب للجواليقي: 267 اللسان (صور) . و"ابن جعدة"، هو: "عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي"، وكان أبوه"جعدة بن هبيرة" على خراسان، ولاه علي بن أبي طالب. و"القهندز" (بضم القاف والهاء وسكون النون، وضم الدال) . من لغة أهل خراسان، يعنون بها: الحصن أو القلعة. (6) رواه الترمذي في باب"ما جاء في الصور"، وفي أول تفسير سورة الزمر وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 337، ثم قال: "رواه مسلم في صحيحه"، ولم أستطع أن أعرف مكانه في صحيح مسلم. (7) انظر التعليق السالف ص: 462، تعليق: 1 الجزء: 11 ¦ الصفحة: 463 يعني: أنّ عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور. * * * = فكأن ابن عباس تأوّل في ذلك أن قوله:"عالم الغيب والشهادة"، اسم الفاعل الذي لم يسمَّ في قوله:"يوم ينفخ في الصور"، وأن معنى الكلام: يوم ينفخ الله في الصور، عالم الغيب والشهادة. كما تقول العرب:"أُكلَ طعامك، عبدُ الله"، فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسم آكله. وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع، فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله:"عالم الغيب والشهادة"، مرفوعًا على أنه نعت ل"الذي"، في قوله:"وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق". * * * وروي عنه أيضًا أنه كان يقول:"الصور" في هذا الموضع، النفخة الأولى. 13433 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة"، يعني بالصور: النفخة الأولى، ألم تسمع أنه يقول: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى يعني الثانية فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [سورة الزمر: 68] . * * * ويعني بقوله:"عالم الغيب والشهادة"، عالم ما تعاينون: أيها الناس، فتشاهدونه، (1) وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه (2) ="وهو الحكيم"، في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم، ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود، ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب (3) ="   (1) انظر تفسير"الشهادة" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) . (2) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف ص: 402، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 464 الخبير"، بكل ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسيئ، حافظ ذلك عليهم ليحازيهم على كل ذلك. (1) يقول تعالى ذكره: فاحذروا، أيها العادلون بربكم، عقابَه، فإنه عليم بكل ما تأتون وتذرون، وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون. * * *   (1) انظر تفسير"الخبير" فيما سلف من فهارس اللغة (خبر) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد = لحجاجك الذي تحاجّ به قومك، وخصومتك إياهم في آلهتهم، وما تراجعهم فيها، مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون، وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين، وحقيقة ما أنت عليهم به محتج (1) = (2) حِجَاج إبراهيم خليلي قومَه، ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان، وانقطاعه إلى الله والرضا به وليًّا وناصرًا دون الأصنام، (3) فاتخذه إمامًا واقتد به، واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالا = إذ قال لأبيه مفارقًا لدينه، وعائبًا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر. (4) * * *   (1) في المطبوعة: "وحقية ما أنت عليهم محتج"، وفي المخطوطة: "وحقيقة أنعم عليهم محتج". فعل ناشر المطبوعة في"حقيقة" ما فعل في أشباهها، كما سلف ص: 434، تعليق: 3، والمراجع هناك. وأما ما كان في المخطوطة: "ما أنعم عليهم محتج"، فالصواب فيما أرجح أن الناسخ جمع الكلمتين في كلام واحد، فكتب"ما أنت به"، "ما أنعم". (2) السياق: "واذكر، يا محمد،. . . حجاج إبراهيم". (3) في المطبوعة والمخطوطة: "واليا وناصرًا"، والصواب ما أثبت. (4) السياق: "واذكر يا محمد،. . . حجاج إبراهيم. . . إذ قال لأبيه. . . يا آزر" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ ب"آزر"، وما هو، اسم هو أم صفة؟ (1) وإن كان اسمًا، فمن المسمى به؟ فقال بعضهم: هو اسم أبيه. * ذكر من قال ذلك: 13434 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر"، قال: اسم أبيه"آزر". 13435 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال:"آزر"، أبو إبراهيم. وكان، فيما ذكر لنا والله أعلم، رجلا من أهل كُوثَى، من قرية بالسواد، سواد الكوفة. 13436 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر قال: هو"آزر"، وهو"تارح"، مثل"إسرائيل" و"يعقوب". * * * وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم. * ذكر من قال ذلك: 13437 - حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال: ليس"آزر"، أبا إبراهيم. 13437- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا الثوري قال، أخبرني رجل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر"، قال:"آزر" لم يكن بأبيه، إنما هو صنم. 13439- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان،   (1) في المطبوعة: "اسم أم صفة"، حذف"هو"! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"آزر" اسم، صنم. 13440 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر"، قال: اسم أبيه، ويقال: لا بل اسمه"تارح"، واسم الصنم"آزر". يقول: أتتخذ آزرَ أصنامًا آلهة. (1) * * * وقال آخرون: هو سبٌّ وعيب بكلامهم، ومعناه: معوَجٌّ. كأنه تأوّل أنه عابه بزَيْغه واعوجاجه عن الحق. (2) * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} بفتح"آزر" على اتباعه"الأب" في الخفض، ولكنه لما كان اسمًا أعجميًّا فتحوه، إذ لم يجروه، وإن كان في موضع خفض. * * * وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: (آزَرُ) بالرفع على النداء، بمعنى: يا آزر. * * * فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن"آزر" اسم صنم، وإنما نصبَه بمعنى: أتتخذ آزر أصنامًا آلهة = فقولٌ من الصواب من جهة العربية بعيدٌ. وذلك أن العرب لا تنصب اسمًا بفعلٍ بعد حرف الاستفهام، لا تقول:"أخاك أكلمت"؟ وهي تريد: أكلمت أخاك. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءةُ من قرأ بفتح   (1) في المخطوطة: "أتتخذ أصنامًا آلهة"، ليس فيها"آزر"، وما في المطبوعة قريب من الصواب إن شاء الله، لما سيأتي في نقد أبي جعفر مقالة السدي بعد قليل. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 340. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 467 " الراء" من (آزَرَ) ، على اتباعه إعراب"الأب"، وأنه في موضع خفض ففتح، إذ لم يكن جاريًا، لأنه اسم عجمي. وإنما اخترتُ قراءة ذلك كذلك، (1) لإجماع الحجة من القرأة عليه. وإذْ كان ذلك هو الصواب من القراءة، وكان غير جائز أن يكون منصوبًا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام، صحَّ لك فتحه من أحد وجهين: إما أن يكون اسمًا لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله، فيكون في موضع خفض ردًّا على"الأب"، ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لمّا كان اسمًا أعجميًّا ترك إجراؤه ففتح، كما تفعل العرب في أسماء العجم. (2) = أو يكون نعتًا له، فيكون أيضًا خفضًا بمعنى تكرير اللام عليه، (3) ولكنه لما خرج مخرج"أحمر" و"أسود" ترك إجراؤه، وفعل به كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لأبيه الزائغ: أتتخذ أصنامًا آلهة. (4) وإذ لم يكون له وِجهة في الصواب إلا أحد هذين الوجهين، فأولى القولين بالصواب منهما عندي قولُ من قال:"هو اسم أبيه"، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائلُه أنه نعتٌ. * * * فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى"تارح"، فكيف يكون"آزر" اسمًا له، والمعروف به من الاسم"تارح"؟   (1) في المطبوعة: "وإنما أجيزت قراءة ذلك"، وهو كلام فاسد، والصواب ما أثبت وهو في المخطوطة غير منقوط بتمامه. (2) في المطبوعة: "كما فتح العرب"، والصواب من المخطوطة. (3) في المخطوطة: "تكرير الأمر عليه"، والصواب ما في المطبوعة. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصنامًا آلهة"، وهو نص الآية، لا تأويل لها على النعت. وأما تأويل النعت الذي ذكره آنفًا في أن"آزر" سب وعيب في كلامهم ومعناه"معوج"، لزيغه واعوجاجه عن الحق = فهو الذي أثبت، وهو الصواب إن شاء الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 468 قيل له: غير محال أن يكون له اسمان، كما لكثير من الناس في دهرنا هذا، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم. وجائز أن يكون لقبًا يلقّب به. (1) * * * القول في تأويل قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال:"أتتخذ أصنامًا آلهة"، تعبدها وتتخذها ربًّا دون الله الذي خلقك فسوَّاك ورزقك؟ و"الأصنام": جمع"صنم"، و"الصنم" التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان، وهو"الوثن". وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط وغيره:"صنم" و"وثن". * * * ="إني أراك وقومَك في ضلال مبين"، يقول:"إني أراك"، يا آزر،"وقومَك" الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة ="في ضلال"، يقول: في زوال عن محجّة الحق، وعدول عن سبيل الصواب =" مبين"، يقول: يتبين لمن أبصَره أنه جوْرٌ عن قصد السبيل، وزوالٌ عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته، الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم، دون غيره من الآلهة والأوثان. (2) * * *   (1) في المطبوعة: "وجائز أن يكون لقبا والله تعالى أعلم"، حذف"يلقب به"، وهو وهو ثابت في المخطوطة، وزاد ما ليس في المخطوطة. (2) انظر تفسير"الضلال" و"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) (بين) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 469 القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وكذلك"، وكما أريناه البصيرة في دينه، والحقّ في خلافه ما كانوا عليه من الضلال، (1) نريه ملكوت السماوات والأرض = يعني ملكه. (2) * * * وزيدت فيه"التاء" كما زيدت في"الجبروت" من"الجبر" (3) وكما قيل:"رَهَبوتٌ خيرٌ من رَحَمُوت"، بمعنى: رهبة خير من رحمة. (4) وحكي عن العرب سماعًا:"له مَلَكوت اليمنِ والعراق"، بمعنى: له ملك ذلك. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض". فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلقَ السماوات والأرض. * ذكر من قال ذلك: 13441- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، أي: خلق السماوات والأرض. 13442 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،   (1) في المطبوعة: "في خلاف ما كانوا عليه من الضلال". وفي المخطوطة: "في خلافه بما كانوا عليه من الضلال"، وبينهما بياض، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ، وظني أن الناسخ أشكل عليه الكلام فترك البياض، والكلام موصول صحيح المعنى. (2) في المخطوطة: "يعني ملكوت وزيدت فيه" بينهما بياض أيضًا، والذي في المطبوعة صحيح المعنى. (3) في المخطوطة: "من الجبروة"، والصواب ما في المطبوعة. (4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة1: 197، 198. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 470 عن قتادة:" وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، أي: خلق السماوات والأرض ="وليكون من الموقنين". 13443- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، يعني ب"ملكوت السماوات والأرض"، خلق السماوات والأرض. * * * وقال آخرون: معنى"الملكوت" الملك، بنحو التأويل الذي تأوّلناه. (1) * ذكر من قال ذلك: 13444 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمر بن أبي زائدة قال: سمعت عكرمة، وسأله رجل عن قوله:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: هو الملك، غير أنه بكلام النبط:"ملكوتَا". (2) 13445 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي زائدة، عن عكرمة قال: هي بالنبطية:"ملكوتَا". * * * وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السماوات والأرض. * ذكر من قال ذلك: 13446- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: آيات السماوات والأرض.   (1) في المخطوطة: "وبنحو الذي تأولناه"، وفي الهامش"التأويل"، وعليها علامة"صح"، وفي الجهة الأخرى من السطر (كذا) بالحمرة، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب، إلا أنه كتب"الذي أولناه"، والصواب ما في المخطوطة. (2) الأثر: 13444، 13445 -"عمر بن أبي زائدة الهمداني الوادعي"، وهو"ابن أبي زائدة" في الإسناد الثاني، هو أخو"زكريا بن أبي زائدة"، وهو الأكبر. و"زكريا" أخوه أعلى منه بكثير. وهو ثقة، ولكنه كان يرى القدر، وهو في الحديث مستقيم. مترجم في التهذيب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 471 13447- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: آيات. 13448 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: تفرجت لإبراهيم السماوات السبعُ حتى العرش، فنظر فيهنّ، وتفرَّجت له الأرضون السبع، فنظر فيهنّ. 13449 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين"، قال: أقيم على صخرة وفتحت له السماوات، فنظر إلى ملك الله فيها، حتى نظر إلى مكانه في الجنة. وفتحت له الأرضون حتى نظَر إلى أسفل الأرض، فذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [سورة العنكبوت: 27] ، يقول: آتيناه مكانه في الجنّة، ويقال:"أجره" الثناء الحسن. 13450- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهنّ، حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهنّ. 13451 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: كشف له عن أدِيم السماواتِ والأرض، حتى نظر إليهن على صخرة، والصخرةُ، على حوت، والحوت على خاتم ربّ العِزّة لا إله إلا الله. (1) 13452 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن عاصم،   (1) قد مضى قولنا في هذا الضرب من الأخبار التي لا حجة فيها من الصادق صلى الله عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 472 عن أبي عثمان، عن سلمان قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، رأى عبدًا على فاحشة، فدعا عليه، فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة، فدعا عليه فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة، فدعا عليه فهلك. فقال: أنزلوا عبدِي لا يُهْلِك عبادِي! 13453- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السماوات، أشرفَ فرأى عبدًا يزني، فدعا عليه، فهلك. ثم رُفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني، فدعا عليه، فهلك. ثم رفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني، فدعا عليه، فنودي: على رِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجابٌ لك، وإني من عبدي على ثلاث: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه، وإما أن أخرج منه ذرية طيبة، وإما أن يتمادى فيما هو فيه، فأنا من ورائه. 13454- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب، عن عوف، عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرّحمن حدَّث نفسه أنه أرحمُ الخلق، وأن الله رفعه حتى أشرفَ على أهل الأرض، فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمِّر عليهم! فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، اهبطْ، فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويُراجِعوا. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك، ما أخبر تعالى أنه أراه من النُّجوم والقمر والشمس. * ذكر من قال ذلك: 13455 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: الشمس والقمر والنجوم.   (1) في المطبوعة: "ويرجعوا"، والصواب الجيد من المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 473 13456 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، قال: الشمس والقمر. 13457 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، يعني به: الشمس والقمر والنجوم. (1) 13458 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: خُبِّئ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من جبار من الجبابرة، فجُعِل له رزقه في أصابعه، فإذا مصّ أصبعًا من أصابعه وَجَد فيها رزقًا. فلما خرج، أراه الله ملكوت السماوات والأرض. فكان ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. 13459- حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، (2) حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فُرَّ به من جبَّار مُتْرَف، (3) فجعل في سَرَبٍ، (4) وجعل رزقه في أطرافه، فجعل لا يمصُّ إصبعًا من أصابعه إلا وجد فيها رزقًا. فلما خرج من ذلك السَّرَب، أراه الله ملكوت السماوات، فأراه شمسًا وقمرًا ونجومًا وسحابًا وخلقًا عظيمًا، وأراه ملكوت الأرض، فأراه جبالا وبحورًا وأنهارًا وشجرًا ومن كلّ الدواب وخلقًا عظيمًا. * * *   (1) في المطبوعة: "يعني به: نريه الشمس"، وزاد"نريه"، وليست في المخطوطة. (2) في المطبوعة، سقط"قال حدثنا يزيد". (3) في المخطوطة: "قربه جبار مترف"، وأما ما في المطبوعة، فهو نص ما في الدر المنثور 3: 25. (4) "السرب" (بفتحتين) : حفير في الأرض، كالسرداب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 474 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قولُ من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض"، أنه أراه ملك السماوات والأرض، وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما، وجلَّى له بواطنَ الأمور وظواهرَها، لما ذكرنا قبل من معنى"الملكوت"، في كلام العرب، فيما مضى قبل. (1) * * * وأما قوله:"وليكون من الموقنين"، فإنه يعني أنه أراه ملكوت السماوات والأرض، ليكون ممن يقرّ بتوحيد الله، (2) ويعلم حقيقة ما هداه له وبصّره إياه، (3) من معرفة وحدانيته، وما عليه قومه من الضلالة، من عبادتهم الأصنام، واتخاذهم إياها آلهة دون الله تعالى. (4) * * * وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك، ما:- 13460 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وليكون من الموقنين"، أنه جلَّى له الأمر سرَّه وعلانيتَه، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق. فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله: إنك لا تستطيع هذا! فردَّه الله كما كان قبل ذلك. * * * فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السماوات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسًّا لا خبرًا.   (1) انظر ما سلف ص: 470 وما بعدها. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "ممن يتوحد بتوحيد الله"، وهو كلام لا معنى له، صوابه ما أثبت. وإنما هو خطأ من عجلة الناسخ، واستظهرته من معنى"يوقن" فيما سلف 10: 394. (3) في المطبوعة: "ويعلم حقية ما هداه له"، فعل بها ما فعل بصواحباتها، كما سلف قريبًا: ص: 465، تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"أيقن" فيما سلف 10: 394، 395. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 475 13461 - حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا ابن جابر قال، وحدثنا الأوزاعيُّ أيضًا = قال: حدثني خالد بن اللجلاج قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرميّ يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ، فقال له قائل: ما رأيتك أسفرَ وجهًا منك الغداة! (1) قال: ومالي، وقد تبدّى لي ربّي في أحسن صورة، (2) فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى، (3) يا محمد؟ قلت: أنت أعلم [يا رب] ! (4) فوضع يده بين كتفي فوجدت بردَها بين ثدييّ، (5) فعلمت ما في السماوات والأرض. (6) ثم تلا هذه الآية:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين". (7) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ما رأيت أسعد منك اليوم"، وهو خطأ، صوابه من منتخب ذيل المذيل لأبي جعفر الطبري، تاريخه 13: 59، حيث روى الخبر بتمامه هناك. وقوله: "أسفر وجهًا منك الغداة"، يعني: أحسن إشراقًا وإضاءة، يقال: "سفر وجهه حسنا، وأسفر"، إذا أشرق وأضاء، ومنه في التنزيل العزيز: "وجوه يومئذ مسفرة". (2) في المطبوعة: "ما لي قد أتاني ربي"، وفي المخطوطة: "ومالي وقد ستاني ربي" غير منقوطة، محرفة، صوابها من ذيل المذيل لأبي جعفر. (3) في المطبوعة: "ففيم يختصم" لم يحسن قراءة المخطوطة، وهو الموافق لما في ذيل المذيل. (4) زيادة ما بين القوسين من رواية أبي جعفر في ذيل المذيل. (5) قوله: "فوجدت بردها بين ثديي"؛ أسقطه ناشر المطبوعة، لأنه كان في المخطوطة هكذا: "فوضع يده بين كتفي، ثديي"، أسقط الناسخ ما بين الكلامين، والصواب زيادته من رواية أبي جعفر في ذيل المذيل. (6) في ذيل المذيل: "ما في السماء والأرض". (7) الأثر: 13461 - هذا خبر مشكل جدًّا، كما سترى بعد، وكان في المخطوطة والمطبوعة محرفًا أشد التحريف، وكان إسناده أشد تحريفًا، ولكني صححته بعون الله تعالى ذكره، من رواية أبي جعفر في ذيل المذيل (تاريخ الطبري 13: 59، 60) . "العباس بن الوليد بن مزيد العذري الآملي البيروتي" شيخ الطبري، ثقة، روى عنه كثيرًا مضى برقم: 891، 11014، 11821. وأبوه: "الوليد بن مزيد العذري البيروتي"، ثقة؛ مضى برقم: 11821. قال الأوزاعي شيخه: "كتبه صحيحة"، وقال النسائي: "هو أحب إلينا في الأوزاعي من الوليد بن مسلم، لا يخطئ، ولا يدلس". و"ابن جابر" هو: "عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، ثقة، روى له الجماعة، روى عنه الأوزاعي، والوليد بن مزيد البيروتي، وغيرهما. ومضى برقم: 6655. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو جابر"، وهو خطأ، صوابه من ذيل المذيل وغيره. و"خالد بن اللجلاج العامري"، كان ذا سن وصلاح، جريء اللسان على الملوك، في الغلظة عليهم. قال البخاري: "سمع عمر بن الخطاب، وأباه". وقال ابن أبي حاتم: "روي عن عمر، مرسل، وعن أبيه، ولأبيه صحبة، وعن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي" وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مترجم في التهذيب، والكبير2/1/156، وابن أبي حاتم 1/2/349. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "خالد الحلاج"، وهو خطأ صرف. وأما "عبد الرحمن بن عائش الحضرمي"، فأمره وأمر صحبته مشكل من قديم، وسيأتي ذكر ذلك. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الرحمن بن عياش"، وحذف ناشر المطبوعة"الحضرمي"، وهي ثابتة في المخطوطة. والصواب من رواية أبي جعفر في ذيل المذيل. ولكن أعجب العجب أنه جاء كذلك في المسند 5: 243: "عبد الرحمن بن عياش الحضرمي"، مع أني لم أجد أحدًا ذكر في ترجمته خلافًا في اسم أبيه"عائش"، فمن عجيب الاتفاق، وهو قليل مثله، أن يأتي كذلك في مخطوطة الطبري والمسند جميعًا، وهو اتفاق عجيب على الخطأ في كتابين متباينين. والذي في المسند خطأ لا شك فيه أيضًا، لأني وجدت ابن كثير في تفسيره 7: 220، ونقل الخبر عن هذا الموضع من مسند أحمد، وفيه"عبد الرحمن بن عائش" على الصواب. وتحريف"عائش" إلى"عياش" جائز قريب، لشهرة"عياش" وكثرة من تسمى به، ولخفاء"عائش" وندرة من تسمى به. و"عبد الرحمن بن عائش الحضرمي" مترجم في التهذيب، وفي ابن سعد 7/2/150، في الصحابة، وفي ذيل المذيل للطبري (13: 59، 60) ، وفي الاستيعاب لابن عبد البر: 399، وابن أبي حاتم 2/2/262، وأسد الغابة 3: 303، 304، وفي الإصابة، وفي ميزان الاعتدال 2: 108. و"عبد الرحمن بن عائش" مختلف في صحبته، فممن صرح بصحبته، ابن سعد، وابن جرير في ذيل المذيل، وابن حبان أما ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الأثير في أسد الغابة، فذكر أنه لا تصح صحبته، لأن حديثه مضطرب. وأما أبو حاتم فقال: "أخطأ من قال: له صحبة، هو عندي تابعي". أما أبو زرعة فقال: "عبد الرحمن بن عائش، ليس بمعروف". وعد الحافظ ابن حجر في الإصابة من عده في الصحابة فقال: "وذكره في الصحابة: محمد بن سعد، والبخاري، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو الحسن بن سميع، وأبو القاسم، والبغوي، وأبو زرعة الحراني، وغيرهم". وقد استوفى الكلام في ترجمته في الإصابة وقال البخاري: "له حديث واحد، إلا أنهم مضطربون فيه"، يعني هذا الحديث. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: "قلت: وقد وجدت له حديثًا آخر مرفوعًا، وحديثا آخر موقوفًا" وهذا الخبر رواه أبو جعفر في ذيل المذيل (تاريخه 13: 59، 60) بهذا الإسناد، وأشار إليه الترمذي في تفسير"سورة ص" من سننه (12: 116، 117 شرح ابن عربي) ، بعد أن ذكر حديث معاذ بن جبل، من طريق زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يحامر السكسكي، عن معاذ بن جبل، وذكر الحديث ="قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسمعيل (البخاري) عن هذا الحديث فقال: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال، حدثنا خالد بن اللجلاج، حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد، عن عبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلى الله عليه وسلم = وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم". وقد استوفى الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"عبد الرحمن بن عائش" وجوه الاختلاف والاضطراب في هذا الخبر، وما قالوه في الكتب التي ذكرتها من أنه لم يقل في حديثه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم"، إلا الوليد بن مسلم. وقد ذكر أن الوليد بن مسلم لم ينفرد برواية ذلك، بل رواه أيضًا ثقة ثبت عن الأوزاعي، صحيح الحديث عنه، هو"الوليد بن مزيد البيروتي" بمثل رواية"الوليد بن مسلم"، وإذن فالاضطراب فيه لم يأت من طريق"الوليد بن مسلم". وذكر الحافظ سائر المتابعات التي تؤيد الوليد بن مسلم في روايته. وأما الخبر بغير هذا الإسناد، فقد رواه أحمد في مسنده 5: 243، والترمذي، كما أشرت إليه آنفًا. ثم رواه أحمد من حديث ابن عباس في مسنده رقم: 3484، بمثله. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 5: 319 - 321 من حديث جماعة من الصحابة، من حديث ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وأبي أمامة الباهلي، وطارق بن شهاب، وعدي بن حاتم، وأبي عبيدة بن الجراح، وثوبان. وهذا قدر كاف في تخريج هذا الخبر المضطرب، تراجع فيه سائر الكتب التي ذكرتها. وكتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 476 القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما واراه الليل وغيّبه. (1) * * * يقال منه:"جنَّ عليه الليل"، و"جنَّه الليل"، و"أجنه"، و"أجنّ عليه". وإذا ألقيت"على"، كان الكلام بالألف أفصح منه بغير"الألف"،"أجنه الليل"، أفصح من"أجن عليه" و"جنّ عليه الليل"، أفصح من" جنَّه"، وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. (2) "جنّه الليل"، في أسد ="وأجنه   (1) في المطبوعة: "داراه الليل وجنه"، والصواب من المخطوطة. (2) هذا بيان لا تصيبه في كتب اللغة، فقيده هناك، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 341. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 477 وجنه" في تميم. (1) والمصدر من:"جن عليه"،"جنًّا وجُنُونًا وجَنَانًا"، = ومن"أجنّ""إجنانًا". ويقال:"أتى فلان في جِنّ الليل". (2) و"الجن" من ذلك لأنهم استجنُّوا عن أعين بني آدم فلا يرون. وكل ما توارى عن أبصار الناس، فإن العرب تقول فيه:"قد جَنّ"، ومنه قول الهذلي: (3) وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَى ... وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأَدْهَمْ (4) وقال عبيد: وَخَرْقٍ تَصِيحُ البُومُ فِيهِ مَعَ الصَّدَى ... مَخُوفٍ إذَا مَا جَنَّهُ اللَّيْلُ مَرْهُوبِ (5) ومنه:" أجننت الميت"، إذا واريته في اللحد، و"جننته"، وهو نظير   (1) يعني أن الأولى أشهر في لغة بني أسد، وأن الثانية أشهر في لغة بني تميم. (2) "جن الليل" (بكسر الجيم) : اختلاط ظلمته. (3) هو البريق الهذلي، واسمه: "عياض بن خويلد الخناعي"، وروى الأصمعي أن قائل الشعر هو"عامر بن سدوس الخناعي". (4) ديوان الهذليين 3: 56، وما بقي من أشعار الهذليين رقم: 31، واللسان (سدف) (جنن) ، من أبيات يمجد فيها نفسه، وبعد البيت: مَعِي صَاحِبٌ مِثْلُ نَصْل السِّنانِ ... عَنِيفٌ عَلَى قِرْنِهِ مِغْشَمُ ويروى: "وما وردت علي خيفة"، ويروى"قبيل الصباح"، وكله حسن. و"السدف": الظلمة من أول الليل أو آخره، عند اختلاط الضوء. و"الأدهم": الضارب إلى السواد. (5) ديوانه: 33، ذكر نفسه في هذا البيت ثم قال بعده: قَطَعْتُ بِصَهْبَاءِ السَّرَاةِ شِمِلَّةٍ ... تَزِلُّ الوَلايَا عَنْ جَوَانِبِ مَكْرُوبِ وختمها بالبيت الحكيم: تَرَى المَرْءَ يَصْبُو لِلحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَفِي طُولِ عَيْش المَرْءِ أَبْرَحُ تَعْذِيبِ وصدق غاية الصدق! وكان في المطبوعة: "الليل مرهب"، والصواب من المخطوطة. و"الخرق" (بفتح فسكون) : الفلاة الواسعة، ورواية الديوان: "تصيح الهام"، و"الهام" ذكر البوم، ورواية أبي جعفر أجود، لأن"الصدى" هو أيضًا ذكر البوم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 479 "جنون الليل"، في معنى غطيته. ومنه قيل للترس"مِجَنّ" لأنه يُجنّ من استجنَّ به فيغطّيه ويواريه. * * * وقوله:"رأى كوكبًا"، يقول: أبصر كوكبًا حين طلع =" قال هذا ربي"، فروي عن ابن عباس في ذلك، ما:- 13462 - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين"، يعني به الشمس والقمر والنجوم ="فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي"، فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لا أحب الآفلين ="فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربي"، فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ="فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر" فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال: يا قوم إنّي بريء مما تشركون. 13463 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحبّ الآفلين"، علم أن ربّه دائم لا يزول. فقرأ حتى بلغ:"هذا ربي هذا أكبر"، رأى خلقًا هو أكبرَ من الخلقين الأوّلين وأنور. (1) وكان سبب قيل إبراهيم ذلك، ما:- 13464- حدثني به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق = فيما ذكر لنا، والله أعلم = أن آزر كان رجلا من أهل   (1) في المطبوعة: "وأي خلق"، وهو فاسد المعنى، وفي المخطوطة: "وأي خلقا"، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 480 كوثى، من قرية بالسوادِ، سواد الكوفة، وكان إذ ذاك ملك المشرق النمرود، (1) فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم [عليه السلام، خليل الرحمن، حجة على قومه] ، (2) ورسولا إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد، أتى أصحابُ النجوم نمرودَ فقالوا له: تَعَلَّمْ، أنّا نجد في عِلْمنا أن غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له"إبراهيم"، (3) يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا. فلما دخلت السنة التي وصف أصحابُ النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده = إلا ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر، فإنه لم يعلم بحبَلها، وذلك أنها كانت امرأة حَدَثة، فيما يذكر، لم تعرف الحبَل في بطنها، (4) ولِمَا أرادَ الله أن يبلغ بولدها، (5) = يريدُ أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة، حذرًا على ملكه. فجعلَ لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة، إلا أمر به فذبح. فلما وجدت أم إبراهيم الطَّلقَ خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبًا منها، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يُصْنع بالمولود، (6) ثم سَدّت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل، فتجده حيًّا يمصّ إبهامه، يزعمون، والله أعلم، أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصّه. وكان آزر، فيما يزعمون، سأل أمّ إبراهيم عن حمْلها ما فعل، فقالت: ولدت غلامًا فمات! فصدّقها، فسكت عنها. وكان اليوم، فيما يذكرون، على إبراهيم في الشَّباب كالشهر، والشهر كالسنة. فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر! فأخرجته عِشاء فنظر، وتفكر في خلق السماوات والأرض، وقال:"إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربّي، ما لي إله غيره"! ثم نظر في السماء فرأى كوكبًا، قال:"هذا ربي"، ثم اتّبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب، فلما أفل قال:"لا أحب الآفلين"، ثم طلع القمر فرآه بازغًا، قال:"هذا ربي"، ثم اتّبعه ببصره حتى غاب، فلما أفل قال:"لئن لم يهدني ربّي لأكونن من القوم الضالين"! فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس، أعظَمَ الشمسَ، (7) ورأى شيئًا هو أعظم نورًا من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال:"هذا ربي، هذا أكبر"! فلما أفلت قال:"يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين". ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربَّه، وبرئ من دين قومه، إلا أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه، وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه، فسرَّ بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا. وكان آزر يصنع أصنام قومِه التي يعبدونها، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم، فيما يذكرون، فيقول:"من يشتري ما يضرُّه ولا ينفعه"، فلا يشتريها منه أحد. فإذا بارت عليه، (8) ذهب بها إلى نهر فصوَّبَ فيه رؤوسها، (9) وقال:"اشربي"، استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبُه إياها واستهزاؤُه بها في قومه وأهل قريته، من غير أن يكون ذلك بلغ نمرودَ الملك. (10) * * * قال أبو جعفر: وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر:"هذا ربي"، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيٌّ ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقتٌ من الأوقات وهو بالغٌ إلا وهو لله موحدٌ، وبه عارف، ومن كل ما يعبد من دونه برئ. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة، لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه، فأثابه لاستحقاقه الثوابَ بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبرَ الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس:"هذا ربي"، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربّه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام، إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلةً زائلة غير دائمة، والأصنام التي [هي] دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم، أحقُّ أن لا تكون معبودة   (1) في المطبوعة: "لنمرود بن كنعان"، وليس ذلك في المخطوطة، ولا في تاريخ الطبري 1: 119، بل الذي هناك: "لنمرود الخاطئ، وكان يقال له: الهاصر. وكان ملكه فيما يزعمون قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل. . ."، فاختصر أبو جعفر الخبر كعادته. وهو خبر قسمه أبو جعفر في تاريخه، فروى صدره هذا، ثم فصل، ثم عاد إلى حديث ابن إسحق. (2) الزيادة بين القوسين من تاريخ أبي جعفر 1: 119. (3) "تعلم" (بفتح التاء والعين وتشديد اللام المفتوحة) فعل أمر بمعنى: اعلم، يكثر ورودها في سيرة ابن إسحق، ويخطئ كثير من الناس في ضبطها من قلة معرفتهم بالكلام. (4) "امرأة حدثة" (بفتحات) : حديثة السن صغيرة، بينة الحداثة. والمذكر: "رجل حدث"، أي شاب صغير. وكان في المطبوعة: "حدبة" بالباء، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة غير منقوطة، والصواب في تاريخ الطبري. (5) في المطبوعة: "ولما أراد الله أن يبلغ بولدها أراد أن يقتل. . ." غير ما كان في المخطوطة، لأنه لم يفهم سياق الكلام، فوضع مكان"يريد"، "أراد". وسياق الكلام: ". . . بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده. . . يريد أن يقتل كل غلام. . ."، ووضعت العبارة الفاصلة في شأن ولدها بين خطين، لذلك. وقوله"ولما أراد الله. . ."، أي وللذي أراد الله. وهذه الجملة ليست في تاريخ أبي جعفر، اختصر الكلام هناك كعادته. (6) في المطبوعة: "ما يصنع مع المولود"، أراد الناشر ترجمة كلام أبي جعفر إلى سقم عربيته!! ، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (7) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "أعظم الشمس"، كأنه يعني: استعظمها، ووجدها عظيمة، وهو صواب في المعنى، وأما في التاريخ فهناك: "رأى عظم الشمس"، وهو صواب أيضًا. (8) هكذا في التاريخ، وفي المخطوطة: "وإذا بات عليه" غير منقوطة، فأثبت ما في التاريخ. (9) في المطبوعة والمخطوطة: "فضرب فيه رؤوسها"، والصواب من التاريخ. و"صوب رؤوسها"، نكسها. (10) الأثر: 13464 - هذا الأثر رواه أبو جعفر في تاريخه مطولا 1: 119، 120. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 481 ولا آلهة. (1) قالوا: وإنما قال ذلك لهم، معارضةً، كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضًا له في قولٍ باطلٍ قال به بباطل من القول، (2) على وجه مطالبته إياه بالفُرْقان بين القولين الفاسدين عنده، اللذين يصحِّح خصمه أحدَهما ويدعي فسادَ الآخر. * * * وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته، (3) وقبل قيام الحجة عليه. وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان. * * * وقال آخرون منهم: إنما معنى الكلام: أهذا ربي؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي: ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك، فتحذف"الألف" التي تدلّ على معنى الاستفهام. وزعموا أن من ذلك قول الشاعر: (4) رَفَوْنِي وَقَالُوا: يَا خُوَيْلِدُ، لا تُرَعْ! ... فَقُلْتُ، وأَنْكَرْتُ الوُجُوهَ: هُمُ هُمُ? (5) يعني: أهم هم؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس: (6) لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي، وَإنْ كُنْتُ دَارِيًا، ... شُعَيْثَ بنَ سَهْمٍ أم شُعَيْثَ بْنَ مِنْقَرِ (7)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "والأصنام التي دونها في الحسن"، وفي المخطوطة: "فأحق"، ورأيت السياق يقتضي ما أثبت، مع زيادة [هي] بين القوسين. (2) السياق: معارضا له. . . بباطل من القول. (3) في المطبوعة: "طفوليته"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) هو أبو خراش الهذلي. (5) ديوان الهذليين 2: 144، الخزانة 1: 211 واللسان، (رفأ) (رفو) ، وغيرها كثير. هي مطلع شعر له في فرة فرها على رجليه، فوصف ذلك وحسن فرته. وقوله: "رفوني"، أي: سكنوني، كأن قلبه قد طار شعاعًا، فضموا بعضه إلى بعض. يقال: "رفوته من الرعب" و"رفأته". (6) ينسب أيضًا للأسود بن يعفر النهشلي، واللعين المنقري. (7) سيبويه 1: 485، البيان والتبين 4: 40، 41، الكامل 1: 384، 2: 115، الخزانة 4: 450، شرح شواهد المغني: 51، وغيرها كثير. قال الجاحظ: "وذكروا أن حزن بنالحارث، أحد بني العنبر، ولد"محجنًا"، فولد محجن: "شعيب بن سهم"، فأغير على إبله، فأتى أوس بن حجر يستنجده، فقال له أوس: أو خير من ذلك، أحضض لك قيس بن عاصم! وكان يقال إن"حزن بن الحارث" هو"حزن بن منقر"، فقال أوس: سَائِلُ بِهَا مَوْلاَكَ قَيْسَ بن عَاصِمٍ ... فَمَوْلاَكَ مَوْلَى السَّوْءِ إنْ لَمْ يُغَيِّرِ لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي: أمِنْ حزن مِحْجَنٍ ... شُعَيْثُ بن سَهْمٍ أمْ لِحَزْنِ بن مِنْقَرِ فَما أنْتَ بالمَوْلَى المُضَيِّعِ حَقَّهُ ... وَمَا أنْتَ بِالْجَارِ الضَّعِيفِ المُسَترِ فسعى قيس في إبله حتى ردها على آخرها". والبيت برواية الجاحظ لا شاهد فيه. وكان في المطبوعة في المواضع كلها: "شعيب" بالباء، وهو خطأ. وفي المطبوعة: "أو شعيب" والصواب"أم" كما في المخطوطة وسائر الروايات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 484 بمعنى: أشعيث بن سهم؟ فحذف"الألف"، ونظائر ذلك. وأما تذكير"هذا" في قوله:"فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي"، فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربِّي. * * * قال أبو جعفر: وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر:"لئن لم يهدني ربّي لأكونن من القوم الضالين"، الدليلُ على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصوابَ من القول في ذلك، الإقرارُ بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه. (1) وأما قوله:"فلما أفل"، فإن معناه: فلما غاب وذهب، كما:- 13465 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، قال ابن إسحاق:"الأفول"، الذهاب. يقال منه:"أفل النجم يأفُلُ ويأفِلُ أفولا وأفْلا"، إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة: مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِالَّلوَاتِي تَقُودُهَا ... نُجُومٌ، وَلا بالآفِلاتِ الدَّوَالِكِ (2) ويقال:"أين أفلت عنا" بمعنى: أين غبت عنا؟ (3) * * *   (1) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 341. (2) ديوانه: 425، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 199، الأزمنة 2: 49، كتاب القرطين 1: 261، اللسان (دلك) ، من قصيدة طويلة، وصف بها الإبل، وهذا البيت من صفة الإبل."مصابيح" جمع"مصباح"، و"المصباح" التي تصبح في مبركها لا ترعى حتى يرتفع النهار، وهو مما يستحب من الإبل، وذلك لقوتها وسمنها. يقول: ليست بنجوم آفلات، ولكنها إبل. (3) هذا مجاز لا تكاد تجده في كتاب آخر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما طلع القمر فرآه إبراهيم طالعًا، وهو"بُزُوغه". * * * يقال منه:"بزغت الشمس تَبْزُغُ بزُوغًا"، إذا طلعت، وكذلك القمر. * * * ="قال هذا ربي فلما أفل"، يقول: فلما غاب ="قال"، إبراهيم،"لئن لم يهدني ربي"، ويوفقني لإصابة الحق في توحيده ="لأكونن من القوم الضالين"، أيْ: من القوم الذين أخطؤوا الحق في ذلك، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله. * * * وقد بينا معنى"الضلال"، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله (2) " فلما رأى الشمس بازغة"، فلما رأى إبراهيم الشمس طالعةً، قال: هذا الطالعُ ربّي ="هذا أكبر"، يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر = فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه =   (1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة: (ضلل) . (2) "بقوله"، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وهي حق سياقة الكلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 486 "فلما أفلت"، يقول: فلما غابت، (1) قال إبراهيم لقومه ="يا قوم إنّي بريء مما تشركون"، أي: من عبادة الآلهة والأصنام ودعائه إلهًا مع الله تعالى ذكره. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه لما تبيّن له الحق وعرَفه، شهد شهادةَ الحقّ، وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من قِيل الحقِّ والثبات عليه، مع خلاف جميع قومه لقوله، وإنكارهم إياه عليه، وقال لهم:"يا قوم إنّي بريء مما تشركون" مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم، (3) إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض، الدائم الذي يبقى ولا يفنى، ويُحْيي ويميت = لا إلى الذي يفنى ولا يبقى، ويزول ولا يدوم، ولا يضر ولا ينفع. ثم أخبرهم تعالى ذكره: أن توجيهه وجهه لعبادته، بإخلاص العبادة له، والاستقامة في ذلك لربه على ما يحبُّ من التوحيد، لا على الوجه الذي يوجَّه له وَجْهه من ليس بحنيف، ولكنه به مشرك، (4) إذ كان توجيه الوجه على غير التحنُّف غير نافع موجِّهه، (5) بل ضارّه ومهلكه ="وما أنا من المشركين"،   (1) انظر تفسير"أفل" و"بزغ" فيما سلف قريبًا. (2) انظر تفسير"برئ" فيما سلف ص: 293. (3) انظر تفسير"فطر" فيما سلف ص: 283، 284. (4) انظر تفسير"الحنيف" فيما سلف 3: 104 - 108، 6 494، 9: 250. (5) في المطبوعة: "إذا كان توجيه الوجه لا على التحنيف"، وفي المخطوطة: ". . . توجيه الوجه على التحنف"، والصواب ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 487 ولست منكم، أي: لست ممن يدين دينكم، ويتّبع ملّتكم أيُّها المشركون. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول: 13465م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال:"إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض"، فقالوا: ما جئت بشيء! ونحن نعبده ونتوجّهه! فقال: لا حنيفًا!! قال: مخلصًا، لا أشركه كما تُشْركون. * * * القول في تأويل قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، (1) وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم:"أتحاجوني في الله"، يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة ="وقد هدان"، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته، (2) وبصّرني طريق الحقّ حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه (3) ="ولا أخاف ما تشركون به"، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي   (1) انظر تفسير"المحاجة" فيما سلف 3: 121، 5: 429، 430، 6: 280، 473، 492. (2) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (3) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى ألفت أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه"، وهو لا معنى له، صواب قراءته ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 488 تدعونها من دونه شيئًا ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. (1) وذلك أنهم قالوا له:"إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل، لذكرك إياها بسوء"! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالَنِي بضر ولا مكروه، لأنها لا تنفع ولا تضر ="إلا أن يشاء ربي شيئًا"، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السماوات والأرض، فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني به، لأنه القادر على ذلك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول: 13466 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:" وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان"، قال: دعا قومُه مع الله آلهةً، وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبَه منها خَبَل، فقال إبراهيم:" أتحاجوني في الله وقد هدان"، قال: قد عرفت ربّي، لا أخاف ما تشركون به. * * * ="وسع ربي كل شيء علمًا"، يقول: وعلم ربي كلَّ شيء، فلا يخفى عليه شيء، (2) لأنه خالق كل شيء، وليس كالآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئًا، وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة =" أفلا تتذكرون"، يقول: أفلا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، (3) من عبادتكم صورةً مصوّرة وخشبة منحوتة، لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله = وترككم عبادةَ من خلقكم وخلق كلّ شيء، وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم لكل شيء. * * *   (1) في المطبوعة: "ينالني في نفسي" بحذف"به" وهي ثابتة في المخطوطة، ولكنه أساء كتابة"ينالني"، فاجتهد الناشر، فحذف. (2) انظر تفسير"السعة" فيما سلف 10: 423، تعليق: 4، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"التذكر" فيما سلف ص: 442، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 489 القول في تأويل قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) } قال أبو جعفر: وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه، لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه، فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم فعبدتموه من دونه، وهو لا يضر ولا ينفع؟ ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن أنفسها كسرِى إياها وضربي لها بالفأس! وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادتكم إياه ="ما لم ينزل به عليكم سلطانًا"، يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حُجّة، ولم يضع لكم عليه برهانًا، ولم يجعل لكم به عذرًا (1) ="فأي الفريقين أحقّ بالأمن"، (2) يقول: أنا أحق بالأمن من عاقبة عبادتي ربّي مخلصًا له العبادة، حنيفًا له ديني، بريئًا من عبادة الأوثان والأصنام، أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصنامًا لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانًا ولا حجة (3) ="إن كنتم تعلمون"، يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول، وحقيقة ما أحتجُّ به عليكم، فقولوا وأخبروني: أيُّ الفريقين أحق بالأمن؟ * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك، كان محمد بن إسحاق يقول فيما:- 13467 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق في قوله:" وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله"، يقول:   (1) انظر تفسير"السلطان" فيما سلف 7: 279/9: 336، 337، 360. (2) انظر تفسير"الفريق" فيما سلف 8: 548، تعليق: 5، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الأمن" فيما سلف 3: 29، 4: 87. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 490 كيف أخاف وثَنًا تعبدون من دون الله لا يضرُّ ولا ينفع، ولا تخافون أنتم الذي يضر وينفع، وقد جعلتم معه شركاء لا تضر ولا تنفع؟ ="فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون"، أي: بالأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة، الذي يَعْبد الذي بيده الضرّ والنفع، أم الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ يضرب لهم الأمثال، ويصرِّف لهم العبر، ليعلموا أنَّ الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبُدون من دونه. 13468 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: أفلج الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين خاصمهم، (1) فقال:"وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون"؟ ثم قال:"وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه". 13469 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قول إبراهيم حين سألهم:"أيُّ الفريقين أحق بالأمن"، هي حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم. 13470- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره، قال إبراهيم حين سألهم:"فأي الفريقين أحق بالأمن"؟ قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام. 13471 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال:"فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون"، أمَنْ يعبد ربًّا واحدًا، أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: الذين آمنوا برب واحد. (2) 13472 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في   (1) "أفلجت فلانا على خصمه"، إذا غلبته، و"أفلجه الله عليه"، آتاه الظفر والفوز والغلبة. (2) الأثر: 13471 - انظر الأثر التالي رقم: 13475، وأن هذه مقالة قوم إبراهيم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 491 قوله: "فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون"، أمن خاف غير الله ولم يخفه، أم من خاف الله ولم يخف غيره؟ فقال الله تعالى ذكره:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، الآية. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 492 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول = أعني:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، الآية. فقال بعضهم: هذا فصلُ القضاء من الله بين إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم، وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله، إذ قال لهم إبراهيم:"وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون"؟ فقال الله تعالى ذكره، فاصلا بينه وبينهم: الذين صدَّقوا الله وأخلصُوا له العبادة، ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم (1) = يعني: بشرك (2) = ولم يشركوا في عبادته شيئًا، ثم جعلوا عبادتهم لله خالصًا، أحقّ بالأمن من عقابه مكروهَ عبادته ربَّه، (3) من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنامَ، فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم = أمَّا في عاجل الدنيا فإنهم وجِلون من حلول سخَط الله بهم، وأما في الآخرة، فإنهم الموقنون بأليم عذابِ الله.   (1) انظر تفسير"لبس" فيما سلف ص: 419، تعليق: 1 والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . (3) في المطبوعة، أسقط قوله: "ربه". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 492 * ذكر من قال ذلك: 13473 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، يقول الله تعالى ذكره:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، أي: الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وتوحيده ="ولم يلبسوا أيمانهم بظلم"، أي: بشرك =" أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"، الأمن من العذاب، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة. يقول الله تعالى ذكره:"وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفعُ درجات من نشاء إن ربّك حكيم عليم". 13474 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون"، قال فقال الله وقضى بينهم:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. قال:"أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"، فأما الذنوبُ فليس يبري منها أحدٌ. * * * وقال آخرون: هذا جوابٌ من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم، حين قال لهم:"أيُّ الفريقين أحق بالأمن"؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحّدوه أحق بالأمن، إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم. * ذكر من قال ذلك: 13475 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون"، أمن يعبد ربًّا واحدًا أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، بعبادة الأوثان، وهي حجة إبراهيم ="أولئك لهم الأمن وهم مهتدون". (1) * * *   (1) الأثر: 13475 - انظر الأثر السالف رقم: 13471. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 493 قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: هذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن أولى الفريقين بالأمن، وفصل قضاءٍ منه بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبين قومه. وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله، لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد، ولكنه كما ذكرت من تأويله بَدِيًّا. (1) * * * واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم". فقال بعضهم: بشرك. * ذكر من قال ذلك: 13476- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترونَ إلى قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، [سورة لقمان: 13] ؟ (2) 13477- قال أبو كريب قال، ابن إدريس، حدثنيه أوّلا أبي، عن أبان بن تغلب، عن الأعمش، ثم سمعتُه قيل له: مِنَ الأعمش؟ قال: نعم! (3)   (1) في المطبوعة: "بدءًا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب، أي: أولا. (2) الأثر: 13476 - حديث عبد الله بن مسعود. من طريق الأعمش، رواه أبو جعفر من طرق من رقم: 13476 - 13480، 13483، وانظر رقم: 13507. وحديث عبد الله، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 1: 81، 8: 220) ، بنحوه ورواه مسلم في صحيحه 2: 143، 144، من طريق عبد الله بن إدريس، وأبي معاوية، ووكيع، جميعًا عن الأعمش. ورواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عيسى بن يونس عن الأعمش. ورواه أحمد من طرق في مسنده رقم: 3589، 4031، 4240، وسأشير إليه في تخريجها بعد. (3) الأثر: 13477 - ذكره مسلم في صحيحه أيضًا 2: 144، من طريق أبي كريب، بنحو قوله هذا. "أبان بن تغلب الربعي"، ثقة، قال ابن عدي: "له نسخ عامتها مستقيمة إذا روى عنه ثقة، وهو من أهل الصدق في الروايات، وإن كان مذهبه الشيعة، وهو في الرواية صالح لا بأس به". [فائدة: قال الحافظ في التهذيب: "التشيع في عرف المتقدمين، هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان، وأن عليًّا كان مصيبًا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ، مع تقديم الشيخين وتفضيلهما. وربما اعتقد بعضهم أن عليًا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان معتقدًا ذلك، ورعًا دينًا صادقًا مجتهدًا، فلا ترد روايته بهذا، لا سيما إن كان غير داعية. وأما التشيع في عرف المتأخرين، فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة] . وعلة ذكر هذا الخبر الثاني، في التعقيب على الخبر الأول أن عبد الله بن إدريس رواه قبل عن الأعمش مباشرة، وكان رواه قبل عن أبيه، عن أبان بن تغلب، عن الأعمش، لينبه على علو إسناده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 494 13478- حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثني عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بطلم"، شقَّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، ما منّا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ (1) 13479- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنُّون، وإنما هو ما قال لقمان لابنه: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. (2) 13480- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية:" الذين آمنوا   (1) الأثر: 13478 -"عيسى بن عثمان بن عيسى بن عبد الرحمن التميمي الرملي"، ثقة، مضى برقم: 300 وعمه: "يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن التميمي الرملي"، ثقة، مضى برقم: 300، 6317، 9035. (2) الأثر: 13489 - رواه أحمد في المسند رقم: 4240، من طريق وكيع أيضًا، بمثله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 495 ولم يلبسُوا إيمانهم بظلم"، شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال:"إنه ليس كما تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ إنما هو الشرك. (1) 13481 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. 13482 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:" الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. 13483- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية:" الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بذلك، ألم تسمعوا قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم؟ 13484 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وابن إدريس، عن الشيباني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الأسود بن هلال، عن أبي بكر:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. (2)   (1) الأثر: 13480 - رواه أحمد في المسند رقم: 3589، من طريق أبي معاوية أيضًا بمثله. (2) الأثر: 13484 -"الشيباني" هو: "أبو إسحق الشيباني"، "سليمان بن أبي سليمان" مضى مرارًا، آخرها رقم: 8869. و"أبو بكر بن أبي موسى الأشعري"، ثقة روى له الجماعة، مترجم التهذيب. و"الأسود بن هلال المحارب"، "أبو سلام"، له إدراك، هاجر زمن عمر، لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1، 449 وابن أبي حاتم 1/1/ 292. ومضى برقم: 10331، 10333. وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 3: 27، ونسبة للفريابي، وابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في الأصول، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 496 13485- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي بكر:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. (1) 13486 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سعيد بن عبيد الطائي، عن أبي الأشعر العبدي، عن أبيه: أن زيد بن صوحان سأل سلمان فقال: يا أبا عبد الله، آيةٌ من كتاب الله قد بلغت منِّي كل مبلغ:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"! فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى ذكره. فقال زيد: ما يسرُّني بها أنّي لم أسمعها منك، وأنّ لي مثل كل شيء أمسيتُ أملكه. (2)   (1) الأثر: 13485 - أسقط في المطبوعة ذكر: "عن أبي إسحق"، وهو خبر مرسل. (2) الأثر: 13486، 13487 -"سعيد بن عبيد الطائي"، "أبو الهذيل"، وثقه أحمد وابن معين، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/455، وابن أبي حاتم 2/1/46. "أبو الأشعر العبدي"، ذكره البخاري في الكنى: 8، وقال: روى عنه خليفة بن خلف. قال أبو نعيم، عن إسمعيل بن عبيد، عن أبي الأشعر العبدي، سمع أباه عن سلمان: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ، قال: بشرك". وهكذا جاء"إسمعيل بن عبيد"، وأخشى أن يكون صوابه"سعيد بن عبيد" كما في الطبري. ولما سيأتي في الأثر التالي: 13487. وأبو"أبي الأشعر العبدي"، لم أعرف من هو. و"زيد بن صوحان بن حجر العبدي"، وهو أخو"صعصعة بن صوحان"، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور في الصحابة، وكان شديد الحب لسلمان الفارسي. قتل يوم الجمل مع علي رضي الله عنهما. مترجم في ابن سعد 6: 84، وقال: ثقة قليل الحديث"، وفي تعجيل المنفعة: 142، والكبير 2/1/363، وابن أبي حاتم 1/2/565. * * * وعند آخر الأثر رقم: 13486، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: يتلوهُ: حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي، عن سعيد بن عبيد وصلى الله على محمد النبيّ وآله وسلم كثيرًا" ويبدأ بعد بما نصه: "بسم الله الرَّحمن الرحيم رَبِّ أَعِنْ يا كَريم" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 497 13487 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سعيد بن عبيد، عن أبي الأشعر، عن أبيه، عن سلمان قال: بشرك. (1) 13488 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا نسير بن ذعلوق، عن كردوس، عن حذيفة في قوله:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. (2) 13489- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن رجل، عن عيسى، عن حذيفة في قوله:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. (3) 13490 - حدثني المثنى قال، حدثنا عارم أبو النعمان قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير وغيره: أن ابن عباس كان يقول:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. 13491- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، يقول: بكفر.   (1) الأثر: 13487 - انظر التعليق السالف. (2) الأثر: 13488 -"نسير بن ذعلوق الثوري"، ثقة، مضى برقم: 5491. و"كردوس" هو"كردوس بن العباس الثعلبي"، يروي عن حذيفة، مضى برقم: 13255 - 13257. وكان في المطبوعة: "درسب" غير ما في المخطوطة، وكان فيها هكذا: "ددوس"، وهذا صواب قراءته إن شاء الله. وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 27، ونسبه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وأبي عبيد، وابن المنذر، وأبي الشيخ. وسيأتي بإسناد آخر بعد هذا. (3) الأثر: 13489 -"أبو إسحق الكوفي"، هو: "عبد الله بن ميسرة الحارثي"، مضى برقم: 9250. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 498 13492- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، يقول: لم يلبسوا إيمانهم بالشرك. وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . [سورة لقمان: 13] 13493 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم، عن علي بن زيد، عن المسيّب: أن عمر بن الخطاب قرأ:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، فلما قرأها فزع، فأتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر، قرأتُ آية من كتاب الله، مَنْ يَسْلم؟ فقال: ما هي؟ فقرأها عليه = فأيُّنا لا يظلِمُ نفسه؟ فقال: غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك. (1) 13494 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن عمر دخل منزله فقرأ في المصحف، فمرّ بهذه الآية:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، فأتى أبيًّا فأحبره، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هو الشرك. (2) 13495- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن [ابن مهران] : أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه، فدخل ذات يوم فقرأ، فأتى على هذه الآية:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"،   (1) الأثر: 13493 - هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة: "عن المسيب"، ولا أدري ما هو، ولكني أرجح أن الصواب"عن سعيد بن المسيب"، أو "عن ابن المسيب"، فإن"علي بن زيد بن جدعان" يروي عنه، ولأني لم أجد فيمن اسمه"المسيب"، من روى عنه"علي بن زيد" وروى هو عن"عمر بن الخطاب". (2) الأثر: 13494 -"يوسف بن مهران البصري"، مضى برقم: 2858: 11373. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 499 فانفتَل وأخذ رداءه، (1) ثم أتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر = فتلا هذه الآية:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" = وقد ترى أنا نظلِم، ونفعل ونفعل! فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا ليس بذاك، يقول الله تعالى ذكره: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، إنما ذلك الشرك. (2) 13496 - حدثنا هناد قال، حدثنا بن فضيل، عن مطرف، عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، فقال عمر: قد أفلح من لم يلبس إيمانه بظلم! فقال أبيّ: يا أمير المؤمنين، ذاك الشرك! 13497- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط، عن محمد بن مطرف، عن ابن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب، فذكر نحوه. (3) 13498 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة في قوله:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. 13499- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، مثله. 13500 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن علي، عن زائدة،   (1) في المطبوعة: "فاشتغل"، وفي المخطوطة"فاسقل"، وفي الدر المنثور 3: 27"فانتقل" وكان ذلك لا معنى له، وكأن الصواب ما أثبت. يقال: "انفتل الرجل عن صلاته"، إذا انصرف، وهو من قولهم: "فتله عن وجهه فانفتل"، أي: صرفه فانصرف. (2) الأثر: 13495 - هكذا جاء في المخطوطة: "عن ابن مهران"، وفي المطبوعة: "عن مهران"، وهما خطأ صرف فيما أرجح، وإنما هذا حديث ابن عباس، فالصواب إن شاء الله: "عن ابن عباس"، وهو نفس الأثر الذي قبله، ولكني تركته كذلك كما هو في المخطوطة، ووضعت ما شككت فيه بين القوسين. (3) الأثر: 13496، 13497 -"أبو عثمان، عمرو بن سالم الأنصاري"، معروف بكنيته، وقد مضى برقم: 8950. وقوله في الأثر الثاني"محمد بن مطرف"، خطأ فيما أرجح، وإنما هو"مطرف بن طريف"، كما في الأثر السالف. ولذلك وضعت"محمد بن" بين قوسين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 500 عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. (1) 13501 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، أي: بشرك. 13502- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله. 13503 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بعبادة الأوثان. 13504- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13505 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. 13506 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. 13507- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش: أن ابن مسعود قال: لما نزلت:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، كبُر ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، ما منا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما سمعتم قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ (2)   (1) الأثر: 13500 -"الحسن بن عبيد الله النخعي الكوفي"، روى عن إبراهيم النخعي، وأبي الضحي، والشعبي. سمع منه الثوري، وزائدة، وحفص بن غياث، وغيرهم، ثقة، مضى في الإسناد رقم: 78. مترجم في التهذيب، والكبير1/2/295، وابن أبي حاتم 1/2/23. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الحسن بن عبد الله"، وهو خطأ محض. (2) الأثر: 13507 - مضى هذا الخبر موصولا من طريق الأعمش، من طرق، من رقم: 13476 - 13480، 13483، فراجعه هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 501 13508- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: عبادة الأوثان. 13509 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن مسعر، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، قال: بشرك. (1) 13510 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق:"ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: بشرك. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم، وذلك: فعلُ ما نهى الله عن فعله، أو ترك ما أمر الله بفعله، وقالوا: الآية على العموم، لأن الله لم يخصَّ به معنى من معاني الظلم. * * * قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمْن في الآخرة، إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة، وإلا لمن لقى الله ولا ذنبَ له؟ قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصًّا من خلقه دون الجميع منهم، والذي عنى بها وأراده بها، خليلَه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فأما غيره، فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئًا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرًا، فإن شاء لم يؤمنه من عذابه، وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه. قالوا: وذلك قول جماعة من السلف، وإن كانوا مختلفين في المعنيِّ بالآية. فقال بعضهم: عُني بها إبراهيم. * * *   (1) الأثر: 13509 -"أبو حصين" هو: "عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي"، مضى مرارًا، آخرها رقم: 8962. و"أبو عبد الرحمن" هو"السلمي": "عبد الله بن حبيب بن ربيعة"، مضى برقم: 82. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 502 وقال بعضهم: عني بها المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) * * * * ذكر من قال: عنى بهذه الآية إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم. 13511 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن، عن قيس بن الربيع، عن زياد بن علاقة، عن زياد بن حرملة، عن علي قال: هذه الآية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خاصة، ليس لهذه الأمة منها شيء. (2) * * * * ذكر من قال: عني بها المهاجرون خاصة. 13512 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن، عن قيس بن الربيع، عن سماك، عن عكرمة:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، قال: هي لمن هاجر إلى المدينة. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصحة في ذلك، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الخبر الذي رواه ابن مسعود عنه أنه قال: الظلم الذي ذكره الله تعالى   (1) في المطبوعة: "المهاجرين" ببناء"عني" للمفعول، وأثبت ما في المخطوطة، "عني" بالبناء للمجهول. (2) الأثر: 13511 -"زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي"، ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/333، وابن أبي حاتم 1/2/540. وأما "زياد بن حرملة"، فلم أجد له ذكرًا في شيء من الكتب، ومع ذلك فقد جاء كذلك في المستدرك للحاكم. وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 316، بإسناده عن أبي حذيفة، عن سفيان، عن زياد بن علاقة، عن زياد بن حرملة قال: سمعت علي بن أبي طالب. وذكر الخبر، وفيه: "هذه في إبراهيم وأصحابه". ثم قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله أنهم قالوا: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه، الحديث بطوله، بغير هذا التأويل". ولم يعقب عليه الذهبي بشيء، وظني أنه ترك التعقيب عليه، رجاء الظفر بخبر عن"زياد بن حرملة" هذا. والخبر ضعيف. لجهالة"زياد بن حرملة" حتى يعرف من هو؟ ونسبه السيوطي في الدر المنثور 3: 27 للفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، وقصر في نسبته إلى ابن جرير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 503 ذكره في هذا الموضع، هو الشرك. (1) * * * وأما قوله:"أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"، فإنه يعني: هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك ="لهم الأمن" يوم القيامة من عذاب الله ="وهم مهتدون"، يقول: وهم المصيبون سبيل الرشاد، والسالكون طريق النجاة. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وتلك حجتنا"، قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين:"أي الفريقين أحق بالأمن"، أمن يعبد ربًّا واحدًا مخلصًا له الدين والعبادة، أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم:"بل من يعبد ربًّا واحدًا أحق بالأمن"، وقضاؤهم له على أنفسهم، فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم. (3) فهي الحجة   (1) انظر الآثار السالفة رقم: 13476 - 13480، 13483. (2) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدي) . (3) الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق، ولو كان من عند غير الله لوجد الناس فيه اختلافًا كثيرًا. ورحم الله أبا جعفر وغفر له ما أخطأ، وأبو جعفر على جلالة قدره، وحفظه وضبطه وعنايته، قد تناقض وأوقع في كلامه اختلافًا كبيرًا. فإنه في ص: 494، قد رجح أن الصواب في قوله تعالى ذكره: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، أنه خبر من الله تعالى ذكره عن أول الفريقين بالأمن، وفصل قضاء منه بين إبراهيم وقومه. ثم قال: "وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله، لكانوا قد أقروا بالتوحيد، واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد، ولكنه كما ذكرت من تأويله بديًّا". ثم عاد هنا بعد بضع صفحات، ففسر هذه الآية، وزعم أن ذلك من إجابة قوم إبراهيم لإبراهيم، وهو القول الذي نقضه!! وهذا تناقض بين، ولكنه يأتي في كتب العلماء، حجة من الله على خلقه أنهم لا عصمة لهم في شيء، وأن العصمة لله وحده سبحانه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 504 التي آتاها الله إبراهيم على قومه، كالذي:- 13513 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد:"وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه"، قال: هي"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم". 13514- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال إبراهيم حين سأل:"أي الفريقين أحق بالأمن"، قال: هي حجة إبراهيم = وقوله:"وآتيناها إبراهيم على قومه"، يقول: لقناها إبراهيم وبَصَّرناه إياها وعرفّناه ="على قومه نرفع درجات من نشاء". * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والبصرة:"نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ"، بإضافة"الدرجات" إلى"من"، بمعنى: نرفع الدرجات لمن نشاء. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بتنوين"الدرجات"، بمعنى: نرفع من نشاء درجات. * * * و"الدرجات" جمع"درجة"، وهي المرتبة. وأصل ذلك مراقي السلم ودرَجه، ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: هما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، متقارب معناهما. وذلك أن من رفعت درجته، فقد رفع في الدرج = ومن رفع في الدرج، فقد رفعت درجته. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. * * *   (1) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 523 - 536/7: 368/9: 95، وتفسيره هنا أوضح مما سبق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 505 فمعنى الكلام إذًا:"وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه"، فرفعنا بها درجته عليهم، وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة. فأما في الدنيا، فآتيناه فيها أجره = وأما في الآخرة، فهو من الصالحين ="نرفع درجات من نشاء"، أي بما فعل من ذلك وغيره. * * * وأما قوله:"إن ربك حكيم عليم"، فإنه يعني: إن ربك، يا محمد،"حكيم"، في سياسته خلقَه، وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذّبة لهم، الجاحدة توحيد ربهم، وفي غير ذلك من تدبيره ="عليم"، بما يؤول إليه أمر رسله والمرسل إليهم، من ثبات الأمم على تكذيبهم إياهم، وهلاكهم على ذلك، أوإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى ذكره وتصديق رسله، والرجوع إلى طاعته. (1) * * * يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فأتَسِ، (2) يا محمد، في نفسك وقومك المكذبيك، والمشركين، بأبيك خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم، واصبر على ما ينوبك منهم صبرَه، فإني بالذي يؤول إليه أمرك وأمرهم عالم، وبالتدبير فيك وفيهم حكيم. (3) * * *   (1) انظر تفسير: "حكيم" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) "ائتسى به"، جعله أسوة له في نفسه وسيرته. وكان في المطبوعة"تأس"، وهي بمعناها، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "بالتدبير" بغير واو العطف، والصواب إثباتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 506 القول في تأويل قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على طاعته إيانا، وإخلاصه توحيد ربه، ومفارقته دين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين، وآتيناه أجره في الدنيا، ووهبنا له أولادًا خصصناهم بالنبوّة، وذرية شرفناهم منا بالكرامة، وفضلناهم على العالمين، (1) منهم: ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب ="كلا هدينا"، يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد، فوفقناهم للحق والصواب من الأديان (2) ="ونوحًا هدينا من قبل"، يقول: وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحق والصواب، فوفقناه له = نوحًا، من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. * * * ="ومن ذريته داود"، و"الهاء" التي في قوله:"ومن ذريته"، من ذكر نوح. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطًا فقال:"وإسماعيل واليسع ويونس ولوطًا وكلا فضلنا على العالمين". ومعلوم أن لوطًا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليهم أجمعين. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معطوفًا على أسماء من سمَّينا من ذريته، كان لا شك أنه لو أريد بالذرية ذرية إبراهيم، لما دخل يونس ولوط فيهم. ولا شك أن لوطًا ليس من ذرّية إبراهيم، ولكنه من ذرية نوح، فلذلك وجب أن تكون"الهاء" في"الذرية" من ذكر نوح. (3)   (1) انظر تفسر"وهب" فيما سلف 6: 212. (2) انظر تفسير"كل" فيما سلف 9: 96، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الذرية" فيما سلف 3: 19، 73/5: 543/6: 327، 362/8: 19. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 507 فتأويل الكلام: ونوحًا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهدينا أيضًا من ذرّية نوح، داود وسليمان. = و"داود"، هو داود بن إيشا (1) = و"سليمان" هو ابنه: سليمان بن داود = و"أيوب"، هو أيوب بن موص بن رزاح (2) بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم = و"يوسف"، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم = و"موسى"، هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب = و"هارون"، أخو موسى. * * * ="وكذلك نجزي المحسنين"، يقول تعالى ذكره: جزينا نوحًا بصبره على ما امتحن به فينا، بأن هديناه فوفقناه لإصابة الحق الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه، وهدينا من ذريته من بعده من ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم إيانا وصبرهم على المحن فينا، كذلك نجزي بالإحسان كل محسن. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا لمثل الذي هدينا له نوحًا من الهدى والرشاد من ذريته: زكريا بن إدُّو بن برخيَّا، (4) ويحيى بن زكريا،   (1) {يسَّى} في كتاب القوم، وقد مضى في التفسير 5: 355: "بن إيشي". (2) في المطبوعة والمخطوطة: "روح" والصواب من تاريخ الطبري 1: 165. (3) انظر تفسير"الجزاء"، و"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة (جزي) (حسن) . (4) في كتاب القوم (بن عِدُّوْ (في"عزرا". الإصحاح الخامس والسادس. وفي المطبوعة: "بن أزن" وفي المخطوطة: "بن أدر"، وقال صاحب قاموس الكتاب: "زكريا بن يبرخيا ابن عدو. . . يذكر بأنه"بن عدو"، وسبب ذلك على الأرجح أن أباه برخيا، مات في ريعان الشباب، فنسب حسب العوائد، إلى جده"عدو" الذي كان مشهورًا أكثر من أبيه". وفي كتاب القوم (يبرخيّا (، وكان في المطبوعة"بركيا"، وهو في المخطوطة غير حسن الكتابة، فأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 508 وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا، (1) = وإلياس. * * * واختلفوا في"إلياس". فكان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسى (2) بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. * * * وكان غيره يقول: هو إدريس. وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود. 13515 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيدة بن ربيعة، عن عبد الله بن مسعود قال:"إدريس"، هو"إلياس"، و"إسرائيل"، هو"يعقوب". (3) * * * وأما أهل الأنساب فإنهم يقولون:"إدريس"، جدّ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و"أخنوخ" هو"إدريس بن يرد بن مهلائيل". وكذلك روي عن وهب بن منبه. * * *   (1) في المطبوعة: "عمران بن أشيم بن أمور"، خطأ، صوابه مما سلف 6: 328، 329، ومن تاريخ الطبري 2: 13. (2) في تاريخ الطبري 2: 13"بن ياسين". (3) الأثر: 13515 -"عبيدة بن ربيعة"، كوفي، روى عن ابن مسعود، وعثمان ابن عفان. روى عنه الشعبي، وأبو إسحق السبيعي. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/91. و"أبو إسحق" هو السبيعي، كما سلف، وكان في المخطوطة والمطبوعة"ابن إسحق"، وهو خطأ محض. وهذا الخبر ذكره البخاري تعليقًا (الفتح 6: 265) ، وقال الحافظ: "أما قول ابن مسعود، فوصله عبيد بن حميد، وابن أبي حاتم بإسناد حسن، عنه". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 509 والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب. وذلك أنّ الله تعالى ذكره نسب"إلياس" في هذه الآية إلى"نوح"، وجعله من ذريته، و"نوح" ابن إدريس عند أهل العلم، فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبًا إلى أنه من ذريته. * * * وقوله:"كل من الصالحين"، يقول: من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا (1) ="من الصالحين"، يعني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس صلى الله عليهم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من ذرية نوح"إسماعيل" وهو: إسماعيل بن إبراهيم ="واليسع"، هو اليسع بن أخْطُوب بن العجوز. * * * واختلفت القرأة في قراءة اسمه. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (وَالْيَسَعَ) بلام واحدة مخففة. * * * وقد زعم قوم أنه"يفعل"، من قول القائل:"وسِعَ يسع". ولا تكاد العرب تدخل"الألف واللام" على اسم يكون على هذه الصورة = أعني على"يفعل" = لا يقولون:"رأيت اليزيد" ولا"أتاني اليَحْيَى" (3) ولا"مررت باليشكر"، إلا   (1) انظر تفسير"كل" فيما سلف ص: 507، تعليق: 2، والمرجع هناك. (2) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . (3) في المطبوعة: "أتاني التجيب"، وهو خطأ محض، لم يحسن قراءة المخطوطة، وكان فيها"أتاني اليحيا" غير منقوط، وهذا صواب قراءتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 510 في ضرورة شعر، وذلك أيضًا إذا تُحُرِّي به المدح، (1) كما قال بعضهم: (2) وَجَدْنَا الْوَليدَ بْنَ الْيَزِيدَ مُبَارَكًا ... شَدِيدًا بِأَحْنَاءِ الْخِلافَةِ كَاهِلُهْ (3) فأدخل في"اليزيد" الألف واللام، (4) وذلك لإدخاله إياهما في"الوليد"، فأتبعه"اليزيد" بمثل لفظه. (5) * * * وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفيين: (وَاللَّيْسَعَ) بلامين، وبالتشديد، وقالوا: إذا قرئ كذلك، كان أشبه بأسماء العجم، وأنكروا التخفيف. وقالوا: لا نعرف في كلام العرب اسمًا على"يفعل" فيه ألف ولام. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه بلام واحدة مخففة، لإجماع أهل الأخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه، دون التشديد، مع أنه اسم أعجمي، فينطق به على ما هو به. وإنما يُعْلَم دخول   (1) في المخطوطة: إذا تحر به المدح"، غير منقوطة، وما في المطبوعة شبيه بالصواب، والذي في معاني القرآن للفراء: "والعرب إذا فعلت ذلك، فقد أمست الحرف مدحًا". (2) هو ابن ميادة. (3) معاني القرآن للفراء 1: 342، أمالي ابن الشجري 1: 154/2: 252، 342، الخزانة 1: 327، شرح شواهد المغني: 60، وغيرها كثير. من شعر مدح فيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقبل البيت: هَمَمْتُ بِقَولٍ صَادِقٍ أنْ أقولَهُ ... وَإنِّي عَلَى رَغْمِ العَدُوِّ لقَائِلُهْ وبعده: أضَاء سِرَاجُ المُلْكِ فَوْقَ جَبِينِهِ ... غَدَاةَ تَنَاجَى بِالنَّجَاحِ قَوَابِلُهْ وكان في المطبوعة: "بأعباء الخلافة"، وهي إحدى الروايتين، وأثبت ما في المخطوطة. و"أحناء الخلافة"، نواحيها وجوانبها جمع"حنو" (بكسر فسكون) ، كنى بذلك عن حمل مشقات الخلافة، وتدبير الملك، وسياسة الرعية. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "فأدخل اليزيد" بإسقاط"في" والصواب إثباتها. (5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 342. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 511 "الألف واللام" فيما جاء من أسماء العرب على"يفعل". (1) وأما الاسم الذي يكون أعجميًّا، فإنما ينطق به على ما سَمَّوا به. فإن غُيِّرَ منه شيء إذا تكلمت العرب به، فإنما يغيّر بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان. و"الليسع" إذا شدد، لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد. وأخرى، أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال: اسمه"ليسع". فيكون مشددًا عند دخول"الألف واللام" اللتين تدخلان للتعريف. * * * و"يونس" هو: يونس بن متى ="ولوطًا وكلا فضلنا"، من ذرية نوح ونوحًا، (2) لهم بينا الحق ووفقناهم له، وفضلنا جميعهم ="على العالمين"، يعني: على عالم أزمانهم. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره ="ومن ذرياتهم وإخوانهم"، آخرين سواهم، لم يسمهم، للحق والدين الخالص الذي لا شرك فيه، فوفقناهم له ="واجتبيناهم"، يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه، كالذي اخترنا ممن سمَّينا. * * *   (1) في المطبوعة: "وإنما لا يستقيم دخول الألف واللام"، وهو تغيير لما في المخطوطة وزيادة فيها، وإفساد لمعنى الكلام، ونقض لما أراده أبو جعفر. وكان في المخطوطة: "وإنما نصم دخول الألف واللام"، وهو فاسد الكتابة، وصواب قراءته ما أثبت"يعلم" بالبناء للمجهول. يعني أن دخول الألف واللام إنما يعرف فيما جاء من أسماء العرب على"يفعل". وهذا مناقض لما كتبه الناشر. (2) في المطبوعة: "ونوح" بالرفع وهو خطأ، وتغيير لما في المخطوطة. وكان في المخطوطة: "له بينا الحق"، والأشبه بالصواب ما في المطبوعة. (3) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 512 يقال منه:"اجتبى فلان لنفسه كذا"، إذا اختاره واصطفاه،"يجتبيه اجتباء". (1) * * * وكان مجاهد يقول في ذلك ما:- 13516- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"واجتبيناهم"، قال: أخلصناهم. 13517- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * ="وهديناهم إلى صراط مستقيم"، يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ، وذلك دين الله الذي لا عِوَج فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربُّنا لأنبيائه، وأمر به عباده. (2) * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك هدى الله"، هذا الهدي الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل، فوفقتهم به لإصابة الدين الحقّ الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم، وشرفَ الدنيا، وكرامة الآخرة، هو"هدى   (1) انظر تفسير"اجتبى" فيما سلف 7: 427. (2) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 10: 146، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 513 الله"، يقول: هو توفيق الله ولطفه، الذي يوفق به من يشاء، ويلطف به لمن أحب من خلقه، حتى ينيب إلى طاعة الله، وإخلاص العمل له، وإقراره بالتوحيد، ورفضِ الأوثان والأصنام (1) ="ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون"، يقول: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم، بربهم تعالى ذكره، فعبدوا معه غيره ="لحبط عنهم"، يقول: لبطل فذهبَ عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملون، (2) لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملا. * * * القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله، نوحًا وذريته الذين هداهم لدين الإسلام، واختارهم لرسالته إلى خلقه، هم"الذين آتيناهم الكتاب"، يعني بذلك: صحفَ إبراهيم وموسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين ="والحكم"، يعني: الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه من الأحكام. وروي عن مجاهد في ذلك ما:- 13518 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبان قال، حدثنا مالك بن شداد، عن مجاهد:"والحكم والنبوة"، قال:"الحكم"، هو اللبُّ. (3)   (1) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (2) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317/6: 287/9: 592/10: 409. (3) الأثر: 13518 -"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، مضى مرارًا آخرها رقم: 7487. و"أبان" هو: "أبان بن يزيد العطار"، مضى برقم: 3832، 9656. "مالك بن شداد" هكذا هو في المطبوعة والمخطوطة، ولم أجد له ذكرًا فيما بين يدي في الكتب، ولعله محرف عن شيء لا أعرفه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 514 وعنى بذلك مجاهد، إن شاء الله، ما قلت، لأن"اللب" هو"العقل"، فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب، وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به. * * * وقد بينا معنى"النبوة" و"الحكم"، فيما مضى بشواهدهما، فأغنى ذلك عن إعادته. (1) * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن يكفر: يا محمد، بآيات كتابي الذي أنزلته إليك فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم، كالذي:- 13519 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يقول: إن يكفروا بالقرآن. * * * ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب"هؤلاء". فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش = وعنى بقوله:"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، الأنصار. * ذكر من قال ذلك: 13520 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله تعالى ذكره:"فإن يكفر بها هؤلاء"، قال: أهل مكة ="فقد وكلنا بها"، أهل المدينة.   (1) انظر تفسير"النبوة" فيما سلف: 2: 140 - 142/6: 284، 380. = وتفسير"الحكم" فيما سلف 3: 86 - 88، 211/6: 538. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 515 13521 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك،"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، قال: الأنصار. 13522- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن يكفر بها هؤلاء"، قال: إن يكفر بها أهل مكة ="فقد وكلنا بها"، أهل المدينة الأنصار="ليسوا بها بكافرين". 13523 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يقول: إن تكفر بها قريش ="فقد وكلنا بها"، الأنصار. 13524 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فإن يكفر بها هؤلاء"، أهل مكة ="فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، أهلَ المدينة. 13525 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، قال: كان أهل المدينة قد تبوءوا الدار والإيمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنزل الله عليهم الآيات، جحد بها أهل مكة. فقال الله تعالى ذكره:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين". قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس، ولكن سمعته من غيره. (1) 13526- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فإن يكفر بها هؤلاء"، يعني أهل   (1) الأثر: 13525 -"عطية"، هو"عطية بن سعد العوفي"، جد"محمد بن سعد" الأعلى، وهو مفسر في شرح هذا الإسناد رقم: 305. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 516 مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن =" فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، يعني أهلَ المدينة والأنصار. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة، فقد وكلنا بها الملائكة. * ذكر من قال ذلك: 13527 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن أبي رجاء:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، قال: هم الملائكة. 13528- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي وعبد الوهاب، عن عوف، عن أبي رجاء، مثله. * * * وقال آخرون: عنى بقوله:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يعني قريشًا= وبقوله:"فقد وكلنا بها قومًا"، الأنبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبلَ هذه الآية. * ذكر من قال ذلك: 13529- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن يكفر بها هؤلاء"، يعني أهل مكة ="فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ. 13530- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"فإن يكفر بها هؤلاء"، قال: يعني قوم محمد. ثم قال:"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، يعني: النبيين الذين قص قبل هذه الآية قصصهم. ثم قال:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده". * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 517 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قولُ من قال: عنى بقوله:"فإن يكفر بها هؤلاء"، كفار قريش ="فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، (1) أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم. * * * فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: فإن كفر قومك من قريش، يا محمد، بآياتنا، (2) وكذبوا وجحدوا حقيقتها، فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رُسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتها، ولا يكذبون بها، ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها. * * * وقد قال بعضهم: معنى قوله:"فقد وكّلنا بها قومًا"، رزقناها قومًا. * * * القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"أولئك"، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحق، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم جل ثناؤه لذلك ="فبهداهم اقتده"،   (1) في المطبوعة: "ففيما بينها"، وفي المخطوطة""فما بينهم"، والصواب بينهما ما أثبت. (2) في المطبوعة: "فإن يكفر قومك من قريش"، وفي المخطوطة: "فإن يكفر بها قومك" والكلام لا يستقيم إلا بحذف"بها" ولكن الجملة لا تستقيم أيضًا في العطوف المتتابعة حتى تكون"فإن كفر قومك"، فعلا ماضيًا كالذي عطف عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 518 يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم ="اقتده"، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه، فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى. * * * وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله:"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة. وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك. * * * وأما على تأويل من تأول ذلك: أن القوم الذين وكّلوا بها هم أهل المدينة = أو: أنهم هم الملائكة = فإنهم جعلوا قوله:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، اعتراضًا بين الكلامين، ثم ردّوا قوله:" أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، على قوله:"أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة". * ذكر من قال ذلك: 13531 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ووهبنا له إسحاق ويعقوب" إلى قوله:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، يا محمد. 13532- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أولئك الذين هدى الله"، يا محمد،"فبهداهم اقتده"، ولا تقتد بهؤلاء. 13533 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده". 13534 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 519 الذين سماهم في هذه الآية:"فبهداهم اقتده". * * * ومعنى:"الاقتداء" في كلام العرب، بالرجل: اتباع أثره، والأخذ بهديه. يقال:"فلان يقدو فلانًا"، إذا نحا نحوه، واتبع أثره،"قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة". (1) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل" لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد:"لا أسألكم"، على تذكيري إياكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به، عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم، (2) وما ذلك مني إلا تذكير لكم، ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم = وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد، لتذكروا وتنزجروا. (3) * * *   (1) في المطبوعة: "كتب مكان"وقدية""وقدوة"، وهو خطأ صرف، خالف ما في المخطوطة وهو الصواب. (2) انظر تفسير"الأجر فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) . (3) انظر تفسير"ذكرى" فيما سلف ص: 439. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 520 القول في تأويل قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"وما قدروا الله حق قدره"، وما أجلُّوا الله حق إجلاله، ولا عظموه حق تعظيمه ="إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، يقول: حين قالوا: لم ينزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا. (1) * * * واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله:"إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، وفي تأويل ذلك. فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود. * * * ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل. فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف. * * * وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص. * * * واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك. * * * * ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف. 13535 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا، فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال:   (1) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538/10: 152. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 521 والله ما أنزل الله على بشر من شيء! فأنزل الله:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى"، الآية. 13536 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قال: نزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود ="قل" يا محمد"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس"، الآية. * * * * ذكر من قال: نزلت في فنحاص اليهوديّ. 13537 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنزل الله على محمد من شيء! * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى. * ذكر من قال ذلك: 13538 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ، فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، الآية [سورة النساء: 153] . فجثا رجل من يهود فقال: ما أنزل الله عليك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 522 ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنزل الله:"وما قدروا الله حق قدره". = قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله (1) ="إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا"، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته، وجعل يقول:"ولا على أحَدٍ". (2) 13539 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، إلى قوله:"في خوضهم يلعبون"، هم اليهود والنصارى، قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به، (3) ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به، فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت، فماذا عملت فيما علمت؟ 13540 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنزل الله:"قل" يا محمد"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدًى للناس"، إلى قوله:"ولا آباؤكم"، قال: الله أنزله. * * * وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء".   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ما علموا كيف الله"، هكذا، وهو تعبير غريب جدًا أكاد أستنكره، وأخشى أن يكون تحريفًا، وهو تفسير للآية، أي: "قدروا الله". (2) الأثر: 13538 - هذا الخبر لم يذكر في تفسير الآية من سورة النساء 9: 356 - 358، وهذا من وجوه اختصار أبي جعفر تفسيره. (3) في المطبوعة: "فلم يهتدوا"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 523 * ذكر من قال ذلك: 13541 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: (قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) ، (1) قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله:"وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، قال: هذه للمسلمين. 13542 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وما قدروا الله حق قدره"، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره. 13543 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما قدروا الله حق قدره"، يقول: مشركو قريش. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله (2) "وما قدروا الله حق قدره"، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود: الإقرار   (1) هذه إحدى القراءتين في الآية بالياء فيها جميعا"يجعلونه"، "يبدونها"، "يخفون"، وهي غير قراءتنا في مصحفنا، وسيذكرها أبو جعفر فيما يلي. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 524 بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، (1) بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند = ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ = وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان = وكان قوله:"وما قدروا الله حق قدره"، موصولا بذلك غير مفصول منه = (2) لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود، وجدوا قوله:"قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة، فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، (3) فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم، إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله:"وما قدروا الله حق قدره"، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل، فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم. والأصوب من القراءة في قوله: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) ، أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، ويكون الخطاب بقوله:"قل من أنزل الكتاب"، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ. 13544 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا لم يكن بما روى هذا الخبر"، وهو كلام غير مستقيم، صوابه ما أثبت إن شاء الله - أي: "وإذا لم يأت بما روى. . . خبر صحيح". (2) السياق: "وإذا لم يأت بما روى. . . خبر صحيح. . .ولا كان. . . وكان الخبر. . . وكان قوله.. . . لم يجز"، كل ذلك عطوف متتابعة، وجواب"وإذ لم يأت" قوله: "لم يجز". (3) هذه القراءة الثانية للآية، وهي قراءتنا اليوم في مصحفنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 525 حماد، عن أيوب، عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) . * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (1) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك:"ما أنزل الله على بشر من شيء" = قل:"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا"، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة (2) ="وهدى للناس"، يقول: بيانًا للناس، يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم (3) ="تجعلونه قراطيس تبدونها". * * * فمن قرأ ذلك: (تَجْعَلُونَهُ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك. * * * ومن قرأه بالياء: (يَجْعَلُونَهُ) ، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس، وجرى الكلام في"يبدونها" بذكر"القراطيس"، والمراد منه المكتوب في القراطيس، يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس. (4) * * *   (1) أثبت الآية على قراءتنا في مصحفنا، وإن كان تفسير أبي جعفر بعد على القراءة الأخرى. فليتنبه قارئ التفسير إلى موضع الخلاف كما حرره أبو جعفر، ص: 524، 525. (2) انظر تفسير"النور" فيما سلف 10: 338، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (4) انظر تفسير"القرطاس" فيما سلف ص365: 366. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 526 ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:- 13545 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا"، اليهود. 13546 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"قل" يا محمد"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها"، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة ="ويخفون كثيرًا"، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه = قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول:"يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا"، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنزله إليكم، (1) ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة ="ولا آباؤكم"، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:- 13547 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد:"وعلمتم"، معشرَ العرب"ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم".   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "الكتاب" بغير باء الجر، والصواب إثباتها، فإن مفعول"علمكم"، هو: "ما لم تعلموا". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 527 13548 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله:"وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم"، قال: هذه للمسلمين. * * * وأما قوله:"قل الله"، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله:"قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا"، (1) بقيل الله، (2) كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، [سورة الأنعام: 63] . (3) فأمره باستفهام المشركين عن ذلك، كما أمره باستفهامهم إذ قالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام: 64] ، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنزله على موسى، كما:- 13549 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس"، قال: الله أنزله. (4) * * * ولو قيل: معناه:"قل: هو الله"، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن   (1) هذه القراءة الأخرى التي اختارها أبو جعفر، فتركت تفسيره على حاله، لئلا يختلط الكلام على قارئه. (2) قوله"بقيل الله" متعلق بقوله"أن يجيب. . .". (3) وتركت هذه الآية أيضًا على قراءة أبي جعفر التي اختارها"لئن أنجيتنا"، كما سلف ص: 414، وأما قراءتنا في مصحفنا: "لئن أنجانا". وانظر ما مضى في ترجيح أبي جعفر أولى القراءتين على الأخرى. (4) الأثر: 13549 - هذا مختصر الأثر السالف رقم: 13540. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 528 ذلك = لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله:"قل من أنزل الكتاب" مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله:"قل الله"، جوابًا لهم عن مسألتهم، وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم:"من أنزل الكتاب"؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله = كان جائزًا، (1) من أجل أنه استفهام، ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا. * * * وأما قوله:"ثم ذرهم في خوضهم يلعبون"، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، (2) بعد احتجاجك عليهم في قيلهم:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، بقولك:"من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس"، وإجابتك ذلك بأن الذي أنزله: الله الذي أنزل عليك كتابه ="في خوضهم"، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته (3) ="يلعبون"، يقول: يستهزئون ويسخرون. (4) * * * وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي، وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي. (5) * * *   (1) قوله: "كان جائزًا"، جواب قوله آنفًا"ولو قيل: معناه. . ."، وما بينهما فصل. (2) انظر تفسير"ذر" فيما سلف ص: 441، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الخوض" فيما سلف 9: 320/11: 436. (4) انظر تفسير"اللعب" فيما سلف ص: 441، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) في المطبوعة: "وتهديد لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض، ولكن الناشر غيره في جميع المواضع السالفة، فجعله"تهديد"، ولا أدري لم؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 529 القول في تأويل قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد ="كتاب". * * * وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب، فوضع"الكتاب" مكان"المكتوب". (1) * * * ="أنزلناه"، يقول: أوحيناه إليك ="مبارك"، وهو"مفاعل" من"البركة" (2) ="مصدّق الذي بين يديه"، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه قبلك، لم يخالفها [دلالة ومعنى] (3) "نورًا وهدى للناس"، يقول: هو الذي أنزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه، إذ كان قد تقدم [من] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [له] مواصل، (4) فقال:"وهذا كتاب أنزلناه إليك مبارك"، ومعناه: وكذلك أنزلت إليك كتابي هذا مباركًا، كالذي أنزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا. * * * وأما قوله:"ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها"، فإنه يقول: أنزلنا إليك، يا محمد،   (1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 1: 97، 99. (2) انظر تفسير"مبارك" فيما سلف 7: 25. (3) في المطبوعة: "لم يخالفها ولا ينبأ وهو معنى نورًا وهدى"، وهو كلام لا يستقيم. وفي المخطوطة: "لم يخالفها ولا ينبأ ومعنى نورًا وهدى"، وهو غير منقوط، وهو أيضًا مضطرب، فرجحت ما كتبته بين القوسين استظهارًا لسياق المعنى. (4) في المطبوعة: "ما يدل على أنه به متصل"، وفي المخطوطة: "ما يدل على أنه من أصل"، فرجحت ما أثبت، وزدت"من" و"له" بين القوسين، فإن هذا هو حق المعنى إن شاء الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 530 هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب، ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة ="ومن حولها"، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد، والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13550 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، يعنى ب"أم القرى"، مكة ="ومن حولها"، من القرى إلى المشرق والمغرب. 13551- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، و"أم القرى"، مكة ="ومن حولها"، الأرض كلها. 13552 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"ولتنذر أم القرى"، قال: هي مكة = وبه عن معمر، عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة. 13553- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة = وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض. 13554 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي:"ولتنذر أم القرى ومن حولها"، أما"أم القرى" فهي مكة، وإنما سميت"أم القرى"، لأنها أول بيت وضع بها. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 531 وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة"أم القرى"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب، فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنزله، ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، (2) لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه، وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة، لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا، ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ} قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا"، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا ="ممن افترى على الله كذبًا"، يعني: ممن اختلق   (1) انظر تفسير"أم القرى" فيما سلف 1: 108، وانظر أيضًا الأثر رقم: 6589. (2) انظر تفسير"المحافظة على الصلوات" فيما سلف 5: 167، 168. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 532 على الله كذبًا، (1) فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا، وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب. * * * وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم = ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل. * * * وقد اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: 13555 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، قال: نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به ="ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخي بني عامر بن لؤي، كان كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، (2) وكان فيما يملي"عزيز حكيم"، فيكتب"غفور رحيم"، فيغيره، ثم يقرأ عليه"كذا وكذا"، لما حوَّل، فيقول:"نعم، سواءٌ". فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينزل عليه"عزيز حكيم" فأحوِّله، ثم أقرأ ما كتبت، (3) فيقول:"نعم سواء"! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة، إذ   (1) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 296، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: "كان يكتب للنبي. . ."، والصواب الجيد ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "ثم أقول لما أكتب"، وفي المخطوطة: "ثم أقول أكتب"، وفوق الكلام حرف (ط) من الناسخ، دلالة على الخطأ، وأنه خطأ قديم في النسخة التي نقل عنها. ورجحت قراءتها كما أثبت، وهو سياق الكلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 533 نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرّ. (1) * * * وقال بعضهم: بل نزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة. * ذكر من قال ذلك: 13556 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء" إلى قوله:" تجزون عذاب الهون". قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه:"سميعًا عليمًا"، كتب هو:"عليمًا حكيمًا"، وإذا قال:"عليمًا حكيمًا" كتب:"سميعًا عليمًا"، فشكّ وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله! قال محمد:"سميعًا عليمًا" فقلت أنا:"عليمًا حكيمًا"! فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ. (2) فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه، فأنزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}   (1) "مر"، هي"مر الظهران". (2) "جدعت أذنه"، قطعت، وكان يقال له"الأجدع"، انظر ابن سعد 3: 181. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وجدع أذن عمار"، ذهب إلى تذكير"الأذن"، والصواب تأنيثها، لم يذكروا فيها تذكيرًا فيما أعلم. وهذا خبر غريب وقد روى ابن سعد في الطبقات 3: 181 عن ابن عمر: "رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة، على صخرة قد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين! أمن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر، هلموا إلي! = وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تذبذب، وهو يقاتل أشد القتال". ثم قال: "قال: شعبة: لم ندر أنها أصيبت باليمامة". فهذا خبر آخر، والمشهور من خبره أنها أصيبت مع النبي صلى الله عليه وسلم. كأن ذلك كان في بعض الغزوات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 534 [سورة النحل:106] ، فالذي أكره: عمار وأصحابه = والذي شرح بالكفر صدرًا، فهو ابن أبي سرح. (1) * * * وقال آخرون: بل القائل:"أوحي إلي ولم يوح إليه شيء"، مسيلمة الكذاب. * ذكر من قال ذلك: 13557 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب، فكبرا عليّ وأهمّاني، (2) فأوحى إليّ: أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة، وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له:"الأسود". (3) 13558 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال:"أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، قال: نزلت في مسيلمة. 13559- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة = وزاد فيه: وأخبرني الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينا أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب، فكبر ذلك عليّ، فأوحي إلي   (1) الأثر: 13556 - كان حق هذا الخبر أن يذكر في تفسير آية"سورة النحل"، لبيان أنها نزلت أيضًا في"عبد الله بن سعد بن أبي سرح"، ولكن أبا جعفر لم يفعل، وذلك دلالة أخرى قاطعة على اختصاره تفسيره. (2) في المخطوطة: "فأهمني"، وعلى الكلمة حرف (ط) دلالة على الخطأ، والصواب ما في المطبوعة، موافقًا لرواية البخاري ومسلم. (3) الأثر: 13557 - خبر الرؤيا، رواه البخاري (الفتح 8: 69، 70) ، ومسلم في صحيحه: 15: 34. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 535 أن انفخهما، فنفخهما فطارا، فأوّلت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال:"إني قد قلت مثل ما قال محمد"، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك، فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره:"أوحى الله إلي"، وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنزيل، فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم = وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم = وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب = إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون، ولنبوّته جاحدون، ولآيات كتاب الله وتنزيله دافعون، فقال لهم جل ثناؤه:"ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا"، وقال:"أوحي إلي"، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، فينقض قولَه بقوله، ويكذب بالذي تحققه، وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم. * * * وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله:"ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، ما:-   (1) الأثر: 13559 - انظر التعليق على رقم: 13557. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 536 13560 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، قال: زعم أنه لو شاء قال مثله = يعني الشعر. * * * فكأنّ ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوّله، يوجِّه معنى قول قائل:"سأنزل مثل ما أنزل الله"، إلي: سأنزل مثل ما قال الله من الشعر. وكذلك تأوّله السدي. وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد، والقائلين:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، والمفترين على الله كذبًا، الزاعمين أنّ الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء، والقائلين:"سأنزل مثل ما أنزل الله"، (2) فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم، والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، كما قال جل ثناؤه: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [سورة محمد: 27، 28] . يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم.   (1) لم يذكر"الشعر" في خبر السدي السالف رقم: 13556، ولعل أبا جعفر نسي أن يكتبه، أو لعله أراد أن ذلك مروي في خبر السدي السالف وإن كان لم يذكره هناك. (2) هكذا جاء على الجمع في المخطوطة أيضًا"والمفترين. . . الزاعمين. . . والقائلين"، والسياق يقتضي الإفراد، ولكني تركته على حاله، لظهور معناه، وإن كنت أرجح أن الصواب: "والمفتري على الله كذبًا الزاعم أن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء، والقائل: سأنزل مثل ما أنزل الله". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 537 و"الغمرات" جمع"غمرة"، و"غمرة كل شيء"، كثرته ومعظمه، وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، ومنه قول الشاعر: (1) وَهَلْ يُنْجِي مِنَ الْغَمَرَاتِ إلا ... بُرَاكَاءُ القِتَالِ أوِ الفِرَارُ (2) * * * وروي عن ابن عباس في ذلك، ما:- 13561 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله:"ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت"، قال: سكرات الموت. 13562 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" في غمرات الموت"، يعني سكرات الموت. * * * وأما"بسط الملائكة أيديها"، (3) فإنه مدُّها. (4) * * * ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. * ذكر من قال ذلك: 13563 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) هو بشر بن أبي حازم. (2) شرح المفضليات: 677، النقائض: 423، الأغاني 13: 137، ديوان الخنساء: 216، واللسان (برك) ، وغيرها. وهذا البيت آخر قصيدة في المفضليات، وروايته: "ولا ينجي". و"البراكاء" (بفتح الباء وضمها) : الثبات في ساحة الحرب، والجد في القتال، وهو من"البروك"، يبرك المقاتل في مكانه، أي: يثبت. وكان في المطبوعة: "تراك للقتال"، وهو خطأ صرف. وفي المخطوطة: "براكا للقتال"، وهو أيضًا خطأ. (3) في المطبوعة: "أيديهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (4) انظر تفسير"بسط الأيدي" فيما سلف 10: 100، 213. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 538 معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم"، قال: هذا عند الموت،"والبسط"، الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم. 13564 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم"، يقول:"الملائكة باسطو أيديهم"، يضربون وجوههم وأدبارهم = والظالمون في غمرات الموت، وملك الموت يتوفّاهم. 13565 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والملائكة باسطو أيديهم"، يضربونهم. * * * وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب. * ذكر من قال ذلك: 13566 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"والملائكة باسطو أيديهم"، قال: بالعذاب. 13567 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح:"والملائكة باسطو أيديهم"، بالعذاب. * * * وكان بعض نحويي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى: باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم. (1) * * * فإن قال قائل: ما وجه قوله:"أخرجوا أنفسكم"، ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار، وأمروا في   (1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 345. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 539 حال الموت بإخراج أنفسهم؟ فإن كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم! قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [إليه] ذهبت (1) وإنما ذلك أمرٌ من الله على ألسن رُسله الذين يقبضون أرواحَ هؤلاء القوم من أجسامهم، بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه، وتسليمها إلى رسله الذين يتوفَّونها. * * * القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقولُ رسل الله التي تقبض أرواحَ هؤلاء الكفار لها، (2) يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها:"أخرجوا أنفسكم"، إلى سخط الله ولعنته، فإنكم اليوم تُثابون على كفركم بالله، (3) وقيلكم عليه الباطل، وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوحَ إليكم شيئًا، وإنكاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا، (4) واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله، والانقياد لطاعته ="عذابَ الهون"، وهو عذاب جهنم الذي يُهينُهم فيذلّهم، حتى يعرفوا صَغَار أنفسهم وذِلَّتَها، كما:- 13568 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"عذاب الهون"، فالذي يهينهم.   (1) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق. (2) قوله: "لها"، أي للكفار. (3) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزي) . (4) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا"، وهو لا معنى له، وإنما هو تحريف من الناسخ، والصواب ما أثبت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 540 13569 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"اليوم تجزون عذاب الهون"، قال: عذاب الهون، في الآخرة ="بما كنتم تعملون". * * * والعرب إذا أرادت ب"الهون" معنى"الهوان"، ضمت"الهاء"، وإذا أرادت به الرفق والدَّعَة وخفة المؤونة، فتحت"الهاء"، (1) فقالوا: هو"قليل هَوْن المؤونة"، ومنه قول الله: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا} [سورة الفرقان: 63] ، يعني: بالرفق والسكينة والوقار، ومنه قول جندل بن المثنَّى الطُّهويّ: (2) وَنَقْضَ أَيْامٍ نَقَضْنَ أَسْرَهُ ... هَوْنًا وَأَلْقَى كُلُّ شَيْخٍ فَخرَهُ (3) ومنه قول الآخر: (4) هَوْنَكُمَا لا يَرُدُّ الدَّهْرُ ما فَاتَا ... لا تَهْلِكَا أَسَفًا فِي إِثْرِ مَنْ مَاتَا (5)   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 200. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "المثني بن جندل الطهوي" وهو خطأ صرف، وإنما هو"جندل بن المثني الطهوي"، وهو شاعر إسلامي راجز، كان يهاجي الراعي. انظر سمط اللآلى ص: 644، وغيره. (3) لم أعثر على الرجز، وإن كنت أذكره. و"الأسر": القوة. وقوله: "ألقى كل شيخ فخره"، كناية عن عجز الشيخ إذا بلغ السن. (4) هو ذو جدن الحميري، ويقال هو: "علقمة بن شراحيل بن مرثد الحميري". (5) سيرة ابن هشام 1: 39، تاريخ الطبري 2: 107، الأغاني 16: 70، معجم ما استعجم: 1398، ومعجم البلدان (بينون) و (سلحون) واللسان (هون) ، وبعد البيت: أبَعْدَ بَيْنُونَ لاَ عَيْنٌ وَلاَ أثَرٌ ... وَبَعْدَ سَلْحُونَ يَبْنِي النَّاس أبْيَاتَا وَبَعْدَ حِمْيَرَ إذْ شَالَتْ نعَامَتُهُمْ ... حَتَّهُمُ غَيْبُ هَذَا الدَّهْرِ حتَّاتَا و"بينون"، و"سلحون"، و"غمدان" من حصون اليمن التي هدمها أرياط الحبشي، في غزوة اليمن، فذكرها ذو جدن، يأسى على ما دخل أهل حمير من الذل والهوان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 541 يريد: أرْوِدا. (1) وقد حكي فتح"الهاء" في ذلك بمعنى"الهوان"، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَين: (2) يُهِينُ النفُوسَ، وَهَوْنُ النُّفُو ... سِ عِنْدَ الكَرِيهَةِ أَغْلَى لَهَا (3) والمعروف من كلامهم، ضمُّ"الهاء" منه، إذا كان بمعنى الهوان والذل، كما قال ذو الإصبع العدواني: اذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أُمِّي بِرَاعِيَةٍ ... تَرْعَى الْمَخَاضَ وَلا أُغْضِي عَلَى الهُونِ (4) يعني: على الهوان = وإذا كان بمعنى الرفق، ففتْحُها. * * *   (1) في المطبوعة: "رودا"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. و"الإرواد"، الإمهال والرفق، والتأني، ومنه قيل: "رويدك"، أي: أمهل، وتأن، وترفق. (2) هكذا قال أبو جعفر، والمشهور أنه للخنساء، وهو في شعرها، وبعض أبيات قصيدة الخنساء، تروى لعامر بن جوين الطائي، فلعل هذا مما يروى له من شعرها. أو لعله من شعر عامر بن جوين، وروى للخنساء. (3) ديوان الخنساء: 215، والأغاني 13: 136، والنقائض: 423، واللسان (هون) . وروايتهم جميعًا"يوم الكريهة أبقى لها". وفي المطبوعة: "أعلى"، والصواب من المخطوطة. (4) شرح المفضليات: 323، وما بعدها، والأمالي 1: 256، واللسان (هون) ، وغيرها كثير. وقد جاء أبو جعفر برواية لم تذكر إلا في اللسان، عن ابن بري، وأما رواية الرواة، فهي: عَنِّي إلَيْكَ فَمَا أُمِّي بِرَاعِيَةٍ ... تَرْعَى المَخَاضَ، وَلا رأيي بمَغْبُونِ إِنِّي أَبِيٌّ ذُو مُحَافَظَةٍ ... وَابنُ أَبِيٍّ أَبِيٍّ مِنْ أَبِيِّينِ لا يُخْرِجُ القَسْرُ مِنِّي غَيْرَ مَا بِيَةٍ ... وَلا أَلِينُ لِمَنْ لا يَبْتَغِي لِينِي عَفٌّ نَدُودٌ، إذَا مَا خِفْتُ مِنْ بَلَدٍ ... هُونًا، فَلَسْتُ بوَقَّافٍ عَلَى الهُونِ فالشاهد في البيت الأخير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 542 القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد، يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه:"لقد جئتمونا فرادى". ويعني بقوله:"فرادى"، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، (1) ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا ="كما خلقناكم أوّل مرة"، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم، (2) وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم، لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا. * * * و"فرادى"، جمع، يقال لواحدها:"فَرِد"، كما قال نابغة بني ذبيان: مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ (3)   (1) في المطبوعة: "ولا أثاث ولا رفيق"، والصواب ما في المخطوطة، يعني نساءهم وخدمهم، وانظر الأثر التالي رقم: 13571، وانظر تفسير البغوي (بهامش ابن كثير 3: 361) قال: "وحدانا لا مال معكم، ولا زوج، ولا ولد، ولا خدم". فهذا صواب القراءة بحمد الله. (2) "غلف جمع"أغلف"، وهو الذي لم يختتن. و"الغرل" جمع"أغرل"، وهو أيضًا الذي لم يختتن، وهذا حديث مسلم في صحيحه من حديث عائشة: "يحشر الناس يوم القيامة حفة عراة غرلا" (17: 192، 193) . (3) ديوانه: 26، واللسان (فرد) ، وغيرهما كثير. من قصيدته المشهورة التي اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر، يقول قبله في صفة الثور: كأنّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... يَوْمَ الجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأنِسٍ وَحَدِ و"وجرة"، منزل بين مكة والبصرة، مربة للوحوش والظباء."موشي أكارعه"، في قوائمه نقط سود."طاوي المصير"، ضامر البطن، و"المصير" جمع"مصران". يصف بياض الثور والتماعه. كأنه سيف مصقول جديد الصقل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 543 و"فَرَدٌ" و"فريد"، كما يقال:"وَحَد" و"وَحِد" و"وحيد" في واحد"الأوحاد". وقد يجمع"الفَرَد""الفُرَاد" كما يجمع"الوَحَد"،"الوُحَاد"، ومنه قول الشاعر: (1) تَرَى النَّعَرَاتِ الزُّرْقَ فَوْقَ لَبَانِه ... فُرَادَى وَمَثْنًى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ (2) وكان يونس الجرْميّ، (3) فيما ذكر عنه، يقول:"فُراد" جمع"فَرْد"، كما قيل:"تُؤْم" و"تُؤَام" للجميع. ومنه:"الفُرَادى"، و"الرُّدَافى" و"القُرَانى". (4) يقال:"رجل فرد" و"امرأة فرد"، إذا لم يكن لها أخٌ."وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا"، يراد به تفرَّد،"فهو فارد". * * * 13570 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [قال ابن زيد قال] ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله:"ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة"، فقالت: واسوأتاه، إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه"، لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض. (5) * * *   (1) هو تميم بن أبي بن مقبل. (2) مضى البيت وتخريجه وتفسيره 7: 543، بغير هذه الرواية، فراجعه هناك. (3) مضى في 10: 120، تعليق: 1، ذكر"يونس [الحرمري] "، وقد أشكل على أمره، كما ذكرت هناك، وصح بهذا أنه"الجرمي"، ولم أجد في قدماء النحاة من يقال له: "يونس الجرمي"، وذكرت هناك أن"يونس بن حبيب"، ضبي لا جرمي، فعسى أن يهديني من يقرأ هذا إلى الصواب فيه، متفضلا مشكورا. (4) في المطبوعة: "والغواني"، وفي المخطوطة: "والعواي" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، يقال: جاءوا قرانى" أي مقترنين، قال ذو الرمة: قُرَانَى وَأَشْتَاتًا، وَحَادٍ يَسُوقُهَا ... إلَى المَاءِ مِنْ جَوْزِ التَّنُوفَةِ مُطْلِقُ (5) الأثر: 13570 -"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري"، ثقة مضى برقم: 1387، 5973، 6889، 10330. وأما "ابن أبي هلال"، فهو: "سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة. مضى برقم: 1495، 5465. وأما "القرظي"، فقد بينه الحاكم في المستدرك في إسناده وأنه: "عثمان بن عبد الرحمن القرظي"، ولكنه مع هذا البيان، لم يزل مجهولا، فإني لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من الكتب. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "القرطبي"، وهو خطأ. وهذا الخبر، أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 565، من طريق"عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث"، ليس فيه"قال ابن زيد"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وعلق عليه الذهبي فقال: "صحيح، فيه انقطاع". والذي في إسناد الطبري"قال ابن زيد قال"، عندي أنه زيادة من الناسخ، لأن عبد الله بن وهب، يروي مباشرة عن"عمرو بن الحارث"، كما يروي عن"عبد الرحمن بن زيد بن أسلم"، ولما كثر إسناد أبي جعفر"حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد"، أسرع قلم الناسخ بإثبات"ابن زيد" مقمحًا في هذا الإسناد، كما دل عليه إسناد الحاكم. وانقطاع هذا الإسناد، كما بينه الذهبي، هو فيما أرجح، أن"عثمان بن عبد الرحمن القرظي" لم يسمع من عائشة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 544 وأما قوله:" وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم"، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم. وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم. * * * وكل ما ملكته غيرك وأعطيته:"فقد خوّلته"، (1) يقال منه:"خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال" بكسر الخاء ="وهو خائل"، ومنه قول أبي النجم: أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ ... كَومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوِّلِ (2)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "وكل من ملكته غيرك. . ."، وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت. (2) لامية أبي النجم في كتاب (الطرائف) ، والمراجع هناك، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وهو مطلع رجزه، وقبله: الَحْمُد لِله الوَهُوبِ المُجْزِلُ وقوله: "كوم الذرى"، أي: عظام الأسمنة، "كوم" جمع"كوماء"، وهي الناقة العظيمة السنام. و"المخول" بكسر الواو، الله الرَّزَّاق ذو القوة المتين. وانظر تعليقي على البيت في طبقات فحول الشعراء: 576، تعليق: 4. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 545 وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير: هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلُوا الْمَالَ يُخوِلُوا ... وَإن يُسْأَلُوا يُعطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13571 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وتركتم ما خوّلناكم"، من المال والخدم ="وراء ظهوركم"، في الدنيا. * * *   (1) ديوانه" 112، واللسان (خبل) (خول) ، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وغيرها كثير. من قصيدته المشهورة في هرم بن سنان بن أبي حارثة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، يذكر قومهما بالكرم في زمن الجدب، وقبله: إذَا السَّنَةُ الشَّهْبَاءِ بِالنَّاسِ أجْحَفَتْ ... وَنَالَ كِرَامَ المَالِ فِي السَّنَةِ الأَكْلُ رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... قَطِينًا لَهُمْ، حَتَّى إذَا أَنْبَتَ البَقْلُ هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلوا. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورواية غير أبي عمرو بن العلاء: "إن يستخبلوا المال يخبلوا"، يقال: "استخبل الرجل ناقة فأخبله"، إذا استعاره ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها فأعاره. و"الاستخوال" مثله. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قال: "ولو أنشدتها لأنشدتها: إن يستخولوا المال يخولوا"، وقال: "الاختبال: المنيحة، ولا أعرف الاستخبال، وأراه: يستخولوا. والاستخوال أن يملكوهم إياه". وقوله: "ييسروا"، من"الميسر" الذي تقسم فيه الجزر. وقوله: "يغلوا"، أي: يختاروا سمان الجزر للنحر، فهم لا ينحرون إلا غالية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 546 القول في تأويل قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. (1) * * * وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة. * * * وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان. * ذكر من قال ذلك: 13572 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء"، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله. 13573- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث:"سوف تشفع لي اللات والعزَّى"! فنزلت هذه الآية:"ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة"، إلى قوله:"شركاء". * * *   (1) انظر تفسير"الشفيع" فيما سلف ص: 446، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 547 القول في تأويل قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد:"لقد تقطع بينكم"، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا، ذهب ذلك اليوم، فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر، وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة، فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13574 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لقد تقطع بينكم"،"البين"، تواصلهم. 13575- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لقد تقطع بينكم"، قال: تواصلهم في الدنيا. 13576 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"لقد تقطع بينكم"، قال: وصلكم. 13577- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لقد تقطع بينكم"، قال: ما كان بينكم من الوصل. 13578 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) انظر تفسير"البين" فيما سلف 8: 319. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 548 معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون"، يعني الأرحام والمنازل. 13579 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد تقطع بينكم"، يقول: تقطع ما بينكم. 13580 - حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش:"لقد تقطع بينكم"، التواصل في الدنيا. (1) * * * واختلفت القرأة في [قراءة] قوله:"بينكم". فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) ، رفعًا، بمعنى: لقد تقطع وصلُكم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ. وذلك أن العرب قد تنصب"بين" في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها:"أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك"، (2) نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في"بين"، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل: كَأَنَّ رِماحَهُم أَشْطَانُ بِئْرٍ ... بَعِيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ (3)   (1) الأثر: 13580 - هذا إسناد منقطع كما أشرت إليه فيما سلف رقم: 1246، 2150 و"أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي"، ثقة معروف، مضى برقم: 1246، 2150، 3000، 5725، 8098. (2) في المطبوعة: "إيابي نحوك. . ." وهو خطأ محض، وهي في المخطوطة غير منقوطة، والصواب في معاني القرآن للفراء 1: 345. (3) أمالي القالي 2: 132، واللسان (بين) ، وغيرهما، من قصيدته المشهورة التي قالها لما أدرك بثأر أخيه كليب وائل. وقبله: فِدًى لِبَنِي الشَّقِيقَةِ يَوْمَ جَاءوا ... كَأُسْدِ الغَابِ لَجَّتْ فِي زَئِيرِ و"الأشطان" الحبال الشديدة الفتل، التي يستقي بها، واحدها"شطن". (بفتحتين) و"الجال" و"الجول" (بضم الجيم) : ناحية البئر وجانبها وما يحبس الماء منها. و"جرور" صفة البئر البعيدة القعر، لأن دلوها يجر على شفرها، لبعد قعرها. يصف طول رماحهم، وحركة أيديهم في الضرب بها، ثم نزعها من بدن من أصابته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 549 برفع"بين"، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا. * * * وأما قوله:"وضل عنكم ما كنتم تزعمون"، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم، وأنه لكم شفيع عند ربكم، فلا يشفع لكم اليوم. (1) * * *   (1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 550 القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} قال أبو جعفر: وهذا تنبيهٌ من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجّته عليهم، وتعريفٌ منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة، أيها الناس، دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان، هو الله الذي فَلق الحبَّ = يعني: شق الحبَّ من كل ما ينبت من النبات، فأخرج منه الزرع ="والنوى"، من كل ما يغرس مما له نَواة، فأخرج منه الشجر. * * * و"الحبّ" جمع"الحبة"، و"النوى" جمع"النواة". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 550 * ذكر من قال ذلك: 13581 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله فالق الحب والنوى"، أما"فالق الحب والنوى": ففالق الحب عن السنبلة، وفالق النواة عن النخلة. 13582 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"فالق الحب والنوى"، قال: يفلق الحب والنوى عن النبات. 13583- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"فالق الحب والنوى"، قال: الله فالق ذلك، فلقه فأنبت منه ما أنبت. فلق النواة فأخرج منها نَبَات نخلة، وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق. * * * وقال آخرون: معنى"فالق"، خالق. * ذكر من قال ذلك: 13584 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن الله فالق الحب والنوى"، قال: خالق الحب والنوى. 13585- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. 13586 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الله فالق الحب والنوى"، قال: خالق الحب والنوى. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أنه فلق الشقّ الذي في الحبّة والنواة. * ذكر من قال ذلك: 13587 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 551 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فالق الحب والنوى"، قال: الشقان اللذان فيهما. 13588- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13589- حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله:"إن الله فالق الحب والنوى"، قال: الشق الذي يكون في النواة وفي الحنطة. 13590- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فالق الحب والنوى"، قال: الشقان اللذان فيهما. 13591 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فالق الحب والنوى"، يقول: خالق الحب والنوى، يعني كلّ حبة. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، ما قدّمنا القول به. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحي من الميت والميت من الحي، فكان معلومًا بذلك أنه إنَّما عنى بإخباره عن نفسه أنّه فالق الحب عن النبات، والنوى عن الغُرُوس والأشجار، كما هو مخرج الحي من الميت، والميّت من الحي. * * * وأما القول الذي حكي عن الضحاك في معنى"فالق"، أنه خالق، فقولٌ = إن لم يكن أراد به أنّه خالق منه النبات والغُروس بفلقه إياه = لا أعرف له وجهًا، لأنه لا يعرف في كلام العرب:"فلق الله الشيء"، بمعنى: خلق. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 552 القول في تأويل قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحيّ من الحبّ الميت، ومخرج الحبِّ الميت من السنبل الحيّ، والشجرِ الحيّ من النوى الميت، والنوى الميِّت من الشجر الحيّ. * * * والشجر ما دام قائمًا على أصوله لم يجفّ، والنبات على ساقه لم ييبَس، فإن العرب تسميه"حَيًّا"، فإذا يبس وجفّ أو قطع من أصله، سمّوه"ميتًا". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13592 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"يخرج الحي من الميت"، فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة، ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية، ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة، ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية. 13593 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك:"يخرج الحي من الميت ومخرج المميت من الحي"، قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة. * * * وقال آخرون بما:- 13594- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن الله فالق الحبّ والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحيّ"، قال: يخرج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 553 النطفة الميتة من الحي، ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًّا. * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك، لأنه عَقِيب قوله:"إن الله فالقُ الحب والنوى"، على أن قوله:"يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي"، وإن كان خبرًا من الله عن إخراجه من الحبّ السنبل ومن السنبل الحب، فإنه داخل في عمومه ما رُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك. وكل ميّت أخرجه الله من جسمٍ حَيٍّ، وكل حيّ أخرجه الله من جسمٍ ميتٍ. * * * وأما قوله:"ذلكم الله"، فإنه يقول: فاعل ذلك كلِّه اللهُ جل جلاله ="فأنى تؤفكون"، يقول: فأيّ وجوه الصدّ عن الحقّ، أيها الجاهلون، تصدّون عن الصواب وتصرفون، (1) أفلا تتدبرون فتعلمون أنّه لا ينبغي أن يُجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى، فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعًا وحُروثًا وثمارًا تتغذون ببعضه وتفكّهون ببعضه، شريكٌ في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يبصر؟ القول في تأويل قوله: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} قال أبو جعفر: يعني بقوله:"فالق الإصباح"، شاقٌّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده. (2) * * * و"الإصباح" مصدر من قول القائل:"أصبحنا إصباحًا". * * *   (1) انظر تفسير"الأفك" فيما سلف 10: 485، 486. (2) انظر تفسير"الفلق" فيما سلف قريبًا ص: 550. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 554 وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13595 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:"فالق الإصباح"، قال: إضاءة الصبح. 13596 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي، نجيح، عن مجاهد:"فالق الإصباح"، قال: إضاءة الفجر. 13597- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13598 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فالق الإصباح"، قال: فالق الصُّبح. 13599 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فالق الإصباح"، يعني بالإصباح، ضوءَ الشمس بالنهار، وضوءَ القمر بالليل. 13600 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فالق الإصباح"، قال: فالق الصبح. 13601- حدثنا به ابن حميد مرة بهذا الإسناد، عن مجاهد فقال في قوله:"فالق الإصباح"، قال إضاءة الصبح. 13602 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"فالق الإصباح"، قال: فلق الإصباح عن الليل. 13603 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فالق الإصباح"، يقول: خالق النور، نور النهار. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 555 وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار. * ذكر من قال ذلك: 13604 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا) ، (1) يقول: خلق الليل والنهار. * * * وذكر عن الحسن البصري أنّه كان يقرأ: (فَالِقُ الأصْبَاحِ) ، بفتح الألف، كأنه تأول ذلك بمعنى جمع"صبح"، كأنه أراد صبح كل يوم، فجعله"أصباحًا"، ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز تعدِّيها، بكسر الألف: (2) (فالِقُ الإصْبَاح) ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفضِ خلافه. * * * وأما قوله:"وجاعِلُ الليل سكنًا"، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض البصريين: (3) (وَجَاعِلُ اللَّيْلِ) بالألف على لفظ الاسم، ورفعه عطفًا على"فالق"، وخفض"الليل" بإضافة"جاعل" إليه، ونصب"الشمس والقمر"، عطفًا على موضع"الليل"، لأن"الليل" وان كان مخفوضًا في اللفظ، فإنه في موضع النصب، لأنه مفعول"جاعل". وحسن عطف ذلك على معنى"الليل" لا على لفظه، لدخول قوله:"سكنًا" بينه وبين"الليل"، قال الشاعر: (4) قُعُوداً لَدَى الأبْوَابِ طُلابَ حاجَةٍ ... عَوَانٍ مِنَ الْحَاجَاتِ أَوْ حَاجَةً بِكْرًا (5)   (1) هذه قراءة أهل الحجاز كما سيذكر بعد، وتركتها على قراءتهم في هذا الخبر. (2) في المطبوعة: "لا نستجيز غيرها"، يدل ما كان في المخطوطة وهو محض صواب. (3) في المطبوعة: "عامة قراء الحجاز"، وأثبت ما في المخطوطة. (4) هو الفرزدق. (5) سلف البيت وتخريجه وتفسيره فيما سلف 2: 195، وأزيد هنا مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 201 وروي هناك: "قعود" بالرفع، كما أشرت إليه ثم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 556 فنصب"الحاجة" الثانية، عطفًا بها على معنى"الحاجة" الأولى، لا على لفظها، لأن معناها النصب، وإن كانت في اللفظ خفضًا. وقد يجيء مثل هذا أيضًا معطوفًا بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه، وإن لم يكن بينهما حائل، كما قال بعضهم: (1) بَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرْهُ أَتَانَا ... مُعلِّقَ شِكْوَةٍ وَزِنادَ رَاعِ (2) * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ) ، على"فَعَلَ"، بمعنى الفعل الماضي، ونصب"الليل". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، متفقتا المعنى، غير مختلفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في الإعراب والمعنى. * * * وأخبر جل ثناؤه أنه جعل الليل سكنًا، لأنه يسكن فيه كل متحرك بالنهار، ويهدأ فيه، فيستقر في مسكنه ومأواه. * * *   (1) لرجل من قيس عيلان، ونسب أيضا لنصيب (2) سيبويه 1: 87، معاني القرآن للفراء 1: 346، الصاحبي: 118، شرح شواهد المغني: 270، والذي هنا رواية الفراء وابن فارس. ورواية سيبويه"بيننا نحن نطلبه"، وفي شرحه"نرقبه"، وروايته أيضًا"معلق وفضة". وكان في المطبوعة هنا: "فبيننا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المطبوعة: "شلوه" وهو خطأ. "ننظره": نرقبه وننتظره. و"الشكوة": وعاء كالدلو أو القرية الصغيرة، يبرد فيه الماء، ويحبس فيه اللبن. وأما "الوفضة"، فهي خريطة كالجعبة، يحمل فيها الراعي أدلته وزاده. ولم أجد بقية الشعر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 557 القول في تأويل قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك: فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. * ذكر من قال ذلك: 13605 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والشمس والقمر حسبانًا"، يعني: عدد الأيام والشهور والسنين. 13606 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والشمس والقمر حسبانًا"، قال: يجريان إلى أجلٍ جُعل لهما. 13607 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والشمس والقمر حسبانًا"، يقول: بحساب. 13608 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والشمس والقمر حسبانًا"، قال: الشمس والقمر في حساب، فإذا خَلَتْ أيامهما فذاك آخرُ الدهر، وأول الفزع الأكبر ="ذلك تقدير العزيز العليم". 13609- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والشمس والقمر حسبانًا"، قال: يدوران في حساب. 13610 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 558 ابن جريج، عن مجاهد: "والشمس والقمر حسبانًا"، قال هو مثل قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس: 40] ، ومثل قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [سورة الرحمن: 5] . * * * وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء. * ذكر من قال ذلك: 13611- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والشمس والقمر حسبانًا"، أي ضياء. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب، تأويل من تأوَّله: وجعل الشمس والقمرَ يجريان بحساب وعددٍ لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما، ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره ذكَر قبلَه أياديه عند خلقه، وعظم سلطانه، بفلقه الإصباح لهم، وإخراج النبات والغِراس من الحب والنوى، وعقّب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البر والبحر. فكان وصفه إجراءه الشمس والقمرَ لمنافعهم، أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما، لأنه قد وصف ذلك قبلُ بقوله:"فالق الإصباح"، فلا معنى لتكريره مرة أخرى في آية واحدة لغير معنى. * * * و"الحسبان" في كلام العرب جمع"حِساب"، كما"الشُّهبان" جمع شهاب. (1) وقد قيل إن"الحسبان"، في هذا الموضع مصدر من قول القائل:"حَسَبْتُ الحساب أحسُبُه حِسابًا وحُسْبانًا". وحكي عن العرب:"على الله حُسْبان فلان وحِسْبته"، أي: حسابه. * * *   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 201. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 559 وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء، ذهب إلى شيء يروى عن ابن عباس في قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة الكهف: 40] . قال: نارًا، فوجه تأويل قوله:"والشمس والقمر حسبانًا"، إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شيء. * * * وأما"الحِسبان" بكسر"الحاء"، فإنه جمع"الحِسبانة"، (1) وهي الوسادة الصغيرة، وليست من الأوَّليين أيضًا في شيء. يقال:"حَسَّبته"، أجلستُه عليها. * * * ونصب قوله:"حسبانًا" بقوله:"وجعل". * * * وكان بعض البصريين يقول: معناه:"والشمس والقمرَ حسبانًا"، أي: بحساب، فحذف"الباء"، كما حذفها من قوله: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ " [سورة الأنعام: 117] ، أي: أعلم بمن يضل عن سبيله. (2) * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله، وهو فلقه الإصباح، وجعله الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا، تقدير الذي عزّ سلطانه، فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام، من الامتناع منه ="العليم"، بمصالح خلقه وتدبيرهم = لا تقديرُ الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله، ولا تضر ولا تنفع، وإن أريدت بسوء لم تقدر على   (1) هكذا قال أبو جعفر"بكسر الحاء" والذي أطبقت عليه كتب اللغة أنه بضم الحاء، ولم يشيروا إلى كسر الحاء في هذه. (2) قائل هذا هو الأخفش، كما هو بين في لسان العرب (حسب) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 560 الامتناع منه ممن أرادها. (1) يقول جل ثناؤه: وأخلصوا، أيها الجهلة، عبادتَكم لفاعل هذه الأشياء، ولا تشركوا في عبادته شيئًا غيره. * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم، أيها الناس، النجوم أدلةً في البر والبحر إذا ضللتم الطريق، أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلّون بها على المحجَّة، فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة، فتسلكونه وتنجون بها من ظلمات ذلك، كما قال جل ثناؤه: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سورة النحل: 16] ، أي: من ضلال الطريق في البرّ والبحر = وعنى بالظلمات، ظلمة الليل، وظلمة الخطأ والضلال، وظلمة الأرض أو الماء. * * * وقوله:"قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون"، يقول: قد ميَّزنا الأدلة، وفرَّقنا الحجج فيكم وبيّناها، أيها الناس، (2) ليتدبّرها أولو العلم بالله منكم، ويفهمها أولو الحجا منكم، فينيبوا من جهلهم الذي هم مقيمون عليه، وينزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون، ولا يتمادوا عنادًا لله = مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ = في غَيِّهم. (3) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.   (1) انظر تفسير"العزيز" و"العليم" فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير"فصل" فيما سلف ص: 394 - 396. (3) في المطبوعة: "ولا يتمادوا في عناد الله"، زاد"في"، فأفسد الكلام غاية الإفساد، وسياق العبارة"ولا يتمادوا عنادًا لله. . .في غيهم"، وفصلت الجملة المعترضة بخطين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 561 * ذكر من قال ذلك: 13612 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر"، قال: يضلّ الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق. * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإلهكم، أيها العادلون بالله غيره ="الذي أنشأكم"، يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء، فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئًا (1) ="من نفس واحدة"، يعني: من آدم كما:- 13613 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من نفس واحدة"، قال: آدم عليه السلام. 13614 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة"، من آدم عليه السلام. * * * وأما قوله:"فمستقر ومستودع"، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون. فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمنكم مستقِرٌّ في الرحم، ومنكم مستودع في القبر حتى يبعثه الله لنَشْر القيامة. * ذكر من قال ذلك: 13615 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم، عن عبد الله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، [سورة هود: 6] . قال:"مستقرها"، في الأرحام ="ومستودعها"، حيث تموت.   (1) انظر تفسير"أنشأ" فيما سلف: 263، 264. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 562 13616- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه قال:"المستودع" حيث تموت، و"المستقر"، ما في الرحم. 13617- حدثت عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال:"المستقر"، الرحم، و"المستودع"، المكان الذي تموت فيه. 13618 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا محمد بن فضيل وعلي بن هاشم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا قال: (مُسْتَقَرَّهَا) ، في الأرحام = (وَمُسْتَوْدَعَهَا) ، في الأرض، حيث تموت فيها. 13619 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مقسم قال:"مستقرها"، في الصلب حيث تأويل إليه ="ومستودعها"، حيث تموت. * * * وقال آخرون:"المستودع"، ما كان في أصلاب الآباء = و"المستقر"، ما كان في بطون النساء، وبطون الأرض، أو على ظهورها. * ذكر من قال ذلك: 13620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير في قوله:"فمستقر ومستودع"، قال: مستودعون، ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها، فقد استقرّوا. 13621- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن علية، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير:"فمستقر ومستودع"، قال: المستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض، فقد استقروا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 563 13622- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} ، [سورة هود: 6] . قال:"المستودع" في الصلب = و"المستقر"، ما كان على وجه الأرض أو في الأرض. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقر في الأرض على ظهورها، ومستودع عند الله. * ذكر من قال ذلك: 13623 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن المغيرة، عن أبي الجبر بن تميم بن حذلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"المستقر" الأرض،"والمستودع"، عند الرحمن. (2)   (1) الأثر: 13622 -"المغيرة بن النعمان النخعي"، يروي عن سعيد بن جبير، وروى عنه شعبة، والثوري، ومسعر، وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/325، وابن أبي حاتم 4/1/231. (2) الأثر: 13623 -"المغيرة" في هذ1 الإسناد، هو"المغيرة بن مقسم الضبي"، إمام مشهور، مضى مرارًا، آخرها رقم: 9292. و"أبو الجبر بن تميم بن حذلم"، كان في المطبوعة هنا، وفي رقم: 13629، 13637"أبو الخير تميم بن حذلم"، وفي المخطوطة: "أبو الحر تميم بن حذلم"، غير منقوطة وبإسقاط"بن"، وهوخطأ. فإن"تميم بن حذلم الضبي" كنيته"أبو سلمة"، أو "أبو حذلم"، وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود، وأدرك أبا بكر، فهو تابعي قديم، وليس يروى عنه"مغيرة"، إنما يروى عنه من طريق ابنه هذا، ومن طريق إبراهيم اللخعي. وهو مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/151، 152، وابن أبي حاتم 1/1/442. وأما ابنه"أبو الجبر بن تميم"، فاسمه"عبد الرحمن بن تميم بن حذلم الضبي"، روى عنه أبو إسحق الهمداني، ومغيرة. فلذلك صححت ما كان في المخطوطة، والمطبوعة، وزدت"بن"، وكذلك أشار إليه البخاري في التاريخ وغيره في ترجمة أبيه، الكبير 1/2/151، 152. و"أبو الجبر" بالجيم والباء، وهو مذكور في أكثر الكتب"أبو الخير"، وهو خطأ، ضبطه عبد الغني في المؤتلف والمختلف، وابن ماكولا، والدولابي، وكذلك ذكره ابن أبي حاتم في الكنى (4/ 2/ 355) في حرف الجيم، وهو مترجم أيضًا فيه 2/2/218. وانظر الأثرين التاليين رقم: 13629، 13637. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 564 13624 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"المستقر"، الأرض، و"المستودع"، عند ربك. 13625 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم قال، قال عبد الله:"مستقرها"، في الدنيا،"ومستودعها"، في الآخرة = يعني="فمستقر ومستودع". 13626 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال:"المستودع"، في الصلب، و"المستقر"، في الآخرة وعلى وجه الأرض. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقر في الرحم، ومستودع في الصلب. * ذكر من قال ذلك: 13627 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي الحارث، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله:"فمستقر ومستودع"، قال: مستقر في الرحم، ومستودع في صلب، لم يخلق سَيُخلق. (1) 13628 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن عكرمة:"فمستقر ومستودع"، قال:"المستقر"، الذي قد استقر في الرحم، و"المستودع"، الذي قد استودع في الصلب. (2) 13629 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الجبر تميم، عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: سل! فقلت: "فمستقرّ   (1) في المطبوعة: "وسيخلق" بزيادة الواو، ولا ضرورة لها. (2) الأثر: 13628 -"يحيى الجابر"، هو"يحيى بن المجبر" منسوبًا لجده، و"يحيى بن عبد الله بن الحارث بن المجبر التيمي"، مضى برقم: 10188 - 10190، وكان في المطبوعة هنا"يحيى الجابري"، وهو خطأ صرف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 565 ومستودع"؟ قال:"المستقر"، في الرحم، و"المستودع"، ما استودع في الصلب. (1) 13630- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"فمستقر ومستودع"، قال:"المستقر" الرحم، و"المستودع"، ما كان عند رب العالمين مما هو خالقه ولم يخلق. 13631- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [سورة هود: 6] ، قال:"المستقر"، ما كان في الرحم مما هو حيٌّ، ومما قد مات = و"المستودع"، ما في الصلب. 13632- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس، وذلك قبل أن يَخْرُج وجهي (2) أتزوّجت يا ابن جبير؟ قال: قلت لا وما أريد ذاك يومي هذا! قال فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودَعين. 13633- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس: تزوجت؟ قلت: لا! قال: فضرب ظهري وقال: ما كان من مستودَع في ظهرك سيخرج. 13634- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمستقر ومستودع"، قال:"المستقر"، في الأرحام، و"المستودع"، في الصلب، لم يخلق وهو خالقه. 13635- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) الأثر: 13629 -"أبو الجبر بن تميم"، انظر التعليق على رقم: 13623، وكان في المطبوعة: "أبو الخير تميم"، وفي المخطوطة: "أبو الحبر تميم" غير منقوط، وهما خطأ. (2) قوله: "وذلك قبل أن يخرج وجهي"، يعني: قبل أن تنبت لحيته، وهذا تعبير عزيز لا تجد تفسيره في كتب اللغة والمجاز، فقيده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 566 معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فمستقر ومستودع"، قال:"المستقر"، في الرحم، و"المستودع"، ما استودع في أصلاب الرجال والدوابّ. 13636 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال:"المستقر"، ما استقرّ في الرحم، و"المستودع"، ما استودع في الصلب. 13637- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الجبر بن تميم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بنحوه. (1) 13638 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد، عن عمار الدهني، عن رجل، عن كريب قال: دعاني ابن عباس فقال: اكتب:"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عباس، إلى فلان حَبْر تَيْماء، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد = قال، فقلت: تبدؤه تقول: السلام عليك؟ فقال: إن الله هو السلام = ثم قال: اكتب"سلامٌ عليك، أما بعد، فحدثني عن:"مستقر ومستودع". قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي، فأعطيته إياه. فلما نظر إليه قال: مرحبًا بكتاب خليلي من المسلمين! فذهب بي إلى بيته، ففتح أسفاطًا له كبيرة، (2) فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال قلت: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود! حتى أخرج سفر موسى عليه السلام، قال: فنظر إليه مرتين فقال:"المستقر"، الرحم، قال: ثم قرأ: {وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [سورة الحج: 5] ، وقرأ: {وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} ، [سورة البقرة:36] ، [سورة الأعراف:24] . قال: مستقرُّه فوق   (1) الأثر: 13637 -"أبو الجبر بن تميم"، مضى برقم: 13623، 13629، تصحيحه، وكان هنا أيضًا في المطبوعة: "أبو الخير تميم"، وفي المخطوطة: "أبو الخير تميم" غير منقوط. (2) "الأسفاط" جمع"سفط" (بفتحتين) : وهو وعاء كالجوالق، وبين الخبر هنا أنهم كانوا يستخدمونه في حفظ الكتب والأسفار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 567 الأرض، ومستقرُّه في الرحم، ومستقره تحت الأرض حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار. (1) 13639 - حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"فمستقر ومستودع"، قال:"المستقر"، ما استقر في أرحام النساء، و"المستودع"، ما استودع في أصلاب الرجال. 13640- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال:"المستقر"، الرحم، و"المستودع"، في أصلاب الرجال. 13641- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن عطاء = وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = قال:"المستقر"، الرحم، و"المستودع"، في الأصلاب. 13642- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثناعيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمستقر"، ما استقر في أرحام النساء ="ومستودع"، ما كان في أصلاب الرجال. 13643- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 13644- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال:"المستقر"، ما استقر في الرحم، و"المستودع"، ما استودع في الصلب. 13645- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"المستقر"، الرحم،"والمستودع"، الصلب.   (1) الأثر: 13638 -"كريب" هو"كريب بن أبي مسلم الهاشمي" مولى ابن عباس، تابعي ثقة، مضى برقم: 1075. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 568 13646 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون قال: أتينا إبراهيم عند المساء فأخبرونا أنه قد مات، فقلنا: هل سأله أحدٌ عن شيء؟ قالوا: عبد الرحمن بن الأسود، عن"المستقر" و"المستودع"، فقال:"المستقر"، في الرحم، و"المستودع"، في الصلب. 13647- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: أتينا إبراهيم وقد مات، قال: فحدثني بعضهم: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأله قبل أن يموت عن"المستقر" و"المستودع"، فقال:"المستقر"، في الرحم،"والمستودع"، في الصلب. 13648- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون: أتينا منزل إبراهيم، فسألنا عنه فقالوا: قد توفي. وسأله عبد الرحمن بن الأسود، فذكر نحوه. 13649- حدثني به يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون: أنه بلغه: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأل إبراهيم عن ذلك، فذكر نحوه. 13650- حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن العلاء بن هارون قال: انتهيت إلى منزل إبراهيم حين قبض، فقلت لهم: هل سأله أحد عن شيء؟ قالوا: سأله عبد الرحمن بن الأسود عن"مستقر ومستودع"، فقال: أما"المستقر"، فما استقر في أرحام النساء، و"المستودع"، ما في أصلاب الرجال. (1)   (1) الأثر: 13650 -"عبيد الله بن محمد بن هرون الفريابي"، شيخ الطبري، مضى برقم: 17، 9227. و"ضمرة بن ربيعة الفلسطيني"، مضى برقم: 7134، 12868. و"العلاء بن هرون الواسطي"، سكن الرملة. روى عن ابن عون. ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/362. وأخشى أن يكون هذا الخبر، عن العلاء بن هرون، عن ابن عون، بل أرجح أن يكون كذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 569 13651- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في"فمستقر ومستودع"، قال:"المستقر"، الرحم، و"المستودع"، الصلب. 13652 - حدثني يونس قال، حدثني سفيان، عن رجل حدَّثه، عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ألا تنكح؟ ثم قال: أما إني أقول لك هذا، وإني لأعلم أن الله مخرجٌ من صلبك ما كان فيه مستودَع. (1) 13653- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"المستقر"، في الرحم، و"المستودع"، في الصلب. 13654- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس:"فمستقر ومستودع"، قال:"مستقر"، في الرحم، و"مستودع"، في الصلب. 13655 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"فمستقر ومستودع"، قال:"مستقر"، في الرحم، و"مستودع"، في الصلب. 13656 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"فمستقر ومستودع"، أما"مستقر"، فما استقر في الرحم = وأما"مستودع"، فما استودع في الصلب. 13657 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمستقر ومستودع"، قال:"مستقر"، في الأرحام،"ومستودع"، في الأصلاب. 13658- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "ما كان فيه مستودعًا"، غير ما في المخطوطة بلا طائل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 570 حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير = وأبي حمزة، عن إبراهيم = قالا"مستقر ومستودع"،"المستقر"، في الرحم، و"المستودع"، في الصلب. * * * وقال آخرون:"المستقر"، في القبر،"والمستودع"، في الدنيا. * ذكر من قال ذلك: 13659 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول:"مستقر"، في القبر،"ومستودع" في الدنيا، وأوشك أن يلحق بصاحبه. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله:"فمستقر ومستودع"، كلَّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، مستقرًّا ومستودعًا، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أنّ من بني آدم مستقرًّا في الرحم، ومستودعًا في الصلب، ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلٌّ"مستقر" أو"مستودع" بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله:"فمستقر ومستودع" ومراد به، إلا أن يأتي خبرٌ يجب التسليم له بأنه معنيٌّ به معنى دون معنى، وخاص دون عام. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"فمستقر ومستودع". فقرأت ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) ، بمعنى: فمنهم من استقرّه الله في مقرِّه، فهو مستقَرٌّ = ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه، فهو مستودَع فيه. * * * وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة: (فَمُسْتَقِرٌّ) ، بكسر"القاف" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 571 بمعنى: فمنهم من استقرّ في مقرّه، فهو مستقِرّ به. * * * وأولى القراءتين بالصواب عندي، وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح: (فَمُسْتَقَرٌّ) ، بمعنى: استقرّه الله في مستقَرِّه، ليأتلف المعنى فيه وفي"المستودَع"، في أن كل واحد منهما لم يسمَّ فاعله، وفي إضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقِرُّ هذا، والمستودِع هذا. وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله:"ومستودَع" بفتح"الدال" على وجه ما لم يسمَّ فاعله، فإجراء الأوّل = أعني قوله:"فمستقر" = عليه، أشبه من عُدُوله عنه. * * * وأما قوله:"قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون"، يقول تعالى: قد بيّنا الحجج، وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها (1) ="لقوم يفقهون"، مواقعَ الحجج ومواضع العبر، ويفهمون الآيات والذكر، (2) فإنهم إذا اعتبروا بما نبّهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر، وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور، علموا أنّ ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه، كما:- 13660- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون"، يقول: قد بينا الآيات لقوم يفقهون. * * *   (1) انظر تفسير"فصل" فيما سلف ص: 561، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"فقه" فيما سلف ص: 433، تعليق2، والمراجع هناك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 572 القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شريك فيها لشيء سواه، (1) هو الإله الذي أنزل من السماء ماء ="فأخرجنا به نبات كل شيء"، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم، ما يتغذون به ويأكلونه فينبتُون عليه وينمون. وإنما معنى قوله:"فأخرجنا به نبات كل شيء"، فأخرجنا به ما ينبت به كل شيء وينمو عليه ويصلحُ. * * * ولو قيل: معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات، فيكون"كل شيء"، هو أصناف النبات = كان مذهبًا، وإن كان الوجه الصحيح هو القولَ الأول. (2) * * * وقوله:"فأخرجنا منه خضرًا"، يقول:"فأخرجنا منه"، يعني: من الماء الذي أنزلناه من السماء ="خَضِرًا"، رطبًا من الزرع. * * * "والخضر"، هو"الأخضر"، كقول العرب:"أرِنيهَا نَمِرة، أُرِكْها مَطِرَة". (3) يقال:"خَضِرَت الأرض خَضَرًا. وخَضَارة". (4) و"الخضر" رطب البقول،   (1) في المطبوعة: "لا شركة فيها لشيء سواء"، غير ما في المخطوطة بسوء رأي!! (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 347. (3) هذا مثل، نسبه صاحب اللسان في (نمر) إلى أبي ذؤيب الهذلي، ولم ينسبه في (خضر) ، ورواه الميداني في الأمثال 1: 258، وأبو هلال في جمهرة الأمثال: 14، ولم ينسباه إليه، وأذكر أني قرأت قصته ثم افتقدتها الآن فلم أجدها. وقوله: "نمرة" يعني، سحابة، وهو أن يكون سواد وبياض ونمرة، يضرب مثلا في صحة مخيلة الشيء، وصحة الدلالة عليه. وذلك إذا رأيت دليل الشيء، علمت ما يتبعه. (4) "الخضارة" مصدر، مثل"الغضارة"، لم يذكر في مادته من كتب اللغة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 573 ويقال: "نخلة خضيرة"، إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج. و"قد اختُضِر الرجل" و"اغْتُضِر"، إذا مات شابًّا مُصَحَّحًا. ويقال:"هو لك خَضِرًا مَضِرًا"، أي هنيئًا مريئًا. (1) * * * قوله:"نخرج منه حبًّا متراكبًا"، يقول: نخرج من الخضر حبًّا = يعني: ما في السنبل، سنبل الحنطة والشعير والأرز، (2) وما أشبه ذلك من السنابل التي حبُّها يركب بعضه بعضًا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13661 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا"، فهذا السنبل. * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن النخل من طلعها قنوانه دانية، (3) = ولذلك رفعت"القِنوان". * * *   (1) ذكره صاحب اللسان في (خضر) ، ولم يذكره في (مضر) . و"المضر" الغض الطري. (2) انظر تفسير"الحب" فيما سلف ص: 550. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن النخل من طلعها قنوان دانية"، وهو نص الآية، وهو بيان لا يستقيم، وإنما الصواب ما أثبت، استظهرته من معاني القرآن للفراء 1: 347. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 574 و"القنوان" جمع"قِنْو"، كما"الصنوان" جمع"صِنْو"، وهو العِذْق، (1) يقال للواحد هو"قِنْو"، و"قُنْو" و"قَنَا"، يثنى"قِنوانِ"، ويجمع"قنوانٌ" و"قُنوانٌ". (2) قالوا في جمع قليله:"ثلاثة أقْناء". و"القِنوان" من لغة الحجاز، و"القُنْوان"، من لغة قيس، وقال امرؤ القيس: فَأَثَّتْ أَعَالِيهِ، وَآدَتْ أُصُولُهُ ... وَمَالَ بِقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا (3) و"قِنْيان"، جميعًا، وقال آخر: (4) لَهَا ذَنَبٌ كَالْقِنْوِ قَدْ مَذِلَتْ بِهِ ... وَأَسْحَمَ لِلتَّخْطَارِ بَعْدَ التَّشَذُّرِ (5)   (1) "العذق" (بكسر فسكون) : كباسة النخل وعراجينها. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 202. (3) ديوانه: 67، واللسان (قنا) ، وغيرها كثير. من قصيدته المستجادة، وهو من أولها، يصف ظعن الحي يشبهها بالنخل، يقول قبله: بِعَيْنيَّ ظُعْنُ الحَيِّ لَمَّا تَحَمَّلُوا ... لَدَى جَانِبِ الأَفْلاجِ مِنْ جَنْبِ تَيْمرَا فَشَبَّهْتُهُمْ فِي الآلِ لَمَّا تَكَمَّشُوا ... حَدَائِقَ دَوْمٍ، أوْ سَفِينًا مُقَيَّرَا أَوِ المُكْرِعَاتِ من نَخِيلِ ابْنِ يَامِنٍ ... دُوَيْنَ الصَّفَا اللائِي يَلِينَ المُشقّرا سَوَامِقَ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فُرُوعُهُ ... وَعَالَيْنَ قِنْوَانًا مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا فهذه رواية أخرى غير التي رواها أبو جعفر وغيره. وقوله: "فأثت أعاليه": أي: عظمت والتفت من ثقل حملها. وقوله: "آدت"، أي تثنت ومالت. (4) لم أعرف قائله. (5) رواه أبو زيد في نوادره: 182، بيتًا مفرادًا، وقال في تفسيره: "التشذر"، إذا لقحت الناقة عقدت ذنبها ونصبته على عجزها من التخيل، فذاك التشذر. و"المذل" (بفتحتين) : أن لا تحرك ذنبها. ولم أعرف لقوله"أسحم" في هذا البيت معنى، ورواية أبي زيد: "وأسمح"، وهو حق المعنى فيما أرجح. و"التخطار"، مصدر"خطر الفحل بذنبه خطرًا وخطرانًا وخطيرًا"، رفعه مرة بعد مرة، وضرب به حاذيه، وهما ما ظهر من فخذيه حيث يقع شعر الذنب. وهذا المصدر لم يذكر في شيء من معاجم اللغة. والمعنى: أنها أقرت ذنبها، ثم أسمح لها بعد نشاطها وتبخترها فاسترخى. هكذا ظننت معناه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 575 وتميم تقول:" قُنْيان" بالياء. * * * ويعني بقوله:"دانية"، قريبة متهدّلة. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13662 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"قنوان دانية"، يعني ب"القنوان الدانية"، قصار النخل، لاصقة عُذُوقها بالأرض. 13663 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"من طلعها قنوان دانية"، قال: عذوق متهدلة. 13664- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"قنوان دانية"، يقول: متهدلة. 13665 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء في قوله:"قنوان دانية"، قال: قريبة. 13666- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب:"قنوان دانية"، قال: قريبة. 13667- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومن النخل من طلعها قنوان دانية"، قال: الدانية، لتهدُّل العُذوق من الطلع. 13668 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ومن النخل من طلعها قنوان دانية"، يعني النخل القصارَ الملتزقة بالأرض، و"القنوان" طلعه. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 576 القول في تأويل قوله: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضًا جنات من أعناب = يعني: بساتينَ من أعناب. (1) * * * واختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة القرأة: (وَجَنَّاتٍ) نصبًا، غير أن"التاء" كسرت، لأنها"تاء" جمع المؤنث، وهي تخفض في موضع النصب. (2) * * * وقد:- 13669- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام، عن الكسائي قال، أخبرنا حمزة، عن الأعمش أنه قرأ: (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ) . * * * = بالرفع، فرفع"جنات" على إتباعها"القنوان" في الإعراب، وإن لم تكن من جنسها، كما قال الشاعر: وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (3) * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن يقرأ ذلك إلا بها، النصبُ: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ) ، لإجماع الحجة من القرأة على تصويبها والقراءة بها، ورفضهم ما عداها، وبُعْدِ معنى ذلك من الصواب إذ قرئ رفعًا. * * *   (1) انظر تفسير"الجنات" فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) (2) في المطبوعة، أسقط"في" من الكلام سهوًا. (3) مضى البيت وتخريجه مرارًا 1: 140/6: 423/ 10: 408. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 577 وقوله:"والزيتون والرمان"، عطف ب"الزيتون" على"الجنات"، بمعنى: وأخرجنا الزيتونَ والرمان مشتبهًا وغير متشابه. * * * وكان قتادة يقول في معنى"مشتبهًا وغير متشابه"، ما:- 13670 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه"، قال: مشتبهًا ورقه، مختلفًا ثمرُه. * * * وجائز أن يكون مرادًا به: مشتبهًا في الخلق، مختلفًا في الطعم. (1) * * * قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وشجر الزيتون والرمان، فاكتفى من ذكر"الشجر" بذكر ثمره، كما قيل: (واسأل القرية) ، [سورة يوسف: 82] ، فاكتفى بذكر"القرية" من ذكر"أهلها"، لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه. * * * القول في تأويل قوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: (انْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ) ، بفتح"الثاء" و"الميم". * * * وقرأه بعض قرأة أهل مكة وعامة قرأة الكوفيين: (إلَى ثُمُرِهِ) ، بضم"الثاء" و"الميم". * * *   (1) انظر تفسير"متشابه" فيما سلف 1: 385 - 394/6: 173. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 578 = فكأنّ من فتح"الثاء" و"الميم" من ذلك، وجَّه معنى الكلام: انطروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمرَ = وأن"الثمر" جمع"ثمرة"، كما"القصب"، جمع"قصبة"، و"الخشب" جمع"خشبة". * * * = وكأنّ من ضم"الثاء" و"الميم"، وجَّه ذلك إلى أنه جمع"ثِمَار"، كما"الحُمُر" جمع"حمار"، و"الجُرُب" جمع"جراب"، وقد:- 13671 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب: أنه كان يقرأ: (إلَى ثُمُرِهِ) ، يقول: هو أصناف المال. 13672 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا محمد بن عبيد الله، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال:"الثُّمُر"، هو المال = و"الثمر"، ثَمَر النخل. (1) * * * وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأ: (انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ) بضم"الثاء" و"الميم"، لأن الله جل ثناؤه وصفَ أصنافًا من المال كما قال يحيى بن وثاب، وكذلك حبّ الزرع المتراكب، وقنوان النخل الدانية، والجنات من الأعناب والزيتون والرمان، فكان ذلك أنواعًا من الثمر، فجمعت"الثمرة""ثمرًا"، ثم جمع"الثمر""ثمارًا"، ثم جمع ذلك فقيل: (انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ) ، فكان ذلك جمع"الثمار" و"الثمار" جمع"الثمر" = و"إثماره"، عقدُ الثمر. * * * وأما قوله:"وَينْعه"، فإنه نُضجه وبلوغُه حين يبلغ. * * *   (1) روي عن مجاهد أبين من هذا إذ قال: "هو الذهب والفضة"، كما حكاه الفارسي عنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 579 وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في"يَنْعه" إذا فتحت ياؤه، هو جمع"يانع"، كما"التَّجْر" جمع"تاجر"، و"الصحب" جمع"صاحب". (1) * * * وكان بعض أهل الكوفة ينكر ذلك، ويرى أنه مصدر من قولهم:"ينع الثمر فهو يَيْنع يَنْعًا"، ويحكى في مصدره عن العرب لغات ثلاثًا:"يَنْع"، و"يُنْع"، و"يَنَع"، وكذلك في"النَّضْج""النُّضج" و"النَّضَج". (2) * * * وأما في قراءة من قرأ ذلك: (وَيَانِعِهِ) ، فإنه يعني به: وناضجه، وبالغه. * * * وقد يجوز في مصدره"يُنُوعًا"، ومسموع من العرب:"أينعت الثمرة تُونِع إيناعًا"، ومن لغة الذين قالوا:"ينع"، قول الشاعر: (3) فِي قِبَابٍ عِنْدَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا (4)   (1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 202، وهو منسوب أيضًا إلى ابن كيسان، كما جاء في لسان العرب (ينع) . (2) ذكر أبو جعفر في"ينع" و"نضج" مصدرًا ثالثًا غير الذي ذكره أصحاب المعاجم، فإنهم اقتصروا في (ينع) على فتح الياء وسكون النون، وضمها وسكون النون = واقتصروا في (نضج) على فتح النون وسكون الضاد، وضمها وسكون الضاد. أما هذا المصدر الثالث الذي رواه أبو جعفر ولم يضبطه، فلم أجده في شيء من المعاجم، وهو مما يزاد عليها، إلا أني استظهرت ضبطه في الحرفين بفتح الياء والنون في ينع"، وبفتح النون والضاد في"نضج". وسيذكر أبو جعفر مصدرًا آخر بعد قليل وهو"ينوع". (3) هذا شعر مختلف فيه من شعر يزيد بن معاوية، ونسبه المبرد إلى الأحوص، ونسبه الجاحظ إلى أبي دهبل، وينسب إلى الأخطل خطأ. (4) الحيوان 4: 10، الكامل 1: 226، أنساب الأشراف 4/2/2، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 202، تاريخ ابن كثير 8: 234، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 140، معجم ياقوت (الماطرون) ؛ الخزانة 3: 279، العيني (هامش الخزانة 1: 149) ، واللسان (ينع) وغيرها. من شعر يقال إن يزيد قاله في نصرانية ترهبت في دير خرب عند الماطرون، وهو موضع بالشأم. وهذا هو الشعر، مع اختلاف الرواية فيه: آبَ هَذَا الهَمُّ فَاكْتَنَعَا ... وأتَرَّ النَّوْمَ فَاْمْتَنَعَا رَاعِيًا للِنَّجْمِ أرْقُبُهُ ... فَإِذَا ما كَوْكَبٌ طَلَعَا حَامَ، حَتَّى إنَّنِي لأرَى ... أنَّهُ بِالْغَورِ قَدْ وَقَعَا وَلَهَا بالمَاطِرُونِ إذَا ... أكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا خُرْفَةٌ، حَتَّى إذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ منْ جِلَّقٍ بِيَعَا فِي قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا عِنْد غَيْري، فَالْتَمِسْ رَجُلا ... يأكُلُ التَّنُّوَم والسَّلَعَا ذَاكَ شَيءٌ لَسْتُ آكُلُهُ ... وَأرَاهُ مَأْكَلا فَظِعَا "اكتنع الهم"، دنا دنوًّا شديدا. و"أتر النوم" أبعده، والرواية المشهورة و"أمر النوم" من المرارة. وقوله: "أكل النمل الذي جمعا"، يعني زمن الشتاء. و"الخرفة" ما يجتنى من الفاكهة. و"ارتبعت" دخلت في الربيع. و"جلق" قرية من قرى دمشق. و"البيع" جمع"بيعة" (بكسر الباء) ، وهي كنيسة اليهود أو النصارى، و"الدسكرة" بناء كالقصر، كانت الأعاجم تتخذه للشرب والملاهي. و"التنوم" و"السلع" نباتان، تأكلها جفاة أهل البادية. و"فظع"، فظيع يستبشعه آكله. ورواية البلاذري للبيت: فِي جِنَانٍ ثَمَّ مُؤْنِقَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 580 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13763 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وينعه"، يعني: إذا نضج. 13674- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"انطروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه"، قال:"ينعه"، نضجه. 13675 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 581 " انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه"، أي نضجه. 13676- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وينعه"، قال: نضجه. 13677 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وينعه"، يقول: ونضجه. 13678- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وينعه"، قال: يعني نضجه. 13679- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وينعه"، قال: نضجه. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره إن في إنزال الله من السماء الماءَ الذي أخرج به نباتَ كل شيء، والخضِرَ الذي أخرج منه الحبَّ المتراكب، وسائر ما عدَّد في هذه الآية من صنوف خلقه ="لآيات"، يقول: في ذلكم، أيها الناس، إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره، وعند ينعه وانتهائه، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموّه، علمتم أن له مدبِّرًا ليس كمثله شيء، ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد، وكان فيه حجج وبرهان وبيان (1) ="لقوم يؤمنون"،   (1) انظر تفسير"آية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 582 يقول: لقوم يصدقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء. وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون، لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها، دون من قد طَبعَ الله على قلبه، فلا يعرف حقًّا من باطل، ولا يتبين هدًى من ضلالة. * * * الجزء: 11 ¦ الصفحة: 583 القول في تأويل قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الآلهةَ والأندادَ لله شركاء، الجن، كما قال جل ثناؤه: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) [سورة الصافات: 158] . * * * وفي الجن وجهان من النصب. أحدهما: أن يكون تفسيرًا للشركاء. (1) . والآخر: أن يكون معنى الكلام: وجعلوا لله الجن شركاء، وهو خالقهم. * * * واختلفوا في قراءة قوله:"وخلقهم". فقرأته قراء الأمصار: (وَخَلَقَهُمْ) ، على معنى أن الله خلقهم، منفردًا بخلقه إياهم. (2) . * * * وذكر عن يحيى بن يعمر ما:- 13680 - حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر: أنه قال:" شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ".   (1) - ((التفسير)) ، هو البدل (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 348. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 بجزم"اللام" بمعنى أنهم قالوا: إنّ الجنّ شركاء لله في خلقه إيّانا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: (وَخَلَقَهُمْ) ، لإجماع الحجة من القرأة عليها. * * * وأما قوله: (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) ، فإنه يعني بقوله: (خرقوا) اختلقوا. * * * يقال:"اختلق فلان على فلان كذبًا" و"اخترقه"، إذا افتعله وافتراه. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13681 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: وجعلوا لله شركاء الجن والله خلقهم="وخرقوا له بنين وبنات"، يعني أنهم تخرَّصوا. 13682- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وخرقوا له بنين وبنات بغير علم"، قال: جعلوا له بنين وبنات بغير علم. 13683- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وخرقوا له بنين وبنات بغير علم"، قال: كذبوا. 13684 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13685- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 348، ومجاز القرآن أبي عبيدة 1: 203. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 قوله:"وجعلوا لله شركاء الجن" كذبوا="سبحانه وتعالى عما يصفون"، عما يكذبون. أما العرب فجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون من الغلمان= وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرُون. (1) 13686- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"وخرقوا له بنين وبنات بغير علم" قال: خرصوا له بنين وبنات. 13687- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وخرقوا له بنين وبنات بغير علم"، يقول: قطعوا له بنين وبنات. (2) قالت العرب: الملائكة بنات الله= وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير ابنا الله. 13688- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وخرقوا له بنين وبنات بغير علم"، قال:"خرقوا"، كذبوا، لم يكن لله بنون ولا بنات= قالت النصارى: المسيح ابن الله= وقال المشركون: الملائكة بنات الله= فكلٌّ خرقوا الكذب،"وخرقوا"، اخترقوا. 13689- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"وجعلوا لله شركاء الجن"، قال: قول: الزنادقة="وخرقوا له"، قال ابن جريج، قال مجاهد:"خرقوا"، كذبوا. 13690- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن جويبر، عن الضحاك:"وخرقوا له بنين وبنات"، قال: وصفوا له. 13691- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن أبي عمرو:   (1) اقرأ آية سورة الصافات: 158. (2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: ((قطعوا)) بمعنى: اختلقوا وادعوا ونسبوا، ولم أجد هذا المجاز في شيء من كتب اللغة، فإن صح، وهو عندي قريب الصحة، فهو بالمعنى الذي ذكرت. إلا أن يكون محرفًا عن شيء لم أتبينه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 "وخرقوا له بنين وبنات"، قال: تفسيرها: وكذبوا. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ في عبادتهم إياه، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير="وخرقوا له بنين وبنات"، يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبعي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك. * * * القول في تأويل قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: تنزه الله، (1) وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه، في ادّعائهم له شركاء من الجن، واختراقهم له بنين وبنات، وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته، لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد، والذين تضطرّهم لضعفهم الشهواتُ إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذات، وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيء إلى شيء، ولا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذة. * * * وقوله:"تعالى"،"تفاعل" من"العلوّ"، والارتفاع. (2) * * * وروي عن قتادة في تأويل قوله:"عما يصفون"، أنه: يكذبون. 13692- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:   (1) انظر تفسير ((سبحان)) فيما سلف 11: 237، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((العلو)) فيما سلف 5: 405. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 "سبحانه وتعالى عما يصفون"، عما يكذبون. * * * وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك، أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه به، من ادعائهم له بنين وبنات= لا أنه وجه تأويل"الوصف" إلى الكذب. * * * القول في تأويل قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنَّ شركاءَ، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم="بديع السماوات والأرض"، يعني: مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن، (1) كما:- 13693- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"بديع السماوات والأرض"، قال: هو الذي ابتدع خلقهما جل جلاله، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله. * * * =" أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة"، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء. يقول: فإذا كان لا شيء إلا اللهُ خلقه، فأنّى يكون لله ولد، ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد؟   (1) انظر تفسير ((بديع)) فيما سلف 2: 540. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 القول في تأويل قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله خلق كل شيء، ولا خالق سواه. وكلُّ ما تدَّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه، خلقُه وعبيده، مِلكًا، كان الذي تدعونه ربًّا وتزعمون أنه له ولد، أو جنيًّا أو إنسيًّا="وهو بكل شيء عليم"، يقول: والله الذي خلق كل شيء، لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه، ولا يعزب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء، عالم بعددكم وأعمالكم، وأعمال من دعوتموه ربًّا أو لله ولدًا، وهو محصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي كلا بعمله. (1) * * *   (1) انظر تفسير ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذي خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم، هو الله ربكم، أيها العادلون بالله الآلهة والأوثان، والجاعلون له الجن شركاء، وآلهتكم التي لا تملك نفعًا ولا ضرًا، ولا تفعل خيرًا ولا شرًا="لا إله إلا هو". وهذا تكذيبٌ من الله جل ثناؤه للذين زعموا أن الجن شركاء الله. يقول جل ثناؤه لهم: أيها الجاهلون، إنه لا شيء له الألوهية والعبادة، إلا الذي خلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم، فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادةُ جميع من في السموات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها، فإنه خالق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 كل شيء وبارئه وصانعه، وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة="فاعبدوه"، يقول: فذلُّوا له بالطاعة والعبادة والخدمة، واخضعوا له بذلك. (1) = "وهو على كل شيء وكيل"، يقول: والله على كل ما خلق من شيء رقيبٌ وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته. (2) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار". فقال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها. * ذكر من قال ذلك: 13694- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، يقول: لا يحيط بصر أحدٍ بالملك. 13695- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، وهو أعظم من أن تدركه الأبصار. 13696- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي في قوله:   (1) انظر تفسير ((العبادة)) فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) . (2) انظر تفسير ((وكيل)) فيما سلف 11: 434 تعليق: 1، راجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [سورة القيامة: 22-23] ، قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، فذلك قوله:"لا تدركه الأبصار"، الآية. (1) * * * قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله قال:" حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت "، (2) [يونس: 90] قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون، ولا شك أن الغرق غير موصوف بأنه رآه، ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئًا. قالوا: فمعنى قوله:"لا تدركه الأبصار" بمعنى: لا تراه، بعيد. لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم لموسى حين قرُب منهم أصحاب فرعون: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ، [سورة الشعراء: 61] ، لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُدْرَكون، لقوله: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى) ، [سورة طه: 77] . قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه، ويدركه ولا يراه، فكان معلومًا بذلك أن قوله:"لا تدركه الأبصار"، من معنى: لا تراه الأبصار،   (1) الأثر: 13696 - ((سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري)) ثقة، روي عنه آنفًا برقم: 436. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا ((يونس بن عبد الله بن الحكم)) ، وهو خطأ، والصواب ما سيأتي في التفسير 29: 120 (بولاق) ، حيث روى هذا الخبر نفسه، بإسناده عن ((سعد بن عبد الله بن عبد الحكم)) . و ((خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروروذي)) روى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأخوه ((سعد)) . قال أبو حاتم: ((شيخ، ليس به بأس)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 /341. وأما ((أبو عرفجة)) ، فلم أعرف من يكون. و ((عطية العوفي)) ، هو ((عطية بن سعد بن جنادة العوفي)) ، وهو ضعيف، مضى مرارًا، واستوفى أخي السيد أحمد الكلام فيه في رقم: 305. وهذا الخبر سيرويه أبو جعفر مرة أخرى في التفسير 29: 120 (بولاق) . (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فلما أدركه الغرق)) ، وهو سهو، فإن نص التلاوة ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 بمعزل= وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار، لأن الإحاطة به غير جائزة. قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم، ولا تدركه أبصارهم، بمعنى: أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئًا يحيط به. قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يُرَى ولا يُدْرَك، جوازُ وصفه بأنه يعلم ولا يحاط بعلمه، (1) وكما قال جل ثناؤه: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) [سورة البقرة: 255] . قالوا: فنفى جل ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. قالوا: ومعنى"العلم" في هذا الموضع، المعلوم. قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء، نَفْيٌ عن أن يعلموه. قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علمًا نَفْيٌ للعلم به، كان كذلك، لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر، نفيُ رؤيته له. قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياءَ ولا يحيطون بها علمًا، كذلك جائزٌ أن يروا ربَّهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم، إذ كان معنى"الرؤية" غير معنى"الإدراك"، ومعنى"الإدراك" غير معنى"الرؤية"، وأن معنى"الإدراك"، إنما هو الإحاطة، كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل. قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله:"لا تدركه الأبصار"، لا تراه الأبصار؟ قلنا له: أنكرنا ذلك، لأن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهًا في القيامة إليه ناظرة، (2) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة، كما يُرَى القمر ليلة البدر، وكما ترونَ الشمس ليسَ دونها سحاب. (3) قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر، وحققتْ أخبارُ رسول الله صلى الله عليه   (1) في المطبوعة: ((ولا يحاط به)) ، وصواب السياق ما أثبت. (2) يعني آيتي سورة القيامة: 22، 23. (3) في المخطوطة، أسقط ((البدر)) ، والصواب إثباتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 وسلم بما ذكرنا عنه من قيله صلى الله عليه وسلم: إن تأويل قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [سورة القيامة: 22-23] ، أنه نظر أبصار العيون لله جل جلاله، (1) وكان كتاب الله يصدق بعضه بعضًا، وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحدُ هذين الخبرين ناسخًا للآخر، إذ كان غير جائز في الأخبار= لما قد بينا في كتابنا:"كتاب لطيف البيان، عن أصول الأحكام"، وغيره= (2) علم، أن معنى قوله:"لا تدركه الأبصار"، غير معنى قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ، فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله، ولا يدركونه بها، تصديقًا لله في كلا الخبرين، وتسليمًا لما جاء به تنزيله على ما جاء به في السورتين. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار. * ذكر من قال ذلك: 13697- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تدركه الأبصار"، لا يراه شيء، وهو يرى الخلائق. 13698- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حدَّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه فقد كذب! "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، [سورة الشورى: 51] ، ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين.   (1) انظر الأحاديث الصحاح في رؤية ربنا سبحانه يوم القيامة في صحيح البخاري (الفتح 13: 356، وما بعدها) ، وصحيح مسلم 3: 25، وما بعدها. والخبران اللذان ذكرهما أبو جعفر خبران صحيحان. (2) قوله: ((علم)) جواب قوله آنفًا: ((فإذ كان الله قد أخبر في كتابه ... )) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 13699- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله، لقد قَفَّ شعري مما قلت! ثم قرأت:"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير". (1) 13700- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وابن علية، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة بنحوه. (2) 13701- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن أحدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! قال الله:"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار". * * * فقال قائلو هذه المقالة: معنى"الإدراك" في هذا الموضع، الرؤية= وأنكروا أن يكون الله يُرَى بالأبصار في الدنيا والآخرة= وتأوّلوا قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ، بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابَه. * * * قال أبو جعفر: وتأول بعضهم في الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربَّهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها، ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردُّوا القول فيه إلى عقولهم، فزعموا أن عقولهم تُحِيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضرُوب من التمويهات، وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات.   (1) الأثران: 13698، 13699 - حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، رواه مسلم في صحيحه 3: 10، مختصرًا. ((قف شعري)) : إذا وقف من الفزع. (2) الأثر: 13700 - حديث داود، عن الشعبي، رواه مسلم مطولا 3: 8 - 10، وقد مضى جزء من هذا الخبر المطول فيما سلف برقم: 12280 - 12283. فانظر تخريجه هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل، أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئًا إلا ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها. قالوا: فما كان للأبصار مباينًا مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً. قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدودًا. قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان. قالوا: وأخرى، أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات، ومن شأن المتنسِّم أن يدرك الأعراف. (1) قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزًا أن يُقْضَى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسِّم إلا بإدراك الأعراف، فسد أن يكون جائزًا القضاءُ للبصر إلا بإدراك الألوان. (2) قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفًا بأنه ذو لون، صح أنه غير جائز أن يكون موصوفًا بأنه مرئيٌّ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه. وقال أهل هذه المقالة:"الإدراك"، في هذا الموضع، الرؤية. واعتلّ أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا:"الإدراك"، وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية، فإن الرؤية من أحد معانيه. وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصرُه شيئًا فيراه، وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك، وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية. قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له، دون ما لم   (1) في المطبوعة: ((المتنشم)) بالشين، وهو خطأ صرف، والصواب بالسين كما في المخطوطة. يقال ((تنسيم النسيم)) ، إذا تشممه. و ((الأعراف)) جمع ((عرف)) (بفتح فسكون) : الرائحة، طيبة كانت أو خبيثة. يقال: ((ما أطيب عرفها)) ، أي: رائحتها. (2) في المخطوطة: ((انقضاء البصر)) ، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 يره. قالوا: وقد أخبر الله أن وجوهًا يوم القيامة إليه ناظرة. قالوا، فمحالٌ أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤيةً. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضادٌّ وتعارض، وجب وصحّ أن قوله:"لا تدركه الأبصار"، على الخصوص لا على العموم، وأن معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة، إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) . * * * وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص، إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية: لا تدركه أبصارُ الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة، وأما بالرؤية فَبَلَى. (1) قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه في الآخرة= وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصارُ من يراه بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصارَ خلقه= فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه، هو الذي أثبته لنفسه، إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلا فيما قوَّاها جل ثناؤه على النفوذ فيه، وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شيء. قالوا: ولا شك في خصوص قوله:"لا تدركه الأبصار"، وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم، غير أنا لا ندري أيَّ معاني الخصوص الأربعة أريد بالآية. واعتلُّوا لتصحيح القول بأن الله يرى في الآخرة، بنحو علل الذين ذكرنا قبل. * * * وقال آخرون: الآية على العموم، ولن يدرك الله بصرُ أحد في الدنيا والآخرة; ولكن الله يُحدث لأوليائه يوم القيامة حاسّة سادسة سوى حواسِّهم الخمس، فيرونه بها.   (1) ((بلى)) استعمالها مع غير الجحد، قد سلف بيانه ودليله 2: 280، 510، ثم 10: 98، تعليق: 4. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 واعتلوا لقولهم هذا بأنّ الله تعالى ذكره نفى عن الأبصار أن تدركه، من غير أن يدلّ فيها أو بآية غيرها على خصوصها. قالوا: وكذلك أخبرَ في آية أخرى أن وجوهًا إليه يوم القيامة ناظرة. قالوا: فأخبار الله لا تتنافى ولا تتعارض، (1) وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنزيل. واعتلُّوا أيضًا من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزًا أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه وإن زيد في قواها، وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت، لأن كل حاسة خلقت لإدراك معنًى من المعاني، فهي وإن ضعفت كل الضعف، فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لإدراكه وإن ضعف إدراكها إياه، ما لم تُعْدم. قالوا: فلو كان في البصر أن يُدرك صانعه في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ويراه، وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها وإن ضعف إدراكه إياه. قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا، كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلا بهيئتها في الدنيا في أنها لا تدرك إلا ما كان من شأنها إدراكه في الدنيا. قالوا: فلما كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أنّ وجوهًا في الآخرة تراه، علم أنها تراه بغير حاسة البصر، إذ كان غير جائز أن يكون خبرُه إلا حقًّا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر"="وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب"، (2) فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه: (كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [سورة المطففين: 15] . فأما ما اعتلَّ به منكرُو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار، لما كانت لا ترى إلا ما باينها، وكان بينها وبينه فضاءٌ وفرجة، وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون   (1) في المطبوعة: ((لا تتباين)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب قراءتها. (2) انظر ص: 16، تعليق: 1. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 رؤية الله بالأبصار كذلك، لأن في ذلك إثبات حدٍّ له ونهايةٍ، فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه= فإنه يقال لهم: (1) هل علمتم موصوفًا بالتدبير سوى صانعكم، إلا مماسًّا لكم أو مباينًا؟ فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك، كُلِّفوا تبيينه، ولا سبيل إلى ذلك. وإن قالوا: لا نعلم ذلك. قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماسًّا لكم ولا مباينًا، وهو موصوف بالتدبير والفعل، ولم يجب عندكم إذْ كنتم لم تعلموا موصوفًا بالتدبير والفعل غيره إلا مماسًّا لكم أو مباينًا، أن يكون مستحيلا العلم به، وهو موصوف بالتدبير والفعل، لا مماس ولا مباين؟ فإن قالوا: ذلك كذلك. قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلا ما باينها وكانت بينه وبينها فرجة، قد تراه وهو غير مباين لها ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء، كما لا تعلم القلوب موصوفًا بالتدبير إلا مماسًّا لها أو مباينًا، وقد علمتْه عندكم لا كذلك؟ وهل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفًا بالتدبير والفعل معلومًا، لا مماسًّا للعالم به أو مباينًا= وأجاز أن يكون موصوفًا برؤية الأبصار، لا مماسًّا لها ولا مباينًا، فرق؟ ثم يسألون الفرقَ بين ذلك، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك: أن من شأن الأبصار إدراك الألوان، كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات، ومن شأن المتنسِّم درَك الأعراف، فمن الوجه الذي فسد أن يُقضى للسمع بغير درك الأصوات، فسد أن يُقضى للأبصار لغير درك الألوان. (2)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((وإنه يقال لهم)) بالواو، وصواب السياق ما أثبت. (2) في المطبوعة: ((أن يقتضي السمع لغير)) ، و ((أن تقتضي الأبصار لغير)) ، وأما المخطوطة، ففيها ((أن يقضي السمع ... )) ، و ((أن يقضي للأبصار)) ، والصواب ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم، موصوفًا بالتدبير والفعل إلا ذا لونٍ، وقد علمتموه موصوفًا بالتدبير لا ذا لونٍ؟ فإن قالوا:"نعم"= لا يجدون من الإقرار بذلك بدًّا، إلا أن يكذبوا فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفًا بالتدبير والفعل غير ذي لون، فيكلفون بيان ذلك، ولا سبيل إليه. (1) فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك، فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان، كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفًا بالتدبير إلا ذا لون، وقد وجدتموها علمته موصوفًا بالتدبير غير ذي لون. ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله. ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصدَ الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القدرَ الذي ذكرنا، ليعلم الناظرُ في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيانُ عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يتردّدون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة. * * * وأما قوله:"وهو اللطيف الخبير"، فإنه يقول: والله تعالى ذكره المتيسر له من إدراك الأبصار، (2) والمتأتِّي له من الإحاطة بها رؤيةُ ما يعسر على الأبصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذر عليها="الخبير"، يقول: العليم بخلقه   (1) في المطبوعة: ((فيكلفوا بيان ذلك)) ، وفي المخطوطة: ((فدلقوا بيان ذلك)) ، وهي غير مقروءة، ولعل الصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: ((الميسر له)) ، والصواب من المخطوطة، ولم يحسن قراءتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 وأبصارهم، والسبب الذي له تعذر عليها إدراكه، فلطف بقدرته فهيأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه، وخبرَ بعلمه كيف تدبيرها وشؤونها وما هو أصلح بخلقه، (1) كالذي: 13702- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله:"اللطيف الخبير"، قال:"اللطيف" باستخراجها="الخبير"، بمكانها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) } قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الذين نبَّههم بهذه الآيات من قوله: (2) "إن الله فالق الحب والنوى" إلى قوله:"وهو اللطيف الخبير" على حججه عليهم، وعلى سائر خلقه معهم، (3) العادلين به الأوثان والأنداد، والمكذبين بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم من عند الله= قل لهم يا محمد:"قد جاءكم"، أيها العادلون بالله،   (1) انظر تفسير ((الخبير)) فيما سلف من فهارس اللغة (خبر) . (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((لهذه الآيات)) باللام، وصواب السياق يقتضي ما أثبت. (3) في المطبوعة ((وعلى تبيين خلقه معهم)) ، وهو كلام لا معنى له، وهو في المخطوطة سيئ الكتابة، وصواب قراءته ما أثبت. قوله: ((وعلى سائر خلقه معهم)) ، معطوف على قوله: ((عليهم)) قبله. وقوله: ((على حججه)) ، السياق: ((أن يقول لهؤلاء الذين نبههم بهذه الآيات ... على حججه عليهم)) . وقوله بعد: ((العادلين به الأوثان)) ، صفة لقوله آنفًا ((أن يقول لهؤلاء الذين نبههم بهذه الآيات.. .)) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 والمكذبون رسوله="بصائر من ربكم"، أي: ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر. * * * = وهي جمع"بصيرة"، ومنه قول الشاعر: (1) حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ ... وَبَصِيرَتِي يَعْدُو بِهَا عَتَدٌ وَأَى (2) يعني بالبصيرة: الحجة البينة الظاهرة، (3) كما:- 13703- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"قد جاءكم بصائر من ربكم" قال:"البصائر" الهدى، بصائر في قلوبهم لدينهم، وليست ببصائر الرؤوس. وقرأ: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: 46] وقال: إنما الدين بصره وسمعه في هذا القلب. (4) 13704- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قد جاءكم بصائر من ربكم"، أي بينة.   (1) هو الأسعر الجعفي. (2) الأصمعيات: 23 (وطبعة المعارف: 157) ، والوحشيات رقم: 58، المخصص 1: 160، اللسان (بصر) (عتد) (وأي) . وغيرها كثير. وهي من قصيدة عير فيها إخوته لأبيه، وذلك أن أباه قتل وهو غلام، فأخذ إخوته لأبيه الدية فأكلوها، فلما شب الأسعر، أدرك بثأر أبيه، وقال قبله: ولقد عَلِمْتُ، عَلَى تَجَشُّمِيَ الرَّدَى ... أَنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى وفسر أصحاب اللغة ((البصيرة)) هنا بأنها الدم ما لم يسل، يعني: دماءهم في أبدانهم، يعير أخوته. وقال غيرهم: ((البصائر)) دم أبيهم، يقول: تركوا دم أبيهم خلفهم ولم يثأروا به، وطلبته أنا. و ((عتد)) (بفتح العين، وفتح التاء أو كسرها) : الفرس الشديد التام الخلق، السريع الوثبة، المعد للجري، ليس فيه اضطراب ولا رخاوة. و ((الوأي)) ، الفرس السريع الطويل المقتدر الخلق. (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 203 (4) ((الدين)) (بتشديد الياء وكسرها) : المتدين، صاحب الدين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 وقوله:"فمن أبصر فلنفسه" يقول: فمن تبين حجج الله وعرَفها وأقرَّ بها، وآمن بما دلّته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله وما جاء به، فإنما أصاب حظ نفسه، ولنفسه عمل، وإياها بَغَى الخير="ومن عمي فعليها"، يقول: ومن لم يستدلّ بها، ولم يصدق بما دلَّته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنزيله، ولكنه عمي عن دلالتها التي تدل عليها، يقول: فنفسَه ضر، وإليها أساء لا إلى غيرها. * * * وأما قوله:"وما أنا عليكم بحفيظ"، يقول: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، والله الحفيظ عليكم، الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. (1) القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما صرفت لكم، أيها الناس، الآيات والحجج في هذه السورة، وبينتها، فعرفتكموها، (2) في توحيدي وتصديق رسولي وكتابي ووقَّفتكم عليها، (3) فكذلك أبيِّن لكم آياتي وحججي في كل ما جهلتموه فلم تعرفوه من أمري ونهيي، كما:- 13705- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) انظر تفسير ((الحفيظ)) فيما سلف 8: 562. (2) انظر تفسير ((تصريف الآيات)) فيما سلف 11: 433: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((ووصيتكم عليها)) ، وهو لا معنى له، صوابه في المخطوطة، وإن كانت سيئة الكتابة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 حدثنا أسباط، عن السدي:"وكذلك نصرف الآيات"، لهؤلاء العادلين بربهم، كما صرفتها في هذه السورة، ولئلا يقولوا: درسْتَ. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قَرَأة أهل المدينة والكوفة: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ، يعني: قرأت، أنت، يا محمد، بغير"ألف". * * * وقرأ ذلك جماعة من المتقدمين، منهم ابن عباس، على اختلاف عنه فيه، وغيرُه وجماعة من التابعين، وهو قراءة بعض قَرَأة أهل البصرة:"وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ"، بألف، بمعنى: قارأت وتعلمت من أهل الكتاب. * * * وروى عن قتادة: أنه كان يقرؤه:"دُرِسَتْ"، بمعنى: قرئت وتليت. (1) * * * وعن الحسن أنه كان يقرؤه:"دَرَسَتْ"، بمعنى: انمحت. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ، بتأويل: قرأتَ وتعلمت; لأن المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [سورة النحل: 103] . فهذا خبرٌ من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فقراءة: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ، يا محمد، بمعنى: تعلمت من أهل الكتاب، أشبهُ   (1) في المطبوعة: ((قرأت وتليت)) ، وهو خطأ، والصواب ما في المخطوطة. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 349. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 349، وفسره بقوله: ((تقادمت، أي: هذا الذي تتلوه علينا شيء قد تطاول، ومر بنا)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 بالحق، وأولى بالصواب من قراءة من قرأه:"دارسْتَ"، بمعنى: قارأتهم وخاصمتهم، وغير ذلك من القراءات. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، على قدر اختلاف القرأة في قراءته. (1) * ذكر من قرأ ذلك: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ، من المتقدمين، وتأويله بمعنى: تعلمت وقرأت. 13706- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح قال، حدثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وليقولوا درست) ، قالوا: قرأت وتعلمت. تقول ذلك قريش. 13707- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: (وليقولوا درست) قال: قرأت وتعلمت. 13708- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل وافقه، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: (وليقولوا درست) ، قال: قرأت وتعلمت. 13709- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وليقولوا درست) ، يقول: قرأت الكتب. 13710- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنى عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (درست) ، يقول: تعلمت وقرأت. 13711- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله: (درست) ؟ قال: قرأت وتعلمت.   (1) انظر تفسير ((الدرس)) فيما سلف 6: 544 - 546. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 13712- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. * * * * ذكر من قرأ ذلك (دَارَسْتَ) ، وتأوله بمعنى: جادلت، من المتقدمين. 13713- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد، عن ابن عباس:"دارست"، يقول: قارأت. 13714- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها:"وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ"، أحسبه قال: قارأت أهل الكتاب. 13715- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"وليقولوا دارست"، قال: قارأت وتعلمت. 13716- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت التميمي يقول: سألت ابن عباس عن قوله:"وليقولوا دارست"، قال: قارأت وتعلَّمت. 13717- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير قال، كان ابن عباس يقرؤها:"دَارَسْتَ". 13718- حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو المعلى قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: كان ابن عباس يقرأ:"دَارَسْتَ"، بالألف، بجزم السين، ونصب التاء. 13719- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال، أخبرني عمرو بن كيسان: أن ابن عباس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 كان يقرأ:"دَارَسْتَ"، تلوت، خاصمت، جادلت. 13720- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن كيسان، قال ابن عباس في:"دارست"، قال: تلوت، خاصمت، جادلت. 13721- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وليقولوا دارست"، قال: قارأت. 13722- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ:"دَارَسْتَ"، بالألف أيضًا، منتصبة التاء، وقال: قارأت. 13723- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ:"دَارَسْتَ"، أي: ناسخت. 13724- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"دارست"، قال: فاقهت، قرأت على يهود، وقرأوا عليك. 13725- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وليقولوا دارست"، قال: قارأت، قرأت على يهود، وقرأوا عليك. 13726- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"دارست"، يعني، أهلَ الكتاب. 13727- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"دارست"، قال: قرأت على يهود، وقرأوا عليك. 13728- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وليقولوا دارست"، قال: قالوا دارستَ أهل الكتاب، وقرأت الكتب وتعلَّمتها. * * * * ذكر من قرأ ذلك:"دُرِسَتْ" بمعنى: تُليت، وقُرِئت، (1) على وجه ما لم يسمَّ فاعله. 13729- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا الحسين المعلم وسعيد، عن قتادة:"وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دُرِسَتْ"، أي: قرئت وتعلمت. 13730- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال قتادة:"دُرِست"، قرئت = وفي حرف ابن مسعود:"دَرَسَ". * * * ذكر من قال ذلك:"دَرَسَتْ" بمعنى: انمحت وتقادمت، أي هذا الذي تتلوه علينا قد مرَّ بنا قديمًا، وتطاولت مدته. (2) 13731- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقرأ:"وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ"، أي: انمحت. 13732- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال: في قراءة ابن مسعود:"دَرَسَتْ"، بغير ألف، بنصب السين، ووقف التاء. (3) 13733- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال، سمعت ابن الزبير يقول: إن صبيانًا ههنا يقرؤون:"دَارَسْتَ" وإنما هي"دَرَسَتْ".   (1) في المخطوطة والمطبوعة: ((نبئت)) ، وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت، كما سلف، ص: 26 س: 9. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 349. (3) ((الوقف)) في اصطلاحهم قديمًا، هو ((السكون)) عند النحويين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 13734- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمرقال: قال الحسن:"وليقولوا دَرَسَتْ": يقول: تقادمت وانمحت. * * * وقرأ ذلك آخرون:"دَرَسَ"، من"درس الشيء"، تلاه. 13735- حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي قال، حدثنا أبو عبيدة قال، حدثنا حجاج، عن هارون قال: هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود:"وَلِيَقُولُوا دَرَسَ"، قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قرَأ. * * * وإنما جاز أن يقال مرة:"دَرَسْتَ"، ومرة"دَرَسَ"، فيخاطب مرة، ويخبر مرة، من أجل القول. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا أولى هذه القراءات في ذلك الصواب عندنا، والدلالة على صحة ما اخترنا منها. * * * وأما تأويل قوله:"ولنبينه لقوم يعلمون"، يقول تعالى ذكره: كما صرفنا الآيات والعبر والحجج في هذه السورة لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأنداد، كذلك نصرف لهم الآيات في غيرها، كيلا يقولوا لرسولنا الذي أرسلناه إليهم:"إنما تعلمت ما تأتينا به تتلوه علينا من أهل الكتاب"، فينزجروا عن تكذيبهم إياه، وتقوُّلهم عليه الإفك والزور، ولنبين بتصريفنا الآيات الحقَّ، لقوم يعلمون الحق إذا تبيَّن لهم فيتبعوه ويقبلوه، وليسوا كمن إذا بُيِّن لهم عَمُوا عنه فلم يعقلوه، وازدادوا من الفهم به بعدًا. (1) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((من الفهم به)) ، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 القول في تأويل قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اتبع، يا محمد، ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك، فاعمل به، وانزجر عما زجرك عنه فيه، ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الأوثان والأصنام، فإنه لا إله إلا هو. يقول: لا معبود يستحق عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح، وجاعلُ الليل سكنًا، والشمسَ والقمر حسبانًا = (وأعرض عن المشركين) ، يقول: ودع عنك جدالهم وخصومتهم. (1) ثم نسخ ذلك جل ثناؤه بقوله في براءة: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، الآية [سورة التوبة: 5] . كما:- 13736- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أما قوله: (وأعرض عن المشركين) ونحوه، مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين، فإنه نسخ ذلك قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أعرض عن هؤلاء المشركين بالله، ودع عنك جدالهم وخصومتهم ومسابَّتهم = (ولو شاء   (1) انظر تفسير ((أعرض)) فيما سلف 11: 436، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 الله ما أشركوا) ، يقول: لو أراد ربُّك هدايتهم واستنقاذهم من ضلالتهم، للطف لهم بتوفيقه إياهم فلم يشركوا به شيئًا، ولآمنوا بك فاتبعوك وصدَّقوا ما جئتهم به من الحق من عند ربك = (وما جعلناك عليهم حفيظًا) ، يقولُ جل ثناؤه: وإنما بعثتك إليهم رسولا مبلِّغًا، ولم نبعثك حافظًا عليهم ما هم عاملوه، تحصي ذلك عليهم، فإن ذلك إلينا دونك (1) = (وما أنت عليهم بوكيل) ، يقول: ولست عليهم بقيِّم تقوم بأرزاقهم وأقواتهم ولا بحفظهم، فما لم يُجْعل إليك حفظه من أمرهم. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13737- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) ، يقول سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: ولا تسبُّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد، فيسبَّ المشركون اللهَ جهلا منهم بربهم، واعتداءً بغير علم، كما:- 13738- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ولا تسبوا الذين   (1) انظر تفسير ((حفيظ)) فيما سلف ص: 25، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((وكيل)) فيما سلف ص: 13، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم) ، قال: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّ آلهتنا، أو لنهجوَنَّ ربك! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم. 13739- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم) ، كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيردّون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسِبُّوا لربهم، (1) فإنهم قومٌ جهلة لا علم لهم بالله. 13740- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم) ، قال: لما حضر أبا طالب الموتُ، قالت قريش: انطلقوا بنا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب:"كان يمنعه فلما مات قتلوه"! فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبيّ ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له:"المطلب"، قالوا: استأذن على أبي طالب! فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخولَ عليك! فأذن لهم، فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإنّ محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحبّ أن تدعوه فتنهاهُ عن ذكر آلهتنا، ولندَعْه وإلهه! فدعاه، فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك! قال له أبو طالب:   (1) ((استسب له)) ، عرضه للسب وجره إليه. وفي حديث أبي هريرة: (لا تمشِيَنَّ أَمَامَ أَبِيكَ، ولا تجلِسْ قَبْلَهُ، ولا تَدْعُه باسْمه، ولا تَسْتَسِبَّ لهُ) ، أي: لا تعرضه للسب وتجره إليه، بأن تسب أبا غيرك، فيسب أباك مجازاة لك = وهذا أدب يفتقده الناس يومًا بعد يوم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 قد أنصفك قومك، فاقبل منهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدَّت لكم الخراج؟ (1) قال أبو جهل: نعم وأبيك، لنعطينكها وعشرَ أمثالها، فما هي؟ قال: قولوا:"لا إله إلا الله"! فأبوا واشمأزُّوا. قال أبو طالب: يابن أخي، قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها! قال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يديّ، (2) ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يديّ ما قلت غيرها! إرادةَ أن يُؤْيسهم، فغضبوا وقالوا: لتكفّنَّ عن شتمك آلهتنا، أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك. فذلك قوله (فيسبوا الله عدوًا بغير علم) . 13741- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوًا بغير علم، فأنزل الله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم) . 13742- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فيسبوا الله عدوًا بغير علم) قال: إذا سببت إلهه سبَّ إلهك، فلا تسبوا آلهتهم. * * * قال أبو جعفر: وأجمعت الحجة من قرأة الأمصار على قراءة ذلك: (3) (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، بفتح العين، وتسكين الدال، وتخفيف الواو من قوله: (عدوًا) ، على أنه مصدر من قول القائل:"عدا فلان على فلان"،   (1) في المطبوعة: ((ودانت لكم بها العجم بالخراج)) ، وفي المطبوعة: ((ودانت لكم بها العجم الحراح)) غير منقوطة، وفي تفسير ابن كثير 3: 374، ما أثبته، وهو الصواب إن شاء الله. (2) في المطبوعة: ((حتى يأتوا بالشمس)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: ((وأجمعت الأمة من قراء الأمصار)) ، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 إذا ظلمه واعتدى عليه،"يعدو عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوانًا". و"الاعتداء"، إنما هو:"افتعال"، من ذلك. (1) * * * روى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك:"عُدُوًّا" مشددة الواو. 13743- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن عثمان بن سعد: (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا) ، مضمومة العين، مثقّلة. (2) * * * وقد ذكر عن بعض البصريين أنه قرأ ذلك: (3) "فَيَسُبُّوا الَله عَدُوًّا"، يوجِّه تأويله إلى أنهم جماعة، كما قال جل ثناؤه: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ) ، [سورة الشعراء: 77] ، وكما قال: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) ، [سورة الممتحنة: 1] ويجعل نصب"العدوّ" حينئذ على الحال من ذكر"المشركين" في قوله: (فيسبوا) ، = فيكون تأويل الكلام: ولا تسبوا أيها المؤمنون الذين يدعو المشركون من دون الله، فيسب المشركون الله، أعداءَ الله، بغير علم. وإذا كان التأويل هكذا، كان"العدوّ"، من صفة"المشركين" ونعتهم، كأنه قيل: فيسب المشركون أعداء الله، بغير علم= ولكن"العدوّ" لما خرج مخرج النكرة وهو نعت للمعرفة، نصب على الحال. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءةُ من قرأ بفتح العين وتخفيف الواو، لإجماع الحجة من القرأة على قراءة ذلك كذلك، وغير جائز خلافُها فيما جاءت به مجمعة عليه. (4) * * *   (1) انظر تفسير ((عدا)) فيما سلف 10: 522، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) الأثر: 13743 - ((عثمان بن سعد التميمي)) ، أبو بكر الكاتب المعلم. روى عن أنس، والحسن والبصري، وابن سيرين، وعكرمة، والمجاهد. تكلموا فيه. مترجم في التهذيب. (3) نسبها ابن خالويه في شواذ القراءات: 40، إلى بعض المكيين، ولم يبينه. وقال أبو حيان في تفسيره 4: 200 ((وقال ابن عطية: وقرأ بعض المكيين، وعينه الزمخشري فقال: عن ابن كثير)) . (4) في المطبوعة أسقط ((به)) ، وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) } يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثَانَ والأصنام، عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان بخذلاننا إيّاهم عن طاعة الرحمن، (1) كذلك زيَّنا لكل جماعةٍ اجتمعت على عملٍ من الأعمال من طاعة الله ومعصيته، عملَهم الذي هم عليه مجتمعون، (2) ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم (3) ="فينبئهم بما كانوا يعملون". يقول: فيُوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا، (4) ثم يجازيهم بها، إن كان خيرًا فخيرًا، وإن كان شرًّا فشرًّا، أو يعفو بفضله، ما لم يكن شركًا أو كفرًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحلف بالله هؤلاء العادلون بالله جَهْد حَلِفهم، وذلك أوكدُ ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبُها وأشدُّها (5) = (لئن جاءتهم   (1) انظر تفسير ((زين)) فيما سلف 11: 357 (2) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف 11: 354، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((المرجع)) فيما سلف 11: 407، تعليق: 5، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((أنبأ)) فيما سلف 11: 434، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) انظر ((أقسم)) و ((جهد أيمانهم)) فيما سلف 10: 407 - 409، ولم يفسرهما. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 آية) ، يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدِّق ما تقول، يا محمد، مثلُ الذي جاء مَنْ قبلنا من الأمم = (ليؤمنن بها) ، يقول: قالوا: لنصدقن بمجيئها بك، وأنك لله رسولٌ مرسل، وأنّ ما جئتنا به حقُّ من عند الله. وقيل:"ليؤمنن بها"، فأخرج الخبر عن"الآية"، والمعنى لمجيء الآية. يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إنما الآيات عند الله) ، وهو القادر على إتيانكم بها دون كل أحد من خلقه = (وما يشعركم) ، يقول: وما يدريكم (1) = (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) ؟ * * * وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه، هم الذين آيس الله نبيَّه من إيمانهم من مشركي قومه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13744- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) ، إلى قوله: (يجهلون) ، سألت قريش محمدًا أن يأتيهم بآية، واستحلفهم: ليؤمننّ بها. 13745- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح: (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) ، ثم ذكر مثله. 13746- حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: كلّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، (2) فقالوا:   (1) انظر تفسير ((أشعر)) فيما سلف 11: 316، تعليق: 2، والمراجع هناك. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 204. (2) في المطبوعة: ((قريش)) بالرفع، والصواب من المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثَمُود كانت لهم ناقة، فأتنا بشيء من الآيات حتى نصدقك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيَّ شيء تحبُّون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعَلُ لنا الصَّفَا ذهبًا. فقال لهم: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين! (1) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: لك ما شئت، (2) إن شئتَ أصبح ذهبًا، ولئن أرسل آيةً فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنَّهم، وإن شئت فأنْدِحْهُم حتى يتوب تائبهم. (3) فقال: بل يتوب تائبهم. فأنزل الله تعالى: (وأقسموا بالله) إلى قوله: (يجهلون) . * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) . فقال بعضهم: خوطب بقوله: (وما يشعركم) المشركون المقسمون بالله،   (1) في المطبوعة: ((أجمعون)) ، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة أسقط ((له)) ، وهي في المخطوطة. (3) في المطبوعة: ((فاتركهم حتى يتوب تائبهم)) ، وفي المخطوطة: ((ما نرحهم)) ، غير منقوطة، ورجحت أن صواب ما أثبت، وإن كنت لم أجد هذا الحرف في كتب اللغة، وهو عندي من قولهم: ((ندحت الشيء ندحا)) ، إذ أوسعته وأفسحته، ومنه قيل: ((إن لك في هذا الأمر ندحة)) (بضم النون وفتحها وسكون الدال) و ((مندوحة)) ، أي: سعة وفسحة. فقولهم: ((أندحهم)) ، أي: أفسح لهم، واجعل لهم مندوحة في هذا الأمر حتى يتوب تائبهم. وهو حق المعنى إن شاء الله، والقياس يعين عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 لئن جاءتهم آية ليؤمنن= وانتهى الخبر عند قوله: (وما يشعركم) ، ثم استُؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافًا مبتدأ. * * * * ذكر من قال ذلك: 13747- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وما يشعركم) ، قال: ما يدريكم. قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون. 13748- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما يشعركم) ، وما يدريكم="أنها إذا جاءت"، قال: أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. 13749- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، سمعت عبد الله بن زيد يقول:"إنما الآيات عند الله"، ثم يستأنف فيقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. 13750- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إنما الآيات عند الله وما يشعركم) ، وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت. ثم استقبل يخبر عنهم فقال: إذا جاءت لا يؤمنون. * * * وعلى هذا التأويل قراءةُ من قرأ ذلك بكسر ألف:"إنَّها"، على أن قوله:" إِنَّهَا إِذَا جَاءَتَ لا يُؤْمِنُون"، خبر مبتدأ منقطعٌ عن الأول. * * * وممن قرأ ذلك كذلك، بعضُ قرأة المكيين والبصريين. * * * وقال آخرون منهم: بل ذلك خطابٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قالوا: وذلك أنّ الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيةٍ، المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سببَ مسألتهم إيّاه ذلك، أن المشركين حَلَفوا أنّ الآية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك! فسأل، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: "قل" للمؤمنين بك يا محمد="إنما الآيات عند الله وما يشعركم"، أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله، أنهم لا يؤمنون به= ففتحوا"الألف" من"أنّ". * * * ومن قرأ ذلك كذلك، عامة قرأة أهل المدينة والكوفة، وقالوا: أدخلت"لا" في قوله: (لا يؤمنون) صلة، (1) كما أدخلت في قوله: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ) ، [سورة الأعراف: 12] ، وفي قوله: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، [سورة الأنبياء: 95] ، وإنما المعنى: وحرام عليهم أن يرجعوا= وما منعك أن تسجُد. * * * وقد تأوَّل قوم قرؤوا، ذلك بفتح"الألف" من (أنها) بمعنى: لعلها. وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعب. * * * وقد ذكر عن العرب سماعًا منها:"اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا"، بمعنى: لعلك تشتري. (2) وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العِبَاديّ: أَعَاذِلَ، مَا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي إلَى سَاعَةٍ فِي الْيَومِ أَوْ فِي ضُحَى الغَدِ (3)   (1) ((الصلة)) . الزيادة، والإلغاء، انظر فهارس المصطلحات. (2) انظر في هذا معاني القرآن للفراء 1: 349، 350، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 204. (3) جمهرة أشعار العرب 103، اللسان (أنن) ، وغيرهما. من قصيدة له حكيمة، يقول قبله: وعَاذِلَةٍ هَبَّتْ بِلَيْلٍ تَلُوُمُنِي ... فَلَمَّا غَلَتْ فِي الَّلوْمِ قُلْتُ لها: اقْصِدي أعَاذِلَ، إن اللَّوْمَ في غير كُنْهِهِ ... عَلَيّ ثُنًى، مِنْ غَيِّكِ المُتَرَدِّدِ أعَاذِلَ، إنَّ الجهْل مِنْ لَذَّةِ الفَتَى ... وَإنَّ المَنَايَا لِلرِّجَالِ بِمَرْصَدِ أعَاذِلَ، مَا أَدْنَى الرشادَ مِنَ الفَتَى ... وأَبْعَدَهُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُسَدَّدِ أعَاذِلَ، من تُكْتَبْ لَهُ النَّارُ يَلْقَهَا ... كِفِاحًا، وَمَنْ يُكْتَبْ لَهُ الفَوْزُ يُسْعَدِ أَعَاذِلَ، قد لاقيتُ ما يَزَغُ الفتى ... وَطَابَقْتُ في الحِجْلَيْنِ مَشْيَ المُقيَّدِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 بمعنى: لعل منيَّتي; وقد أنشدوا في بيت دريد بن الصمة: (1) ذَرِينِي أُطَوِّفْ فِي البِلادِ لأَنَّنِي ... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلا مُخَلَّدَا (2) بمعنى: لعلني. والذي أنشدني أصحابُنا عن الفراء:"لعلَّني أَرَى ما ترَيْن". وقد أنشد أيضًا بيتُ توبة بن الحميِّر: لَعَلَّك يَا تَيْسًا نزا فيِ مَرِيرَةٍ ... مُعَذِّبُ لَيْلَى أَنْ تَرَانِي أَزُورُهَا (3)   (1) في المطبوعة: ((وقد أنشدوني)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) هكذا جاء البيت في المخطوطة والمطبوعة، وهو خطأ من أبي جعفر، أو من الفراء، بلا شك فإن الشطر الأخير من هذا الشعر، هو من شعر حطائط بن يعفر، وقد خرجته آنفًا 3: 78، واستوفيت الكلام عنه هناك، وأشرت إلى الموضع من اختلاف الشعر. وأما قوله: ((ذريتي أطوف واستوفيت الكلام عنه هناك، وأشرت إلى هذا الموضع من اختلاف الشعر. وأما قوله: ((ذريني أطوف في البلاد لعلني)) ، فهو كثير في أشعارهم، وأما شعر دريد بن الصمة الذي لاشك فيه، فهو هذا: ذَرِينِي أُطَوِّفْ فِي البِلادِ لَعَلَّنِي ... ألاَُقِي بِإثْرٍ ثُلةً من مُحَارِبٍ ولعل أبا جعفر نسي، فكتب ما كتب. وشعر دريد هذا مروي في الأصمعيات ص12 (ص: 119، طبعة المعارف) ، من قصيدة قالها بعد مقتل أخيه عبد الله، ذكر فيها ما أصاب خضر محارب من القتل والاستئصال، يقول قبله: فَلَيْتَ قُبُورًا بالمَخَاضَةِ أَخْبَرَتْ ... فَتُخْبِرَ عَنَّا الخُضْرَ، خُضْرَ مُحَارِبِ رَدَسْنَاهُمُ بِالخَيْلِ حَتى تَملأََّتْ ... عَوَافِي الضِّبَاعِ وَالذِّئَابِ السَّوَاغِبِ ذَرِينِي أُطَوِّف ............... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (3) من قصيدة فيما جمعته من شعره، وسيبويه 1: 312. يقول ذلك لزوج ليلى الأخيلية صاحبته، يتوعده لمنعه من زيارتها، وتعذيبه في سببه، ويجعله كالتيس ينزو في حبله. وقوله ((في مريرة)) ، ((المريرة)) الحبل المفتول المحكم الفتل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 "لهَنَّك يا تيسًا"، بمعنى: "لأنّك" التي في معنى"لعلك"، وأنشد بيت أبي النجم العجليّ: قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهِ ... أَنَّا نُغَدِّي القَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ (1) بمعنى: (2) لعلنا نغدِّي القوم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية، قولُ من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله= أعنى قوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) = وأن قوله:"أنها"، بمعنى: لعلَّها. وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله: (لا يؤمنون) . ولو كان قوله: (وما يشعركم) خطابًا للمشركين، لكانت القراءة في قوله: (لا يؤمنون) ، بالتاء، وذلك، وإن كان قد قرأه بعض قرأة المكيين كذلك، فقراءةٌ خارجة عما عليه قرأة الأمصار، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلا على ذهابها وشذوذها. (3) * * * وإنما معنى الكلام: وما يدريكم، أيها المؤمنون، لعل الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون، فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك، ولا يؤخَّروا به. * * *   (1) المعاني الكبير لابن قتيبة: 393، الخزانة 3: 591، وروايتها ((كما نغدي)) قال ابن قتيبه: (قال أبو المجم وذكر ظليما ... ((شيبان)) ابنه، قلت له: اركب في طلبه. ((كما)) بمعنى ((كيما)) ، يقول: كيما نصيده فنغدي القوم به مشويًا) . وكان البيت في المخطوطة غير منقوط، وفي المطبوعة: ((قلت لسيبان)) ، وهو خطأ. وفيها وفي المخطوطة: ((من سرايه)) ، والصواب ما أثبت. (2) في المطبوعة: ((يعني)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (3) قوله: ((ذهابها)) ، أي هلاكها وفسادها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 القول في تأويل قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنَّا جئناهم بآية كما سألوا، ما آمنوا، كما لم يؤمنوا بما قبلَها أول مرة، لأن الله حال بينهم وبين ذلك: * ذكر من قال ذلك: 13751- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الآية، قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، ورُدَّتْ عن كل أمر. 13752- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) ، قال: نمنعهم من ذلك، كما فعلنا بهم أول مرة. وقرأ: (كما لم يؤمنوا به أول مرة) . 13753- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) ، قال: نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو رُدُّوا من الآخرة إلى الدنيا فلا يؤمنون، كما فعلنا بهم ذلك، فلم يؤمنوا في الدنيا. قالوا: وذلك نظير قوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) ، [سورة الأنعام: 28] . * ذكر من قال قال ذلك: 13754- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه ما العبادُ قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه. قال: ولا ينبئك مثلُ خبير: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، [سورة الزمر: 56-58] ، يقول: من المهتدين. فأخبر الله سبحانه أنهم لو رُدُّوا [إلى الدنيا، لما استقاموا] على الهدى، و [قال] : (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) ، (1) وقال:"ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة"، قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه، أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهدَ أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها: أنَّه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرِّفها كيف شاء، وأنّ ذلك بيده يقيمه إذا شاء، ويزيغه إذا أراد= وأنّ قوله: (كما لم يؤمنوا به أول مرة) ، دليل على محذوف من الكلام= وأنّ قوله:"كما" تشبيه ما بعده بشيء قبله. وإذْ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلب أفئدتَهم، فنزيغها عن الإيمان، وأبصارَهم عن رؤية الحق ومعرفة موضع الحجة، وإن جاءتهم الآية التي سألوها، فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبلَ مجيئها مرَّة قبل ذلك. * * *   (1) في المطبوعة: ((فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ... )) حذف بعض ما في المخطوطة. وفي المخطوطة: ((فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا على الهدى وقال: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ... )) فأثبت نص المخطوطة، وزدت ما زدته بين القوسين حتى ستقيم الكلام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 وإذا كان ذلك تأويله، كانت"الهاء" من قوله: (كما لم يؤمنوا به) ، كناية ذكر "التقليب". * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها عند مجيئها (1) = في تمرُّدهم على الله واعتدائهم في حدوده، (2) يتردَّدون، لا يهتدون لحق، ولا يبصرون صوابًا، (3) قد غلب عليهم الخِذْلان، واستحوذ عليهم الشيطانُ. * * *   (1) انظر تفسير ((يذر)) فيما سلف 11: 529، تعليق: 2 والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الطغيان)) فيما سلف 10: 475، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((العمه)) فيما سلف 1: 309 - 311. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام، القائلين لك:"لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك"، فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا، وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حُجَّةً لك، ودلالة على نبوّتك، وأخبروهم أنك محقٌّ فيما تقول، وأن ما جئتهم به حقٌّ من عند الله، وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهُم لك قبلا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتبعوك إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم = (ولكن أكثرهم يجهلون) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك، يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفرَ بأيديهم، متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا. وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته. * * * وقيل: إن ذلك نزل في المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله، من مشركي قريش. * ذكر من قال ذلك: 13755- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: نزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم الآية، فقال:"قل"، يا محمد،"إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون"، ونزل فيهم: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) . * * * وقال آخرون: إنما قيل: (ما كانوا ليؤمنوا) ، يراد به أهل الشقاء، وقيل: (إلا أن يشاء الله) ، فاستثنى ذلك من قوله: (ليؤمنوا) ، يراد به أهل الإيمان والسعادة. * ذكر من قال ذلك: 13756- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن ابن عباس قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا) ، وهم أهل الشقاء = ثم قال: (إلا أن يشاء الله) ، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس، لأن الله جل ثناؤه عمَّ بقوله: (ما كانوا ليؤمنوا) ، القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيه ليؤمنن بها) . وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج إنهم عُنوا بهذه الآية، ولكن لا دلالة في ظاهر التنزيل على ذلك، ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك. والخبر من الله خارجٌ مخرجَ العموم، فالقول بأنَّ ذلك عنى به أهل الشقاء منهم أولى، لما وصفنا. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) . فقرأته قرأة أهل المدينة:"قِبَلا"، بكسر"القاف" وفتح"الباء"، بمعنى: معاينةً= من قول القائل:"لقيته قِبَلا"، أي معاينة ومُجاهرةً. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا) ، بضم"القاف"،"والباء". وإذا قرئ كذلك، كان له من التأويل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون"القبل" جمع"قبيل"، كالرُّغُف التي هي جمع"رغيف"، و"القُضُب" التي هي جمع"قضيب"، ويكون"القبل"، الضمناء والكفلاء= وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كل شيء كُفَلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدهم على إيمانهم بالله إن آمنوا، أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم، ما آمنوا إلا أن يشاء الله. والوجه الآخر: أن يكون"القبل" بمعنى المقابلة والمواجهة، من قول القائل:"أتيتُك قُبُلا لا دُبُرًا"، إذا أتاه من قبل وجهه. والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلةً قبيلةً، صنفًا صنفًا، وجماعة جماعةً، فيكون"القبل" حينئذ جمع"قبيل"، الذي هو ج الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 مع"قبيلة"، فيكون"القبل" جمع الجمع. (1) * * * وبكل ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال: معنى ذلك: معاينةً. 13757- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) ، يقول: معاينة. 13758- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) ، حتى يعاينوا ذلك معاينة= (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) . * * * * ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلة قبيلة، صنفًا صنفًا. 13759- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: (قُبُلا) ، معناه: قبيلا قبيلا. 13760- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (قُبُلا) ، أفواجًا، قبيلا قبيلا. 13761- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي خيثمة قال، حدثنا أبان بن تغلب قال، حدثني طلحة أن مجاهدًا قرأ في"الأنعام": (كل شيء قُبُلا) ، قال: قبائل، قبيلا وقبيلا وقبيلا. * * * * ذكر من قال: معناه: مقابلةً. 13762- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 350، 351. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) ، يقول: لو استقبلهم ذلك كله، لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله. 13763- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) ، قال: حشروا إليهم جميعًا، فقابلوهم وواجهوهم. 13764- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: قرأ عيسى: (قُبُلا) ومعناه: عيانًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ: (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا) ، بضم"القاف" و"الباء"، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجهَ التي بينّا من المعاني، وأن معنى"القِبَل" داخلٌ فيه، وغير داخل في القبل معاني"القِبَل". * * * وأما قوله: (وحشرنا عليهم) ، فإن معناه: وجمعنا عليهم، وسقنا إليهم. (1) * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مسلِّيَه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله، وحاثًّا له على الصبر على ما نال فيه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا) ، يقول: وكما ابتليناك، يا محمد، بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطينَ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول،   (1) انظر تفسير ((حشر)) فيما سلف 457: 11، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 ليصدُّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربّك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسّل، بأن جعلنا لهم أعداءً من قومهم يؤذُونهم بالجدال والخصومات. يقول: فهذا الذي امتحنتك به، لم تخصص به من بينهم وحدك، بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم، مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم، فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم. يقول: فاصبر أنتَ كما صبر أولو العزم من الرسل. * * * وأما"شياطين الإنس والجن"، فإنهم مَرَدتهم، وقد بينا الفعل الذي منه بُنِي هذا الاسم، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * ونصب "العدو" و"الشياطين" بقوله: (جعلنا) . (2) * * * وأما قوله: (يُوحِي بعضُهم إلى بعض زخرف القول غرورًا) ، فإنه يعني أنّه يلقي الملقي منهم القولَ، الذي زيّنه وحسَّنه بالباطل إلى صاحبه، ليغترّ به من سمعه، فيضلّ عن سبيل الله. (3) * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (شياطين الإنس والجن) . فقال بعضهم: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجنّ، وليس للإنس شياطين. * ذكر من قال ذلك: 13765- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس   (1) انظر تفسير ((الشيطان)) فيما سلف 1: 111، 112، 296. (2) انظر معاني القرآن 1: 351. (3) انظر تفسير ((الوحي)) فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه) ، أما"شياطين الإنس"، فالشياطين التي تضلّ الإنس="وشياطين الجن"، الذين يضلون الجنّ، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما:"إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا"، فيعلم بعضُهم بعضًا. 13766- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن شريك، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: (شياطين الإنس والجن) ، قال: ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن. (1) 13767- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي في قوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا) ، قال: للإنسان شيطان، وللجنّي شيطان، فيلقَى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا. * * * قال أبو جعفر: جعل عكرمة والسدي في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما، عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا) ، أولادَ إبليس، دون أولاد آدم، ودون الجن= وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورًا، ولدَ إبليس، وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى مَنْ مع الجن من ولده زخرفَ القول غرورًا. وليس لهذا التأويل وجه مفهوم، لأن الله جعل إبليس وولده أعداءَ ابن آدم، فكل ولده لكل ولده عدوّ. وقد خصّ الله في هذه الآية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداءً. فلو كان معنيًّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السدي، الذين هم ولد إبليس، لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبرِ عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً، وجهٌ. وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه، مثل الذي جعل   (1) الأثر: 13466 - ((سعيد بن مسروق الثوري)) ، مضى برقم: 7162. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 لهم. ولكن ذلك كالذي قلنا، من أنه معنيٌّ به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدوًّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 13768- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد بن هلال قال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شر شياطين الإنس والجنّ؟ قال: قلت: يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال: نعم! (1) 13769- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذر، أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال فقال: يا أبا ذر، هل صلَّيت؟ قال قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين. قال: ثم جئت فجلستُ إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شرِّ شياطين الإنس والجن؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، شرٌّ من شياطين الجن! (2)   (1) الأثر: 13768 - ((حميد بن هلال العدوي)) ، ثقة، متكلم فيه. سمع من ((عوف ابن مالك)) ، ولكنه رواه بالوسطة، عن مجهول: ((رجل من أهل دمشق)) . مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 344، وابن أبي حاتم 1 / 2 /230. و ((عوف بن مالك بن نضلة الجشمي)) ، ثقة، مضى برقم: 6172، 12825، 12826 لم يذكر أنه سمع من أبي ذر. وهذا الخبر فيه مجهول. ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 380 (2) الأثر: 13769 - كان في إسناد هذا الخبر خطأ فاحش، وقع شك من سهو الناسخ وعجلته، فإنه كتب ((حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن أبي عن ابن عباس، أبي عبد الله محمد بن أيوب)) ، ثم ضرب على ((ابن عباس)) . ولكنه ترك ((عن علي بن أبي طلحة)) ، وهو خطأ لا شك فيه كما سترى بعد. وسبب ذلك إسناد أبي جعفر المشهور وهو: ((حدثني المثنى، قال حدثنا عبد الله صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس)) وهو إسناد دائر في التفسير، آخره رقم: 13756، فجعل فكتب الإسناد المشهور، ثم استدرك فضرب على ((ابن عباس)) ، والصواب أن يضرب أيضًا على ((علي بن أبي طلحة)) ، لأن هذا إسناد مختلف عن الأول كل الاختلاف، ولذلك حذفت ((عن علي بن أبي طلحة)) ، مع ثبوته في المخطوطة والمطبوعة، ولكن ابن كثير ذكره في التفسير على الصواب 3: 379، كما أثبته. و ((أبو عبد الله محمد بن أيوب)) ، كأنه أيضًا خطأ من الناسخ، وصوابه: ((أبو عبد الملك محمد بن أيوب)) لما سترى. ((محمد بن أيوب الأزدي)) ، ((أبو عبد الملك)) ، قال البخاري في الكبير 1 / 1 /29، 30 (محمد بن أيوب أبو عبد الملك الأزدي، عن ابن عائذ، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: آدم نبي مكلم. قال لنا: عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن محمد بن أيوب، حديثه في الشاميين. سمع منه معاوية بن صالح)) وترجمة ابن أبي حاتم 3 / 2 / 196، 197، فذكر مثله. و ((ابن عائذ)) هو ((عبد الرحمن بن عائذ الثمالي)) ، ويقال: الأزدي الكندي، ويقال: اليحصبي. وروى له الأربعة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 270، وكان ابن عائذ من حملة العلم، يطلبه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحاب أصحابه. روى عن عمر وعلي مرسلا. وفي التهذيب انه روى عنهما وعن أبي ذر، وعن غيرهم من الصحابة، ولم يذكر ((مرسلا)) . وذكر ابن كثير هذا الأثر والذي يليه في تفسيره 3: 379 ثم قال: ((وهذا أيضًا فيه انقطاع)) ، وتبين من تفسيره إسناده أنه غير منقطع. ثم قال: ((وروى متصلا كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا المسعودي، أنبأني أبو عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: ... )) وذكر الحديث، وهو بطوله في مسند أحمد 5: 178، 179. ثم ذكر ابن كثير طرقًا أخرى للحديث ثم قال: ((فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 13770- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: بلغني أن أبا ذر قام يومًا يُصلّي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر، من شياطين الإنس والجن. فقال: يا رسول الله، أوَ إنّ من الإنس شياطين؟ قال: نعم! (1) * * * وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا: من أن ذلك إخبارٌ من الله أنّ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 13770 - هذا أثر منقطع، انظر التعليق على الخبر السالف، وما قاله ابن كثير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 13771- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (شياطين الإنس والجن) ، قال: من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض = قال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يومًا يصلّي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن. فقال: يا نبي الله، أوَ إن من الإنس شياطين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم! 13772- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن) ، الآية، ذكر لنا أنّ أبا ذر قام ذات يوم يصلي، فقال له نبي الله: تعوّذ بالله من شياطين الجن والإنس. فقال: يا نبي الله، أوَ للإنس شياطين كشياطين الجن؟ قال:"نعم، أوَ كذَبْتُ عليه؟ (1) 13773- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّا شياطين الإنس والجن) ، فقال: كفار الجنّ شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفارِ الإنس، زخرفَ القول غرورًا. * * * وأما قوله: (زُخرف القول غرورًا) ، فإنه المزيَّن بالباطل، كما وصفت قبل. يقال منه:"زخرف كلامه وشهادته"، إذا حسَّن ذلك بالباطل ووشّاه، كما:- 13774- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن شريك، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة قوله: (زخرف القول غرورًا) قال: تزيين الباطل بالألسنة.   (1) قوله: ((أو كذبت عليه)) ، استنكار من رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال أبي ذر، فإن نص التنزيل دال على ذلك، ورسول الله هو الصادق المصدق المبلغ عن ربه الحق الذي لا كذب فيه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 13775- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الزخرف"، فزخرفوه، زيَّنوه. 13776- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (زخرف القول غرورًا) ، قال: تزيين الباطل بالألسنة. 13777- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13778- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (زخرف القول غرورًا) ، يقول: حسَّن بعضهم لبعضٍ القول ليتّبعوهم في فتنتهم. 13779- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (زخرف القول غرورًا) قال:"الزخرف"، المزيَّن، حيث زيَّن لهم هذا الغرور، كما زيَّن إبليس لآدم ما جاءه به وقاسمه إنه له لمن الناصحين. وقرأ: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ) ، [سورة فصلت: 25] . قال: ذلك الزخرف. * * * وأما"الغرور"، فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصدَّه عن الصواب إلى الخطأ وعن الحق إلى الباطل (1) = وهو مصدر من قول القائل:"غررت فلانًا بكذا وكذا، فأنا أغرُّه غرورًا وغرًّا. كالذي:- 13780- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (غرروًا) قال: يغرّون به الناسَ والجنّ. * * *   (1) انظر تفسير ((الغرور)) فيما سلف 7: 453 / 9: 224. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئت، يا محمد، أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداءً من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم، فعلتُ ذلك، ولكني لم أشأ ذلك، لأبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كل فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق = (فذرهم) ، يقول: فدعهم (1) = يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن= (وما يفترون) ، يعني: وما يختلقون من إفك وزور. (2) يقول له صلى الله عليه وسلم: اصبر عليهم، فإني من وراء عقابهم على افترائهم على الله، واختلاقهم عليه الكذبَ والزور. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا) = (ولتصغى إليه) ، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول   (1) انظر تفسير ((ذر)) فيما سلف ص: 46، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: 11: 533، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 بالباطل، ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم= (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) ، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة. * * * = وهو من"صغَوْت تَصْغَى وتصغُو"= والتنزيل جاء بـ "تصغَى" ="صَغْوًا، وصُغُوًّا"، وبعض العرب يقول:"صغيت"، بالياء، حكي عن بعض بني أسد:"صَغيت إلى حديثه، فأنا أصغَى صُغِيًّا" بالياء، وذلك إذا ملت. يقال:"صَغْوِي معك"، إذا كان هواك معه وميلك، مثل قولهم:"ضِلَعِي معك". ويقال:"أصغيت الإناء" إذا أملته ليجتمع ما فيه، ومنه قول الشاعر: (1) تَرَى السَّفِيَهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ ... زَيْغٌ، وفيهِ إلَى التَّشْبِيهِ إصْغَاءُ (2) ويقال للقمر إذا مال للغيوب:"صغا" و"أصغى". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13781- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (ولتصغى إليه أفئدة) ، يقول: تزيغ إليه أفئدة. 13782- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) ، قال: لتميل. 13783- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) لم أعرف قائله. (2) اللسان (صغا) ، وأيضًا في تفسير أبي حيان 4: 205، والقرطبي 7: 69، وفي اللسان والقرطبي: ((عن كل مكرمة)) ، وكأن الصواب ما تفسير ابن جرير، وأبي حيان، وكأن الشاعر يريد الذين يتبعون ما تشابه من آيات كتاب الله، ويعرضون عن المحكم من آياته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 حدثنا أسباط، عن السدي: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) ، يقول: تميل إليه قلوبُ الكفار، ويحبونه، ويرضون به. 13784- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالأخرة) ، قال:"ولتصغى"، وليهووا ذلك وليرضوه. قال: يقول الرجل للمرأة:"صَغَيْت إليها"، هويتها. * * * القول في تأويل قوله: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون. * * * حكي عن العرب سماعًا منها:"خرج يقترف لأهله"، بمعنى يكسب لهم. ومنه قيل:"قارف فلان هذا الأمر"، إذا واقعه وعمله. وكان بعضهم يقول: هو التهمة والادعاء. يقال للرجل:"أنت قَرَفْتَنِي"، أي اتهمتني. ويقال:"بئسما اقترفتَ لنفسك"، وقال رؤبة: أَعْيَا اقْتِرَافُ الكَذِبِ المَقْرُوفِ ... تَقْوَى التَّقِي وعِفَّةَ العَفِيفِ (1) * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (وليقترفوا) ، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13785- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وليقترفوا ما هم مقترفون) ، وليكتسبوا ما هم مكتسبون.   (1) ليسا في ديوانه، وهما في مجاو القرآن 1: 205. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 13786- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وليقترفوا ما هم مقترفون) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون. 13787- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون. * * * القول في تأويل قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا (114) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، القائلين لك: "كفَّ عن آلهتنا، ونكف عن إلهك": إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدًّا عن عبادتها= (أفغير الله ابتغي حكمًا) ، أي: قل: فليس لي أن أتعدَّى حكمه وأتجاوزه، لأنه لا حَكَم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه (1) = (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) يعني القرآن="مفصَّلا"، يعني: مبينًا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم. * * * وقد بينا معنى:"التفصيل"، فيما مضى قبل. (2)   (1) انظر تفسير ((الحكم)) فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) . (2) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف 11: 394. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله، وأشركوا معه الأندادَ، وجحدوا ما أنزلته إليك، وأنكروا أن يكون حقًا وكذَّبوا به = فالذين آتيناهم الكتاب، وهو التوراة والإنجيل، من بني إسرائيل= (يعلمون أنه منزل من ربّك) ، يعني: القرآن وما فيه = (بالحق) يقول: فصلا بين أهل الحق والباطل، يدلُّ على صدق الصادق في علم الله، (1) وكذبِ الكاذب المفتري عليه = (فلا تكونن من الممترين) ، يقول: فلا تكونن، يا محمد، من الشاكين في حقيقة الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب، وغيرِ ذلك مما تضمنه، لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منزل من ربك بالحق. * * * وقد بيَّنا فيما مضى ما وجه قوله: (فلا تكونن من الممترين) ، بما أغنى عن إعادته، مع الرواية المروية فيه، (2) وقد: 13788- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (فلا تكونن من الممترين) ، يقول: لا تكونن في شك مما قصَصنا عليك. * * *   (1) في المطبوعة: ((الصادق في علم الله)) ، وفي المخطوطة: ((الصادق علم الله)) ، والصواب ما أثبت. (2) انظر تفسير ((الأمتراء)) فيما سلف 3: 190 - 192 / 6: 472، 473 / 11: 260 الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 القول في تأويل قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكملت ="كلمة ربك"، يعني القرآن. * * * سماه"كلمة"، كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر:"هذه كلمة فلان". (1) . * * * = (صدقًا وعدلا) ، يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل. * * * و"الصدق" و"العدل" نصبا على التفسير للكلمة، كما يقال:"عندي عشرون درهما". (2) = (لا مبدِّل لكلماته) ، يقول: لا مغيِّر لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه، (3) وذلك نظير قوله جل ثناؤه (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) ، [سورة الفتح:15] . فكانت إرادتهم تبديل كلام الله، مسألتهم نبيَّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه، وقولهم له ولمن معه من المؤمنين: (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) ، بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) الآية، [سورة التوبة: 83] ، فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا   (1) انظر تفسير ((الكلمة)) فيما سلف 3: 7 - 17 / 6: 371، 410 - 412 / 8: 432 / 9: 410 / 10: 129، 313 (2) ((التفسير)) ، هو ((التميز)) ، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف. (3) انظر تفسير ((التبديل)) فيما سلف 11: 335، وفهارس اللغة (بدل) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 مع نبي الله في غَزاةٍ، ولن يقاتلوا معه عدوًّا بقولهم لهم: (ذرونا نتبعكم) ، فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"يريدون أن يبدلوا"= بمسألتهم إياهم ذلك= كلامَ الله وخبره: (قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) . فكذلك معنى قوله: (لا مبدِّل لكلماته) ، إنما هو: لا مغيِّر لما أخبرَ عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيئه وكونه ووُقُوعه على ما أخبرَ جل ثناؤه، لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها. وذلك أن اليهود والنصارى لا شك أنهم أهلُ كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، وقد أخبر جل ثناؤه أنهم يحرِّفون غيرَ الذي أخبر أنَّه لا مبدِّل له. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13789- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا لا مبدل لكلماته) ، يقول: صدقًا وعدلا فيما حكَم. * * * وأما قوله: (وهو السميع العليم) ، فإن معناه: والله"السميع"، لما يقول هؤلاء العادلون بالله، المقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، وغير ذلك من كلام خلقه="العليم"، بما تؤول إليه أيمانهم من برٍّ وصدق وكذب وحِنْثٍ، وغير ذلك من أمور عباده. (1) * * *   (1) انظر تفسير ((السميع)) و ((العليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) و (علم) . * * * وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: ((يتلوه القول في تأويل قوله:} وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كثيرًا)) ثم يتلو ما نصه: ((بِسْمِ الله الرحمن الرحيم رَبِّ وَفِّقْ وأعِنْ)) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تطع هؤلاء العادلين بالله الأنداد، يا محمد، فيما دعوك إليه من أكل ما ذبحوا لآلهتهم، وأهلُّوا به لغير ربهم، وأشكالَهم من أهل الزيغ والضلال، فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن دين الله، ومحجة الحق والصواب، فيصدُّوك عن ذلك. وإنما قال الله لنبيه: (وإن تطع أكثر من في الأرض) ، من بني آدم، لأنهم كانوا حينئذ كفارًا ضلالا فقال له جل ثناؤه: لا تطعهم فيما دعوك إليه، فإنك إن تطعهم ضللت ضلالهم، وكنتَ مثلهم، لأنهم لا يدعونك إلى الهدى وقد أخطأوه. ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الذين نَهَى نبيه عن طاعتهم فيما دعوه إليه في أنفسهم، فقال: (إن يتبعون إلا الظن) ، فأخبر جل ثناؤه أنهم من أمرهم على ظن عند أنفسهم، وحسبان على صحة عزمٍ عليه، (1) وإن   (1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وأنا في شك من صوابه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 كان خطأ في الحقيقة = (وإن هم إلا يخرصون) ، يقول: ما هم إلا متخرِّصون، يظنون ويوقعون حَزْرًا، لا يقينَ علمٍ. (1) * * * يقال منه:"خرَصَ يخرُصُ خَرْصًا وخروصًا"، (2) أي كذب، و"تخرّص بظن"، و"تخرّص بكذب"، و"خرصتُ النخل أخرُصه"، و"خَرِصَتْ إبلك"، أصابها البردُ والجوع. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن ربك الذي نهاك أن تطيع هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ، لئلا يُضِلوك عن سبيله، هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيُّ خلقه يَضلّ عن سبيله بزخرف القول الذي يوحِي الشياطين بعضُهم إلى بعض، فيصدُّوا عن طاعته واتباع ما أمر به = (وهو أعلم بالمهتدين) ، يقول: وهو أعلم أيضًا منك ومنهم بمن كان على استقامة وسدادٍ، لا يخفى عليه منهم أحد. يقول: واتبع، يا محمد، ما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه من طاعة مَنْ نهيتك عن طاعته، فإني أعلم بالهادي والمضلِّ من خلقي، منك. * * * واختلف أهل العربية في موضع:"مَن" في قوله: (إن ربك هو أعلم من يضل) .   (1) انظر مجاز القرآن أبي عبيدة 1: 206. (2) في المطبوعة: ((خرصا وخرصا)) ، وأثبت ما في المخطوطة، ولم أجد ((خروصًا)) ، مصدرًا لهذا الفعل، في شيء مما بين يدي من كتب اللغة، ولكن ذكره أبو حيان في تفسيره أيضًا 4: 205. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 فقال بعض نحويي البصرة: موضعه خفض بنيّة"الباء". قال: ومعنى الكلام: إن ربك هو أعلم بمن يضِلُّ. (1) * * * وقال بعض نحويي الكوفة: موضعه رفع، لأنه بمعنى"أيّ"، والرافع له"يضلّ". (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنه رفع بـ"يضل"، وهو في معنى"أيّ". وغير معلوم في كلام العرب اسم مخفوض بغير خافض، فيكون هذا له نظيرا. * * * وقد زعم بعضهم أن قوله: (أعلم) ، في هذا الموضع بمعنى"يعلم"، واستشهد لقيله ببيت حاتم الطائي: فَحَالَفَتْ طَيّئٌ مِنْ دُونِنَا حِلِفًا ... وَاللهُ أَعْلَمُ ما كُنَّا لَهُمْ خُذْلا (3) وبقول الخنساء: القَوْمُ أَعْلَمُ أَنَّ جَفْنَتَهُ ... تَعْدُو غَدَاةَ الرِّيحِ أَوْ تَسري (4)   (1) انظر ما سلف 11: 560، تعليق: 1، وأن قائله هو الأخفش. (2) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 352، وهذا قول الفراء. (3) البيت ليس في ديوان حاتم، وهو في تفسير القرطبي 7: 72، عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر: وقوله: ((حلف)) هو بكسر الحاء واللام، ألحق اللام كسرة الحاء لضرورة الشعر. ولو قال ((حلفا)) (بفتح وكسر اللام) وهو مصدر ((حلف يحلف)) مثل ((الحلف)) (بكسر فسكون) ، لكان صوابًا، لأن ((الحلف)) الذي هو العهد، إنما سمى ((حلفًا)) بمصدر ((حلف)) بمعنى أقسم، لأن العهد يوثق باليمين والقسم. (4) ديوانها: 104، في رثاء أخيها صخر، وبعده: فَإِذَا أَضَاءَ وَجَاشَ مِرْجَلُهُ ... فَلَنِعْمَ رَبُّ النَّارِ والقِدْرِ وقولها: ((تغدو)) ، أي تغدو على قومه وضيوفه. و ((غداة الريح)) ، أي غدوة في زمن الشتاء، في زمان القحط وقلة الألبان، ((وتسرى)) . يعني في الليل. وقولها: ((أضاء)) ، أي أوقد ناره لتوضع عليها القدور، ويراها الضيفان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 وهذا الذي قاله قائل هذا التأويل، وإن كان جائزًا في كلام العرب، فليس قولُ الله تعالى ذكره: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) ، منه. وذلك أنه عطف عليه بقوله: (وهو أعلم بالمهتدين) ، فأبان بدخول"الباء" في"المهتدين" أن"أعلم" ليس بمعنى"يعلم"، لأن ذلك إذ كان بمعنى"يفعل"، لم يوصل بالباء، كما لا يقال:"هو يعلم بزيد"، بمعنى: يعلم زيدًا. * * * القول في تأويل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين به وبآياته:"فكلوا"، أيها المؤمنون، مما ذكّيتم من ذبائحكم وذبحتموه الذبح الذي بينت لكم أنه تحلّ به الذبيحة لكم، وذلك ما ذبحه المؤمنون بي من أهل دينكم دين الحق، أو ذبحه مَنْ دان بتوحيدي من أهل الكتاب، دون ما ذبحه أهل الأوثان ومَنْ لا كتاب له من المجوس = (إن كنتم بآياته مؤمنين) ، يقول: إن كنتم بحجج الله التي أتتكم وأعلامه، بإحلال ما أحللت لكم، وتحريم ما حرمت عليكم من المطاعم والمآكل، مصدّقين، ودَعوا عنكم زخرف ما توحيه الشياطين بعضها إلى بعض من زخرف القول لكم، وتلبيس دينكم عليكم غرورًا. * * * وكان عطاء يقول في ذلك ما:- 13790- حدثنا به محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ، قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. وكل شيء يدلّ على ذكره يأمر به. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 القول في تأويل قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله: (وما لكم أن لا تأكلوا) . فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا. قال: وذلك نظير قوله: (وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ) ، [سورة البقرة: 246] . يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت"لا"، زائدة لا يقع الفعل. (1) ولو كانت في معنى:"وما لنا وكذا"، لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل. * * * وقال غيره: إنما دخلت"لا" للمنع، لأن تأويل"ما لك"، و"ما منعك" واحد."ما منعك لا تفعل ذلك"، و"ما لك لا تفعل"، واحد. فلذلك دخلت"لا". قال: وهذا الموضع تكون فيه"لا"، وتكون فيه"أنْ"، مثل قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، [سورة النساء: 176] ، و"أن لا تضلوا"، يمنعكم من الضلال بالبيان. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: معنى قوله: (وما لكم) ، في هذا الموضع: وأيُّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وذلك أنّ الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه   (1) قوله: ((لا يقع الفعل)) ، أي لا يتعدى، ((الوقوع)) ، التعدي. (2) استوفى أبو جعفر بحث هذا فيما سلف 5: 300 - 305، والفراء في معاني القرآن 1: 163 - 166، ولم يشر إلى ذلك أبو جعفر كعادته فيما سلف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 المعروفة، وتحريم ما أهلّ به لغيره، من الحيوان= وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية، وسائر ما حرم الله من المطاعم. ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته، وقد فصّلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون، وبينته لكم بقولي: (1) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) ، إلى قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ) ، [سورة المائدة: 3] ، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله، فتتمنعوا من أكل حلاله حذرًا من مواقعة حرامه. فإذ كان ذلك معناه، فلا وجه لقول متأوِّلي ذلك:"وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا"، لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله، وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه. ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك، واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه. فبيّنٌ بذلك، إذ كان الأمر كما وصفنا، أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا. * * * وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله:"فصَّل"، و"فصلنا" و"فُصِّل" بيَّن، أو بُيِّن، بما يغني عن إعادته في هذا الموضع (2) كما:- 13791- حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) ، يقول: قد بين لكم ما حرم عليكم. 13792- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، مثله. * * *   (1) في المطبوعة: ((بقوله)) ، وفي المخطوطة: ((بقول)) ، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف ص: 60، تعليق: 2، والمراجع هناك، وانظر فهارس اللغة (فصل) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 واختلفت القرأة في قول الله جل ثناؤه: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) . فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من"فَصَّلَ" و"حَرَّم"، أي: فصّل ما حرّمه من مطاعمكم، فبيَّنه لكم. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَقَدْ فَصَّلَ) بفتح فاء"فصل" وتشديد صاده،"مَا حُرِّمَ"، بضم حائه وتشديد رائه، بمعنى: وقد فصل الله لكم المحرَّم عليكم من مطاعمكم. * * * وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين:"وَقَدْ فُصِّلَ لَكَمْ"، بضم فائه وتشديد صاده،"مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ"، بضم حائه وتشديد رائه، على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما. * * * وروي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك:"وَقَدْ فَصَلَ"، بتخفيف الصاد وفتح الفاء، بمعنى: وقد أتاكم حكم الله فيما حَرَّم عليكم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن كل هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها، سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية، قراءات معروفات مستفيضةٌ القراءةُ بها في قرأة الأمصار، وهن متّفقات المعاني غير مختلفات، فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ. * * * وأما قوله: (إلا ما اضطررتم إليه) ، فإنه يعني تعالى ذكره: أن ما أضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيَّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة، لنا حلال ما كنا إليه مضطرين، حتى تزول الضرورة. (1) كما:-   (1) انظر تفسير ((اضطر)) فيما سلف 3: 56، 322 / 9: 532. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 13793- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا ما اضطررتم إليه) ، من الميتة. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن كثيرًا من الناس [الذين] (1) يجادلونكم في أكل ما حرم الله عليكم، أيها المؤمنون بالله، من الميتة، ليُضلون أتباعهم بأهوائهم من غير علم منهم بصحة ما يقولون، ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون، إلا ركوبًا منهم لأهوائهم، واتباعًا منهم لدواعي نفوسهم، اعتداءً وخلافًا لأمر الله ونهيه، وطاعة للشياطين (2) = (إن ربك هو أعلم بالمعتدين) ، يقول: إن ربك، يا محمد، الذي أحلَّ لك ما أحلَّ وحرَّم عليك ما حرم، هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها، وهو لهم بالمرصاد. (3) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (ليضلون) . فقرأته عامة أهل الكوفة: (لَيُضِلُّونَ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. * * * وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين:"لَيَضِلُّونَ"، بمعنى: أنهم هم الذين يضلون عن الحق فيجورون عنه. * * *   (1) الزيادة بين القوسين، يقتضيها السياق. (2) انظر تفسير ((الأهواء)) فيما سلف من فهارس اللغة (هوى) = = وتفسير ((الضلال)) في فهارس اللغة (ضلل) . (3) انظر تفسير ((الاعتداء)) فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 قال أبو جعفر: وأَولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم، ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه، فقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ، ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم، ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه، فقال لهم: وإن كثيرًا منهم ليضلونكم بأهوائهم بغير علم= نظيرَ الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) . * * * القول في تأويل قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ودعوا، أيها الناس، (1) علانية الإثم، وذلك ظاهره= وسرّه، وذلك باطنه،. كذلك:- 13794- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، أي: قليله وكثيره، وسرّه وعلانيته. 13795- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، قال: سره وعلانيته. 13796- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، يقول: سره وعلانيته= وقوله: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ، [سورة الأعراف: 33] ، قال: سره وعلانيته. 13797- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر،   (1) انظر تفسير ((ذر)) فيما سلف ص: 57، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، قال: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه، أن يعمل به سرًّا أو علانية، وذلك ظاهره وباطنه. 13798- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، معصية الله في السر والعلانية. 13799- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، قال: هو ما ينوي مما هو عامل. * * * ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بالظاهر من الإثم والباطن منه، في هذا الموضع. فقال بعضهم:"الظاهر منه"، ما حرم جل ثناؤه بقوله: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، [سورة النساء: 23] ، وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) الآية، و"الباطن منه"، الزنى. * ذكر من قال ذلك: 13800- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير في قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، قال: الظاهر منه: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) والأمهات والبنات والأخوات ="والباطن". الزنى. * * * وقال آخرون:"الظاهر"، أولات الرايات من الزواني، (1) والباطن: ذوات الأخدان.   (1) ((أولات الرايات)) ، البغايا في الجاهلية، كن ينصبن رايات عند خيامهن أو عند بيوتهن، يعرفن بها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 * ذكر من قال ذلك: 13801- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) أما"ظاهره"، فالزواني في الحوانيت، وأما"باطنه"، فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرًّا. 13802- حدثنت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ، [سورة الأنعام: 151] . كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى، ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا، فحرّم الله السر منه والعلانية ="ما ظهر منها"، يعني العلانية="وما بطن"، يعني: السر. 13803- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي مكين وأبيه، عن خصيف، عن مجاهد: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ، قال:"ما ظهر منها"، الجمع بين الأختين، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده ="وما بطن"، الزنى. * * * وقال آخرون:"الظاهر"، التعرّي والتجرد من الثياب، وما يستر العورة في الطواف ="والباطن"، الزنى. * ذكر من قال ذلك: 13804- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ، قال: ظاهره العُرْيَة التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت، (1) وباطنه: الزنى. * * *   (1) ((العرية)) (بضم العين وسكون الراء) ، مصدر ((عرى من ثوبه يعرى عريًا وعرية)) ، يقال: ((جارية حسنة العرية، وحسنة المعرى والمعراة)) ، أي حسنة عند تجريدها من ثيابها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره تقدم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه، وذلك سره وعلانيته. و"الإثم" كل ما عُصِي الله به من محارمه، (1) وقد يدخل في ذلك سرُّ الزنى وعلانيته، ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهن، ونكاحُ حلائل الآباء والأمهات والبنات، والطواف بالبيت عريانًا، وكل معصية لله ظهرت أو بطنت. وإذ كان ذلك كذلك، وكان جميعُ ذلك"إثمًا"، وكان الله عمّ بقوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) ، جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن= لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئًا دون شيء، إلا بحجة للعذر قاطعة. غير أنه لو جاز أن يوجَّه ذلك إلى الخصوص بغير برهان، كان توجيهه إلى أنه عنى بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع، ما حرم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم، وما بيَّن الله تحريمه في قوله: (حرمت عليكم الميتة) إلى آخر الآية، أولى، إذ كان ابتداء الآيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى، وهذه في سياقها. ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك، وأدخل فيها الأمر باجتناب كل ما جانسه من معاصي الله، فخرج الأمر عامًا بالنهي عن كل ما ظهر أو بطن من الإثم. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نَهاهم الله عنه،   (1) انظر تفسير ((الإثم)) فيما سلف من فهارس اللغة (أثم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 ويركبون معاصيَ الله ويأتون ما حرَّم الله= (سيجزون) ، يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منزل، فإنه حرام عليكم= ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم، فإن أكل ذلك"فسق"، يعني: معصية كفر. (2) * * * فكنى بقوله:"وإنه"، عن"الأكل"، وإنما ذكر الفعل، (3) كما قال: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) ، [سورة ال عمران: 173] يراد به، فزاد قولُهم ذلك إيمانًا، فكنى عن"القول"، وإنما جرى ذكره بفعلٍ. (4) * * *   (1) انظر تفسير ((كسب)) فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) = وتفسير ((الجزاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزا) = وتفسير ((اقترف)) فيما سلف ص: 59، 60 (2) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف 11: 370؛ تعليق: 2 والمراجع هناك (3) ((الفعل)) ، هو المصدر. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 352 الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 = (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) . (1) اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس = (إلى أوليائهم) ، من مردة مشركي قريش، يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة. (2) * ذكر من قال ذلك: 13805- حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري قال، حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباريّ قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: لما نزلت هذه الآية، بتحريم الميتة، قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريشٍ أنْ خاصموا محمدًا = وكانت أولياءهم في الجاهلية (3) = وقولوا له: أوَ ما ذبحتَ فهو حلال، وما ذَبح الله (4) = قال ابن عباس: بِشمْشَارٍ من ذهب (5) = فهو حرام! ! فأنزل الله هذه الآية: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ، قال: الشياطين: فارس، وأولياؤهم قريش. (6)   (1) انظر تفسير ((الوحي)) فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) . (2) في المطبوعة: ((يوحون إليهم زخرف القول ليصل إلى نبي الله وأصحابه في أكل الميتة)) لم يحسن قراءة المخطوطة، فاجتهد اجتهادًا ضرب على الجملة فسادًا لا تعرف له غاية. وكان في المخطوطة: (( ... زخرف القول يحد إلى نبي الله)) ، غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. (3) يعني: وكانت قريش أولياء فارس وأنصارهم في الجاهلية، وهي جملة معترضة وضعتها بين خطين. (4) في المطبوعة والمخطوطة: ((إن ما ذبحت)) ، كأنه خبر، وهو استفهام واستنكار أن تكون ذبيحة الخلق حلالا، وذبيحة الله - فيما يزعمون، وهي الميتة - حرامًا. (5) ((شمشار)) ، وفي تفسير ابن كثير 3: 389: ((بشمشير)) ، وتفسيره في خبر آخر يدل على أن ((الشمشار)) أو ((الشمشير)) ، هو السكين أو النصل، انظر رقم: 13806، وكأن هذا كان من عقائد المجوس، أن الميتة ذبيحة الله، ذبحها بشمشار من ذهب!! . (6) الأثر: 13805 - ((عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي النيسابوري)) ثقة، صدوق من شيوخ البخاري وأبي حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 215. و ((موسى بن عبد العزيز اليماني العدني القنباري)) ، لا بأس به، متكلم فيه. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 292، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 151. و ((القنباري)) نسبة إلى ((القنبار)) وهي حبال تفتل من ليف شجر النارجيل، الذي يقال له: الجوز الهندي، وتجر بحبال القنبار السفن لقوته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 13806- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار، عن عكرمة: إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم وكاتبتهم فارس، وكتبت فارسُ إلى مشركي قريش إن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه = للميتة = وأمّا ما ذبحوا هم يأكلون"! وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه السلام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت: (وإنه لفسقٌ وإن الشياطين ليوحون) الآية، ونزلت: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غرورا) . [سورة الأنعام: 112] * * * وقال آخرون: إنما عنى بالشياطين الذين يغرُون بني آدم: أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش. * ذكر من قال ذلك: 13807- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سماك، عن عكرمة قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قَتَل، وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوِي الحديث حتى بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . 13808- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ، قال: إبليسُ الذي يوحي إلى مشركي قريش = قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس:"يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم"= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 قال: سمعت أنَّ الشياطين يوحون إلى أهل الشرك، يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموتُ، وما الذي تذبحون إلا سواء! يأمرونهم أن يخاصِمُوا بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم= (وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون) ، قال: قولُ المشركين أمّا ما ذبح الله، للميتة، فلا تأكلون، وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فحلال! 13809- حدثنا محمد بن عمار الرازي قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربّكم فلا تأكلون، وما قتلتم أنتم تأكلونه! فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . (1) 13810- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما حرم الله الميتة، أمر الشيطان أولياءَه فقال لهم: ما قتل الله لكم، خيرٌ مما تذبحون أنتم بسكاكينكم! فقال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . 13811- حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس قال: جادل المشركون المسلمين فقالوا: ما بال ما قتلَ الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه! وأنتم تتبعون أمر الله! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) ، إلى آخر الأية. 13812- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ،   (1) الأثر: 13809 - ((محمد بن عمار بن الحارث الرازي)) ، أبو جعفر، روى عن إسحاق بن سليمان والسندي بن عبدويه، ومؤمل بن إسماعيل، وكتب عنه ابن أبي حاتم، وقال: ((وهو صدوق ثقة)) . مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 43. ((سعيد بن سليمان)) ، لم أعرف من يكون فيمن يسمى بذلك، وأخشى أن يكون صوابه: ((إسحاق بن سليمان الرازي)) ، الذي ذكر ابن حبان أن ((محمد بن عمار يروي عنه)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . 13813- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة: أن ناسًا من المشركين دخلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت، من قَتَلها؟ فقال: اللهُ قتلها. قالوا: فتزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلالٌ، وما قتله الله حرام! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . 13814- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي: أن ناسًا من المشركين قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه، وأما ما قتل الله فلا تأكلونه! 13815- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) ، قال: قالوا: يا محمد، أمّا ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه، وأمّا ما قتل ربُّكم فتحرِّمونه! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه، إنكم إذًا لمشركون. 13816- حدثنا المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه، وما قتل ربكم لا تأكلونه! فنزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . 13817- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، قول المشركين: أما ما ذبح الله = للميتة = فلا تأكلون منه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 13818- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13819- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ، قال: جادلهم المشركون في الذبيحة فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه، وأما ما قتل الله فلا تأكلونه! يعنون"الميتة"، فكانت هذه مجادلتهم إياهم. 13820- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) الآية، يعني عدوّ الله إبليس، أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة فقولوا:"أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما قتل الله فلا تأكلون، وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمرَ الله"! فأنزل الله على نبيه: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلهًا آخر، أو يسجد لغير الله، أو يسمي الذبائح لغير الله. 13821- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله، وما ذبح الله فلا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله: لئن أطعتموهم فأكلتم الميتة، إنكم لمشركون. 13822- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ، قال: كانوا يقولون: ما ذكر الله عليه وما ذبحتم فكلوا! فنزلت: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) . 13823- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) إلى قوله: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 (ليجادلوكم) ، قال يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون مما قتل الله! فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه، وإن الذي مات لم يذكر اسم الله عليه. 13824- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ، هذا في شأن الذبيحة. قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرم عليكم الميتة، وأحل لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم، وحرم عليكم ما ذبح هو لكم؟ وكيف هذا وأنتم تعبدونه! فأنزل الله هذه الآية: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، إلى قوله: (لمشركون) . * * * وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قومًا من اليهود. * ذكر من قال ذلك: 13825- حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع قالا حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس = قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهودُ النبي صلى الله عليه وسلم = وقال ابن وكيع: جاءت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم = فقالوا: نأكل ما قتلنا، ولا نأكل ما قتل الله! فأنزل الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) . * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم = وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم= وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس= وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 الأخرى التي يقول فيها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) ، [سورة الأنعام: 112] . بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس، كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة، ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم. * * * واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه. فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها. * ذكر من قال ذلك: 13826- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. قلت لعطاء: فما قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان، كانت تذبحها العرب وقريش. * * * وقال آخرون: هي الميتة. (1) * ذكر من قال ذلك: 13827- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عطاء   (1) هذه الترجمة: ((وقال آخرون: هي الميتة)) ، ليست في المخطوطة، ولكن إثباتها كما في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، قال: الميتة. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها. * ذكر من قال ذلك: 13828- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن، سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى، (1) فمنه ما ذبح فذكر اسم الله عليه، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه، كله! قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) . (2) 13829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب وهشام، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه. 13830- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد قال: كنت اجلس إليه في حلقة، فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم، فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون. قال: فجاءه رجل فسأله، فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية:   (1) في المطبوعة: ((بطير كذا)) وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة: ((بطير كدى)) برسم الدال، وهو خطأ لا معنى له. والصواب ما أثبت ((كرى)) (بفتحتين) جمع ((الكروان)) وهو طائر بين الدجاجة والحمامة، حسن الصوت، يؤكل لحمه، ذكر صاحب لسان العرب أنه يدعى الحجل والقبيح، والصحيح أنه ضرب من الطير شبيه به. ويقال له عند صيده ((أطرق كرى، أطرق كرى، إن النعام في القرى)) ، فيجبن ويلتصق بالأرض، فيلقي عليه ثوب فيصاد. (2) الأثر: 13828 - ((جهير بن يزيد العبدي)) ، حدث عن معاوية بن قرة، وابن سيرين - روى عنه أبو أسامة، وموسى بن إسماعيل، والقعنبي. وثقه يحيى بن معين وابن حبان، وغيرهما. ولم يذكر فيه البخاري جرحًا. مترجم في تعجيل المنفعة: 74، والكبير 1 / 2 / 253، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 547 قال ابن حجر: ((جهير، بصيغة التصغير، وقيل: بوزن عظيم)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، حتى فرغ منها. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة، وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته. وأما من قال:"عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله"، فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، وكفى بذلك شاهدًا على فساده. وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى:"لطيف القول في أحكام شرائع الدين"، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. * * * وأما قوله" (وإنه لفسق) ، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق. * * * واختلف أهل التأويل في معنى:"الفسق"، في هذا الموضع. (1) فقال بعضهم: معناه: المعصية. فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم. * ذكر من قال ذلك: 13831- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإنه لفسق) ، قال:"الفسق"، المعصية. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر. * * * وأما قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم) ، فقد ذكرنا اختلاف   (1) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 المختلفين في المعنيّ بقوله: (وإن الشياطين ليوحون) ، والصوابَ من القول فيه = وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم، فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه: إما بقول، وإما برسالة، وإما بكتاب. * * * وقد بينا معنى:"الوحي" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) وقد:- 13832- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة، عن أبي زُمَيل قال: كنت قاعدًا عند ابن عباس، فجاءه رجل من أصحابه، فقال: يا ابن عباس، زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة! = يعني المختار بن أبي عبيد = فقال ابن عباس: صدق! فنفرت فقلت: يقول ابن عباس"صدق"! فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد، ووحي الشياطين إلى أوليائهم. ثم قرأ: (وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) . (2) * * * وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء، في هذا الموضع. (3) * * * ويعني بقوله: (ليجادلوكم) ، ليخاصموكم، بالمعنى الذي قد ذكرت قبل. (4) * * * وأما قوله: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) ، فإنه يعني: وإن أطعتموهم   (1) انظر تفسير ((الوحي)) فيما سلف 9: 399، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) الأثر: 13832 - ((أبو زميل)) هو: ((سماك بن الوليد الحنفي)) ، روى عن ابن عباس، وابن عمر، ومالك بن مرثد، وعروة بن الزبير. روى عنه شعبة، ومسعر، وعكرمة بن عمار. وهو ثقة مترجم التهذيب، والكبير 2 / 2 /174، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 280. و ((المختر بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي)) ، كذاب متنبئ خبيث، فقتله الله بيد مصعب بن الزبير وأصحابه سنة 67 من الهجرة، وله خبر طويل فيه كذبه وما فعل، وما فعل الناس به. (3) انظر تفسير ((الولي)) فيما سلف 10: 497، تعليق: 5، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((الجدال)) فيما سلف من فهارس اللغة (جدل) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم; كما:- 13833- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وإن أطعتموهم) ، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه. 13834- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن أطعتموهم) ، فأكلتم الميتة. * * * وأما قوله: (إنكم لمشركون) ، يعني: إنكم إذًا مثلهم، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم. (1) * * * وروي عن الحسن البصري وعكرمة، ما:- 13835- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) ، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [سورة المائدة: 5] . * * *   (1) انظر ((الناسخ والمنسوخ)) ، لأبي جعفر النحاس صلى الله عليه وسلم: 144، قال: ((وفي هذه السورة = يعني سورة الأنعام = شيء قد ذكره قوم هو عن الناسخ والمنسوخ بمعزل، ولكنا نذكره ليكون الكتاب عام الفائدة ... )) ثم ذكر الآية، وما قيل في ذلك، إلى صلى الله عليه وسلم: 146. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن هذه الآية محكمة فيما أنزلت، لم ينسخ منها شيء، وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة. وذلك مما حرم الله على المؤمنين أكله بقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ، بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أهلّ به للطواغيت، وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سمُّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها، يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه، سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه، إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل، أو بعبادة شيء سوى الله، فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسم. * * * القول في تأويل قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} قال أبو جعفر: وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به، وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرًا، فهداه جلّ ثناؤه لرشده، ووفقه للإيمان. فقال لهم: أطاعة من كان ميتًا، يقول: من كان كافرًا؟ فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته، وجهله بتوحيده وشرائع دينه، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته، بمنزلة"الميت" الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة= (فأحييناه) ، يقول: فهديناه للإسلام، فأنعشناه، فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سَخَط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 الله وعقابه في معاده. فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عَمَاه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس (1) = (كمن مثله في الظلمات) ، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشدًا ولا يعرف حقًّا، = يعني في ظلمات الكفر. يقول: أفَطَاعة هذا الذي هديناه للحق وبصَّرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد، لا يعرف المخرج منها، في دعاء هذا إلى تحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل، وتحليل هذا ما حرم الله، وتحريمه ما أحلّ؟ * * * وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما معروفين: أحدهما مؤمن، والآخر كافر. ثم اختلف أهل التأويل فيهما. فقال بعضهم: أما الذي كان مَيْتًا فأحياه الله، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام. * ذكر من قال ذلك: 13836- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا سليمان بن أبي هوذة، عن شعيب السراج، عن أبي سنان عن الضحاك في قوله: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه = (كمن مثله في الظلمات) ، قال: أبو جهل بن هشام. (2) * * *   (1) انظر تفسير ((الموت)) ، و ((الإحياء)) فيما سلف من فهارس اللغة (موت) و (حيي) . (2) الأثر: 13836 - ((سليمان بن أبي هوذة)) ، روى عن حماد بن سلمة، [وأبي هلال الراسبي، وعمرو بن أبي قيس. لم يذكر فيه البخاري جرحًا. وقال أبو زرعة: ((صدوق لا بأس به)) . مترجم في الكبير 2 / 2 / 42، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 148. وأما ((شعيب السراج)) ، فلم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله، عمار بن ياسر رحمة الله عليه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام. * ذكر من قال ذلك: 13837- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن بشر بن تيم، عن رجل، عن عكرمة: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، قال: نزلت في عمار بن ياسر. (1) 13838- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن بشر، عن تيم، عن عكرمة: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، عمار بن ياسر = (كمن مثلة في الظلمات) ، أبو جهل بن هشام. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في الآية قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13839- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أو من كان ميتًا فأحييناه) قال: ضالا فهديناه= (وجعلنا له نورًا يمشي به في للناس) ، قال: هدى= (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) ، قال: في الضلالة أبدًا. 13840- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) الأثران: 13837، 13838 - ((بشر بن تيم بن مرة)) ، ويقال: ((بشير بن تيم بن مرة)) . وهو في الإسناد الأول، بينه وبين عكرمة ((عن رجل)) . وقد قال البخاري في الكبير 1 / 2 /96: ((بشير بن تيم بن مرة)) عن عكرمة، قاله لنا الحميدي، عن ابن عيينه. مرسل، ولم يذكر فيه جرحًا، وجعله ((بشيرًا)) وأما ابن أبي حاتم 1 / 1 / 372 فقد ترجمه في ((بشير)) ، كمثل ما قال البخاري، ولم يذكر ((بشرا)) ، ولكنه ترجمه قبل 1 / 1 / 352 في ((بشر بن تيم)) وقال: ((مكي)) ، روى عنه ابن جريج، وابن عيينة. سمعت أبي يقول ذلك. وابن عيينة يقول: ((بشير)) . ولكنه هنا في المخطوطة في الموضعين ((بشر بن تيم)) ، في رواية ابن عيينة يقول، فتركت ما كان في المخطوطة على حاله، لئلا يكون اختلافًا على ابن عيينة. (2) الأثران: 13837، 13838 - ((بشر بن تيم بن مرة)) ، ويقال: ((بشير ابن تيم بن مرة)) . وهو في الإسناد الأول، بينه وبين عكرمة ((عن رجل)) . وقد قال البخاري في الكبير 1 / 2 /96: ((بشير بن تيم بن مرة)) عن عكرمة، قاله لنا الحميدي، عن ابن عيينه. مرسل، ولم يذكر فيه جرحًا، وجعله ((بشيرًا)) وأما ابن أبي حاتم 1 / 1 / 372 فقد ترجمه في ((بشير)) ، كمثل ما قال البخاري، ولم يذكر ((بشرا)) ، ولكنه ترجمة قبل 1 / 1 / 352 في ((بشر بن تيم)) وقال: ((مكي)) ، روى عنه ابن جريج، وابن عيينة. سمعت أبي يقول ذلك. وابن عيينة يقول: ((بشير)) . ولكنه هنا في المخطوطة في الموضعين ((بشر بن تيم)) ، في رواية ابن عيينة يقول، فتركت ما كان في المخطوطة على حاله، لئلا يكون اختلافًا على ابن عيينة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، هديناه= (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات) في الضلالة أبدًا. 13841- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، قال: ضالا فهديناه. 13842- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، يعني: من كان كافرًا فهديناه= (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، يعني بالنور، القرآنَ، من صدَّق به وعمل به= (كمن مثله في الظلمات) ، يعني: بالظلمات، الكفرَ والضلالة. 13843- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، يقول: الهدى="يمشي به في الناس"، يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام. يقول: كان مشركًا فهديناه= (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) . 13844- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أو من كان ميتًا فأحييناه) ، هذا المؤمن معه من الله نور وبيِّنة يعمل بها ويأخذ، وإليها ينتهي، كتابَ الله = (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) ، وهذا مثل الكافر في الضلالة، متحير فيها متسكع، لا يجد مخرجًا ولا منفذًا. 13845- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، يقول: من كان كافرًا فجعلناه مسلمًا، وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس، وهو الإسلام، يقول: هذا كمن هو في الظلمات، يعني: الشرك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 13846- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس) ، قال: الإسلام الذي هداه الله إليه = (كمن مثله في الظلمات) ، ليس من أهل الإسلام. وقرأ: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) ، [سورة البقرة: 257] . قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره، وكذلك الذي آتاه الله هذا النور، يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره، (1) كما يستضيء صاحب هذا السراج. قال: (كمن مثله في الظلمات) ، لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه. * * * القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم = أيها المؤمنون بالله ورسوله، في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم = عن الحق، فزينت له سوءَ عمله فرآه حسنًا، ليستحق به ما أعددت له من أليم العقاب، كذلك زيَّنت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته، ما كانوا يعملون من معاصي الله، ليستوجبوا بذلك من فعلهم، ما لهم عند ربهم من النَّكال. (2) * * * قال أبو جعفر: وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوَّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم، فلا صنع له في أفعالهم، (3) وأنه قد سوَّى بين جميعهم في   (1) في المطبوعة: ((في فوره)) بالفاء، والصواب ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير ((التزيين)) فيما سلف: ص: 37، تعليق: ص: 1، والمراجع هناك. (3) ((التفويض) ، هو زعم القدرية والمعتزلة والإمامية من أهل الفرق، أن الأمر قد فوض إلى العبد، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان أو معصية، وهو خالق أفعاله، والاختيار، ينفون أن تكون أفعال العباد من خلق الله. وانظر ما سلف 1: 162 تعليق: 3 / 11: 340، تعليق: 2، وانظر ما سيأتي ص: 108، تعليق: 1. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان قد زَيَّن لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر، نظيرَ ما زيَّن من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به، وزيّن لأهل الكفر به من الإيمان به، نظيرَ الذي زيّن منه لأنبيائه وأوليائه. وفي إخباره جل ثناؤه أنه زين لكل عامل منهم عمله، ما ينبئ عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان، وخصّ أعداءه وأهل الكفر، بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان، وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها= يعني أهل الشرك بالله والمعصية له= (ليمكروا فيها) ، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه = (وما يمكرون) : أي ما يحيق مكرهم ذلك، إلا بأنفسهم، لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله ="وهم لا يشعرون"، يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه، (1) فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير ((شعر)) فيما سلف: ص: 38، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 13847- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أكابر مجرميها) ، قال: عظماءها. 13848- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13849- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أكابر مجرميها) ، قال: عظماءها. 13850- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: نزلت في المستهزئين = قال ابن جريج، عن عمرو، عن عطاء، عن عكرمة: (أكابر مجرميها) ، إلى قوله: (بما كانوا يمكرون) ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين. * * * والأكابر: جمع"أكبر"، كما"الأفاضل" جمع"أفضل". ولو قيل: هو جمع"كبير"، فجمع"أكابر"، لأنه قد يقال:"أكبر"، كما قيل: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) ، [سورة الكهف: 103] ، واحدهم"الخاسر"، لكان صوابًا. وحكي عن العرب سماعًا "الأكابرة" و"الأصاغرة"، و"الأكابر"، و"الأصاغر"، بغير الهاء، على نية النعت، كما يقال:"هو أفضل منك". وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على" أفعل"، إذا أخرجوها إلى الأسماء، مثل جمعهم"الأحمر" و"الأسود"،"الأحامر" و"الأحامرة"، و"الأساود" و"الأساودة"، ومنه قول الشاعر: (1) إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثَةَ أَهْلَكَتْ ... مَالِي، وكُنْتُ بِهِنّ قِدْمًا مُولَعًا   (1) هو الأعشى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 الخَمْرُ واللَّحْمُ السِّمِينُ إدَامُهُ ... والزَّعْفَرَانُ، فَلَنْ أرُوحَ مُبَقَّعَا (1) * * * وأما"المكر"، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم، ليصدّوا عن سبيل الله = (آية) ، يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد من عند الله وحقيقته (2) = قالوا لنبي الله وأصحابه: = (لن نؤمن) ، يقول: يقولون: لن نصدق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به، وبما جاء به من تحريم ما ذكر أنّ الله حرّمه علينا= (حتى نؤتى) ، يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر، وعيسى من إحياء الموتى،   (1) ديوانه 247، 248، وهي في نسختي المصورة من ديوان الأعشى رقم: 29، واللسان (حمر) وهو أول الشعر. وكان في المطبوعة هنا: ((السمين أديمه)) ، و ((فلن أزال مبقعا)) ، وأثبت ما في المخطوطة وفي مخطوطة الأعشى: ((السمين، وأطلى بالزعفران وقد أروح مبقعًا)) . وهكذا جاء في المخطوطة: ((السمين إدامه)) ، والإدام ما يؤتدم به مع الخبز، أي شيء كان. وعجيب إضافة الإدام إلى اللحم. ويروى: ((أديمه)) ، ضبطه في اللسان بفتح الألف، وهو غير مرتضى، بل الصواب إن شاء الله ((أديمه)) من ((أدام الشيء)) ، إذا أطال زمانه واستمر به. ورواية أبي جعفر هنا ((فلن أروح مبقعًا)) ، ورواية مخطوطة ديوانه: ((وقد أروح مبقعًا)) ، وهي أجودهما. و ((المبقع)) الذي فيه لون يخالف لونه، أو لون ما أصابه الماء أو الزعفران أو ما شابههما. يعني أنه يكثر من الزعفران حتى يترك في بشرته لمعا. وأكثر ما كانوا يستعملون الزعفران في أعراسهم، إذا أعرس الرجل تزعفر. فكني بذلك عن كثرة زواجه. وفي البيت روايات أخرى، راجعها في حواشي ديوانه، في ذيل الديوان. (2) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 وإبراء الأكمه والأبرص. (1) يقول تعالى ذكره: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) ، يعني بذلك جل ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسول مرسل، (2) وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها. يقول جل ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهل، فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم، لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه، والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته. * * * القول في تأويل قوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، معلِّمَه ما هو صانع بهؤلاء المتمردين عليه:"سيصيب"، يا محمد، (3) الذين اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره = (صغار) ، يعني: ذلة وهوان، كما:- 13851- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله) ، قال:"الصغار"، الذلة. * * * وهو مصدر من قول القائل:"صَغِرَ يصغَرُ صَغارًا وصَغَرًا"، وهو أشدّ الذلّ. * * *   (1) انظر تفسير ((الإيتاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) . (2) في المطبوعة: ((لم يعطها)) ، وفي المخطوطة: ما أثبت، وهو صواب محض. (3) انظر تفسير ((الإصابة)) فيما سلف: 11: 170، تعليق 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 وأما قوله: (صغار عند الله) ، فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله، كقول القائل:"سيأتيني رزقي عند الله"، بمعنى: من عند الله، يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله. وغير جائز لمن قال:"سيصيبهم صغار عند الله"، أن يقول:"جئت عند عبد الله"، بمعنى: جئت من عند عبد الله، لأن معنى"سيصيبهم صغارٌ عند الله"، سيصيبهم الذي عند الله من الذل، بتكذيبهم رسوله. فليس ذلك بنظير:"جئت من عند عبد الله". (1) . * * * وقوله: (وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) ، يقول: يصيب هؤلاء المكذبين بالله ورسوله، المستحلين ما حرَّم الله عليهم من الميتة، مع الصغار عذابٌ شديد، بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل، والزخرف من القول، غرورًا لأهل دين الله وطاعته. (2) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 253 = تفسير ((عند)) فيما سلف 2: 501/7: 490/8: 555. (2) انظر تفسير ((المكر)) فيما سلف قريبًا ص: 95 * * * وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما يصيب: ((يتلوه القول في تأويل قوله: " فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ")) . وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم كثيرا، ثم يتلوه ما نصه: ((بسم الله الرحمن الرحيم َرِّب يَسِّر)) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 القول في تأويل قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره: فمن يرد الله أن يهديه للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه، فيوفقه له (1) = (يشرح صدره للإسلام) ، يقول: فسح صدره لذلك وهوَّنه عليه، وسهَّله له، بلطفه ومعونته، حتى يستنير الإسلام في قلبه، فيضيء له، ويتسع له صدره بالقبول، كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:- 13852- حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي يحدث، عن عبد الله بن مرة، عن أبي جعفر قال: لما نزلت هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوت. (2)   (1) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (2) الأثر: 13852 - ((عبد الله بن مرة)) ، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير، وأنا أستبعد أن يكون كذلك لأسباب. الأول - أني أستبعد أن يكون هو ((عبد الله بن مرة الخارفي)) ، الذي يروي عن ابن عمر، ومسروق، وأبي كثف، والذي يروي عنه العمش، ومنصور. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 165، وهو ثقة. الثاني - أن الخبر رواه أبو جعفر الطبري بأسانيد، هذا ورقم: 13853، 13854، وهي تدور على ((عمرو بن مرة)) . الثالث - أنه سيتبين بعد مَنْ ((أبو جعفر)) الذي روى هذا الخبر، ومذكور هناك أنه روى عنه ((عمرو بن مرة)) ، ولم يذكر ((عبد الله بن مرة)) . فمن أجل ذلك أرجح أن صوابه ((أبو عبد الله بن مرة)) ، أو ((أبو عبد الله عمرو بن مرة)) ، فسقط من النساخ. وأما ((أبو جعفر)) الذي يدور عليه هذا الخبر، فهو موصوف في الخبر رقم 13854: ((رجل يكنى أبا جعفر، كان يسكن المدائن)) ، ثم جاءت صفة أخرى في تخريج السيوطي لهذا الخبر في الدر المنثور، قال: ((رجل من بني هاشم، وليس هو محمد بن علي)) = يعني الباقر. وقد وقفت أولا عند ((أبي جعفر)) هذا، وظننت أنه مجهول، لأني لم أجد له ذكرًا في شيء مما بين يدي من الكتب، ولكن لما جئت إلى الخبر رقم: 13856 من رواية ((خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور)) ، تبين لي على وجه القطع، أن ((أبا جعفر)) هذا، الذي كان يسكن المدائن، وكان من بني هاشم، هو نفسه ((عبد الله بن المسور)) ، الذي روى عنه رقم: 13856. وإذن، فهو ((أبو جعفر)) : ((عبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب)) ((أبو جعفر الهاشمي المدائني)) . روى عنه عمرو بن مرة، وخالد بن أبي كريمة. مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 169، وتاريخ بغداد 10: 17، وميزان الاعتدال للذهبي 2: 78، ولسان الميزان 3: 360. قال الخطيب. ((سكن المدائن، وحدث بها عن محمد بن الحنفية) ، وذكر في بعض ما ساقه من أسانيد أخباره: ((عن خالد بن أبي كريمة (وهو الآتي برقم: 13856) ، عن أبي جعفر وهو عبد الله بن المسور، رجل من بني هاشم، كان يسكن المدائن)) . و ((أبو جعفر)) ، ((عبد الله بن المسور)) ضعيف كذاب. قال جرير بن رقبة: ((كان أبو جعفر الهاشمي المدائني، يضع أحاديث كلام حق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلط بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمله الناس)) . وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل: ((قال أبي: أبو جعفر المدائني، اسمه عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب. قال أبي: اضرب على حديثه، كان يضع الحديث ويكذب، وقد تركت أنا حديثه. وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدثنا عنه)) . وقال ابن أبي حاتم: ((سألت أبي عن جعفر الهاشمي فقال: الهاشميون لا يعرفونه، وهو ضعيف الحديث، يحدث بمراسيل لا يوجد لها أصل في أحاديث الثقات)) . وإذن، فالأخبار من رقم: 13852 - 13854، ورقم: 13856 - أخبار معلولة ضعاف واهية، كما ترى. وهذه الأخبار الثلاثة: 13852 - 13854، ذكرها ابن كثير في تفسيره 3: 394، 395، وخرجها السيوطي في الدر المنثور 3: 44، ونسب الخبر لابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 395، وذكر هذه الأخبار، وخبر مسعود الذي رواه أبو جعفر برقم: 13855، 13857، ثم قال: ((فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضًا، والله أعلم. وأخطأ الحافظ جدًا كما ترى، فإن حديث أبي جعفر الهاشمي، أحاديث كذاب وضاع لا تشد شيئًا ولا تحله!! وكتبه محمود محمد شاكر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 13853- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر قال: سئل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا. قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قالوا: كيف يشرح صدره، يا رسول الله؟ قال: نور يُقذف فيه، فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال:"الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت. 13854- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن رجل يكنى"أبا جعفر"، كان يسكن المدائن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قال: نور يقذف في القلب فينشرح وينفسخ. قالوا: يا رسول الله، هل له من أمارة يعرف بها؟ = ثم ذكر باقي الحديث مثله. (1) 15855- حدثني هلال بن العلاء قال، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قال: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتنحِّي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت. (2)   (1) الأثران: 13853، 13854 - حديثان واهيان، كما سلف في التعليق على الخبر السالف. و ((عمرو بن مرة المرادي)) ، ثقة مأمون. مضى مرارًا، آخرها رقم: 12396. (2) الأثر: 13855 - ((هلال بن العلاء بن هلال الباهلي الرقى)) ، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: 4964، وأنه صدوق، متكلم فيه. وكأن في المطبوعة: ((محمد بن العلاء)) ، وهو شيء لا أصل له هنا. وفي المخطوطة: ((لعلي ابن العلا)) ، غير منقوطة، كأنها تقرأ (يعلي بن العلا)) ، ولم أجد في شيوخ أبي جعفر، ولا في الرواة، من سمى بذلك. ورأيت ابن كثير في تفسيره 3: 395، نقل عن هذا الموضع من ابن جرير قال: ((حدثني هلال بن العلاء، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد)) ، فأيد هذا أن أبا جعفر روى آنفًا عن شيخه ((هلال بن العلاء)) ، أن الذي في المخطوطة تحريف على الأرجح، ولذلك أثبته كم هو في ابن كثير: ((هلال بن العلاء)) . و ((سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني)) . ضعيف، ضعفه ابن أبي حاتم، والدارقطني، وقال: ((لا يحتج به)) . قال أبو حاتم: ((يتكلمون فيه، يقال إنه أخذ كتبًا لمحمد بن سلمة، فحدث بها. ورأيت فيما حدث أكاذيب، كذب)) . مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 1 / 45، ميزان الاعتدال 1: 387، ولسان الميزان 3: 37. و ((محمد بن سلمة الحراني)) ، ثقة، مضى برقم: 175. و ((أبو عبد الرحيم)) ، هو ((خالد بن أبي يزيد الحراني)) ، روى ابن أخته ((محمد بن سلمة الحراني)) ، حسن الحديث متقن. مضى له ذكر في التعليق على الأثر رقم: 8396. و ((زيد بن أبي أنيسة الجزري)) ، ثقة، مضى برقم: 4964، 8396. و ((عمرو بن مرة المرادي)) ، مضى آنفًا في رقم: 13853، 13854. و ((أبو عبيدة)) ، هو ((أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود)) ، مضى مرارًا كثيرة جدًا، وهو لم يسمع من أبيه، كما سلف مرارًا. زهذا خبر ضعيف أيضًا، لضعف أحاديث ((سعيد بن واقد الحراني، عن ((محمد بن سلمة)) ، كما ذكر أبو حاتم. ثم لأن أبا عبيدة، لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود. وسيأتي خبر عبد الله بن مسعود برقم: 13857، من طريق أخرى. فالعجب لابن كثير. كيف تكون هذه أحاديث متصلة، ثم كيف تشدها أخبار كذاب وضاع. وانظر ما أسلفت في التعليق على رقم: 13852. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 13856- حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل النور القلبَ انفسح وانشرح. قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك من علامة تعرف؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت. (1)   (1) الأثر: 13856 - ((خالد بن أبي كريمة الأصبهاني)) و ((أبو عبد الرحمن الاسكاف)) وثقه أحمد وأبو داود، وابو حاتم وابن وابن حبان وقال ((يخطئ)) ، وضعفه ابن معين مترجم في التهذيب. والكبير 2 / 1 / 154. وابن أبي حاتم 1 / 2 / 349. قال البخاري ((عن معاوية ابن قرة، وأبي جعفر عبد الله بن مسور المسوري)) ، ولم يذكر فيه جرحًا. و ((عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي المدائني)) ، سلف برقم: 13852، وأنه هو ((أبو جعفر)) المدائني، وأنه كذاب وضاع. وانظر تخريج الخبر والتعليق عليه هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 13857- حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف يُشرح صدره؟ قال: يدخل فيه النور فينفسح. قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنالة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13859- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، أما"يشرح صدره للإسلام"، فيوسع صدره للإسلام. (2) 13860- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، بـ "لا إله إلا الله". 13861- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) ، بـ" لا إله إلا الله" يجعل لها في صدره متَّسعًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى، يَشغله بكفره وصدِّه عن سبيله، ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه، (3) حرجًا. (4) * * * و"الحرج"، أشد الضيق، وهو الذي لا ينفذه، من شدة ضيقه، (5) وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة، ولا يدخله نور الإيمان، لريْن الشرك عليه. وأصله من"الحرج"، و"الحرج" جمع"حَرَجة"، وهي الشجرة الملتف بها   (1) الأثر: 13857 - ((ابن سنان القزاز)) ، شيخ الطبري، هو: ((محمد بن سنان القزاز)) مضى برقم: 157، 1999، 2056، 5419، 6822. و ((محبوب بن الحسن الهاشمي البصري)) ، ((محبوب)) لقب، وهو به أشهر، واسمه: ((محمد بن الحسن بن هلال بن أبي زينب فيروز القرشي)) ، مولى بني هاشم. ثقة، وضعفوه مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 67، في ((محمد بن الحسن البصري)) ، وابن أبي حاتم في ((محمد ابن الحسن البصري)) 3 / 2 / 228، ثم في ((محبوب بن الحسن بن هلال)) 4 / 1 / 388، ولم يشر إلى أن اسمه ((محمد بن الحسن)) . و ((يونس)) هو: ((يونس بن عبيد بن دينار العبدي)) ، ثقة، مضى برقم: 2616، 4931، 10574. و ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة)) ، هذا إشكال شديد، فإن ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود)) ، متأخر جدًا، روى عن أبي إسحاق السبيعي وطبقته ومات سنة 160، أو سنة 165. و ((يونس بن عبيد)) ، أعلى طبقة منه، روى عن إبراهيم التيمي، والحسن البصري، وابن سيرين. ومات سنة 140، فهو في طبقة شيوخه، فلو كان يونس روى عنه، لذكر مثل ذلك في ترجمة ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة)) . وأنا أرجح أن صواب الإسناد: ((عن يونس، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عتبة)) . وهو ((عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي)) ، كنيته ((أبو عبد الرحمن)) ، وهو الذي يروي عن عمه ((عبد الله بن مسعود)) ، وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، ومات سنة 74. فهو الخليق أن يروي عنه ((يونس بن عبيد)) . وهذا أيضًا خبر ضعيف، لضعف ((محبوب بن الحسن)) ، وإذن فكل ما قاله الحافظ ابن كثير من أن هذه الأخبار جاءت بأسانيد مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا، قول ينفيه شرح هذه الأسانيد كما رأيت، والله الموفق للصواب، وكتبه محمود محمد شاكر. (2) تخطيت في الترقيم رقم: 13858: خطأ. (3) في المطبوعة: ((لشغله بكفره ... يجعل صدره)) ، الأخيرة بغير واو، وفي المخطوطة كما أثبتها، وبغير واو في ((يجعل صدره)) ، والسياق يقتضي ما أثبت. (4) انظر تفسير ((الإضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . (5) في المطبوعة: ((لا ينفذ)) ، وأثبت ما في المخطوطة. وهو الصواب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 الأشجار، لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها، (1) كما:- 13862- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الله بن عمار = رجل من أهل اليمن= عن أبي الصلت الثقفي: أن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الآية: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) بنصب الراء. قال: وقرأ بعض مَنْ عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ضَيِّقًا حَرِجًا". قال صفوان: فقال عمر: ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيًا، (2) وليكن مُدْلجيًّا. (3) قال: فأتوه به. فقال له عمر: يا فتى، ما الحرجة؟ قال:"الحرجة" فينا، الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيَّة ولا شيء. قال: فقال عمر: كذلك قلبُ المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. (4) 13863- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، يقول: من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، [سورة الحج:78] ، يقول: ما جعل   (1) انظر تفسير ((الحرج)) فيما سلف 8: 518 / 10: 85. (2) قوله: ((واجعلوه راعيًا)) ، أي التمسوه، وليكن راعيًا، ليس من معنى ((الجعل)) الذي هو التصيير. وهذا استعمال عربي عريق في ((جعل)) ، ولكنهم لم يذكروه في المعاجم، وهو دائر في كلام العرب، وهذا من شواهده، فليقيد في مكانه من كتب العربية. (3) ((مدلج)) قبيلة من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة، وهم القافة المشهورون، ويدل هذا الخبر على أن أرض مرعاهم كانت كثيرة الشجر. (4) الأثر: 13862 - ((عبد الله بن عمار اليمامي)) ، قال ابن أبي حاتم: ((مجهول)) ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 129. و ((أبو الصلت الثقفي)) ، روى عن عمر، وروى عنه عبد الله بن عمار اليمامي، هذا الحديث. مترجم في التهذيب، والكني للبخاري: 44، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 394. وهذا خبر عزيز جدًا. في بيان رواية اللغة وشرحها، وسؤال الأعراب والرعاة عنها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 عليكم في الإسلام من ضيق. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال: بعضهم معناه: شاكًّا. * ذكر من قال ذلك: 13864- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حميد، عن مجاهد: (ضيقًا حرجًا) قال: شاكًّا. 13865- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ضيقًا حرجًا) أما"حرجًا"، فشاكًّا. * * * وقال آخرون: معناه: ملتبسًا. * ذكر من قال ذلك: 13866- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، قال: ضيقًا ملتبسًا. 13867- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن الحسن، عن قتادة أنه كان يقرأ: (ضَيِّقًا حَرَجًا) ، يقول: ملتبسًا. * * * وقال آخرون: معناه: أنه من شدة الضيق لا يصل إليه الإيمان. * ذكر من قال ذلك: 13868- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: (يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، قال: لا يجد مسلكًا إلا صُعُدًا. 13869- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عطاء الخراساني: (ضيقًا حرجًا) ، قال: ليس للخير فيه منفَذٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 13870- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن عطاء الخراساني، مثله. 13871- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: (ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا) ، بلا إله إلا الله، لا يجد لها في صدره مَسَاغًا. 13872- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً في قوله: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا) ، بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخله. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (ضَيِّقًا حَرَجًا) بفتح الحاء والراء من (حرجًا) ، وهي قراءة عامة المكيين والعراقيين، بمعنى جمع"حرجة"، على ما وصفت. (1) * * * وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة:"ضَيِّقًا حَرِجًا"، بفتح الحاء وكسر الراء. * * * ثم اختلف الذين قرأوا ذلك في معناه. فقال بعضهم: هو بمعنى:"الحَرَج". وقالوا:"الحرَج" بفتح الحاء والراء، و"الحرِج" بفتح الحاء وكسر الراء، بمعنى واحد، وهما لغتان مشهورتان، مثل:"الدَّنَف" و"الدَّنِف"، و"الوَحَد" و"الوَحِد"، و"الفَرَد" و"الفَرِد". * * * وقال آخرون منهم: بل هو بمعنى الإثم، من قولهم:"فلان آثِمٌ حَرِجٌ"، وذكر عن العرب سماعًا منها:"حَرِجٌ عليك ظُلمي"، بمعنى: ضِيقٌ وإثْم. (2)   (1) انظر ص: 103، 104. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 353، 354. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ، لاتفاق معنييهما. وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في"الوحَد" و"الفَرَد" بفتح الحاء من"الوحد" والراء من"الفرد"، وكسرهما، بمعنى واحدٍ. * * * وأما"الضيِّق"، فإن عامة القرأة على فتح ضاده وتشديد يائه، خلا بعض المكيين فإنه قرأه:"ضَيْقًا"، بفتح الضاد وتسكين الياء، وتخفيفه. وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان: أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد، كما قيل:"هَيْنٌ لَيْنٌ"، بمعنى: هيِّنٌ ليِّنٌ. والآخر: أن يكون سكنه بنية المصدر، من قولهم:"ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقًا"، كما قال رؤبة: قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ كُلِّ مَأْزِقِ ... ضَيْقٍ بِوَجْهِ الأمْرِ أَوْ مُضَيِّقِ (1) ومنه قول الله: (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ، [سورة النحل: 127] . وقال رؤبة أيضًا * وَشَفَّها اللَّوحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ * (2)   (1) ليسا في ديوانه، ولم أجدهما في مكان آخر، ومنها أبيات في الزيادات: 179، 180، ولم يذكرا معها. وكان في المطبوعة: ((وقد علمنا)) بزيادة الواو. وكان فيها: ((أي مضيق)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب إن شاء الله. (2) ديوانه: 105، والوساطة: 14. ((مأزول)) من ((الأزل)) (بسكون الزاي) ، وهو الضيق والجدب وشدة الزمان، وفي حديث الدجال: ((أنه يحضر الناس ببيت المقدس، فيؤزلون أزلا)) ، أي: يقحطون ويضيق عليهم. ومعنى: ((مأزول)) ، أصابه القحط، يعني مرعى، ومثله قول الراجز: إنَّ لَهَا لَرَاعِيًا جَرِيَّا ... أَبْلا بمَا يَنْفَعُها قَوِيَّا لَمْ يَرْعَ مَأْزُولا وَلا مَرْعِيَّا ... حَتَّى علاَ سَنَامُهَا عُلِيَّا و ((شفها)) أنحل جسمها، وأذهب شحمها. و ((اللوح)) (بضم اللام) وهو أعلى اللغتين، و ((اللوح)) (بفتح فسكون) : وهو العطش الذي يلوح الجسم، أي يغيره. وقوله: ((ضيق)) حرك ((الياء)) بالفتح. وعده القاضي الجرجاني في أخطاء رؤبة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 بمعنى: ضيّق. وحكي عن الكسائي أنه كان يقول:"الضيِّقُ"، بالكسر: في المعاش والموضع، وفي الأمر"الضَّيْق". * * * قال أبو جعفر: وفي هذه الآية أبينُ البيان لمن وُفّق لفهمهما، عن أن السبب الذي به يُوصل إلى الإيمان والطاعة، غير السبب الذي به يُوصل إلى الكفر والمعصية، وأن كلا السببين من عند الله. (1) وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدرَ من أراد هدايته للإسلام، ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيِّقًا عن الإسلام حَرَجًا كأنَّما يصعد في السماء. ومعلومٌ أن شرح الصدر للإيمان خِلافُ تضييقه له، وأنه لو كان يوصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه، لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق، ولكان من ضُيِّق صدره عن الإيمان، قد شُرِح صدره له، ومن شرح صدره له، فقد ضُيِّق عنه، إذ كان مَوْصولا بكل واحد منهما= أعني من التضييق والشرح = إلى ما يُوصَل به إلى الآخر. ولو كان ذلك كذلك، وجب أن يكون الله قد كان شرح صدرَ أبي جهل للإيمان به، وضيَّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وهذا القول من أعظم الكفر بالله. وفي فساد ذلك أن يكون كذلك، الدليلُ الواضح على أن السَّبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله، وأطاعه المطيعون، غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون، وأن كِلا السببين من عند الله وبيده، لأنه أخبر جل ثناؤه أنه هو   (1) هذا رد على المعتزلة، وانظر ما سلف ص: 92، تعليق: 3، وهو من أجود الردود على دعوى المعتزلة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 الذي يشرح صدرَ هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته، ويضيِّق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلالَه. * * * القول في تأويل قوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} قال أبو جعفر: وهذا مثل من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصُّعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وسعه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13873- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عطاء الخراساني: (كأنما يصعد في السماء) ، يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء. 13874- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن عطاء الخراساني، مثله. 13875- وبه قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً:"يجعل صدره ضيقًا حرجًا"، بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخله،"كأنما يصعد في السماء"، من شدّة ذلك عليه. 13876- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، مثله. 13877- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كأنما يصعد في السماء) ، من ضيق صدره. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ) ، بمعنى:"يتصعَّد"، فأدغموا التاء في الصاد، فلذلك شدَّدوا الصاد. * * * وقرأ ذلك بعض الكوفيين:"يَصَّاعَدُ"، بمعنى:"يتصاعد"، فأدغم التاء في الصاد، وجعلها صادًا مشدَّدة. * * * وقرأ ذلك بعض قرأة المكيين:"كَأَنَّمَا يَصْعَدُ"، من"صَعِد يصعَد". * * * وكل هذه القراءات متقاربات المعانى، وبأيِّها قرأ القارئ فهو مصيب، غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ) ، بتشديد الصاد بغير ألف، بمعنى:"يتصعد"، لكثرة القرأة بها، (1) ولقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"مَا تَصَعَّدَني شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خُطْبَةُ النّكاح". * * * القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما يجعل الله صدر مَنْ أراد إضلاله ضيقًا حرجًا، كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان فيجزيه بذلك، كذلك يسلّط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبَى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصدّه عن سبيل الحق. * * *   (1) انظر تفسير ((الصعود)) فيما سلف 7: 299 - 302. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 وقد اختلف أهل التأويل في معنى"الرجس". فقال بعضهم: هو كل ما لا خير فيه. * ذكر من قال ذلك: 13878- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"الرجس"، ما لا خير فيه. 13879- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد: (يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) ، قال: ما لا خير فيه. * * * وقال آخرون:"الرجس"، العذاب. * ذكر من قال ذلك: 13880- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) ، قال: الرجس عذابُ الله. * * * وقال آخرون:"الرجس"، الشيطان. * ذكر من قال ذلك: 13881- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (الرجس) ، قال: الشيطان. * * * وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفيين يقول:"الرِّجْس"،"والنِّجْس" لغتان. ويحكى عن العرب أنها تقول:"ما كان رِجْسًا، ولقد رَجُس رَجَاسة" و"نَجُس نَجَاسة". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 وكان بعض نحويي البصريين يقول:"الرجس" و"الرِّجز"، سواء، وهما العذاب. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس، ومَنْ قال إن"الرجس" و"النجس" واحد، للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخَلاء:"اللهُمّ إنّي أعوذ بك من الرجْس النِّجْس الخبيث المُخْبِثِ الشيطان الرَّجيم". (2) 13882- حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختري الطائي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (3) * * * وقد بيَّن هذا الخبر أن"الرِّجْس" هو"النِّجْس"، القذر الذي لا خير فيه، وأنه من صفة الشيطان. * * *   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 206، فهذا قوله. (2) قال أبو عبيد: ((الخبيث)) ذو الخبث في نفسه، و ((المخبث)) (بكسر الباء) : الذي أصحابه وأعوانه خبثاء = وهو مثل قولهم: ((فلان ضعيف مضعف، وقوي مقو)) ، فالقوي في بدنه، والمقوى الذي تكون دابته قوية = يريد هو الذي يعلمهم الخبث ويوقعهم فيه. (3) الأثر: 13882 - ((عبد الرحمن بن البختري الطائي)) ، شيخ أبي جعفر، لم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب؛ وأخشى أن يكون في اسمه خطأ. و ((عبد الرحمن بن محمد المحاربي)) ، سلف مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 10339. و ((إسماعيل بن مسلم المكي البصري)) ، مضى برقم: 5417، 8811. وهذا إسناد صحيح، ولكني لم أجد هذا الخبر في حديث أنس، في المسند أو غيره، ووجدته بهذا اللفظ في حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف، من طريق يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، رواه ابن ماجه في سننه ص: 109 رقم: 299. قال ابن حبان: ((إذا اجتمع في إسناد خبر، عبيد الله بن زحر، وعلى بن يزيد، عن القاسم، فذاك مما عملته أيديهم!)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 القول في تأويل قوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بيّنا لك، يا محمد، في هذه السورة وغيرها من سور القرآن= هو صراطُ ربك، يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه. (1) فاثبُتْ عليه، وحرِّم ما حرمته عليك، وأحلل ما أحللته لك، فقد بيّنا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته (2) ="لقوم يذكرون"، يقول: لمن يتذكر ما احتجَّ الله به عليه من الآيات والعبر فيعتبر بها. (3) وخص بها"الذين يتذكرون"، لأنهم هم أهل التمييز والفهم، وأولو الحجى والفضل= وقيل:"يذَّكرون" ...................... (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13883- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وهذا صراط ربك مستقيمًا) ، يعني به الإسلام. * * *   (1) انظر تفسير: ((الصراط المستقيم)) فيما سلف 10: 146، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((فصل)) فيما سلف ص: 69، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (3) انظر تفسير ((التذكر)) فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر. (4) في المطبوعة ((فقيل يذكرون)) ، وفي المخطوطة: ((وقيل يذكرون)) كأنه أراد أن يكتب شيئًا، ثم قطعه. ولعله أراد أن يبين إدغام التاء في الذال من ((يتذكرون)) ، ثم سقط منه أو من الناسخ، فوضعت نقطًا لذلك، وإن كان إسقاطها لا يضر شيئًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 القول في تأويل قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لهم"، للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها، ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فيصدِّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذاك. * * * وأما"دار السلام"، فهي دار الله التي أعدَّها لأولياته في الآخرة، جزاءً لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله، وهي جنته. و"السلام"، اسم من أسماء الله تعالى، (1) كما قال السدي:- 13884- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لهم دار السلام عند ربهم) ، الله هو السلام، والدار الجنة. * * * وأما قوله: (وهو وليُّهم) ، فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله (2) = (بما كانوا يعملون) ، يعني: جزاءً بما كانوا يعملون من طاعة الله، ويتبعون رضوانه. * * *   (1) انظر تفسير ((السلام)) فيما سلف 10: 145 / 11: 392. (2) انظر تفسير ((ولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ويوم يحشرهم جميعًا) ، ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ وغيرَهم من المشركين، مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يُوحون إليهم زخرف القول غرورًا ليجادلوا به المؤمنين، فيجمعهم جميعًا في موقف القيامة (1) = يقول للجن: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) ، وحذف"يقول للجن" من الكلام، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه. * * * وعنى بقوله: (قد استكثرتم من الإنس) ، استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم، كما:- 13885- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) ، يعني: أضللتم منهم كثيرًا. 13886- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) ، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس. 13887- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (قد استكثرتم من الإنس) ، قال: كثُر من أغويتم.   (1) انظر تفسير ((الحشر)) فيما سلف ص: 50، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 13888- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13889- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن: (قد استكثرتم من الإنس) ، يقول: أضللتم كثيرًا من الإنس. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياءُ الجن من الإنس فيقولون:"ربنا استمتع بعضنا ببعض" في الدنيا. (1) فأما استمتاع الإنس بالجن، فكان كما:- 13890- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ربنا استمتع بعضنا ببعض) ، قال: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول:"أعوذ بكبير هذا الوادي"، فذلك استمتاعهم، فاعتذروا يوم القيامة. * * * = وأما استمتاع الجن بالإنس، فإنه كان، فيما ذكر، ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم، فيقولون:"قد سدنا الجِنّ والحِنّ" (2) * * *   (1) انظر تفسير ((الاستمتاع)) فيما سلف 8: 175، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: ((قد سدنا الجن والإنس)) ، غير ما في المخطوطة، لم يحسن قراءتها لأنها غير منقوطة. وأثبت ما في المخطوطة. و ((الحن)) (بكسر الحاء) ، حي من أحياء الجن، وقد سلف بيان ذلك في الجزء 1: 455، تعليق: 1، فراجعه هناك. انظر معاني القرآن للفراء 1: 354، والذي هناك مطابق لما في المطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 القول في تأويل قوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالوا: بلغنا الوقتَ الذي وقَّتَّ لموتنا. (1) وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيّام حياتنا إلى حال موتنا. كما:- 13891- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: (وبلغنا أجلنا الذي أجَّلتَ لنا) ، فالموت. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عمّا هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان، ولقُرَنائهم من الجن، فأخرج الخبر عما هو كائنٌ، مُخْرَج الخبر عما كان، لتقدُّم الكلام قبلَه بمعناه والمراد منه، فقال: قال الله لأولياء الجن من الإنس الذين قد تقدَّم خبرُه عنهم: (النار مثواكم) ، يعني نار جهنم ="مثواكم"، الذي تثوون فيه، أي تقيمون فيه. * * * و"المثوى" هو"المَفْعَل" من قولهم:"ثَوَى فلان بمكان كذا"، إذا أقام فيه. (2)   (1) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف ص: 11: 259، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((المثوى)) فيما سلف 7: 279. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 = (خالدين فيها) ، يقول: لابثين فيها (1) = (إلا ما شاء الله) ، يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مُدَّة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار = (إن ربك حكيم) ، في تدبيره في خلقه، وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله = (عليم) ، بعواقب تدبيره إياهم، (2) وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر. (3) * * * وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته. 13892- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) ، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينزلهم جنَّةً ولا نارًا. (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل (نُوَلّي) . فقال بعضهم: معناه: نحمل بعضهم لبعض وليًّا، على الكفر بالله.   (1) انظر تفسير ((الخلود)) فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (2) انظر تفسير ((حكيم)) و ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) و (علم) . (3) في المطبوعة: ((صائر)) بغير تاء في آخره، والصواب ما في المخطوطة. ((صائرة)) مثل ((عاقبة)) لفظًا ومعنى، ومنه قبل: ((الصائرة، ما يصير إليه النبات من اليبس)) . (4) في المطبوعة: ((أن لا ينزلهم)) فزاد ((أن)) ، فأفسد المعنى إفسادًا حتى ناقض بعضه بعضًا. وإنما قوله: ((لا ينزلهم جنة ولا نارًا)) ، نهى للناس أن يقول: ((فلان في الجنة)) و ((فلان في النار)) . ((ينزلهم)) مجزومة اللام بالناهية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 * ذكر من قال ذلك: 13893- حدثنا يونس قال، حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون) ، وإنما يولي الله بين الناس بأعمالهم، فالمؤمن وليُّ المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر وليُّ الكافر أينما كان وحيثما كان. ليس الإيمان بالتَمنِّي ولا بالتحَلِّي. * * * وقال آخرون: معناه: نُتْبع بعضهم بعضًا في النار= من"الموالاة"، وهو المتابعة بين الشيء والشيء، من قول القائل:"واليت بين كذا وكذا"، إذا تابعت بينهما. * ذكر من قال ذلك: 13894- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا) ، في النار، يتبع بعضهم بعضًا. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك، نسلط بعض الظلمة على بعض. * ذكر من قال ذلك: 13895- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا) ، قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس. وقرأ: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ، [سورة الزخرف: 36] . قال: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. * * *   (1) انظر تفسير ((ولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعضٍ أولياء. لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين، فقال جل ثناؤه: (وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض) ، وأخبر جل ثناؤه: أنّ بعضهم أولياء بعض، ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضًا بتوليته إياهم، فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضَهم أولياء بعض في كل الأمور ="بما كانوا يكسبون"، من معاصي الله ويعملونه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن، يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذ: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي) ، يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلّتي على توحيدي، وتصديق أنبيائي، والعمل بأمري، والانتهاء إلى حدودي = (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) ، يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إيّاي، فتنتهوا عن معاصيَّ. (2) وهذا من الله جل ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي. ومعناه: قد أتاكم رسلٌ منكم ينبِّهونكم على خطأ ما كنتم   (1) انظر تفسير ((الكسب)) فيما سلف: 11: 448، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الإنذار)) فيما سلف من فهارس اللغة (نذر) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيدَ الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين، فلم تقبلوا ذلك، ولم تتذكروا ولم تعتبروا. * * * واختلف أهل التأويل في"الجن"، هل أرسل منهم إليهم، أم لا؟ فقال بعضهم: قد أرسل إليهم رسل، كما أرسل إلى الإنس منهم رسلٌ. * ذكر من قال ذلك: 13896- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سئل الضحاك عن الجن، هل كان فيهم نبيّ قبل أن يُبْعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي) ، يعني بذلك: رسلا من الإنس ورسلا من الجن؟ فقالوا: بلَى! * * * وقال آخرون: لم يرسل منهم إليهم رسولٌ، ولم يكن له من الجنّ قطٌّ رسول مرسل، وإنما الرسل من الإنس خاصَّة، فأما من الجن فالنُّذُر. قالوا: وإنما قال الله: (ألم يأتكم رسل منكم) ، والرسل من أحد الفريقين، كما قال: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) ، [سورة الرحمن: 19] ، ثم قال: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، [سورة الرحمن: 22] ، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح دون العذب منهما، وإنما معنى ذلك: يخرج من بعضهما، أو من أحدهما. (1) قال: وذلك كقول القائل لجماعة أدؤُرٍ:"إن في هذه الدُّور لشرًّا"، وإن كان الشر في واحدة منهن، فيخرج الخبر عن جميعهن، والمراد به الخبر عن بعضهن، وكما يقال:"أكلت خبزًا ولبنًا"، إذا اختلطا، ولو قيل:"أكلت لبنًا"، كان   (1) هذه مقالة الفراء، انظر معاني القرآن 1: 354، وظاهر أن الذي بعده من كلام الفراء أيضا من موضع آخر غير هذا الموضع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 الكلام خطأً، لأن اللبن يشرب ولا يؤكل. * ذكر من قال ذلك: 13897- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) ، قال: جمعهم كما جمع قوله: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) ، [سورة فاطر: 12] ، ولا يخرج من الأنهار حلية = قال ابن جريج، قال ابن عباس: هم الجن لقُوا قومهم، وهم رسل إلى قومهم. * * * فعلى قول ابن عباس هذا، أنّ من الجنّ رسلا للإنس إلى قومهم = فتأويل الآية على هذا التأويل الذي تأوَّله ابن عباس: ألم يأتكم، أيها الجن والإنس، رسل منكم، فأما رسل الإنس فرسل من الله إليهم، وأما رسل الجن فرسُل رُسُل الله من بني آدم، وهم الذين إذا سَمِعوا القرآنَ وَلّوا إلى قومهم منذرين. (1) * * * وأما الذين قالوا بقول الضحاك، فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ من الجن رسلا أرسلوا إليهم، كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم. قالوا: ولو جاز أن يكون خبرُه عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس، جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رُسُل الجنّ. (2) قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلُّ على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رُسُل الله، لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره. * * *   (1) اقرأ آيات سورة الأحقاف: 29 - 32. (2) يعني بهذا أن المنذرين الذين ذهبوا إلى قومهم، لو جاز أن يسموا ((رسلا)) أرسلهم الإنس إلى الجن، جاز أن يسمى ((رسل الإنس)) = وهم رسل الله إلى الإنس والجن = ((رسل الجن)) ، أرسلهم الجن إلى الإنس. وهذا ظاهر البطلان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 القول في تأويل قوله: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قول مشركي الجن والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم: (ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا) ، أنهم يقولونه ................ (1) = (شهدنا على أنفسنا) ، بأن رسلك قد أتتنا بآياتك، وأنذرتنا لقاء يومنا هذا، فكذبناها وجحدنا رسالتها، ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها. قال الله خبرًا مبتدأ: وغَرَّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، وأولياءَهم من الجن (2) = (الحياة الدنيا) ، يعني: زينة الحياة الدنيا، وطلبُ الرياسة فيها والمنافسة عليها، أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله، فاستكبروا وكانوا قومًا عالين. فاكتفى بذكر"الحياة الدنيا" من ذكر المعاني التي غرَّتهم وخدَعتهم فيها، إذ كان في ذكرها مكتفًى عن ذكر غيرها، لدلالة الكلام على ما تُرك ذكره = يقول الله تعالى ذكره: (وشهدوا على أنفسهم) ، يعني: هؤلاء العادلين به يوم القيامة = أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله، لتتم حجَّة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليمَ عذابه. * * *   (1) في المطبوعة: ((أنهم يقولون: شهدنا على أنفسنا)) ، وصل الكلام، وفي المخطوطة بياض، جعلت مكانه هذه النقط، وأمام البياض في المخطوطة حرف (ط) دلالة على أنه خطأ، وأنه كان هكذا في النسخة التي نقل عنها. (2) انظر تفسير ((الغرور)) فيما سلف ص: 56، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: إنما أرسلنا الرسل، يا محمد، إلى من وصفتُ أمرَه، وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجن، يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليَّ، من أجل أن ربَّك لم يكن مهلك القرى بظلم. * * * وقد يتَّجه من التأويل في قوله:"بظلم"، وجهان: أحدهما: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: بشرك مَنْ أشرك، وكفر مَنْ كفر من أهلها، كما قال لقمان: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، [سورة لقمان: 13] = (وأهلها غافلون) ، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلا تنبههم على حجج الله عليهم، وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه، ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا:"ما جاءنا من بَشِيٍر ولا نذير". * * * والآخر: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلامٍ لعبيده. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم، دون إرسال الرسل إليهم، والإعذار بينه وبينهم. وذلك أن قوله: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، عقيب قوله:   (1) في المطبوعة: ((للعبيد)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 (ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي) ، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه. (1) * * * وأما قوله: (ذلك) ، فإنه يجوز أن يكون نصبًا، بمعنى: فعلنا ذلك = ويجوز أن يكون رفعًا، بمعنى الابتداء، كأنه قال: ذلك كذلك. * * * وأما"أنْ"، فإنها في موضع نصب، بمعنى: فعلنا ذلك من أجل أنْ لم يكن ربك مهلك القرى= فإذا حذف ما كان يخفضها، تعلق بها الفعل فنصب. (2) * * *   (1) انظر معاني القرآن 1: 355، فهذا رد على الفراء، وهو صاحب القول الثاني. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 355. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 القول في تأويل قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا (1) = (وما ربك بغافل عما يعملون) ، يقول جل ثناؤه: وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربِّك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه. * * *   (1) انظر تفسير ((درجة)) فيما سلف: 11: 505، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 القول في تأويل قوله: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"وربك"، يا محمد، الذي أمر عباده بما أمرهم به، ونهاهم عما نهاهم عنه، وأثابهم على الطاعة، وعاقبهم على المعصية="الغني"، عن عباده الذين أمرهم بما أمر، ونهاهم عما نهى، وعن أعمالهم وعبادتهم إياه، وهم المحتاجون إليه، لأنه بيده حياتهم ومماتهم، وأرزاقهم وأقواتهم، ونفعهم وضرهم. (1) يقول عز ذكره: فلم أخلقهم، يا محمد، ولم آمرهم بما أمرتهم به، وأنههم عما نهيتهم عنه، لحاجةٍ لي إليهم، ولا إلى أعمالهم، ولكن لأتفضَّل عليهم برحمتي، وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا، فإني ذو الرَّأفة والرحمة. (2) * * * وأما قوله: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) ، فإنه يقول: إن يشأ ربُّك، يا محمد، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه = (يذهبكم) ، يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم (3) = (ويستخلف من بعدكم ما يشاء) ، يقول: ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم، يخلفونكم في الأرض ="من بعدكم"، يعني: من بعد فنائكم وهلاككم = (كما أنشأكم من ذريَّة قوم آخرين) ، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلَكم. * * *   (1) انظر تفسير ((الغنى)) فيما سلف 5: 521، 570 / 9: 296. (2) انظر تفسير ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) . (3) انظر تفسير ((الإذهاب)) فيما سلف 9: 298. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 ومعنى"مِنْ" في هذا الموضع التعقيب، كما يقال في الكلام:"أعطيتك من دينارك ثوبًا"، بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا، لا أن الثوب من الدينار بعضٌ، كذلك الذين خوطبوا بقوله: (كما أنشأكم) ، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين، ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنَّهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلَف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم. * * * و"الذرية""الفُعْليّة"، من قول القائل:"ذرأ الله الخلق"، بمعنى خلقهم،"فهو يذرؤهم"، ثم ترك الهمزة فقيل:"ذرا الله"، ثم أخرج"الفُعْليّة" بغير همز، على مثال"العُبِّيَّة". (1) * * * وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ:"مِنْ ذُرِّيئَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ" على مثال"فُعِّيلة". (2) * * * وعن آخر أنه كان يقرأ:"وَمِنْ ذِرِّيَّةِ"، على مثال"عِلِّيَّة". * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي عليها القرأة في الأمصار: (ذُرِّيَّةِ) ، بضم الذال، وتشديد الياء، على مثال"عُبِّية". (3) * * *   (1) في المطبوعة: ((العلية)) ، وهو خطأ، لأن هذه بكسر العين. وفي المخطوطة: ((العلمه)) ، غير منقوطة، واجتهدت قراءتها كذلك. وفي الحديث: ((إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية وتعظمها بآبائها)) ، و ((العبية)) فخر الجاهلية وكبرها ونخوتها. يقال إنها من ((التعبية)) ، وقالوا بعضهم: هي ((فعولة)) ، وجائز أن تكون ((فعلية)) ، كما قال هذا القائل في ((ذرية)) ، وانظر مادة (عبب) في لسان العرب. (2) كان في المخطوطة: ((من ذرية)) ، كما هي التلاوة السالفة، ولكن ظاهر أن الذي في المطبوعة هو الصواب. لأن ((ذرية)) أصلها ((ذريئة)) ، من ((ذرأ الله الخلق)) ، فكان ينبغي أن تكون مهموزة، فكثرت، فأسقط الهمز، وتركت العرب همزها. وانظر لسان العرب (ذرأ) . (3) انظر التعليق السالف رقم: 1، وكان في المطبوعة هنا أيضًا ((علية)) ، ومثلها في المخطوطة، والصواب الراجح ما أثبته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 وقد بينا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا. (1) * * * وأصل"الإنشاء"، الإحداث. يقال:"قد أنشأ فلان يحدِّث القوم"، بمعنى ابتدأ وأخذ فيه. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين به: أيها العادلون بالله الأوثانَ والأصنامَ، إن الذي يُوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم، واقعٌ بكم = (وما أنتم بمعجزين) ، يقول: لن تعجزوا ربّكم هربًا منه في الأرض فتفوتوه، لأنكم حيث كنتم في قبضته، وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إيّاه قادر. يقول: فاحذرُوه وأنيبوا إلى طاعته، قبل نزول البلاء بكم. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لقومك من قريش الذين يجعلون مع الله إلها آخر=: (اعملوا على مكانتكم) ، يقول: اعملوا على حِيالكم وناحيتكم. كما:-   (1) انظر تفسير ((الذرية)) فيما سلف 3: 19، 73 / 5: 543 / 6: 327، ولم يفسرها في هذه المواضع، ثم فسرها في 6: 362 / 8: 19 / 11: 507. (2) انظر تفسير ((الإنشاء)) فيما سلف: 11: 263، 264، 562. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 13898- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (يا قوم اعملوا على مكانتكم) ، يعني: على ناحيتكم. * * * يقال منه:"هو يعمل على مكانته، ومَكِينته". * * * وقرأ ذلك بعض الكوفيين:"عَلَى مَكَانَاتِكُمْ"، على جمع"المكانة". * * * قال أبو جعفر: والذي عليه قرأة الأمصار: (عَلَى مَكَانَتِكُمْ) ، على التوحيد. * * * = (إني عامل) ، يقول جل ثناؤه، لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون، فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي = (فسوف تعلمون) ، يقول: فسوف تعلمون عند نزول نقمة الله بكم، أيُّنا كان المحقّ في عمله، والمصيب سبيلَ الرشاد، أنا أم أنتم. وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك: (يا قوم اعملوا على مكانتكم) ، أمرٌ منه له بوعيدهم وتهدّدهم، لا إطلاقٌ لهم في عمل ما أرادُوا من معاصي الله. * * * القول في تأويل قوله: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (من تكون له عاقبة الدار) ، فسوف تعلمون، أيها الكفرة بالله، عند معاينتكم العذابَ، مَن الذي تكون له عاقبة الدار منا ومنكم. (1) يقول: من الذي تُعْقبه دنياه ما هو خير له منها أو شر   (1) انظر تفسير ((العاقبة)) فيما سلف 11: 272، 273. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 منها، (1) بما قدَّم فيها من صالح أعماله أو سَيّئها. ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه فقال: (إنه لا يفلح الظالمون) ، يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله مَنْ عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا (2) = وذلك معنى:"ظلم الظالم"، في هذا الموضع. (3) * * * وفي"من" التي في قوله: (من تكون) ، له وجهان من الإعراب: = الرفع على الابتداء. = والنصبُ بقوله: (تعلمون) ، ولإعمال"العلم" فيه. والرفع فيه أجود، لأن معناه: فسوف تعلمون أيُّنا له عاقبة الدار؟ فالابتداء في"من"، أصحُّ وأفصح من إعمال"العلم" فيه. (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ والأصنام لربهم = (مما ذرأ) خالقهم، يعني: مما خلق من الحرث والأنعام. * * *   (1) في المطبوعة: ((من الذي يعقب دنياه)) ، والذي في المخطوطة هو الصواب. (2) انظر تفسير ((الفلاح)) فيما سلف 11: 296، تعليق: 5، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 355. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 يقال منه:"ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْءًا، وذَرْوًا"، (1) إذا خَلَقهم. * * * ="نصيبًا"، يعني قسمًا وجزءًا. (2) * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله، والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان. فقال بعضهم: كان ذلك جزءًا من حُروثهم وأنعامهم يُفْرِزُونه لهذا، (3) وجزءًا آخر لهذا. * ذكر من قال ذلك: 13899- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة عن ابن عباس (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) ، الآية، قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَمًا، جعلوا منها لله سَهْمًا، وسهمًا لآلهتهم. وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردُّوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقرُّوه ولم يردُّوه. فذلك قوله: (سَاءَ ما يحكمون) . 13900- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) ، قال: جعلوا   (1) في المخطوطة أيضًا ((وذروا)) ، كأنه يعني تسهيل الهمزة، ولم أجد ذكر ذلك في مصادر هذا الفعل، ولا أظنه أراد: ((وذروءًا)) ، فإن أحدًا لم يذكر ذلك. (2) انظر تفسير ((نصيب)) فيما سلف 9: 324، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((يقرونه)) ، وفي المخطوطة: ((يفررون)) غير تامة النقط، وصواب قراءتها ما أثبت. ((فرزت الشيء)) و ((أفرزته)) ، إذا عزلته عن غيره، ومزته. و ((الفِرْز)) (بكسر فسكون) : النصيب المفروز لصاحبه، واحدًا كل أو اثنين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 لله من ثمراتهم وما لهم نصيبًا، وللشيطان والأوثان نصيبًا. فإن سقط من ثمرة ما جَعَلوا لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقَطُوه وحفظُوه وردُّوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، (1) وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدُّوه. فهذا ما جعلوا من الحروث وسِقْي الماء. وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام فهو قول الله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ) ، [سورة المائدة: 103] . 13901- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم) ، الآية، وذلك أن أعداءَ الله كانوا إذا احترثُوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منها جزءًا وللوَثَن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. فإن سقط منه شيء فيما سُمِّي لله ردُّوه إلى ما جعلوا للوثن. وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئًا جعلوه لله. جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله. فاختلط بالذي جعلوا للوثن، قالوا:"هذا فقير"! ولم يردوه إلى ما جعلوا لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سُمِّي للوثن، تركوه للوثن. وكانوا يحرِّمون من أنعامهم البَحيرة والسائبة والوصيلةَ والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرّمونه لله. فقال الله في ذلك: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، الآية. 13902- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، قال: يسمون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم   (1) ((السقي)) (بكسر السين وسكون القاف) : والشرب (بكسر فسكون) ، وهو مورد الماء كالجدول، يسقى به الزرع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 جزءًا، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردُّوه، وقالوا:"الله عن هذا غنيّ"! و"الأنعام" السائبة والبحيرة التي سمُّوا. 13903- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 13904- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، الآية، عمَدَ ناس من أهل الضلالة فجزَّؤوا من حروثهم ومواشيهم جزءًا لله وجزءًا لشركائهم. وكانوا إذا خالط شيء مما جزّؤوا لله فيما جزءوا لشركائهم خلَّوه. فإذا خالط شيء مما جزؤوا لشركائهم فيما جزؤوا لله ردّوه على شركائهم. وكانوا إذا أصابتهم السَّنةُ استعانوا بما جزؤوا لله، وأقرُّوا ما جزؤوا لشركائهم، قال الله: (ساء ما يحكمون) . 13905- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، قال: كانوا يجزئون من أموالهم شيئًا، فيقولون:"هذا لله، وهذا للأصنام"، التي يعبدون. فإذا ذهب بعيرٌ مما جعلوا لشركائهم، (1) فخالط ما جعلوا لله ردُّوه. وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئًا مما جعلوه لشركائهم تركوه. وإن أصابتهم سنة، أكلوا ما جعلوا لله، وتركوا ما جعلوا لشركائهم، فقال الله: (ساء ما يحكمون) . 13906- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) إلى (يحكمون) ، قال: كانوا يقسمون من أموالهم قِسْمًا فيجعلونه لله، ويزرعون زَرْعًا فيجعلونه لله، ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها، وما خرج   (1) في المطبوعة: ((فإذا ذهب مما جعلوا)) غير ما كان في المخطوطة لغير طائل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 لله تصدقوا به. فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله قالوا:"ليس بُدٌّ لآلهتنا من نفقة"، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم، قالوا:"لو شاء أزكى الذي له"! فلا يردُّون عليه شيئًا مما للآلهة. قال الله: لو كانوا صادقين فيما قسموا، لبئس إذًا ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني. فذلك حين يقول: (ساء ما يحكمون) . * * * وقال آخرون:"النصيب" الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم: أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسمّوا الآلهة، وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه. * ذكر من قال ذلك: 13907- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) حتى بلغ: (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) ، قال: كل شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه، (1) لا يأكلونه أبدًا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسمَ الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ: (ساء ما يحكمون) . * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية ما قال ابن عباس ومَنْ قال بمثل قوله في ذلك، لأن الله جل ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسمًا مقدرُا، فقالوا:"هذا لله" وجعلوا مثله لشركائهم، وهم أوثانهم، بإجماع من أهل التأويل عليه، فقالوا:"هذا لشركائنا" = وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله، بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله، وما كان لله وصَل إلى نصيب شركائهم. فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية، كان أعيان ما أخبر الله عنه أنه لم   (1) ((الذبح)) (بكسر فسكون) ، هو ((الذبيح)) ، و ((المذبوح)) ، وهو كل ما أعد للذبح من الأضاحي، وغيرها من الحيوان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 يصل، جائزًا أن تكون قد وصلت، وما أخبر عنه أنه قد وصل، لم يصل. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام، لأن الذبيحتين تُذبح إحداهما لله، والأخرى للآلهة، جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت، وخلطوها إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحًا للآلهة، دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض. * * * وأما قوله: (ساء ما يحكمون) ، فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم. يقول جل ثناؤه: وقد أساؤوا في حكمهم، (1) إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم. وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبرَ عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم، حتى فضّلوه في أقسامهم عند أنفسهم بالقَسْم عليه. * * * القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما زيَّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينوا لهم، من تصييرهم لربهم من أموالهم قَسْما بزعمهم، وتركهم ما وَصل من القَسْم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم في قسمهم، وردِّهم ما وَصَل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله، إلى قسم شركائهم=   (1) انظر تفسير ((ساء)) فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) = وتفسير ((يحكم)) فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 (كذلك زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم) ، من الشياطين، فحسنوا لهم وأد البنات (1) = (ليردوهم) ، يقول: ليهلكوهم= (وليلبسوا عليهم دينهم) ، فعلوا ذلك بهم، ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس، فيضلوا ويهلكوا، بفعلهم ما حرم الله عليهم (2) = ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه، بأن كان يهديهم للحق، ويوفقهم للسداد، فكانوا لا يقتلونهم، ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم، وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم. يقول الله لنبيه، متوعدًا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسِمونها:"هذا لله وهذا لشركائنا"، وفي قتلهم أولادهم="ذرهم"، يا محمد، (3) "وما يفترون"، وما يتقوّلون عليَّ من الكذب والزور، (4) فإني لهم بالمرصاد، ومن ورائهم العذاب والعقاب. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13908- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم) ، زينوا لهم، من قَتْل أولادهم. 13909- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (قتل أولادهم شركاؤهم) ، شياطينهم، يأمرونهم أن يَئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة. (5)   (1) انظر تفسير ((زين)) فيما سلف ص: 92، تعليق: 2 والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((اللبس)) فيما سلف: 11: 492، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ذر فيما سلف: 72، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: 57، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) ((العيلة)) (بفتح فسكون) ، الفقر وشدة الحاجة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 13910- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 13911- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم) الآية، قال: شركاؤهم زينوا لهم ذلك = (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) . 13912- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ، قال: شياطينهم التي عبدوها، زينوا لهم قتلَ أولادهم. 13913- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم) ، أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وأمَّا (ليردوهم) ، فيهلكوهم. وأما (ليلبسوا عليهم دينهم) ، فيخلطوا عليهم دينهم. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته قرأة الحجاز والعراق: (وَكَذَلِكَ زَيَّن) ، بفتح الزاي من"زين"، (لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) ، بنصب"القتل"، (شُرَكَاؤُهُمْ) ، بالرفع = بمعنى أن شركاء هؤلاء المشركين، الذين زينوا لهم قتلَ أولادهم= فيرفعون"الشركاء" بفعلهم، وينصبون"القتل"، لأنه مفعول به. * * * وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الشام:"وَكَذَلِكَ زُيِّنَ" بضم الزاي"لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ" بالرفع"أَوْلادَهُمْ" بالنصب"شُرَكَائِهِمْ" بالخفض= بمعنى: وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم، ففرّقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم. وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح. وقد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 روي عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيِّد قراءة من قرأ بما ذكرت من قرأة أهل الشام، رأيتُ رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه، وذلك قول قائلهم: فَزَجَجْتُهُ مُتَمَكِّنًا ... زَجَّ القَلُوصَ أَبي مَزَادَهْ (1) * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) ، بفتح الزاي من"زين"، ونصب"القتل" بوقوع"زين" عليه، وخفض"أولادهم" بإضافة"القتل" إليهم، ورفع"الشركاء" بفعلهم، لأنهم هم الذين زينوا للمشركين قتلَ أولادهم، على ما ذكرتُ من التأويل. وإنما قلت:"لا أستجيز القراءة بغيرها"، لإجماع الحجة من القرأة عليه، وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد، ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة. * * * ولولا أن تأويل جميع أهل التأويل بذلك ورد، ثم قرأ قارئ:"وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ"، بضم الزاي من"زين"، ورفع"القتل"، وخفض"الأولاد" و"الشركاء"، على   (1) معاني القرآن للفراء 1: 358، الإنصاف: 179، الخزانة 2: 251، والعيني (بهامش الخزانة) 3: 468، وغيرها كثير. ((زج)) : دفع بالزج، وهو الحديدة التي في أسفل الرمح. و ((القلوص)) الناقة الفتية، و ((أبو مزادة)) اسم رجل. وهذا البيت شاهد على ما ذهب إليه الكوفيون من جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض، لضرورة الشعر. والتقدير: زج أبي مزادة القلوص، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالقلوص، وهو مفعول، وليس بظرف ولا حرف خفض. وهذا وإن كان مقالة الكوفيين، فإن الفراء قد رده في معاني القرآن 1: 358، وقال هو ليس بشيء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 أن "الشركاء" مخفوضون بالردّ على"الأولاد"، بأنّ"الأولاد" شركاء آبائهم في النسب والميراث = كان جائزًا. (1) * * * ولو قرأه كذلك قارئ، غير أنه رفع"الشركاء" وخفض"الأولاد"، كما يقال:"ضُرِبَ عبدُ الله أخوك"، فيظهر الفاعل، بعد أن جرى الخبر بما لم يسمَّ فاعله= كان ذلك صحيحًا في العربية جائزًا. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 357. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الجهلة من المشركين أنهم كانوا يحرمون ويحللون من قِبَل أنفسهم، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك. يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم من المشركين، جهلا منهم، لأنعام لهم وحرث: هذه أنعامٌ وهذا حرث حجر= يعني بـ"الأنعام" و"الحرث" ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم، التي قد مضى ذكرها في الآية قبل هذه. * * * وقيل: إن"الأنعام"، السائبة والوصيلة والبحيرة التي سمَّوا. (1) 13914- حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأنعام"، السائبة والبحيرة التي سمُّوا. * * *   (1) انظر تفسير ((الأنعام)) فيما سلف 6: 257 / 9: 457 = وتفسير ((الحرث)) فيما سلف 4: 240 - 243، 397 /6: 257 / 7: 134. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 و"الحِجْر" في كلام العرب، الحرام. (1) يقال:"حَجَرت على فلان كذا"، أي حرَّمت عليه، ومنه قول الله: (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) ، [سورة الفرقان: 22] ، ومنه قول المتلمس: حَنَّتْ إلَى النَّخْلَةِ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا: ... حِجْرٌ حَرَامٌ، أَلا ثَمَّ الدَّهَارِيسُ (2)   (1) المخطوطة، ليس فيها ((الحرام)) ، وزيادتها في المطبوعة هي الصواب الموافق لما في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 207. (2) ديوانه قصيدة 4، ومختارات ابن الشجري: 32، ومجاز القرآن 1: 207، وسيأتي في التفسير 19: 302 (بولاق) ، اللسان (دهرس) ، ومعجم، استعجم: 1304، ومعكم ياقوت (نخلة القصوى، ونسبه لجرير وهو المتلمس، جرير بن عبد المسيح، من قصيدته التي قالها في مهربه إلى الشام من عمرو بن هند، وقصة المتلمس وطرفة، وعمرو بن هند، مشهورة. وهكذا جاء هنا ((النخلة القصوى)) ، وهي رواية، والرواية الأخرى ((نخلة القصوى)) بغير تعريف كما سيأتي براوية أبي جعفر في التفسير 19: 302 (بولاق) . وقد ذكروا أن ((نخلة القصوى)) المذكورة هنا، هي: ((نخلة اليمانية)) ، وهو واد ينصب من بطن قرن المنازل، وهو طريق اليمن إلى مكة. وظاهر هذا الشعر، فيما أداني إليه اجتهادي، يدل على أن ((نخلة القصوى)) بأرض العراق، مفضيًا إلى الحيرة، ديار عمرو بن هند، فإنه قال هذا الشعر، وقد حرم عليه عمرو بن هند أرض العراق، فحنت ناقته إلى ديارها بالعراق، فقال لها: أنِّى طَرِبْتِ وَلَمْ تُلْحَيْ عَلَى طَرَبٍ، ... ودُونَ إلْفِكِ أَمْرَاتٌ أَمَا لِيسُ يقول: كيف تشتاقين إلى أرض فيها هلاكي؟ ثم عاد يقول: ولست ألومك على الشوق الذي أثار حنينك، فإنه لا بد لمن حالت بينه وبين إلفه الفلوات، أن يحن. ثم بين العلة في استنكاره حنينها فقال لها: وكأنه يخاطب نفسه، ويعتذر إليها من ملامة هذه البائسة! . حَنَّتْ إلَى النَّخْلَةِ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا: ... بَسْلٌ عَلَيْكِ، أَلا تِلْكَ الدَّهَارِيسُ ((بسل عليك)) : حرام عليك، وهذه رواية أخرى. و ((الدهاريس)) ، الدواهي. يقول: ما ألومها على الحنين إلى إلفها، ولكني ألومها على الحنين إلى الأرض فيها هلاكي. وقال لها: إن نخلة القصوى التي تحنين إليها، حرام عليك، فإن فيها الدواهي والغوائل. فتبين بهذا أنه يعني ديار عمرو بن هند الذي فر منه، ثم قال لها بعد ذلك: أُمِّي شَآمِيةً، إِذْ لا عِرَاقَ لَنَا، ... قَوْمًا نَوَدُّهُمُ إذْ قَوْمُنَا شُوسُ. يقول: اقصدي نخلة الشآمية، فإن العراق قد حرم علينا، وفي الشام أحبابنا، وأهل مودتنا، وأما قومنا بالعراق فإنهم ينظرون إلينا بأعين شوس من البغضاء. فثبت بقوله: ((إذ لا عراق لنا)) أن ((نخلة القصوى)) من أرض العراق. وفي هذا كفاية في تحقيق الموضع إن شاء الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 وقول رؤبة، [العجاج] : (1) * وَجَارَةُ البَيْتِ لَهَا حُجْرِيُّ * (2) يعني المحرّمَ، ومنه قول الآخر: (3) فَبِتُّ مُرْتَفِقًا، والعَيْنُ سَاهِرَةٌ ... كَأَنَّ نَوْمِي عَلَيَّ اللَّيْلَ مَحْجُورُ (4) أي حرام. يقال:"حِجْر" و"حُجْر"، بكسر الحاء وضمها. * * * وبضمها كان يقرأ، فيما ذُكر، الحسنُ وقتادة. (5) 13915- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي [قال، حدثني عمي] قال، حدثني أبي، عن الحسين، عن قتادة أنه: كان يقرؤها:"وَحَرْثٌ حُجْرٌ"، يقول: حرام، مضمومة الحاء. (6) * * *   (1) هكذا نسبة هنا إلى ((رؤبة)) والصواب أنه ((العجاج)) أبوه، بلا شك في ذلك، ولذلك وضعته بين الأقواس، وكأنه سهو من الناسخ، أو من أبي جعفر. (2) ديوان العجاج: 68، واللسان (حجر) من رجز له طويل مشهور، ذكر فيه نفسه بالعفاف والصيانة فقال: إِنّي امْرُؤٌ عَنْ جَارَتِي كَفِىُّ ... عَنِ الأذَى، إنَّ الأذَى مَقْلِيُّ وَعَنْ تَبغِّي سِرِّهَا غَنِيُّ ثم قال بعد أبيات: وَجَارَةُ البَيْتِ لَهَا حُجْرِيُّ ... ومَحْرُمَاتٌ هَتْكُهَا بُجْرِيُّ وفسره صاحب اللسان فقال: ((لها خاصة)) . (3) ينسب إلى أعشى باهلة نسبه ابن بري في اللسان (رفق) ، ولم أجده في مكان آخر. (4) اللسان (رفق) . ((مرتفقًا)) ، أي: متكئًا على مرفق يده. (5) في المطبوعة والمخطوطة: ((الحسين)) ، وهو خطأ، صوابه ((الحسن)) ، وهو البصري. (6) الأثر: 13915 - هذا إسناد فيه إشكال. ((عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث سعيد بن ذكوان التميمي العنبري)) ، مضى مرارًا، وهو يروي عن أبيه: ((عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان)) وأبوه: ((عبد الصمد ابن عبد الوارث)) ، يروي عن أبيه: ((عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان)) ، و ((عبد الوارث بن سعيد ابن ذكوان)) ، يروي عن ((حسين المعلم)) ، وهو ((حسين بن ذكوان العوذي)) ، و ((حسين المعلم)) ، يروي عن ((قتادة)) ، فالأرجح إذن أن يكون الإسناد هكذا: ((حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال حدثني أبي، قال حدثني أبي، عن الحسين، عن قتادة)) بإسقاط ((قال حدثني عمي)) ، التي وضعتها بين قوسين، وبذلك يكون الإسناد مستقيمًا، فإني لم أجد ((عبد الصمد بن عبد الوارث)) يروي عن ((عمه)) ، ولم أجد له عما يروى عنه. وأيضًا فإن قوله: ((حدثني عمي)) يقتضي أن يكون ((سعيد بن ذكوان)) جدهم، هو الراوي عن ((حسين المعلم)) ، ولم تذكر قط رواية عن ((سعيد بن ذكوان)) ، ولا له ذكر في كتب الرجال. فصح بذلك أن الصواب إسقاط ما وضعته بين القوسين، هذا وأذكر أن هذا الإسناد قد مر قبل كما أثبته، ولكني لم أستطع أن أعثر عليه بعد. والزيادة إن شاء الله خطأ من الناسخ، واختلط عليه إسناد ((محمد بن سعد عن أبه، عن عمه ... )) رقم: 305. فعجل وزاد: ((قال حدثني عمي)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 وأما القرأة من الحجاز والعراق والشام، فعلى كسرها. وهي القراءة التي لا أستجيز خلافها، لإجماع الحجة من القرأة عليها، وأنها اللغة الجُودَى من لغات العرب. (1) * * * وروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وَحَرْثٌ حِرْجٌ"، بالراء قبل الجيم. 13916- حدثني بذلك الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها كذلك. * * * وهي لغة ثالثة، معناها ومعنى"الحجر" واحد. وهذا كما قالوا:"جذب" و"جبذ"، و"ناء" و"نأى". ففي"الحجر"، إذًا، لغات ثلاث:"حجر" بكسر الحاء، والجيم قبل الراء="وحُجر" بضم الحاء، والجيم قبل الراء= و"حِرْج"، بكسر الحاء، والراء قبل الجيم. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل الحجر قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) ((الجودي)) ، تأنيث ((الأجود)) ، وهي قليلة الاستعمال فيما بعد طبعة أبي جعفر، كما أسلفت في التعليق على أول استعمال لها فيما مضى 6: 437، تعليق: 1، وهذه هي المرة الثانية التي استعملها فيها أبو جعفر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 13917- حدثني عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد وأبي عمرو: (وحرث حجر) ، يقول: حرام. 13918- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وحرث حجر) ، فالحجر. ما حرّموا من الوصيلة، وتحريم ما حرموا. 13919- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وحرث حجر) ، قال: حرام. 13920- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هذه أنعام وحرث حجر) الآية، تحريمٌ كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد. وكان ذلك من الشياطين، ولم يكن من الله. 13921- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) ، فيقولون: حرام، أن نطعم إلا من شئنا. 13922- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (هذه أنعام وحرث حجر) ، نحتجرها على مَنْ نريد وعمن نريد، لا يطعمها إلا مَنْ نشاء، بزعمهم. قال: إنما احتجروا ذلك لآلهتهم، وقالوا: لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) ، قالوا: نحتجرها عن النساء، ونجعلها للرجال. 13923- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (أنعام وحرث حجر) ، أما"حجر"، يقول: محرَّم. وذلك أنهم كانوا يصنعون في الجاهلية أشياء لم يأمر الله بها، كانوا يحرّمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها، ويعزلون من حرثهم شيئًا معلومًا لآلهتهم، ويقولون: لا يحل لنا ما سمّينا لآلهتنا. 13924- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 ابن جريج، عن مجاهد: (أنعام وحرث حجر) ، ما جعلوه لله ولشركائهم. 13925- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّم هؤلاء الجهلة من المشركين ظهورَ بعض أنعامهم، فلا يركبون ظهورها، وهم ينتفعون برِسْلِها ونِتَاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب. (1) وحرموا من أنعامهم أنعامًا أخر، فلا يحجُّون عليها، ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحالٍ، ولا إن حلبوها، ولا إن حمَلوا عليها. * * * وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13926- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: قال لي أبو وائل: أتدري ما"أنعام لا يذكرون اسم الله عليها"؟ قال: قلت: لا! قال: أنعام لا يحجون عليها. 13927- حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، حدثنا شاذان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: قال لي أبو وائل: أتدري ما قوله: (حرمت   (1) ((الرسل)) (بكسر فسكون) : اللبن. و ((النتاج)) (بكسر النون) : ما تضع من أولادها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ؟ قال: قلت: لا! قال: هي البحيرة، كانوا لا يحجون عليها. (1) 13928- حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا محمد بن سعيد الشهيد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل: (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ، قال: لا يحجون عليها. (2) 13929- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي أما: (أنعام حرمت ظهورها) ، فهي البحيرة والسائبة والحام= وأما"الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها"، قال: إذا أولدوها، (3) ولا إن نحروها. 13930- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ، قال: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوها، ولا إن حلبوا، ولا إن حملوا، ولا إن منحوا، ولا إن عملوا شيئًا. 13931- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأنعام حرمت ظهورها) ، قال: لا يركبها أحد= (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) . * * *   (1) الأثر: 13927 - ((محمد بن عباد بن موسى الختلي)) ، مضى برقم: 11318، ونقلت هناك عن ابن أبي حاتم 4 / 1 / 15، أنه روى عن هشام بن محمد الكلبي، والوليد بن صالح، وروى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا. ثم توقفت في هذه الترجمة المختصرة التي ذكرها ابن أبي حاتم، وشككت في صحة ما فيها، فإن أبا بكر بن أبي الدنيا، إنما يروي عن أبيه ((عباد بن موسى الختلي)) . ولا أدري أروى عن ولده ((محمد بن عباد)) أم لم يرو عنه، فإنهم لم يذكروا ذلك في ترجمة أبي بكر ابن أبي الدنيا. و ((شاذان)) هو: ((الأسود بن عامر)) ، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب. (2) الأثر: 13928 - ((أحمد بن عمرو البصري)) ، مضى ما قلت فيه برقم: 9875. و ((محمد بن سعيد الشهيد)) ، لم أعرف من هو، ولم أجد له ذكرًا. (3) لعل الصواب: ((لا إن أولدوها)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 وأما قوله: (افتراء على الله) ، فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا، وقالوا ما قالوا من ذلك، كذبًا على الله، وتخرّصًا الباطلَ عليه; لأنهم أضافوا ما كانوا يحرّمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أنّ الله هو الذي حرّمه، فنفى الله ذلك عن نفسه، وأكذبهم، وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدّعون. (1) * * * ثم قال عز ذكره: (سيجزيهم) ، يقول: سيثيبهم ربُّهم بما كانوا يفترونَ على الله الكذبَ ثوابَهم، ويجزيهم بذلك جزاءهم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: (ما في بطون هذ الأنعام) . فقال بعضهم: عنى بذلك اللَّبن. * ذكر من قال ذلك: 13932- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن ابن عباس: (وقالوا ما في بطون هذ الأنعام خالصة لذكورنا) ، قال: اللبن. (3)   (1) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: ص: 136، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الجزاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) . (3) الأثر: 13932 - ((عبد الله بن أبي الهذيل العنزي)) ، ((أبو المغيرة)) ، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 196، وفيه ((العنبري)) ، ولا أدري ما الصواب منهما. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 13933- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ابن أبي الهذيل، عن ابن عباس، مثله. 13934- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقالوا ما في بطون هذ الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) ، ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء، وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم. 13935- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) ، قال: ما في بطون البحائر، يعني ألبانها، كانوا يجعلونه للرجال، دون النساء. 13936- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن زكريا، عن عامر قال:"البحيرة" لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. 13937- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وقالوا ما في بطون هذ الأنعام خالصة لذكورنا) الآية، فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركب لم تذبح. وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء. فنهى الله عن ذلك. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة. * ذكر من قال ذلك: 13938- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) ، فهذه الأنعام، ما ولد منها من حيّ فهو خالص للرجال دون النساء. وأما ما ولد من ميت، فيأكله الرجال والنساء. 13939- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا) ، السائبة والبحيرة. 13940- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها:"ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا"، واللبن ما في بطونها، وكذلك أجنتها. ولم يخصُص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا: بعضُ ذلك حرام عليهن دون بعض. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يقال إنهم قالوا: ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حِلٌّ لذكورهم = خالصة دون إناثهم، وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم، إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتًا، فيشترك حينئذ في أكله الرجال والنساء. * * * واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أنثت"الخالصة". فقال بعض نحويي البصرة وبعض الكوفيين: أنثت لتحقيق"الخلوص"، كأنه لما حقق لهم الخلوص أشبه الكثرة، فجرى مجرى"راوية" و"نسابة". * * * وقال بعض نحويي الكوفة: أنثت لتأنيث"الأنعام"، لأن"ما في بطونها"، مثلها، فأنثت لتأنيثها. ومن ذكّره فلتذكير"ما". قال: وهي في قراءة عبد الله: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 "خَالِصٌ". قال: وقد تكون الخالصة في تأنيثها مصدرًا، كما تقول:"العافية" و"العاقبة"، وهو مثل قوله: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ) [سورة ص: 46] . (1) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 358، 359. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: أريد بذلك المبالغة في خلوص ما في بطون الأنعام التي كانوا حرَّموا ما في بطونها على أزواجهم، لذكورهم دون إناثهم، (1) كما فعل ذلك"بالراوية" و"النسابة" و"العلامة"، إذا أريد بها المبالغة في وصف من كان ذلك من صفته، كما يقال:"فلان خالصة فلان، وخُلصانه". (2) * * * وأما قوله: (ومحرم على أزواجنا) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ بـ"الأزواج". فقال بعضهم: عنى بها النساء. * ذكر من قال ذلك: 13941- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ومحرم على أزواجنا) ، قال: النساء. * * * وقال آخرون: بل عنى بالأزواج البنات. * ذكر من قال ذلك: 13942- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ومحرم على أزواجنا) ، قال:"الأزواج"، البنات. وقالوا: ليس للبنات منه شيء. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام= يعني أنعامهم=:"هذا محرم على أزواجنا"، و"الأزواج"، إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن لا شك بنات من هن أولاده، وحلائل من هن أزواجه. (3) وفي قول الله عز وجل: (ومحرم على أزواجنا) ، الدليلُ الواضح على أن تأنيث" الخالصة"، كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: و"محرمة على أزواجنا"، ولكن لما كان التأنيث في"الخالصة" لما ذكرت، ثم لم يقصد في"المحرم" ما قصد في"الخالصة" من المبالغة، رجع فيها إلى تذكير"ما"، واستعمال ما هو أولى به من صفته. * * * وأما قوله: (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه يزيد بن القعقاع، وطلحة بن مصرِّف، في آخرين:"وَإنْ تَكُنْ مَيْتَةٌ" بالتاء في"تكن"، ورفع"ميتة"، غير أن يزيد كان يشدّد الياء من"مَيِّتَةٌ" ويخففها طلحة. 13943- حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى، عن طلحة بن مصرف. 13944- وحدثنا أحمد بن يوسف، عن القاسم، وإسماعيل بن جعفر، عن يزيد. * * * وقرأ ذلك بعض قَرَأة المدينة والكوفة والبصرة: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) ، بالياء،   (1) السياق: ((في خلوص ما في بطون الأنعام ... لذكورهم دون إناثهم)) . (2) انظر تفسير ((الخالصة)) فيما سلف 2: 365، 366. انظر تمام حجة أبي جعفر في ذلك فيما سيلي بعد أسطر قليلة. (3) انظر تفسير ((الزوج)) فيما سلف 1: 514 /2: 446. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 و"ميتة"، بالنصب، وتخفيف الياء. * * * وكأنّ من قرأ: (وإن يكن) ، بالياء (ميتة) بالنصب، أراد: وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام= فذكر"يكن" لتذكير"ما" ونصب"الميتة"، لأنه خبر"يكن". وأما من قرأه:"وإن تكن ميتة"، فإنه إن شاء الله أراد: وإن تكن ما في بطونها ميتة، فأنث"تكن" لتأنيث"ميتة". * * * وقوله: (فهم فيه شركاء) ، فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله، لا يحرمونه على أحد منهم، كما ذكرنا عمن ذكرنا ذلك عنه قبل من أهل التأويل. * * * وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:- 13945- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) ، قال: تأكل النساء مع الرجال، إن كان الذي يخرج من بطونها ميتة، فهم فيه شركاء، وقالوا: إن شئنا جعلنا للبنات فيه نصيبًا، وإن شئنا لم نجعل. * * * قال أبو جعفر: وظاهر التلاوة بخلاف ما تأوَّله ابن زيد، لأن ظاهرها يدل على أنهم قالوا: "إن يكن ما في بطونها ميتة، فنحن فيه شركاء"= بغير شرط مشيئة. وقد زعم ابن زيد أنهم جعلوا ذلك إلى مشيئتهم. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 القول في تأويل قوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"سيجزي"، أي: سيثيب ويكافئ هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله، وتحليلهم ما لم يحلله الله، وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله (1) = وقوله: (وصفهم) ، يعني بـ"وصفهم"، الكذبَ على الله، وذلك كما قال جلَّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه: (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ، [سورة النحل: 62] . (2) * * * و"الوصف" و"الصفة" في كلام العرب واحد، وهما مصدران مثل"الوزن" و"الزنة". * * * وبنحو الذي قلنا في معنى"الوصف" قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 13946- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (سيجزيهم وصفهم) ، قال: قولهم الكذب في ذلك. 13947- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 13948- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: (سيجزيهم وصفهم) قال: كذبهم. 13949- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (سيجزيهم وصفهم) ، أي كذبهم.   (1) انظر تفسير "الجزاء" فيما سلف ص 146، تعليق 2، والمراجع هناك (2) انظر تفسير ((الوصف)) فيما سلف صلى الله عليه وسلم: 10، 11. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 وأما قوله: (إنه حكيم عليم) ، فإنه يقول جل ثناؤه: إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه="حكيم"، في سائر تدبيره في خلقه="عليم"، بما يصلحهم، وبغير ذلك من أمورهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذبَ، (2) العادلون به الأوثانَ والأصنام، الذين زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم، وتحريم [ما أنعمت به] عليهم من أموالهم، (3) فقتلوا طاعة لها أولادهم، وحرّموا ما أحل الله لهم وجعله لهم رزقًا من أنعامهم ="سفها"، منهم. يقول: فعلوا ما فعلوا من ذلكَ جهالة منهم بما لهم وعليهم، ونقصَ عقول، وضعفَ أحلام منهم، وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه، من عظيم عقاب الله عليه لهم (4) = (افتراء على الله) ، يقول: تكذّبًا على الله وتخرصًا عليه الباطل (5) = (قد ضلوا) ، يقول: قد تركوا محجة الحق في فعلهم ذلك، وزالوا عن سواء السبيل (6) = (وما كانوا مهتدين) ،   (1) انظر تفسير ((حكيم)) و ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) و (علم) . (2) انظر تفسير ((الخسار)) فيما سلف 11: 324، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) في المخطوطة والمطبوعة: ((وتحريم ما حرمت عليهم من أموالهم)) ، وهو لا يطابق تفسير الآية بل يناقضه، ورجحت الصواب ما أثبت بين القوسين. (4) انظر تفسير ((السفه)) فيما سلف 1: 293 - 295 / 3: 90، 129 / 6: 57 (5) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: ص: 146، تعليق: 1، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: ((تكذيبًا)) ، والصواب ما في المخطوطة. (6) انظر تفسير ((الضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة ((ضلل)) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 يقول: ولم يكن فاعلو ذلك على هدًى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك، ولا كانوا مهتدين للصواب فيها، ولا موفقين له. (1) * * * ونزلت هذه الآية في الذين ذكر الله خبرهم في هذه الآيات من قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) الذين كانوا يبحرون البحائر، ويسيِّبون السوائب، ويئدون البنات، كما:- 13950- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة، قوله: (الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) ، قال: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومُضَر، كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي تَئِد، غدا الرجل أو راح من عند امرأته، (2) وقال لها:"أنت علي كظهر أمِّي إن رجعت إليك ولم تئديها"، فتخُدُّ لها في الأرض خدًّا، (3) وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتداولنها، (4) حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها، ثم سوّت عليها التراب. 13951- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم فقال: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا ما رزقهم الله) . 13952- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) ، فقال: هذا صنيع أهل الجاهلية.   (1) انظر تفسير ((الاهتداء)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدي) . (2) في المطبوعة: ((فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل ... )) ، وفي المخطوطة: ((فإذا كانت الجارية التي تئيد عبد الرجل أو راح من عند امرأته)) ، والصواب ما أثبت. معنى ذلك: أنه إذا ولدت المرأة الجارية التي شرط عليها أن تئدها غدا أو راح وقال ... (3) ((خد في الأرض خدا)) : شق في الأرض شقًا. (4) هكذا في المطبوعة: ((ثم يتداولنها)) ، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة، وممكن أن تقرأ كما هي في المطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السِّباء والفاقة، ويغذو كلبه = وقوله: (وحرموا ما رزقهم الله) ، الآية، وهم أهل الجاهلية. جعلوا بحيرةً وسائبة ووصيلةً وحاميًا، تحكمًا من الشياطين في أموالهم. 13953- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، إذا سرَّك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام قوله: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا يغير علم) ، الآية. * * * وكان أبو رزين يتأوّل قوله: (قد ضلوا) ، أنه معنيٌّ به: قد ضلوا قبل هؤلاء الأفعال = من قتل الأولاد، وتحريم الرزق الذي رزقهم الله = بأمور غير ذلك. 13954- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبى رزين في قوله: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم) ، إلى قوله: (قد ضلوا) ، قال: قد ضلوا قبل ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} قال أبو جعفر: وهذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله، وتنبيهٌ منه لهم على موضع إحسانه، وتعريفٌ منه لهم ما أحلَّ وحرَّم وقسم في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقًّا. يقول تعالى ذكره: وربكم، أيها الناس = (أنشأ) ، أي أحدث وابتدع خلقًا، لا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 الآلهة والأصنام (1) = (جنات) ، يعني: بساتين (2) = (معروشات) ، وهي ما عَرَش الناس من الكروم= (وغير معروشات) ، غير مرفوعات مبنيَّات، لا ينبته الناس ولا يرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينمِّيه، (3) كما:- 13955- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (معروشات) ، يقول: مسموكات. 13956- وبه عن ابن عباس: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) ، فـ"المعروشات"، ما عرش الناس="وغير معروشات"، ما خرج في البر والجبال من الثمرات. 13957- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"جنات"، فالبساتين= وأما" المعروشات"، فما عرش كهيئة الكَرْم. 13958- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) ، قال: ما يُعرَش من الكروم = (وغير معروشات) ، قال: ما لا يعرش من الكرم. * * *   (1) انظر تفسير ((أنشأ)) فيما سلف ص: 128، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الجنة)) فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) . (3) انظر تفسير ((عرش)) فيما سلف 5: 445. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 القول في تأويل قوله: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله= يعني بـ"الأكل"، (1) الثمر. يقول: وخلق النخل والزرع مختلفًا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحب ="والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه"، في الطعم، (2) منه الحلو، والحامض، والمزّ، (3) كما:- 13959- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (متشابهًا وغير متشابه) ، قال:"متشابهًا"، في المنظر="وغير متشابه"، في الطعم. * * * وأما قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، فإنه يقول: كلوا من رطبه ما كان رطبًا ثمره، كما:- 13960- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، قال: من رطبه وعنبه. 13961- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة في قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، قال: من رطبه وعنبه. (4) * * *   (1) انظر تفسير ((الأكل)) فيما سلف 5: 538. (2) انظر تفسير ((متشابه)) فيما سلف 1: 389 - 394 / 2: 210، 211 / 6: 173 / 11: 578. (3) ((المز)) (بضم الميم) : ما كان طعمه بين الحلو والحامض، يقال: ((شراب مز)) . (4) الأثران: 13960، 13961 - ((أبو همام الأهوازي)) في الأثر الأول، هو ((محمد بن الزبرقان)) ، في الأثر الثاني. ثقة. مضت ترجمته برقم: 877. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 القول في تأويل قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبِّ. * ذكر من قال ذلك: 13962- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن، في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة. 13963- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا يزيد بن درهم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة المفروضة. 13964- حدثنا عمرو قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر ونصف العشر. 13965- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن محمد بن عبيد الله، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر ونصف العشر. (1) 13966- حدثنا عمرو بن علي وابن وكيع وابن بشار قالوا، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إبراهيم بن نافع المكي، عن ابن عباس، عن أبيه، في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة. (2)   (1) الأثر: 13965 - ((هانئ بن سعيد النخعي)) ، مضى برقم: 13159. ((حجاج)) هو ((حجاج بن أرطأة)) ، مضى مرارًا. ((محمد بن عبيد الله بن سعيد)) هو ((أبو عون الثقفي)) ، مضى برقم: 7595. (2) الأثر: 13966 - ((إبراهيم بن نافع المكي المخزومي)) ، مضى برقم: 4305. وأما ((ابن عباس، عن أبيه)) ، فلا أدري ما هو، وهو بلا شك ليس ((عبد الله بن عباس)) حبر الأمة. وأخشى أن يكون الصواب: ((عن ابن طاوس، عن أبيه)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 13967- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو هلال، عن حيان الأعرج، عن جابر بن زيد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة. (1) 13968- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يونس، عن الحسن في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هي الصدقة = قال: ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: هي الصدقة من الحبّ والثمار. 13969- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله، عن عمرو بن سليمان وغيره، عن سعيد بن المسيب أنه قال: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الصدقة المفروضة. 13970- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هي الصدقة من الحب والثمار. 13971- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، يعني بحقه، زكاته المفروضة، يوم يُكال أو يُعلم كيله. 13972- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ،   (1) الأثر: 13967 - ((عبد الرحمن)) ، هو ((عبد الرحمن بن مهدي)) ، مضى مرارًا و ((أبو هلال)) هو: ((محمد بن سليم الراسبي البصري)) ، ثقة، مضى برقم: 2996، 4681. و ((حيان الأعرج)) الجوفي، البصري. ثقة من أتباع التابعين. روى عن جابر بن زيد. روى عنه قتادة، وابن جرجيج، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 246. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده، وهو أن يعلم ما كيله وحقّه، فيخرج من كل عشرة واحدًا، وما يَلْقُط الناس من سنبله. (1) 13973- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، و"حقه يوم حصاده"، الصدقة المفروضة= ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سَنَّ فيما سقت السماء أو العين السائحة، أو سقاه الطل = و"الطل"، الندى = أو كان بَعْلا العشرَ كاملا. (2) وإن سقي برشاء: نصفَ العشر = قال قتادة: وهذا فيما يكال من الثمرة. وكان هذا إذا بلغت الثمرة خمسةُ أوسقٍ، (3) وذلك ثلثمئة صاع، فقد حق فيها الزكاة. وكانوا يستحبون أن يعطوا مما لا يكال من الثمرة على قدر ذلك. 13974- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وطاوس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قالا هو الزكاة. 13975- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الحجاج، عن سالم المكي، عن محمد بن الحنفية قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يوم كيله، يعطي العشر أو نصف العشر. (4) 13976- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم المكي، عن محمد ابن الحنفية قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر، ونصف العشر. 13977- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،   (1) في المطبوعة: ((وما يلتقط)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) ((البعل)) ، من النبات، ما شرب بعروقه من الأرض، بغير سقي من سماء ولا غيرها. (3) ((الأوسق)) جمع ((وسق)) ، وهو ستون صاعًا، كما فسره بعد، على اختلافهم في مقدار الصاع. (4) الأثر: 13975 - ((سالم المكي)) ، هو ((سالم بن عبد الله الخياط)) ، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 116، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 184. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، وعن قتادة: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قالا الزكاة. 13978- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العشر ونصف العشر. 13979- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن عباس، مثله. 13980- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، يعني: يوم كيله، ما كان من برّ أو تمر أو زبيب. و"حقه"، زكاته. 13981- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (كلوا من ثمرة إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كُلْ منه، وإذا حصدته فآت حقه، و"حقه"، عشوره. 13982- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يونس بن عبيد، عن الحسن أنه قال في هذه الآية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة إذا كِلْتَه. 13983- حدثنا عمرو قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الزكاة. 13984- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سألت ابن زيد بن أسلم عن قول الله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، فقلت له: هو العشور؟ قال: نعم! فقلت له: عن أبيك؟ قال: عن أبي وغيره. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 وقال آخرون: بل ذلك حقٌّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال، غيرُ الصدقة المفروضة. * ذكر من قال ذلك: 13985- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن أبيه: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: شيئًا سوى الحق الواجب = قال: وكان في كتابه:"عن علي بن الحسين". 13986- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: القبضة من الطعام. 13987- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عطاء: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: من النخل والعنب والحب كله. 13988- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت ما حصدتُ من الفواكه؟ قال: ومنها أيضًا تؤتي. وقال: من كل شيء حصدتَ تؤتي منه حقه يوم حصاده، من نخل أو عنب أو حب أو فواكه أو خضر أو قصب، من كل شيء من ذلك. قلت لعطاء: أواجب على الناس ذلك كله؟ قال: نعم! ثم تلا (وآتوا حقه يوم حصاده) . قال: قلت لعطاء: (وآتوا حقه يوم حصاده) ،هل في ذلك شيء مُؤَقّت معلوم؟ قال: لا. 13989- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يعطي من حُضورِ يومئذ ما تيسر، (1) وليس بالزكاة.   (1) في المطبوعة: ((يعطي من حصاده يومئذ)) ، وليس صوابًا، وفي المخطوطة: ((يعطي من حصول يومئذ)) ، وصواب قراءتها ما أثبت، وانظر الأثر التالي. ويعني: مَنْ حضره من الناس والمساكين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 13990- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد الملك، عن عطاء: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: ليس بالزكاة، ولكن يطعم من حضره ساعتئذٍ حَصِيده. (1) 13991- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن حماد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يعطون رُطبًا. 13992- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه، وإذا أنقيته وأخذت في كيله حَثَوْت لهم منه. (2) وإذا علمتَ كيله عزلتَ زكاته. وإذا أخذت في جَدَاد النخل طَرَحت لهم من الثفاريق. (3) وإذا أخذت في كيله حثَوْت لهم منه. وإذا علمت كيله عزلت زكاته. 13993- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: سوى الفريضة. 13994- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يلقي إلى السؤَّال عند الحصاد من السنبل، (4) فإذا طِينَ = أو طُيِّن، الشك من أبي جعفر (5) = ألقى إليهم. فإذا   (1) في المطبوعة: ((حصده)) ، وأثبت ما في المخطوطة. ((الحصاد)) و ((الحصيد)) ، ((الحصد)) (بفتح الحاء والصاد) ، هو من الزرع، المحصود بعد ما يحصد. (2) ((حثا له يحثو حثوا)) أعطاه شيئًا منه ملء الكف. (3) في المطبوعة: ((جذاذ الأرض)) (بالذال) ، وهو خطأ محض. ((جداد النخل)) (بفتح الجيم، وبكسرها) : أوان صرامه، وهو قطع ثمره. و ((الثفاريق)) جمع ((ثفروق)) ، وهو قمع البسرة والتمرة التي تلزق بها. ولم يرد هذا مجاهد، بل أراد: العناقيد، يخرط ما عليها، فتبقى عليها الثمرة والثمرتان والثلاث، يخطئها المخلب الذي تخرط به، فتلقى للمساكين. فكني بالثفاريق عن القليل الباقي في عنقوده وشمراخه. (4) ((السؤال)) جمع ((سائل)) مثل ((جاهل)) و ((جهال)) . (5) في المخطوطة: ((فإذا طبن أو طبن)) ، غير منقوطة، وفي المطبوعة: ((فإذا طبن، أو طين)) الأولى لاباء، والثانية بالياء، ولا معنى لهما. وأخشى أن يكون الصواب ما أثبت، يعني به ما يكون مع البر والقمح من الطين. ولا أدري ذلك. وفوق كل ذي علم عليم. ولم أجد الخبر في مكان آخر. وانظر رقم: 14000، وقوله: ((وإذا أدخله البيدر)) ، فكأنه يعني هذا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 حمله فأراد أن يجعله كُدْسًا ألقى إليهم. (1) وإذا داس أطعمَ منه، وإذا فرغ وعلم كم كيله، عزل زكاته. وقال: في النخل عند الجَدَاد يطعم من الثمرة والشماريخ. (2) فإذا كان عند كيله أطعم من التمر. فإذا فرغ عزل زكاته. 13995- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: إذا حصد الزرع ألقى من السنبل، وإذا جَدَّ النخل ألقى من الشماريخ. (3) فإذا كاله زكّاه. 13996- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: عند الحصاد، وعند الدِّياس، وعند الصِّرام، يقبض لهم منه، فإذا كاله عزل زكاته. 13997- وبه، عن سفيان، عن مجاهد مثله= إلا أنه قال: سوى الزكاة. 13998- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: شيء سوى الزكاة، في الحصاد والجَدَاد، إذا حَصَدوا وإذاحَزَرُوا. (4) 13999- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، في قول الله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: واجب، حين يصرم.   (1) ((الكدس)) (بضم فسكون) ، هو كومة البر إذا جمع. (2) في المطبوعة: ((الجذاذ)) بالذال، وانظر التعليق السالف ص: 163، تعليق: 3. (3) ((جد النخل يجده جدادًا)) ، صرمه وقطعه. وهي في المطبوعة بالذال، كما سلف في التعليق السالف. وسأصححه بعد بغير إشارة إلى الخطأ. (4) في المطبوعة: ((وإذا جذوا)) ويعني ((وإذا جدوا)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صحيح المهنى. ((حزر الطعام والنخل وغيره)) : إذا قدره بالحدس، والحازر، هو الخارص أيضًا، ((خرصه)) : قدره بالحدس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 14000- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: إذا حصد أطعم، وإذا أدخله البَيْدَر، (1) وإذا داسه أطعم منه. 14001- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أشعث، عن ابن عمر، قال: يطعم المعترَّ، (2) سوى ما يعطي من العشرو نصف العشر. 14002- وبه، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: قبضة عند الحصاد، وقبضة عند الجَدَاد. 14003- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال: كانوا يعطون مَنْ اعترَّ بهم الشيءَ. 14004- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: الضِّغث. (3) 14005- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: يعطي مثل الضِّغث. 14006- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: مثل هذا من الضغث = ووضع يحيى إصبعه الإبهام على المفصل الثاني من السَّبّابة. 14007- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: نحو الضِّغث.   (1) ((البيدر)) : الموضع الذي يداس فيه الطعام. (2) ((المعتر)) : الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سألك أو سكت عن السؤال. ((عره يعره)) و ((اعتره)) و ((اعتر به)) ، أتاه يطلب معروفه. (3) ((الضغث)) (بكسر فسكون) : ملء اليد من الحشيش المختلط، وما أشبهه من البقول. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 14008- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر= وعن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قالا يعطي ضغثًا. (1) 14009- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم قال، كان النخل إذا صُرِم يجيء الرجل بالعِذْق من نخله، فيعلِّقه في جانب المسجد، فيجيء المسكين فيضربُه بعصاه، فإذا تناثر أكلَ منه. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حَسن أو حسين، فتناول تمرةً، فانتزعها من فيه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصَّدقة، ولا أهلُ بيته. فذلك قوله: (وآتوا حقَّه يوم حصاده) . 14010- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، ويزيد بن الأصم قالا كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعِذْق فيضعونه في المسجد، ثم يجيء السائل فيضربه بعصاه، فيسقط منه، وهو قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) . 14011- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر،   (1) كان هذا الإسناد في المطبوعة كما هو هنا إلا أنه كتب ... ((عن أبي جعفر، عن سفيان)) بغير ((واو العطف)) . وكان فيها أيضًا ((قال)) بالإفراد وهو تغيير لما في المخطوطة. أما في المخطوطة، فكان بعد قوله فيها الإسناد السالف ((الضعث)) ، بياض أمامه حرف (ط) دلالة على أن الخطأ، ثم بعد البياض: ((قال حدثنا أبي، عن إسرائيل)) وسائر الإسناد كما كان في المطبوعة، بغير واو عطف قبل ((عن سفيان)) ، ولكن كان فيها ((قالا)) بالتثنية. وهذا إسناد مضطرب. وزيادة ((حدثنا ابن وكيع)) مكان البياض، صواب لا شك فيه، كما كان في المطبوعة، ولكن الخطأ في إسقاط الواو قبل ((عن سفيان)) . فهما إسنادان كما بينتهما. و ((إسرائيل)) هو ((إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق)) ، يروي، عن ((جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي)) ، و ((أبو جعفر)) هو ((أبو جعفر الباقر)) فيما أرجح. أما الإسناد الثاني، فهو من حديث ابن وكيع، عن أبيه، عن سفيان ... وكأن هذا هو الصواب إن شاء الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 عن يزيد وميمون، (1) في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قالا كان الرجل إذا جدَّ النخلَ يجيء بالعِذْق فيعلقه في جانب المسجد، فيأتيه المسكين فيضربه بعصاه، فيأكل ما يتناثر منه. 14012- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: لَقَطُ السُّنبل. (2) 14013- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد قال: كانوا يعلقون العذق في المسجد عند الصِّرام، فيأكل منه الضعيف. 14014- وبه، عن معمر قال، قال مجاهد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، يطعم الشيءَ عند صِرَامه. 14015- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: الضغث، وما يقع من السنبل. 14016- وبه، عن سالم، عن سعيد: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: العلَف. 14017- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كان هذا قبل الزكاة، للمساكين، القبضةُ والضِّغث لعلف دابته. 14018- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا محمد   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((عن زيد)) ، والصواب أنه ((يزيد بن الأصم)) المذكور في الإسنادين السالفين. (2) ((اللقط)) (بفتح اللام والقاف) ، و ((لقاط السنبل)) (بضم اللام، وبفتحها) : هو الذي تخطئه المناجل فيلتقطه الناس، أهو نثارة السنبل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 بن رفاعة، عن محمد بن كعب في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: ما قلّ منه أو كثر. (1) 14019- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: عند الزرع يعطي القبضَ، وعند الصِّرام يعطي القبض، (2) ويتركهم فيتتبعون آثار الصِّرام. * * * وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة. ثم نسخته الصدقة المعلومة، فلا فرض في مال كائنًا ما كان زرعًا كان أو غرسًا، إلا الصدقة التي فرضها الله فيه. * ذكر من قال ذلك: 14020- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر. 14021- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن الحجاج، عن الحكم، عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر. 14022- وبه، عن حجاج، عن سالم، عن ابن الحنفية قال: نسخها العُشْر، ونصف العشر. 14023- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هذا قبل الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسختها، فكانوا يعطون الضِّغْث. 14024- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مغيرة،   (1) الأثر: 14018 - ((محمد بن رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي)) ، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 82، وابن أبي حاتم 3 /2 / 254. (2) لعله ((يعطي القبضة)) ، فإنه هو الذي تدل عليه اللغة، ولكن هكذا جاء في الموضعين، وهو جائز على ضعف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 عن شباك، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يفعلون ذلك، حتى سُنَّ العُشر ونصف العشر. فلما سُنّ العشر ونصف العشر، تُرك. (1) 14025- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هي منسوخة، نسختها العُشر ونصف العشر. (2) 14026- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: نسختها العشر ونصف العشر. 14027- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر. 14028- وبه، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: نسختها الزكاة. 14029- وبه، عن سفيان، عن السدى قال: نسختها الزكاة: (وآتوا حقه يوم حصاده) . 14030- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: هذه السورة مكية، نسختها العشر ونصف العشر. قلت: عمّن؟ قال: عن العلماء. 14031- وبه، عن سفيان، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر. 14032- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) الأثر: 14024 - 14025 - ((شباك الضبي)) الكوفي الأعمى. روى عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وأبي الضحى. روى عنه مغيرة بن مقسم، وفضيل بن غزوان، ونهشل بن مجمع. قال أحمد: ((شيخ ثقة)) . مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 270، وانظر أيضًا رقم: 14027، 14030، 14031. (2) الأثر: 14024 - 14025 - ((شباك الضبي)) الكوفي الأعمى. روى عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وأبي الضحى. روى عنه مغيرة بن مقسم، وفضيل بن غزوان، ونهشل بن مجمع. قال أحمد: ((شيخ ثقة)) . مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 270، وانظر أيضًا رقم: 14027، 14030، 14031. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 حدثنا أسباط، عن السدي: أما (وآتوا حقه يوم حصاده) ، فكانوا إذا مرّ بهم أحدٌ يوم الحصاد أو الجدَادِ، أطعموه منه، فنسخها الله عنهم بالزكاة، وكان فيما أنبتتِ الأرضُ، العشرُ ونصف العشر. 14033- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: كانوا يَرْضَخون لقرَابتهم من المشركين. (1) 14034- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: نسخه العشر ونصف العشر. كانوا يعطون إذا حصَدوا وإذا ذَرَّوا، فنسختها العشر ونصف العشر. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: كان ذلك فرضًا فرضه الله على المؤمنين في طعامِهم وثمارهم التي تُخْرجها زروعهم وغرُوسهم، ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة، والوظيفة المعلومةِ من العشر ونصف العشر. وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم: أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدِّياس والتنقية والتذرية، وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الإجزاز. (2) فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله جل ثناؤه: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، ينبئ عن أنه أمرٌ من الله جل ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده، وكان يوم حصاده هو يوم جَدِّه وقطعه، والحبُّ لا شك أنه في ذلك اليوم في سنبله، والتَّمر وإن كان ثمر نخل أو كَرْم غيرُ مستحكم جُفوفه ويبسه، وكانت الصدقة من الحبِّ إنما تؤخذ بعد دِياسه وتذريته وتنقيته كيلا والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام   (1) ((رضخ له من ماله رضيخة)) ، إذا أعطاه منه العطية المقاربة، القليلة. (2) في المطبوعة: ((إلا بعد الجفاف)) غير ما في المخطوطة كل التغيير، وكان فيها: ((إلا بعد الأحرار)) غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. يقال ((جز النخل والتمر)) و ((أجز النخل والتمر)) ، يبس تمره، وحان أن يجز، أي: أن يقطع ثمره ويصرم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 يبسه وجفوفه كَيْلا= علم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حَصْده، غير الذي يجب إيتاؤه المساكين يوم حَصاده. * * * فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك إيجابًا من الله في المال حقًّا سوى الصدقة المفروضة؟ قيل: لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضًا واجبًا، أو نَفْلا. فإن يكن فرضًا واجبًا، فقد وجب أن يكون سبيلُه سبيلَ الصدقات المفروضات التي من فرَّط في أدائها إلى أهلها كان بربِّه آثمًا، ولأمره مخالفًا. (1) وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجبُ وجوبَ الزكاة سوى ما يجبُ من النفقة لمن يلزم المرءَ نفقته، ما ينبئ عن أنّ ذلك ليس كذلك. =أو يكون ذلك نَفْلا. فإن يكن ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الخيارُ في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر. وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك، ما ينبئ عن أن ذلك ليسَ كذلك. وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادًا بها الندب، وكان غير جائز أن يكون لها مخرجٌ في وجوب الفرض بها في هذا الوقت، علم أنها منسوخة. ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلا على صحته، أنه جل ثناؤه أتبع قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ، ومعلوم أنّ من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدرِ، أنّ القائم بأخذ ذلك ساستهم ورُعاتهم. وإذا كان ذلك كذلك، فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك، والآخذ مُجْبِرٌ، وإنما يأخذ الحق الذي فرض لله فيه؟ * * *   (1) انظر تفسير قوله: ((بربه آثمًا)) فيما سلف 4: 530، تعليق: 3 / 6: 92، تعليق: 2 / 11: 180، تعليق 3 / 11: 328، تعليق: 2. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 فإن ظن ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القيِّمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدِّي في مال رب المال، والتجاوز إلى أخذ ما لم يُبَحْ له أخذه، فإن آخر الآية وهو قوله: (ولا تسرفوا) ، معطوف على أوله، وهو قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) . فإن كان المنهيَّ عن الإسراف القيِّمُ بقبض ذلك، فقد يجب أن يكون المأمورُ بإيتائه، (1) المنهيَّ عن الإسراف فيه، وهو السلطان. وذلك قول إن قاله قائل، كان خارجًا من قول جميع أهل التأويل، ومخالفًا المعهود من الخطاب، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه. * * * فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معنى قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، وآتوا حقه يوم كيله، لا يوم قصله وقطعه، (2) ولا يوم جداده وقطافه؟ فقد علمتَ مَنْ قال ذلك من أهل التأويل؟ وذلك ما:- 14035- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يوم كيله. 14036- وحدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الحجاج، عن سالم المكي، عن محمد بن الحنفية قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: يوم كيله، يعطي العشر ونصف العشر. (3) * * * = مع آخرين قد ذكرت الرواية فيما مضى عنهم بذلك؟ (4)   (1) في المطبوعة: ((بإتيانه)) ، وهو خطأ محض، وهو في المخطوطة غير منقوط، وذلك بيان لقوله: ((وآتوا حقه يوم حصاده)) . (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((يوم فصله)) بالفاء، والصواب بالقاف. ((قصل النبات يقصله قصلا، واقتصله)) ، قطعه وهو أخضر. (3) الأثر: 14036 - انظر ما سلف رقم: 13975. (4) انظر الآثار السالفة من أول تفسير الآية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 قيل: لأن يوم كيله غير يوم حصاده. ولن يخلو معنى قائلي هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكونوا وجّهوا معنى"الحصاد"، إلى معنى"الكيل"، فذلك ما لا يعقل في كلام العرب، لأن"الحصاد" و"الحصد" في كلامهم: الجدّ والقطع، لا الكيل = أو يكونوا وجّهوا تأويل قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، إلى: وآتوا حقه بعد يوم حصاده إذا كلتموه، فذلك خلاف ظاهر التنزيل. وذلك أن الأمر في ظاهر التنزيل بإيتاء الحقّ منه يوم حصاده، لا بعد يوم حصاده. ولا فرقَ بين قائلٍ: إنما عنى الله بقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، بعد يوم حصاده= وآخرَ قال: عنى بذلك قبل يوم حصاده، لأنهما جميعًا قائلان قولا دليلُ ظاهر التنزيل بخلافه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الإسراف"، الذي نهى الله عنه بهذه الآية، ومن المنهيّ عنه. فقال بعضهم: المنهيّ عنه: ربّ النخل والزرع والثمر= و"السرف" الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطِيّة إلى ما يجحف برب المال. (1) * ذكر من قال ذلك: 14037- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا عاصم، عن أبي العالية في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا) ، الآية، قال:   (1) انظر تفسير ((الإسراف)) فيما سلف 7: 272، 579 /10، 579 / 10: 242. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، (1) فأنزل الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) . 14038- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا سوى الزكاة، ثم تبارَوْا فيه، أسرفوا، (2) فقال الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) . 14039- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية: (وآتوا حقه يوم حصاده) ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تسارفوا، فقال الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) . 14040- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جَدَّ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحدٌ إلا أطعمته! فأطعم، حتى أمسى وليست له ثمرة، فقال الله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) . 14041- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: (ولا تسرفوا) ، يقول: لا تسرفوا فيما يؤتى يوم الحصاد، أم في كل شيء؟ قال: بلى! في كل شيء، ينهى عن السرف. (3) قال: ثم عاودته بعد حين، فقلت: ما قوله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ؟ قال: ينهى عن السرف في كل شيء. ثم تلا (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) ، [سورة الفرقان: 67] . 14042- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا   (1) ((تسارفوا)) ، أي بالغوا في الإسراف وتباروا فيه، وهذا من اشتقاق اللغة الذي لا تكاد تجده في المعاجم، فقيده في مكانه. (2) في المطبوعة: ((وأسرفوا)) بواو العطف، وأثبت ما في المخطوطة، هو صواب جيد. (3) ((بلى)) انظر استعمال ((بلى)) في غير حجد سبقها، فيما سلف 10: 253، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 سفيان بن حسين، عن أبي بشر قال: أطاف الناس بإياس بن معاوية بالكوفة، فسألوه: ما السَّرَف؟ فقال: ما دون أمرِ الله فهو سَرَف. (1) 14043- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تسرفوا) ، لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء. * * * وقال آخرون:"الإسراف" الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربَّ المال بإيتائه أهلَه بقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) . * ذكر من قال ذلك: 14044- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله، عن عمرو بن سليم وغيره، عن سعيد بن المسيب في قوله: (ولا تسرفوا) ، قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا. (2) 14045- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ، والسرف، أن لا يعطي في حق. (3) * * *   (1) في المطبوعة: ((ما تجاوز أمر الله فهو سرف)) ، وهو مخالف لما في المخطوطة، وكان فيها: ((ما وزه أمر الله فهو سرف)) ، والهاء مشبوكة في الزاي، وفوق الكلمة حرف (ط) دلالة على الخطأ والشك. والذي روى عن إياس بن معاوية هذا اللفظ أنه قال: ((الإسراف ما قصر به عن حق الله)) (اللسان: سرف) ، فصح عندي أن ((ما وزه)) هي ((ما دون أمر الله)) ، ليطابق ما نقل عن إياس اللفظ الآخر. وإن كان أبو حيان في تفسيره 4: 238، قد كتب: ((كل ما جاوزت فيه أمر الله فهو سرف)) ، وكذلك القرطبي في تفسيره 7: 110. وروى هذا كما أثبته أو بمعناه، عن معاوية رضي الله عنه. (2) الأثر: 14044 - ((أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري)) القاضي الفقيه، وهو متروك، قال أحمد: ((كان يضع الحديث ويكذب)) . قال له ابن جريج: ((اكتب لي أحاديث من أحاديثك)) فكتب له. قال الواقدي: ((فرأيت ابن جريج قد أدخل منها في كتبه. وكان كثير الحديث، وليس بحجة)) . مترجم في التهذيب، وميزان الاعتدال 3: 348. و ((عمرو بن سليم بن خلدة الأنصاري الزرقي)) ، تابعي ثقة، كان قليل الحديث. مترجم في التهذيب. (3) الأثر: 14045 - ((موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي)) ، ضعيف لا يكتب حديثه. مضى مرارًا كثيرة آخرها: 11134. وكان في الإسناد هنا: ((محمد بن عبيدة)) ، في المخطوطة والمطبوعة، وهو خطأ لا شك فيه، فإن الذي يروي عنه ((محمد بن الزبرقان)) ، ويروي هو عن ((محمد بن كعب القرظي)) ، وهو ((موسى بن عبيدة)) ، وهو الصواب المحض - وقد مر مرارًا كتابة الناسخ ((محمد)) مكان ((موسى)) في غير هذا من الأسماء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 وقال آخرون: إنما خوطب بهذا السلطان. نُهِى أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله. * ذكر من قال ذلك. 14046- حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله: (ولا تسرفوا) ، قال: قال للسلطان:"لا تسرفوا"، لا تأخذوا بغير حق، فكانت هذه الآية بين السلطان وبين الناس= يعني قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) ، الآية. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: (ولا تسرفوا) ، عن جميع معاني"الإسراف"، ولم يخصص منها معنًى دون معنى. وإذ كان ذلك كذلك، وكان "الإسراف" في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حدّه في الزيادة، وإما بتقصير عن حدّه الواجب (1) = كان معلومًا أن المفرِّق مالَه مباراةً، والباذلَهُ للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرفٌ بتجاوزه حدَّ الله إلى ما [ليس له] . (2) وكذلك المقصِّر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهلَ سُهْمَان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها. وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون   (1) انظر تفسير ((الإسراف)) فيما سلف 7: 272، 579 / 10: 242 (2) في المطبوعة: ((بتجاوزه حد الله إلى ما كيفته له)) ، ومثلها في المخطوطة، غير المنقوطة، ولا معنى لهما، فطرحت هذه العبارة، وكتبت ما بين القوسين ما يستقيم به الكلام بعض الاستقامة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 في معنى مَنْ أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: (ولا تسرفوا) ، في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم= إذ كان ما قبله من الكلام أمرًا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإنّ الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاصّ من الأمور، والحكم بها على العامّ، بل عامّة آي القرآن كذلك. فكذلك قوله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) . ومن الدليل على صحة ما قلنا من معنى "الإسراف" أنه على ما قلنا، قول الشاعر: (1) أَعْطَوا هُنَيْدَةَ يَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ ... مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلا سَرَفُ (2) يعني بـ"السرف": الخطأ في العطيّة. (3)   (1) هو جرير. (2) مضى البيت الأول وتخريجه وشرحه فيما سلف 7: 579. (3) عند هذا الموضع، انتهى الجزء التاسع من مخطوطتنا، وفيها ما نصه: ((نجز الجزء التاسع بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه ومنّة. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا. يتلوه في العاشر إن شاء الله: القول في تأويل قوله: " وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا " وكان الفراغ من كتابته في جمادى الأول سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسن الله تقضِّيها وخاتمتها في خير وعافية. والله المعين على تكملة جميع الكتاب إن شاء الله تعالى. غفر الله لمؤلفه، ولصاحبه، ولكاتبه، ولمن نظر فيه ودعا لهم بالمغفرة ورضا الله والجنة، ولجميع المسلمين. الحمد لله ربِّ العالمين)) ثم يتلوه في أول الجزء العاشر: ((بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّرْ)) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا، مع ما أنشأ من الجنات المعروشات وغير المعروشات. * * * و"الحمولة"، ما حمل عليه من الإبل وغيرها. و"الفرش"، صغار الإبل التي لم تدرك أن يُحْمَل عليها. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"الحمولة"، ما حمل عليه من كبار الإبل ومسانّها= و"الفرش"، صغارها التي لا يحمل عليها لصغرها. * ذكر من قال ذلك: 14047- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، الكبار من الإبل="وفرشًا"، الصغار من الإبل. 14048- . . . . وقال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس:"الحمولة"، هي الكبار، و"الفرش"، الصغار من الإبل. 14049- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال:"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، ما لم يحمل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 14050- وبه عن إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد:"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، ما لم يحمل. 14051- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وفرشًا) ، قال: صغار الإبل. 14052- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، الكبار، و"الفرش"، الصغار. 14053- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود في قوله: (حمولة وفرشًا) ،"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، هنّ الصغار. 14054- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، ما حمل عليه من الإبل، و"الفرش"، الصغار = قال ابن المثنى، قال محمد، قال شعبة: إنما كان حدثني سفيان، عن أبي إسحاق. 14055- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن:"الحمولة"، من الإبل والبقر. * * * وقال بعضهم:"الحمولة"، من الإبل، وما لم يكن من"الحمولة"، فهو"الفرش". 14056- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن: (حمولة وفرشًا) ، قال:"الحمولة"، ما حمل عليه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 و"الفرش"، حواشيها، يعني صغارها. 14057- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، فـ"الحمولة"، ما حمل من الإبل، و"الفرش"، صغار الإبل، الفصيل وما دون ذلك مما لا يحمل. * * * ويقال:"الحمولة"، من البقر والإبل = و"الفرش"، الغنم. * * * وقال آخرون:"الحمولة"، ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك، و"الفرش"، الغنم. * ذكر من قال ذلك: 14058- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، فأما"الحمولة"، فالإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، وأما"الفرش"، فالغنم. 14059- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس:"الحمولة"، من الإبل والبقر= و"فرشًا". المعز والضأن. 14060- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، قال: أما"الحمولة"، فالإبل والبقر. قال: وأما"الفرش"، فالغنم. 14061- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، كان غير الحسن يقول:"الحمولة"، الإبل والبقر، و"الفرش"، الغنم. 14062- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 حدثنا أسباط، عن السدي: (ومن الأنعام حمولة وفرشًا) ، أما"الحمولة"، فالإبل. وأما"الفرش"، فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم. (1) وما حمل عليه فهو"حمولة". 14063- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (حمولة وفرشًا) ،"الحمولة"، الإبل، و"الفرش"، الغنم. 14064- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن: (وفرشًا) ، قال:"الفرش"، الغنم. 14065- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حمولة وفرشًا) قال:"الحمولة"، ما تركبون، و"الفرش"، ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل، تأكلون لحمها، وتتخذون من أصوافها لحافًا وفرشًا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن"الحمولة"، هي ما حمل من الأنعام، لأن ذلك من صفتها إذا حملت، لا أنه اسم لها، كالإبل والخيل والبغال، فإذا كانت إنما سميت"حمولة" لأنها تحمل، فالواجب أن يكون كل ما حَمَل على ظهره من الأنعام فحمولة. وهي جمع لا واحد لها من لفظها، كالرَّكوبة، و"الجزورة". وكذلك"الفرش"، إنما هو صفة لما لطف فقرب من الأرض جسمه، ويقال له:"الفرش". وأحسبها سميت بذلك تمثيلا لها في استواء أسنانها ولطفها بالفَرْش من الأرض، وهي الأرض المستوية التي يتوطَّؤُها الناس. فأما"الحمولة"، بضم"الحاء"، فإنها الأحمال، وهي"الحمول" أيضًا بضم الحاء. * * *   (1) ((العجاجيل)) جمع ((عجول)) (بكسر العين، وتشديد الجيم وفتحها، وسكون الواو) وهو ((العجل)) ولد البقر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 القول في تأويل قوله: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: كلوا مما رزقكم الله، أيها المؤمنون، فأحلّ لكم ثمرات حروثكم وغروسكم، ولحوم أنعامكم، إذ حرّم بعض ذلك على أنفسهم المشركون بالله، فجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا وللشيطان مثله، فقالوا:"هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا" = (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، كما اتبعها باحرُو البحيرة، ومسيِّبو السوائب، فتحرموا على أنفسكم من طيب رزق الله الذي رزقكم ما حرموه، فتطيعوا بذلك الشيطان، وتعصوا به الرحمن، كما:- 14066- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، لا تتبعوا طاعته، هي ذنوب لكم، وهي طاعة للخبيث. * * * = إن الشيطان لكم عدو يبغي هلاككم وصدكم عن سبيل ربكم= (مبين) ، قد أبان لكم عدواته، (1) بمناصبته أباكم بالعداوة، حتى أخرجه من الجنة بكيده، وخدَعه حسدًا منه له، (2) وبغيًا عليه. (3) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((أبان لكم عدوانه)) ، وصوابها ما أثبت. (2) في المطبوعة: ((وحسدًا منه)) بالواو، والصواب ما في المخطوطة. (3) انظر تفسير ((خطوات الشيطان)) فيما سلف 2: 300 - 302 / 4: 258. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 القول في تأويل قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) } قال أبو جعفر: وهذا تقريعٌ من الله جل ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل= وتعليم منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، الحجةَ عليهم في تحريمهم ما حرموا من ذلك. فقال للمؤمنين به وبرسوله: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشًا. ثم بين جل ثناؤه"الحمولة" و"الفرش"، فقال: (ثمانية أزواج) . * * * وإنما نصب"الثمانية"، لأنها ترجمة عن"الحمولة" و"الفرش"، وبدل منها. كأن معنى الكلام: ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج= فلما قدّم قبل"الثمانية""الحمولة" و"الفرش" بيّن ذلك بعد فقال: (ثمانية أزواج) ، على ذلك المعنى. * * * (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، فذلك أربعة، لأن كل واحد من الأنثيين من الضأن زوج، فالأنثى منه زوج الذكر، والذكر منه زوج الأنثى، وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان. فلذلك قال جل ثناؤه: (ثمانية أزواج) ، كما قال: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) ، [سورة الذاريات: 49] ، لأن الذَّكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، فهما وإن كانا اثنين فيهما زوجان، كما قال جل ثناؤه: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) ، [سورة الأعراف: 189] ، وكما قال: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ، [سورة الأحزاب: 37] ، وكما:- 14067- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 الضحاك: (من الضان اثنين) ، ذكر وأنثى، (ومن البقر اثنين) ، ذكر وأنثى= (ومن الإبل اثنين) ، ذكر وأنثى. * * * ويقال للاثنين:"هما زوج"، (1) كما قال لبيد: مِنْ كُلِّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّهُ ... زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وَقِرَامُهَا (2) * * * ثم قال لهم: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم، واركبوا هذه الحمولة، أيها المؤمنون، فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك. = قل، يا محمد، لهؤلاء الذين حرّموا ما حرموا من الحرث والأنعام اتباعًا للشيطان، من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرم عليهم ما هم محرمون من ذلك=: آلذكرين حرم ربكم، أيها الكذبة على الله، من الضأن والمعز؟ فإنهم إن ادعوا ذلك وأقرّوا به، كذبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم. لأنهم إذا قالوا:"يحرم الذكرين من ذلك"، أوجبوا تحريم كل ذكرين من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها. وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم = (أم الأنثيين) ، فإنهم إن قالوا:"حرم ربنا الأنثيين"، أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها. وفي ذلك أيضًا تكذيب لهم، ودحض دعواهم أنّ ربهم حرم ذلك عليهم، إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره = (أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، يقول: أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز،   (1) انظر تفسير ((الزوج)) فيما سلف 1: 514 / 2: 446 / 7: 515 / 12: 150. (2) من قصيدته العجيبة المعلقة، وهذا البي في أوائل الشعر، يصف هوادج ظعن الحي. و ((المحفوف)) ، يعني الهودج، حف بالثياب والأنماط. و ((العصى)) ، خشب الهودج، تظلله وتستره الثياب والأنماط. و ((الكلة)) الستر الرقيق. و ((الرقام)) ستر فيه رقم ونقوش وتماثيل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 فلذلك قال:"أرحام الأنثيين"، وفي ذلك أيضًا لو أقرُّوا به فقالوا:"حرم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين"، بُطولُ قولهم وبيان كذبهم، لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أنّ الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها، أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها، وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. * * * و"ما" التي في قوله: (أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، نصب عطفًا بها على"الأنثيين". (1) * * * = (نبئوني بعلم) ، يقول: قل لهم: خبروني بعلم ذلك على صحته: أيَّ ذلك حرم ربكم عليكم، وكيف حرم؟ (2) = (إن كنتم صادقين) ، فيما تنحلونه ربكم من دعواكم، وتضيفونه إليه من تحريمكم. * * * وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه أنّ كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله، فهو كذب على الله، وأنه لم يحرم شيئًا من ذلك، وأنهم إنما اتّبعوا في ذلك خطوات الشيطان، وخالفوا أمره. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14068- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) الآية، إن كل هذا لم أحرم منه قليلا ولا كثيرًا، ذكرًا ولا أنثى. 14069- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، قال: سلهم: (آلذكرين   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 360. (2) انظر تفسير ((النبأ)) ، فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، أي: لم أحرم من هذا شيئًا = (بعلم إن كنتم صادقين) ، فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك. 14070- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ثمانية أزواج) ، في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة. 14071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ثمانية أزواج) ، قال: هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسُّيَّب = قال ابن جريج يقول: من أين حرمت هذا؟ من قبل الذكرين أم من قبل الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فمن أين جاء التحريم؟ فأجابوا هم: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. 14072- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين، يقول: أنزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت، ذكر وأنثى، فالذكرين حرمت عليكم أم الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ يقول: أي: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فما حرمت عليكم ذكرًا ولا أنثى من الثمانية. إنما ذكر هذا من أجل ما حرَّموا من الأنعام. 14073- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن: (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، قال: ما حملت الرَّحم. 14074- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل آلذكرين حرم أم الأنثيين) ، قال: هذا لقولهم: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) . قال: وقال ابن زيد في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، قال:"الأنعام"، هي الإبل والبقر والضأن والمعز، هذه"الأنعام" التي قال الله: "ثمانية أزواج". قال: وقال في قوله: (هذه أنعام وحرث حجر) ، نحتجرها على من نريد، وعمن نريد. وقوله: (وأنعام حرمت ظهورها) ، قال: لا يركبها أحد= (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) ، فقال: (آلذكرين حرم أم الأنثيين) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء؟ أي: أن تكون لهؤلاء حِلا وعلى هؤلاء حرامًا. 14075- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى؟ فهل يحرمون بعضًا ويحلون بعضًا؟ . 14076- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، فهذه أربعة أزواج= (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين) ، يقول: لم أحرم شيئًا من ذلك = (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين) ، يقول: كله حلال. * * * و"الضأن" جمع لا واحد له من لفظه، وقد يجمع"الضأن"،"الضَّئين والضِّئين"، مثل"الشَّعير" و"الشِّعير"، كما يجمع"العبد" على"عَبيد، وعِبيد". (1) وأما الواحد من ذكوره فـ"ضائن"، والأنثى"ضائنة"، وجمع"الضائنة""ضوائن".   (1) كل ذلك بفتح الضاد، والشين، والعين = ثم بكسر الضاد، والشين، والعين. وقد نصوا على ذلك في ((الضئين)) و ((الشعير)) ، ولم أوفق إلى العثور على ذلك في ((العبيد)) ، وهو موجود إن شاء الله فيما أذكر. وقالوا: إن كسر ((الضاد)) لغة تميمية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 وكذلك"المعز"، جمع على غير واحد، وكذلك"المعزى"، وأما"الماعز"، فجمعه"مواعز". * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) } قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) ، نحو تأويل قوله: (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ، وهذه أربعة أزواج، على نحو ما بيّنا من الأزواج الأربعة قبلُ من الضأن والمعز، فذلك ثمانية أزواج، كما وصف جل ثناؤه. * * * وأما قوله: (أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم) ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين قص قصصهم في هذه الآيات التي مضَت. يقول له عز ذكره: قل لهم، يا محمد، أيَّ هذه سألتكم عن تحريمه حرم ربكم عليكم من هذه الأزواج الثمانية؟ فإن أجابوك عن شيء مما سألتهم عنه من ذلك، فقل لهم: أخبرًا قلتم:"إن الله حرم هذا عليكم"، أخبركم به رسول عن ربكم، أم شهدتم ربكم فرأيتموه فوصَّاكم بهذا الذي تقولون وتزوّرون على الله؟ (1) فإن هذا الذي تقولون من إخباركم عن الله أنه حرام بما تزعمون على ما تزعمون،   (1) في المطبوعة: ((وتردون على الله)) ، وفي المخطوطة: ((وتررون)) ، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 لا يعلم إلا بوحي من عنده مع رسول يرسله إلى خلقه، أو بسماع منه، فبأي هذين الوجهين علمتم أنّ الله حرم ذلك كذلك، برسول أرسله إليكم، فأنبئوني بعلم إن كنتم صادقين؟ أم شهدتم ربكم فأوصَاكم بذلك، وقال لكم:"حرمت ذلك عليكم"، فسمعتم تحريمه منه، وعهدَه إليكم بذلك؟ (1) فإنه لم يكن واحدٌ من هذين الأمرين. يقول جل ثناؤه: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا) ، يقول: فمن أشد ظلمًا لنفسه، وأبعد عن الحق ممن تخرَّص على الله قيلَ الكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، وتحليل ما لم يحلل (2) = (ليضل الناس بغير علم) ، يقول: ليصدّهم عن سبيله (3) = (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول: لا يوفّق الله للرشد من افترى على الله وقال عليه الزُّور والكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، كفرًا بالله، وجحودًا لنبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، (4) كالذي:- 14077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) ، الذي تقولون. 14078- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كانوا يقولون = يعني الذين كانوا يتّخذون البحائر والسوائب =: إن الله أمر بهذا. فقال الله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم) . * * *   (1) انظر تفسير ((شهداء)) فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) = وتفسير ((وصى)) فيما سلف 9: 295، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف ص: 153، تعليق: 5، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((الضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . (4) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . = وتفسير ((الظلم)) فيما سلف منها (ظلم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 القول في تأويل قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله ممّا ذَرأ من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله = والقائلين هذه أنعام وحرث حجرٌ لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم= والمحرّمين من أنعام أُخَر ظهورَها= والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها= والمحرِّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومحلِّيه لذكورهم، المحرّمين ما رزقهم الله افتراءً على الله، وإضافةً منهم ما يحرمون من ذلك إلى أنَّ الله هو الذي حرّمه عليهم=: أجاءكم من الله رسولٌ بتحريمه ذلك عليكم، فأنبئونا به، أم وصَّاكم الله بتحريمه مشاهدةً منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه، لأنكم إذا ادّعيتموه علم الناس كذبكم= فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله، (1) شيئًا محرَّمًا على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريمَ ما حَرّم عليكم منها بزعمكم (2) ="إلا أن يكون ميتة"، قد ماتت بغير تذكية ="أو دمًا مسفوحًا"، وهو المُنْصَبّ = أو إلا أن يكون لحم خنزير = (فإنه رجس أو فسقًا) ، يقول: أو إلا أن يكون فسقًا، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحًا ذبحه ذابحٌ من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته، فذكر   (1) انظر تفسير ((الوحي) فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) . (2) انظر تفسير ((طعم)) فيما سلف 5: 342 / 10: 576. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 عليه اسم وثنه، فإن ذلك الذبح فسقٌ نهى الله عنه وحرّمه، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك، لأنه ميتة. * * * وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبيَّ الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادَلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله، وأن الذي زعموا أنّ الله حرمه حلالٌ قد أحلَّه الله، وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14079- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: (قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرمًا) قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون أشياء ويحلِّون أشياء، فقال: قل لا أجد مما كنتم تحرمون وتستحلُّون إلا هذا: (إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به) . 14080- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّمًا) الآية، قال: كان أهل الجاهلية يستحلّون أشياء ويحرّمون أشياء، فقال الله لنبيه: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا مما كنتم تستحلون إلا هذا = وكانت أشياء يحرِّمونها، فهي حرام الآن. 14081- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه) ، قال: ما يؤكل. قلت: في الجاهلية؟ قال: نعم! وكذلك كان يقول: (إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا) = قال ابن جريج: وأخبرني الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا) ، قال: مما كان في الجاهلية يأكلون، لا أجد محرمًا من ذلك على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا. * * * وأما قوله: (أو دمًا مسفوحًا) ، فإن معناه: أو دمًا مُسَالا مُهَرَاقًا. يقال منه:"سفحت دمه"، إذا أرقته، أسفحه سَفْحًا، فهو دم مسفوح"، كما قال طرفة بن العبد: إِنِّي وَجدِّكَ مَا هَجَوْتُكَ وَالْ ... أَنْصَابِ يَسْفَحُ فَوْقَهُنَّ دَمُ (1) وكما قال عَبِيد بن الأبرص: إذَا مَا عَادَهُ مِنْهَا نِسَاءٌ ... سَفَحْنَ الدَّمْعَ مِنْ بَعْدِ الرَّنِينِ (2)   (1) ديوان الستة الجاهليين: 347، من ثلاثة أبيات يعتذر بها إلى عمرو بن هند، حين بلغه أنه هجاه، فتوعده، يقول بعده: وَلَقَدْ هَمَمْتُ بِذَاكَ، إِذْ حُبِسَتْ ... وَأُمِرَّ دُونَ عَبِيدةَ الوَذَمُ أَخْشَى عِقَابَكَ إِنْ قَدَرْتَ، وَلَمْ ... أَغْدِرْ فَيُؤْثَرَ بَيْنَنَا الكلِمُ (2) ديوانه: 45، وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((منا نساء)) ، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما في الديوان، وهو من قصيدته التي لام فيها امرأته لما أعرضت عنه لما كبر وشاب، ومطت له حاجبيها استهزاء به، فذكرها به، فذكرها بما كان من ماضيه في اللهو والصبا والحرب، فكان مما ذكرها به من ذلك شأنه في الحرب، فقال: وَأَسْمَرَ قد نَصَبْتُ لِذي سَناءِ ... يَرَى مِنّي مُخَالَطَةَ اليَقِينِ يُحَاوِلُ أَنْ يَقُومَ، وقَدْ مَضَتْهُ ... مغابنةٌ بِذِي خُرْصٍ قَتِينِ إذَا مَا عَادَهُ مِنْهَا نِسَاءٌ ... سَفَحْنَ الدَّمْعَ من بعد الرَّنِينِ ((أسمر)) يعني رمحًا، طعن به فارسًا ذا سناء وشرف، فخالطه به مخالطة اليقين. فلما طعنه حاول أن يقوم، وقد ((مضته)) ، أي: نفذت فيه طعنة ((مغابنة)) ، تخيط لحمه وتغبنه كما يغبن الثوب، برمح ((ذي خرص)) أي سنان، ((قتين)) ، أي: محدد الرأس. فإذا عاده النساء من هذه الطعنة، صحن صياح الحزن، وذلك هو ((الرنين)) ، من هول ما رأين من أثر الطعنة، ثم سفحن الدمع لما يئسن ومن شفائه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 يعني: صببن، وأسلنَ الدمع. * * * وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عبادَه تحريمه إياه، المسفوحَ منه دون غيره، الدليلُ الواضح أنَّ ما لم يكن منه مسفوحًا، فحلال غير نجس. (1) وذلك كالذي:- 14082- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة: (أو دما مسفوحًا) ، قال: لولا هذه الآية لتتبَّع المسلمون من العروق ما تتبعتِ اليهود. 14083- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة بنحوه = إلا أنه قال: لا تَّبَع المسلمون. 14084- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، بنحوه. 14085- حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في القِدْر يعلوها الحمرة من الدم. قال: إنما حرم الله الدمَ المسفوحَ. 14086- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: سألته عن الدم وما يتلطَّخ بالمذْبح من الرأس، وعن القدر يرى فيها الحُمرة؟ قال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح. 14087- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أو دمًا مسفوحًا) ، قال: حُرِّم الدم ما كان مسفوحًا; وأما لحم خالطه دم، فلا بأس به.   (1) السياق: ((وفي اشتراطه ... المسفوح منه ... الدليل الواضح)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 14088- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا) ، يعني: مُهَراقًا. 14089- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، أخبرني ابن دينار، عن عكرمة: (أو دمًا مسفوحًا) ، قال: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود. 14090- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة: أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا، والحمرةِ والدم يكونان على القدر بأسًا، وقرأت هذه الآية: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه) ... الآية. (1) 14091- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد، قال حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة قالت، وذكرت هذه الآية: (أو دمًا مسفوحًا) ، قلت: وإن البرمة ليرى في مائها [من] الصفرة. (2) * * * وقد بينا معنى"الرجس"، فيما مضى من كتابنا هذا، وأنه النجس والنتن، وما يُعْصى الله به، بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)   (1) الأثر: 14090 - قال ابن كثير في تفسيره 3: 415، وذكر هذا الأثر، ((صحيح غريب)) . (2) الأثر: 14091 - هذا أثر مبتور لا شك في ذلك، يبينه الذي قبله، فهو إسناد آخر له. وكان في المطبوعة: ((ليرى في مائها الصفرة)) ، حذف ((ما)) التي قبل ((في مائها)) ، وهي ثابتة في المخطوطة، وزدت ما بين القوسين، لتستقيم العبارة. ولم أجد الخبر في مكان آخر بلفظه هذا. (3) انظر تفسير ((الرجس)) فيما سلف 10: 564، 565 / 12: 110 - 112. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 وكذلك القول في معنى"الفسق" = وفي قوله: (أهل لغير الله به) ، قد مضى ذلك كله بشواهده الكافية من وفِّق لفهمه، عن تكراره وإعادته. (1) * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: (إلا أنْ يكون ميتة) . فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: (إِلا أَنْ يَكُونَ) ، بالياء (مَيْتَةً) مخففة الياء منصوبة، = على أن في"يكون" مجهولا و"الميتة" فعل له، (2) فنصبت على أنها فعل"يكون"، وذكروا"يكون"، لتذكير المضمر في"يكون". * * * وقرأ ذلك بعض قرأة أهل مكة والكوفة:"إلا أَنْ تَكُونَ"، بالتاء"مَيْتَةً"، بتخفيف الياء من"الميتة" ونصبها = وكأن معنى نصبهم"الميتة" معنى الأولين، وأنثوا"تكون" لتأنيث الميتة، كما يقال:"إنها قائمة جَارِيتُك"، و"إنه قائم جاريتك"، فيذكر المجهول مرة ويؤنث أخرى، لتأنيث الاسم الذي بعده. * * * وقرأ ذلك بعض المدنيين:"إلا أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةٌ"، بالتاء في"تكون"، وتشديد الياء من"ميتة" ورفعها= فجعل"الميتة" اسم"تكون"، وأنث"تكون" لتأنيث"الميتة"، وجعل"تكون" مكتفية بالاسم دون الفعل، لأن قوله:"إلا أن تكون ميتة" استثناء، والعرب تكتفي في الاستثناء بالأسماء عن الأفعال، فيقولون:"قام الناس إلا أن يكون أخاك"، و"إلا أن يكون أخوك"، فلا تأتي لـ"يكون"، بفعل، وتجعلها مستغنية بالاسم، كما يقال:"قام القوم إلا أخاك"   (1) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف ص: 76، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير ((أهل لغير الله به)) فيما سلف 3: 319 - 321 / 9: 493. (2) ((الفعل)) هنا، خبر المبتدأ، وهو اصطلاح قديم كما ترى، وتفسيره أن خبر المبتدأ كأنه فعل له. تقول: ((محمد قائم)) ، تفسيره أن محمدا فعل القيام، وهو اصطلاح كوفي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 و"إلا أخوك"، (1) فلا يفتقد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء فعلا. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: (إِلا أَنْ يَكُونَ) بـ"الياء" (مَيْتَةً) ، بتخفيف الياء ونصب"الميتة"، لأن الذي في"يكون" من المكنى من ذكر المذكر (3) = وإنما هو: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ذلك ميتةً أو دمًا مسفوحًا. * * * فأما قراءة"ميتة" بالرفع، فإنه، وإن كان في العربية غير خطأ، فإنه في القراءة في هذا الموضع غيرُ صواب. لأن الله يقول: (أو دمًا مسفوحًا) ، فلا خلاف بين الجميع في قراءة "الدم" بالنصب، وكذلك هو في مصاحف المسلمين، وهو عطف على"الميتة". فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن"الميتة" لو كانت مرفوعة، لكان"الدم"، وقوله"أو فسقًا"، مرفوعين، ولكنها منصوبة، فيعطف بهما عليها بالنصب. * * *   (1) انظر معاني القرآن 1: 360 - 363، وقد استوفى هذا الباب هناك. (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فلا يعتد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء نفلا)) و ((نفلا)) في المخطوطة غير منقوطة، وهذه عبارة لا معنى لها، صوابها إن شاء الله ما أثبت. ((افتقد الشيء)) تطلبه وقوله: ((فعلا)) هو ((خبر المبتدأ)) ، كما فسرته في التعليق السالف صلى الله عليه وسلم: 195، تعليق 2، واستظهرت صواب قراءتها كذلك من كلام الفراء إذ يقول في معاني القرآن 1: 361: ((ومن رفع (الميتة) جعل (يكون) فعلا لها، اكتفى بيكون بلا فعل. وكذلك (يكون) في كل الاستثناء لا تحتاج إلى فعل ... )) فقوله: ((لا تحتاج إلى فعل)) ، هو معنى ما أثبته ((لا يفتقد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء فعلا)) . (3) انظر تفسير ((الميتة)) فيما سلف، وتخفيف يائها وتشديدها فيما سلف 3: 318، 319 / 6: 310 / 9: 492. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 القول في تأويل قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) } قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) ، والصواب من القول فيه عندنا فيما مضى من كتابنا هذا، في"سورة" البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) = وأن معناه: فمن اضطر إلى أكلِ ما حرَّم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير، أو ما أهل لغير الله به، غير باغ في أكله إيّاه تلذذًا، لا لضرورة حالة من الجوع، ولا عادٍ في أكله بتجاوزه ما حدَّه الله وأباحه له من أكله، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك، لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه، فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك = (فإنّ الله غفور) ، فيما فعل من ذلك، فساتر عليه بتركه عقوبته عليه، ولو شاء عاقبه عليه = (رحيم) ، بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه، ولو شاء حرَّمه عليه ومنعه منه. * * *   (1) انظر تفسير ذلك فيما سلف 3: 321 - 327، وتفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 القول في تأويل قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود (1) ="كل ذي ظفر"، وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقُوق الأصابع، كالإبل والنَّعام والإوز والبط. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14092- حدثني المثنى، وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، وهو البعير والنعامة. 14093- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: البعير والنعامة ونحو ذلك من الدوابّ. 4094- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع. 14095- حدثني علي بن الحسين الأزدي قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: كل شيء متفرق الأصابع، ومنه الديك. (2)   (1) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف 10: 476، تعليق: 1 والمراجع هناك. (2) قوله: ((كل شيء متفرق الأصابع، ومنه الديك)) ، هكذا هو في المخطوطة، والذي تبادر إلى ذهن من نشر التفسير قبل، أن صوابه ((غير متفرق الأصابع)) ، ليطابق ما قبله وما بعده. ولكني وجدت ابن كثير في تفسيره 3: 417، يقول: ((وفي رواية عنه: ((كل متفرق الأصابع، ومنه الديك)) ، فلذلك رجحت صواب ما في المخطوطة والمطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 14096- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: (كل ذي ظفر) ، النعامة والبعير. 14097- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، مثله. 14098- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، فكان يقال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيتان. 14098- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (كل ذي ظفر) ، قال: الإبل والنعام، ظفر يد البعير ورجله، والنعام أيضًا كذلك، وحرم عليهم أيضًا من الطير البط وشبهه، وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع. 14099- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أما كل ذي ظفر"، فالإبل والنعام. 14100- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ، عن مجاهد في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا، قال قلت:"ما شقًّا شقًّا"؟ قال: كل ما لم تفرج قوائمه لم يأكله اليهود، البعيرُ والنعامة. والدجاج والعصافير تأكلها اليهود، لأنها قد فُرِجت. 14101- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (كل ذي ظفر) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا. قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثنيه: ما"شقًّا شقًّا"؟ قال: كل شيء لم يفرج من قوائم البهائم. قال: وما انفرج أكلته اليهود. قال: انفرجت قوائم الدجاج الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 والعصافير، فيهود تأكلها. قال: ولم تنفرج قائمة البعير، خفّه، ولا خف النعامة، ولا قائمة الوَزِّينة، (1) فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزِّين، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته، وكذلك لا تأكل حمار وحش. * * * وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:- 14102- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ، الإبل قطْ. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ومن قال بمثل مقالته؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه حرم على اليهود كل ذي ظفر، فغير جائز إخراج شيء من عموم هذا الخبر إلا ما أجمع أهل العلم أنه خارج منه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان النعام وكل ما لم يكن من البهائم والطير مما له ظفر غير منفرج الأصابع داخلا في ظاهر التنزيل، وجب أن يحكم له بأنه داخل في الخبر، إذ لم يأت بأن بعض ذلك غير داخلٍ في الآية، خبرٌ عن الله ولا عن رسوله، وكانت الأمة أكثرها مجمع على أنه فيه داخل. * * *   (1) ((الوزينة)) (بفتح الواو، وتشديد الزاي مكسورة) ، هي الإوزة، وجمعها ((الوزين)) ، مثلها في الوزن بغير هاء. (2) في المطبوعة: ((فقط)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب. يقال: ((ماله إلى عشرة قط)) (بفتح وسكون الطاء) و ((قط)) (بتشديد الطاء وكسرها) ، بمعنى: أي، ولا يزيد على ذلك، بمعنى ((حسب)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الشحوم" التي أخبر الله تعالى ذكره: أنه حرمها على اليهود من البقر والغنم. فقال بعضهم: هي شحوم الثُّروب خاصة. (1) * ذكر من قال ذلك: 14103- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) ، الثروب. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الثروب ثم أكلوا أثمانها! (2) * * * وقال آخرون: بل ذلك كان كل شحم لم يكن مختلطًا بعظم ولا على عظم. * ذكر من قال ذلك: 14104- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (حرمنا عليهم شحومهما) ، قال: إنما حرم عليهم الثرب، وكل شحم كان كذلك ليس في عظم. * * * وقال آخرون: بل ذلك شحم الثرب والكُلَى. * ذكر من قال ذلك: 14105- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،   (1) ((الثروب)) جمع ((ثرب)) (بفتح فسكون) ، وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء. (2) الأثر: 14103 - الخبر الذي رواه قتادة مرسلا، رواه البخاري بإسناده مرفوعًا (الفتح 4: 344، 345) . بنحوه، ورواه الجماعة. انظر التعليق التالي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (حرمنا عليهم شحومهما) ، قال: الثرب وشحم الكليتين. وكانت اليهود تقول: إنما حرَّمه إسرائيل، فنحن نحرّمه. 14106- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حرمنا عليهم شحومهما) ، قال: إنما حرم عليهم الثروب والكليتين = هكذا هو في كتابي عن يونس، وأنا أحسب أنه:"الكُلَى". * * * قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن يقال: إن الله أخبر أنه كان حرم على اليهود من البقر والغنم شحومهما، إلا ما استثناه منها مما حملت ظهورهما أو الحَوَايا أو ما اختلط بعظم. فكل شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم، فإنه كان محرمًا عليهم. وبنحو ذلك من القول تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله:"قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها". (1) * * * وأما قوله: (إلا ما حملت ظهورهما) ، فإنه يعني: إلا شحوم الجَنْب وما علق بالظهر، فإنها لم تحرَّم عليهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14107- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (إلا ما حملت ظهورهما) ، يعني: ما علق بالظهر من الشحوم. 14108- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،   (1) رواه الجماعة، انظر (الفتح 4: 344، 345) ز و ((جمل الشحم)) : أذابه واستخرج ودكه. و ((الجميل)) الشحم المذاب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"ما حملت ظهورهما"، فالألْيات. 14108م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: الألية، مما حملت ظهورهما. * * * القول في تأويل قوله: {أَوِ الْحَوَايَا} قال أبو جعفر: و"الحوايا" جمع، واحدها"حاوِياء"، و"حاوية"، و"حَوِيَّة"، وهي ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي"المباعر"، وتسمى"المرابض"، وفيها الأمعاء. (1) * * * ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو ما حملت الحوايا = فـ"الحوايا"، رفع، عطفًا على"الظهور"، و"ما" التي بعد"إلا"، نصبٌ على الاستثناء من"الشحوم". (2) * * * وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14109- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (أو الحوايا) ، وهي المبعر. 14110- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أو الحوايا) ، قال: المبعر.   (1) ((الربض)) (بفتحتين) و ((المربض)) (بفتح الميم، وفتح الباء أو كسرها) ، و ((الربيض)) مجتمع الحوايا، أو ما تحوى من مصارين البطن. و ((بنات اللبن)) : ما صغر من الأمعاء. وانظر الأثر التالي رقم: 14121. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 363. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 14111- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الحوايا"، المبعر والمرْبَض. 14112- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو الحوايا) ، قال: المبعر. 14113- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (أو الحوايا) ، قال: المباعر. 14114- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (أو الحوايا) ، قال: المباعر. 14115- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أو الحوايا) ، قال: المبعر. 14116- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أو الحوايا) ، قال: المبعر. 14117- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: المبعر. 14118- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (أو الحوايا) ، يعني: البطون غير الثروب. 14119- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أو الحوايا) ، هو المبعر. 14120- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أو الحوايا) ، قال: المباعر. * * * وقال ابن زيد في ذلك ما:- الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 14121- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أو الحوايا) ، قال:"الحوايا"، المرابض التي تكون فيها الأمعاء، تكون وسطها، وهي"بنات اللبن"، وهي في كلام العرب تدعى"المرابض". * * * القول في تأويل قوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن البقر والغنم حرمنا على الذين هادوا شحومهما، سوى ما حملت ظهورهما، أو ما حملت حواياهما، فإنا أحللنا ذلك لهم، وإلا ما اختلط بعظم، فهو لهم أيضًا حلال. * * * فردّ قوله: (أو ما اختلط بعظم) ، على قوله: (إلا ما حملت ظهورهما) فـ"ما" التي في قوله: (أو ما اختلط بعظم) ، في موضع نصب عطفًا على"ما" التي في قوله: (إلا ما حملت ظهورهما) . (1) * * * وعنى بقوله: (أو ما اختلط بعظم) ، شحم الألية والجنب، وما أشبه ذلك، كما:- 14122- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (أو ما اختلط بعظم) ، قال: شحم الألية بالعُصْعُص، (2) فهو حلال. وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين قد اختلط بعظم، فهو حلال. 14123- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أو ما اختلط بعظم) ، مما كان من شحم على عظم. * * *   (1) انظر معاني القرآن 1: 363. (2) ((العصعص)) ، وهو عظم عجب الذنب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير، ذوات الأظافير غير المنفرجة، ومن البقر والغنم، ما حرمنا عليهم من شحومهما، الذي ذكرنا في هذه الآية، حرمناه عليهم عقوبة منّا لهم، وثوابًا على أعمالهم السيئة، وبغيهم على ربهم، (1) كما:- 14124- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) ، إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم. 14125- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ذلك جزيناهم ببنيهم) ، فعلنا ذلك بهم ببغيهم. * * * وقوله: (وإنا لصادقون) ، يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنّا حرمنا عليهم، وفي غير ذلك من أخبارنا، وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه. * * *   (1) انظر تفسير ((جزى)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) . = وتفسير ((البغي)) فيما سلف 2: 342 / 4: 281 / 6: 276. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كذبك، يا محمد، (1) هؤلاء اليهود فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وحللنا لهم، كما بينا في هذه   (1) في المطبوعة: ((كذبوك)) والصواب من المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 الآية="فقل ربكم ذو رحمة"، بنا، وبمن كان به مؤمنًا من عباده، ويغيرهم من خلقه="واسعة"، تسع جميع خلقه، (1) المحسنَ والمسيء، لا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ولا من عصاه بالنِّقمة، ولا يدع كرامة من آمن به وأطاعه، ولا يحرمه ثواب عمله، رحمة منه بكلا الفريقين، ولكن بأسه= وذلك سطوته وعذابه (2) = لا يردّه إذا أحله عند غضبه على المجرمين بهم عنهم شيء = و"المجرمون" هم الذين أجرَموا فاكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14126- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فإن كذبوك) ، اليهود. 14127- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فإن كذبوك) ، اليهود= (فقل ربكم ذو رحمة واسعة) . 14128- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، كانت اليهود يقولون: إنما حرّمه إسرائيل = يعني: الثَّرْب وشحم الكليتين = فنحن نحرمه، فذلك قوله: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين) . * * *   (1) انظر تفسير ((واسع)) فيما سلف 11: 489، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((البأس)) فيما سلف 11: 357، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((المجرم)) فيما سلف ص: 93. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 القول في تأويل قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: (سيقول الذين أشركوا) ، وهم العادلون بالله الأوثان والأصنام من مشركي قريش= (لو شاء الله ما أشركنا) ، يقول: قالوا احتجازًا من الإذعان للحق بالباطل من الحجة، لما تبين لهم الحق، وعلموا باطل ما كانوا عليه مقيمين من شركهم، وتحريمهم ما كانوا يحرّمون من الحروث والأنعام، على ما قد بيَّن تعالى ذكره في الآيات الماضية قبل ذلك: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا) ، وما بعد ذلك: لو أراد الله منا الإيمان به، وإفراده بالعبادة دون الأوثان والآلهة، وتحليل ما حرم من البحائر والسوائب وغير ذلك من أموالنا، ما جعلنا لله شريكًا، ولا جعل ذلك له آباؤنا من قبلنا، ولا حرمنا ما نحرمه من هذه الأشياء التي نحن على تحريمها مقيمون، لأنه قادر على أن يحول بيننا وبين ذلك، حتى لا يكون لنا إلى فعل شيء من ذلك سبيل: إما بأن يضطرنا إلى الإيمان وترك الشرك به، وإلى القول بتحليل ما حرمنا= وأما بأن يلطف بنا بتوفيقه، فنصير إلى الإقرار بوحدانيته، وترك عبادة ما دونه من الأنداد والأصنام، وإلى تحليل ما حرمنا، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأوثان والأصنام، واتخاذ الشريك له في العبادة والأنداد، وأراد ما نحرّم من الحروث والأنعام، فلم يَحُلْ بيننا وبين ما نحن عليه من ذلك. قال الله مكذبًا لهم في قيلهم:"إن الله رضي منا ما نحن عليه من الشرك، وتحريم ما نحرّم"= ورادًّا عليهم باطلَ ما احتجوا به من حجتهم في ذلك= الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 (كذلك كذب الذين من قبلهم) ، يقول: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، ما جئتهم به من الحق والبيان، كذب من قبلهم من فسقة الأمم الذين طَغَوا على ربهم ما جاءتهم به أنبياؤهم من آيات الله وواضح حججه، وردُّوا عليهم نصائحهم = (حتى ذاقوا بأسنا) ، يقول: حتى أسخطونا فغضبنا عليهم، فأحللنا بهم بأسنا فذاقوه، فعطبوا بذوقهم إياه، فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة. (1) يقول: وهؤلاء الآخرون مسلوك بهم سبيلهم، إن هم لم ينيبوا فيؤمنوا ويصدقوا بما جئتهم به من عند ربهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14129- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) ، وقال: (كذلك كذب الذين من قبلهم) ، ثم قال: (ولو شاء الله ما أشركوا) ، فإنهم قالوا:"عبادتنا الآلهة تقرّبنا إلى الله زلفى"، فأخبرهم الله أنها لا تقربهم، وقوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) ، يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين. 14130- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا حرمنا من شيء) ، قال: قول قريش= يعني: إن الله حرم هذه البحيرة والسائبة. 14131- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا حرمنا من شيء) ، قولُ قريش بغير يقين: إن الله حرّم هذه البحيرة والسائبة. * * *   (1) انظر تفسير ((ذاق)) فيما سلف: 11: 420، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 فإن قال قائل: وما برهانك على أن الله تعالى إنما كذب من قيل هؤلاء المشركين قولهم:"رضي الله منا عبادة الأوثان، وارأد منا تحريم ما حرمنا من الحروث والأنعام"، دون أن يكون تكذيبه إياهم كان على قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) ، وعلى وصفهم إياه بأنه قد شاء شركهم وشرك آبائهم، وتحريمهم ما كانوا يحرمون؟ قيل له: الدلالة على ذلك قوله: (كذلك كذب الذين من قبلهم) ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم سلكوا في تكذيبهم نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما آتاهم به من عند الله = من النهي عن عبادة شيء غير الله تعالى ذكره، وتحريم غير ما حرّم الله في كتابه وعلى لسان رسوله = مسلكَ أسلافهم من الأمم الخالية المكذبة اللهَ ورسولَه. والتكذيبُ منهم إنما كان لمكذَّب، ولو كان ذلك خبرًا من الله عن كذبهم في قيلهم: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) ، لقال:"كذلك كذَبَ الذين من قبلهم"، بتخفيف"الذال"، وكان ينسبهم في قيلهم ذلك إلى الكذب على الله، لا إلى التكذيب = مع علل كثيرة يطول بذكرها الكتاب، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ (148) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، المحرِّمين ما هم له محرِّمون من الحُروث والأنعام، القائلين: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من الشرك وتحريم ما نحرم:"هل عندكم"، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 = بدعواكم ما تدعون على الله من رضاه بإشراككم في عبادته ما تشركون، وتحريمكم من أموالكم ما تحرمون = علمُ يقينٍ من خبر مَنْ يقطع خبره العذر، أو حجة توجب لنا اليقين، من العلم ="فتخرجوه لنا"، يقول: فتظهروا ذلك لنا وتبينوه، كما بينا لكم مواضع خطأ قولكم وفعلكم، وتناقض ذلك واستحالته في المعقول والمسموع (1) = (إن تتبعون إلا الظن) ، يقولُ له: قل لهم: إن تقولون ما تقولون، أيها المشركون، وتعبدون من الأوثان والأصنام ما تعبدون، وتحرمون من الحروث والأنعام ما تحرّمون، إلا ظنًّا وحسبانًا أنه حق، وأنكم على حق، وهو باطلٌ، وأنتم على باطل = (وإن أنتم إلا تخرصون) ، يقول:"وإن أنتم"، وما أنتم في ذلك كله ="إلا تخرصون"، يقول: إلا تتقوّلون الباطل على الله، ظنًّا بغير يقين علم ولا برهان واضح. (2) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، القائلين على ربهم الكذبَ، في تحريمهم ما حرموا من الحروث والأنعام، إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم:"هل عندكم من علم بما تدعون على ربكم فتخرجوه لنا"، وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره، وهم لا شك عن ذلك عَجَزَة، وعن إظهاره مقصرون، لأنه باطل لا حقيقة له = (فلله) ، الذي حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا، وأن تتبعوا   (1) انظر تفسير ((الإخراج)) فيما سلف 2: 228. (2) انظر تفسير ((التخرص)) فيما سلف ص 65. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام = (الحجة البالغة) ، دونكم أيها المشركون. ويعني بـ"البالغة"، أنها تبلغ مراده في ثبوتها على مَنْ احتج بها عليه من خلقه، وقَطْعِ عُذْرِه إذا انتهت إليه فيما جُعِلت حجة فيه. * * * = (فلو شاء لهداكم أجمعين) ، يقول: فلو شاء ربكم لوفَّقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة، والبراءة من الأنداد والآلهة، والدينونة بتحريم ما حرم الله وتحليل ما حلله الله، وترك اتباع خطوات الشيطان، وغير ذلك من طاعاته، ولكنه لم يشأ ذلك، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم، فمنهم كافر ومنهم مؤمن. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14132- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال، لا حجة لأحد عصَى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده. وقال: (فلو شاء لهداكم أجمعين) ، قال: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [سورة الأنبياء: 23] . * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان، الزاعمين أنّ الله حرم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم = (هلم شهداءكم) ، يقول: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرم عليكم ما تزعمون أنه حرمه عليكم. (1) * * * وأهل العالية من تهامة توحِّد"هلم" في الواحد والاثنين والجميع، وتذكر في المؤنث والمذكر، فتقول للواحد:"هلم يا فلان"، وللاثنين والجميع كذلك، وللأنثى مثله، ومنه قول الأعشى: وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً ... هَلُمَّ إلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ (2) ينشد:"هلم"، و"هلموا". وأما أهل السافلة من نجد، فإنهم يوحِّدون للواحد، ويثنُّون للاثنين، ويجمعون للجميع. فيقال للواحد من الرجال:"هلم" وللواحدة من النساء:"هلمي"، وللاثنين:"هلما"، وللجماعة من الرجال:"هلموا"، وللنساء:"هَلْمُمْنَ". (3) * * * قال الله لنبيه: (فإن شهدوا) ، يقول: يا محمد، فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حَرَّم ما يزعمون أن الله حرمه عليهم = (فلا تشهد معهم) ، فإنهم كذبة   (1) انظر تفسير ((الشهداء)) فيما سلف من فهارس اللغة ((شهد)) . (2) ديوانه 34، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 208، من قصيدة طويلة مضت منها أبيات في مواضع متفرقة، وهذا البيت داخل في قصة ((الحضر)) ، وما أصاب أهله، تركت نقل أبياتها لطولها. (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 208، فهذا نص كلامه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله. وخاطب بذلك جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم، والمراد به أصحابه والمؤمنون به = (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) ، يقول: ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنزيله، في تحريم ما حرم، وتحليل ما أحل لهم، ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه = (والذين لا يؤمنون بالآخرة) ، يقول: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة، فتكذب بما هم به مكذبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم، ونشره إياهم بعد فنائهم = (وهم بربهم يعدلون) ، يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ، فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14133- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا) ، يقول: قل أروني الذين يشهدون أن الله حرم هذا مما حرمت العرب، وقالوا: أمرنا الله به. قال الله لرسوله: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) . 14134- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا) ، قال: البحائر والسُّيَّب. * * *   (1) انظر تفسير ((العدل)) فيما سلف 11: 251 - 254. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 القول في تأويل قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، الزاعمين أن الله حرم عليهم ما هم محرِّموه من حروثهم وأنعامهم، على ما ذكرت لك في تنزيلي عليك =: تعالوا، أيها القوم، (1) أقرأ عليكم ما حرم ربكم حقًا يقينًا، (2) لا الباطل تخرُّصًا، تخرُّصَكم على الله الكذبَ والفريةَ ظنًّا، (3) ولكن وحيًا من الله أوحاه إليّ، وتنزيلا أنزله عليّ: أن لا تشركوا بالله شيئًا من خلقه، ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام، ولا تعبدوا شيئًا سواه = (وبالوالدين إحسانًا) ، يقول: وأوصى بالوالدين إحسانًا = وحذف"أوصى" و"أمر"، لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه. (4) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب. (5) * * * وأما"أن" في قوله: (أن لا تشركوا به شيئًا) ، فرفعٌ، لأن معنى الكلام: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم، هو أن لا تشركوا به شيئًا. وإذا كان ذلك معناه، كان في قوله: (تشركوا) ، وجهان: = الجزم بالنهي، وتوجيهه"لا" إلى معنى النهي. = والنصب، على توجيه الكلام إلى الخبر، ونصب"تشركوا"، بـ"أن لا"،   (1) انظر تفسير ((تعالوا)) فيما سلف 11: 137، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((تلا)) فيما سلف 10: 201، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((كخرصكم على الله)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (4) انظر تفسير ((الإحسان)) فيما سلف 2: 292 / 8: 334، 514 / 9: 283 / 10: 512، 576. (5) انظر ما سلف 2: 290 - 292 / 8: 334. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 كما يقال:"أمرتك أن لا تقوم". وإن شئت جعلت"أن" في موضع نصبٍ، ردًّا على"ما" وبيانًا عنها، ويكون في قوله: (تشركوا) ، أيضًا من وجهي الإعراب، نحو ما كان فيه منه. و"أن" في موضع رفع. ويكون تأويل الكلام حينئذ: قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، أتلُ أن لا تشركوا به شيئًا. * * * فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون قوله (تشركوا) نصبًا بـ"أن لا"، أم كيف يجوز توجيه قوله:"أن لا تشركوا به"، على معنى الخبر، وقد عطف عليه بقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، وما بعد ذلك من جزم النهي؟ قيل: جاز ذلك، كما قال تعالى ذكره: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) ، فجعل"أن أكون" خبرًا، و"أنْ" اسمًا، ثم عطف عليه" ولا تكونن من المشركين "، [سورة الأنعام: 14] ، (1) وكما قال الشاعر: (2) حَجَّ وَأوْصَى بِسُلَيْمَى الأعْبُدَا ... أَنْ لا تَرَى وَلا تُكَلِّمْ أَحَدَا وَلا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا (3) فجعل قوله:"أن لا ترى" خبرًا، ثم عطف بالنهي فقال:"ولا تكلم"،"ولا يزل". * * *   (1) قوله: ((ولا تكونن من المشركين)) ، ساقط في المطبوعة والمخطوطة، واستظهرت زيادته من معاني القرآن للفراء 1: 364، وهي زيادة يفسد الكلام بإسقاطها. (2) لم أعرف قائله. (3) معاني القرآن للفراء 1: 364، وليس فيه البيت الثالث، وفيه مكانه: * وَلا تَمْشِ بِفَضَاءٍ بَعَدَا * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم، فإن الله هو رازقكم وإياهم، ليس عليكم رزقهم، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم. * * * و"الإملاق"، مصدر من قول القائل:"أملقت من الزاد، فأنا أملق إملاقًا"، وذلك إذا فني زاده، وذهب ماله، وأفلس. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14135- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، الإملاق الفقر، قتلوا أولادهم خشية الفقر. 14136- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، أي خشية الفاقة. 14137- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، قال:"الإملاق"، الفقر. 14138- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 قال ابن جريج قوله: (من إملاق) ، قال: شياطينهم، يأمرونهم أن يئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة. 14139- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك في قوله: (من إملاق) ، يعني: من خشية فقر. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، (1) التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها، والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به، فإن كل ذلك حرام. (2) * * * وقد قيل: إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا [دون بعض] . وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع، غير أن دليل الظاهر من التنزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها، ولا خبر يقطع العذرَ، بأنه عنى به بعض دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها. * * * * ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال: الآية خاصُّ المعنى: 14140- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) انظر تفسير ((الفواحش)) فيما سلف 8: 203، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((ظهر)) ، و ((بطن)) فيما سلف ص 72 - 75، ثم انظر الأثر رقم: 9075. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، أما"ما ظهر منها"، فزواني الحوانيت، وأما"ما بطن"، فما خَفِي. (1) 14141- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى، ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا. فحرّم الله السر منه والعلانية = (ما ظهر منها) ، يعني: العلانية = (وما بطن) ، يعني: السر. (2) 14142- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرَّم الله الزنى في السرّ والعلانية. * * * وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: 14143- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، سرَّها وعلانيتها. 14144- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، نحوه. * * * وقال آخرون:"ما ظهر"، نكاح الأمهات وحلائل الآباء ="وما بطن"، الزنى. * ذكر من قال ذلك:   (1) ((زواني الحوانيت)) ، كانت البغايا تتخذ حانوتًا عليه راية، إعلامًا بأنها بغى. وانظر الأثر السالف رقم: 13801. (2) الأثر: 14141 - مضى هذا الخبر برقم: 13802. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 14145- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن خصيف، عن مجاهد: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، قال:"ما ظهر"، جمعٌ بين الأختين، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده ="وما بطن"، الزنى. (1) * * * وقال آخرون في ذلك بما:- 14146- حدثني إسحاق بن زياد العطار النصري قال، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي قال، حدثنا تميم بن شاكر الباهلي، عن عيسى بن أبي حفصة قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، قال:"ما ظهر"، الخمر ="وما بطن"، الزنى. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا) ، (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ، يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد = وقوله: (إلا بالحق) ، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها، أو تزني وهي محصنة فترجم،   (1) الأثر: 14145 - مضى برقم: 13803. (2) الأثر: 14146 - ((إسحاق بن زياد العطار النصري)) ، لم أجد له ترجمة، وفي المطبوعة ((البصري)) ، وأثبت ما في المخطوطة. و ((محمد بن إسحاق البلخي الجوهري)) ، لم أجد له غير ترجمة في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 195، قال: ((روى عن مطرف بن مازن، وأبي أمية بن يعلي، وقيراط الحجام، ومحمد بن حرب الأبرش، وعيسى بن يونس. كتب عنه أبي بالري)) . وأما ((تميم بن شاكر الباهلي)) و ((عيسى بن أبي حفصة)) ، فلم أعثر لهما على ترجمة ولا ذكر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك"الحق" الذي أباح الله جل ثناؤه قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به = (ذلكم) ، يعني هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربُّنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه، هي الأمور التي وصَّانا والكافرين بها أن نعمل جميعًا به = (لعلكم تعقلون) ، يقول: وصاكم بذلك لتعقلوا ما وصاكم به ربكم. (1) * * *   (1) انظر تفسير ((وصى)) فيما سلف ص: 189، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ، ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره، كما:- 14147- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ، قال: التجارة فيه. 14148- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ، فليثمر مالَه. 14149- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق العنزي، عن سليط بن بلال، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ، قال: يبتغي له فيه، ولا يأخذ من ربحه شيئًا. (1)   (1) الأثر: 14149 - ((فضيل بن مرزوق العنزي)) ، الرقاشي، الأغر. مضى برقم: 5437. و ((سليط بن بلال)) ، لا أدري من هو، ولم أجد له ترجمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 14150- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ، قال:"التي هي أحسن"، أن يأكل بالمعروف إن افتقر، وإن استغنى فلا يأكل. قال الله: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ، [سورة النساء: 6] . قال: وسئل عن الكسوة، فقال: لم يذكر الله الكسوة، إنما ذكر الأكل. * * * وأما قوله: (حتى يبلغ أشده) ، فإن"الأشُدّ" جمع"شَدٍّ"، كما"الأضُرّ" جمع"ضر"، وكما"الأشُرّ" جمع"شر"، (1) و"الشد" القوة، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، كما"شَدُّ النهار" ارتفاعه وامتداده. يقال:"أتيته شدَّ النهار ومدَّ النهار"، وذلك حين امتداده وارتفاعه; وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة: عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا ... خُضِبَ اللَّبَانُ وَرَأْسُهُ بِالْعِظْلِمِ (2) ومنه قول الآخر: (3) تُطِيفُ بِهِ شَدَّ النَّهَارِ ظَعِينَةٌ ... طَوِيلَةُ أَنْقَاءِ اليَدَيْنِ سَحُوقُ (4)   (1) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: ((الأضر)) و ((الأشر)) ، ولم أجد لشيء من ذلك أصلا في كتب العربية، وهذان اللفظان محرفان فيما أرجح، ولكني تركتهما على حالهما، حتى أقف على الصواب في قراءتهما إن شاء الله. ولكنهم مثلوا له بقولهم ((قد)) و ((أقد)) وهو قريب التحريف في الأولى، ولكن الثانية مبهمة. (2) من معلقته المشهورة، وهذا البيت من أبيات وصف فيها بطلا مثله، يقول قبله: لَمَّا رَآنِي قَدْ قَصَدْتُ أُرِيدُهُ ... أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ فَطَعَنْتُهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ عَلَوْتُهُ ... بِمُهَنَّدٍ صَافِي الحَدِيدَةِ مِخْذَمِ و ((اللبان)) الصدر. و ((العظلم)) ، صبغ أحمر. يصفه قتيلا سال دمه، فخصب رأسه وأطرافه، لا حراك به. (3) لم أعرف قائله. (4) ((الظعينة)) ، يعني زوجته. ((الأنقاء)) جمع ((نقو)) (بكسر فسكون) ، وهو كل عظم فيه مخ، كعظام اليدين والساقين، وامرأة ((سحوق)) : طويلة كأنها نخلة مستوية قد انجرد عنها كربها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 وكان بعض البصريين يزعم أن"الأشد" مثل"الآنُك". (1) * * * فأما أهل التأويل، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل:"بلغ أشدّه". فقال بعضهم: يقال ذلك له إذا بلغ الحُلُم. * ذكر من قال ذلك: 14151- حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، أخبرني يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن ربيعة في قوله: (حتى يبلغ أشده) ، قال: الحلم. 14152- حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، مثله = قال ابن وهب: وقال لي مالك مثله. (2) 14153- حدثت عن الحماني قال، حدثنا هشيم، عن مجاهد، عن عامر: (حتى يبلغ أشده) ، قال:"الأشد"، الحلم، حيث تكتب له الحسنات، وتكتب عليه السيئات. * * * وقال آخرون: إنما يقال ذلك له، إذا بلغ ثلاثين سنة. * ذكر من قال ذلك: 14154- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (حتى يبلغ أشده) ، قال: أما"أشده"، فثلاثون   (1) ((آنك)) (بالمد وضم النون) هو. الرصاص القلعي، وهو القزدير. ويعني أنه مفرد لا جمع. (2) الأثران: 14151، 14152 - ((أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري)) ، مضى برقم: 2747، 6613، 10330، وهو ابن أخي ((عبد الله بن وهب)) و ((عمه)) ، هو: ((عبد الله بن وهب)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 سنة، ثم جاء بعدها: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) . [سورة النساء: 6] . * * * وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حذف. وذلك أن معنى الكلام:"ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده"، فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدًا، فادفعوا إليه ماله = لأنه جل ثناؤه لم ينه أن يُقرب مال اليتيم في حال يُتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ليحِلَّ لوليّه بعد بلوغه أشده أن يقربه بالتي هي أسوأ، (1) ولكنه نهاهم أن يقرَبوه حياطةً منه له، وحفظًا عليه، (2) ليسلموه إليه إذا بلغ أشده. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا" = وأن أوفوا الكيل والميزان. يقول: لا تبخسوا الناس الكيلَ إذا كلتموهم، والوزنَ إذا وزنتموهم، ولكن أوفوهم حقوقهم. وإيفاؤهم ذلك، إعطاؤهم حقوقهم تامة (3) ="بالقسط"، يعني بالعدل، كما:- 14155- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بالقسط) ، بالعدل. * * * وقد بينا معنى:"القسط" بشواهده فيما مضى، وكرهنا إعادته. (4) * * *   (1) في المطبوعة: ((ويحل)) بالواو، والذي في المخطوطة حق السياق. (2) في المطبوعة: ((أن يقربوا)) ، والصواب ما في المخطوطة. (3) انظر تفسير ((الإيفاء)) فيما سلف 9: 426، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((القسط)) فيما سلف 10: 334، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 وأما قوله: (لا نكلف نفسًا إلا وسعها) ، فإنه يقول: لا نكلف نفسًا، من إيفاء الكيل والوزن، إلا ما يسعها فيحلّ لها ولا تحرَجُ فيه. (1) وذلك أن الله جل ثناؤه، علم من عباده أن كثيرًا منهم تَضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجبُ عليها له، فأمر المعطي بإيفاء رب الحق حقَّه الذي هو له، ولم يكلِّفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر الذي له الحق، بأخذ حقه، ولم يكلفه الرضا بأقل منه، لما في النقصان عنه من ضيق نفسه. فلم يكلف نفسًا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق، فلذلك قال: (لا نكلف نفسًا إلا وسعها) . وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وإذا قلتم فاعدلوا) ، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، (3) ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم، ذا قرابة لكم، ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه = (وبعهد الله أوفوا) ، يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن   (1) انظر تفسير ((التكليف)) فيما سلف 5: 45 / 6: 129، 130 / 8: 579. = وتفسير ((الوسع)) فيما سلف 5: 45 /6: 129، 130. (2) انظر ما سلف 5: 45، 46 / 6: 129، 130. (3) انظر تفسير ((العدل)) فيما سلف من فهارس اللغة (عدل) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم، وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الوفاء بعهد الله. (1) وأما قوله: (ذلكم وصاكم به) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الآيتين، هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا، ووصاكم بها ربكم، وأمركم بالعمل بها = لا بالبحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، وقتل الأولاد، ووأد البنات، واتباع خطوات الشيطان (2) = (لعلكم تذكرون) ، يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها، لتتذكروا عواقبَ أمركم، وخطأ ما أنتم عليه مقيمون، فتنزجروا عنها، وترتدعوا وتُنيبوا إلى طاعة ربكم. * * * وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات، هنَّ الآيات المحكمات. 14156- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس قال: هن الآيات المحكمات، قوله: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا) . (3)   (1) انظر تفسير ((العهد)) فيما سلف من فهارس اللغة (عهد) . = وتفسير ((الإيفاء)) فيما سلف ص: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((وصى)) فيما ص: 221، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) الأثر: 14156 - ((على بن صالح بن صالح بن حي الهمداني)) ثقة، مضى برقم: 178، 11975. وفي المخطوطة والمطبوعة: ((علي بن أبي صالح)) ، وهو خطأ لا شك فيه، والزيادة سهو من الناسخ، وإنما هو ((علي بن صالح)) ، فهو الذي يروي عن إسحاق السبيعي، ويروي عنه وكيع، وكما في المستدرك، كما سيأتي في التخريج. و ((أبو إسحاق)) هو السبيعي. و ((عبد الله بن قيس)) ، راوى هذا الخبر، خص براوية هذا الخبر عن ابن عباس، ورواية أبي إسحاق السبيعي عنه. مترجم في التهذيب (5: 365) ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 138. وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 288، وقال: ((صحيح)) ، ووافقه الذهبي. وقد أشرت إلى ذلك في تخريج الخبر رقم: 6573، فراجعه. ورواه الحاكم أيضًا في المستدرك 2: 317، بإسناد آخر من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن ابن عباس، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي. و ((عبد الله بن خليفة الهمداني)) ، مضى برقم: 5796. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 14157- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدّث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار قال، سمع كعب الأحبار رجلا يقرأ: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ، فقال: والذي نفس كعب بيده، إنّ هذا لأوَّل شيء في التوراة: "بسم الله الرحمن الرحيم"، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم". (1) 14158- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن رجل، عن الربيع بن خثيم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا) . 14159- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة قال: قال الربيع: ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ = لم يقل:"خاتمها" = فقرأ هذه الآيات: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) .   (1) الأثر: 14157 - ((وهب بن جرير بن حازم الأزدي)) ، الحافظ الثقة. وأبو ((جرير بن حازم الأزدي)) ، ثقة، روى له الجماعة. و ((يحيى بن أيوب الغافقي)) ، ثقة، مضى برقم: 3877، 4330. و ((يزيد بن أبي حبيب المصري)) ، مضى مرارًا، آخرها: 11871. و ((مرثد بن عبد الله اليزني)) ، الفقيه المصري، مضى برقم: 2839، 2840، 10890. و ((عبيد الله بن عدي بن الخيار النوفلي القرشي)) ثقة، قليل الحديث، من فقهاء قريش وعلمائهم، أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرين. مترجم في التهذيب. وهذا خبر إسناده صحيح إلى كعب الأحبار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 14160- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحابَ محمد، فحدثنا عن الوَحي. فقرأ عليهم هذه الآيات من"الأنعام": (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا) ، قالوا: ليس عن هذا نسألك! قال: فما عندنا وحيٌ غيره. 14161- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن. 14162- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإذا قلتم فاعدلوا) ، قال: قولوا الحق. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم، أيها الناس، في هاتين الآيتين من قوله: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ، وأمركم بالوفاء به، هو"صراطه" = يعني: طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده = (مستقيمًا) ، يعني: قويمًا لا اعوجاج به عن الحق (1) = (فاتبعوه) ، يقول: فاعملوا به، واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه، فاتبعوه (2) = (ولا تتبعوا السبل) ، يقول: ولا تسلكوا طريقًا سواه، ولا تركبوا منهجًا غيره، ولا تبغوا دينًا خلافه (3) ، من   (1) انظر تفسير ((الصراط المستقيم)) فيما سلف ص: 113، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الاتباع)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) . (3) في المخطوطة: ((دينا خلاه)) ، وعلى ((خلاه)) ، حرف (ط) دلالة على الخطأ أو الشك، والذي في المخطوطة مستقيم جيد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل، فإنها بدع وضلالات = (فتفرق بكم عن سبيله) ، يقول: فيشتّت بكم، إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان، اتباعُكم إياها ="عن سبيله"، يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه، وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم (1) = (ذلكم وصاكم به) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم:"إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل"، وصاكم به"لعلكم تتقون"، يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14163- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ، قال: البدع والشبهات. 14164- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14165- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا تتبعوا السبل) ، البدع والشبهات. 14166- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل   (1) انظر تفسير ((السبيل)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (2) انظر تفسير ((الوصية)) و ((الاتقاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (وصى) و (وقي) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 فتفرق بكم عن سبيله) ، وقوله: (وَأَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [سورة الشورى: 13] ، ونحو هذا في القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. 14167- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ، يقول: لا تتبعوا الضلالات. 14168- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا فقال: هذا سبيل الله. ثم خط عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال: هذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) . (1) 14169- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ، قال:"سبيله"، الإسلام، و"صراطه"، الإسلام. نهاهم أن يتبعوا السبل سواه = (فتفرق بكم عن سبيله) ، عن الإسلام. 14170- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان: أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفُه في الجنة، وعن يمينه جوادُّ، وعن يساره جَوَادُّ، وثمَّ رجال يدعون من مرّ بهم. فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به   (1) الأثر: 14168 - صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند رقم: 4142، 4437، بنحوه. وقد فصل ابن كثير في تفسيره شرح هذا الإسناد، وما فيه من اختلاف الرواية 3: 427 - 429. وسيأتي برقم: 14170، موقوفًا على ابن مسعود. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: (وأن هذا صراطي مستقيمًا) ، الآية. * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وأن هذا صراطي مستقيمًا) . فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (وَأَنَّ) بفتح"الألف" من"أن"، وتشديد"النون"، ردًّا على قوله: (أن لا تشركوا به شيئًا) ، بمعنى:"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا"،"وأن هذا صراطي مستقيمًا". * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين:"وَإِنَّ" بكسر"الألف" من"أن"، وتشديد"النون" منها، على الابتداء وانقطاعها عن الأول، إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه، عندهم. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوامّ المسلمين، (2) صحيح معنياهما، فبأيِّ القراءتين قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله، كما أمر عباده الأنبياء. (3) وإن أدخل ذلك مُدْخِلٌ فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: (تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ، وما أمركم به، ففتح على ذلك"أن"،   (1) يعني بقوله: ((دونه عندهم)) ، دون النبي صلى الله عليه وسلم، عند من قرأ ذلك كذلك، كما سيظهر ذلك من الآتي بعد، انظر التعليق رقم: 3. (2) ((عوام المسلمين)) يعني: عامة المسلمين، لا يعني ((العوام)) كما استعملت بمعنى: الذين لم يتعلموا العلم. (3) في المطبوعة: ((عباده بالأشياء)) ، وهو كلام ساقط، لم يحسن قراءة المخطوطة فغير وزاد. وفي المخطوطة: ((عباده الأساء)) ، والصواب قراءتها ما أثبت. ويعني أن هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 فمصيب = وإن كسرها، إذ كانت"التلاوة" قولا وإن كان بغير لفظ"القول" لبعدها من قوله:"أتل"، وهو يريد إعمال ذلك فيه، فمصيبٌ = وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و"التلاوة"، وأن ما أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أُمِر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك، فمصيب. * * * وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري:"وَأنْ" بفتح الألف من"أن" وتخفيف النون منها، بمعنى:"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا"،"وأنْ هذا صراطي"، فخففها، إذ كانت"أن" في قوله: (أن لا تشركوا به شيئًا) ، مخففة، وكانت"أن" في قوله: (وأن هذا صراطي) ، معطوفة عليها، فجعلها نظيرةَ ما عطفت عليه. وذلك وإن كان مذهبًا، فلا أحب القراءة به، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم. * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ثم آتينا موسى الكتاب) ، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتابَ = فترك ذكر"قل"، إذ كان قد تقدم في أول القصّة ما يدلّ على أنه مرادٌ فيها، وذلك قوله: (1) (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ، فقصَّ ما حرم عليهم وأحلّ، ثم قال: ثم قل: "آتينا موسى"، فحذف"قل" لدلالة قوله:"قل" عليه، وأنه مراد في الكلام.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((ذلك قوله)) بغير واو، والسياق يقتضي إثباتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 232 وإنما قلنا: ذلك مرادٌ في الكلام، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث بعد موسى بدهر طويل، وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه. ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدًا بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه. و"ثم" في كلام العرب حرف يدلّ على أن ما بعده من الكلام والخبر، بعد الذي قبلها. * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (تمامًا على الذي أحسن) ، فقال بعضهم: معناه: تمامًا على المحسنين. * ذكر من قال ذلك: 14171- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تمامًا على الذي أحسن) ، قال: على المؤمنين. 14172- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تمامًا على الذي أحسن) ، المؤمنين والمحسنين. * * * = وكأنّ مجاهدًا وجّه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جل ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده. * * * فإن قال قائل: فكيف جاز أن يقال: (على الذي أحسن) ، فيوحِّد"الذي"، والتأويل على الذين أحسنوا؟ قيل: إن العرب تفعل ذلك خاصة في"الذي" وفي"الألف واللام"، إذا أرادت به الكل والجميع، كما قال جل ثناؤه: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ، [سورة العصر: 1،2] ، وكما قالوا:"كثر الدِّرهم فيه في أيدي الناس". (1)   (1) في المطبوعة: ((أكثر الذي هم في أيدي الناس)) ، وهو كلام غث لا معنى له، زاد ((فيه)) على ما كان في المخطوطة. وكان فيها: ((أكثر الدرهم في أيدي الناس)) ، وصواب قراءتها ما أثبت، أو: ((ما أكثر الدرهم في أيدي الناس)) . وقد سلف هذا البحث فيما مضى، وفيه نحو هذا الشاهد 4: 263، 270 / 6: 125. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 233 وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ ذلك:" تمامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا"، وذلك من قراءته كذلك، يؤيد قول مجاهد. وإذا كان المعنى كذلك، كان قوله:"أحسن"، فعلا ماضيًا، فيكون نصبه لذلك. * * * وقد يجوز أن يكون"أحسن" في موضع خفض، غير أنه نصب إذ كان"أفعل"، و"أفعل"، لا يجري في كلامها. (1) فإن قيل: فبأيِّ شيء خفض؟ قيل: ردًّا على"الذي"، إذ لم يظهر له ما يرفعه = فيكون تأويل الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي هو أحسن، ثم حذف"هو"، وجاور"أحسن""الذي"، فعرِّب بتعريبه، (2) إذ كان كالمعرفة من أجل أن"الألف واللام" لا يدخلانه،"والذي" مثله، كما تقول العرب:"مررت بالذي خيرٍ منك، وشرٍّ منك"، (3) كما قال الراجز: (4) إِنَّ الزُّبَيْرِيَّ الَّذِي مِثْلَ الحَلَمْ ... مَسَّى بِأَسْلابِكُمُ أَهْلَ الْعَلَمْ (5)   (1) الإجراء: الصرف. (2) في المطبوعة: ((فعرف بتعريفه)) ، وهو كلام لا معنى له، لم يحسن قراءة المخطوطة، إذ كانت غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. و ((التعريب)) ، هو ((الإعراب)) . (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 365، وفيها خطأ ظاهر، لأنه كتب هناك: ((مررت بالذي هو خير منك، وشر منك)) ، فزادوا ((هو)) ، والصواب حذفها، فلتصحح هناك. (4) لم أعرفه. (5) معاني القرآن للفراء 1: 365، وروايته كما في مطبوعة المعاني: مَشَّى بِأَسْلابِكَ فِي أَهْلِ الَعَلَمْ كأنه يعني أنه سلبه ثيابه ولبسهما، وهو يمشي بها في الناس. ((ومشى)) بتشديد الشين. يقال: ((مشى)) و ((تمشي)) و ((مشى)) بمعنى واحد. وأما رواية أبي جعفر، فهي بالسين لا بالشين، لا شك في ذلك، كأنه يقول: صبحه بالغارة، ثم أمسى بما سلبه عند ((أهل العلم)) ، وهو موضع. و ((العلم)) ، الجبل. و ((الحلم)) (بفتحتين) : القراد الصغير، يصف هذا الزبيرى الذي سلبه ثيابه وأمواله، بأنه قميء قصير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 فأتبع"مثل""الذي"، في الإعراب. ومن قال ذلك، لم يقل: مررت"بالذي عالمٍ"، لأن"عالمًا" نكرة،"والذي" معرفة، ولا تتبع نكرة معرفة. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: تمامًا على الذي أحسن"، موسى، فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه. * ذكر من قال ذلك: 14173- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذين أحسن) ، فيما أعطاه الله. 14174- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن) ، قال: من أحسن في الدنيا، تمم الله له ذلك في الآخرة. 14175- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: (ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن) ، يقول: من أحسن في الدنيا، تمت عليه كرامة الله في الآخرة. * * * وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع، يكون"أحسن"، نصبًا، لأنه فعل ماض، و"الذي" بمعنى"ما" = وكأنّ الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على ما أحسن موسى = أي: آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة، تمامًا على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 365. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 235 وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم. * ذكر من قال ذلك: 14176- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن) ، قال: تمامًا من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام، وآتاهم ذلك الكتاب تمامًا، لنعمته عليه وإحسانه. * * * "وأحسن" على هذا التأويل أيضًا، في موضع نصب، على أنه فعل ماض،"والذي" على هذا القول والقول الذي قاله الربيع، بمعنى:"ما". * * * وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك:"تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ" رفعًا= بتأويل: على الذي هو أحسن. 14177- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا الحجاج، عن هارون، عن أبي عمرو بن العلاء، عن يحيى بن يعمر. * * * قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح، لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا = لأن ذلك أظهرُ معانيه في الكلام، وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحُسن طاعة. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 236 ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد، كان الكلام: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسنّا = أو: ثم آتى الله موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن. وفي وصفه جل ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب، ثم صرفه الخبر بقوله:"أحسن"، إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين = الدليلُ الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد. * * * وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه"الذي" إلى معنى الجميع، فلا دليل في الكلام يدل على صحة ما قال من ذلك. بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه. وإذا تنوزع في تأويل الكلام، كان أولى معانيه به أغلبُه على الظاهر، إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليلٌ واضح على أنه معنيٌّ به غير ذلك. * * * وأما قوله: (وتفصيلا لكل شيء) ، فإنه يعني: وتبيينًا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به. (1) * * * = فتأويل الكلام إذًا: ثم آتينا موسى التوراة تمامًا لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله، تتم به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربَّه وقيامه بما كلّفه من شرائع دينه، وتبيينًا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم، (2) كما:- 14178- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وتفصيلا لكل شيء) ، فيه حلاله وحرامه. * * *   (1) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف 113، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: ((ما لقومه)) باللام، لم يحسن قراءة المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 237 القول في تأويل قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تمامًا وتفصيلا لكل شيء = (وهدى) ، يعني بقوله"وهدى"، تقويمًا لهم على الطريق المستقيم، وبيانًا لهم سُبُل الرشاد لئلا يضلوا = (ورحمة) ، يقول: ورحمة منا بهم ورأفة، لننجيهم من الضلالة وَعمى الحيرة. (1) وأما قوله: (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) ، فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تمامًا لكرامة الله موسى، على إحسان موسى، وتفصيلا لشرائع دينه، وهدًى لمن اتبعه، ورحمة لمن كان منهم ضالا لينجيه الله به من الضلالة، وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه، فيرتدع عما هو عليه مقيمٌ من الكفر به، وبلقائه بعد مماته، فيطيع ربه، ويصدِّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. * * * القول في تأويل قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) ، وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ="كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه"، (2) يقول: فاجعلوه إمامًا تتّبعونه وتعملون بما فيه، أيها الناس (3) = (واتقوا) ،   (1) انظر تفسير ((الهدى)) و ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) و (رحم) . (2) انظر تفسير ((مبارك)) فيما سلف 7: 25 /11: 530. (3) انظر تفسير ((الاتباع)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 238 يقول: واحذروا الله في أنفسكم، أن تضيعوا العمل بما فيه، وتتعدّوا حدودَه، وتستحلُّوا محارمه. (1) كما:- 14179- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) ، وهو القرآن الذي أنزله الله على محمد عليه الصلاة والسلام = (فاتبعوه) ، يقول: فاتبعوا حلاله، وحرّموا حرامه. * * * وقوله: (لعلكم ترحمون) ، يقول: لترحموا، فتنجوا من عذاب الله، وأليم عقابه. * * * القول في تأويل قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) } قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في العامل في"أن" التي في قوله: (أن تقولوا) وفي معنى هذا الكلام. فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك:"ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن"، (2) كراهيةَ أن تقولوا:"إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا". * * * وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك في موضع نصب بفعل مضمر. قال: ومعنى الكلام: فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون = اتقوا أن تقولوا. قال: ومثله يقول الله   (1) انظر تفسير ((التقوى)) فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (2) أرجح أن صواب العبارة: ((معنى ذلك: وهذا كتاب أنزلناه مبارك، كراهية أن تقولوا ... )) فإنه هو القول الذي اختاره أبو جعفر بعد. ولعله سهو منه أو من الناسخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 239 (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) ، [سورة الحجرات: 2] . * * * وقال آخرون منهم: هو في موضع نصب. قال: ونصبه من مكانين: أحدهما: أنزلناه لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا (1) = والآخر من قوله: (اتقوا) . قال: ولا يصلح في موضع"أن" كقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: 176] . (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نصب"أن" لتعلقها: بالإنزال، لأن معنى الكلام: وهذا كتاب أنزلناه مبارك لئلا تقولوا:"إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا". * * * فأما الطائفتان اللتان ذكرهما الله، وأخبر أنه إنما أنزل كتابه على نبيه محمد لئلا يقول المشركون:"لم ينزل علينا كتاب فنتبعه، ولم نؤمر ولم نُنْه، فليس علينا حجة فيما نأتي ونَذَر، إذ لم يأت من الله كتاب ولا رسول"، (3) وإنما الحجة على الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا = فإنهما اليهود والنصارى، (4) وكذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14180- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) ، وهم اليهود والنصارى.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((إنما أنزل الكتاب على)) وقطع، وزدت بقية الآية. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 36. (3) في المطبوعة: ((لم يأت)) ، وفي المخطوطة مثلها، وضرب عليها، ووضع حرف (ط) دلالة على الخطأ أو الشك، ورأين قراءتها، فهذا حق السياق. (4) انظر تفسير ((الطائفة)) فيما سلف 6: 500، 506 / 9: 141. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 14181- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) ، اليهود والنصارى يُخاف أن تقوله قريش. 14182- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج عن مجاهد: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) ، قال: اليهود والنصارى. قال: أن تقول قريش. 14183- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) ، وهم اليهود والنصارى. 14184- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) ، أما الطائفتان: فاليهود والنصارى. * * * وأما (وإن كنا عن دِرَاستهم لغافلين) ، فإنه يعني: أن تقولوا: وقد كنا عن تلاوة الطائفتين الكتابَ الذي أنزلتُ عليهم (1) ="غافلين"، لا ندري ما هي، (2) ولا نعلم ما يقرؤون وما يقولون، وما أنزل إليهم في كتابهم، لأنهم كانوا أهله دوننا، ولم نعن به ولم نؤمر بما فيه، ولا هو بلساننا، فيتخذوا ذلك حجة. فقطع الله بإنزاله القرآنَ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14185- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) انظر تفسير ((الدراسة)) فيما سلف 6: 546 / 12: 25 - 31. (2) في المخطوطة: ((ما هم)) ، ويؤيد ما في المطبوعة، ما سيأتي بعد في رقم: 14188. (3) انظر تفسير ((الغفلة)) فيما سلف من فهارس اللغة ((غفل)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) ، يقول: وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين. 14186- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) ، أي: عن قراءتهم. 14187- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) ، قال:"الدراسة"، القراءة والعلم. وقرأ: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) ، [سورة الأعراف: 169] . قال: علموا ما فيه، لم يأتوه بجهالة. 14188- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) ، يقول: وإن كنا عن قراءتهم لغافلين، لا نعلم ما هي. * * * القول في تأويل قوله: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"وهذا كتاب أنزلناه مبارك"، لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش:"إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا"، أو: لئلا يقولوا: لو أنّا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على هاتين الطائفتين من قبلنا، فأمرنا فيه ونُهِينا، وبُيِّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه = (لكنا أهدى منهم) ، أي: لكنا أشدَّ استقامة على طريق الحق، واتباعًا للكتاب، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 242 وأحسن عملا بما فيه، من الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا. (1) يقول الله: (فقد جاءكم بينة من ربكم) ، يقول: فقد جاءكم كتابٌ بلسانكم عربيٌ مبين، حجة عليكم واضحة بيّنة من ربكم (2) = (وهدى) ، يقول: وبيان للحق، وفُرْقانٌ بين الصواب والخطأ =، (ورحمة) لمن عمل به واتّبعه، كما:- 14189- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم) ، يقول: قد جاءكم بينة، لسانٌ عربي مبين، حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين، وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. 14190- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) ، فهذا قول كفار العرب = (فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) . * * * القول في تأويل قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فمن أخطأ فعلا وأشدّ عدوانًا منكم، أيها المشركون، المكذبون بحجج الله وأدلته = وهي آياته (3) = (وصدف عنها) ، يقول: وأعرض عنها بعد ما أتته، فلم يؤمن بها، ولم يصدِّق بحقيقتها.   (1) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (2) انظر تفسير ((البينة)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (3) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) = وتفسير ((الآية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 243 وأخرج جل ثناؤه الخبر بقوله: (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله) ، مخرج الخبر عن الغائب، والمعنيّ به المخاطبون به من مشركي قريش. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (وصدف عنها) ، قال أهل التأويل. (1) * ذكر من قال ذلك: 14191- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وصدف عنها) ، يقول: أعرض عنها. 14192- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يصدفون عن آياتنا) ، يعرضون عنها، و"الصدف"، الإعراض. 14193- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وصدف عنها) ، أعرض عنها، (سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون) ، أي: يعرضون. 14194- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وصدف عنها) ، فصدَّ عنها. * * * وقوله: (سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب) ، يقول: سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها، (2) ولا يتعرفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله، وحقيقة نبوة نبيه، (3) وصدق ما جاءهم به من عند   (1) انظر تفسير ((صدف)) فيما سلف 11: 366. (2) انظر تفسير ((الجزاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) . (3) في المطبوعة: ((وحقية نبوة نبيه)) ، فعل بها ما فعل بأخواتها من قبل. انظر ما سلف 11: 475 تعليق: 3، والمراجع هناك. و ((حقيقة)) مصدر بمعنى ((حق)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 244 ربهم = (سوء العذاب) ، يقول: شديد العقاب، وذلك عذاب النار التي أعدَّها الله لكفرة خلقه به = (بما كانوا يصدفون) ، يقول: يفعل الله ذلك بهم جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا، فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 القول في تأويل قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام (1) إلا أن تأتيهم الملائكة"، بالموت فتقبض أرواحهم = أو أن يأتيهم ربك، يا محمد، بين خلقه في موقف القيامة = "أو يأتي بعض آيات ربك"، يقول: أو أن يأتيهم بعضُ آيات ربك. وذلك فيما قال أهل التأويل: طلوعُ الشمس من مغربها. * ذكر من قال من أهل التأويل ذلك: 14195- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {إلا أن تأتيهم الملائكة} ، يقول: عند الموت حين توفَّاهم ="أو يأتي ربك"، ذلك   (1) انظر تفسير (نظر فيما سلف 1: 467 - 469/8: 437، 438) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 يوم القيامة = "أو يأتي بعض آيات ربك"، طلوع الشمس من مغربها. 14196- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: {إلا أن تأتيهم الملائكة} ، بالموت = "أو يأتي ربك"، يوم القيامة = "أو يأتي بعض آيات ربك"، قال: آية موجبة، طلوع الشمس من مغربها، أو ما شاء الله. 14197- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة"، يقول: بالموت = "أو يأتي ربك"، وذلك يوم القيامة = "أو يأتي بعض آيات ربك". 14198- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة"، عند الموت = "أو يأتي ربك"= "أو يأتي بعض آيات ربك"، يقول: طلوع الشمس من مغربها. 14199- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال، قال عبد الله في قوله: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك"، قال: يصبحون والشمس والقمر من هاهنا من قبل المغرب، كالبعيرين القَرينين = زاد ابن حميد في حديثه:"فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قَبْل أو كسبت في إيمانها خيرًا"، وقال:"كالبعيرين المقترنين". . (1) 14200- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة"، تقبض الأنفس بالموت = "أو يأتي ربك"، يوم القيامة = "أو يأتي بعض آيات ربك".   (1) ="الأثر: 14199 - خبر عبد الله بن مسعود، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وهذا إسناد صحيح. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 22 وقال: ((رواه الطبراني من طريقين، إحداهما هذه، وفيها عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف. والأخرى مختصرة، ورجالها ثقات)) ، قلت: كأنه يعني هذه الطريق، أو غيرها من الطرق الآتية بعد. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 57، ونسبة إلى سعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والطبراني. وأغفل ما أخرجه ابن جرير. ثم انظر خبر ابن مسعود من طرق كثيرة أخرى من رقم: 14227 - 14236. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 246 القول في تأويل قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"يوم يأتي بعض آيات ربك"، لا ينفع من كان قبل ذلك مشركًا بالله، أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية. * * * وقيل: إن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه أن الكافر لا ينفعه إيمانه عند مجيئها: طلوعُ الشمس من مغربها. * ذكر من قال ذلك، وما ذكر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 14201- حدثني عيسى بن عثمان الرملي قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها"، قال: طلوع الشمس من مغربها. (1)   (1) الأثران: 14201، 14202 - حديث الخدري، مروي من طريقين، هذا والذي يليه. ((عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي)) ، شيخ الطبري، صالح الحديث، مضى برقم: 300. و ((يحيى بن عيسى التميمي)) ، عم ((عيسى بن عثمان)) ، وهو ثقة. مضى برقم: 300، 6317، 9035. و ((ابن أ [ي ليلى)) ، هو ((محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى)) ، كان فقيهًا صدوقًا، غير أنه كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث. تركه أحمد. مضى برقم: 32، 33، 631، 3914، 5434. و ((عطية)) ، هو ((عطية بن سعد بن جنادة العوفي)) ، مضى تضعيفه في رقم: 305. وكان لعطية عن سعيد الخدري أحاديث عدة، قال ابن حبان: سمع من أبي سعيد ((الخدري)) ، أحاديث، فلما مات، جعل يجالس الكلبي ... فإذا قال الكلبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ... فيحفظه، وكناه أبا سعيد، ويروي عنه. فإن قيل له من حدثك بهذا فيقول: ((حدثني أبو سعيد)) ، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبي. قال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3: 31، بالإسناد الثاني، ورواه به أيضًا الترمذي في كتاب التفسير وقال: ((هذا حديث غريب. ورواه بعضهم ولم يرفعه)) . وهو خبر ضعيف الإسناد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 14202- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. 14203- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، وجرير عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. قال: فإذا رآها الناس آمن من عليها، فتلك،"حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا".' (1) 14204- حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري وإسحاق بن شاهين قالا   (1) الأثر: 14203 - خبر أبي هريرة، رواه أبو جعفر من طرق. الأولى: من طريق: عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، برقم 14203، 14209. الثانية: من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، برقم: 14210، 14236. الثالثة: من طريق: ابن عون، عن أبي سيرين، عن أبي هريرة برقم: 14211. الرابعة: من طريق: أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: 14220. الخامسة: من طريق جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن ابي هريرة برقم: 14219. السادسة: من طريق ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة برقم: 14225. السابعة: من طريق أبي حازم، عن ابي هريرة، رقم 14247، وهو بغير هذا اللفظ. ولتفرق هذه الآثار، سأجمع كل متشابهين في التخريج في مكان واحد. فهذا الأثر رقم: 14203، 14209 رواه البخاري من هذه الطريق نفسها (الفتح 8: 223 / 11: 304) ، ورواه مسلم في صحيحه 2: 194، ورواه أحمد رقم: 7161، وأبو دادود في سننه 4: 163، وابن ماجه ص: 1352، وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 433، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 57، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وعبد الرزاق، والنسائي، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، والطبراني أبي عدي. و ((عمارة)) هو ((عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي)) ، روى له الجماعة، ثقة. مترجم في التهذيب. و ((أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي)) ، مضى برقم: 4841، 8155، 9161. وهذا حديث صحيح الإسناد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 248 أخبرنا خالد بن عبد الله الطحان، عن يونس، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: إنها تذهب إلى مستقرِّها تحت العرش، فتخرُّ ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها:"ارتفعي من حيث شئت"، فتصبح طالعة من مطلعها. ثم تجري إلى أن تنتهي إلى مستقرٍّ لها تحت العرش، فتخرّ ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها:"ارتفعي من حيث شئت"، فتصبح طالعةً من مطلعها. ثم تجري لا ينكر الناسُ منها شيئًا، حتى تنتهي فتخرّ ساجدة في مستقر لها تحت العرش، فيصبح الناسُ لا ينكرون منها شيئًا، فيقال لها:"اطلعي من مغربك" فتصبح طالعة من مغربها. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: ذاك يومَ"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". (1) 14205- حدثنا مؤمل بن هشام ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية،   (1) الأثر: 14204، 14205 - حديث أبي ذر الغفاري، رواه من طرق مطولا ومختصرًا، هذان، ثم من رقم 14221 - 14223، وسأذكرها مفرقة. ((عبد الحميد بن بيان السكري، القناد)) ، شيخ الطبري، مضى مرارًا، آخرها 10154، وكان في المطبوعة هنا ((اليشكري)) ، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة. و ((إسحاق بن شاهين الواسطي)) ، شيخ الطبري، مضى برقم: 7211، 9788. و ((خالد بن عبد الله الطحان)) ، مضى مرارًا، آخرها رقم: 11504. و ((يونس)) ، هو ((يونس بن عبيد بن دينار العبدي)) ، مضى أيضًا بأرقام آخرها: 10574. و ((إبراهيم التيمي)) ، هو ((إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي)) تابعي، ثقة. مضى بأرقام آخرها: 10284. وأبو ((يزيد بن شريك التيمي)) ، تابعي ثقة، مضى برقم: 2998. وهو خبر صحيح الإسناد. رواه البخاري (الفتح 6: 214 / 8: 416) ، ورواه مسلم 2: 195، 196، والطيالسي: 62، والترمذي في التفسير، وفي الفتن. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 4334، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 57، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي داود، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي. وقد استوفى شرحه في الفتح (8: 416) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 249 عن يونس، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (1) 14206- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن عاصم، عن زر، عن صفوان بن عسّال قال، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من قِبَل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه. فإذا طلعت الشمس من نحوه، لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا. . (2) 14207- حدثنا المفضل بن إسحاق قال، حدثنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد الإياميّ، عن أبيه، عن زبيد، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال المرادي قال: ذكرت التوبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للتوبة بابٌ بالمغرب مسيرة سبعين عامًا = أو: أربعين عامًا = فلا يزال كذلك حتى يأتي بعض آيات ربك. . (3)   (1) الأثر: 14205 - إسناده صحيح، مكرر الذي قبله (2) الأثر: 14206 - حديث (صفوان بن عسال المرادي)) صاحب رسول الله، رواه أبو جعفر من طريقين: الأول: من طريق عاصم بن أبي النجود (عاصم ابن بهدلة) ، عن زر، عن صفوان، رقم 14206، 14208، 142016 - 14218، 14242. الثاني: من طريق زبيد الإيامي، عن زر، عن صفوان رقم: 14207. والخبر، رواه أحمد في المسند 4: 240، والطاليسي: 160، وابن ماجه ص: 1353، والترمذي، والنسائي. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 435، والسيوطي في الدر المنثور 3: 59، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقي، وابن مردويه. وقال ابن كثير: ((صححه النسائي)) . ورواه البخاري في التاريخ الكبير 2 / 2 / 305، من طريق عبد الرحمن بن مرزوق، عن زر حبيش، عن صفوان بن عسال، ثم قال: ((لا يعف سماع عبد الرحمن، من زر)) (3) الأثر: 14207 - ((المفضل بن إسحاق)) ، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة. ((أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد الإيامي)) ، ويقال:، ((اليامي)) أيضًا. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، وقال أبو حاتم: ((محله صدق)) ، أما النسائي فقال: ((ليس بثقة، ولا يكتب حديثه)) قال ابن عدي: ((أفرط النسائي في أمره، وقد تبحرت حديثه، فلم أر له حديثًا منكرًا)) . وكان في المطبوعة ((اليامى)) ، وأثبت ما في المخطوطة. وأبوه: ((عبد الرحمن بن زبيد الإيامي)) ، روى عنه يحيى بن عقبة بن أبي العيزار. قال البخاري: ((منكر الحديث)) وقيل: ((النكارة هي من يحيى)) ، نقل عن البخاري أيضًا. قال الحافظ في لسان الميزان: ((وهذا إنما قاله البخاري الراوي عنه. وأما ((عبد الرحمن)) ، فذكره ابن حبان في الثقات. وأما أبوه ((زبيد بن الحارث الإيامي)) ، فهو ثقة، مضى برقم: 180، 2521، 5420. و ((زر بن حبيش)) ، مضى مرارًا. ولم أجد من الخبر من هذه الطريق، في شيء مما بين يدي من الكتب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 250 14208- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال أنه قال: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا، فإذا طلعت الشمس من مغربها، لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا. (1) 14209- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها الناس، آمن مَنْ عليها، فذلك حين "لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل". (2) 14210- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمس من مغربها، فيومئذ يؤمن   (1) الأثر: 14208 - ((محمد بن عمارة الأسدي)) ، شيخ الطبري، مضى مرارًا. ((سهل بن عامرالبجلي)) ، ضعيف جدًا، منكر الحديث. مضى برقم: 1971، 5431، 6313. و ((مالك)) هو ((مالك بن مغول بن عاصم البجلي)) ، ثقة، مضى برقم: 5431، 10872. وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف ((سهل بن عامر البجلي)) . (2) الأثر: 14209 - مكرر الذي سلف برقم: 14203. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 251 الناس كلهم أجمعون، وذلك حين"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". (1) 14211- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال، التوبة مقبولة، ما لم تطلع الشمس من مغربها. (2) 14212- حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن مالك بن يخامر، عن معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا تزل التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت طُبِع على كل قلب بما فيه، وكُفي الناسُ العمل. (3) 14213- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة وجعفر بن عون، بنحوه.   (1) الأثر: 14210 - هذه هي الطريق الثانية لأثر أبي هريرة، كما سلف في صدر التعليق على رقم: 14203. ((خالد بن مخلد القطواني)) ، ثقة من شيوخ البخاري، مضى برقم: 2606، 4577، 8166، 8397. و ((محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري)) ، ثقة معروف، مضى برقم: 2606، 8397. و ((العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة)) ، تابعي ثقة، مضى برقم: 221. وأبوه ((عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة)) ، تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 2: 194، من طريق يحيى بن أيوب، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر (أخو محمد بن جعفر رواى هذا الخبر) ، عن العلاء بن عبد الرحمن. وهو حديث صحيح الإسناد. (2) الأثر: 14211 - هذه هي الطريق الثالثة من طرق حديث أبي هريرة، كما سلف في رقم: 14203. ((ابن عون)) ، هو ((عبد الله بن عون المزني)) الفقيه، مضى مرارًا، آخرها رقم: 10559. وكان في المطبوعة: ((عن أبي عون)) ، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. وهذا إسناد صحيح أيضًا، لم أجد في غير التفسير. (3) الأثر: 14212 - ((أحمد بن الحسن بن جنيدب الترمذي)) ، الحافظ، شيخ الطبري، مضى برقم: 7489. و ((سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى التميمي الدمشقي)) ، قال ابن معين: ((ثقة، إذا روى عن المعروفين)) ، وقال ابن حبان: ((يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات المشاهير، فأما إذا روى عن المجاهيل، ففيها منكر)) . مترجم في التهذيب. و ((ابن عياش)) ، هو ((إسماعيل بن عياش بن مسلم العنسي)) ، ثقة، متكلم فيه، مضى برقم: 5445، 8164، 10375، 10730، 11108. و ((ضمضم بن زرعة بن ثوب الحميري)) ، ثقة، وضعفه بعضهم مضى برقم: 5445. و ((شريج بن عبيد بن شريح الحضرمي)) ، تابعي ثقة، مضى برقم: 5445، 12194. و ((مالك بن يخامر السكسكى)) ، تابعي. مترجم في التهذيب. وهذا خبر صحيح الإسناد، مختصر رواه أحمد في مسنده رقم: 1671، من طريق الحكم ابن نافع: ((عن إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، يرده إلى مالك بن يخامر، عن ابن السعدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل. فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة ... )) إلى آخر الخبر. وهو في حديث معاوية من المسند 5: 270 من غير هذه الطريق، بغير هذا اللفظ. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 250، وانظر تخريج أخي السيد أحمد في المسند: 1671. وسيأتي أخي السيد أحمد في المسند: 1671. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 252 14214- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي حيان التيمي، عن أبي زرعة قال، جلس ثلاثة من المسلمين إلى مروان بن الحكم بالمدينة، فسمعوه وهو يحدث عن الآيات: أن أولها خروجا الدجالُ، فانصرف القوم إلى عبد الله بن عمرو، فحدثوه بذلك، فقال: لم يقل مروان شيئًا! قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا لم أنسَه، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، أو خروج الدابة على الناس ضُحًى، أيَّتهما ما كانت قبل صاحبتها، (1) فالأخرى على أثرها قريبًا. ثم قال عبد الله بن عمرو، وكان يقرأ الكتب: أظن أولهما خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع، فيؤذن لها في الرجوع، حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها، فعلت   (1) في المطبوعة: ((أيتها كانت)) بغير ((ما)) ، وهي ثابتة في المخطوطة، ومسند أحمد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 253 كما كانت تفعل، أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع، فلم يردَّ عليها شيئًا، (1) فتفعل ذلك ثلاث مرات، لا يردّ عليها بشيء. حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب، وعرفت أن لو أذن لها لم تدرك المشرق، قالت:"ما أبعدَ المشرق! ربِّ، منْ لي بالناس"! حتى إذا صار الأفق كأنه طَوْق، استأذنت في الرجوع، فقيل لها:"أطلعي من مكانك"، فتطلع من مغربها. ثم قرأ: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها"، إلى آخر الآية. (2) 14215- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد، عن يحيى بن سعيد أبي حيان، عن الشعبي، أن ثلاثة نفر دخلوا على مروان بن الحكم، فذكر نحوه، عن عبد الله بن عمرو. (3)   (1) في المخطوطة: ((وذلك دانها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع، فلم يرد عليها شيئًا)) ، أسقط ما بين الكلام، وأثبته ناشر المطبوعة الأولى من الدر المنثور فيما أرجح، ومثله في مسند أحمد. وكان في المخطوطة: ((وذلك دانها)) غير منقوطة، صواب قراءتها ما في المطبوعة والمسند. (2) الأثر: 14214 - حديث عبد الله بن عمرو، رواه مطولا من طريقين، هذا والذي يليه، ورواهمختصرًا برقم 14226 - 14243. ((أبو حيان التمي)) هو ((يحيى بن سعيد بن حيان التيمي)) ، ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: 10883. و ((أبو زرعة بن عمرو بن جرير)) ، ثقة، مضى قريبًا رقم: 14203. وهذا الخبر رواه أحمد في المسند رقم: 6881، من هذه الطريق نفسها، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 8، 9، وقال: ((في الصحيح طرف من أوله، رواه أحمد، والبزار، والطبراني، في الكبير، ورجاله رجال الصحيح)) . ورواه الحاكم في المستدرك 4: 547، 548، بنحوه، من طريق جعفر بن عون العمري، عن أبي حيان التيمى، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي غير مصرح بالموافقة. ورةى الحاكم أيضًا في المستدرك 4: 500، 501، حديث عن عبد الله بن عمرو هذا بزيادة واختلاف، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن إسحاق بن وهب، عن جابر الخيواني، قال: ((كنت عند عبد الله بن عمرو، فقدم عليه قهرمان من الشام، وقد بقيت ليلتان من رمضان ... )) وساق الخبر، ثم قال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 436، والسيوطي في الدر المنثور 3: 57، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي. والذي رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، هو المختصر، لا هذا المطول. (3) الأثر: 14215 - هذه طريق أخرى للخبر السالف، وهو ضعيف إسناده. ((أبو ربيعة)) ، لقبه ((فهد)) ، واسمه ((زيد بن عوف القطعي)) ، متروك، قال البخاري: ((سكتوا عنه)) ، واتهمه أبو زرعة بسرقة حديثين، كما هو مفصل في ابن أبي حاتم. مترجم في الكبير 2 / 1 / 369، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 570، وميزان الاعتدال 1: 364، ولسان الميزان 2: 509. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 254 14216- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعت عاصم بن أبي النجود، يحدث عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا، لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه. (1) 14217- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال قال: إذا طلعت الشمس من مغربها، فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. (2) 14218- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش قال: غَدَوْتُ إلى صفوان بن عسال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب، عرضه مسيرة سبعين عامًا، فلا يزال مفتوحًا حتى تطلع من قبله الشمس. ثم قرأ: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك"، إلى: "خيرًا". (3) 14219- حدثني الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال،   (1) الأثر: 14216، 14217 - طريقان من طرق حديث صفوان، السالف تخريجه رقم: 14206 - 14208. ورواه أحمد في المسند 4: 240، 241، في حديث طويل. (2) الأثر: 14216، 14217 - طريقان من طرق حديث صفوان، السالف تخريجه رقم: 14206 - 14208. ورواه أحمد في المسند 4: 240، 241، في حديث طويل. (3) الأثر: 14218 - طريق من طرق حديث صفوان السالف تخريجه رقم: 14206 - 14208، ولكن هذا الإسناد ضعيف، لضعف ((أبي ربيعة، فهد)) ، وقد مضى في رقم: 14215. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 255 حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز: أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من المغرب. قال: فإذا طلعت الشمس من المغرب آمن الناس كلهم، وذلك حين"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". (1) 14220- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قُبِل منه. (2) 14221- حدثني المثنى قال، حدثنا فهد قال، حدثنا حماد، عن يونس بن عبيد، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس إذا غربت أتت تحت العرش فسجدت، فيقال لها:"أطلعي من حيث غربت"، ثم قرأ هذه الآية: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) ، إلى آخر الآية (3) .   (1) الأثر: 14219 - هذه هي الطريق الخامسة لحديث أبي هريرة المذكورة في رقم: 14203. ((شعيب بن الليث بن سعد المصري)) ، ثقة معروف، مضى برقم: 3034، 5314. و ((الليث بن سعد المصري)) ، الإمام المشهور، مضى مرارًا. و ((جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي)) المصري، ثقة، مضى برقم 5005، 6897. و ((عبد الرحمن بن هرمز)) الأعرج، مضى مرارًا. وهذا الخبر رواه البخاري (الفتح 11: 303 /13: 72) ، من طريق أبي اليمان، عن شعيب، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. (2) الأثر: 14220 - هذه هي الطريق الرابعة لخبر أبي هريرة، المذكور في رقم: 14203. رواه أحمد في المسند برقم 7697، ورواه مسلم في صحيحه من هذه الطريق، وخرجه أخي السيد أحمد هناك. (3) الأثر: 14221 - هذه إحدى الطرق الخمس، لحديث أبي ذر التي ذكرتها في تخريج الخبر رقم: 14204.وفي إسناد هذا الخبر انقطاع، فإن إبراهيم التيمي لم يرو عن أبي ذر. قال أحمد: "لم يلق أبا ذر "، ولعل هذا المنقطع هو سبب قول مسلم في رواية هذا الحديث 2: 195: "يونس، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، سمعه فيما أعلم، عن أبيه عن أبي ذر". فهذا إسناد ضعيف لانقطاعه. وهو أيضا إسناد ضعيف؛ لضعف "فهد" وهو "أبو ربيعة"، "زيد بن عوف" مضت ترجمته في رقم 14215، 14218، وكان في المخطوطة: "يوسف بن عبيد " والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 256 14222- حدثني المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمارٍ، فنظر إلى الشمس حين غربت فقال: إنها تغرب في عين حامية، (1) تنطلق حتى تخرّ لربها ساجدة تحت العرش، حتى يأذن لها، فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها، فتقول: يا ربِّ، إن مسيري بعيد! فيقول لها: اطلعي من حيث غربت! فذلك حين"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل". (2) 14223- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة، عن موسى بن المسيب، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى الشمس فقال: يوشك أن تجيء حتى تقف بين يدي الله، فيقول:"ارجعي من حيث جئت"! فعند ذلك:"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". (3)   (1) في المطبوعة: ((في عين حمئة)) ، وأثبت ما في المخطوطة. و ((الحمئة)) : ذات الحمأة، وهي الطين الأسود المنتن. و ((الحامية)) الحارة، وآية سورة الكهف 86: ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة)) ، قرئت أيضًا ((حامية)) ، قال أبو جعفر في تفسيره 16: 10 (بولاق) : أنهما: ((قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، ولكل واحدة منهما وجه صحيح، ومعنى مفهوم)) . (2) الأثر: 14222 - هذه إحدى الطرق الخمس المذكورة في رقم: 14204. ((سفيان بن حسين الواسطي)) ، ثقة، تكلموا في حديثه عن الزهري. مضى مرارًا، آخرها رقم: 11285. و ((الحكم)) ، هو ((الحكم بن عتيبة الكندي)) ، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 11085. (3) الأثر: 14223 - هذه آخر طرق حديث أبي ذر المذكورة في رقم: 14204. ((عبدة)) ، هو ((عبدة بن سليمان الكلابي)) ، ثقة من شيوخ أحمد. مضى مرارًا، آخرها: 8315. و ((موسى بن المسيب الثقفي)) ويقال: ((موسى بن السائب)) ، لم يذكر البخاري فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أحمد: ((ما أعلم إلا خيرًا)) ، وضعفه الأزدي. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 294، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 161. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 257 14224- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا) ، فهو أنه لا ينفع مشركًا إيمانه عند الآيات، وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرًا قبل ذلك. قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيةً من العشيّات فقال لهم: يا عباد الله، توبوا إلى الله، فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قِبَل المغرب، فإذا فعلت ذلك، حُبِست التوبة، وطُوِي العمل، وخُتم الإيمان. (1) فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آية تلكم الليلة، أن تطول كقدر ثلاث ليال، فيستيقظ الذين يخشون رَبهم، فيصلُّون له، ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقض، ثم يأتون مضاجعهم فينامون. حتى إذا استيقظوا والليل مكانه، فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون بين يدي أمرٍ عظيم. (2) فإذا أصبحوا وطال عليهم طلوع الشمس، فبينا هم ينتظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب، فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. (3) 14225- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، أنه سمعه يقول: قال   (1) في المخطوطة: ((وطوى العمل، وختم العمل)) ، وصححه الناشر الأول من الدر المنثور. (2) في المطبوعة، والدر المنثور: ((خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم)) ، وما في المخطوطة مستقيم. (3) الأثر: 14224 - ((محمد بن سعد العوفي)) ، وسلسة إسناده، شرحها أخي السيد أحمد في التعليق على الأثر رقم: 305، وكل رواته ضعفاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 258 رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون، فيومئذ"لا ينفع نفسًا إيمانها"، الآية. (1) 14226- وبه قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن أبي عتيق، أنه سمع عبيد بن عمير يتلو: (يوم يأتي بعض آياته ربك لا ينفع نفسًا إيمانها) ، قال، يقول: [كنّا] نُحدَّث، والله أعلم، أنها الشمس تطلع من مغربها = قال ابن جريج، وأخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع عبيد بن عمير يقول ذلك = قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الآية التي لا ينفع نفسًا إيمانها، إذا طلعت الشمس من مغربها. = قال ابن جريج: وقال مجاهد ذلك أيضًا. (2) 14227- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن مسعود: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها) ، قال: طلوع الشمس من مغربها. (3)   (1) الأثر: 14225 - هذه هي الطريق السادسة من طرق حديث أبي هريرة، التي ذكرتها في صدر التعليق على رقم: 14203. ((صالح مولى التوأمة)) هو ((صالح بن نبهان)) . مضى برقم: 1020، 3959، ثقة، ولكنهم تكلموا فيه من قبل خرف أصابه فاختلط، فقال أحمد: ((من سمع منه قديمًا فذاك)) ، وابن جريج أحد القدماء الذين رووا عنه، فحديثه هذا لا بأس به. ولم أجد الخبر في مكان آخر. (2) الأثر: 14226 - هذه طريق أخرى لخبر عبد الله بن عمرو بن العاص، مختصر الخبر السالف رقم: 14212، وهو من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو، وهو إسناد صحيح. (3) الأثر: 14227، 14228 - خبر عبد الله بن مسعود، رواه الطبري آنفًا من طريق رقم: 14199، ثم رواه هنا من طرق، من رقم 14227 - 14234، 14239، وهذا بيان طرقه. الأولى: من طريق أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، برقم: 14199، ثم 14230، 14232، 14233. الثانية: من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن مسعود، برقم: 14227، 14228، 14231. الثالثة: من طريق ابن سيرين، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود، برقم: 14229. الرابعة: من طريق أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبي الشعثاء، عن أبي مسعود، برقم: 14234، 14239. وهذا الخبر من الطريق الثانية. ((زرارة أوفى الحرشي)) القاضي، ثقة، روى له أصحاب الكتب الستة. ولكنه لم يسمع من ابن مسعود، كما قال أبو داود الطيالسي، فهذا إسناد ضعيف لانقطاعه. وانظر تخريج الأثر السالف رقم: 14199. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 259 14228- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: (يوم يأتي بعض آيات ربك) ، قال: طلوع الشمس من مغربها. 14229- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب، عن عوف، عن ابن سيرين قال، حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان عبد الله بن مسعود يقول: ما ذكر من الآيات فقد مضَين غير أربع: طلوع الشمس من مغربها، ودابة الأرض، والدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، والآية التي تختم بها الأعمال: طلوع الشمس من مغربها. ألم تر أن الله قال: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا) ، قال: فهي طلوع الشمس من مغربها. (1)   (1) الأثر: 14229 - هذه هي الطريق الثالثة لخبر ابن مسعود، كما ذكرت في التعليق على الأثرين السالفين. و ((عبد الوهاب)) هو ((عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي)) ، ثقة، مضى مرارًا، آخرها: 10729. و ((عوف)) هو ((عوف بن أبي جميلة العبدي)) ، ((عوف الأعرابي)) ، مضى مرارًا، آخرها رقم: 5473 - 5477. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((عبد الوهاب بن عوف، عن ابن سيرين)) ، وهو لا يصح، خطأ محض، وسيتبين ذلك فيما بعد. ((ابن سيرين)) هو ((أنس بن سيرين الأنصاري)) ، كما يتبين من إسناد الحاكم في المستدرك، ولكن ابن كثير في تفسيره صرح بأنه ((عن محمد بن سيرين)) ، وكلاهما روى عنه عوف الأعرابي، والأرجح أن هذا الحديث من حديث ((محمد بن سيرين)) . و ((أنس بن سيرين الأنصاري)) ، كان ثقة قليل الحديث، وهو أخو ((محمد بن سيرين)) ، وأنس دون أخيه محمد، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 33، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 287 و ((أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود)) ، مضى مرارًا، آخرها رقم: 10355، وقد سلف مرارًا أنه لم يدرك أن يروي عن أبيه بن مسعود. فهذا إسناد منقطع. وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 4: 545، من طريق سفيان، عن عوف، عن أنس ابن سيرين، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود. قال الحاكم: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)) وقال الذهبي: ((صحيح)) . ولكن علته انقطاعه كما ثبت. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 437، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 59، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. وابن مردويه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 260 14230- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كأنهما بعيران مقرونان. (1) 14231- . . . . قال شعبة: وحدثنا قتادة، عن زرارة، عن عبد الله بن مسعود: (يوم يأتي بعض آيات ربك) ، قال: طلوع الشمس من مغربها. (2) 14232- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود: (يوم يأتي بعض آيات ربك) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين المقترنين. (3) 14233- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور والأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق عن عبد الله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين القرينين. (4)   (1) الأثر: 14230 - هذه رواية الطريق الأولى لحديث ابن مسعود التي سلف بيانها في تخريج الخبر رقم: 14227، وسلف تخريجها في رقم: 14199. (2) الأثر: 14231 - هذه رواية الطريق الثانية لحديث ابن مسعود، وسلف تخريجه وبيان انقطاع إسناده فيها سلف رقم 14227. (3) الأثر: 14232، 14233 - هاتان روايتان من الطريق الأولى لحديث ابن مسعود كما بينته في رقم 14227، وهو صحيح الإسناد كما سلف في رقم: 14199. (4) 14232، 14233 - هاتان روايتان من الطريق الأولى لحديث ابن مسعود كما بينته في رقم 14227، وهو صحيح الإسناد كما سلف في رقم: 14199. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 14234- . . . وقال، حدثنا أبي، عن إسرائيل وأبيه، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عن عبد الله قال: التوبة مبسوطةٌ ما لم تطلع الشمس من مغربها. (1) 14235- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن أمِّ عبد كان يقول: لا يزال باب التوبة مفتوحًا حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رأى الناس ذلك آمنوا، وذلك حين"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". (2) 14236- حدثنا بشر قال، حدثنا عبد الله بن جعفر قال، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت آمن الناس كلهم، فيومئذ"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". (3) 14237- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير: (يوم يأتي بعض آيات ربك) ، قال: طلوع الشمس من مغربها.   (1) الأثر: 14234 - هذه الطريق الرابعة لحديث ابن مسعود، وسيأتي أيضًا برقم: 14239. ((أشعث بن أبي الشعثاء)) ، هو ((أشعث بن أسود المحاربي)) ، ثقة مضى برقم: 10331، 10333. وأبوه: ((سليم بن أسود حنظلة المحاربي)) ، ((أبو الشعثاء)) ، ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب وهذا إسناد صحيح، لم أجده في شيء مما بين يدي من الكتب. (2) الأثر: 14235 - ((ابن أم عبد)) هو ((عبد الله بن مسعود)) . وهذا خبر لم يذكر قتادة إسناده إلى ابن مسعود، وقد مر خبر قتادة عن زرارة بن أوفى عن ابن مسعود، بغير هذا للفظ برقم: 14227، 14228، 14231 مختصرًا. (3) الأثر: 14236 - هذه رواية خبر أبي هريرة، من الطريق الثانية التي ذكرتها في تخريج الأثر رقم 14203. وقد سلف تخريج هذه الطريق في التعليق على الأثر رقم: 14210. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 14238- . . . وقال، حدثنا أبي، عن الحسن بن عقبة، أبي كيران، عن الضحاك: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها) ، قال: طلوع الشمس من مغربها. (1) 14239- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل قال، أخبرني أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عن ابن مسعود في قوله: (لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ، قال: لا تزال التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها. (2) 14240- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يوم يأتي بعض آيات ربك) ، قال: طلوع الشمس من مغربها. 14241- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ، يقول: إذا جاءت الآيات لم ينفع نفسًا إيمانها. يقول: طلوع الشمس من مغربها. (3) 14242- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال: (يوم يأتي بعض آيات ربك) ، قال: طلوع الشمس من مغربها. (4)   (1) الأثر: 14238 - ((الحسن بن عقية المرادي)) ((أبو كيران)) (بالياء) ، ثقة روى عن عبد خير، والشعبي، والضحاك. روى عنه وكيع، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم. مترجم في الكبير 1 / 2 / 299، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 28، وكان في المطبوعة: ((أبي كبران)) بالباء، ومعها علامة شك. (2) الأثر: 14238 - هذه رواية الطريق الرابعة لحديث ابن مسعود، كما فصلتها في رقم: 14227. وسلف شرح هذا الإسناد برقم: 14234. (3) 14241 - ((أبو صخر)) ، هو ((حميد بن زياد الخراط)) ، ونزل مصر. مضى برقم: 4325، 5386، 8391. و ((القرظي)) ، هو ((محمد بن كعب القرظي)) ، مضى مرارًا، ومنها في مثل هذا الإسناد رقم: 8391. (4) الأثر: 14242 - هذه رواية حديث صفوان بن عسال، من الطريق الأولى، كما فسرتها في التعليق على رقم: 14206، وسلف الكلام فيه هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 263 14243- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو: (يوم يأتي بعض آيات ربك) ، قال: طلوع الشمس من مغربها. (1) * * * وقال آخرون: بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها. * ذكر من قال ذلك: 14244- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون، عن المسعودي، عن القاسم قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو الدابة، أو فتح يأجوج ومأجوج. (2) 14245- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج.   (1) الأثر: 14243 - ((أبو إسحاق الهمداني)) ، هو: ((أبو إسحاق السبيعي)) ، مضى مرارًا. و ((وهب بن جابر الخيواني الهمداني)) ، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، لقيه ببيت المقدس. روى عنه ((أبو إسحاق الهمداني)) وحده. تابعي ثقة. روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قصة يأجوج ومأجوج، و ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت)) ، ولم يرو غير ذين. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 163، 164، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 23. وهذا الخبران المذكوران في ترجمته، رواهما أبو داود الطيالسي في مسنده ص 301 رقم: 2281، 2282. (2) الأثران: 14244، 14245 - ((جعفر بن عون جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي)) ، ((أبو عون)) ثقة، مضى برقم: 9506. و ((المسعودي)) هو: ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود)) ، مضى مرارًا برقم: 2156، 2937، 5563. و ((القاسم)) ، هو ((القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود)) ، روى عن أبيه وجده عبد الله بن مسعود، مرسلا. ثقة قليل الحديث. مضى برقم: 9519. وذكر أخي السيد أحمد في التعليق على الأثر: 9515، أن ((المسعودي، عن القاسم)) هو ((معن بن عبد الرحمن)) ، وأن القاسم فيما استظهر، هو أخوه: ((القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود)) ، والصواب أن ((المسعودي)) الراوي عن ((القاسم بن عبد الرحمن)) ، هو ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة)) . كما أسلفت. وإسناد هذا الخبر، ضعيف لانقطاعه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 59، ونسبة إلى عبد بن حميد، والطبراني. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 14246- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن عامر، عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات، طُرِحت الأقلام، وحُبِست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال. (1) 14247- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث إذا خرجت"لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا": طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض. (2) 14248- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا معاوية بن عبد الكريم قال: حدثنا الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال ستًّا: طلوعَ الشمس من مغربها، والدجال، والدخَان، ودابة الأرض، وخُوَيِّصة أحدكم، وأمرَ العامة.   (1) الأثر: 14246 - ((منصور)) هو: ((المنصور بن المعتمر)) . و ((عامر)) هو الشعبي. وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره 3: 437، وإسناده صحيح. ولم أجده في شيء من الكتب التي بين يدي. (2) الأثر: 14247 - هذه هي الطريق السابعة من طرق خبر أبي هريرة التي ذكرتها في التعليق على الأثر: 14203. ((محمد بن فضيل بن غزوان الضبي)) . روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 8395. وأبوه: ((فضيل بن غزوان الضبي)) ثقة، روى له الجماعة. و ((أبو حازم)) هو الأشجعي، واسمه ((سلمان)) . ثقة، روى له الجماعة. وهذا إسناد صحيح. رواه مسلم في صحيحه 2: 195، والترمذي في التفسير، وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 434، وقال: ((رواه أحمد عن وكيع، عن فضيل بن غزوان)) ، وذكر سائر طرقه. وخرجه السيوطي، في الدر المنثور 3: 57، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن مردوبه، والبيهقي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 14249- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول، فذكر نحوه. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ذلك حين تطلع الشمس من مغربها". * * * وأما قوله: (أو كسبت في إيمانها خيرًا) ، فإنه يعني: أو عملت في تصديقها بالله خيرًا، (2) من عمل صالح يصدِّق قِيلَه ويُحققه، من قبل طلوع الشمس من مغربها. لا ينفع كافرًا لم يكن آمن بالله قبل طلوعها كذلك، (3) إيمانه بالله إن آمن وصدق بالله ورسله، لأنها حالة لا تمتنع نفسٌ من الإقرار بالله، لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله، فحكم إيمانهم، كحكم إيمانهم عند قيام الساعة، وتلك حال لا يمتنع الخلق من الإقرار بوحدانية الله، لمعاينتهم من أهوال ذلك اليوم ما ترتفع معه حاجتهم إلى الفكر والاستدلال والبحث والاعتبار، ولا ينفع مَنْ كان بالله وبرسله مصدِّقًا، ولفرائض الله مضيعًا، غير مكتسب بجوارحه لله طاعة، إذا   (1) الأثران: 14248، 14249 - ((معاوية بن عبد الكريم الثقفي)) ، ((الضال)) ، لأنه ضل في طريق مكة. روى عن الحسن. ثقة أحمد وغيره، وتكلموا فيه. وأخشى أن يكون سقط من الإسناد رجل بينه وبين ((بشر بن معاذ)) . وأما الإسناد الثاني ففيه ((بشر)) = يعني ((بشر بن معاذ)) = عن ((يزيد)) ، يعني ((يزيد بن زريع)) عن ((سعيد)) = يعني ((سعيد بن أبي عروبة)) . ولكن روى هذا الأثر بهذا اللفظ مسلم في صحيحه 17: 87 مرفوعًا، من طريق أمية بن بسطام العيشي، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن زياد بن رياح، عن أبي هريرة. (2) انظر تفسير ((كسب)) فيما سلف ص: 120، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((لا ينفع كافرًا)) بغير واو، والسياق يقتضي إثباتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 هي طلعت من مغربها = أعمالُه إن عمل، وكسبُه إن اكتسب، لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك، كما:- 14250- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا) ، يقول: كسبت في تصديقها خيرًا، عملا صالحًا، فهؤلاء أهل القبلة. وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيرًا، فعملت بعد أن رأت الآية، لم يقبل منها. وإن عملت قبل الآية خيرًا، ثم عملت بعد الآية خيرًا، قُبل منها. 14251- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها) ، قال: مَنْ أدركه بعضُ الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قَبِلَ الله منه العمل بعدَ نزول الآية، كما قَبِلَ منه قبل ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) } قال أبو جعفر: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: انتظروا أن تأتيكم الملائكة بالموت فتقبض أرواحكم، أو أن يأتي ربكم لفصل القضاء بيننا وبينكم في موقف القيامة، أو أن يأتيكم طلوع الشمس من مغربها، فتطوى صحف الأعمال، ولا ينفعكم إيمانكم حينئذ إن آمنتم، حتى تعلموا حينئذ المحقَّ منا من المبطل، والمسيءَ من المحسن، والصادقَ من الكاذب، وتتبينوا عند ذلك بمن يحيق عذاب الله وأليم نكاله، ومَنْ الناجي منا ومنكم ومَنْ الهالك - إنا منتظرو ذلك، ليجزل الله لنا ثوابه على طاعتنا إياه، وإخلاصنا العبادة له، وإفرادناه بالربوبية دون ما سواه، ويفصل بيننا وبينكم بالحق، وهو خير الفاصلين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 267 القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) } قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة قوله: (فرقوا) . فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ما: 14252- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن عليًّا رضي الله عنه قرأ:"إنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ". 14253- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير قال، قال حمزة الزيات: قرأها علي رضي الله عنه:"فَارَقُوا دِينَهُمْ". 14254- . . . وقال، حدثنا الحسن بن علي، عن سفيان، عن قتادة:"فَارَقُوا دِينَهُمْ". * * * وكأن عليًّا ذهب بقوله:"فارقوا دينهم"، خرجوا فارتدوا عنه، من"المفارقة". * * * وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود، كما:- 14255- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن رافع، عن زهير قال، حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها: (فَرَّقوا دِينَهُمْ) . * * * وعلى هذه القراءة = أعني قراءة عبد الله = قرأة المدينة والبصرة وعامة قرأة الكوفيين. وكأنّ عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك: أن دين الله واحد، وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة، ففرّق ذلك اليهود والنصارى، فتهوّد قومٌ وتنصَّر آخرون، فجعلوه شيعًا متفرقة. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه. وذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 268 أن كل ضالّ فلدينه مفارق، وقد فرَّق الأحزابُ دينَ الله الذي ارتضاه لعباده، فتهود بعض وتنصر آخرون، وتمجس بعض. وذلك هو"التفريق" بعينه، ومصير أهله شيعًا متفرقين غير مجتمعين، فهم لدين الله الحقِّ مفارقون، وله مفرِّقون. (1) فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فهو للحق مصيب، غير أني أختار القراءة بالذي عليه عُظْم القرأة، وذلك تشديد"الراء" من"فرقوا". * * * ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: (إن الذين فرّقوا دينهم) . فقال بعضهم: عنى بذلك اليهود والنصارى. * ذكر من قال ذلك: 14256- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وكانوا شيعًا) ، قال: يهود. 14257- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 14258- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فرقوا دينهم) ، قال: هم اليهود والنصارى. 14259- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن الذين فرقوادينهم وكانوا شيعًا) ، من اليهود والنصارى. 14260- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) ، هؤلاء اليهود والنصارى. وأما قوله: (فارقوا دينهم) ، فيقول: تركوا دينهم وكانوا شيعًا. (2) 14261- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) انظر تفسير ((الشيع)) فيما سلف 11: 419. (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فرقوا)) في الموضعين، والتفسير في الأثر، يوجب أن تكون ((فارقوا)) كما أثبتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا) ، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد، فتفرقوا. فلما بعث محمد أنزل الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) . 14262- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا) ، يعني اليهود والنصارى. 14263- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن شيبان، عن قتادة:"فارقوا دينهم"، قال: هم اليهود والنصارى. * * * وقال آخرون: عنى بذلك أهلَ البدع من هذه الأمة، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه. * ذكر من قال ذلك: 14264- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس، عن أبي هريرة قال: (إن الذين فرقوا دينهم) ، قال: نزلت هذه الآية في هذه الأمة. (1) 14265- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن طاوس، عن أبي هريرة: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا) ، قال: هم أهل الصلاة. (2) 14266- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: كتب إليّ عباد بن كثير قال، حدثني ليث، عن طاوس، عن أبي هريرة   (1) الأثران: 14264، 14265 - إسنادهما صحيح إلى أبي هريرة، موقوفًا، وانظر التعليق على الأثر التالي. (2) كان في المطبوعة: ((هم أهل الضلالة)) ، كما سيأتي في الأثر التالي، غير أن المخطوطة واضحة هنا ((أهل الصلاة)) ، فأثبتها كما هي، لأنها صحيحة المعنى، أي أنها نزلت في المؤمنين من أهل القبلة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 270 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية:" (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) ، وليسوا منك، هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق وفرقه، وكانوا فرقًا فيه وأحزابًا شيعًا، وأنه ليس منهم. ولا هم منه، لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام، دين إبراهيم الحنيفية، كما قال له ربه وأمره أن يقول: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: 161] . فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ يهودي ونصرانيّ ومتحنِّف، مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم ملة إبراهيم المسلم، فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منه بريء، وهو داخل في عموم قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) . * * *   (1) الأثر: 14266 - ((سعيد بن عمرو السكوني)) شيخ الطبري، مضى برقم: 5563، 6521. و ((بقية بن الوليد الحمصي)) ، ثقة، نعوا عليه بالتدليس، مضى برقم: 152، 5563، 6521، 6899، 9224. و ((عباد بن كثير الرملي الفلسطيني)) ، ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 85. وهذا الخبر مرفوعًا لا يصح، وهو ضعيف الإسناد. قال ابن كثير في تفسيره 3: 438: ((لكن هذا إسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك الحديث. ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهم في رفعه، فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث = وهو ابن أبي سليم = عن طاوس، عن ابي هريرة في هذه الآية أنه قال: نزلت في هذه الأمة)) . ولكن خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 22، 23، ثم قال: ((رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، غير معلل بن نفيل، وهو ثقة)) . وهكذا في مجمع الزوائد ((معلل بن نفيل)) ، وهو محرف بلا شك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 وأما قوله: (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: نزلت هذه الآية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وُجوب فرض قتالهم، ثم نسخها الأمر بقتالهم في"سورة براءة"، وذلك قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . [سورة التوبة: 5] . * ذكر من قال ذلك: 14267- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله) ، لم يؤمر بقتالهم، ثم نسخت، فأمر بقتالهم في"سورة براءة". * * * وقال آخرون: بل نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إعلامًا من الله له أنَّ من أمته من يُحْدث بعده في دينه. وليست بمنسوخة، لأنها خبرٌ لا أمر، والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي. * ذكر من قال ذلك: 14268- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مالك بن مغول، عن علي بن الأقمر، عن أبي الأحوص، أنه تلا هذه الآية: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) ، ثم يقول: بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم. (1) 14269- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم، عن مالك بن مغول، بنحوه. 14270- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا شجاع أبو   (1) الأثر: 14268 - ((مالك بن مغول البجلي) ، ثقة: مضى برقم: 5431، 10872 و ((علي بن الأقمر الهمداني)) ، روى له الجماعة، مضى برقم 11941. وهو إسناد صحيح. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 272 بدر، عن عمرو بن قيس الملائي قال، قالت أم سلمة: ليتّق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء! ثم قرأت: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) = قال عمرو بن قيس: قالها مُرَّة الطيِّب، وتلا هذه الآية. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوله: (لست منهم في شيء) ، إعلام من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء، ومن الأحزاب من مشركي قومه، ومن اليهود والنصارى. وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم، لأنه غير محال أن في الكلام:"لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم. فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم فيتوب عليه، ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرًا فيقبض روحه، أو يقتله بيدك على كفره، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدَمهم عليه". وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم، وقوله: (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله) ، ولم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ = كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك، لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة، في كتابنا كتاب:"اللطيف عن أصول الأحكام". (2) * * *   (1) الأثر: 14270 - ((شجاع، أبو بدر)) ، هو ((شجاع بن الوليد بن قيس السكوبي)) ثقة صدوق. روى عنه أحمد. مترجم في التهذيب. ((عمرو بن قيس الملائي)) . ثقة مضى مرارًا آخرها: 9646. وهذا إسناد منقطع، ((عمرو بن قيس)) لم يدرك أم سلمة. أما خبر ((مرة الطيب)) فهو ((مرة بن سراحيل الهمداني)) ، مضى مرارًا. آخرها: 7539 وروايته هذه أيضًا منقطعة. لأنه لم يدرك. وخرج السيوطي في الدر المنثور 3: 63، خبر أم سلمة. ونسبة إلى ابن منيع في مسنده وأبي الشيخ، وخرج خبر مرة الطيب، ونسبه إلى ابن أبي حاتم. (2) انظر ما سلف في ((الناسخ والمنسوخ)) 10: 333 تعليق: 1 والمراجع هناك واسم كتاب أبي جعفر هو ما أثبت، ما ورد في 5: 414، وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة ((اللطيف عن أصول الأحكام)) ، وهو لا يستقيم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 273 وأما قوله: (إنما أمرهم إلى الله) ، فإنه يقول: أنا الذي إليَّ أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا، والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك، دونك ودون كل أحد. إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها، وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم = (ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) ، (1) يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم عليَّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون، فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون، المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة. ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) . * * * القول في تأويل قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من وافَى ربَّه يوم القيامة في موقف الحساب، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا، بالتوبة والإيمان والإقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته، وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال: من جاء بها فله عشر أمثالها. (2) ويعني بقوله: (فله عشر أمثالها) ، فله عشر حسنات أمثال حسنته التي   (1) انظر تفسير ((النبأ)) فيما سلف ص: 37، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الحسنة)) فيما سلف 4: 203 - 206 / 8: 555 - 556، وفهارس اللغة (حسن) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 274 جاء بها = (ومن جاء بالسيئة) ، يقول: ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدِّين الحقّ والكفر بالله، فلا يجزى إلا ما ساءه من الجزاء، كما وافى الله به من عمله السيئ (1) = (وهم لا يظلمون) ، يقول: ولا يظلم الله الفريقين، لا فريق الإحسان، ولا فريق الإساءة، بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان، ولكنه يجازي كلا الفريقين من الجزاء ما هو له، لأنه جل ثناؤه حكيمٌ لا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يستحق أن يضعه فيه، ولا يجازي أحدًا إلا بما يستحقّ من الجزاء. * * * وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"الظلم"، وضع الشيء في غير موضعه، بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع. (2) * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما ذكرت، من أن معنى"الحسنة" في هذا الموضع: الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتصديق برسوله ="والسيئة" فيه: الشرك به، والتكذيب لرسوله = أفللإيمان أمثال فيجازى بها المؤمن؟ (3) وإن كان له مثل، فكيف يجازى به، و"الإيمان"، إنما هو عندك قول وعمل، والجزاء من الله لعباده عليه الكرامة في الآخرة، والإنعام عليه بما أعدّ لأهل كرامته من النعيم في دار الخلود، وذلك أعيان ترى وتعاين وتحسّ ويلتذّ بها، لا قول يسمع، ولا كسبُ جوارح؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه، وإنما معناه: من جاء بالحسنة فوافَى الله بها له مطيعًا، فإن له من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها. فإن قال: قلت فهل لقول"لا إله إلا الله" من الحسنات مثل؟   (1) انظر تفسير ((السيئة)) فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) . (2) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . (3) في المطبوعة: ((فللإيمان)) بغير همزة الاستفهام، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 275 قيل: له مثل هو غيره، [ولكن له مثل هو قول لا إله إلا الله] ، (1) وذلك هو الذي وعد الله جل ثناؤه من أتاه به أن يجازيه عليه من الثواب بمثل عشرة أضعاف ما يستحقه قائله. وكذلك ذلك فيمن جاء بالسيئة التي هي الشرك، إلا أنه لا يجازى صاحبها عليها إلا ما يستحقه عليها من غير إضعافه عليه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14271- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ، قال رجل من القوم: فإنّ"لا إله إلا الله" حسنة؟ قال: نعم، أفضل الحسنات. 14272- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش والحسن بن عبيد الله، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله: (من جاء بالحسنة) ، لا إله إلا الله. 14273- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الأعمش والحسن بن عبيد الله، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله قال: (من جاء بالحسنة) ، قال: من جاء بلا إله إلا الله. قال: (ومن جاء بالسيئة) ، قال: الشرك. 14274- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن الحسن بن عبيد الله، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله: (من   (1) هذه العبارة التي بين القوسين، هكذا جاءت في المخطوطة، وغيرها ناشر المطبوعة الأولى فكتب: ((وليس له مثل هو قول لا إله إلا الله)) ، ولا أدري ما معنى هذا التعبير. وعبارة المخطوطة غير مفهومة، وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء، فأودعتها بين القوسين لكي يتوقف عندها قارئها، عسى أن يتبين له ما لم يتبين لي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 276 جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله. 14275- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاوية بن عمرو المعنَّى، عن زائدة، عن عاصم، عن شقيق: (من جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص = (ومن جاء بالسيئة) ، قال: الشرك. (1) 14276- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد= وعن عثمان بن الأسود، عن مجاهد والقاسم بن أبي بزة: (من جاء بالحسنة) ، قالوا: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص = (ومن جاء بالسيئة) ، قالوا: بالشرك وبالكفر. 14277- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء: (من جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله = (ومن جاء بالسيئة) ، قال: الشرك. 14278- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ، قال: لا إله إلا الله. 14279- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي المحجل، عن إبراهيم: (من جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله = (ومن جاء بالسيئة) ، قال: الشرك. (2) 14280- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن أبي المحجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم، مثله. 14281- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي المحجل، عن إبراهيم، مثله.   (1) الأثر: 14275 - ((معاوية بن عمرو المعنى، الأزدي)) ، ثقة مضى برقم: 4074. (2) الآثار: 14279 - 14282 - ((أبو المحجل)) ، هكذا في المطبوعة، وهو في المخطوطة غير منقوط، لم أعرف من يكون، ولم أجد له ذكرًا، ولا تبين لي وجه في تحريفه!! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 277 14282- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أبي المحجل، عن أبي معشر قال: كان إبراهيم يحلف بالله ما يستثني: أنّ (من جاء بالحسنة) ، لا إله إلا الله = (ومن جاء بالسيئة) ، من جاء بالشرك. 14283- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء، في قوله: (من جاء بالحسنة) ، قال: كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله = (ومن جاء بالسيئة) قال: بالشرك. 14284- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = وحدثنا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم = جميعًا، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح: (من جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله = (ومن جاء بالسيئة) ، قال: الشرك. 14285- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن عثمان بن الأسود، عن القاسم بن أبي بزة: (من جاء بالحسنة) ، قال: كلمة الإخلاص = (ومن جاء بالسيئة) ، قال: الكفر. 14286- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: (من جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله. 14287- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن أشعث، عن الحسن: (من جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله. 14288- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: (من جاء بالحسنة) ، قال: لا إله إلا الله. 14289- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله. 14290- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (من جاء بالحسنة) ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 278 يقول: من جاء بلا إله إلا الله = (ومن جاء بالسيئة) ، قال: الشرك. 14291- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الأعمال ستة: مُوجِبة ومُوجِبة، ومُضْعِفة ومُضْعِفة، ومِثْل ومِثْل. فأما الموجبتان: فمن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقي الله مشركًا به دخل النار. وأما المضعف والمضعف: فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمئة ضعف، ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها. وأما مثل ومثل: فإذا همّ العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإذا هم بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيئة. 14292- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش، عن شمر بن عطية، عن شيخ من التيم، عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، علمني عملا يقرِّبني إلى الجنة ويباعدني من النار. قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة، فإنها عشر أمثالها. قال: قلت: يا رسول الله،"لا إله إلا الله" من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات. (1) * * * وقال قوم: عني بهذه الآية الأعراب، فأما المهاجرون فإن حسناتهم سبعمئة ضعف أو أكثر. * ذكر من قال ذلك: 14293- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري في قوله:   (1) الأثر: 14292 - ((شمر بن عطية الأسدي الكاهلي)) ، ثقة، مضى برقم 11545. وهذا خبر ضعيف، لجهالة ((شيخ من التيم)) . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 64، ونسبة إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. ولم ينسبه إلى الطبري. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 279 (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ، قال: هذه للأعراب، وللمهاجرين سبعمئة. (1) 14294- حدثنا محمد أبو نشيط بن هارون الحربي قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن عبد الله بن عمر قال: نزلت هذه الآية في الأعراب: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ، قال: قال رجل: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أعظم من ذلك: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) ، [سورة النساء: 40] وإذا قال الله لشيء:"عظيم"، فهو عظيم. (2) 14295- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع قال: نزلت هذه الآية: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ، وهم يصومون ثلاثة أيام من الشهر، ويؤدّون عشر أموالهم. ثم نزلت الفرائض بعد ذلك: صوم رمضان والزكاة. * * * فإن قال قائل: وكيف قيل"عشر أمثالها"، فأضيف"العشر" إلى"الأمثال"، وهي"الأمثال"؟ وهل يضاف الشيء إلى نفسه؟   (1) الأثر: 14293 - ((أبو الصديق الناجي)) هو ((بكر بن عمرو)) وقيل: ((بكر ابن قيس)) ، ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب. وهذا إسناد صحيح. (2) الأثر: 14294 - ((محمد بن هارون الحربي)) ، ((أبو نشيط)) ، شيخ الطبري، مضى برقم: 9511، 10371، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: ((محمد بن نشيط بن هارون الحربي)) ، وهو خطأ محض تبين من رواية الأثر فيما سلف. و ((يحيى بن أبي بكير الأسدي)) ، مضى مرارًا، آخرها رقم: 7544، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا ((يحيى بن أبي بكر)) ، وهو خطأ. وقد سلف هذا الخبر وتخريجه برقم: 9511، وأنه إسناد ضعيف من أجل ((عطية العوفي)) .ووقع في إسناد الخبر هناك خطأ: ((عن عبد الله بن عمير)) ، وهو خطأ في الطباعة صوابه ((عن عبد الله بن عمر)) ، فليصح. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 قيل: أضيفت إليها لأنه مرادٌ بها: فله عشر حسنات أمثالها، فـ"الأمثال" حلّت محل المفسّر، وأضيف"العشر" إليها، كما يقال:"عندي عشر نسوة"، فلأنه أريد بالأمثال مقامها، فقيل:"عشر أمثالها"، فأخرج"العشر" مخرج عدد الحسنات، (1) و"المثل" مذكر لا مؤنث، ولكنها لما وضعت موضع الحسنات، (2) وكان"المثل" يقع للمذكر والمؤنث، فجعلت خلفًا منها، فعل بها ما ذكرت. ومَنْ قال:"عندي عشر أمثالها"، لم يقل:"عندي عشر صالحات"، لأن"الصالحات" فعل لا يعدّ، وإنما تعدّ الأسماء. و"المثل" اسم، ولذلك جاز العدد به. * * * وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك:"فَلَهُ عَشْرٌ" بالتنوين،"أَمْثَالُهَا" بالرفع. وذلك على وجه صحيح في العربية، غير أن القرأة في الأمصار على خلافها، فلا نستجيز خلافها فيما هي عليه مُجْمِعة. (3) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنامَ = (إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) ، يقول: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، هو دين الله الذي   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((عدد الآيات)) ، وبين أنه ((عدد الحسنات)) ، ولا ذكر للآيات في هذا الموضع. (2) وكان هنا أيضًا في المخطوطة والمطبوعة: ((موضع الآيات)) ، والصواب ما أثبت. (3) في المطبوعة: ((مجتمعة)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 281 ابتعثه به، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له (1) = (دينًا قيمًا) ، يقول: مستقيمًا = (ملة إبراهيم) ، يقول: دين إبراهيم (2) = (حنيفًا) يقول: مستقيمًا = (وما كان من المشركين) ، يقول: وما كان من المشركين بالله، يعني إبراهيم صلوات الله عليه، لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (دينًا قيمًا) . فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض البصريين:"دِينًا قَيِّمًا" بفتح"القاف" وتشديد"الياء"، إلحاقًا منهم ذلك بقول الله: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة التوبة: 36 / سورة يوسف: 40 / سورة الروم: 30] . وبقوله: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [سورة البينة: 5] . * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (دِينًا قِيَمًا) بكسر"القاف" وفتح"الياء" وتخفيفها. وقالوا:"القيِّم" و"القِيَم" بمعنى واحد، وهم لغتان معناهما: الدين المستقيم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار، متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيبٌ، غير أن فتح"القاف" وتشديد"الياء" أعجب إليّ، لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما. * * * ونصب قوله: (دينًا) على المصدر من معنى قوله: (إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) ، وذلك أن المعنى: هداني ربي إلى دين قويم، فاهتديت له"دينا قيما"= فالدين منصوب من المحذوف الذي هو"اهتديت"، الذي ناب عنه قوله: (إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) . * * *   (1) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . = وتفسير ((صراط مستقيم)) فيما سلف ص: 288، تعليق 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الملة)) فيما سلف 2: 563 / 3: 104 / 9: 250. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 282 وقال بعض نحويي البصرة: إنما نصب ذلك، لأنه لما قال: (هداني ربي إلى صراط مستقيم) ، قد أخبر أنه عرف شيئًا، فقال:"دينًا قيمًا"، كأنه قال: عرفت دينًا قيما ملّة إبراهيم. * * * وأما معنى الحنيف، فقد بينته في مكانه في"سورة البقرة" بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، الذين يسألونك أن تتبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان = (إن صلاتي ونسكي) ، يقول: وذبحي (2) = (ومحياي) ، يقول: وحياتي = (ومماتي) يقول: ووفاتي = (لله رب العالمين) ، يعني: أن ذلك كله له خالصًا دون ما أشركتم به، أيها المشركون، من الأوثان = (لا شريك له) في شيء من ذلك من خلقه، ولا لشيء منهم فيه نصيب، لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصًا = (وبذلك أمرت) ، يقول: وبذلك أمرني ربي = (وأنا أول المسلمين) ، يقول: وأنا أوّل من أقرَّ وأذْعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك. (3) * * *   (1) انظر تفسير ((الحنيف)) فيما سلف 3: 104 - 108 / 6: 494 / 9: 250، 251 / 11: 487. (2) انظر تفسير ((النسك)) فيما سلف 3: 77 - 80 / 4: 86، 195. (3) انظر تفسير ((الإسلام)) فيما سلف من فهارس اللغة (سلم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 283 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال:"النسك"، في هذا الموضع، الذبح. 14296- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (إن صلاتي ونسكي) ، قال:"النسك"، الذبائح في الحج والعمرة. 14297- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ونسكي) ، ذبحي في الحج والعمرة. (1) 14298- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ونسكي) ، ذبيحتي في الحج والعمرة. 14299- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، وليس بابن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، في قوله: (صلاتي ونسكي) ، قال: ذبحي. 14300- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير في قوله: (صلاتي ونسكي) ، قال: ذبحي. (2) 14301- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير= قال ابن مهدي: لا أدري من"إسماعيل" هذا! = (صلاتي ونسكي) ، قال: صلاتي وذبيحتي. 14302- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، في قوله:   (1) في المطبوعة: ((ذبيحتي)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: ((ذبيحتي)) ، غير ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 284 (صلاتي ونسكي) ، قال: وذبيحتي. (1) 14303- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ونسكي) ، قال: ذبحي. 14304- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (ونسكي) ، قال: ذبيحتي. 14305- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (صلاتي ونسكي) ، قال:"الصلاة"، الصلاة، و"النسك"، الذبح. * * * وأما قوله: (وأنا أوّل المسلمين) ، فإن:- 14306- محمد بن عبد الأعلى حدثنا قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وأنا أول المسلمين) ، قال: أول المسلمين من هذه الأمة. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، الداعيك إلى عبادة الأصنام واتباع خطوات الشيطان = (أغير الله أبغي ربًّا) ، يقول: أسوى الله أطلب سيدًا يسودني؟ (2) = (وهو   (1) الآثار: 14299 - 14302 - ((إسماعيل)) ، الذي روى عنه ((سفيان الثوري)) ، وروى هو ((سعيد بن جبير)) ، والذي جاء في الخبر الأول أنه ((ليس بابن أبي خالد)) ، وفي رقم: 14302 ((إسماعيل بن أبي خالد)) مصرحًا به، والذي جهله ((ابن مهدي)) في رقم: 14301، لم أجد من أشار إليه، إلا أني وجدت في أسماء الرواة عن ((سعيد بن جبير)) : ((إسماعيل بن مسلم)) ، مولى بني مخزوم، سمع منه وكيع، وابن المبارك وعمرو العنقزي، مترجم في الكبير 1 / 1 / 372، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 197، فلا أدري أهو هو، أم هو غيره. (2) انظر تفسير ((بغي)) فيما سلف 11: 337، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 285 رب كل شيء) ، يقول: وهو سيد كل شيء دونه ومدبّره ومصلحه (1) = (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) ، يقول: ولا تجترح نفس إثمًا إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى، وركبت من الخطيئة، سواها، بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه (2) = (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها، ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها. وإنما يعني بذلك المشركين الذين أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم. يقول: قل لهم: إنا لسنا مأخوذين بآثامكم، وعليكم عقوبة إجرامكم، ولنا جزاء أعمالنا. وهذا كما أمره الله جل ثناؤه في موضع آخر أن يقول لهم: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [سورة الكافرون:6] ، وذلك كما:- 14307- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كان في ذلك الزمان، لا مخرج للعلماء العابدين إلا إحدى خَلَّتين: إحداهما أفضل من صاحبتها. إمَّا أمرٌ ودعاء إلى الحق، أو الاعتزال = فلا تشارك أهل الباطل في عملهم، وتؤدي الفرائض فيما بينك وبين ربك، وتحبّ لله وتبغض لله، ولا تشارك أحدًا في إثم. قال: وقد أنزل في ذلك آية محكمة: (قل أغير الله أبغي ربًا وهو رب كل شيء) ، إلى قوله: (فيه تختلفون) ، وفي ذلك قال: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [سورة البينة: 4] . * * * يقال من"الوزر""وزَر يَزِر"،"و"وزَرَ يَوْزَر"، و"وُزِرَ يُؤزر، فهو موزور". (3) * * *   (1) انظر تفسير ((الرب)) فيما سلف 1: 142. (2) انظر تفسير ((كسب)) فيما سلف صلى الله عليه وسلم: 266، تعليق 2، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((وزر يوزر فهو وزير، ووزر يوزر فهو موزور)) ، غير ما في المخطوطة، وحذف وزاد من عند نفسه، وعذره في ذلك سوء كتابة ناسخ المخطوطة، وصواب قراءة ما فيها ما أثبت. وهو المطابق لنص كتب اللغة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان: كل عامل منا ومنكم فله ثواب عمله، وعليه وزره، فاعملوا ما أنتم عاملوه - (ثم إلى ربكم) ، أيها الناس = (مرجعكم) ، يقول: ثم إليه مصيركم ومنقلبكم (1) = (فينبئكم بما كنتم فيه) ، في الدنيا، (تختلفون) من الأديان والملل، (2) إذ كان بعضكم يدين باليهودية، وبعضٌ بالنصرانية، وبعض بالمجوسية، وبعض بعبادة الأصنام وادِّعاء الشركاء مع الله والأنداد، ثم يجازي جميعَكم بما كان يعمل في الدنيا من خير أو شر، فتعلموا حينئذ من المحسنُ منَّا والمسيء. * * * القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله الذي جعلكم، أيها الناس، (خلائفَ الأرض) ، بأن أهلك مَنْ كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، واستخلفكم، فجعلكم خلائف منهم في الأرض،   (1) انظر تفسير ((المرجع)) فيما سلف ص: 37، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((النبأ)) فيما سلف ص: 274، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 287 تخلفونهم فيها، وتعمرُونها بعدَهم. * * * و"الخلائف" جمع"خليفة"، كما"الوصائف" جمع"وصيفة"، وهي من قول القائل:"خَلَف فلان فلانًا في داره يخلُفه خِلافة، فهو خليفة فيها"، (1) كما قال الشماخ: تُصِيبُهُمُ وَتُخْطِئُنِي المَنَايا ... وَأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ (2) وذلك كما:- 14308- حدثني الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) ، قال: أما"خلائف الأرض"، فأهلك القرون واستخلفنا فيها بعدهم. * * * وأما قوله: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) ، فإنه يقول: وخالف بين أحوالكم، فجعل بعضكم فوق بعض، بأن رفع هذا على هذا، بما بسط لهذا من الرزق ففضّله بما أعطاه من المال والغِنى، على هذا الفقير فيما خوَّله من أسباب الدنيا، وهذا على هذا بما أعطاه من الأيْد والقوة على هذا الضعيف الواهن القُوى، فخالف   (1) انظر تفسير ((الخليفة)) فيما سلف 1: 449 - 453. (2) ديوانه 58، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 209، واللسان (ربع) ، من قصيدته التي قالها لامرأته عائشة، وكانت تلومه على طول تعهده ماله، أولها: أَعَائِشَ، مَا لِقَوْمِكِ لا أَرَاهُمْ ... يُضِيعُونَ الهِجَانَ مَعَ المُضِيعِ يقول: لها تلوميني على إصلاح مالي، فمالي أرى قومك يقترون على أنفسهم، ولا يهلكون أموالهم في الكرم والسخاء؟ ثم يقول لها بعد أبيات: لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ، أَعَفُّ مِنَ القُنُوعِ و ((القنوع)) ، السؤال. وقوله: ((وأخلف في ربوع ... )) ، ((الربوع)) جمع ((ربع وهو جماعة الناس الذين ينزلون ((ربعا)) يسكنونه، يقول: أبقي في قوم بعد قوم. وعندي أن هذا البيت قلق في قصيدة الشماخ، سقط قبله شيء من شعره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا. (1) وذلك كالذي:- 14309- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) ، يقول: في الرزق. * * * وأما قوله: (ليبلوكم فيما آتاكم) ، فإنه يعني: ليختبركم فيما خوَّلكم من فضله ومنحكم من رزقه، (2) فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه، والعاصي؛ ومن المؤدِّي مما آتاه الحق الذي أمره بأدائه منه، والمفرِّط في أدائه. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"إن ربك"، يا محمد، لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه، وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه، ولمن ابتلى منه فيما منحه من فضله وطَوْله، تولِّيًا وإدبارًا عنه، مع إنعامه عليه، وتمكينه إياه في الأرض، كما فعل بالقرون السالفة = (وإنه لغفور) ، يقول: وإنه لساتر ذنوبَ مَنْ ابتلى منه إقبالا إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة، واختباره إياه بأمره ونهيه، فمغطٍّ عليه فيها، وتارك فضيحته بها في موقف الحساب   (1) انظر تفسير ((الدرجة)) فيما سلف ص: 25، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الابتلاء)) فيما سلف 10: 582، تعليق: 1 والمراجع هناك. = تفسير ((الإيتاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 289 = (رحيم) بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه، إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه. (1) * * * آخر تفسير سورة الأنعام * * *   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. * * * عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلته عنه نسختنا، وفيها ما نصه: ((آخر تفسير سورة الأنعام والحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله يتلوه تفسير السورة التي يذكر فيها الأعراف)) . ثم يتلوه ما نصه: ((بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر تفسير السورة التي يذكر فيها الأعراف)) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 تفسير سورة الأعراف تفسير السورة التي يذكر فيها الأعراف بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤه {المص (1) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قول الله تعالى ذكره: (المص) . فقال بعضهم: معناه: أنا الله أفضل. * ذكر من قال ذلك: 14310- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس: (المص) ، أنا الله أفضل. 14311- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عمار بن محمد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير في قوله: (المص) ، أنا الله أفضل. * * * وقال آخرون: هو هجاء حروف اسم الله تبارك وتعالى الذي هو"المصوّر". * ذكر من قال ذلك: 14312- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (المص) ، قال: هي هجاء"المصوّر". * * * وقال آخرون: هي اسم من أسماء الله، أقسم ربنا به. * ذكر من قال ذلك: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 14313- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (المص) ، قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله. * * * وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك: 14314- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (المص) ، قال: اسم من أسماء القرآن. 14315- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. * * * وقال آخرون: هي حروف هجاء مقطّعة. * * * وقال آخرون: هي من حساب الجمَّل. * * * وقال آخرون: هي حروف تحوي معاني كثيرة، دلّ الله بها خلقه على مراده من ذلك. * * * وقال آخرون: هي حروف اسم الله الأعظم. * * * وقد ذكرنا كل ذلك بالرواية فيه، وتعليل كلّ فريق قال فيه قولا. وما الصواب من القول عندنا في ذلك، بشواهده وأدلته فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 205 - 224. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 368 - 370. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 القول في تأويل قول الله تعالى ذكره {كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: هذا القرآن، يا محمد، كتاب أنزله الله إليك. * * * ورفع"الكتاب" بتأويل: هذا كتابٌ. * * * القول في تأويل قوله: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا يضق صدرك، يا محمد، من الإنذار به مَنْ أرسلتك لإنذاره به، وإبلاغه مَنْ أمرتك بإبلاغه إياه، ولا تشك في أنه من عندي، واصبر للمضيّ لأمر الله واتباع طاعته فيما كلفك وحملك من عبء أثقال النبوة، (1) كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الله معك. * * * و"الحرج"، هو الضيق، في كلام العرب، وقد بينا معنى ذلك بشواهده وأدلته في قوله: (ضَيِّقًا حَرَجًا) [سورة الأنعام: 125] ، بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وقال أهل التأويل في ذلك ما:- 14316- حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) ، قال: لا تكن في شك منه.   (1) في المطبوعة: ((واصبر بالمضي لأمر الله)) ، وغير ما في المخطوطة بلا طائل. (2) انظر ما سلف ص: 103 - 107. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 295 14317- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) ، قال: شك. 14318- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14319- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (فلا يكن في صدرك حرج منه) ، شك منه. 14320- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله. 14321- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فلا يكن في صدرك حرج منه) ، قال: أما"الحرج"، فشك. 14322- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) ، قال: شك من القرآن. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكرته من التأويل عن أهل التأويل، هو معنى ما قلنا في"الحرج"، لأن الشك فيه لا يكون إلا من ضيق الصدر به، وقلة الاتساع لتوجيهه وجهته التي هي وجهته الصحيحة. وإنما اخترنا العبارة عنه بمعنى"الضيق"، لأن ذلك هو الغالب عليه من معناه في كلام العرب، كما قد بيناه قبل. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 296 القول في تأويل قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) } قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: هذا كتاب أنزلناه إليك، يا محمد، لتنذر به من أمرتك بإنذاره، (وذكرى للمؤمنين) = وهو من المؤخر الذي معناه التقديم. ومعناه: "كتاب أنزل إليك لتنذر به"، و"ذكرى للمؤمنين"،"فلا يكن في صدرك حرج منه". وإذا كان ذلك معناه، كان موضع قوله: (وذكرى) نصبًا، بمعنى: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر به، وتذكر به المؤمنين. * * * ولو قيل معنى ذلك: هذا كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، أن تنذر به، وتذكّر به المؤمنين = كان قولا غير مدفوعة صحته. وإذا وُجِّه معنى الكلام إلى هذا الوجه، كان في قوله: (وذكرى) من الإعراب وجهان: أحدهما: النصب بالردّ على موضع"لتنذر به". والآخر: الرفع، عطفًا على"الكتاب"، كأنه قيل:"المص كتاب أنزل إليك"، و"ذكرى للمؤمنين". (1) * * * القول في تأويل قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (3) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك الذين يعبدون الأوثان والأصنام: اتبعوا، أيها   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 370. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 297 الناس، ما جاءكم من عند ربكم بالبينات والهدى، واعملوا بما أمركم به ربكم، ولا تتبعوا شيئًا من دونه = يعني: شيئًا غير ما أنزل إليكم ربكم. يقول: لا تتبعوا أمر أوليائكم الذين يأمرونكم بالشرك بالله وعبادة الأوثان، فإنهم يضلونكم ولا يهدونكم. * * * فإن قال قائل: وكيف قلت:"معنى الكلام: قل اتبعوا"، وليس في الكلام موجودًا ذكرُ القول؟ قيل: إنه وإن لم يكن مذكورًا صريحًا، فإن في الكلام دلالة عليه، وذلك قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به) ، ففي قوله:"لتنذر به"، الأمر بالإنذار، وفي الأمر بالإنذار، الأمرُ بالقول، لأن الإنذار قول. فكأن معنى الكلام: أنذر القومَ وقل لهم: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم. ولو قيل معناه: لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم: اتبعوا ما أنزل إليكم = كان غير مدفوع. * * * وقد كان بعض أهل العربية يقول: قوله: (اتبعوا) ، خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعناه: كتاب أنزل إليك، فلا يكن في صدرك حرج منه، اتبع ما أنزل إليك من ربك = ويرى أن ذلك نظير قول الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [سورة الطلاق: 1] ، إذ ابتدأ خطابَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جعل الفعل للجميع، إذ كان أمر الله نبيه بأمرٍ، أمرًا منه لجميع أمته، كما يقال للرجل يُفْرَد بالخطاب والمراد به هو وجماعة أتباعه أو عشيرته وقبيلته:"أما تتقون الله، أما تستحيون من الله! "، ونحو ذلك من الكلام. (1) وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع، فالقولُ الذي اخترناه أولى بمعنى الكلام،   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 371، فهذه مقالته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 298 لدلالة الظاهر الذي وصفنا عليه. * * * وقوله: (قليلا ما تذكرون) ، يقول: قليلا ما تتعظون وتعتبرون فتراجعون الحق. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: حذّر هؤلاء العابدين غيري، والعادلين بي الآلهة والأوثان، سَخَطي لا أُحِلّ بهم عقوبتي فأهلكهم، (2) كما أهلكت من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم، فكثيرًا ما أهلكت قبلهم من أهل قرى عصوني وكذَّبوا رسلي وعبدوا غيري (3) = (فجاءها بأسنا بياتًا) ، يقول: فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلا قبل أن يصبحوا (4) = أو جاءتهم"قائلين"، يعني: نهارًا في وقت القائلة. * * * وقيل:"وكم" لأن المراد بالكلام ما وصفت من الخبر عن كثرة ما قد أصاب الأمم السالفة من المَثُلاث، بتكذيبهم رسلَه وخلافهم عليه. وكذلك تفعل العرب إذا أرادوا الخبر عن كثرة العدد، كما قال الفرزدق:   (1) انظر تفسير ((التذكر)) فيما سلف 11: 489، تعليق 3، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((لأحل بهم عقوبتي)) ، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) انظر تفسير ((كم)) فيما سلف 5: 352: = تفسير ((القرية)) فيما سلف 8: 543. = وتفسير ((الإهلاك)) فيما سلف: 11: 316، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير ((البأس)) فيما سلف ص: 207، تعليق 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((البيات)) فيما سلف 8: 562، 563 /9: 191، 192. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 299 كَمْ عَمةٍ لَكَ يا جَرِيرُ وَخَالَةٍ ... فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي (1) * * * فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه"أهلك قرًى"، فما في خبره عن إهلاكه"القرى" من الدليل على إهلاكه أهلها؟ قيل: إن"القرى" لا تسمى"قرى" ولا"القرية""قرية"، إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم، ففي إهلاكها إهلاك مَنْ فيها من أهلها. * * * وقد كان بعض أهل العربية يرى أن الكلام خرج مخرج الخبر عن"القرية"، والمراد به أهلها. * * * قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالحق، لموافقته ظاهر التنزيل المتلوّ. * * * فإن قال قائل: وكيف قيل: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون) ؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: "أهلكناها فجاءها"؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم؟ قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه: أحدهما: أن يكون معناه:"وكم من قرية أهلكناها"، بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنزلنا إليها من البينات والهدى، واختيارها اتباع أمر أوليائها المُغْوِيتِهَا عن طاعة ربها (2) = "فجاءها بأسنا" إذ فعلت ذلك ="بياتا أو هم قائلون"، فيكون"إهلاك الله إياها"، خذلانه لها عن طاعته، ويكون"مجيء بأس الله إياهم"، جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم.   (1) ديوانه: 451، والنقائض: 332، وقد سلف هذا البيت وشرحه في تخريج بيت آخر من القصيدة 9: 495، 496، تعليق: 1. (2) في المطبوعة: ((المغويها)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 300 والآخر منهما: أن يكون"الإهلاك" هو"البأس" بعينه، فيكون في ذكر"الإهلاك" الدلالةُ على ذكر"مجيء البأس"، وفي ذكر"مجيء البأس" الدلالة على ذكر"الإهلاك". وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك. وذلك كقولهم:"زرتني فأكرمتني"، إذ كانت "الزيارة" هي"الكرامة"، فسواء عندهم قدم"الزيارة" وأخر"الكرامة"، أو قدم"الكرامة" وأخر"الزيارة" فقال:"أكرمتني فزرتني". (1) * * * وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفًا، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحًا = وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا. (2) وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنزيل، ولا من خبر يجب التسليم له. وإذا خلا القولُ من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجبُ التسليم لها، كان بيّنًا فساده. * * * وقال آخر منهم أيضًا: معنى"الفاء" في هذا الموضع معنى"الواو". وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية أهلكناها، وجاءها بأسنا بياتًا. وهذا قول لا معنى له، إذ كان لـ"الفاء" عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام، فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم، ما وجد إلى ذلك سبيل، أولى من صرفها إلى غيره. * * * فإن قال: وكيف قيل: (فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون) ، وقد علمت أن الأغلب من شأن"أو" في الكلام، اجتلابُ الشك، وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 371. (2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 371، قال: ((وإن شئت كان المعنى: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء البأس قبل الإهلاك، فأضمرت كان.)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 قيل: إن تأويل ذلك خلافُ ما إليه ذهبتَ. وإنما معنى الكلام: وكم من قرية أهلكناها فجاء بعضها بأسنا بياتًا، وبعضها وهم قائلون. ولو جعل مكان"أو" في هذا الموضع"الواو"، لكان الكلام كالمحال، ولصار الأغلب من معنى الكلام: أن القرية التي أهلكها الله جاءها بأسه بياتًا وفي وقت القائلة. وذلك خبرٌ عن البأس أنه أهلك من قد هلك، وأفنى من قد فني. وذلك من الكلام خَلْفٌ. (1) ولكن الصحيح من الكلام هو ما جاء به التنزيل، إذ لم يفصل القرى التي جاءها البأس بياتًا، من القرى التي جاءها ذلك قائلةً. ولو فُصلت، لم يخبر عنها إلا بالواو. وقيل:"فجاءها بأسنا" خبرًا عن"القرية" أن البأس أتاها، وأجرى الكلام على ما ابتدئ به في أول الآية. ولو قيل:"فجاءهم بأسنا بياتًا"، لكان صحيحًا فصيحًا، ردًّا للكلام إلى معناه، إذ كان البأس إنما قصد به سكان القرية دون بنيانها، وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب، نحوٌ من الذي نال سكانها. وقد رجع في قوله: (أو هم قائلون) ، إلى خصوص الخبر عن سكانها دون مساكنها، لما وصفنا من أن المقصود بالبأس كان السكان، وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها. (2) ولو قيل:"أو هي قائلة"، كان صحيحًا، إذ كان السامعون قد فهموا المراد من الكلام. * * * فإن قال قائل: أو ليس قوله: (أو هم قائلون) ، خبرًا عن الوقت الذي أتاهم فيه بأس الله من النهار؟ قيل: بلى!   (1) ((خلف)) (بفتح فسكون) . يقال: ((هذا خلف من القول)) ، أي: رديء ساقط ومنه المثل: ((سكت ألفًا، ونطق خلفًا)) . (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 371. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 302 فإن قال: أو ليس المواقيت في مثل هذا تكون في كلام العرب بالواو الدالِّ على الوقت؟ قيل: إن ذلك، وإن كان كذلك، فإنهم قد يحذفون من مثل هذا الموضع، استثقالا للجمع بين حرفي عطف، إذ كان"أو" عندهم من حروف العطف، (1) وكذلك"الواو"، فيقولون:"لقيتني مملقًا أو أنا مسافر"، بمعنى: أو وأنا مسافر، فيحذفون"الواو" وهم مريدوها في الكلام، لما وصفت. (2) * * * القول في تأويل قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها، إذ جاءهم بأسنا وسطوتُنا بياتًا أو هم قائلون، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين، وبربهم آثمين، ولأمره ونهيه مخالفين. (3) * * * وعنى بقوله جل ثناؤه: (دعواهم) ، في هذا الموضع دعاءَهم. * * * ولـ"الدعوى"، في كلام العرب، وجهان: أحدهما: الدعاء، والآخر: الادعاء للحق. ومن"الدعوى" التي معناها الدعاء، قول الله تبارك وتعالى: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ) [سورة الأنبياء: 15] ، ومنه قول الشاعر: (4)   (1) في المخطوطة: ((إذ كان وعندهم من حروف العطف)) بياض، وفوق البياض (كذا) ، وفي الهامش حرف (ط) . والذي في المطبوعة شبيه بالصواب. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 372. (3) انظر بيان قول ((بربهم آثمين)) فيما سلف ص: 171، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) كثير عزة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 303 وَإِنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفِي ... بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَيَهُونُ (1) * * * وقد بينا فيما مضى قبل أن"البأس" و"البأساء" الشدة، بشواهد ذلك الدالة على صحته، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * وفي هذه الآية الدلالةُ الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم". * * * وقد تأوّل ذلك كذلك بعضهم. 14323- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزرَّاد قال، قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله: ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم - قال قلت لعبد الملك: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا) ، الآية (3) . * * * فإن قال قائل: وكيف قيل: (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) ؟ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك، وقد جاءهم بأس الله بالهلاك؟ أقالوا ذلك قبل الهلاك؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك، فإنهم قالوا قبل   (1) ديوانه 2: 245، في باب الزيادات، نهاية الأرب 2: 125، واللسان (مذل) . ((مذلت رجله (بفتح وسكون) ومذلا (بفتحتين) : خدرت، كانوا يزعمون أن المرء إذا خدرت رجله ثم دعا باسم مَنْ أحب، زال خدرها. (2) انظر تفسير ((البأس)) فيما سلف ص: 299، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) الأثر: 14323 - ((عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد)) ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 503، 504، 1326، مات في العشر الثاني من المئة الثانية. لم يدرك ابن مسعود ولا غيره من الصحابة. فإسناده منقطع. وهذا الخبر ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 448، عن الطبري ولم يخرجه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 67، ولم ينسبه إلى غير ابن أبي حاتم. ((أعذر من نفسه)) ، إذا أمكن معاقبة بذنبه منها. يعني: أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم، فيعذروا من أنفسهم، ويستوجبوا العقوبة، ويكون لمن يعذبهم عذر في إلحاق العذاب بهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 304 مجيء البأس، والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم، لا قبل ذلك؟ أو قالوه بعد ما جاءهم، فتلك حالة قد هلكوا فيها، فكيف يجوز وصفهم بقيل ذلك إذا عاينوا بأس الله، وحقيقة ما كانت الرسل تَعِدهم من سطوة الله؟. (1) قيل: ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوّله وآخره مَهَلٌ، بل كان منهم من غرق بالطوفان. فكان بين أوّل ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون، وبين آخره الذي عمَّ جميعهم هلاكُه، المدة التي لا خفاء بها على ذي عقل. ومنهم من مُتِّع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أيامًا ثلاثة، كقوم صالح وأشباههم. فحينئذ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به، وأيقنوا حقيقة نزول سطوة الله بهم، دعوا: (يا ويلنا إنا كنا ظالمين) ، فلم يك ينفعهم إيمانهم مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم. فحذّر ربنا جل ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله، ما حلَّ بمن كان قبلهم من الأمم إذ عصوا رُسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد. * * * القول في تأويل قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لنسألن الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي: ماذا عملت فيما جاءتهم به الرسل من عندي من أمري ونهيي؟ هل عملوا بما أمرتهم به، وانتهوا عما نهيتهم عنه، وأطاعوا أمري، أم عصوني فخالفوا ذلك؟ = (ولنسألن   (1) في المخطوطة وصل الكلام هكذا: ((وحقيقة ما كانت الرسل تعدهم من سطوة الله وليس كل الأمم)) ، بالواو، وليس فيها ((قيل)) ، وقد أحسن الناشر الأول فيما فعل، وإن كنت أظن أن في الكلام سقطًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 305 المرسلين) ، يقول: ولنسألن الرسل الذين أرسلتهم إلى الأمم: هل بلغتهم رسالاتي، وأدَّت إليهم ما أمرتهم بأدائه إليهم، أم قصّروا في ذلك ففرَّطوا ولم يبلغوهم؟. * * * وكذلك كان أهل التأويل يتأولونه. * ذكر من قال ذلك: 14324- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) ، قال: يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا. 14325- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم) إلى قوله: (غائبين) ، قال: يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون. 14326- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) ، يقول فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به؟ 14327- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد: (فلنسألن الذين أرسل إليهم) ، الأمم = ولنسألن الذين أرسلنا إليهم عما ائتمناهم عليه: هل بلغوا؟ (1) * * *   (1) الأثر: 14327 - ((أبو سعد المدني)) ، مضى في الأثر رقم: 14322، ولم أعرف من هو، ولم أجد له ترجمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 306 القول في تأويل قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلنخبرن الرسل ومَنْ أرسلتهم إليه بيقين علمٍ بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به، وما كنت نهيتهم عنه (1) ="وما كنا غائبين"، عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها. * * * فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسلَ، والمرسل إليهم، وهو يخبر أنه يقصّ عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟ قيل: إن ذلك منه تعالى ذكره ليس بمسألة استرشاد، ولا مسألة تعرّف منهم ما هو به غير عالم، وإنما هو مسألة توبيخ وتقرير معناها الخبر، كما يقول الرجل للرجل:"ألم أحسن إليك فأسأت؟ "، و"ألم أصلك فقطعت؟ ". فكذلك مسألة الله المرسلَ إليهم، بأن يقول لهم:"ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري"؟ كما أخبر جل ثناؤه أنه قائل لهم يومئذ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) ، [سورة يس: 60-61] ، ونحو ذلك من القول الذي ظاهره ظاهر مسألة، ومعناه الخبر والقصص، وهو بعدُ توبيخ وتقرير. وأما مسألة الرسل الذي هو قصص وخبر، فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: (ألم يأتكم رُسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم) ؟ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا:"ما جاءنا من بشير ولا نذير". فقيل للرسل:"هل بلغتم ما أرسلتم به"؟ أو قيل لهم:"ألم تبلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتم به؟ "، كما جاء الخبر   (1) انظر تفسير ((القصص)) فيما سلف 9: 402 /12: 120 الجزء: 12 ¦ الصفحة: 307 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال جل ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ، [سورة البقرة: 143] . فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم، وللمرسَل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ، وكل ذلك بمعنى القصص والخبر. فأما الذي هو عن الله منفيٌّ من مسألته خلقه، فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها ويعلمه المسؤول، ليعلم السائل علم ذلك من قِبَله، فذلك غير جائز أن يوصف الله به، لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، وهي المسألة التي نفاها جل ثناؤه عن نفسه بقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) ، [سورة الرحمن: 39] ، وبقوله: (وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ، [سورة القصص: 78] ، يعني: لا يسأل عن ذلك أحدًا منهم مستثبت، (1) ليعلم علم ذلك من قبل مَنْ سأل منه، لأنه العالم بذلك كله وبكل شيء غيره. * * * وقد ذكرنا ما روي في معنى ذلك من الخبر في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. (2) * * * وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: (فلنقصن عليهم بعلم) ، أنه ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم. هذا قولٌ غيرُ بعيد من الحق، غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه تَرْجُمان، فيقول له:"أتذكر يوم فعلت كذا وفعلت كذا"؟ حتى   (1) في المطبوعة والمخطوطة: (لا يسأل عن ذلك أحدًا منهم علم مستثبت)) وهو غير مستقيم، والصواب ما أثبت. (2) انظر ما سلف 3: 145 - 154. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 308 يذكره ما فعل في الدنيا (1) = والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره. * * * القول في تأويل قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) } قال أبو جعفر:"الوزن" مصدر من قول القائل:"وزنت كذا وكذا أزِنه وَزْنًا وزِنَةً"، مثل:"وَعدته أعده وعدًا وعدة". وهو مرفوع بـ"الحق"، و"الحق" به. (2) * * * ومعنى الكلام: والوزن يوم نسأل الذين أرسل إليهم والمرسلين، الحق = ويعني بـ"الحق"، العدلَ. * * * وكان مجاهد يقول:"الوزن"، في هذا الموضع، القضاء. 14328- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والوزن يومئذ"، القضاء. * * *   (1) هذا الخبر الذي صححه الطبري، لم أجده بتمامه، ووجدت صدره من رواية ابن خزيمة، عن أبي خالد عبد العزيز بن أبان القرشي، قال: حدثنا بشير بن المهاجر، عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان)) (حادي الأرواح 2: 108، 109) ، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: 346، بلفظ: (ليس منكم من أحد إلا سيكلمه الله عز وجل ... )) ، ثم قال: ((رواه البزار، وفيه عبد العزيز بن أبان، وهو متروك)) . وسيأتي في التعليق على رقم: 14333. وأما الأخبار بمعنى هذا الخبر، فقد جاءت بالأسانيد الصحاح. رواه الترمذي بهذا اللفظ في أبواب صفة القيامة، من حديث عدي بن حاتم، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح)) . (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 373. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 309 وكان يقول أيضًا: معنى"الحق"، هاهنا، العدل. * ذكر الرواية بذلك: 14329- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مجاهد: (والوزن يومئذ الحق) ، قال: العدل. * * * وقال آخرون: معنى قوله: (والوزن يومئذ الحق) ، وزن الأعمال. * ذكر من قال ذلك: 14330- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (والوزن يومئذ الحق) ، توزن الأعمال. 14331- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (والوزن يومئذ الحق) ، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب، فلا يزن جناح بَعُوضة. 14332- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والوزن يومئذ الحق) ، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة. 14333- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يوسف بن صهيب، عن موسى، عن بلال بن يحيى، عن حذيفة قال: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، قال: يا جبريل، زِن بينهم! فردَّ من بعضٍ على بعض. قال: وليس ثم ذهبٌ ولا فضة. قال: فإن كان للظالم حسنات، أخذ من حسناته فترد على المظلوم، (1) وإن لم يكن له حسنات حُمِل عليه من   (1) في المطبوعة أسقط من الكلام ما لا يستقيم إلا به، فرددتها إلى أصلها من المخطوطة. كان في المطبوعة: ((يا جبريل زن بينهم، فرد على المظلوم ... )) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 سيئات صاحبه، فيرجع الرجل عليه مثل الجبال، فذلك قوله: (والوزن يومئذ الحق) . (1) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فمن ثقلت موازينه) . فقال بعضهم: معناه: فمن كثرت حسناته. * ذكر من قال ذلك: 14334- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مجاهد: (فمن ثقلت موازينه) ، قال: حسناته. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثقلت موازينه التي توزن بها حسناته وسيئاته. قالوا: وذلك هو"الميزان" الذي يعرفه الناس، له لسان وكِفَّتان. * ذكر من قال ذلك: 14335- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال لي عمرو بن دينار قوله: (والوزن يومئذ الحق) ، قال: إنا نرى ميزانًا وكفتين، سمعت عبيد بن عمير يقول: يُجْعَل الرجل العظيم الطويل في الميزان، ثم لا يقوم بجناح ذباب. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، القول الذي ذكرناه عن عمرو بن دينار، من أن ذلك هو"الميزان" المعروف الذي يوزن به،   (1) الأثر: 14333 - ((الحارث)) ، هو ((الحارث بن أبي أسامة)) ، ثقة مضى مرارًا. و ((عبد العزيز)) ، هو ((عبد العزيز بن أبان الأموي)) ، كذاب خبيث يضع الأحاديث، مضى ذكره مرارًا، رقم: 10295، 10315، 10360، 10553. ((يوسف بن صهيب الكندي)) ، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 /2 /380، وابن أبي حاتم 4 /2 /224. و ((موسى)) كثير، ولم أستطع أن أعينه. و ((بلال بن يحي العبسي)) ، يروي عن حذيفة. ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 /2 /108، وابن أبي حاتم 1 /1 / 396. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 وأن الله جل ثناؤه يزن أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات، كما قال جل ثناؤه: (فمن ثقلت موازينه) ، موازين عمله الصالح = (فأولئك هم المفلحون) ، يقول: فأولئك هم الذين ظفروا بالنجاح، وأدركوا الفوز بالطلبات، والخلود والبقاء في الجنات، (1) لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"ما وُضِع في الميزان شيء أثقل من حسن الخُلق"، (2) ونحو ذلك من الأخبار التي تحقق أن ذلك ميزانٌ يوزن به الأعمال، على ما وصفت. * * * فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى خبر الله عن الميزان وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وِجْهَته، وقال: أوَ بالله حاجة إلى وزن الأشياء، وهو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه وبعده، وفي كل حال؟ = أو قال: وكيف توزن الأعمال، والأعمال ليست بأجسام توصف بالثقل والخفة، وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها، وكثرتها من قلتها، وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة، والكثرة والقلة؟ قيل له في قوله:"وما وجه وزن الله الأعمالَ، وهو العالم بمقاديرها قبل كونها": وزن ذلك، نظيرُ إثباته إياه في أمِّ الكتاب واستنساخه ذلك في الكتب، من غير حاجة به إليه، ومن غير خوف من نسيانه، وهو العالم بكل ذلك في كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده، بل ليكون ذلك حجة على خلقه، كما قال جل ثناؤه في تنزيله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) [سورة الجاثية: 28-29] الآية. فكذلك   (1) انظر تفسير ((الفلاح)) فيما سلف ص: 130 تعليق: 2 والمراجع هناك. (2) روى الترمذي في سننه في كتاب ((البر والصلة)) باب ((ما جاء في حسن الخلق)) ، عن أبي الدرداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق خسن، فإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء)) ، ثم قال: ((وفي الباب عن عائشة، وأبي هريرة، وأنس، وأسامة بن شريك. هذا حديث حسن صحيح)) . وقال السيوطي في الدر المنثور 3: 71 ((وأخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان واللالكائي، عن أبي الدرداء)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 312 وزنه تعالى أعمال خلقه بالميزان، حجة عليهم ولهم، إما بالتقصير في طاعته والتضييع، وإما بالتكميل والتتميم. (1) * * * وأمّا وجه جواز ذلك، فإنه كما: 14336- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، قال: يُؤْتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان، فيوضع في الكِفّة، فيخرج له تسعة وتسعون سِجِلا فيها خطاياه وذنوبه. قال: ثم يخرج له كتاب مثل الأنْمُلة، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فتوضع في الكِفّة، فترجح بخطاياه وذنوبه. (2) * * *   (1) هذه إحدى حجج أبي جعفر، التي تدل على لطف نظره، ودقة حكمه، وصفاء بيانه، وقدرته على ضبط المعاني ضبطًا لا يختل. فجزاه الله عن كتابه ودينه أحسن الجزاء، يوم توفى كل نفس ما كسبت. (2) الأثر: 14336 - ((موسى بن عبد الرحمن المسروق)) شيخ أبي جعفر، مضى مرارًا، آخرها رقم: 8906. و ((جعفر بن عون بن عمرو بن حريث المخزومي)) ، ثقة، مضى برقم: 9506، 14244. و ((عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي المعافري)) ، هو ((ابن أنعم)) ، ثقة. مضى برقم: 2195، 10180، 11337. و ((عبد الله بن يزيد المعافري)) أبو عبد الرحمن الحبلي المصري، ثقة، مضى برقم: 6657، 9483، 11917. وكان في المطبوعة: ((عن عبد الله بن عمر)) ، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. وهذا خبر صحيح الإسناد. ورواه أحمد في مسنده بغير هذا اللفظ مطولا، في مسند عبد الله بن عمرو رقم: 6994 من طريق الليث بن سعد، عن عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلى = ثم رواه أيضًا رقم: 7066 من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن يحيى (عامر بن يحيى) ، عن أبي عبد الرحمن الحبلى. ورواه من الطريق الأولي عند أحمد ابن ماجه في سننه ص: 1437. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 6 من طريق يونس بن محمد، عن الليث بن سعد، عن عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن المعافري وقال: ((هذا حديث صحيح، لم يخرج في الصحيحين، وهو صحيح على شرط مسلم)) ، ووافقه الذهبي. ثم عاد فرواه في المستدرك أيضًا 1: 529 من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث، مثل إسناده وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 313 فكذلك وزن الله أعمال خلقه، بأن يوضع العبد وكتب حسناته في كفة من كفتي الميزان، وكتب سيئاته في الكفة الأخرى، ويحدث الله تبارك وتعالى ثقلا وخفة في الكفة التي الموزون بها أولى، احتجاجًا من الله بذلك على خلقه، كفعله بكثير منهم: من استنطاق أيديهم وأرجلهم، استشهادًا بذلك عليهم، وما أشبه ذلك من حججه. ويُسأل مَن أنكر ذلك فيقال له: إن الله أخبرنا تعالى ذكره أنه يثقل موازين قوم في القيامة، ويخفف موازين آخرين، وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق ذلك، فما الذي أوجب لك إنكار الميزان أن يكون هو الميزان الذي وصفنا صفته، الذي يتعارفه الناس؟ أحجة عقل تُبْعِد أن يُنال وجه صحته من جهة العقل؟ (1) وليس في وزن الله جل ثناؤه خلقَه وكتبَ أعمالهم لتعريفهم أثقل القسمين منها بالميزان، خروجٌ من حكمة، ولا دخول في جور في قضية، فما الذي أحال ذلك عندك من حجةِ عقلٍ أو خبر؟ (2) إذ كان لا سبيل إلى حقيقة القول بإفساد ما لا يدفعه العقل إلا من أحد الوجهين اللذين ذكرتُ، ولا سبيل إلى ذلك. وفي عدم البرهان على صحة دعواه من هذين الوجهين، وضوحُ فساد قوله، وصحة ما قاله أهل الحق في ذلك. وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصفنا صفته، إذ كان قصدُنا في هذا الكتاب: البيانَ عن تأويل القرآن دون غيره. ولولا ذلك لقرنَّا إلى ما ذكرنا نظائره، وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية لمن وُفِّق لفهمه إن شاء الله.   (1) في المطبوعة: أحجة عقل فقد يقال وجه صحته ... وهو كلام غير مستقيم. وفي المخطوطة. ((أحجة عقل بعدان ننال وجه صحته ... )) ، وكأن الصواب ما قرأته وأثبته. (2) في المطبوعة: ((فما الذي أحال عندك من حجة أعقل أو خبر)) ، وهو فاسد، وفي المخطوطة: (( ... من حجة أو عقل أو خبر)) ، بزيادة ((أو)) ، وبحذفها يستقيم الكلام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 314 القول في تأويل قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن خفت موازين أعماله الصالحة، فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله، واتباع أمره ونهيه، فأولئك الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته (1) = (بما كانوا بآياتنا يظلمون) ، يقول: بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون، فلا يقرّون بصحتها، ولا يوقنون بحقيقتها، (2) كالذي:- 14337- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مجاهد: (ومن خفت موازينه) ، قال: حسناته. * * * وقيل:"فأولئك"، و"من" في لفظ الواحد، لأن معناه الجمع. ولو جاء موحَدًا كان صوابًا فصيحًا. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (10) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد وطَّأْنا لكم، أيها الناس، في الأرض، (4) وجعلناها لكم قرارًا تستقرُّون فيها، ومهادًا تمتهدونها، وفراشًا تفترشونها (5) = (   (1) انظر تفسير ((الخسارة)) فيما سلف ص: 153، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 373. (4) في المطبوعة: ((ولقد وطنا لكم أيها الناس)) ، والصواب من المخطوطة. (5) انظر تفسير ((مكن)) فيما سلف 11: 263. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 315 وجعلنا لكم فيها معايش) ، تعيشون بها أيام حياتكم، من مطاعم ومشارب، نعمة مني عليكم، وإحسانًا مني إليكم = (قليلا ما تشكرون) ، يقول: وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري، واتخاذكم إلهًا سواي. * * والمعايش: جمع "معيشة". * * * واختلفت القرأة في قراءتها. فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (مَعَايِشَ) بغير همز. * * * وقرأه عبد الرحمن الأعرج:"مَعَائِشَ" بالهمز. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (مَعَايِشَ) بغير همز، لأنها"مفاعل" من قول القائل"عشتَ تعيش"، فالميم فيها زائدة، والياء في الحكم متحركة، لأن واحدها "مَفْعلة"،"مَعْيشة"، متحركة الياء، نقلت حركة الياء منها إلى"العين" في واحدها. فلما جُمعت، رُدّت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها. وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا، في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال "مفاعل"، وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال"فعائل" التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل. فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال، فالعرب تهمزه، كقولهم:"هذه مدائن" و"صحائف" ونظائرهما، (1) لأن"مدائن" جمع"مدينة"، و"المدينة"،"فعيلة" من قولهم:"مدنت المدينة"، وكذلك،"صحائف" جمع"صحيفة"، و"الصحيفة"،"فعيلة" من قولك:"صحفت الصحيفة"، فالياء في واحدها زائدة ساكنة، فإذا جمعت همزت، لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها، وذلك أنها كانت   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((ونظائر)) والسياق ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 316 في واحدها ساكنة، وهي في الجمع متحركة. ولو جعلت"مدينة""مَفْعلة" من:"دان يدين"، وجمعت على"مفاعل"، كان الفصيح ترك الهمز فيها. وتحريك الياء. وربما همزت العرب جمع"مفعلة" في ذوات الياء والواو = وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها. إذا جاءت على"مفاعل" = تشبيهًا منهم جمعها بجمع"فعيلة"، كما تشبه"مَفْعلا""بفعيل" فتقول:"مَسِيل الماء"، من:"سال يسيل"، ثم تجمعها جمع"فعيل"، فتقول:"هي أمسلة"، في الجمع، تشبيهًا منهم لها بجمع"بعير" وهو"فعيل"، إذ تجمعه"أبعرة". وكذلك يجمع"المصير" وهو"مَفْعل"،"مُصْران" تشبيهًا له بجمع:"بعير" وهو"فعيل"، إذ تجمعه"بُعْران"، (1) وعلى هذا همز الأعرج"معايش". وذلك ليس بالفصيح في كلامها، وأولى ما قرئ به كتاب الله من الألسن أفصحها وأعرفها، دون أنكرها وأشذِّها. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويل ذلك: (ولقد خلقناكم) ، في ظهر آدم، أيها الناس = (ثم صورناكم) ، في أرحام النساء. خلقًا مخلوقًا ومثالا ممثلا في صورة آدم. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 373، 374 الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 14338- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، قوله: (خلقناكم) ، يعني آدم = وأما"صورناكم"، فذريّته. 14339- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) الآية، قال: أمّا"خلقناكم"، فآدم. وأمّا"صورناكم"، فذرية آدم من بعده. 14340- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع: (ولقد خلقناكم) ، يعني: آدم = (ثم صورناكم) ، يعني: في الأرحام. 14341- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، يقول: خلقناكم خلق آدم، ثم صَوَّرناكم في بطون أمهاتكم. 14342- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، يقول: خلقنا آدم، ثم صورنا الذرية في الأرحام. 14343- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، قال: خلق الله آدم من طين ="ثم صورناكم"، في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق: علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأناه خلقًا آخر. (1) 14344- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن   (1) الأثر: 14343 - ((بشر بن معاذ العقدي)) ، مضى مرارًا، وهذا إسناد يدور في التفسير دورانًا، ولكنه جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة: ((بشر بن آدم)) ، وهو خطأ. لا شك في ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 318 معمر، عن قتادة قال: خلق الله آدم، ثم صوّر ذريته من بعده. 14345- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن هارون، عن نصر بن مُشارس، عن الضحاك: (خلقناكم ثم صورناكم) ، قال: ذريته. (1) 14346- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: (ولقد خلقناكم) ، يعني آدم = (ثم صورناكم) ، يعني: ذريته. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولقد خلقناكم"، في أصلاب آبائكم ="ثم صورناكم"، في بطون أمهاتكم. * ذكر من قال ذلك: 14347- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سماك، عن عكرمة: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال، وصوّرناكم في أرحام النساء. 14348- حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانى قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، مثله. 14349- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان قال، سمعت الأعمش يقرأ: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال، ثم صورناكم في أرحام النساء. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: (خلقناكم) ، يعني آدم = (ثم صورناكم) ، يعني = في ظهره.   (1) الأثر: 14345 - ((عمر بن هارون بن يزيد البلخي)) ، متكلم فيه وجرح، مضى برقم: 12389. و ((نصر بن مشاري)) أو ((نصر بن مشيرس)) ، هو ((أبو مصلح الخراساني)) مشهور بكنيته، وكذلك مضى في الأثر رقم: 12389. وكان في المطبوعة: ((مشاوش)) ، وفي المخطوطة: ((مشاوس)) والصواب ما أثبته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 319 * ذكر من قال ذلك: 14350- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ولقد خلقناكم) ، قال: آدم = (ثم صورناكم) ، قال: في ظهر آدم. 14351- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، في ظهر آدم. 14352- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، قال: صورناكم في ظهر آدم. 14353- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، قال: في ظهر آدم، لما تصيرون إليه من الثواب في الآخرة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك:"ولقد خلقناكم"، في بطون أمهاتكم ="ثم صورناكم"، فيها. * ذكر من قال ذلك: 14354- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عمن ذكره قال: (خلقناكم ثم صورناكم) ، قال: خلق الله الإنسان في الرحم، ثم صوّره، فشقَّ سمعه وبصره وأصابعه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: (ولقد خلقناكم) ، ولقد خلقنا آدم = (ثم صورناكم) ، بتصويرنا آدم، كما قد بينا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 فيما مضى من خطاب العرب الرجلَ بالأفعال تضيفها إليه، والمعنيُّ في ذلك سلفه، (1) وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) ، [سورة البقرة: 63] . وما أشبه ذلك من الخطاب الموجَّه إلى الحيّ الموجود، والمراد به السلف المعدوم، فكذلك ذلك في قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، معناه: ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صوَّرناه. وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الذي يتلو ذلك قوله: (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) ، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصوِّر ذريته في بطون أمهاتهم، بل قبل أن يخلُق أمهاتهم. و"ثم" في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها، (2) وذلك كقول القائل:"قمت ثم قعدت"، لا يكون"القعود" إذ عطف به بـ"ثم" على قوله:"قمت" إلا بعد القيام، (3) وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها، وذلك كقول القائل:"قمت وقعدت"، فجائز أن يكون"القعود" في هذا الكلام قد كان قبل"القيام"، لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفًا، لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين، أو إن كانا في وقتين، أيهما   (1) انظر هذا من خطاب العرب فيما سلف 2: 38، 39 ثم ص: 164، 165، ومواضع أخرى بعد ذلك في فهرس مباحث العربية والنحو وغيرها. (2) انظر القول في ((ثم)) فيما سلف ص: 233. (3) كان في هذه الجملة في المخطوطة تكرار، ووضع الناسخ في الهامش (كذا) ، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 321 المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إنّ قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) ، لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا. فإن ظن ظانّ أن العربَ، إذ كانت ربما نطقت بـ"ثم" في موضع"الواو" في ضرورة شعره، كما قال بعضهم: سَأَلْتُ رَبِيعَةَ: مَنْ خَيْرُهَا ... أَبًا ثُمَّ أُمًّا? فَقَالَتْ: لِمَهْ? (1) بمعنى: أبًا وأمًّا، فإن ذلك جائز أن يكون نظيره= فإن ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن كتاب الله جل ثناؤه نزل بأفصح لغات العرب، وغير جائز توجيه شيء منه إلى الشاذّ من لغاتها، وله في الأفصح الأشهر معنى مفهومٌ ووجه معروف. * * * وقد وجَّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم، وزعم أن معنى ذلك: ولقد خلقناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم. وذلك غير جائز في كلام العرب، لأنها لا تدخل"ثم" في الكلام وهي مرادٌ بها التقديم على ما قبلها من الخبر، وإن كانوا قد يقدِّمونها في الكلام، (2) إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير، وذلك كقولهم:"قام ثم عبد الله عمرو"، فأما إذا قيل:"قام عبد الله ثم قعد عمرو"، فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله، إذا كان الخبر صدقًا، فقول الله تبارك وتعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا) ، نظير قول القائل:"قام عبد الله ثم قعد عمرو"، في أنه غير جائز أن يكون أمرُ الله الملائكةَ بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير، لما وصفنا قبل. * * * وأما قوله للملائكة: (اسجدوا لآدم) ، فإنه يقول جل ثناؤه: فلما صوّرنا   (1) لم أعرف قائله. (2) في المخطوطة: ((وإن كان يعبر فنرنها في الكلام)) ، فلم استبن لقراءتها وجهًا أرضاه، فتركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه مستقيم المعنى إن شاء الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 322 آدم وجعلناه خلقًا سويًّا، ونفخنا فيه من روحنا، قلنا للملائكة:"اسجدوا لآدم"، ابتلاء منا واختبارًا لهم بالأمر، ليعلم الطائع منهم من العاصي، = (فسجدوا) ، يقول: فسجد الملائكة، إلا إبليس فإنه لم يكن من الساجدين لآدم، حين أمره الله مع مَنْ أمرَ من سائر الملائكة غيره بالسجود. * * * وقد بينا فيما مضى، المعنى الذي من أجله امتحن جَلّ جلاله ملائكته بالسجود لآدم، وأمْرَ إبليس وقصصه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 501 - 512. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 القول في تأويل قوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس، إذ عصاه فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له. يقول: قال الله لإبليس: = (ما منعك) ، أيّ شيء منعك = (ألا تسجد) ، أن تدع السجود لآدم = (إذ أمرتك) ، أن تسجد ="قال أنا خير منه"، يقول: قال إبليس: أنا خير من آدم ="خلقتني من نار وخلقته من طين". * * * فإن قال قائل: أخبرنا عن إبليس، ألحقته الملامة على السجود، أم على ترك السجود؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود، فكيف قيل له: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) ؟ وإن كان النكير على السجود، فذلك خلافُ ما جاء به التنزيل في سائر القرآن، وخلاف ما يعرفه المسلمون! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 قيل: إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود لآدم إذ أمره بالسجود له. غير أن في تأويل قوله: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك) ، بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافًا، أبدأ بذكر ما قالوا، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب. فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما منعك أن تسجد = و"لا" ها هنا زائدة، كما قال الشاعر: (1) أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ، وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ، مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُوعَ قَاتِلهْ (2) وقال: فسرته العرب:"أبى جوده البخل"، وجعلوا"لا" زائدةً حشوًا ها هنا، وصلوا بها الكلام. قال: وزعم يونس أن أبا عمرو كان يجر"البخل"، ويجعل"لا" مضافة إليه، أراد: أبى جوده"لا" التي هي للبخل، ويجعل"لا" مضافة، لأن"لا" قد تكون للجود والبخل، لأنه لو قال له:"امنع الحق ولا تعط المسكين" فقال:"لا" كان هذا جودًا منه. * * * وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله، غير أنه زعم أن العلة في دخول"لا" في قوله: (أن لا تسجد) ، أن في أول الكلام جحدا = يعني بذلك قوله: (لم يكن من الساجدين) ، فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد، الجحدَ، كالاستيثاق والتوكيد له. قال: وذلك كقولهم: (3)   (1) لا يعرف قائله. (2) اللسان (نعم) ، أمالي ابن الشجري 2: 228، 231، شرح شواهد المغنى 217، وكان في المخطوطة والمطبوعة: ((لا يمنع الجوع)) ، كما أثبته، وكذلك ورد عن الفارسي في اللسان. وأما في المراجع الأخرى فروايته: ((لا يمنع الجود)) . (3) لم يعرف قائله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 مَا إنْ رَأَيْنَا مِثْلَهُنَّ لِمَعْشَرٍ ... سُودِ الرُّؤُوسِ، فَوَالِجٌ وَفُيُولُ (1) فأعاد على الجحد الذي هو"ما" جحدًا، وهو قوله"إن"، فجمعهما للتوكيد. * * * وقال آخر منهم: ليست"لا"، بحشو في هذا الموضع ولا صلة، (2) ولكن"المنع" هاهنا بمعنى"القول"، وإنما تأويل الكلام: مَنْ قال لك لا تسجد إذ أمرتك بالسجود = ولكن دخل في الكلام"أن"، إذ كان"المنع" بمعنى"القول"، لا في لفظه، كما يُفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول، وهو له في اللفظ مخالف، كقولهم:"ناديت أن لا تقم"، و"حلفت أن لا تجلس"، وما أشبه ذلك من الكلام. وقال: خفض"البخل" من روى:"أبى جوده لا البخل"، (3) بمعنى: كلمة البخل، لأن"لا" هي كلمة البخل، فكأنه قال: كلمة البخل. * * * وقال بعضهم: معنى"المنع"، الحول بين المرء وما يريده. قال: والممنوع مضطّر به إلى خلاف ما منع منه، كالممنوع من القيام وهو يريده، فهو مضطر من الفعل إلى ما كان خلافًا للقيام، إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه، فيوثر أحدهما على الآخر فيفعله. قال: فلما كانت صفة"المنع" ذلك، فخوطب إبليس بالمنع فقيل له: (ما منعك ألا تسجد) ، كان معناه كأنه قيل له: أيّ شيء اضطرك إلى أن لا تسجد؟ * * * قال أبو جعفر: والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال: إن في الكلام محذوفًا قد كفى دليلُ الظاهر منه، وهو أن معناه: ما منعك من السجود   (1) معاني القرآن للفراء 1: 176، 374 و ((الفوالج)) جمع ((فالج)) ، وهو جمل ذو سنامين كان يجلب من السند للفحلة. و ((الفيول) ، جمع ((فيل)) . (2) ((الصلة)) : الزيادة، كما سلف، انظر فهارس المصطلحات. (3) في المطبوعة: ((وقال بعض من روى: أبي جود لا البخل)) ، فغير ما في المخطوطة، وأفسد الكلام إفسادًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 فأحوجك أن لا تسجد = فترك ذكر"أحوجك"، استغناء بمعرفة السامعين قوله: (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) ، أن ذلك معنى الكلام، من ذكره. (1) ثم عمل قوله: (ما منعك) ، في"أن" ما كان عاملا فيه قبل"أحوجك" لو ظهر، إذ كان قد ناب عنه. وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب، لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، وأن لكل كلمة معنًى صحيحًا، فتبين بذلك فسادُ قول من قال:"لا" في الكلام حشو لا معنى لها. وأما قول من قال: معنى"المنع" ههنا"القول"، فلذلك دخلت"لا" مع"أن" = فإن"المنعَ" وإن كان قد يكون قولا وفعلا فليس المعروف في الناس استعمالُ"المنع"، في الأمر بترك الشيء، لأن المأمور بترك الفعل إذا كان قادرًا على فعله وتركه ففعله، لا يقال:"فعله"، وهو ممنوع من فعله، إلا على استكراه للكلام. وذلك أن المنع من الفعل حَوْلٌ بينه وبينه، فغير جائز أن يكون وهو مَحُولٌ بينه وبينه فاعلا له، لأنه إن جاز ذلك، وجب أن يكون مَحُولا بينه وبينه لا محولا وممنوعًا لا ممنوعًا. (2) وبعدُ، فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى ذكره بالسجود لآدم كبرًا، فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود لآدم، فيجوز أن يقال له:"أي شيء قال لك: لا تسجد لآدم إذ أمرتك بالسجود له؟ ولكن معناه إن شاء الله ما قلت: "ما منعك من السجود له فأحوجك، أو: فأخرجك، أو: فاضطرك إلى أن لا تسجد له"، على ما بيَّنت. * * * وأما قوله: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ، فإنه خبرٌ من الله جل ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله: ما الذي منعه من السجود لآدم،   (1) السياق: ((استغناء بمعرفة السامعين ... من ذكره)) . (2) يعني أنه يجمع الصفتين معًا ((محول بينه وبينه، وغير محول = وممنوع، وغير ممنوع)) ، وهو تناقض. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 326 فأحوجه إلى أن لا يسجد له، واضطره إلى خلافه أمرَه به، وتركه طاعته = أنّ المانعَ كان له من السجود، والداعيَ له إلى خلافه أمر ربه في ذلك: أنه أشد منه أيْدًا، (1) وأقوى منه قوة، وأفضل منه فضلا لفضل الجنس الذي منه خلق، وهو النارُ، على الذي خلق منه آدم، (2) وهو الطين. فجهل عدوّ الله وجه الحق، وأخطأ سبيل الصواب. إذ كان معلومًا أن من جوهر النار الخفة والطيش والاضطراب والارتفاع علوًّا، والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حملَ الخبيث بعد الشقاء الذي سبق له من الله في الكتاب السابق، على الاستكبار عن السجود لآدم، والاستخفاف بأمر ربه، فأورثه العطبَ والهلاكَ. وكان معلومًا أن من جوهر الطين الرزانة والأناة والحلم والحياء والتثبُّت، وذلك الذي هو في جوهره من ذلك، (3) كان الداعي لآدم بعد السعادة التي كانت سبقت له من ربه في الكتاب السابق، إلى التوبة من خطيئته، ومسألته ربَّه العفوَ عنه والمغفرة. ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان:"أول مَنْ قاسَ إبليس"، يعنيان بذلك: القياسَ الخطأ، وهو هذا الذي ذكرنا من خطأ قوله، وبعده من إصابة الحق، في الفضل الذي خص الله به آدم على سائر خلقه: من خلقه إياه بيده، ونفخه فيه من روحه، وإسجاده له الملائكة، وتعليمه أسماء كلِّ شيء، مع سائر ما خصه به من كرامته. فضرب عن ذلك كلِّه الجاهلُ صفحًا، وقصد إلى الاحتجاج بأنه خُلق من نار وخلق آدم من طين!! (4) وهو في ذلك أيضًا له غير كفء، لو لم يكن لآدم من الله جل ذكره تكرمة شيء غيره، فكيف والذي خصّ به من كرامته يكثر تعداده، ويملّ إحصاؤه؟ 14355- حدثني عمرو بن مالك قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي، عن هشام، عن ابن سيرين قال: أوّل من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. (5) 14356- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق، عن الحسن قوله: (خلقتني من نار وخلقته من طين) ، قال: قاس إبليس وهو أول من قاس. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14357- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة، دون الملائكة الذين في السموات:"اسجدوا لآدم"، فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر، لما كان حدَّث نفسه، من كبره واغتراره، فقال:"لا أسجد له، وأنا خير منه، وأكبر سنًّا، وأقوى خلقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين! " يقول: إنّ النار أقوى من الطين. 14358- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (خلقتني من نار) ، قال: ثم جعل ذريته من ماء. * * *   (1) في المطبوعة: ((أشد منه يدا)) ، والصواب من المخطوطة، و ((الأيد)) ، القوة. (2) في المطبوعة: ((من الذي خلق منه آدم)) ، زاد ((من)) ، والمخطوطة سقط منها حرف الجر المتعلق بفضل الجنس، والصواب ما أُبت. (3) في المطبوعة: ((وذلك الذي في جوهره ... )) حذف ((هو)) ، وفي المخطوطة: ((وذلك الذي هو من جوهره من ذلك)) ، وصوابها ((في جوهره)) ، وإنما هو خطأ من الناسخ. (4) في المطبوعة: ((بأنه خلقه من نار)) ، واليد ما في المخطوطة. (5) الأثر: 14355 - ((عمرو بن مالك الراسبي الغبري)) ، أبو عثمان البصري، شيخ الطبري. قال ابن عدي: ((منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث)) ، وقال ابن أبي حاتم: ((ترك أبي التحديث عنه)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1 / 259. و ((يحيى بن سليم الطائفي)) ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 4894، 7831. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 327 قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله عدوّ الله ليس لما سأله عنه بجواب. وذلك أن الله تعالى ذكره قال له: ما منعك من السجود؟ فلم يجب بأن الذي منعه من السجود أنه خُلِقَ من نار وخلق آدم من طين، (1) ولكنه ابتدأ خبرًا عن نفسه، فيه دليل على موضع الجواب فقال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) } قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله لإبليس عند ذلك: (فاهبط منها) . وقد بيَّنا معنى"الهبوط" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (2) * * * = (فما يكون لك أن تتكبر فيها) ، يقول تعالى ذكره: فقال الله له:"اهبط منها"، يعني: من الجنة ="فما يكون لك"، يقول: فليس لك أن تستكبر في الجنة عن طاعتي وأمري. * * * فإن قال قائل: هل لأحد أن يتكبر في الجنة؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: فاهبط من الجنة، فإنه لا يسكن الجنة متكبر عن أمر الله، فأما غيرها، فإنه قد يسكنها المستكبر عن أمر الله، والمستكين لطاعته. * * *   (1) في المطبوعة: ((أنه خلقه من نار)) ، والجيد في المخطوطة. (2) انظر تفسير ((الهبوط)) فيما سلف 1: 534، 548 /2: 132، 239. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 329 وقوله: (فاخرج إنك من الصاغرين) ، يقول: فاخرج من الجنة، إنك من الذين قد نالهم من الله الصَّغَار والذلّ والمَهانة. * * * يقال منه:"صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا وصَغارًا وصُغْرَانًا"، وقد قيل:"صغُرَ يَصْغُرُ صَغارًا وصَغارَة". (1) * * * وبنحو ذلك قال السدي. (2) 14359- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فاخرج إنك من الصاغرين) ، و"الصغار"، هو الذل. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) } قال أبو جعفر: وهذه أيضًا جَهْلة أخرى من جَهَلاته الخبيثة. سأل ربه ما قد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله إليه. وذلك أنه سأل النَّظِرة إلى قيام الساعة، وذلك هو يوم يبعث فيه الخلق. ولو أعطي ما سأل من النَّظِرة، كان قد أعطي الخلودَ وبقاءً لا فناء معه، وذلك أنه لا موت بعد البعث. فقال جل ثناؤه له: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [سورة الحجر: 37-38 / سورة ص: 80، 81] ، وذلك إلى اليوم الذي قد كتب الله عليه فيه الهلاك والموت والفناء، لأنه لا شيء يبقى فلا يفنى، غير ربِّنا الحيِّ الذي لا يموت. يقول الله تعالى   (1) انظر تفسير ((الصغار)) فيما سلف ص: 96. (2) في المطبوعة: ((وبنحو الذي قلنا قال السدي)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 330 ذكره: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، [سورة آل عمران: 185 / سورة الأنبياء: 35 / سورة العنكبوت: 57] . * * * و"الإنظار" في كلام العرب، التأخير. يقال منه:"أنظرته بحقي عليه أنظره به إنظارًا. (1) * * * فإن قال قائل: فإن الله قد قال له إذ سأله الإنظار إلى يوم يبعثون: (إنك من المنظرين) في هذا الموضع، فقد أجابه إلى ما سأل؟ قيل له: ليس الأمر كذلك، وإنما كان مجيبًا له إلى ما سأل لو كان قال له:"إنك من المنظرين إلى الوقت الذي سألت = أو: إلى يوم البعث = أو إلى يوم يبعثون"، أو ما أشبه ذلك، مما يدل على إجابته إلى ما سأل من النظرة. وأما قوله: (إنك من المنظرين) ، فلا دليل فيه لولا الآية الأخرى التي قد بيَّن فيها مدة إنظاره إياه إليها، وذلك قوله: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ، [سورة الحجر: 37، 38 / سورة ص: 80، 81] ، كم المدة التي أنظره إليها، (2) لأنه إذا أنظره يومًا واحدًا أو أقل منه أو أكثر، فقد دخل في عداد المنظرين، وتمَّ فيه وعد الله الصادق، ولكنه قد بيَّن قدر مدة ذلك بالذي ذكرناه، فعلم بذلك الوقت الذي أُنظِر إليه. * * * وبنحو ذلك كان السدي يقول. 14360- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [سورة الحجر: 36-38 / سورة ص: 80، 81] ، فلم ينظره إلى يوم البعث، ولكن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم ينفخ   (1) انظر تفسير ((الإنظار)) فيما سلف 2: 467، 468 /3: 264 / 6: 577 /11: 267. (2) في المطبوعة: ((على المدة)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 331 في الصور النفخة الأولى، فصعق مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض، فمات. (1) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: قال إبليس لربه:"أنظرني"، أي أخّرني وأجّلني، وأنسئْ في أجلي، ولا تمتني ="إلى يوم يبعثون"، يقول: إلى يوم يبعث الخلق. فقال تعالى ذكره: (إنك من المنظرين) ، إلى يوم ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله. * * * فإن قال قائل: فهل أحَدٌ مُنْظرٌ إلى ذلك اليوم سوى إبليس، فيقال له:"إنك منهم"؟ قيل: نعم، مَنْ لم يقبض الله روحه من خلقه إلى ذلك اليوم، ممن تقوم عليه الساعة، فهم من المنظرين بآجالهم إليه. ولذلك قيل لإبليس: (إنك من المنظرين) ، بمعنى: إنك ممن لا يميته الله إلا ذلك اليوم. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال إبليس لربه: (فبما أغويتني) ، يقول: فبما أضللتني، كما:- 14361- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فبما أغويتني) ، يقول: أضللتني. 14362- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في   (1) الأثر: 14360 - ((موسى بن هارون الهمداني)) ، مضى مرارًا، وكان في المخطوطة والمطبوعة: ((يونس بن هارون)) ، وهو خطأ محض، فهذا إسناد دائر في التفسير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 332 قوله: (فبما أغويتني) ، قال: فبما أضللتني. * * * وكان بعضهم يتأول قوله: (فبما أغويتني) ، بما أهلكتني، من قولهم:"غَوِيَ الفصيل يَغوَى غَوًى"، وذلك إذا فقد اللبن فمات، من قول الشاعر: (1) مُعَطَّفَةُ الأَثْنَاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَا ... بِرَازِئِهَا دَرًّا وَلا مَيِّتٍ غَوَى (2) * * * وأصل الإغواء في كلام العرب: تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسّنه عنده، غارًّا له. (3) وقد حكي عن بعض قبائل طيئ، أنها تقول:"أصبح فلان غاويًا"، أي: أصبح مريضًا. (4) * * * وكان بعضهم يتأوّل ذلك أنه بمعنى القسم، كأن معناه عنده: فبإغوائك إياي، لأقعدن لهم صراطك المستقيم، كما يقال:"بالله لأفعلن كذا". * * * وكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى المجازاة، كأن معناه عنده: فلأنك أغويتني = أو: فبأنك أغويتني = لأقعدن لهم صراطك المستقيم. * * *   (1) هو ((مدرج الريح الجرمي)) ، واسمه ((عامر بن المجنون)) كما في الشعر والشعراء: 713، وفي الوحشيات رقم: 380، والأغاني 3: 115، وجاء في المعاني الكبير: 1047 ((عامر المجنون)) ، صوابه ما أثبت. (2) المعاني الكبير: 1047، المخصص 7: 41، 180، تهذيب إصلاح المنطق 2: 54، اللسان (غوى) . يصف قوسًا. قال التبريزي في شرحه: ((أثناؤها)) ، أطرفها المتلئبة. و ((فصيلها)) ، السهم، و ((رزائها)) أي: أخذ منها شيئًا. يقول: ليس فصيل هذه القوس يشرب إذا فقد اللبن. (3) انظر تفسير ((الغي)) و ((الإغواء)) فيما سلف 5: 416. (4) هذا النص ينبغي إثباته في كتب اللغة، فلم يذكر فيها فيما علمت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 333 قال أبو جعفر: وفي هذا بيان واضح على فساد ما يقول القدرية، (1) من أن كل من كفر أو آمن فبتفويض الله أسبابَ ذلك إليه، (2) وأن السبب الذي به يصل المؤمن إلى الإيمان، هو السبب الذي به يصل الكافر إلى الكفر. وذلك أنّ ذلك لو كان كما قالوا: لكان الخبيث قد قال بقوله: (فبما أغويتني) ،"فبما أصلحتني"، إذ كان سبب"الإغواء" هو سبب"الإصلاح"، وكان في إخباره عن الإغواء إخبارٌ عن الإصلاح، ولكن لما كان سبباهما مختلفين، وكان السبب الذي به غوَى وهلك من عند الله. أضاف ذلك إليه فقال: (فبما أغويتني) . * * * وكذلك قال محمد بن كعب القرظي، فيما:- 14363- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو مودود، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: قاتل الله القدريّة، لإبليس أعلمُ بالله منهم! * * * وأما قوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) ، فإنه يقول: لأجلسن لبني آدم"صراطك المستقيم"، يعني: طريقك القويم، وذلك دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه. (3) وإنما معنى الكلام: لأصدَّن بني آدم عن عبادتك وطاعتك، ولأغوينهم كما أغويتني، ولأضلنهم كما أضللتني. وذلك كما روي عن سبرة بن أبي الفاكه:- (4) 14364- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم   (1) ((القدرية)) هم نفاة القدر الكافرون به، وأما المؤمنون بالقدر، وهم أهل الحق، فيقال لهم ((أهل الإثبات)) ، وانظر فهارس المصطلحات والفرق فيما سلف. (2) ((التفويض)) ، رد الأسباب إليه، وانظر بيان ذلك فيما سلف 1: 162، تعليق: 3 /11: 340، /12: 92، وهو مقالة المعتزلة وأشباههم. (3) انظر تفسير ((الصراط المستقيم)) ، فيما سلف ص: 282، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) في المطبوعة: ((سبرة بن الفاكه)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. انظر التعليق التالي ص 335، تعليق: 2: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 334 بأطْرِقَةٍ، (1) فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذرُ دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل؟ (2) فعصاه وهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جَهْدُ النفس والمال، فقال: أتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد. (3) * * * وروي عن عون بن عبد الله في ذلك ما:- 14365- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حَبّويه أبو يزيد، عن عبد الله بن بكير، عن محمد بن سوقة، عن عون بن عبد الله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) ، قال: طريق مكة. (4) * * *   (1) ((أطرقة)) جمع ((طريق)) ، مثل ((رغيف)) و ((أرغفة)) ، وهو جمعه مع تذكير ((طريق)) ، ويجمع أيضًا على ((أطرق)) (بضم الراء) ، وهو جمع ((طريق)) إذا أنثتها، نحو ((يمين)) ، و ((أيمن)) . وبهذه الأخيرة ضبط في أكثر الكتب. (2) ((الطول)) (بكسر الطاء وفتح الواو) : وهو الحبل الطويل، يشد أحد طرفيه في وتد أو في غيره، والآخر في يد الفرس، فيدور فيه ويرعى، ولا يذهب لوجهه. ويعني بذلك: أن الهجرة تحبسه عن التصرف والضرب في الأرض، والعودة إلى أرضه وسمائه، والهجرة أمرها شديد كما تعلم. (3) الأثر: 14364 - هذا خبر رواه الأئمة، ذكره أبو جعفر بغير إسناده. و ((سبرة بن أبي الفاكهة)) ، و ((سبرة بن أبي الفاكهة)) ، صحابي نزل الكوفة. مترجم في التهذيب، وأسد الغابة 2: 260، والإصابة، في اسمه والكبير للبخاري 2 /2 / 188، وابن أبي حاتم 2 /1 / 295. وهذا الخبر، رواه أحمد في مسنده مطولا 3: 483، والنسائي 6: 21، 22، والبخاري في التاريخ 2 /2 / 188، 189، وابن الأثير في أسد الغابة 2: 260، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمته: ((له حديث عند النسائي، بإسناد حسن، إلا أن في إسناده اختلافًا)) ، ثم قال: ((وصححه ابن حبان)) . (4) الأثر: 14365 - ((حبويه أبو يزيد)) هكذا في المخطوطة، ولكنه غير منقوط، وكان في المطبوعة: ((حيوة أبو يزيد)) ، تغير بلا دليل. و ((حبويه)) ، أبو يزيد، هو: ((إسحاق بن إسماعيل الرازي)) ، روى عن نافع بن عمر الجمحي، وعمرو بن أبي قيس، ونعيم بن ميسرة. روى عنه محمد بن سعيد الأصفهاني، وعثمان وأبو بكر ابنا شيبة، وإبراهيم بن موسى. قال يحيى بن معين: ((أرجو أن يكون صدوقًا)) . مترجم في الجرح والتعديل 1 /1 / 212، وعبد الغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف: 43، ((حبويه)) بالباء المشددة بعد الحاء. وسيأتي أيضًا في الإسناد رقم: 14550. و ((عبد الله بن بكير الغنوي الكوفي)) ، روى عن ((محمد بن سوقة)) ، وهو ليس بقوي، وإن كان من أهل الصدق، وذكر له ابن عدي مناكير. مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 2 /2 / 16، وميزان الاعتدال 2: 26. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 والذي قاله عون، وإن كان من صراط الله المستقيم، فليس هو الصراط كله. وإنما أخبر عدوّ الله أنه يقعد لهم صراط الله المستقيم، ولم يخصص منه شيئًا دون شيء. فالذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشبهُ بظاهر التنزيل، وأولى بالتأويل، لأن الخبيث لا يألو عباد الله الصدَّ عن كل ما كان لهم قربة إلى الله. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل في معنى"المستقيم"، في هذا الموضع. * ذكر من قال ذلك: 14366- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (صراطك المستقيم) ، قال: الحق. 14367- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14368- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول: (لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم) ، قال: سبيل الحق، فلأضلنَّهم إلا قليلا. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في ذلك. فقال بعض نحويي البصرة: معناه: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم، كما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 336 يقال:"توجَّه مكة"، أي إلى مكة، وكما قال الشاعر: (1) كَأَنِّي إذْ أَسْعَى لأظْفَرَ طَائِرًا ... مَعَ النَّجْمِ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (2) بمعنى: لأظفر بطائر، فألقى"الباء"، وكما قال: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) ، [سورة الأعراف: 150] ، بمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم. * * * وقال بعض نحويي الكوفة، المعنى، والله أعلم: لأقعدن لهم على طريقهم، وفي طريقهم. قال: وإلقاء الصفة من هذا جائز، (3) كما تقول:"قعدت لك وجهَ الطريق" و"على وجه الطريق"، لأن الطريق صفة في المعنى، (4) فاحتمل ما يحتمله"اليوم" و"الليلة" و"العام"، (5) إذا قيل:"آتيك غدًا"، و"آتيك في غد". * * * قال أبو جعفر: وهذا القول هو أولى القولين في ذلك عندي بالصواب، لأن "القعود" مقتضٍ مكانًا يقعد فيه، فكما يقال:"قعدت في مكانك"، يقال:"قعدت على صراطك"، و"في صراطك"، كما قال الشاعر: (6) لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ، كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ (7)   (1) لم أعرف قائله. (2) لم أجد البيت في غير هذا المكان. (3) ((الصفة)) هنا حرف الجر، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف، ستأتي بعد قليل بمعنى ((الظرف)) . انظر التعليق التالي. (4) ((الصفة)) هنا، هي ((الظرف)) ، وكذلك يسميه الكوفيون. (5) في المطبوعة: ((يحتمل ما يحتمله)) ، وفي المخطوطة سقط، كتب: ((في المعنى ما يحتمله)) ولكني أثبت ما في معاني القرآن للفراء 1: 375، فهذا نص كلامه. (6) هو ساعدة بن جؤية الهذلي. (7) ديوان الهذليين 1: 190، سيبويه 1: 16، 109، الخزانة 1: 474، وغيرها كثير من قصيدة طويلة، وصف في آخرها رمحه، وهذا البيت في صفة رمح من الرماح الخطية. ورواية الديوان ((لذا)) ، أي تلذ الكف بهزه. و ((يعسل)) ، أي يضطرب. وقوله. ((فيه)) : أي في الهز. وقوله: ((عسل الطريق الثعلب)) ، أي: عسل في الطريق الثعلب واضطربت مشيته. شبه اهتزاز الرمح في يد الذي يهزه ليضرب به، باهتزاز الثعلب في عدوه في الطريق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 فلا تكاد العرب تقول ذلك في أسماء البلدان، لا يكادون يقولون:"جلست مكة"، و"قمت بغداد". * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى قوله: (لآتينهم من بين أيديهم) ، من قبل الآخرة = (ومن خلفهم) ، من قبل الدنيا = (وعن أيمانهم) ، من قِبَل الحق = (وعن شمائلهم) ، من قبل الباطل. * ذكر من قال ذلك: 14369- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) ، يقول: أشككهم في آخرتهم = (ومن خلفهم) ، أرغبهم في دنياهم = (وعن أيمانهم) ، أشبِّه عليهم أمرَ دينهم = (وعن شمائلهم) ، أشَهِّي لهم المعاصي. * * * وقد روي عن ابن عباس بهذا الإسناد في تأويل ذلك خلاف هذا التأويل، وذلك ما:- 14370- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 338 يعني من الدنيا = (ومن خلفهم) ، من الآخرة = (وعن أيمانهم) ، من قبل حسناتهم = (وعن شمائلهم) ، من قبل سيئاتهم. * * * وتحقق هذه الرواية، الأخرى التي: 14371- حدثني بها محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ، قال: أما بين "أيديهم"، فمن قبلهم، وأما"من خلفهم"، فأمر آخرتهم، وأما"عن أيمانهم"، فمن قبل حسناتهم، وأما"عن شمائلهم"، فمن قبل سيئاتهم. 14372- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) الآية، أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار="ومن خلفهم"، من أمر الدنيا، فزيَّنها لهم ودعاهم إليها ="وعن أيمانهم"، من قبل حسناتهم بطَّأهم عنها ="وعن شمائلهم"، زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله! * * * وقال آخرون: بل معنى قوله: (من بين أيديهم) ، من قبل دنياهم = (ومن خلفهم) ، من قبل آخرتهم. * ذكر من قال ذلك: 14373- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) ، قال: (من بين أيديهم) ، من قبل دنياهم = (ومن خلفهم) ، من قبل آخرتهم = (وعن أيمانهم) من قبل حسناتهم = (وعن شمائلهم) ، من قبل سيئاتهم. 14374- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 عن الحكم: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ، قال: (من بين أيديهم) ، من دنياهم = (ومن خلفهم) ، من آخرتهم = (وعن أيمانهم) ، من حسناتهم = (وعن شمائلهم) ، من قِبَل سيئاتهم. 14375- حدثنا سفيان قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) ، قال: من قبل الدنيا يزيِّنها لهم = (ومن خلفهم) من قبل الآخرة يبطّئهم عنها = (وعن أيمانهم) ، من قبل الحق يصدّهم عنه = (وعن شمائلهم) ، من قبل الباطل يرغّبهم فيه ويزينه لهم. 14376- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ، أما (من بين أيديهم) ، فالدنيا، أدعوهم إليها وأرغبهم فيها = (ومن خلفهم) ، فمن الآخرة أشككهم فيها وأباعدها عليهم (1) = (وعن أيمانهم) ، يعني الحق فأشككهم فيه = (وعن شمائلهم) ، يعني الباطل أخفّفه عليهم وأرغّبهم فيه. 14377- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (من بين أيديهم) ، من دنياهم، أرغّبهم فيها = (ومن خلفهم) ، آخرتهم، أكفّرهم بها وأزهِّدهم فيها = (وعن أيمانهم) ، حسناتهم أزهدهم فيها = (وعن شمائلهم) ، مساوئ أعمالهم، أحسِّنها إليهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون. * ذكر من قال ذلك: 14378- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قول الله: (من بين أيديهم وعن   (1) في المطبوعة: ((وأبعدها)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 340 أيمانهم) ، قال: حيث يبصرون = (ومن خلفهم) = (وعن شمائلهم) ، حيث لا يبصرون. 14379- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14380- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور قال، تذاكرنا عند مجاهد قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ، فقال مجاهد: هو كما قال، يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم = زاد ابن حميد، قال:"يأتيهم من ثَمَّ". 14381- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد، فذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم لآتينهم من جميع وجوه الحقّ والباطل، فأصدّهم عن الحق، وأحسِّن لهم الباطل. وذلك أن ذلك عَقِيب قوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) ، فاخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرَهم الله أن يسلكوه، وهو ما وصفنا من دين الله دينِ الحق، فيأتيهم في ذلك من كل وجوهه، من الوجه الذي أمرهم الله به، فيصدّهم عنه، وذلك"من بين أيديهم وعن أيمانهم" = ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه، فيزيّنه لهم ويدعوهم إليه، وذلك"من خلفهم وعن شمائلهم". * * * وقيل: ولم يقل:"من فوقهم"، لأن رحمة الله تنزل على عباده من فوقهم. * ذكر من قال ذلك: 14382- حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ، ولم يقل: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 341 "من فوقهم"، لأن الرحمة تنزل من فوقهم. * * * وأما قوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) . فإنه يقول: ولا تجد، ربِّ، أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتَك التي أنعمت عليهم، كتكرمتك أباهم آدم بما أكرمته به، من إسجادك له ملائكتك، وتفضيلك إياه عليَّ = و"شكرهم إياه"، طاعتهم له بالإقرار بتوحيده، واتّباع أمره ونهيه. * * * وكان ابن عباس يقول في ذلك بما:- 14383- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) ، يقول: موحِّدين. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إحلاله بالخبيث عدوِّ الله ما أحلّ به من نقمته ولعنته، وطرده إياه عن جنته، إذ عصاه وخالف أمره، وراجعه من الجواب بما لم يكن له مراجعته به. يقول: قال الله له عند ذلك: (اخرج منها) ، أي من الجنة = (مذؤُومًا مدحورًا) ، يقول: مَعِيبًا. * * * و"الذأم"، العيب. يقال منه:"ذأمَه يذأمه ذأمًا فهو مذؤوم"، ويتركون الهمز فيقولون: ذِمْته أذيمه ذيمًا وذامًا"، و"الذأم" و"الذيم"، أبلغ في العيب من"الذمّ"، وقد أنشد بعضهم هذا البيت: (1)   (1) هو الحارث بن خالد المخزومي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 صَحِبْتُكَ إذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَذِيمُهَا (1) وأكثر الرواة على إنشاده"ألومها". * * * وأما المدحور: فهو المُقْصَى، يقال:"دحره يدحَرُه دَحْرًا ودُحُورًا"، إذا أقصاه وأخرجه، ومنه قولهم:"ادحَرْ عنكَ الشيطان". (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14384- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا) ، يقول: اخرج منها لعينًا منفيًّا. 14385- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"مذؤومًا" ممقوتًا. 14386- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (قال اخرج منها مذؤومًا) ، يقول: صغيرًا منفيًّا. 14387- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا) ، أما"مذؤومًا"، فمنفيًّا، وأما"مدحورا"، فمطرودًا. 14388- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مذؤومًا) ، قال: منفيًّا = (مدحورًا) ، قال: مطرودًا. 14389- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي   (1) مضى البيت وشرحه وتخريجه، وبغير هذه الرواية فيما سلف 1: 265. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 212. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 343 جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (اخرج منها مذؤومًا) ، قال: منفيًّا. = و"المدحور"، قال: المصغَّر. 14390- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال:، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن يونس وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: (اخرج منها مذؤومًا) ، قال: منفيًّا. 14391- حدثني أبو عمرو القرقساني عثمان بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، سأل ابن عباس: ما (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا) ، قال: مقيتًا. (1) 14392- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا) ، فقال: ما نعرف"المذؤوم" و"المذموم" إلا واحدًا، ولكن تكون حروف منتقصة، وقد قال الشاعر لعامر: يا"عام"، ولحارث:"يا حار"، (2) وإنما أنزل القرآن على كلام العرب. * * *   (1) الأثر: 14391 - ((أبو عمرو القرقساني)) ، ((عثمان بن يحيى)) ، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب. ويزيد الأمر إشكالا أني وجدت أبا جعفر في تاريخه يذكر إسنادًا عن شيخ يقال له ((عثمان بن يحيى)) ، فيه نصه: ((حدثني عثمان بن يحيى، عن عثمان القرقساني، قال حدثنا سفيان بن عيينة)) ، فجعل بين ((عثمان بن يحيى)) و ((سفيان بن عيينة)) رجلا يقال له ((عثمان القرقساني)) ! والذي في التفسير يدل على أن الراوي عن سفيان بن عيينة هو ((عثمان بن يحيى)) نفسه. فظني أن في إسناد التاريخ خطأ، ولعل صوابه: ((حدثني عثمان بن يحيى بن عثمان القرقساني، قال حدثنا سفيان بن عيينة)) . هذا ما وجدت، فعسى أن يجتمع عندي ما أتبين به صواب ذلك أو خطأه. (2) في المطبوعة: ((ولكن يكون منتقصة، وقال العرب لعامر ... )) ، وبين الكلام بياض. وفي المخطوطة: ((ولكن تكون ف منتقصة. وقد قال الشاعر ... )) بياض بين الكلام، فغير ناشر المطبوعة ما في المخطوطة بلا أمانة. وفي المخطوطة فوق البياض ((كذا)) وفي الهامش حرف (ط) للدلالة على الخطأ. ودلتني لافاء بعد البياض أن صواب هذا الذي بيض له ناسخ المخطوطة هو ((حروف)) ، فاستقام الكلام. ومثال الترخيم في ((عامر)) قول الحطيئة لعامر بن الطفيل: يَا عَامِ، قد كُنْتَ ذَا بَاعٍ وَمَكْرُمَةٍ ... لَوْ أَنَّ مَسْعَاةَ مَنْ جَارَيْتَهُ أَمَمُ ومثال الترخيم في ((الحارث)) قول زهير: يَا حارِ، لا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بِدَاهِيَةٍ ... لَم يَلْقَهَا سُوقَةٌ قَبْلِي وَلا مَلِكُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 344 القول في تأويل قوله: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) } قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه. أقسم أن مَنْ اتبع من بني آدم عدوَّ الله إبليس وأطاعه وصَدَّق ظنه عليه، أن يملأ من جميعهم = يعني: من كفرة بني آدم تُبّاع إبليس، ومن إبليس وذريته = جهنم. فرحم الله امرأً كذّب ظن عدوِّ الله في نفسه، وخيَّب فيها أمله وأمنيته، ولم يمكّن من طمعَ طمعٍ فيها عدوَّه، (1) واستغشَّه ولم يستنصحه، فإن الله تعالى ذكره إنما نبّه بهذه الآيات عباده على قِدَم عداوة عدوِّه وعدوهم إبليس لهم، وسالف ما سلف من حسده لأبيهم، وبغيه عليه وعليهم، وعرّفهم مواقع نعمه عليهم قديمًا في أنفسهم ووالدهم ليدّبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب، فينزجروا عن طاعة عدوه وعدوهم إلى طاعته ويُنيبوا إليها. * * * القول في تأويل قوله: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) } قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله لآدم: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما) . فأسكن جل ثناؤه آدم وزوجته الجنة   (1) في المطبوعة: ((ولم يكن ممن طمع فيها عدوه)) ، غير ما في المخطوطة لأنه لم يفهمه، فأساء غاية الإساءة، وافسد الكلام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه منها، وأباح لهما أن يأكلا من ثمارها من أيّ مكان شاءا منها، ونهاهما أن يقربا ثمر شجرة بعينها. * * * وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك، وما نرى من القول فيه صوابًا، في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. (1) * * * = (فتكونا من الظالمين) ، يقول: فتكونا ممن خالف أمر ربِّه، وفعل ما ليس له فعله. * * * القول في تأويل قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فوسوس لهما) ، فوسوس إليهما، وتلك "الوسوسة" كانت قوله لهما: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) ، وإقسامه لهما على ذلك. * * * وقيل:"وسوس لهما"، والمعنى ما ذكرت، كما قيل:"غَرِضت إليه"، بمعنى: اشتقْتُ إليه، وإنما تعني: غَرضت من هؤلاء إليه. (2) فكذلك معنى ذلك.   (1) انظر ما سلف 1: 512 - 524. (2) في المطبوعة: ((كما قيل: عرضت له، بمعنى: استبنت إليه)) ، غير ما في المخطوطة تغييرًا تامًا، فأتانا بلغو مبتذل لا معنى له. وكان في المخطوطة: ((كما قيل: عرضت إليه بمعنى: اشتقت إليه)) ، هكذا، وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: ((غرضت إليه)) بمعنى: اشتقت إليه، ((إنما تعني: غرضت من هؤلاء إليه)) ، هذا كأنه نص قول الأخفش في تفسير قول ابن هرمة: مَنْ ذَا رَسُولٌ ناصِحٌ فَمُبَلِّغٌ ... عَنِّي عُلَيَّةَ غَيْرَ قَوْلِ الكاذِبِ ? أَنِّي غَرِضْتُ إلَى تَنَاصُفِ وَجْهِهَا ... غَرَضَ المُحِبِّ إلى الحَبِيبِ الغائِبِ قوله: ((تناصف وجهها)) ، أي محاسن وجهها التي ينصف بعضها بعضًا في الحسن. قال الأخفش: ((تفسيره: غرضت من هؤلاء إليه، لأن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل)) ويريد الأخفش أنهم يقولون: ((غرض غرضًا)) ، إذا ضجر وقلق ومل، فلما أدخل مع الفعل ((إلى)) ، صار معناه: ضجر من هذا نزاعًا واشتياقًا إلى هذا. وموضع الاستشهاد أن ((الوسوسة)) الصوت الخفي من حديث النفس، فنقل إبليس ما حاك في نفسه إليهما، فلذلك أدخل على ((الوسوسة)) ((اللام)) و ((إلى)) . ولكن أبا جعفر أدمج الكلام ههنا إدماجًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 346 فوسوس من نفسه إليهما الشيطان بالكذب من القيل، ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوءاتهما، كما قال رؤبة: * وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقْ * (1) * * * ومعنى الكلام: فجذب إبليس إلى آدم حوّاء، وألقى إليهما: ما نهاكما ربكما عن أكل ثمر هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين = ليبدي لهما ما واراه الله عنهما من عوراتهما فغطاه بستره الذي ستره عليهما. * * * وكان وهب بن منبه يقول في الستر الذي كان الله سترهما به، ما:- 14393- حدثني به حوثرة بن محمد المنقري قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن ابن منبه، في قوله: (فبدت لهما سوءاتهما) ، قال: كان عليهما نور، لا ترى سوءاتهما. (2) * * *   (1) ديوانه: 108، اللسان (وسس) ، وهذا بيت من أرجوزته التي مضت منها أبيات كثيرة. وهذا البيت من أبيات في صفة الصائد المختفي، يترقب حمر الوحش، ليصيب منها. يقول لما أحس بالصيد وأراد رميه، وسوس نفسه بالدعاء حذر بالدعاء حذر الخيبة ورجاء الإصابة. (2) الأثر: 14393 - ((حوثرة بن محمد بن قديد المنقري)) ، أبو الأزهر الوراق روى عنه ابن ماجه، وابن خزيمة، وابن صاعد، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 /2 / 283. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 347 القول في تأويل قوله: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقال الشيطان لآدم وزوجته حواء: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا ثمرَها، إلا لئلا تكونا ملكين. * * * = وأسقطت"لا" من الكلام، لدلالة ما ظهر عليها، كما أسقطت من قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، [سورة النساء: 176] . والمعنى: يبين الله لكم أن لا تضلوا. * * * وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يزعم أن معنى الكلام: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تكونا ملكين، كما يقال:"إياك أن تفعل" كراهيةَ أن تفعل. * * * ="أو تكونا من الخالدين"، في الجنة، الماكثين فيها أبدًا، فلا تموتا. (1) * * * والقراءة على فتح"اللام"، بمعنى: ملكين من الملائكة. * * * وروي عن ابن عباس، ما:- 14394- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى الأعمى، عن السدّي قال: كان ابن عباس يقرأ:"إلا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ"، بكسر "اللام". * * * وعن يحيى بن أبي كثير، ما:-   (1) انظر تفسير ((الخلود)) فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 348 14395- حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثني القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون قال، حدثنا يعلى بن حكيم، عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأها:"مَلِكَيْنِ"، بكسر"اللام". * * * وكأنَّ ابن عباس ويحيى وجَّها تأويل الكلام إلى أن الشيطان قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين من الملوك = وأنهما تأوّلا في ذلك قول الله في موضع آخر: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) ، [سورة طه: 120] . * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة في ذلك بغيرها، القراءةُ التي عليها قرأة الأمصار وهي، فتح"اللام" من: "مَلَكَيْنِ"، بمعنى: ملكين، من الملائكة، لما قد تقدم من بياننا في أن كل ما كان مستفيضًا في قرأة الإسلام من القراءة، فهو الصواب الذي لا يجوزُ خلافه. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وقاسمهما) ، وحلف لهما، كما قال في موضع آخر: (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ) ، [سورة النمل: 49] ، بمعنى تحالفوا بالله، وكما قال خالد بن زهير [ابن] عمّ أبي ذويب: (1)   (1) جاء في المطبوعة والمخطوطة ((خالد بن زهير عم أبي ذؤيب)) ، ولم أجد هذا القول لأحد، بل الذي قالوه أن ((خالد بن زهير الهذلي)) ، هو ابن أخت أبي ذؤيب، أو ابن أخيه، أو: ابن عم أبي ذؤيب. فالظاهر أن صواب الجملة هو ما أثبت. انظر خزانة الأدب 2: 320، 321 /3: 597، 598، 647، 648. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 349 وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْدًا لأَنْتُمُ ... ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا (1) بمعنى: وحالفهما بالله، وكما قال أعشى بني ثعلبة: رَضِيعَيْ لِبَانٍ، ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَمَا ... بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ (2) بمعنى تحالفا. * * *   (1) ديوان الهذلين 1: 158، من قصائده التي تقارضها هو وأبو ذؤيب في المرأة التي كانت ضصديقة عبد عمرو بن مالك، فكان أبو ذؤيب رسوله إليها، فلما كبر عبد عمرو احتال لها أبو ذؤيب فأخذها منه وخادنها. وغاضبها أبو ذؤيب، فكان رسوله إلى هذه المرأة ابن عمه خالد بن زهير، ففعل به ما فعل هو بعبد عمرو بن مالك، أخذ منه المرأة فخادنه، فغاضبه أبو ذؤيب وغاضبها، وقال لها حين جاءت تعتذر إليه: تُرِيدينَ كَيْمَا تَجْمَعِينِي وَخَالِدًا! ... وَهَلْ يُجْمَعُ السَّيْفَان وَيْحَكِ فِي غِمْدِ! أَخَالِدُ، مَا رَاعَيْتَ من ذِي قَرَابَةٍ ... فَتَحْفَظَنِي بِالْغَيْبِ، أوْ بَعْضَ مَا تُبْدِي دَعَاكَ إلَيْهَا مُقْلَتَاها وَجِيدُهَا ... فَمِلْتَ كَمَا مَالَ المُحِبُّ عَلَى عَمْدِ ثم قال لخالد: رَعَي خَالِدٌ سِرِّي، لَيَالِيَ نَفْسُهُ ... تَوَالَى على قَصْدِ السَّبِيلِ أُمُورُهَا فَلَمَّا تَرَامَاهُ الشَّبَابُ وَغَيُّهُ، ... وَفي النَّفْسِ مِنْهُ فِتْنَةٌ وَفُجُورُهَا لَوَى رَأْسَهُ عَنِّي، ومَالَ بِوُدِّه ... أَغَانِيجُ خَوْدٍ كَانَ قِدْمًا يَزُورُهَا فأجابه خالد من أبيات: فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَها ... وَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا فَإنَّ الَّتِي فِينَا زَعَمْتَ، ومِثْلُهَا ... لَفِيكَ، وَلَكِنِّي أَرَاكَ تَجُورُهَا تَنَقَّذْتَهَا مِنْ عَبْدِ عَمْرو بن مَالِكٍ ... وأَنْتَ صَفِيُّ النَّفْسِ مِنْهُ وَخِيرُها يُطِيلُ ثَوَاءً عِنْدَها لِيَرُدَّهَا ... وَهَيْهَاتَ مِنْهُ دُورُهَا وقُصُورها وَقَاسَمَهَا بالله ............... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و ((السلوى)) ، العسل. ((شار العسل يشوره)) ، أخذ من موضعه في الخلية. (2) ديوانه: 150، اللسان (عوض) (سحم) من قصيدة مضت منها أبيات كثيرة. وقد ذكرت هذا البيت في شرح بيت سالف 10: 451، تعليق: 1 = و ((الأسحم)) ، الضارب إلى السواد، و ((عوض)) لما يستقبل من الزمان بمعنى: ((أبدًا)) . واختلفوا في معنى ((بأسحم داج)) ، وإقسامه به. فقالوا: أراد الليل. وقالوا: أراد سواد حلمة سدي أمه. وقيل أراد الرحم وظلمته. قيل: أراد الدم، لسواده، تغمس فيه اليد عند التحالف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 350 وقوله: (إني لكما لمن الناصحين) أي: لممن ينصح لكما في مشورته لكما، وأمره إياكما بأكل ثمر الشجرة التي نهيتما عن أكل ثمرها، وفي خبري إياكما بما أخبركما به، من أنكما إن أكلتماه كنتما ملكين أو كنتما من الخالدين، كما:- 14396- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) ، فحلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يُخْدع المؤمن بالله، فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول:"من خادَعنا بالله خُدِعْنا". * * * القول في تأويل قوله: {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فدلاهما بغرور) ، فخدعهما بغرور. * * * يقال منه:"ما زال فلان يدلّي فلانًا بغرور"، بمعنى: ما زال يخدعه بغرور، ويكلمه بزخرف من القول باطل. (1) * * * = (فلما ذاقا الشجرة) ، يقول: فلما ذاق آدم وحواء ثمر الشجرة، يقول: طعماه (2) = (بدت لهما سوءاتهما) ، يقول: انكشفت لهما سوءاتهما، لأن الله   (1) انظر تفسير ((الغرور)) فيما سلف ص: 123، تعليق: 2 والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((ذاق)) فيما سلف ص: 209، تعليق: 1، والمراجع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 أعراهما من الكسوة التي كان كساهما قبل الذنب والخطيئة، فسلبهما ذلك بالخطيئة التي أخطآ والمعصية التي ركبا (1) = (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ، يقول: أقبلا وجعلا يشدَّان عليهما من ورق الجنة، ليواريا سوءاتهما، كما:- 14397- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ، قال: جعلا يأخذان من ورق الجنة، فيجعلان على سوءاتهما. 14398- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان آدم كأنه نخلةٌ سَحُوق، (2) كثيرُ شعر الرأس، فلما وقع بالخطيئة بدت له عورته، وكان لا يراها، فانطلق فارًّا، فتعرضت له شجرة فحبسته بشعره، فقال لها: أرسليني! فقالت: لست بمرسلتك! فناداه ربه: يا آدم، أمنِّي تفرّ؟ قال: لا ولكني استحييتك. (3) 14399- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان بن عيينة وابن مبارك، عن الحسن، عن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة. فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما، وكان الذي وَارى   (1) انظر تفسير ((بدا)) فيما سلف 5: 582 /9: 350. = وتفسير ((السوأة)) فيما سلف 10: 229، وما سيأتي ص: 361، تعليق: 3. (2) ((نخلة سحوق)) هي الطويلة المفرطة التي تبعد ثمرها على المجتنى. (3) الأثر: 14398 - ((الحجاج)) هو: ((الحجاج بن المنهال)) ، مضى مرارًا. و ((أبو بكر)) هو ((أبو بكر الهذلي)) ، مضى برقم: 597، 8376، 13054، وهو ضعيف ليس بثقة. وهذا الخبر، ذكره، ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 458، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب موقوفًا غير مرفوع. ثم قال ابن كثير: ((وقد رواه ابن جرير وابن مردويه، من طرق، عن الحسن عن أبي كعب مرفوعًا، والموقوف أصح إسنادًا)) . وهو كما قال. وسيأتي برقم: 14403، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، موقوفًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 352 عنهما من سوءايتهما أظفارُهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ورق التين، يلصقان بعضها إلى بعض. فانطلق آدم مولّيًا في الجنة، فأخذت برأسه شجرة من الجنة، فناداه: أي آدم أمني تفرّ؟ قال: لا ولكني استحييتك يا رب! قال: أما كان لك فيما منحتُك من الجنة وأبحتُك منها مندوحةٌ عما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. قال: وهو قول الله: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) . قال: فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كدًّا. قال: فأهبط من الجنة، وكانا يأكلان فيها رغدًا، فأهبطا في غيحيىر رغد من طعام وشراب، فعُلّم صنعة الحديد، وأُمر بالحرث، فحرث وزرع ثم سقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم داسَه، ثم ذرّاه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلعْه حتى بُلِّعَ منه ما شاء الله أن يبلعَ. (1) 14400- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يخصفان) ، قال: يرقعان، كهيئة الثوب. 14401- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يخصفان عليهما من الورق كهيئة الثوب. 14402- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما) ، وكانا قبل ذلك   (1) الأثر: 14399 - ((الحسن بن عمارة بن المضرب البجلي)) ، كان على قضاء بغداد في ولاية المنصور. قال أحمد: ((متروك الحديث، كان منكر الحديث، وأحاديثه موضوعة، لا يكتب حديثه)) . والقول فيه أشد من هذا. مترجم في التهذيب، والكبير 1 /2 / 300، وابن أبي حاتم 1 /2 / 27. وكان في المطبوعة: ((عن الحسن عن عمارة)) ، وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت من المخطوطة، وابن كثير في تفسيره 3: 459. وفي المطبوعة وابن كثير: ((فلم يبلغه، حتى بلغ ... )) كل ذلك بالغين المعجمة، والذي في المخطوطة مهمل، وظني أنه الصواب المطابق للسياق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 لا يريانها = (وطفقا يخصفان) ، الآية. 14403- . . . . قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا الحسن، عن أبي بن كعب: أن آدم عليه السلام كان رجلا طُوالا كأنه نخلة سَحُوق، كثير شعر الرأس. فلما وقع بما وقع به من الخطيئة، بدت له عورته عند ذلك، وكان لا يراها. فانطلق هاربًا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها: أرسليني! قالت: إني غير مرسلتك! فناداه ربه: يا آدم، أمنّي تفرّ؟ قال: رب إني استحييتك. (1) 14404- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ، قال: ورق التين. 14405- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ، قال: ورق التين. 14406- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن حسام بن مِصَكّ، عن قتادة = وأبي بكر، عن غير قتادة = قال: كان لباس آدم في الجنة ظُفُرًا كله، فلما وقع بالذنب، كُشِط عنه وبدت سوءته = قال أبو بكر: قال غير قتادة: (فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ، قال: ورق التين. (2) 14407- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) الأثر: 14403 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 14398، فهذا هو الخبر الموقوف، وهو أصح إسنادًا من ذاك المرفوع. (2) الأثر: 14406 - ((حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي)) ، ضعيف فاحش الخطأ والوهم. مضى برقم: 11720. وكان في المطبوعة: ((حسام بن معبد)) لم يحسن قراءة المخطوطة. و ((أبو بكر)) ، هو (أبو بكر الهذلي)) ، ضعيف أيضًا، مضى قريبًا برقم: 14398. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 معمر، عن قتادة، في قوله: (بدت لهما سوءاتهما) ، قال: كانا لا يريان سوءاتهما. 14408- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول: (يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) ، [سورة الأعراف: 27] . قال: كان لباس آدم وحواء عليهما السلام نورًا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا. فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوءاتهما. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى آدمَ وحواءَ ربُّهما: ألم أنهكما عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها، وأعلمكما أن إبليس لكما عدو مبين = يقول: قد أبان عداوته لكما، بترك السجود لآدم حسدًا وبغيًا، (2) كما:- 14409- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قوله: (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) ، لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب، أطعمتني حواء! قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية! قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس! قال: ملعون مدحور! أما أنت يا حواء   (1) الأثر: 14408 - قال ابن كثير في تفسيره 3: 460: ((رواه ابن جرير بسند صحيح إليه)) . (2) انظر تفسير ((مبين)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 355 فكما دمَّيت الشجرة تَدْمَيْن كل شهر. وأما أنت يا حية، فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك، وسيشدخُ رأسك من لقيك، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ. (1) 14410- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عباد بن العوّام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني! قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْهًا، ولا تضع إلا كرها. قال: فرنَّت حواء عند ذلك، فقيل لها: الرنّة عليك وعلى ولدك. (2) * * *   (1) الأثر: 14409 - مضى الخبر مطولا بهذا الإسناد رقم: 752، مع اختلاف يسير في لفظه. وانظر تخريجه هناك. (2) ((رنت المرأة ترن رنينًا)) : أي صوتت وصاحت من الحزن والجزع. و ((الرنة)) : الصيحة الحزينة عند البكاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 القول في تأويل قوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) } قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن آدم وحواء فيما أجاباه به، واعترافِهما على أنفسهما بالذنب، ومسألتهما إياه المغفرة منه والرحمة، خلاف جواب اللعين إبليس إياه. ومعنى قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) ، قال: آدم وحواء لربهما: يا ربنا، فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك، (1) وبطاعتنا عدوَّنا وعدوَّك، فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه، من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها = (وإن لم تغفر لنا) ، يقول: وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا، وتترك فضيحتنا به   (1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولعل الصواب: ((فعلنا الظلم بأنفسنا)) . وانظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 بعقوبتك إيانا عليه (1) ="وترحمنا"، بتعطفك علينا، وتركك أخذنا به (2) = (لنكونن من الخاسرين) ، يعني: لنكونن من الهالكين. * * * وقد بيَّنا معنى"الخاسر" فيما مضى بشواهده، والرواية فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * 14411- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قال آدم عليه السلام: يا رب، أرأيتَ إن تبتُ واستغفرتك؟ قال: إذًا أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة، وسأل النَّظِرة، فأعطى كلَّ واحد منهما ما سأل. 14412- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا) ، الآية، قال: هي الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربه. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذريته، وآدم وولده، والحية. يقول تعالى ذكره لآدم وحواء وإبليس والحية: اهبطوا من السماء إلى الأرض، بعضكم لبعض عدوّ، كما:-   (1) انظر تفسير ((المغفرة)) فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) . (2) انظر تفسير ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) . (3) انظر تفسير ((الخسارة)) فيما سلف ص: 315، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 357 14413- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن طلحة، عن أسباط، عن السدي: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) ، قال: فلعنَ الحية، وقطع قوائمها، وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب، وأهبطوا إلى الأرض: آدم، وحواء، وإبليس، والحية. (1) 14414- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) ، قال: آدم، وحواء، والحية. (2) * * * وقوله: (ولكم في الأرض مستقر) ، (3) يقول: ولكم، يا آدم وحواء، وإبليس والحية = في الأرض قرارٌ تستقرونه، وفراش تمتهدونه، (4) كما:- 14415- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ولكم في الأرض مستقر) ، قال: هو قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا) ، [سورة البقرة: 22] . (5) * * * وروي عن ابن عباس في ذلك، ما:- 14416- حدثت عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس قوله: (ولكم في الأرض مستقر) ، قال: القبور. (6) * * *   (1) الأثر: 14413 - ((عمرو بن طلحة)) ، هو ((عمرو بن حماد بن طلحة القناد)) ، منسوبًا إلى جده. وقد مضى مئات من المرات في هذا الإسناد وغيره، ((عمرو بن حماد، عن أسباط)) . وقد سلف برقم: 755. (2) الأثر: 14414 - مضى برقم: 754. (3) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 1: 535 - 541. (4) انظر تفسير ((مستقر)) فيما سلف 1: 539 /11: 434، 562 - 572. (5) الأثر: 14415 - مضى برقم: 765. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: ((هو الذي جعل ... )) ، بزيادة ((هو)) ، وهو سبق قلم من الناسخ. (6) الأثر: 14416 - انظر ما سلف رقم: 767، بغير هذا الإسناد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 358 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ آدم وحواءَ وإبليس والحية، إذ أهبطوا إلى الأرض: أنهم عدوٌّ بعضهم لبعض، وأن لهم فيها مستقرًّا يستقرون فيه، ولم يخصصها بأن لهم فيها مستقرًّا في حال حياتهم دون حال موتهم، بل عمَّ الخبرَ عنها بأن لهم فيها مستقرًّا، فذلك على عمومه، كما عمّ خبرُ الله، ولهم فيها مستقر في حياتهم على ظهرها، وبعد وفاتهم في بطنها، كما قال جل ثناؤه: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) ، [سورة المرسلات: 25-26] . * * * وأما قوله: (ومتاع إلى حين) ، فإنه يقول جل ثناؤه:"ولكم فيها متاع"، تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا، (1) وذلك هو الحين الذي ذكره، كما:- 14417- حدثت عن عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: (ومتاع إلى حين) ، قال: إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا. * * * و"الحين" نفسه: الوقت، غير أنه مجهول القدر (2) ، يدل على ذلك قول الشاعر: (3) وَمَا مِرَاحُكَ بَعْدَ الْحِلْمِ وَالدِّينِ ... وَقَدْ عَلاكَ مَشِيبٌ حِينَ لا حِينِ (4) أي وقت لا وقت.   (1) انظر تفسير ((المتاع)) فيما سلف 1: 539 - 541 /11: 71، تعليق: 2. والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الحين)) فيما سلف 1: 540، ولم يذكر هذا هناك في تفسير نظيرة هذه الآية. (3) هو جرير. (4) ديوانه: 586، وسيبويه 1: 358، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 212، والخزانة 2: 94، وغيرها. مطلع قصيدة في هجاء الفرزدق، ورواية الديوان، وسيبويه: * ما بالُ جَهْلِكَ بَعْدَ الْحِلْمِ والدِّينِ * وبعده: لِلْغَانِيَاتِ وِصَالٌ لَسْتُ قَاطِعَهُ ... عَلَى مَوَعدِهَ مِنْ خُلْفٍ وَتَلْوِينِ إِنَّي لأَرْهَبُ تَصْدِيقَ الْوُشَاةِ بِنَا ... أَوْ أَنْ يَقُولَ غَوِىٌّ للنَّوَى: بِينِي و ((المراح)) (بكسر الميم) : المرح والاختيال والتبختر، وذلك من جنون الشاباب واعتداده بنفسه. وكأن رواية الديوان هي الجودي. وأنشده سيبويه شاهدًا على إلغاء ((لا)) وإضافة ((حين)) الأولى إلى ((حين)) الثانية، قال: فإنما هو حين حين، و ((لا)) بمنزلة ((ما)) إذا ألغيت. وهذا الذي ذكر أبو جعفر هو أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 212، وجاء بالبيت كما رواه هنا، وان كان في مطبوعة مجاز القرآن: ((وما مزاحك)) بالزاي، وهو خطأ مطبعي فيما أظن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 359 القول في تأويل قوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه: (فيها تحيون) ، يقول: في الأرض تحيون، يقول: تكونون فيها أيام حياتكم = (وفيها تموتون) ، يقول في الأرض تكون وفاتكم، (ومنها تخرجون) ، يقول: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء. * * * القول في تأويل قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سوءاتكمْ} قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرَّون للطواف، اتباعًا منهم أمرَ الشيطان، وتركًا منهم طاعةَ الله، فعرفهم انخداعهم بغروره لهم، حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعمَ به عليهم، حتى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 360 أبدى سوءاتهم وأظهرها من بعضهم لبعض، مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به، وأنهم قد سار بهم سيرته في أبويهم آدم وحواء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما ستر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوءاتهما فعرّاهما منه: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا) ، يعني بإنزاله عليهم ذلك، خلقَه لهم، ورزقه إياهم = و"اللباس" ما يلبسون من الثياب (1) = (يواري سوءاتكم) ، يقول: يستر عوراتكم عن أعينكم (2) = وكنى بـ"السوءات"، عن العورات. * * * = واحدتها"سوءة"، وهي"فعلة" من"السوء"، وإنما سميت"سوءة"، لأنه يسوء صاحبها انكشافُها من جسده، (3) كما قال الشاعر: (4) خَرَقُوا جَيْبَ فَتَاتِهِمُ ... لَمْ يُبَالُوا سَوْءَةَ الرَّجُلَهْ (5) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14418- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (لباسًا يواري سوءاتكم) ، قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراةً، ولا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه. 14419- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) انظر تفسير ((اللباس)) فيما سلف 3: 489 - 491 /5: 480 /11: 270. (2) انظر تفسير (وارى)) فيما سلف 10: 229. (3) انظر تفسير ((السوءة)) فيما سلف 10: 229 / وهذا الجزء ص: 352. (4) لم أعرف قائله. (5) الكامل 1: 165، وشرح الحماسة 1: 117، واللسان (رجل) ، وغيرهما، وقبل البيت: كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا ... غَيْرَ جِيرَانِي بَنِي جَبَلَهْ وروايتهم: ((لم يبالوا حرمة الرجله)) . وكنى بقوله: ((جيب فتاتهم)) ، عن عورتها وفرجها. وانث ((الرجل)) ، فجعل المرأة: ((رجلة)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 361 ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 14420- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا) ، قال: أربع آيات نزلت في قريش. كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة. 14421- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف قال: سمعت معبدًا الجهني يقول في قوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا) ، قال: اللباس الذي تلبسون. 14422- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم) ، قال: كانت قريش تطوف عراة، لا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه. وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة. 14423- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف، عن عوف، عن معبد الجهني: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم) ، قال: اللباس الذي يواري سوءاتكم: وهو لَبُوسكم هذه. (1) 14424- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لباسًا يواري سوءاتكم) ، قال: هي الثياب. 14425- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، حدثني مَنْ سمع عروة بن الزبير يقول، اللباس: الثياب. 14426- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا   (1) ((اللبوس)) ، الثياب، وهو مذكر، فإن ذهبت به إلى ((الثياب)) جاز لك أن تؤنث، وكان في المطبوعة: ((هو لبوسكم هذا)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 362 عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم) ، قال: يعني ثيابَ الرجل التي يلبسها. * * * القول في تأويل قوله: {وَرِيشًا} قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: (وَرِيشًا) ، بغير"ألف". * * * وذكر عن زر بن حبيش والحسن البصري: أنهما كانا يقرآنه:"وَرِياشًا". 14427- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبان العطار قال، حدثنا عاصم: أن زر بن حبيش قرأها:"وَرِياشًا". * * * قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك، قراءة من قرأ: (وَرِيشًا) بغير"ألف"، لإجماع الحجة من القرأة عليها. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسناده نظر: أنه قرأه:"وَرِياشًا". (1) فمن قرأ ذلك:"وَرِياشًا" فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع"الريش"، كما تجمع"الذئب"،"ذئابًا"، و"البئر""بئارًا". ويحتمل أن يكون أراد به مصدرًا، من قول القائل:"راشه الله يَريشه رياشًا ورِيشًا"، (2) كما يقال:"لَبِسه يلبسه لباسًا ولِبْسًا"، وقد أنشد بعضهم: (3)   (1) سيأتي هذا الخبر بإسناده رقم: 14446. (2) أراد هنا أن يجعل ((ريشا)) مصدرًا بكسر ((الراء)) ، كما هو بين في معاني القرآن للفراء 1: 375، ولذلك ضبطتها كذلك، والذي نص عليه أهل اللغة أن المصدر (ريشا)) بفتح فسكون. (3) هو حميد بن ثور الهلالي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 363 فَلَما كَشَفْنَ اللِّبْسَ عَنْهُ مَسَحْنَهُ ... بِأَطْرَافِ طَفْلٍ زَانَ غَيْلا مُوَشَّمَا (1) بكسر"اللام" من"اللبس". و"الرياش"، في كلام العرب، الأثاث، وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يُحْشى من فراش أو دِثَار. و"الريش" إنما هو المتاع والأموال عندهم. وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال. يقولون:"أعطاه سرجًا بريشه"، و"رحْلا بريشه"، أي بكسوته وجهازه. ويقولون:"إنه لحسن ريش الثياب"، وقد يستعمل"الرياش" في الخصب ورَفاهة العيش. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال:"الرياش"، المال: 14428- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،   (1) ديوانه: 14، ومعاني القرآن للفراء 1: 375، واللسان (لبس) (طفل) ، والمخصص 4: 35، وغيرها. وهذا بيت من قصيدة له طويلة في ديوانه، أرجح أنها مختلطة الترتيب، وهذا البيت مما اختلط. فإنه في صفة الرجل، فقال فيه (كما ورد في الديوان البيت رقم: 37) ، بعد أن زينته الجواري (والشعر في الديوان كثير الخطأ، فصححته) . تَنَاهَى عَلَيْهِ الصَّانِعَاتُ، وَشَاكَلَتْ ... بِهِ الخيلَ حَتَّى هَمَّ أَنْ يَتَحَمْحَمَا ثم قال بعد رقم: 40. تَخَالُ خِلالَ الرَّقْم لَمَّا سَدَلْنَهُ ... حِصَانًا تَهَادَى سَامِيَ الطَّرْفِ مُلْجَمَا وقال قبل البيت (وهما في ترتيب الديوان: 32، 33) : فَزَيَّنَّهُ بِالعِهْنِ حَتَّى لَوَ انَّهُ ... يُقَالُ لَهُ: هَابٍ، هَلُمَّ! لأَقْدَمَا جعل الهودج قد صار كأنه فرس عليه زينته وجلاله وسرجه. وقوله: (فلما كشفن اللبس عنه)) ، يعني الهودج. و ((مسحنه)) يعني الجواري اللواتي صنعه وزوقنه وزينه. و ((الطفل) (بفتح فسكون) هو البنان الناعم، وأراد: مسحنه بأطراف بنان طفل، فجعل ((طفلا)) بدلا من ((البنان)) و ((الغيل)) (بفتح فسكون) الساعد الريان الممتلئ. و ((الموشم)) ، عليه الوشم، وكان زينة للجاهلية أبطلها الإسلام، ولعن الله متخذها، رجلا كان أو امرأة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 364 عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وريشًا) ، يقول: مالا. 14429- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وريشًا) ، قال: المال. 14430- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14431- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ورياشًا"، قال: أما"رياشًا"، فرياش المال. (1) 14432- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول:"الرياش"، المال. 14433- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"ورياشًا"، يعني، المال. * ذكر من قال: هو اللباس ورفاهة العيش. 14434- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ورياشًا"، قال:"الرياش"، اللباس والعيش والنَّعيم. 14435- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف، عن عوف، عن معبد الجهني:"ورياشًا"، قال:"الرياش"، المعاش. 14436- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني:"ورياشًا"، قال: هو المعاش. * * *   (1) حيث جاءت ((رياش)) القراءة الثانية في هذه الأخبار، فإني تاركها على ما هي عليه لا أغيرها إلى قراءتنا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 وقال آخرون:"الريش"، الجمال. * ذكر من قال ذلك: 14437- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ورياشًا"، قال:"الريش"، الجمال. * * * القول في تأويل قوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"لباس التقوى"، هو الإيمان. * ذكر من قال ذلك: 14438- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولباس التقوى) ، هو الإيمان. 14439- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولباس التقوى) ، الإيمان. 14440- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج: (ولباس التقوى) ، الإيمان. * * * وقال آخرون: هو الحياء. * ذكر من قال ذلك: 14441- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف، عن عوف، عن معبد الجهني في قوله: (ولباس التقوى) ، الذي ذكر الله في القرآن، هو الحياء. 14442- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 366 عوف قال، قال معبد الجهني، فذكر مثله. 14443- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن معبد، بنحوه. * * * وقال آخرون: هو العمل الصالح. * ذكر من قال ذلك: 14444- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ولباس التقوى ذلك خير) ، قال: لباس التقوى: العمل الصالح. * * * وقال آخرون: بل ذلك هو السَّمْت الحسن. * ذكر من قال ذلك: 14445- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود، عن محمد بن موسى، عن. . . . بن عمرو، عن ابن عباس: (ولباس التقوى) ، قال: السمت الحسن في الوجه. (1) 14446- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه قميصٌ قُوهيّ محلول الزرّ، (2) وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام، ثم قال: يا أيها الناس، اتقوا الله ف   (1) الأثر: 14445 - في هذا الإسناد في المخطوطة: ((عن الدنا بن عمرو)) ، كلمة لم أعرف كيف تقرأ، فوضعت مكانها نقطًا، وكان في المطبوعة: ((الزباء بن عمرو)) ، لا أدري من أين جاء بهذا الاسم!! ووجدت في تفسير ابن كثير 3: 462: ((الديال بن عمرو)) ، وهذا أيضًا. لم أعرف ما يكون. ((محمد بن موسى)) ، لم أستطع أن أحدد من يكون. (2) ((القميص القوهي)) ، منسوب إلى ((قوهستان)) ، وهي أرض متصلة بنواحي هراة ونيسابور، ينسب إليها ضرب من الثياب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 367 ي هذه السرائر، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحدٌ قط سرًّا إلا ألبسه الله رداءَ علانيةٍ، (1) إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًا، ثم تلا هذه الآية:"وَرِيَاشًا" = ولم يقرأها: (وَرِيشًا) = (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) ، قال: السمتُ الحسن. (2) * * * وقال آخرون: هو خشية الله. * ذكر من قال ذلك: 14447- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدنى قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: (لباس التقوى) ، خشية الله. * * * وقال آخرون: (لباس التقوى) ، في هذه المواضع، ستر العورة. * ذكر من قال ذلك: 14448- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولباس التقوى) ، يتقي الله، فيواري عورته، ذلك"لباس التقوى". * * *   (1) نص ابن كثير في تفسيره، نقلا عن هذا الموضع من الطبري: ((ما أسر أحد سريرة إلا ألبسهما الله رداءها علانية)) ، ولا أدري من أين جاء هذا الاختلاف: وفي المطبوعة: ((رداءه)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 14446 - ((إسحاق بن الحجاج الرازي الطاحوني)) ، مضى برقم: 230، 1614، 10314. و ((إسحاق بن إسماعيل)) لعله ((إسحاق بن لإسماعيل الرازي)) ، أبو يزيد، حبويه. مترجم في ابن أبي حاتم 1 /1 / 212. و ((سليمان بن أرقم)) ، أبو معاذ. ضعف جدًا، متروك الحديث، مضى برقم: 4923. فمن أجل ضعف ((سليمان بن أرقم)) ، قال أبو جعفر فيما سلف ص: 363، تعليق: 1، أن في إسناد هذا الخبر نظرًا. وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره 3: 462، 463، وضعفه، ثم قال: ((وقد روى الأئمة، الشافعي وأحمد والبخاري في كتاب الأدب صحيحة، عن الحسن: أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام يوم الجمعة على المنبر)) . قلت: وخبر أحمد في المسند رقم: 521، وخبر البخاري في الأدب المفرد ص: 332، 333 برقم: 1301. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 368 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة المكيين والكوفيين والبصريين: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) ، برفع"ولباس". * * * وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة:"وَلِبَاسَ التَّقْوَى"، بنصب"اللباس"، وهي قراءة بعض قرأة الكوفيين. * * * فمن نصب:"ولباس"، فإنه نصبه عطفًا على"الريش"، بمعنى: قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا، وأنزلنا لباسَ التقوى. * * * وأما الرفع، فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به"اللباس". فكان بعض نحويي البصرة يقول: هو مرفوع على الابتداء، وخبره في قوله: (ذلك خير) . وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال: هذا غلط، لأنه لم يعد على"اللباس" في الجملة عائد، فيكون"اللباس" إذا رفع على الابتداء وجعل"ذلك خير" خبرًا. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: (ولباس) ، يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل"ذلك" من نعته. (1) * * * قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولى بالصواب في رافع"اللباس"، لأنه لا وجه للرفع إلا أن يكون مرفوعًا بـ"خير"، وإذا رفع بـ "خير" لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل"اللباس" نعتًا، لا أنه عائد على"اللباس" من ذكره في قوله: (ذلك خير) ، فيكون خير مرفوعًا بـ"ذلك"، و"ذلك"، به.   (1) هذا قول الفراء 1: 375 الجزء: 12 ¦ الصفحة: 369 فإذ، كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام = إذا رفع"لباس التقوى" =: ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه، خير لكم يا بني آدم، من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلناها إليكم، هكذا فالبَسوه. * * * وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا، فإنه:"يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا ولباس التقوى"، هذا الذي أنزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم، والريش، ولباس التقوى خير لكم من التعرِّي والتجرد من الثياب في طوافكم بالبيت، فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش، ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعرِّي من الثياب، فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة، كما فعل بأبويكم آدم وحواء، فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له، في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصَياه بأكلها. * * * قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، أعني نصب قوله:"وَلِبَاسَ التَّقْوَى"، لصحة معناه في التأويل على ما بيّنت، وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش، توبيخًا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت، ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال، مع الإيمان به واتباع طاعته = ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله، وتعرِّيهم، لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خيرٌ من بعض. وما يدل على صحة ما قلنا في ذلك، الآيات التي بعد هذه الآية، وذلك قوله: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزعُ عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما) وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) ، فإنه جل ثناؤه يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب، واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي، وبالإيمان به، واتباع أمره والعمل بطاعته، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 370 وينهى عن الشرك به واتباع أمر الشيطان، مؤكدًا في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا ولباسَ التقوى ذلك خير) . * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله:"ولباس التقوى"، استشعار النفوس تقوى الله، في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته، وذلك يجمع الإيمان، والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمتَ الحسن، لأن مَنْ اتقى الله كان به مؤمنًا، وبما أمره به عاملا ومنه خائفًا، وله مراقبًا، ومن أن يُرَى عند ما يكرهه من عباده مستحييًا. ومَنْ كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه، فحسن سَمْته وهَدْيه، ورُئِيَتْ عليه بهجة الإيمان ونوره. وإنما قلنا: عنى بـ"لباس التقوى"، استشعارَ النفس والقلب ذلك = لأن"اللباس"، إنما هو ادِّراع ما يلبس، واجتياب ما يكتسى، (1) أو تغطية بدنه أو بعضه به. فكل من ادَّرع شيئًا واجتابهُ حتى يُرَى عَيْنه أو أثرُه عليه، (2) فهو له"لابس". ولذلك جعل جل ثناؤه الرجال للنساء لباسًا، وهن لهم لباسًا،   (1) في المطبوعة: ((واحتباء ما يكتسى)) ، غير ما في المخطوطة، الخطأ في نقطها، فأساء غاية الإساءة، كان في المخطوطة: ((واحنتاب)) ، وصواب قراءتها ما أثبت وانظر التعليق التالي، ((اجتاب الثوب اجتيابًا)) ، لبسه، قال لبيد: فَبِتِلْكَ إذْ رَقَصَ اللَّوَامِعُ بِالضُّحَى ... وَاجْتَابَ أَرْدِيَةَ السَّرَابِ إكَامُها أَقْضِي اللُّبَانَةَ لا أُفَرِّطُ رِيبَةً ... أَوْ أَنْ يَلُومَ بِحَاجَةٍ لَوَّامُها (2) في المطبوعة: ((فكل من اردع شيئًا واحتبى به حتى يرى هو أو أثره عليه)) ، أساء كما أساء في السالف، ولكن كان الخطأ أعذر له، لأنه فيها ((فكل من ادرع شيئًا واحبا)) هذا آخر السطر، ثم بدأ في السطر التالي ((به حتى يرى عنه أو أثره عليه)) . فجاء الناشر فجعلها ((واحتبى به)) والصواب ما أثبت، وإنما قطع الناسخ الكلمة في سطرين!! وانظر التعليق السالف. وأما قوله في المطبوعة: ((حتى يرى هو أو أثره عليه)) ، فقد غيره تغييرًا لا يجدي، وصواب قراءة المخطوطة كما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 371 وجعل الليل لعباده لباسًا. (1) * * * * ذكر من تأول ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله، إذا قرئ قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) ، رفعًا. 14449- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولباس التقوى) ، الإيمان = (ذلك خير) ، يقول: ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوءاتكم. 14450- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولباس التقوى) ، قال: لباس التقوى خير، وهو الإيمان. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ذلك الذي ذكرت لكم أنّي أنزلته إليكم، أيها الناس، من اللباس والرياش، من حجج الله وأدلته التي يعلم بها مَنْ كفر صحة توحيد الله، وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة = (لعلهم يذكرون) ، يقول جل ثناؤه: جعلت ذلك لهم دليلا على ما وصفت، ليذكروا فيعتبروا وينيبوا إلى الحق وترك الباطل، رحمة مني بعبادي. (2) * * *   (1) شاهد الأول آية ((سورة البقرة)) : 187: " هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ". وشاهد الثاني على آية ((سورة النبأ)) : 10: " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ". (2) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . = وتفسير ((يذكر)) فيما سلف منها (ذكر) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 القول في تأويل قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوءاتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم، كما فعل بأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما، فأخرجهما بما سبَّب لهما من مكره وخدعه، من الجنة، ونزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس، ليريهما سوءاتهما بكشف عورتهما، وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترةً. * * * وقد بينا فيما مضى أن معنى"الفتنة"، الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وقد اختلف أهل التأويل في صفة"اللباس" الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه نزعه عن أبوينا، وما كان. فقال بعضهم: كان ذلك أظفارًا. * ذكر من لم يذكر قوله فيما مضى من كتابنا هذا في ذلك: 14451- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عكرمة: (ينزع عنهما لباسهما) ، قال: لباس كل دابة منها، ولباس الإنسان الظُّفر، فأدركت آدم التوبة عند ظُفُره = أو قال: أظفاره. 14452- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن نضر   (1) انظر تفسير ((الفتنة)) فيما سلف 11: 388، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 373 أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: تركت أظفاره عليه زينة ومنافع، في قوله: (ينزع عنهما لباسهما) . (1) 14453- حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال، أخيرنا مخلد بن الحسين، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله: (ينزع عنهما لباسهما) ، قال: كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما، وتركت الأظفار تذكرة وزينة. 14454- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة في قوله: (ينزع عنهما لباسهما) ، قال: كان لباسه الظفر، فانتهت توبته إلى أظفاره. * * * وقال آخرون: كان لباسهما نورًا. * ذكر من قال ذلك: 14455- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن وهب بن منبه: (ينزع عنهما لباسهما) ، النور. 14456- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله: (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما) ، قال: كان لباس آدم وحواء نورًا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا. * * *   (1) الأثر: 14452 - ((عبد الحميد الحماني)) هو ((عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني)) ، مضى برقم: 718، 7863. و ((نضر، أبو عمر)) هو ((النضر بن عبد الرحمن)) ، أبو عمر الخراز، مضى أيضًا برقم 718، 10373، وكان في المطبوعة: ((نصر بن عمر)) ، غير ما في المخطوطة، وهو فيها: ((نصر أبي عمر)) ، غير منقوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 374 وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: (ينزع عنهما لباسهما) ، يسلبهما تقوى الله. * ذكر من قال ذلك: 14457- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مطلب بن زياد، عن ليث، عن مجاهد: (ينزع عنهما لباسهما) ، قال: التقوى. (1) 14458- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد: (ينزع عنهما لباسهما) ، قال: التقوى. 14459- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى حذر عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحواء، وأن يجرِّدهم من لباس الله الذي أنزله إليهم، كما نزع عن أبويهم لباسهما."اللباس" المطلق من الكلام بغير إضافة إلى شيء في متعارف الناس، وهو ما اجتابَ فيه اللابس من أنواع الكُسي، (2) أو غطى بدنه أو بعضه. وإذ كان ذلك كذلك، فالحق أن يقال: إن الذي أخبر الله عن آدم وحواء من لباسهما الذي نزعه عنهما الشيطان، هو بعض ما كانا يواريان به أبدانهما وعوْرَتهما.   (1) الأثر: 14457 - ((مطلب بن زياد بن أبي زهير الثقفي)) ، قال ابن سعد: ((كان ضعيفًا في الحديث جدًا)) ، وقال ابن عدي: ((وله أحاديث حسان وغرائب، ولم أر له منكرًا، وأرجو أنه لا بأس به)) . مترجم في التهذيب، والبخاري في الكبير 4 / 2 / 8، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4 /1 / 360، وذكر أن أحمد ويحيى بن معين وثقا. وقال أبو حاتم: ((يكتب حديثه، ولا يحتج به)) . (2) في المطبوعة: ((هو ما اختار فيه اللابس من أنواع الكساء)) ، ولم يحسن قراءة المخطوطة، فغير كما سلف قريبًا، فرددتها إلى أصلها. وقوله: ((اجتاب فيه اللابس)) ، أدخل ((فيه)) مع ((اجتاب)) ، وهو صحيح في قياس العربية، لأنهم قالوا: ((اجتاب الثوب والظلام)) ، إذا دخل فيهما، فأعطى ((اجتاب)) معنى ((دخل)) ، فألحق بها حرف الجر، لمعنى الدخول. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 375 وقد يجوز أن يكون ذلك كان ظفرًا= ويجوز أن يكون كان ذلك نورًا = ويجوز أن يكون غير ذلك = ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك تثبت به الحجة، فلا قول في ذلك أصوب من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه: (ينزع عنهما لباسهما) . * * * وأضاف جل ثناؤه إلى إبليس إخراجَ آدم وحواء من الجنة، ونزعَ ما كان عليهما من اللباس عنهما، وإن كان الله جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهما عقوبة على معصيتهما إياه، إذ كان الذي كان منهما في ذلك عن تسْنيةِ ذلك لهما بمكره وخداعه، (1) فأضيف إليه أحيانًا بذلك المعنى، وإلى الله أحيانًا بفعله ذلك بهما. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو= و"الهاء" في"إنه" عائدة على الشيطان = و"قبيله"، يعني: وصنفه وجنسه الذي هو منه واحدٌ جمع جيلا (2) وهم الجن، كما:- 14460- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (إنه يراكم هو وقبيله) ، قال: الجن والشياطين.   (1) في المطبوعة: ((عن تسبيه ذلك لهما)) ، ولا معنى له، وهو في المخطوطة غير منقوط، وهذا صواب قراءته، ((سنى له الأمر)) ، سهله ويسره وفتحه. (2) في المطبوعة: ((الذي هو منه واحد جمعه قبل)) ، غير ما في المخطوطة، وفي المخطوطة كما كتبتها، إلا انه كتب ((صلا)) و ((الجيم)) بين القاف والجيم غير المنقوطة. واستظهرت هذا من نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 213، وهو: ((أي: وجيله الذي هو منه)) ، ومن نص صاحب لسان العرب: ((ويقال لكل جمع من شيء واحد، قبيل)) . و ((الجيل)) كل صنف من الناس، أو الأمة. يقال: ((الترك جيل، والصين جيل، والعرب جيل، والروم جيل)) ، وهم كل قوم يختصون بلغة، وتنشأ من جمعهم أمة وصنف من الناس موصوف معروف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 376 14461- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنه يراكم هو وقبيله) ، قال:"قبيله"، نسله. * * * وقوله: (من حيث لا ترونهم) ، يقول: من حيث لا ترون أنتم، أيها الناس، الشيطان وقبيله = (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) ، يقول: جعلنا الشياطين نُصراء الكفار الذين لا يوحِّدون الله ولا يصدقون رسله. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) } قال أبو جعفر: ذكر أن معنى"الفاحشة"، في هذا الموضع، (2) ما:- 14462- حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا أبو محياة، عن منصور، عن مجاهد: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، يقولون:"نطوف كما ولدتنا أمهاتنا"، فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء، (3) فتقول: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ (4) * * *   (1) انظر تفسير ((ولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (2) انظر تفسير ((الفاحشة)) ، و ((الفحشاء)) فيما سلف: ص: 218، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) ((القبل)) (بضمتين) : فرج المرأة والرجل. و ((النسعة)) : قطعة من الجلد مضفورة عريضة، تجعل على صدر البعير. (4) الأثر: 14462 - ((أبو محياة)) ، هو ((يحيى بن يعلي بن حرملة التيمي)) ، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 /2 / 311، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 196. ةسيأتي تخريج الخبر في تخريج الآثار: 14503 - 14506. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 377 14463- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا) ، فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة. 14464- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن مفضل، عن منصور، عن مجاهد، مثله. 14464- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير والشعبي: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة. 14465- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) ، قال: كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة، فإذا قيل: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها. 14466- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذا فعلوا فاحشة) ، قال: طوافهم بالبيت عراة. 14467- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا) ، قال: في طواف الحُمْس في الثياب، وغيرهم عراة. (1) 14468- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا) ،   (1) ((الحمس)) ، جمع ((أحمس)) هم قريش، لتشددهم في دينهم، وانظر تفسير ذلك مفصلا فيما سلف 3: 557، تعليق: 1، وانظر الأثر رقم: 3832، وأنها: ((ملة قريش)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 378 قال: كان نساؤهم يطفن بالبيت عراة، فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) ، الآية. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله، الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء، قبيحًا من الفعل، وهو"الفاحشة"، وذلك تعرِّيهم للطواف بالبيت وتجردهم له، فعُذِلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه، قالوا:"وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا، فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم، ونستنّ بسنتهم، والله أمرنا به، فنحن نتبع أمره فيه". يقول الله جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهم:"إن الله لا يأمر بالفحشاء"، يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها ="أتقولون"، أيها الناس،"على الله ما لا تعلمون"، يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرِّي والتجرد من الثياب واللباس للطواف، (1) وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟ * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبًا على الله: ما أمر ربي بما تقولون، بل (أمر ربي بالقسط) ، يعني: بالعدل، (2) كما:- 14469- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: ((أتروون على الله)) ، وأنا أرجح أن الصواب ((أتزورون)) ، أي: أتقولون الزور والكذب. (2) انظر تفسير ((القسط)) فيما سلف ص: 224، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 379 ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قل أمر ربي بالقسط) ، بالعدل. 14470- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قل أمر ربي بالقسط) ، والقسط: العدل. * * * وأما قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: وجِّهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة. * ذكر من قال ذلك: 14471- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) ، إلى الكعبة حيثما صليتم، في الكنيسة وغيرها. 14472- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) ، قال: إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة، في كنائسكم وغيرها. 14473- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) ، هو"المسجد"، الكعبة. 14474- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، عن عمر بن ذر، عن مجاهد في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) ، قال: الكعبة، حيثما كنت. 14475- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) ، قال: أقيموها للقبلة، هذه القبلة التي أمركم الله بها. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 380 وقال آخرون: بل عنى بذلك: واجعلوا سجودكم لله خالصًا، دون ما سواه من الآلهة والأنداد. * ذكر من قال ذلك. 14476- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) ، قال: في الإخلاص، أن لا تدعوا غيره، وأن تخلصوا له الدين. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما قاله الربيع: وهو أن القوم أُمِروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم، لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام، وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصًا، لا مُكاءً ولا تصدية. (1) وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله إنما خاطب بهذه الآية قومًا من مشركي العرب، لم يكونوا أهل كنائس وبيع، وإنما كانت الكنائس والبِيَع لأهل الكتابين. فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بِيعة:"وجِّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بِيعةٍ". * * * وأما قوله: (وادعوه مخلصين له الدين) ، فإنه يقول: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة، لا تخلطوا ذلك بشرك، ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكًا، (2) كما:- 14477- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وادعوه مخلصين له الدين) ، قال: أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل، ثم توجِّهون إلى البيت الحرام. * * *   (1) ((المكاء)) : الصفير، و ((التصدية)) : التصفيق. كانوا يطوفون بالبيت عراة يصفرون بأفواههم، ويصفقون بأيديهم. (2) انظر تفسير ((الدعاء)) ، و ((الإخلاص)) فيما سلف من فهارس اللغة (دعا) و (خلص) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 381 القول في تأويل قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (كما بدأكم تعودون) . فقال بعضهم: تأويله: كما بدأكم أشقياء وسُعَداء، كذلك تبعثون يوم القيامة. * ذكر من قال ذلك: 14478- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة) ، قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، كما قال جل ثناؤه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، [سورة التغابن: 2] ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم، مؤمنًا وكافرًا. 14479- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور قال، حدثنا أصحابنا، عن ابن عباس: (كما بدأكم تعودون) ، قال: يبعث المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا. 14480- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن الضريس، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن رجل، عن جابر قال: يبعثون على ما كانوا عليه، المؤمن على إيمانه، والمنافق على نفاقه. (1) 14481- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله فيهم: (كما بدأكم تعودون) ؟ ألم تسمع قوله: (فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة) ؟.   (1) الأثر: 14480 - ((يحيى بن الضريس بن يسار البجلي الرازي)) ثقة، كان صحيح الكتب، جيد الأخذ. مترجم في التهذيب، والكبير 4 /2 / 282، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 158. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 382 14482- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: (كما بدأكم تعودون) ، قال: رُدُّوا إلى علمه فيهم. 14483- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: (كما بدأكم تعودون) ، قال: من ابتدأ الله خلقه على الشِّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، (1) ثم صاروا إلى ما ابتدئ عليه خلقهم. 14484- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن وِقَاء بن إياس أبي يزيد، عن مجاهد: (كما بدأكم تعودون) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا. (2) 14485- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبي يزيد، عن مجاهد: (كما بدأكم تعودون) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا. (3) 14486- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: (كما بدأكم تعودون) ، قال: كما كتب عليكم تكونون.   (1) يعني سحرة فرعون، الذين آمنوا بموسى عليه وعلى نبينا السلام. (2) الأثر: 14484 - ((وقاء بن إياس الأسدي الوالبي)) ، أبو يزيد، ثقة، متكلم فيه، قال يحيى بن سعيد: ((ما كان بالذي يعتمد عليه)) . مترجم في التهذيب، والكبير 4 /2 / 188، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 49. وكان في المخطوطة: ((ورقاء بن إياس)) ، والصواب ما في المطبوعة. (3) الأثر: 14485 - ((أبو يزيد)) ، هو ((وقاء بن إياس)) ، المترجم في التعليق السالف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 383 14487- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله. 14488- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة) ، يقول: كما بدأكم تعودون، كما خلقناكم، فريق مهتدون، وفريق ضال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم. 14489- حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبي سفيان، عن الأعمش، عن سفيان، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُبعث كل نفس على ما كانت عليه. (1) 14490- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (كما بدأكم تعودون) ، قال: كما كتب عليكم تكونون. 14491- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ليث، عن مجاهد قال، يبعث المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا. 14492- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كما بدأكم تعودون) ، شقيًّا وسعيدًا. 14493- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد، مثله. * * *   (1) الأثر: 14489 - ((أبو سفيان)) ، هو ((طلحة بن نافع القرشي الواسطي)) ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 6654، 11517، 11518. وهو الذي يروي عن جابر، والأعمش روايته. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((عن سفيان، عن جابر)) ، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه منقولا عن تفسير الطبري، في تفسير ابن كثير 3: 466. وهذا خبر صحيح الإسناد. رواه مسلم في صحيحه 17: 210، من طريقين عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، ولفظه: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) . رواه ابن ماجه في سننه 1414، رقم: 4230، من طريق شريك، عن الأعمش، ولفظه: ((يحشر الناس على نياتهم)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 384 وقال آخرون: معنى ذلك: كما خلقكم ولم تكونوا شيئًا، تعودون بعد الفناء. * ذكر من قال ذلك: 14494- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن عوف، عن الحسن: (كما بدأكم تعودون) ، قال: كما بدأكم ولم تكونوا شيئًا فأحياكم، كذلك يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة. 14495- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن: (كما بدأكم تعودون) ، قال: كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء. 14496- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كما بدأكم تعودون) ، قال: بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم. 14497- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (كما بدأكم تعودون فريقًا هدى) ، يقول: كما خلقناكم أول مرة، كذلك تعودون. 14498- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (كما بدأكم تعودون) ، يحييكم بعد موتكم. 14499- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (كما بدأكم تعودون) ، قال: كما خلقهم أولا كذلك يعيدهم آخرًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، القولُ الذي قاله من قال: معناه: كما بدأكم الله خلقًا بعد أن لم تكونوا شيئًا، تعودون بعد فنائكم خلقًا مثله، يحشركم إلى يوم القيامة = لأن الله تعالى ذكره: أمر نبيه صلى الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 385 عليه وسلم أن يُعْلم بما في هذه الآية قومًا مشركين أهلَ جاهلية، لا يؤمنون بالمعاد، ولا يصدِّقون بالقيامة. فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة، ومثيبُ مَنْ أطاعه، ومعاقبُ مَنْ عصاه. فقال له: قل لهم: أمرَ ربي بالقسط، وأن أقيموا وجوهكم عند كل مسجد، وأن ادعوه مخلصين له الدين، وأن أقرُّوا بأنْ كما بدأكم تعودون = فترك ذكر"وأن أقروا بأن". كما ترك ذكر"أن" مع"أقيموا"، إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يؤمر بدعاء مَنْ كان جاحدًا النشورَ بعد الممات، إلى الإقرار بالصفة التي عليها ينشر مَنْ نُشِر، وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك مَنْ كان بالبعث مصدّقًا، فأما مَنْ كان له جاحدًا، فإنما يدعى إلى الإقرار به، ثم يعرَّف كيف شرائط البعث. على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:- 14500- حدثناه محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُحْشر الناس عُراة غُرْلا وأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) ، [سورة الأنبياء: 104] 14501- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن يوسف قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. 14502- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال: يا أيها الناس، إنكم تحشرون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 386 إلى الله حُفَاة غُرْلا (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) . (1) * * * = (2) ما يبيِّن صحة القول الذي قلنا في ذلك، من أن معناه: أن الخلقَ يعودون إلى الله يوم القيامة خلقًا أحياء، كما بدأهم في الدنيا خلقًا أحياء. * * * يقال منه:"بدأ الله الخلق يبدؤهم = وأبدأَهُم يُبْدِئهم إبداءً"، بمعنى خلقهم، لغتان فصيحتان. * * * ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه، وجرى به فيهم قضاؤه، فقال: هدى الله منهم فريقًا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون، وحقَّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد، باتخاذهم الشيطان من دون الله وليًّا. * * * وإذا كان التأويل هذا، كان"الفريق" الأول منصوبًا بإعمال"هدى" فيه، و"الفريق"، الثاني بوقوع قوله:"حق" على عائد ذكره في"عليهم"، كما قال جل ثناؤه: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، (3) [سورة الإنسان: 31] * * *   (1) الآثار: 14500 - 14502 - ((المغيرة بن النعمان النخعي)) ، ثقة، مضى برقم: 13622. وهذا الخبر رواه البخاري من طريق شعبة، عن المغيرة في صحيحه (الفتح 8: 332 / 11: 331) مطولا، ورواه مسلم في صحيحه مطولا: 17: 193، 194 من طريق شعبة أيضًا. ورواه أحمد في المسند مطولا ومختصرًا رقم: 1950، 2027، من طريق سفيان الثوري مختصرًا، كما رواه الطبري. ثم رواه مطولا من طريق شعبة رقم: 2096، 2281، 2282. ورواه النسائي في سننه 4: 117. وسيرويه أبو جعفر بأسانيده هذه فيما يلي، في تفسير ((سورة الأنبياء)) 17: 80 (بولاق) . و ((الغرل)) جمع ((أغرل)) ، هو الأقلف الذي لم يختن. (2) هذا تمام الكلام الأول، والسياق: ((على أن في الخبر الذي روى عن رسول الله ... ما يبيّن صحة القول)) . (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 376. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 387 ومن وجه تأويل ذلك إلى أنه: كما بدأكم في الدنيا صنفين: كافرًا، ومؤمنًا، كذلك تعودون في الآخرة فريقين: فريقًا هدى، وفريقًا حق عليهم الضلالة = نصب"فريقًا"، الأول بقوله:"تعودون"، وجعل الثاني عطفًا عليه. وقد بينا الصواب عندنا من القول فيه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجارُوا عن قصد المحجة، باتخاذهم الشياطين نُصراء من دون الله، وظُهراء، (2) جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوه وركبوا. وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ. وفريق الهدى، (3) فَرْقٌ. وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية. * * *   (1) انظر تفسير ((فريق)) فيما سلف 11: 490، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((ولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (3) انظر تفسير ((حسب)) فيما سلف 10: 478، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 388 القول في تأويل قوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرَّون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب، والمحرِّمين منهم أكل ما لم يحرِّمه الله عليهم من حلال رزقه، تبرُّرًا عند نفسه لربه: (يا بني آدم خذوا زينتكم) ، من الكساء واللباس = (عند كل مسجد وكلوا) ، من طيبات ما رزقتكم، وحللته لكم = (واشربوا) ، من حلال الأشربة، ولا تحرِّموا إلا ما حَرَّمْتُ عليكم في كتابي أو على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14503- حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النساء كنّ يطفن بالبيت عراة = وقال في موضع آخر: بغير ثياب = إلا أن تجعل المرأة على فرجها خِرقة، فيما وُصِف إن شاء الله، وتقول: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ قال: فنزلت هذه الآية: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) . (1)   (1) الأثر: 14503 - حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق، سأخرجها في هذا الموضع. ((يحيى بن حبيب بن عربي الشيباني)) ، أبو زكرياء، ثقة، مضى برقم: 7818، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 137. ((خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي)) ، ثقة ثبت إمام. مضى برقم: 7507، 7818، 9878. و ((سلمة)) ، هو ((سلمة بن كهيل)) ، مضى مرارًا. و ((مسلم البطين)) هو ((مسلم بن عمران)) ، ثقة روى له الجماعة. وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه 18: 162، من طريق غندر، عن شعبة (وهو الآتي رقم: 14506) . ورواه الحاكم في المستدرك 2: 319، 320 من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة، بنحوه، ولكن قال: ((نزلت هذه الآية: قل من حرم زينة الله)) ، ثم قال الحاكم: ((حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 389 14504- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 390 الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ فقال الله: (خذوا زينتكم) . (1) 14505- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عباس: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: الثياب. 14506- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل قال: سمعت مسلمًا البطين يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة = قال غندر: وهي عريانة = قال، وهب: كانت المرأة تطوف بالبيت وقد أخرجت صدرَها وما هنالك = قال غندر: وتقول:"مَنْ يعيرني تِطْوافًا"، (2) تجعله على فرْجها وتقول: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ فأنزل الله (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) . (3) 14507- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا. 14508- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) الآية" قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة = و"الزينة"، اللباس، وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك من جيِّد البزِّ والمتاع = فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد. 14509- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وابن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء: (خذوا زينتكم) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمروا أن يلبسوا ثيابهم. 14510- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، بنحوه. 14511- حدثني عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، البسوا ثيابكم. 14512- حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: كان ناس يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك. 14513- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمروا أن يلبسوا الثياب.   (1) الأثر: 14504 - مكرر الأثر السالف، وهناك تخريجه. (2) ((تطواف)) (بكسر التاء) : ثوب كانوا يتخذونه للطواف، قال النووي: ((وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة، ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها أبدًا، ويتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، ويسمى: اللقاء - حتى جاء الإسلام، فأمر الله بستر العورة فقال: خذوا زينتكم عند كل مسجد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يطوف بالبيت عريان)) وروى ((تطواف)) (بفتح التاء) ، وفسروه بأنه ((ذا تطواف)) ، على حذف المضاف. (3) الأثر: 14506 - مكرر الأثرين السالفين: 14503، 14504، سلف تخريجه في أولهما. وهذا نص حديث مسلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 391 14514- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: ما وارى العورة ولو عبَاءة. 14515- حدثنا عمرو قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وأبو عاصم، وعبد الله بن داود، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: ما يواري عورتك، ولو عباءة. 14516- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، في قريش، لتركهم الثياب في الطواف. 14517- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 14518- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: الثياب. 14519- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن إبراهيم، عن نافع، عن ابن طاوس، عن أبيه: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: الشَّمْلة من الزينة. (1) 14520- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: الثياب. 14521- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد وأبو أسامة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة،   (1) ((الشملة)) (بفتح فسكون) : كساء دون قطيفة، سمي بذلك لأنه يشمل البدن. ومنه ما نهى رسول الله عنه في الصلاة، وهو ((اشتمال الصماء)) ، وهو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل جسده كله، ولا يرفع منه جانبًا فيكون فيه فرجة تخرج منها يده. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 392 فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة فقالت: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ 14522- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، قال: كان حي من أهل اليمن، كان أحدهم إذا قدم حاجًّا أو معتمرًا يقول:"لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دَنِسْتُ فيه"، (1) فيقول: من يعيرني مئزرًا؟ فإن قدر على ذلك، وإلا طاف عريانًا، فأنزل الله فيه ما تسمعون: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) . 14523- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) يقول: ما يواري العورة عند كل مسجد. 14524- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة، إلا الحُمْس، قريش وأحلافهم. فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثياب أحمس، فإنه لا يحل له أن يلبس ثيابه. فإن لم يجد من يعيره من الحمس، فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا. وإن طاف في ثياب نفسه، ألقاها إذا قضى طوافه، يحرِّمها، فيجعلها حرامًا عليه. فلذلك قال الله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) . (2) 14525- وبه عن معمر قال، قال ابن طاوس، عن أبيه: الشَّملة، من الزينة. (3) 14526- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا   (1) ((الدنس)) في الثوب، لطخ الوسخ ونحوه، حتى في الأخلاق. وعنى بقوله: ((دنست فيه)) ، أي أتيت فيه ما يشين ويعيب من المعاصي. (2) انظر تفسير ((الحمس)) فيما سلف ص: 378، تعليق: 1. (3) الأثر: 14525 - انظر الأثر رقم: 14519. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 393 عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) ، الآية، كان ناسٌ من أهل اليمن والأعراب إذا حجوا البيت يطوفون به عُراة ليلا فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم، ولا يتعرّوا في المسجد. 14527- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (خذوا زينتكم) ، قال: زينتهم، ثيابهم التي كانوا يطرحونها عند البيت ويتعرّون. 14528- وحدثني به مرة أخرى بإسناده، عن ابن زيد في قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، قال: كانوا إذا جاءوا البيت فطافوا به، حرمت عليهم ثيابهم التي طافوا فيها. فإن وجدوا مَنْ يُعيرهم ثيابًا، وإلا طافوا بالبيت عراة. فقال: (من حرم زينة الله) ، قال: ثياب الله التي أخرج لعباده، الآية. * * * وكالذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسر فوا) . * ذكر من قال ذلك: 14529- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة. (1) 14530- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ، في الطعام والشراب. 14531- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) ((السرف)) (بفتحتين) : وهو الإسراف، ومجاوزة القصد. و ((المخيلة)) (بفتح الميم وكسر الخاء) : الاختيال والكبر، وحديث ابن عباس المعروف: ((كل ماشئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خلتان: سرف ومخيلة)) ، رواه البخاري. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 394 حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرِّمون عليهم الوَدَك ما أقاموا بالموسم، (1) فقال الله لهم: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ، يقول: لا تسرفوا في التحريم. 14532- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) ، قال: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله. 14533- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تسرفوا) ، لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف. * * * وقوله (إنه لا يحب المسرفين) ، يقول: إن الله لا يحب المتعدِّين حدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، (2) ولكنه يحبّ أن يحلَّل ما أحل ويحرَّم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يتعرّون عند طوافهم بالبيت، ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من طيبات الرزق: من حرَّم، أيها القوم، عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزيَّنوا بها وتتجملوا بلباسها، والحلال من رزق الله   (1) ((الودك)) : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. و ((الموسم)) مجتمع الناس في أيام الحج. (2) انظر تفسير ((الإسراف)) فيما سلف: ص: 176، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 395 الذي رزق خلقه لمطاعمهم ومشاربهم. (1) * * * واختلف أهل التأويل في المعنيّ: بـ"الطيبات من الرزق"، بعد إجماعهم على أن"الزينة" ما قلنا. فقال بعضهم:"الطيبات من الرزق" في هذا الموضع، اللحم. وذلك أنهم كانوا لا يأكلونه في حال إحرامهم. * ذكر من قال ذلك منهم: 14534- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، وهو الودَك. (2) 14535- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، الذي حرموا على أنفسهم. قال: كانوا إذا حجُّوا أو اعتمروا، حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها. 14536- وحدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل من حرم زينة الله) إلى آخر الآية، قال: كان قوم يحرِّمون ما يخرج من الشاة، لبنها وسمنها ولحمها، فقال الله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، قال: والزينة من الثياب. 14537- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: لما بعث محمدًا فقال:   (1) انظر تفسير ((الزينة)) فيما سلف قريبًا ص: 389، وما بعدها. = وتفسير ((الطيبات)) فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) . (2) ((الودك)) سلف تفسيره في ص: 395، تعليق: 1. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 396 "هذا نبيي، هذا خياري، استنّوا به"، خذوا في سَنَنه وسبيله، (1) لم تغلق دونه الأبواب، ولم تُقَمْ دونه الحَجَبَة، (2) ولم يُغْدَ عليه بالجفان، ولم يُرْجع عليه بها، (3) وكان يجلس بالأرض، ويأكل طعامه بالأرض، ويلعق يده، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويُرْدِف بعده، (4) وكان يقول:"مَنْ رغب عن سنتي فليس مني". قال الحسن: فما أكثر الراغبين عن سنته، التاركين لها! ثم إنّ عُلُوجًا فُسَّاقًا، أكلة الربا والغُلول، (5) قد سفَّههم ربي ومقتهم، زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا وشربوا، وزخرفوا هذه البيوت، يتأوّلون هذه الآية: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، وإنما جعل ذلك لأولياء الشيطان، قد جعلها ملاعبَ لبطنه وفرجه (6) = من كلام لم يحفظه سفيان. (7) * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرم من البحائر والسوائب.   (1) في المطبوعة: ((في سنته)) ، وقراءتها في المخطوطة ما أثبت. ((السنن)) (بفتحتين) الطريقة: يقال: ((امض على سننك)) ، و ((استقام فلان على سننه)) ، أي طريقته. (2) ((الحجبة)) جمع ((حاجب)) ، وهو الذي يحول بين الناس والملك أن يدخلوا عليه. (3) في المطبوعة: ((ولم يغد عليه بالجبار)) ، علق عليها أنه في نسخة ((بالجباب)) ، وفي المخطوطة: ((بالجبان)) غير منقوطة، وهي خطأ، وصواب قراءتها ما أثبت، كما وردت على الصواب في حلية الأولياء لأبي نعيم 2: 153. و ((الجفان)) جمع ((جفنة)) ، وهي قصعة الطعام العظيمة. ونص أبي نعيم: ((أما والله ما كان يغدي عليه بالجفان ولا يراح)) ، وهو أجود. (4) في المطبوعة: ((ويردف عبده)) ، غير ما في المخطوطة، وفي أبي نعيم: ((ويردف خلفه)) ، وهو بمعنى ما رواه الطبري. أي: يردف خلفه على الدابة رديفًا. (5) في المطبوعة والمخطوطة: ((ثم علوجًا)) بإسقاط ((إن)) ، والصواب من حلية الأولياء. و ((الغلول)) : هو الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة. (6) يعني قد جعل الآية بما تأولها به، لعبًا يلعب بتأويله، ليفتح الباب لكل شهوة من شهوات بطنه وفرجه. (7) الأثر: 14537 - الذي لم يحفظه سفيان، حفظه غيره، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء 2: 153، 154 من طريق محمد بن محمد، عن الحسن بن أحمد بن محمد، عن أبي زرعة، عن مالك بن إسماعيل، عن مسلمة بن جعفر، عن الحسن، بنحو هذا اللفظ، وهي صفة تحفظ، وموعظة تهدى إلى طغاتنا في زماننا، من الناطقين بغير معرفة ولا علم في فتوى الناس بالباطل الذي زخرفته لهم شياطينهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 397 * ذكر من قال ذلك: 14538- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل من حرم زينة الله التي أكل لعباده والطيبات من الرزق) ، وهو ما حرم أهل الجاهلية عليهم من أموالهم: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. 14539- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، قال: إن الجاهلية كانوا يحرمون أشياءَ أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا) ، [سورة يونس: 59] ، وهو هذا، فأنزل الله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد = لهؤلاء الذين أمرتك أن تقول لهم: (من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، إذ عَيُّوا بالجواب، (1) فلم يدروا ما يجيبونك =: زينة الله التي أخرج لعباده، وطيبات رزقه، للذين صدّقوا الله ورسوله، واتبعوا ما أنزل إليك من ربك، في الدنيا، وقد شركهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله وخالف   (1) ((عي بالجواب)) : إذا عجز عنه، وأشكل عليه، ولم يهتد إلى صوابه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 398 أمر ربه، وهي للذين آمنوا بالله ورسوله خالصة يوم القيامة، لا يشركهم في ذلك يومئذ أحدٌ كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14540- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، يقول: شارك المسلمون الكفار في الطيبات، فأكلوا من طيبات طعامها، ولبسوا من خِيار ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، وخلصوا بها يوم القيامة. 14541- وحدثني به المثنى مرة أخرى بهذا الإسناد بعينه، عن ابن عباس فقال: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) ، يعني: يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا، ثم يُخْلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء. 14542- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، يقول: قل هي في الآخرة خالصة لمن آمن بي في الدنيا، لا يشركهم فيها أحدٌ في الآخرة. (2) وذلك أن الزينة في الدنيا لكل بني آدم، فجعلها الله خالصة لأوليائه في الآخرة. 14543- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن   (1) انظر تفسير ((خالصة)) فيما سلف 2: 365 /12: 148، 149. (2) أسقطت المطبوعة: ((في الآخرة)) من آخر هذه الجملة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 399 الضحاك: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، قال: اليهود والنصارى يشركونكم فيها في الدنيا، وهي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة. 14544- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، خالصةً للمؤمنين في الآخرة، لا يشاركهم فيها الكفار. فأما في الدنيا فقد شاركوهم. 14545- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، مَنْ عمل بالإيمان في الدنيا خلصت له كرامة الله يوم القيامة، ومَنْ ترك الإيمان في الدنيا قَدِم على ربّه لا عذرَ له. 14546- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السديّ: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) ، يشترك فيها معهم المشركون = (خالصة يوم القيامة) ، للذين آمنوا. 14547- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، يقول: المشركون يشاركون المؤمنين في الدنيا في اللباس والطعام والشراب، ويوم القيامة يَخْلُص اللباس والطعام والشراب للمؤمنين، وليس للمشركين في شيء من ذلك نصيبٌ. 14548- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: الدنيا يصيب منها المؤمن والكافر، ويخلص خيرُ الآخرة للمؤمنين، وليس للكافر فيها نصيب. 14549- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، قال: هذه يوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 400 القيامة للذين آمنوا، لا يشركهم فيها أهل الكفر، ويشركونهم فيها في الدنيا. وإذا كان يوم القيامة، فليس لهم فيها قليل ولا كثير. * * * وقال سعيد بن جبير في ذلك بما:- 14550- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن أبان، وحبويه الرازي أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن سعيد بن جبير: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ، قال: ينتفعون بها في الدنيا، ولا يتبعهم إثمها. (1) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله:"خالصة". فقرأ ذلك بعض قرأة المدينة:"خَالِصَةٌ"، برفعها، بمعنى: قل هي خالصة للذين آمنوا. * * * وقرأه سائر قرأة الأمصار: (خَالِصَةً) ، بنصبها على الحال من"لهم"، وقد ترك ذكرها من الكلام اكتفاءً منها بدلالة الظاهر عليها، على ما قد وصفت في تأويل الكلام أن معنى الكلام: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة. ومن قال ذلك بالنصب، جعل خبر"هي" في قوله: (للذين آمنوا) (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصحة، قراءة من قرأ نصبًا، لإيثار العرب النصبَ في الفعل إذا تأخر بعد الاسم والصفة، (3) وإن كان الرفع جائزًا، غير أن ذلك أكثر في كلامهم. * * *   (1) الأثر: 14550 - ((إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي، أبو إسحاق)) ، شيعي، ثقة صدوق في الرواية. مترجم في التهذيب، والكبير 1 /1 / 347، وابن أبي حاتم 1 /1 / 160. و ((حبويه الرازي)) ، أبو يزيد، مضت ترجمته برقم: 14365. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 376، 377. (3) ((الفعل)) ، يعني المصدر. و ((الاسم)) ، هو المشتق. و ((الصفة)) ، حرف الجر والظرف. انظر فهارس المصطلحات. وقد أسلف أبو جعفر في 2: 365 أن ((خالصة)) مصدر مثل ((العافية)) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 401 القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة، والحلال من المطاعم والمشارب والحرام منها، وميزت بين ذلك لكم، أيها الناس، كذلك أبيِّن جميع أدلتي وحججي، وأعلامَ حلالي وحرامي وأحكامي، (1) لقوم يعلمون ما يُبَيَّن لهم، ويفقهون ما يُمَيَّز لهم. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه: أيها القوم، إن الله لم يحرم ما تحرمونه، بل أحل ذلك لعباده المؤمنين وطيَّبه لهم، وإنما حرم ربِّي القبائح من الأشياء = وهي"الفواحش" (2) ="ما ظهر منها"، فكان علانية ="وما بطن"، منها فكان سرًّا في خفاء. (3) * * * وقد روي عن مجاهد في ذلك ما:- 14551- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد   (1) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف ص: 237، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير ((آية)) فيما سلف من فهرس اللغة (أيي) . (2) انظر تفسير ((الفاحشة)) فيما سلف ص: 377، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((ظهر)) و ((يظن)) فيما سلف ص: 218، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 402 قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (ما ظهر منها وما بطن) ، قال:"ما ظهر منها"، طوافُ أهل الجاهلية عراة="وما بطن"، الزنى. * * * وقد ذكرت اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك بالروايات فيما مضى، فكرهت إعادته. (1) * * * وأما"الإثم"، فإنه المعصية ="والبغي"، الاستطالة على الناس. (2) * * * يقول تعالى ذكره: إنما حرم ربي الفواحش مع الإثم والبغي على الناس. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14552- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (والإثم والبغي) ، أما"الإثم" فالمعصية = و"البغي"، أن يبغي على الناس بغير الحق. 14553- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي) ، قال: نهى عن"الإثم"، وهي المعاصي كلها = وأخبر أن الباغيَ بَغْيُه كائنٌ على نفسه. (3) * * *   (1) انظر ما سلف ص 218، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الإثم)) فيما سلف من فهارس اللغة (أثم) . = وتفسير ((البغي)) فيما سلف 2: 342 /3: 322 / 4: 281 / 6: 276. (3) في المخطوطة: ((أن اكتفى بغيه على نفسه)) ، وهو شيء لا يقرأ، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 403 القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إنما حرم ربي الفواحش والشرك به، أن تعبدوا مع الله إلهًا غيره = (ما لم ينزل به سلطانًا) ، يقول: حرم ربكم عليكم أن تجعلوا معه في عبادته شِرْكًا لشيء لم يجعل لكم في إشراككم إياه في عبادته حجة ولا برهانًا، وهو"السلطان" (1) = (وأن تقولوا على الله ما لا تعملون) ، يقول: وأن تقولوا إن الله أمركم بالتعرِّي والتجرُّد للطواف بالبيت، وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيَّبتموها وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرّمه، أو أمر به، أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحَظْره والأمر به، فإن ذلك هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلا منكم بحقيقة ما تقولون وتضيفونه إلى الله. * * * القول في تأويل قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره تهدُّدًا للمشركين الذين أخبر جل ثناؤه عنهم أنهم كانوا إذا فعلوا فاحشة قالوا:"وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها" (2) = ووعيدًا منه لهم على كذبهم عليه، وعلى إصرارهم على الشرك به والمقام على كفرهم = ومذكرًا لهم ما أحلّ بأمثالهم من الأمم الذين كانوا قبلهم=: (ولكل أمة أجل) ،   (1) انظر تفسير ((السلطان)) فيما سلف 11: 490، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: ((مهددًا للمشركين)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو ألصق بالسياق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 404 يقول: ولكل جماعة اجتمعت على تكذيب رُسل الله، (1) وردِّ نصائحهم، والشرك بالله، مع متابعة ربهم حججه عليهم ="أجل"، يعني: وقت لحلول العقوبات بساحتهم، ونزول المثُلات بهم على شركهم (2) = (فإذا جاء أجلهم) ، يقول: فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم = (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) ، يقول: لا يتأخرون بالبقاء في الدنيا، ولا يُمَتَّعون بالحياة فيها عن وقت هلاكهم وحين حلول أجل فنائهم، (3) ساعة من ساعات الزمان = (ولا يستقدمون) ، يقول: ولا يتقدّمون بذلك أيضًا عن الوقت الذي جعله الله لهم وقتًا للهلاك. * * * القول في تأويل قوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره معرِّفًا خلقه ما أعدَّ لحزبه وأهل طاعته والإيمان به وبرسوله، وما أعدّ لحزب الشيطان وأوليائه والكافرين به وبرسله: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم) ، يقول: إن يجئكم رسلي الذين أرسلهم إليكم بدعائكم إلى طاعتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي ="منكم"، يعني: من أنفسكم، ومن عشائركم وقبائلكم = (يقصون عليكم آياتي) ، يقول: يتلون عليكم آيات كتابي، ويعرّفونكم أدلتي وأعلامي على صدق ما جاؤوكم به من عندي، وحقيقة   (1) انظر تفسير ((الأمة)) فيما سلف ص: 37، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف ص: 117، تعليق: 1 والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((يتمتعون)) ، والصواب من المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 405 ما دعوكم إليه من توحيدي (1) = (فمن اتقى وأصلح) ، يقول: فمن آمن منكم بما أتاه به رُسلي مما قص عليه من آياتي وصدَّق، واتقى الله فخافه بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه على لسان رسوله = (وأصلح) ، يقول: وأصلح أعماله التي كان لها مفسدًا قبل ذلك من معاصي الله بالتحوُّب منها (2) = (فلا خوف عليهم) ، يقول: فلا خوف عليهم يوم القيامة من عقاب الله إذا وردوا عليه = (ولا هم يحزنون) ، على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها، وشهواتهم التي تجنَّبوها، اتباعًا منهم لنهي الله عنها، إذا عاينوا من كرامة الله ما عاينوا هنالك. (3) 14554- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الله قال، حدثنا هياج قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن أبي سيّار السُّلَمي قال، إن الله جعل آدم وذريته في كفّه فقال: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليهم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، ثم نظر إلى الرسل فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ، [سورة المؤمنون: 51-52] ، ثم بَثَّهم. (4) * * * فإن قال قائل: ما جواب قوله: (إما يأتينكم رسل منكم) ؟   (1) انظر تفسير ((قص)) فيما سلف ص: 120، 307 = وتفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (2) ((تحوب من إثمه)) ، أي: تأثيم منه، أي: ترك الإثم وتوقاه. = وانظر تفسير ((أصلح)) فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . (3) انظر تفسير ((لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) في نظائرها فيما سلف (خوف) (حزن) من فهارس اللغة. (4) الأثر: 14554 - هذا إسناد مبهم لم أستطع تفسيره. ((أبو سيار السلمي)) لم أعرف من يكون، فمن أجل ذلك لم أستطع أن أميز من يكون: ((عبد الرحمن بن زياد)) ، ولا ((هياج)) . والأثر، ذكره السيوطي في الدر المنثور 3: 82، ولم ينسبه لغير ابن جرير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 406 قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك. فقال بعضهم في ذلك: الجوابُ مضمرٌ، يدل عليه ما ظهر من الكلام، وذلك قوله: (فمن اتقى وأصلح) . وذلك لأنه حين قال: (فمن اتقى وأصلح) ، كأنه قال: فأطيعوهم. * * * وقال آخرون منهم: الجواب:"فمن اتقى"، لأن معناه: فمن اتقى منكم وأصلح. قال: ويدل على أنّ ذلك كذلك، تبعيضه الكلام، فكان في التبعيض اكتفاء من ذكر"منكم". * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأما من كذّب بإيتاء رسلي التي أرسلتها إليه، وجحد توحيدي، وكفر بما جاء به رسلي، واستكبر عن تصديق حُجَجي وأدلّتي = (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ، يقول: هم في نار جهنم ماكثون، لا يخرجون منها أبدًا. (1) * * *   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 407 القول في تأويل قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فمن أخطأ فعلا وأجهلُ قولا وأبعد ذهابًا عن الحق والصواب (1) = (ممن افترى على الله كذبًا) ، يقول: ممن اختلق على الله زُورًا من القول، فقال إذا فعل فاحشة: إن الله أمرنا بها (2) = (أو كذب بآياته) ، يقول: أو كذب بأدلته وأعلامه الدّالة على وحدانيته ونبوّة أنبيائه، فجحد حقيقتها ودافع صحتها = (أولئك) يقول: مَنْ فعل ذلك، فافترى على الله الكذب وكذب بآياته = (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، يقول: يصل إليهم حظهم مما كتب الله لهم في اللوح المحفوظ. (3) * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة ذلك"النصيب"، الذي لهم في"الكتاب"، وما هو؟ فقال بعضهم: هو عذاب الله الذي أعدَّه لأهل الكفر به. * ذكر من قال ذلك. 14555- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا مروان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، أي من العذاب. 14556- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح، مثله.   (1) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة. (2) انظر تفسير ((افترى)) فيما سلف ص: 189، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((نال)) فيما سلف 3: 20 /6: 587. = وتفسير ((نصيب)) فيما سلف ص: 131، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 408 14557- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، يقول: ما كتب لهم من العذاب. 14558- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: من العذاب. 14559- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن أبي سهل، عن الحسن، قال: من العذاب. 14560- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن رجل، عن الحسن، قال: من العذاب. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما سبق لهم من الشقاء والسعادة. * ذكر من قال ذلك: 14561- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سعيد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: من الشِّقوة والسعادة. 14562- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، كشقي وسعيد. (1) 14563- حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن الحسن ابن عمرو الفقيمي، عن الحكم قال: سمعت مجاهدًا يقول: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: هو ما سبق. 14564- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) يعني كقوله في [سورة هود: 105] : " فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 409 ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، ما كتب لهم من الشقاوة والسعادة. 14565- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، ما كتب عليهم من الشقاوة والسعادة، كشقي وسعيد. 14566- . . . . قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، من الشقاوة والسعادة. 14567- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن إدريس، عن الحسن بن عمرو، عن الحكم، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ما قد سبق من الكتاب. 14568- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ما سبق لهم في الكتاب. 14569- . . . . قال، حدثنا سويد بن عمرو ويحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (أولئك ينالهم نصيبهم) ، قال: من الشقاوة والسعادة. 14570- . . . . قال: حدثنا أبو معاوية، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ما قُضي أو قُدِّر عليهم. 14571- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، ينالهم الذي كتب عليهم من الأعمال. 14572- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن بكر الطويل، عن مجاهد في قول الله: (أولئك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 410 ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: قوم يعملون أعمالا لا بُدَّ لهم من أن يعملوها. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك، أولئك ينالهم نصيبهم من كتابهم الذي كتب لهم أو عليهم، بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر. * ذكر من قال ذلك: 14573- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، يقول: نصيبهم من الأعمال، من عمل خيرًا جُزي به، ومن عمل شرًّا جزي به. 14574- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) قال: من أحكام الكتاب، على قدر أعمالهم. 14575- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ينالهم نصيبهم في الآخرة من أعمالهم التي عملوا وأسْلَفوا. 14576- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، أي: أعمالهم، أعمال السوء التي عملوها وأسلفوها. 14577- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، قال أبي: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، زعم قتادة: من أعمالهم التي عملوا. 14578- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ،   (1) الأثر: 14572 - ((إسماعيل بن سميع الحنفي)) ، مضى برقم: 4791، 4793. و ((بكر الطويل)) كأنه هو ((بكر بن يزيد الطويل الحمصي)) ، روى عن أبي هريرة الحمصي، روى عنه أبو سعيد الشج، مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 1 / 394. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 411 يقول: ينالهم نصيبهم من العمل. يقول: إن عمل من ذلك نصيبَ خير جُزِي خيرًا، وإن عمل شرًّا جُزِي مثله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ينالهم نصيبهم مما وُعِدوا في الكتاب من خير أو شر. * ذكر من قال ذلك: 14579- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في هذه الآية: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: من الخير والشر. 14580- . . . قال حدثنا زيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: ما وُعدوا. 14581- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ما وعدوا. 14582- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ما وعدوا فيه من خير أو شر. 14583- . . . . قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ليث، عن ابن عباس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ما وُعِدوا مثله. 14584- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر. 14585- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم، قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ما وُعِدوا فيه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 412 14586- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ما وعدوا من خير أو شر. 14587- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن الحسن بن عمرو، عن الحكم، عن مجاهد في قول الله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: ينالهم ما سبق لهم من الكتاب. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب الذي كتبه الله على من افترى عليه. * ذكر من قال ذلك: 14588- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، يقول: ينالهم ما كتب عليهم. يقول: قد كتب لمن يفتري على الله أنّ وجهه مسوَدٌّ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما كتب لهم من الرزق والعمر والعمل. * ذكر من قال ذلك: 14589- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، مما كتب لهم من الرزق. 14590- . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب، عن ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن القرظي: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: عمله ورزقه وعمره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 413 14591- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، قال: من الأعمال والأرزاق والأعمار، فإذا فني هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وقد فرغوا من هذه الأشياء كلها. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، مما كتب لهم من خير وشر في الدنيا، ورزق وعمل وأجل. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله) ، فأبان بإتباعه ذلك قولَه: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) ، أن الذي ينالهم من ذلك إنما هو ما كان مقضيًّا عليهم في الدنيا أن ينالهم، لأنه قد أخبر أن ذلك ينالهم إلى وقت مجيئهم رسلَه لتقبض أرواحهم. ولو كان ذلك نصيبهم من الكتاب، أو مما قد أعدّ لهم في الآخرة، لم يكن محدودًا بأنه ينالهم إلى مجيء رسل الله لوفاتهم، لأن رسل الله لا تجيئهم للوفاة في الآخرة، وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انقضاء، فإن الله قد قضى عليهم بالخلود فيه. فبيِّنٌ بذلك أن معناه ما اخترنا من القول فيه. * * * القول في تأويل قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (حتى إذا جاءتهم رسلنا) ، إلى أن جاءتهم رسلنا. يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، أو كذبوا بآيات ربهم، ينالهم حظوظهم التي كتب الله لهم، وسبق في علمه لهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 414 من رزق وعمل وأجل وخير وشر في الدنيا، إلى أن تأتيهم رسلنا لقبض أرواحهم. فإذا جاءتهم رسلنا، يعني ملك الموت وجنده = (يتوفونهم) ، يقول: يستوفون عددهم من الدنيا إلى الآخرة (1) = (قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله) ، يقول: قالت الرسل: أين الذين كنتم تدعونهم أولياء من دون الله وتعبدونهم، لا يدفعون عنكم ما قد جاءكم من أمر الله الذي هو خالقكم وخالقهم، وما قد نزل بساحتكم من عظيم البلاء؟ وهلا يُغيثونكم من كرب ما أنتم فيه فينقذونكم منه؟ فأجابهم الأشقياء فقالوا: ضَلَّ عنا أولياؤنا الذين كنا ندعو من دون الله. يعني بقوله: (ضلوا) ، جاروا وأخذوا غير طريقنا، وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا. (2) يقول الله جل ثناؤه: وشهد القوم حينئذ على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بالله، جاحدين وحدانيته. * * *   (1) انظر تفسير ((التوفي)) فيما سلف: 11: 409، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((الضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 415 القول في تأويل قوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قيله لهؤلاء المفترين عليه، المكذبين آياته يوم القيامة. يقول تعالى ذكره: قال لهم حين وردوا عليه يوم القيامة، ادخلوا، أيها المفترون على ربكم، المكذبون رسله، في جماعات من ضُرَبائكم (1) = (قد خلت من قبلكم) ، يقول: قد سلفت من قبلكم (2) ="من الجن والإنس في النار"، ومعنى ذلك: ادخلوا في أمم هي في النار، قد خلت   (1) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف ص: 405، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((خلا)) فيما سلف 3: 100، 128 / 4: 289 / 7: 228. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 415 من قبلكم من الجن والإنس = وإنما يعني بـ"الأمم"، الأحزابَ وأهلَ الملل الكافرة = (كلما دخلت أمة لعنت أختها) ، يقول جل ثناؤه: كلما دخلت النارَ جماعةٌ من أهل ملة = لعنت أختها، يقول: شتمت الجماعة الأخرى من أهل ملتها، تبرِّيًا منها. (1) وإنما عنى بـ"الأخت"، الأخوة في الدين والملة، وقيل:"أختها"، ولم يقل:"أخاها"، لأنه عنى بها"أمة" وجماعة أخرى، كأنه قيل: كلما دخلت أمة لعنت أمة أخرى من أهل ملتها ودينها. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14592- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كلما دخلت أمة لعنت أختها) ، يقول: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدين، (3) يلعن المشركون المشركين، واليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوسُ المجوسَ، تلعن الآخرةُ الأولى. * * * القول في تأويل قوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حتى إذا تداركت الأمم في النار جميعًا، يعني اجتمعت فيها. * * *   (1) انظر تفسير ((اللعن)) فيما سلف 10: 489، تعليق: 1. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 378. (3) في المطبوعة والمخطوطة: ((كلما دخلت أهل ملة)) ، والصواب ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 416 يقال:"قد ادَّاركوا"، و"تداركوا"، إذا اجتمعوا. (1) * * * يقول: اجتمع فيها الأوَّلون من أهل الملل الكافرة والآخِرون منهم. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن محاورة الأحزاب من أهل الملل الكافرة في النار يوم القيامة. يقول الله تعالى ذكره: فإذا اجتمع أهل الملل الكافرة في النار فادّاركوا، قالت أخرى أهل كل ملة دخلت النار = الذين كانوا في الدنيا بعد أولى منهم تَقَدَّمتها وكانت لها سلفًا وإمامًا في الضلالة والكفر = لأولاها الذين كانوا قبلهم في الدنيا: ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك، ودعونا إلى عبادة غيرك، وزيَّنوا لنا طاعة الشيطان، فآتهم اليوم من عذابك الضعفَ على عذابنا، كما:- 14593- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قالت أخراهم"، الذين كانوا في آخر الزمان ="لأولاهم"، الذين شرعوا لهم ذلك الدين = (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار) * * * وأما قوله: (قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون) ، فإنه خبر من الله عن جوابه لهم، يقول: قال الله للذين   (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 214، وفي نصه زيادة حسنة: ((ويقال: تدارك لي عليه شيء، أي اجتمع لي عنده شيء. وهو مدغم التاء في الدال، فثقلت الدال)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 417 يدعونه فيقولون:"ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار" =: لكلكم، أوَّلكم وآخركم، وتابعوكم ومُتَّبَعوكم ="ضعف"، يقول: مكرر عليه العذاب. * * * و"ضعف الشيء"، مثله مرة. * * * وكان مجاهد يقول في ذلك ما:- 14594- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (عذابًا ضعفًا من النار قال لكل ضعف) ، مضعّف. 14595- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14596- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال الله: (لكل ضعف) ، للأولى، وللآخرة ضعف. 14597- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، حدثني غير واحد، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله: (ضعفًا من النار) ، قال: أفاعي. 14598- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله: (فآتهم عذابًا ضعفًا من النار) ، قال: حيّات وأفاعي. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 418 وقيل: إن"المضَعَّف"، في كلام العرب، ما كان ضعفين، (1) و"المضاعف"، ما كان أكثر من ذلك. * * * وقوله: (ولكن لا تعلمون) ، يقول: ولكنكم، يا معشر أهل النار، لا تعلمون ما قدْرُ ما أعدّ الله لكم من العذاب، فلذلك تسأل الضعفَ منه الأمةُ الكافرةُ الأخرى لأختها الأولى. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقالت أولى كل أمة وملة سبقت في الدنيا، لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم، وحَدَثوا بعد زمانهم فيها، فسلكوا سبيلهم واستنوا سنتهم: (فما كان لكم علينا من فضل) ، وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله جل ثناؤه بمعصيتنا إياه وكفرنا بآياته، بعدما جاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل والنذر، (2) فهل أنَبْتم إلى طاعة الله، (3) وارتدعتم عن غوايتكم وضلالتكم؟ فانقضت حجة القوم وخُصِموا ولم يطيقوا جوابًا بأن يقولوا:"فضِّلنا عليكم إذ اعتبرنا بكم فآمنا بالله وصدقنا رسله"، (4) قال الله لجميعهم: فذوقوا جميعكم، أيها الكفرة، عذابَ جهنم، (5) بما كنتم في   (1) في المطبوعة: ((الضعف، في كلام العرب)) ، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: ((وكفرنا به وجاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل)) ، وفي المخطوطة: ((وكفرنا به ما جاءتنا وجاءتكم)) ، وهو غير مستقيم، صوابه إن شاء الله ما أثبت. وهو سياق الآيات قبلها. هكذا استظهرته من تفسير الآيات السالفة. (3) في المطبوعة: ((هل انتهيتم)) ، وفي المخطوطة: ((هل أسم)) ، وهذا صواب قراءتها، وزدت الفاء في أول ((هل)) ، لاقتضاء سياق الكلام إثباتها. (4) في المطبوعة: ((إنا اعتبرنا بكم)) وفي المخطوطة: ((إذا اعتبرنا بكم)) ، والصواب ما أثبت. (5) انظر تفسير: ((ذوقوا العذاب)) فيما سلف 11: 420، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 419 الدنيا تكسبون من الآثام والمعاصي، وتجترحون من الذنوب والإجرام. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14599- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران، عن أبي مجلز: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) ، قال: يقول: فما فَضْلكم علينا، وقد بُيِّن لكم ما صنع بنا، وحُذِّرتم؟ 14600- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) ، فقد ضللتم كما ضللنا. * * * وكان مجاهد يقول في هذا بما:- 14601- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (فما كان لكم علينا من فضل) ، قال: من التخفيف من العذاب. 14602- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فما كان لكم علينا من فضل) ، قال: من تخفيف. * * * وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد، قولٌ لا معنى له لأن قول القائلين:   (1) انظر تفسير ((كسب)) فيما سلف ص: 286، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 420 "فما كان لكم علينا من فضل" لمن قالوا ذلك، إنما هو توبيخ منهم على ما سلف منهم قبل تلك الحال، يدل على ذلك دخول"كان" في الكلام. ولو كان ذلك منهم توبيخًا لهم على قيلهم الذي قالوا لربهم:"آتهم عذابًا ضعفًا من النار"، لكان التوبيخ أن يقال:"فما لكم علينا من فضل، في تخفيف العذاب عنكم، وقد نالكم من العذاب ما قد نالنا"، ولم يقل:"فما كان لكم علينا من فضل". * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا (1) = (واستكبروا عنها) ، يقول: وتكبروا عن التصديق بها وأنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبرًا (2) ="لا تفتح لهم"، لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ="أبواب السماء"، ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل، لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يُرْفع الكلم الطيبُ والعملُ الصالح، كما قال جل ثناؤه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر: 10] . * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا تفتح لهم أبواب السماء) . فقال بعضهم: معناه: لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء. * ذكر من قال ذلك: 13603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يعلى، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، قال: عنى بها الكفار،   (1) انظر تفسير ((الآية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (2) انظر تفسير ((الاستكبار)) فيما سلف 11: 540. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 421 أنّ السماء لا تفتح لأرواحهم، وتفتح لأرواح المؤمنين. 14604- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن أبي سنان، عن الضحاك قال، قال ابن عباس: تُفتح السماء لروح المؤمن، ولا تفتح لروح الكافر. 14605- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، قال: إن الكافر إذا أُخِذ روحُه، ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط، فضربته ملائكة الأرض فارتفع، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا فهبط إلى أسفل الأرضين. وإذا كان مؤمنًا نفخ روحه، (1) وفتحت له أبواب السماء، فلا يمرّ بملك إلا حيَّاه وسلم عليه، حتى ينتهي إلى الله، فيعطيه حاجته، ثم يقول الله: ردّوا روحَ عبدي فيه إلى الأرض، فإني قضيتُ من التراب خلقه، وإلى التراب يعود، ومنه يخرج. * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنه لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاءٌ إلى الله. * ذكر من قال ذلك: 14606- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عباس: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، لا يصعد لهم قولٌ ولا عمل. 14607- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء) ، يعني: لا يصعد إلى الله من عملهم شيء. 14608- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، يقول: لا تفتح لخير يعملون.   (1) في المطبوعة: ((وإذا كان مؤمنًا أخذ روحه)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 422 14609- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، قال: لا يصعد لهم كلامٌ ولا عمل. 14610- حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء. (1) 14611- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء. 14612- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سعيد: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، قال: لا يرفع لهم عملٌ صالح ولا دعاء. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم. * ذكر من قال ذلك: 14613- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (لا تفتح لهم أبواب السماء) ، قال: لأرواحهم ولا لأعمالهم. * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول، لعموم خبر الله جل ثناؤه أن أبواب السماء لا تفتح لهم. ولم يخصص الخبر بأنه يفتح لهم في شيء، فذلك على ما عمّه خبر الله تعالى بأنها لا تفتح لهم في شيء، مع تأييد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا في ذلك، وذلك ما:-   (1) الأثر: 14610 - ((مطر بن محمد الضبي)) ، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة، ومضى أيضا برقم: 12198. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 423 14614- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبضَ روح الفاجر، وأنه يصعد بها إلى السماء، قال: فيصعدون بها، فلا يمرّون على ملإ من الملائكة إلا قالوا:"ما هذا الروح الخبيث"؟ فيقولون:"فلان"، بأقبح أسمائه التي كان يُدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله: (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) (1) 14615- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الميت تحضره الملائكة، فإذا   (1) الأثر: 14614 - ((المنهال)) هو ((المنهال بن عمرو الأسدي)) ، ثقة، رجح أخي توثيقه في المسند رقم: 714، وفيما يلي رقم: 337، 799. و ((زاذان)) هو ((أبو عبد الله)) ، ويقال ((أبو عمر)) الكوفي الضرير. تابعي ثقة، مضى أيضًا برقم: 9508، 13017، 13018. وهذا الخبر مختصرًا رواه أحمد مطولا ومختصرًا في مسنده 4: 287، 288، من طريقتين، و 297، كلها من طريق العمش، عن المنهال. ورواه أيضًا 4: 295، 296، من طريقين. أحدهما من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يونس بن خباب، عن المنهال، والآخر من طريق أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن يونس بن خباب. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: 102، مطولا من طريق أبي عوانة، عن الأعمش. ورواه أبو داود في سننه 3: 289، رقم: 3212 مختصرًا، ورواه مطولا 4: 330 رقم: 4753. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 37 - 40، من طرق، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بالمنهال بن عمرو، وزاذان بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة، وقمع للمبتدعة، ولم يخرجاه بطوله)) . وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 473، 474، وقال: ((رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من طرق عن المنهال بن عمرو به)) ثم ساق حديث أحمد في المسند. وخره السيوطي في الدر المنثور 1: 83، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وهناد بن السري، وعبد بن حميد، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب عذاب القبر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 424 كان الرجلَ الصالحَ قالوا:"اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري برَوْح وريحان، وربّ غير غضبان"، قال: فيقولون ذلك حتى يُعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال:"من هذا"؟ فيقولون:"فلان". فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، (1) ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان"، فيقال لها حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله. وإذا كان الرجلَ السَّوْءَ قال:"اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسَّاق، وآخر من شكله أزواج"، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال:"من هذا"؟ فيقولون:"فلان". فيقولون:"لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لم تفتح لك أبواب السماء"، (2) فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر. (3) 14616- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: ((بالنفس الطيبة التي كانت ... )) ، والظاهر أنها زيادة من الناسخ، فإن روايتهم جميعًا اتفقت على ما أثبت. (2) في المطبوعة: ((لا تفتح لك أبواب السماء)) ، وفي المخطوطة: ((لم تفتح)) بغير ((لك)) ، وأثبت ما في تفسير ابن كثير. وفي ابن ماجه: ((لا تفتح لك)) . (3) الأثر: 14615، 14616 - ((عبد الرحمن بن عثمان بن أمية الثقفي)) ((أبو بحر البكراوي)) ، ضعيف متكلم فيه، قال أبو حاتم: ((يكتب حديثه ولا يحتج به)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 264. و ((ابن أبي ذئب)) هو ((محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب)) ، ثقة حافظ، مضى برقم: 2995. و ((محمد بن عمرو بن عطاء القرشي العامري)) ، ثقة روى له الجماعة. و ((سعيد بن يسار)) أبو الحباب المدني، تابعي ثقة لا يختلفون في توثيقه. روى له الجماعة. وهذا خبر صحيح، رواه عن ابن أبي ذئب غير ((عبد الرحمن بن عثمان)) . وسيأتي بإسناد ليس فيه ضعف، في الأثر التالي. وهذا الخبر رواه ابن ماجه ص: 1423 رقم: 4262. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 475، ونسبة إلى أحمد، والنسائي وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 83، وزاد إلى حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث. والأثر رقم: 14616. هو إسناد صحيح للخبر السالف. ((ابن أبي فديك)) ، هو ((محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك)) ، ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 4319، 9482، 9876. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 425 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الكوفة:"لا يُفَتَحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء"، بالياء من"يفتح"، وتخفيف"التاء" منها، بمعنى: لا يفتح لهم جميعها بمرة واحدةٍ وفتحةٍ واحدة. * * * وقرأ ذلك بعض المدنيين وبعض الكوفيين: (لا تُفَتَّحُ) ، بالتاء وتشديد التاء الثانية، بمعنى: لا يفتح لهم باب بعد باب، وشيء بعد شيء. * * * قال أبو جعفر: والصواب في ذلك عندي من القول أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى. وذلك أن أرواح الكفار لا تفتح لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبوابُ السماء بمرة واحدة، ولا مرة بعد مرة، وباب بعد باب. فكلا المعنيين في ذلك صحيح. وكذلك"الياء"، و"التاء" في"يفتح"، و"تفتح"، لأن"الياء" بناء على فعل الواحد للتوحيد، و"التاء" لأن"الأبواب" جماعة، فيخبر عنها خبر الجماعة. (1) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 378، 379. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 426 القول في تأويل قوله: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ولا يدخل هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، الجنة التي أعدّها الله لأوليائه المؤمنين أبدًا، كما لا يلج الجمل في سمِّ الخياط أبدًا، وذلك ثقب الإبرة. * * * وكل ثقب في عين أو أنف أو غير ذلك، فإن العرب تسميه"سَمًّا" وتجمعه"سمومًا"، و"السِّمام"، في جمع"السَّم" القاتل، أشهر وأفصح من"السموم". وهو في جمع"السَّم" الذي هو بمعنى الثقب أفصح. وكلاهما في العرب مستفيض. وقد يقال لواحد"السموم" التي هي الثقوب"سَمٌّ" و"سُمٌّ" بفتح السين وضمها، ومن"السَّم" الذي بمعنى الثقب قول الفرزدق: فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتَّى تَنَفَّسَا ... وَقُلْتُ لَهُ: لا تَخْشَ شَيْئًا وَرَائِيا (1) يعني بسمِّيه، ثقبي أنفه. * * *   (1) ديوانه: 895، النقائض: 169، واللسان (سمم) ، من أول قصيدة هاجى بها جريرًا، ونصر البعيث وهجاه معًا. وكان الذي هاج الهجاء بين جرير والفرزدق، أن البعيث المجاشعي، سرقت إبله، سرقها ناس من بني يربوع، من رهط جرير، فطلبها البعيث حتى وجدها في أيديهم، فأرسل لسانه في بني يربوع، فاعترضه جرير، فهجاه، فانبعث الشر بالبعيث، فانطلق الفرزدق بعد قليل ينصره، فقال هذه القصيدة يهجو جريرًا، وينصر البعيث ويهجوه، فيقول للبعيث: دَعَانِي ابْنُ حَمْرَاءِ العِجَانِ وَلَم يَجِدْ ... لَهُ إذْ دَعَا، مُسْتأْخِرًا عَنْ دُعَائيا فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ ............... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ((نفس عنه)) ، فرج عنه كربته إذ أطبق عليه جرير، فاستنقذه من تحت وطأته. فاستطاع أن يتنفس. وقوله: ((لا تخش شيئًا ورائيا)) ، أي: لا تخش ما دمت درعًا لك وأنت من ورائي تحتمي بلساني وهجائي جريرًا. وأما قول أبي عبيدة: ((أي لا تخش شيئًا يأتيك من خلفي)) ، فليس عندي بشيء. وكان في المطبوعة: ((شيئًا وراءنا)) ، لم يحسن قراءة المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 427 وأما"الخياط" فإنه"المخيط"، وهي الإبرة. قيل لها:"خِيَاط" و"مِخْيَط"، كما قيل:"قِناع" و"مِقْنع"، و"إزار" و"مِئْزر"، و"قِرام" و"مِقْرَم"، و"لحاف" و"مِلْحف". وأما القرأة من جميع الأمصار، فإنها قرأت قوله: (فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) ، بفتح"السين"، وأجمعت على قراءة:"الجَمَلُ" بفتح"الجيم"، و"الميم" وتخفيف ذلك. * * * وأما ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير، فإنه حكي عنهم أنهم كانوا يقرؤون ذلك:"الجُمَّلُ"، بضم"الجيم" وتشديد"الميم"، على اختلاف في ذلك عن سعيد وابن عباس. * * * فأما الذين قرؤوه بالفتح من الحرفين والتخفيف، فإنهم وجهوا تأويله إلى"الجمل" المعروف، وكذلك فسروه. * ذكر من قال ذلك: 14617- حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، قال: الجمل ابن الناقة، أو: زوج الناقة. 14618- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، قال:"الجمل"، زوج الناقة. 14619- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله. 14620- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله قال:"الجمل"، زوج الناقة. 14621- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 428 14622- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا قرة قال، سمعت الحسن يقول:"الجمل"، الذي يقوم في المِرْبد. (1) 14623- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، قال: حتى يدخل البعير في خُرت الإبرة. (2) 14624- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن قال: هو الجمل! فلما أكثروا عليه قال: هو الأشتر. (3) 14625- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن، مثله. 14626- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن يحيى قال: كان الحسن يقرؤها: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، قال: فذهب بعضهم يستفهمه، قال: أشتر، أشتر. (4) 14627- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية: (حتى يلج الجمل) ، قال: الجمل الذي له أربع قوائم. 14628- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين = أو: حصين =، عن إبراهيم، عن ابن مسعود في   (1) ((المربد)) (بكسر فسكون) : هو المكان الذي تحبس فيه الإبل، يقال: ((ربد الإبل ربدًا)) ، حبسها. ويقال: ((مربد الغنم)) أيضًا. وبه سمى ((مربد البصرة)) ، لأنه كان موضع سوق الإبل. (2) ((خرت الإبرة)) (بضم الخاء أو فتحها، وسكون الراء) : هو ثقبها. وكان في المطبوعة: ((في خرق)) وهي صواب، والمخطوطة تشبه أن تقرأ هكذا وهكذا. (3) ((أشتر)) ، وهو الجمل، بالفارسية. (4) ((أشتر)) ، وهو الجمل، بالفارسية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 429 قوله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، قال: زوج الناقة، يعني الجمل. 14629- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك أنه كان يقرأ: (الجمل) ، وهو الذي له أربع قوائم. 14630- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد، عن الضحاك: (حتى يلج الجمل) ، الذي له أربع قوائم. 14631- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن قرة، عن الحسن: (حتى يلج الجمل) ، قال: الذي بالمربد. 14632- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود أنه كان يقرأ:"حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ الأَصْفَرُ". 14633- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا يحيى بن سليم قال، حدثنا عبد الكريم بن أبي المخارق، عن الحسن في قوله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، قال: الجمل ابن الناقة = أو بَعْلُ الناقة. * * * وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا. فروي عن ابن عباس في ذلك روايتان: إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل. * ذكر الرواية بذلك عنه: 14634- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، والجمل: ذو القوائم. * * * وذكر أن ابن مسعود قال ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 430 14635- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، وهو الجمل العظيم، لا يدخل في خُرْت الإبرة، (1) من أجل أنه أعظم منها. * * * والرواية الأخرى ما:- 14636- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، قال: هو قَلْس السفينة. (2) 14637- حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن حنظلة السدوسي، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، يعني الحبل الغليظ = فذكرت ذلك للحسن فقال: (حتى يلجَ الجمَل) ، قال عبد الأعلى: قال أبو غسان، قال خالد: يعني: البعير. 14638- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن فضيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قرأ:"الجُمَّلُ"، مثقَّلة، وقال: هو حبل السفينة. 14639- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"الجمَّل"، حبال السفن. 14640- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن مبارك، عن حنظلة، عن عكرمة، عن ابن عباس:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، قال: الحبل الغليظ.   (1) انظر ص: 429، التعليق: 2. (2) ((القلس)) (بفتح فسكون) : هو حبل ضخم غليظ من ليف أو خوص، وهو من حبال السفن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 431 14641- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ" قال: هو الحبل الذي يكون على السفينة. * * * واختُلِف عن سعيد بن جبير أيضًا في ذلك، فروي عنه روايتان إحداهما مثل الذي ذكرنا عن ابن عباس: بضم"الجيم" وتثقيل"الميم". * ذكر الرواية بذلك عنه: 14642- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حسين المعلم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ"، يعني قُلُوس السفن، يعني: الحبال الغلاظ. (1) * * * والأخرى منهما بضم"الجيم" وتخفيف"الميم". * ذكر الرواية بذلك عنه: 14643- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمرو، عن سالم بن عجلان الأفطس قال، قرأت على أبي:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلَ" فقال:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَلُ" خفيفة، هو حبل السفينة = هكذا أقرأنيها سعيد بن جبير. * * * وأما عكرمة، فإنه كان يقرأ ذلك:"الْجُمَّلُ"، بضم"الجيم" وتشديد"الميم"، وبتأوّله كما:- 14644- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة، عن عيسى بن عبيد قال: سمعت عكرمة يقرأ: "الْجُمَّلُ" مثقلة، ويقول: هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل.   (1) ((القلوس)) جمع ((قلس)) ، انظر التعليق السالف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 432 14645- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا كعب بن فروخ قال، حدثنا قتادة، عن عكرمة، في قوله:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، قال: الحبل الغليظ في خرق الإبرة. (1) 14646- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، قال: حبل السفينة في سمّ الخياط. 14647- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: سمعت مجاهدًا يقول: الحبل من حبال السفن. * * * وكأنَّ من قرأ ذلك بتخفيف"الميم" وضم"الجيم"، على ما ذكرنا عن سعيد بن جبير، على مثال"الصُّرَد" و"الجُعَل"، وجهه إلى جماع"جملة" من الحبال جمعت"جُمَلا"، كما تجمع"الظلمة"،"ظُلَمًا"، و"الخُرْبة""خُرَبًا". * * * وكان بعض أهل العربية ينكر التشديد في"الميم" ويقول: إنما أراد الراوي"الجُمَل" بالتخفيف، فلم يفهم ذلك منه فشدّده. * * * 14648- وحدثت عن الفراء، عن الكسائي أنه قال: الذي رواه عن ابن عباس كان أعجميًّا. * * * وأما من شدد"الميم" وضم"الجيم" فإنه وجهه إلى أنه اسم واحد، وهو الحبل، أو الخيط الغليظ. * * *   (1) الأثر: 14645 - ((كعب بن فروخ، أبو عبد الله البصري)) ، ثقة. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 162. وسيأتي في رقم: 14650. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 433 قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، ما عليه قرأة الأمصار، وهو: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) ، بفتح"الجيم" و"الميم" من"الجمل" وتخفيفها، وفتح"السين" من"السم"، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، وغير جائز مخالفة ما جاءت به الحجة متفقة عليه من القراءة. وكذلك ذلك في فتح"السين" من قوله: (سَمِّ الخياط) . * * * وإذ كان الصواب من القراءة ذلك، فتأويل الكلام: ولا يدخلون الجنة حتى يلج = و"الولوج" الدخول، من قولهم:"ولج فلان الدار يلِجُ ولوجًا"، (1) بمعنى: دخل = الجملُ في سم الإبرة، وهو ثقبها = (وكذلك نجزي المجرمين) ، يقول: وكذلك نثيب الذين أجرَموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الآخرة. (2) * * * وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: (سم الخياط) ، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14649- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة وابن مهدي وسويد الكلبي، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق قال: سألت الحسن عن قوله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) ، قال: ثقب الإبرة. (3) 14650- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا   (1) انظر تفسير ((الولوج)) فيما سلف 6: 302، وفيه زيادة في مصادره. (2) انظر تفسير ((الجزاء)) ، و ((الإجرام)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) (جرم) . (3) الأثر: 14649 - ((سويد الكلبي)) ، هو: ((كان يقلب السانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية)) !! ووثقه النسائي وابن معين والعجلي. مترجم في التهذيب، والكبير 2 /2 / 149، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 239. و ((يحيى بن عتيق الطفاوي البصري)) ، ثقة، وكان ورعًا متفنًا. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 295، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 176. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 434 كعب بن فروخ قال، حدثنا قتادة، عن عكرمة: (في سم الخياط) ، قال: ثقب الإبرة. (1) 14651- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، مثله. 14652- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (في سم الخياط) ، قال: جُحْر الإبرة. 14653- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (في سم الخياط) ، يقول: جُحْر الإبرة. 14654- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (في سم الخياط) ، قال: في ثقبه. * * * القول في تأويل قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: لهؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها = (من جهنم مهاد) . * * * = وهو ما امتهدوه مما يقعد عليه ويضطجع، كالفراش الذي يفرش، والبساط الذي يبسط. (2) * * * = (ومن فوقهم غواش) . * * *   (1) الأثر: 14650 - ((كعب بن فروخ)) ، مضى برقم: 14645. (2) انظر تفسير ((المهاد)) فيما سلف 4: 246 /6: 229 /7: 494. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 435 وهو جمع"غاشية"، وذلك ما غَشَّاهم فغطاهم من فوقهم. * * * وإنما معنى الكلام: لهم من جهنم مهاد من تحتهم فُرُش، ومن فوقهم منها لُحُف، وإنهم بين ذلك. * * * وبنحو ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14655- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: (لهم من جهنم مهاد) ، قال: الفراش = (ومن فوقهم غواش) ، قال: اللُّحُف 14656- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) ، قال:"المهاد"، الفُرُش، و"الغواشي"، اللحف. 14657- حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) ، أما"المهاد" كهيئة الفراش = و"الغواشي"، تتغشاهم من فوقهم. * * * وأما قوله (وكذلك نجزي الظالمين) ، فإنه يقول: وكذلك نثيب ونكافئ من ظلم نفسه، فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه، وتكذيبه أنبياءه. (1) * * *   (1) انظر تفسير ((الجزاء)) و ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) و (ظلم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 436 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: والذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من وحي الله وتنزيله وشرائع دينه، وعملوا ما أمرهم الله به فأطاعوه، وتجنبوا ما نهاهم عنه (1) = (لا نكلف نفسًا إلا وسعها) ، يقول: لا نكلف نفسًا من الأعمال إلا ما يسعها فلا تحرج فيه (2) = (أولئك) ، يقول: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات = (أصحاب الجنة) ، يقول: هم أهل الجنة الذين هم أهلها، دون غيرهم ممن كفر بالله، وعمل بسيئاتهم (3) = (هم فيها خالدون) ، يقول (4) هم في الجنة ماكثون، دائمٌ فيها مكثهم، (5) لا يخرجون منها، ولا يُسلبون نعيمها. (6) * * * القول في تأويل قوله: {وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعَداوة كان من   (1) انظر تفسير ((الصالحات)) فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . (2) انظر تفسير ((التكليف)) و ((الوسع)) فيما سلف ص: 225، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((أصحاب الجنة)) فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) . (4) في المطبوعة والمخطوطة: ((فيها خالدون)) ، بغير ((هم)) ، وأثبت نص التلاوة. (5) انظر تفسير ((الخلود)) فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (6) في المطبوعة والمخطوطة: ((ولا يسلبون نعيمهم)) ، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 437 بعضهم في الدنيا على بعض، (1) فجعلهم في الجنة إذا أدخلهموها على سُرُر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم وفضّله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14658- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: (ونزعنا ما في صدورهم من غل) ، قال: العداوة. 14659- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن سعيد بن بشير، عن قتادة: (ونزعنا ما في صدورهم من غل) ، قال: هي الإحَن. 14660 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن، عن علي قال: فينا والله أهلَ بدر نزلت: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [سورة الحجر: 47] . 14661- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن إسرائيل قال: سمعته يقول: قال علي عليه السلام: فينا والله أهلَ بدر نزلت: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) 14662- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير، من الذين قال الله تعالى فيهم: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) ، رضوان الله عليهم. 14663- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) ((الغمر)) (بكسر فسكون) و ((الغمر)) (بفتحتين) : الحقد الذي يغمر القلب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 438 حدثنا أسباط، عن السدي: (ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار) ، قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غِلّ، فهو"الشراب الطهور"، واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم"نَضْرة النعيم"، فلم يشعَثُوا ولم يتَّسخوابعدها أبدًا. 14664- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي نضرة قال، يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يقضى لبعضهم من بعض، حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقلامة ظُفُرٍ ظلمها إياه. ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض، فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقُلامة ظفر ظلمها إياه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حين أدخلوا الجنة، ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته، وما صرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم، وتكذيبهم رُسله: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) ، يقول: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله، وصرف عذابه   (1) الأثر: 14664 - ((الجريري)) ، ((سعيد بن إياس الجريري)) ، مضى برقم: 196. و ((أبو نضرة)) ، هو ((المنذر بن مالك بن قطعة العبدي)) ، روى عن علي. مضى برقم: 6337. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 439 عنا = (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ، يقول: وما كنا لنرشد لذلك، لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنّه وطَوْله، كما:- 14665- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن [أبي سعيد] قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى منزله من الجنة، فيقولون:"لو هدانا الله"، فتكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقولون:"لولا أن هدانا الله"! فهذا شكرهم. (1) 14666- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال، ذكر عمر = لشيء لا أحفظه =، ثم ذكر الجنة فقال: يدخلون، فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان. قال: فيغتسلون من إحداهما، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلا تشعَث أشعارهم ولا تغبرُّ أبشارهم. ويشربون من الأخرى، فيخرج كل قذًى وقذر وبأس في بطونهم. (2) قال، ثم يفتح لهم باب الجنة، فيقال لهم:   (1) الأثر: 14665 - جاء هكذا في المخطوطة والمطبوعة: ((عن أبي سعيد)) ، يعني أبا سعيد الخدري. وكأنه خطأ لا شك فيه، فإني لم أجد الخبر في حديث أبي سعيد، ولأن هذا الخبر معروف في حديث أبي هريرة، وبذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 85، فقال: ((أخرج النسائي، وابن أبي الدنيا، وابن جرير في ذكر الموت، وابن مردويه عن أبي هريرة)) ، وساق الخبر. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 477، فقال: ((روى النسائي وابن مردويه، واللفظ له، من حديث أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة)) ، وساق الخبر. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 399 فقال: ((عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ، وساق الخبر بنحوه من طريقين، ثم قال: ((رواه كله أحمد، ورجال الرواية الولى رجال الصحيح)) ، ولم أعرف مكانه من المسند. فهذا كله يوشك أن يقطع بأن ما في المطبوعة والمخطوطة من قوله: ((عن أبي سعيد)) ، خطأ، صوابه: ((عن أبي هريرة)) ، ولذلك وضعته بين القوسين. (2) في المطبوعة: ((قذى وقذر أو شيء في بطونهم)) ، وفي المخطوطة: ((أوس)) ، غير منقوطة وفوقها حرف (ط) دلالة على الشك والخطأ. وأثبت الصواب من حادي الأرواح لابن القيم، والدر المنثور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 440 (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) ، قال: فتستقبلهم الوِلدان، فيحفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته. (1) ثم يأتون فيبشرون أزواجهم، فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. فيقلن: أنت رأيته! قال: فيستخفهنَّ الفرَح، قال: فيجئن حتى يقفن على أُسْكُفَّة الباب. (2) قال: فيجيئون فيدخلون، فإذا أسُّ بيوتهم بِجَندل اللؤلؤ، وإذا صُرُوح صفر وخضر وحمر ومن كل لون، وسُرُر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرِابيُّ مبثوثة. فلولا أن الله قدَّرها، لالْتُمِعَتْ أبصارهم مما يرون فيها. (3) فيعانقون الأزواج، ويقعدون على السرر، ويقولون: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا إذ هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق) ، الآية. (4) * * *   (1) ((الحميم)) ، ذو القرابة القريب الذي تحبه وتهتم لأمره. (2) ((أسكفة الباب)) (بضم الهمزة، وسكون السين، وضم الكاف، بعدها فاء مشددة مفتوحة) : عتبة الباب التي يوطأ عليها. (3) ((التمع الشيء)) اختلسه وذهب به. و ((التمع بصره)) باليناء بالمجهول، اختلس واختطف فلا يكاد يبصره. ويقال مثله ((التمع لونه)) ، ذهب وتغير. (4) الأثر: 14666 - ((عاصم بن ضمرة السلولي)) ، وثقه ابن سعد وابن المديني، والعجلي، وقال النسائي: ((ليس به بأس)) . ولكن الجوزجاني وابن عدي ضعفاه، وقال ابن أبي حاتم: ((كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، على أنه أحسن حالا - يعني الأعور)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 345، وميزان الاعتدال 2: 3. وهذا الخبر، ذكره ابن القيم في حادي الأرواح (إعلام الموقعين) 1: 233 مطولا، فقال: ((وقال عدي بن الجعد في الجعديات: أنبأنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال)) وليس فيه ذكر ((عمر)) . ثم وجدت أبا جعفر قد رواه في تفسيره (24: 24، بولاق) ، من طريق مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، بنحوه. ثم رواه بعد من طريق أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي، بنحوه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 5: 342، ونسبه إلى ابن المبارك في الزهد، وعبد الرازق، وابن أبي شيبة، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبيهقي في البعث، والضياء في المختارة، ولم ينسبه لابن جرير. وساقه مطولا. وساقه ابن كثير في تفسيره 7: 273، من تفسير ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب، بنحوه. وليس في هذه جميعًا ذكر ((عمر)) ، فقوله: ((قال ذكر عمر، لشيء لا أحفظه)) غريب جدًا لم أعرف تأويله، ولا ما فيه من تحريف، إلا أن يكون: ((قال غندر، لشيء لا أحفظه)) و ((غندر)) هو ((محمد بن جعفر)) الراوي عن شعبة، فيكون قوله ((قال غندر)) من قول ((محمد بن المثنى)) ، والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 441 القول في تأويل قوله: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة، ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها، وهو أنّ أعداء الله في النار: والله لقد جاءتنا في الدنيا، وهؤلاء الذين في النار، رسل ربنا بالحق من الأخبار عن وعد الله أهلَ طاعته والإيمان به وبرسله، ووعيده أهلَ معاصيه والكفر به. * * * وأما قوله: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) ، فإن معناه: ونادى منادٍ هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته: أنْ يا هؤلاء، هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها، أورَثكموها الله عن الذين كذبوا رسله، لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم. وذلك هو معنى قوله: (بما كنتم تعملون) . * * * وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 442 14667- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) ، قال: ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل، فإذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النارَ، ودخلوا منازلهم، رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها، فقيل لهم:"هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله"، ثم يقال:"يا أهل الجنة، رِثُوهم بما كنتم تعملون"، فتُقْسم بين أهل الجنة منازلهم. 14668- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن سعد أبو داود الحفري، [عن سعيد بن بكير] ، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأغرّ: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) ، قال: نودوا أنْ صِحُّوا فلا تسقموا، واخلُدوا فلا تموتوا، وانعموا فلا تَبْأسوا. (1) 14669- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي سعيد: (ونودوا أن تلكم الجنة) ، الآية، قال: ينادي منادٍ: أن لكم أنْ تصحُّوا فلا تسقموا أبدًا. (2) * * * واختلف أهل العربية في"أنْ" التي مع"تلكم".   (1) الأثر: 14668 - ((عمر بن سعد)) ، ((أبو داود الحفري)) ، ثقة. مضى رقم: 863، وهو يروي عن ((سفيان الثوري)) ، ولكن جاء هنا ((سعيد بن بكير)) . وأما ((سعيد بن بكير)) ، فهو في المطبوعة ((سعد بن بكر)) ، وأثبت ما في المخطوطة. ولست أدري من يكون؟ أو عن أي شيء هو محرف. و ((الأغر)) هو ((الأغر)) ، أبو مسلم المدني، روى عن أبي هريرة وأبي سعيد، وكانا اشتركا في عتقه. روى عنه أبو إسحاق السبيعي، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 /2 / 44، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 308. وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 17: 174، من طريق عبد الرازق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مطولا، بنحوه. وسيأتي مختصرًا في الذي يليه. (2) الأثر: 14669 - هذا مختصر حديث مسلم (17: 174) الذي خرجته في التعليق السالف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 443 فقال بعض نحويي البصرة: هي"أنّ" الثقيلة، خففت وأضمر فيها، ولا يستقيم أن تجعلها الخفيفة، لأن بعدها اسمًا، والخفيفة لا تليها الأسماء، وقد قال الشاعر: (1) فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد، قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ (2) وقال آخر: (3) أُكَاشِرُهُ وَأَعْلَمُ أَنْ كِلانَا ... عَلَى مَا سَاءَ صَاحِبَهُ حَرِيصُ (4) قال: فمعناه: أنه كِلانا. قال: ويكون كقوله: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا) ، في موضع"أي"؛ وقوله: (أَنْ أَقِيمُوا) ، [سورة الشورى: 13] ، ولا تكون"أن" التي تعمل   (1) هو الأعشى. (2) ديوانه: 45، سيبويه 1: 282، 440، 480 /2: 123، أمالي ابن الشجري 2: 2، الإنصاف: 89، والخزانة 3: 547 / 4: 356، وشرح شواهد العيني (بهامش الخزانة) 2: 287، وغيرها. وهذا البيت أنشده سيبويه، وتبعه النحاة في كتبهم، وهو بيت ملفق من بيتين، يقول الأعشى في قصيدته المشهورة: إمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لا نِعَالَ لَنَا ... إِنَّا كَذَلِكَ مَا تَحْفَى ونَنْتَعِلُ فَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتُهُ ... وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثُمَّ مَا يَئِلُ وَقَدْ أَقُودُ الصِّبَا يَوْمًا فَيَتْبَعُنِي ... وَقَدْ يُصَاحِبْنِي ذُو الشِّرَّةِ الغَزِلُ وَقَدْ غَدَوْتُ إلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي ... شَاوٍ مِشَلٌ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد، قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ لَيْسَ يَدْفَعُ عَنْ ذِي الحِيلَة الحيَلُ نازَعْتُهُمْ قُضُبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا ... وَقَهْوَةً مُزَّةً رَواوُوقُها خَضِلُ لا يَسْتَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ ... إِلا بِهَاتِ، وَإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلُوا (3) لم أعرف قائله. (4) سيبويه 1: 440، الإنصاف لابن الأنباري: 89، 183، وأمالي ابن الشجري 1: 188، وغيرها وقوله: ((أكاشره)) : أضاحكه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 444 في الأفعال، لأنك تقول:"غاظني أن قام"، و"أن ذهب"، فتقع على الأفعال، وإن كانت لا تعمل فيها. وفي كتاب الله: (وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [سورة ص: 6] ، أي: امشوا. * * * وأنكر ذلك من قوله هذا بعض أهل الكوفة، فقال: غير جائز أن يكون مع"أن" في هذا الموضع"هاء" مضمرة، لأن"أن" دخلت في الكلام لتَقِيَ ما بعدها. قال:"وأن" هذه التي مع"تلكم" هي الدائرة التي يقع فيها ما ضارع الحكاية، وليس بلفظ الحكاية، نحو:"ناديت أنك قائم،" و"أنْ زيد قائم" و"أنْ قمت"، فتلي كلَّ الكلام، وجعلت"أن" وقاية، لأن النداء يقع على ما بعده، وسلم ما بعد"أن" كما سلم ما بعد"القول". ألا ترى أنك تقول:"قلت: زيد قائم"، و"قلت: قام"، فتليها ما شئت من الكلام؟ فلما كان النداء بمعنى"الظن" وما أشبهه من"القول" سلم ما بعد"أن"، ودخلت"أن" وقاية. قال: وأما"أي"، فإنها لا تكون على"أن" لا يكون"أي" جواب الكلام، و"أن" تكفي من الاسم. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 445 القول في تأويل قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى أهلُ الجنة أهلَ النار بعد دخولهموها: يا أهل النار، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا في الدنيا على ألسن رسله، من الثواب على الإيمان به وبهم، وعلى طاعته، فهل وجدتم ما وعدنا ربكم على ألسنتهم على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 445 الكفر به وعلى معاصيه من العقاب؟ (1) فأجابهم أهل النار: بأنْ نعم، قد وجدنا ما وعد ربنا حقًّا، كالذي:- 14670- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا قالوا نعم) ، قال: وجد أهل الجنة ما وُعدوا من ثواب، وأهل النار ما وُعدوا من عقاب. 14671- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا) ، وذلك أن الله وعد أهل الجنة النعيم والكرامة وكلَّ خير علمه الناس أو لم يعلموه، ووعدَ أهل النار كلَّ خزي وعذاب علمه الناس أو لم يعلموه، فذلك قوله: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) ، [سورة ص: 58] . قال: فنادى أصحاب الجنة أصحابَ النار أنْ قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قالوا: نعم. يقول: من الخزي والهوان والعذاب. قال أهل الجنة: فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا من النعيم والكرامة = (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) . * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (قالوا نعم) . فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: (قَالُوا نَعَمْ) ، بفتح العين من"نعم". * * * ورُوِي عن بعض الكوفيين أنه قرأ:"قَالُوا نَعِمْ" بكسر"العين"، وقد أنشد بيتا لبني كلب:   (1) انظر تفسير ((أصحاب الجنة)) و ((أصحاب النار)) فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 446 نَعِمْ، إِذَا قالَهَا، مِنْهُ مُحَقَّقَةٌ ... وَلاتَخِيبُ"عَسَى" مِنْهُ وَلا قَمنُ (1) بكسر"نعم". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا (نَعَمْ) بفتح"العين"، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة المشهورة في العرب. * * * وأما قوله: (فأذن مؤذن بينهم) ، يقول: فنادى مناد، وأعلم مُعْلِمٌ بينهم = (أن لعنة الله على الظالمين) ، يقول: غضب الله وسخطه وعقوبته على مَنْ كفر به. (2) * * * وقد بينا القول في"أنّ" إذا صحبت من الكلام ما ضارع الحكاية، وليس بصريح الحكاية، بأنها تشددها العرب أحيانًا، وتوقع الفعل عليها فتفتحها وتخففها أحيانًا، وتعمل الفعل فيها فتنصبها به، وتبطل عملها عن الاسم الذي يليها، فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * وإذ كان ذلك كذلك، فسواء شُدِّدت"أن" أو خُفِّفت في القراءة، إذ كان معنى الكلام بأيّ ذلك قرأ القارئ واحدًا، وكانتا قراءتين مشهورتين في قرأة الأمصار. * * *   (1) لم أجد البيت، ولم أعرف قائله. ((قمن)) ، جدير. يقول: لو قال لك: ((عسى أن يكون ما تسأل)) أو: ((أنت قمن أن تنال ما تطلب)) ، فذلك منه إنفاذ منه لما تسأل، وتحقيق لما تطلب. وكان في المطبوعة: ((ولا تجيء عسى)) ، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب. لأنه قال إن العدة بنعم محققة، وبما أقل منها في الوعد محقق أيضًا لا يخيب معها سائله. (2) انظر تفسير ((اللعنة)) فيما سلف ص: 416، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر ما سلف قريبًا ص 443 - 445. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 447 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إن المؤذن بين أهل الجنة والنار يقول:"أن لعنة الله على الظالمين"، الذين كفروا بالله وصدّوا عن سبيله (1) = (ويبغونها عوجًا) ، يقول: حاولوا سبيل الله = وهو دينه (2) ="أن يغيروه ويبدِّلوه عما جعله الله له من استقامته (3) = (وهم بالآخرة كافرون) ، يقول: وهم لقيام الساعة والبعث في الآخرة والثواب والعقاب فيها جاحدون. * * * والعرب تقول للميل في الدِّين والطريق: "عِوَج" بكسر"العين"، وفي ميل الرجل على الشيء والعطف عليه:"عاجَ إليه يَعُوج عِيَاجًا وعَوَجًا وعِوَجًا"، بالكسر من"العين" والفتح، (4) كما قال الشاعر: (5) قِفَا نَسْأَلْ مَنَازِلَ آلِ لَيْلى ... عَلَى عِوَجٍ إلَيْهَا وَانْثِنَاءِ (6) ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده إياه بكسر العين من"عوج"، فأما ما كان خلقة في الإنسان، فإنه يقال فيه:"عَوَج ساقه"، بفتح العين. * * *   (1) انظر تفسير ((الصد)) فيما سلف 10: 565، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((سبيل الله)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (3) انظر تفسير ((بغى)) فيما سلف ص: 286، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((العوج)) فيما سلف 7: 53، 54، ومجاز القرآن أبي عبيدة 1: 98. (5) لم أعرف قائله. (6) اللسان (عوج) ، وروايته: * مَتَى عِوَجٌ إلَيْهَا وَانْثنَاءُ * وفي المطبوعة: ((قفا نبكي)) ، وهو من سوء قراءة الناشر للمخطوطة، وصوابه ما أثبت كما في رواية اللسان أيضًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 448 القول في تأويل قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وبينهما حجاب) ، وبين الجنة والنار حجاب، يقول: حاجز، وهو: السور الذي ذكره الله تعالى فقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) ، [سورة الحديد: 13] . وهو"الأعراف" التي يقول الله فيها: (وعلى الأعراف رجال) ، كذلك. 14671- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال:"الأعراف"، حجاب بين الجنة والنار. 14672- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وبينهما حجاب) ، وهو"السور"، وهو"الأعراف". * * * وأما قوله: (وعلى الأعراف رجال) ، فإن"الأعراف" جمع، واحدها"عُرْف"، وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو"عُرْف"، وإنما قيل لعُرف الديك"عرف"، لارتفاعه على ما سواه من جسده، ومنه قول الشماخ بن ضرار: وَظَلًّتْ بِأَعْرَافٍ تَغَالَى، كَأَنَّهَا ... رِمَاحٌ نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ (1)   (1) ديوانه: 53، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 215، ورواية ديوانه وغيره ((وظلت تغالي باليفاع كأنها)) . وهذا البيت من آخر القصيدة في صفة حمر الوحش، بعد أن عادت من رحلتها الطويلة العجيبة في طلب الماء، يقودها العير، فوصفه ووصفهن، فقال: مُحَامٍ على عَوْراتِهَا لا يَرُوعُها ... خَيَالٌ، وَلا رَامِي الوُحُوشِ المنَاهِزُ وأصْبَحَ فَوْقَ النَّشْزِ، نَشْزِ حَمَامةٍ، ... لَهُ مَرْكَضٌ فِي مُسْتَوَى الأَرْضِ بَارِزُ وَظلَّتْ تغَالَي بِاليَفَاع .......... ... ................................... و ((تغالي الحمر)) احتكاك بعضها ببعض.يصف ضمور حمر الوحش، كأنها رماح مائلة تستقبل مهب الرياح. وكان في المطبوعة: ((تعالى)) ، وهو خطأ. وفي المخطوطة هكذا: ((وطلت بأعراف تعالى كأنها رماح وجهه راكز)) ، صوابه ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 449 يعني بقوله:"بأعراف"، بنشوز من الأرض، ومنه قول الآخر: (1) كُلُّ كِنَازٍ لَحْمُهُ نِيَافِ ... كَالْعَلَمِ الْمُوفِي عَلَى الأعْرَافِ (2) * * * وكان السدي يقول: إنما سمي"الأعراف" أعرافًا، لأن أصحابه يعرفون الناس. 14672- حدثني بذلك محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14673- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول:"الأعراف"، هو الشيء المشرف. (3) 14674- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول، مثله. (4) 14675- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور كعرف الديك. 14676- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.   (1) لم أعرف قائله. (2) مجاز القرآن أبي عبيدة 1: 215، اللسان (نوف) ، ((الكناز)) المجتمع اللحم القوية. و ((النياف)) ، الطويل، يصف جملا. و ((العلم)) الجبل. (3) الأثر: 14673 - ((عبيد الله بن أبي يزيد المكي)) ، روى عن ابن عباس، مضى برقم: 3778. وكان في المطبوعة ((عبيد الله بن يزيد)) ، والصواب من المخطوطة. (4) الأثر: 14674 - ((عبيد الله بن أبي يزيد)) ، المذكور آنفًا، في المطبوعة والمخطوطة هنا ((عبيد الله بن يزيد)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 450 14677- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"الأعراف"، حجاب بين الجنة والنار، سور له باب = قال أبو موسى: وحدثني عبيد الله بن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباس يقول: إن الأعراف تَلٌّ بين الجنة والنار، حُبس عليه ناسٌ من أهل الذنوب بين الجنة والنار. (1) 14678- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"الأعراف"،حجاب بين الجنة والنار، سور له باب. 14679- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار. 14680- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار. 14681- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وعلى الأعراف رجال) ، يعني بالأعراف: السور الذي ذكر الله في القرآن، (2) وهو بين الجنة والنار.   (1) الأثر: 14677 - ((عيسى)) ، هو ((عيسى بن ميمون المكي)) صاحب التفسير، مضى مئات من المرات، وترجم في رقم: 278، 3347، وكنيته ((أبو موسى)) فهو الرواي هنا عن ((عبيد الله بن أبي يزيد)) . وكان في المطبوعة هنا أيضًا (عبيد الله بن يزيد)) ، والصواب من المخطوطة. انظر التعليقين السالفين. (2) هو المذكور في آية سورة الحديد: 13، والمذكور آنفًا في الآثار السالفة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 451 14682- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور له عُرْف كعرف الديك. 14683- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار. 14684- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"الأعراف"، السور الذي بين الجنة والنار. * * * واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف، وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك. فقال بعضهم: هم قوم من بني آدم، استوت حسناتهم وسيئاتهم، فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم. * ذكر من قال ذلك: 14685- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، قال الشعبي: أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش، وإذا هما قد ذكرَا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذَكَرا، فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات! فقلت: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيِّئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارُهم تلقاء أصحاب النار قالوا:"ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين". فبينا هم كذلك، اطّلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال: اذهبوا وادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم. (1)   (1) الأثر: 14685 - ((عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي)) ، وهو ((الأعرج)) استعمله عمر بن عبد العزيز على الكوفة، وكان أبو الزناد كاتبًا له. ثقة، روى له الجماعة مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1 / 15، ونسب قريش: 363. و ((أبو الزناد)) ، ((عبد الله بن ذكوان)) مولى على قريش)) ، مضى برقم: 11813. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 452 14686- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن الشعبي، عن حذيفة، أنه سئل عن أصحاب الأعراف، قال فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلّفت بهم حسناتهم عن النار. قال: فوُقِفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم. 14687- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وعمران بن عيينة، عن حصين، عن عامر، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قومٌ كانت لهم ذنوب وحسنات، فقصرت بهم ذنوبهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه، فينفذ فيهم أمره. 14688- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فيقول: ادخلوا الجنة بفضلي ومغفرتي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. 14689- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يونس بن أبي إسحاق، عن عامر، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة. 14690- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير، وهو يحدّث ذلك عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ، [سورة الأعراف: 8-9] . ثم قال: إن الميزان يخفّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 453 بمثقال حبة ويرجح. قال: فمن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا:"سلام عليكم"، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظرُوا أصحاب النار قالوا: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة الأعراف: 47] ، فيتعوذون بالله من منازلهم، قال: فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمَةٍ نورًا. فإذا أتوا على الصراط سَلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون، (1) قالوا: ربنا أتمم لنا نورنا". وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع من أيديهم، فهنالك يقول الله: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) ، فكان الطمع دخولا. قال: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول: هلك من غلب وُحْدَانُه أعشارَه. (2) 14691- حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال، أخبرني ابن وهب قال، أخبرني عيسى الحنّاط، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار، وهم آخر من يدخل الجنة، قد عرَفوا أهل الجنة وأهل النار. (3)   (1) في المخطوطة: ((فلما رأوا أهل الجنة)) ، وهو جائز. (2) الأثر: 14690 - ((أبو بكر الهذلي)) ، ليس بثقة، ولا يحتج بحديثه. وقال غندر: ((كان إمامنا، وكان يكذب)) . مضى برقم: 597، 8376، 13054، 14398 غندر: ((كان إمامنا، وكان يكذب)) . مضى برقم: 597، 8376، 13054، 14398. و ((الوحدان)) بضم الواو، جمع ((واحد)) . و ((واحد)) . و ((الأعشار)) جمع ((عشر)) . (3) الأثر: 14691 - ((الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني)) ، ((أبو همام)) ، شيخ الطبري، تكلموا فيه، وقال ابن معين: ((لا بأس به، ليس هو ممن يكذب)) ، وقال أبو حاتم: ((يكتب حديثه ولا يحتج به)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 7. و ((عيسى الحناط)) ، هو ((عيسى بن أبي عيسى الحناط الغفاري)) ، وهو ((عيسى بن ميسرة)) ضعيف مضطرب الحديث لا يكتب حديثه. وكان ((خباطًا)) ، ثم ترك ذلك وصار ((حناطًا)) ، ثم ترك ذلك وصار يبيع الخيط. قال ابن سعد: ((كان يقول: أنا خباط، حناط، خياط، كلا قد عالجت)) . وكان في المطبوعة هنا ((الخياط)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان صوابًا ما في المطبوعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 289. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 454 14692- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام، عن قتادة قال: قال ابن عباس: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم. 14693- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بَدَا لله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، (1) حافتاه قَصَبُ الذهب، مكلَّل باللؤلؤ، ترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، ويبدو في نحورهم شامَةٌ بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم، أتى بهم الرحمنُ فقال: تمنوا ما شئتم! قال: فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرة! فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمَّون مساكين الجنة. (2) 14694- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، يؤمر بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، ترابه الوَرْس والزعفران، وحافتاه قَصَبُ اللؤلؤ = قال: وأحسبه قال: مكلل باللؤلؤ = وقال: فيغتسلون فيه، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، فيقال لهم: تمنوا! فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا!   (1) في ابن كثير 3: 481 ((يقال له نهر الحياة)) . وانظر الأثر التالي. و ((قصب الذهب)) ، أنابيب من الذهب، مجوفة مستطيلة. وفي المطبوعة هنا وفيما يلي ((قضب)) ، بالضاد. (2) الأثر: 14693 - سيرويه موقوفًا على عبد الله بن الحارث في الأثر التالي، قال ابن كثير بعد أن ذكر الخبرين: ((وعن عبد الله بن الحارث من قوله، وهذا أصح)) ، التفسير 3: 482. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 455 وإنهم مساكين أهل الجنة = قال حبيب: وحدثني رجل: أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم. 14695- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، ينتهى بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، حافتاه قَصَب من ذهب = قال سفيان: أراه قال: مكلل باللؤلؤ = قال: فيغتسلون منه اغتسالةً فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، ثم يعودون فيغتسلون، فيزدادون. فكلما اغتسلوا ازدادت بياضًا، فيقال لهم: تمنوا ما شئتم! فيتمنون ما شاءوا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا! قال: فهم مساكين أهل الجنة. 14696- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن حصين، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم على سور بين الجنة والنار: (لم يدخلوها وهم يطمعون) . 14697- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان ابن عباس يقول:"الأعراف"، بين الجنة والنار، حبس عليه أقوام بأعمالهم. وكان يقول: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم. 14698- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، قال ابن عباس: أهل الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. 14699- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. 14700- . . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن منصور، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 456 عن سعيد بن جبير قال: أصحاب الأعراف، استوت أعمالهم. 14701- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فوُقِفوا هنالك على السور. 14702- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سفيع، أو سميع = قال أبو جعفر: كذا وجدت في كتاب سفيع (1) =، عن أبي علقمة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. (2) * * * وقال آخرون: كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا. * ذكر من قال ذلك: 14703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي مسعر، عن شرحبيل بن سعد قال: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم. 14704 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد، عن يحيى بن شبل: أن رجلا من بني النضير أخبره، عن رجل من بني هلال: أن أباه أخبره: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم غزوا في سبيل الله عصاةً لآبائهم، فقتلوا، فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله، وحُبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة. (3)   (1) في المخطوطة: ((كتابي)) ثم ضرب على ((بي)) ، وكتب بعدها ((ب)) ، وأخشى أن يكون الذي ضرب عليه الناسخ هو الصواب. (2) الأثر: 14702 - ((سفيع)) ، لم أجد من ذكره. وأما ((سميع)) الراوي عن ابن عباس، فهو ((سميع الزيات)) ((أبو صالح)) ، ثقة مترجم في الكبير 2 /2 / 190، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 305. (3) الأثر: 14704 - ((يحيى بن شبل)) ، ((مولى بني هاشم)) لم أعرف حاله، ترجم له ابن أبي حاتم 4 / 2 / 157، ولم يذكر فيه جرحًا، والبخاري في الكبير 4 / 2 / 282، وذكره في التهذيب إلحاقًا فقال: ((ولهم بن شبل شيخ آخر مدني، أقدم من هذا، يروي عنه أبو معشر حديثًا في أصحاب الأعراف)) واقتصر البخاري على أنه يروي عنه سعيد بن أبي هلال. وأما ابن أبي حاتم، فذكر أنه روى عن ((عمر بن عبد الرحمن المزني، وعن جده بن حسين (؟؟) عن علي رضي الله عنه)) ثم قال: ((روى عنه سعيد بن أبي هلال، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وأبو معشر، وموسى بن عبيدة الربذي، وابن أبي سبرة)) . وزادنا أبو جعفر في الأثر التالي أنه ((مولى بني هاشم)) ، ولم أجد لذلك ذكرًا في الكتب التي بأيدينا. وهذا خبر ضعيف، لما فيه من المجاهيل، ولأن ((أبا معشر)) نفسه، قد تكلموا فيه، وضعفوه. وانظر التعليق على الأثر التالي، ففيه التخريج. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 457 14705 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن أبي معشر، عن يحيى بن شبل مولى بني هاشم، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار، ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة. (1) * * * وقال آخرون: بل هم قوم صالحون فقهاء علماء. * ذكر من قال ذلك: 14706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: أصحاب الأعراف، قوم صالحون فقهاء علماء. * * *   (1) الأثر: 14705 - ((يحيى بن شبل، مولى بني هاشم)) ، انظر الأثر السالف. و ((محمد بن عبد الرحمن المزني)) ، لم أجد له ترجمة مفردة، ويقال أيضًا ((عمر بن الرحمن المزني)) ، ويقال: ((عمرو بن عبد الرحمن)) ، إن صلح ما في ترجمة أبيه في أسد الغابة. وأبوه ((عبد الرحمن المزني)) ، ويقال ((عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن)) ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ((وقد قيل: اسم أبيه محمد، وهو الصواب إن شاء الله)) . وترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب: 399، وابن الأثير في أسد الغابة في موضعين 3: 307، 322، وابن حجر في الإصابة في موضعين: في ((عبد الرحمن بن أبي الهلالي)) وفي ((عبد الرحمن المزني)) ، ولم يشر إلى ذلك في واحدة من الترجمتين، وهو عجيب!! واختلفوا في تسمية ولده، فقال ابن حجر: ((والد عمر، ويقال: والد محمد)) ، وقال ابن عبد البر: ((وله ولد آخر يقال له: ((عبد الرحمن)) . أما ابن الأثير، ففيه أن ولده ((عمرو)) ، وان كنية ((عبد الرحمن المزني)) هو ((أبو عمرو)) . وأما قوله في الأثر السالف: ((أن رجلا من بني النضير)) ، فهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، وفي المراجع الأخرى: ((أن رجلا من بني نضر)) ، ولا أدري أهو بالضاد المعجمة أم الصاد المهملة. وأما ((عن رجل من بني هلال)) فكأنه يعني من ((بني هلال بن رئاب)) من ((بني عمرو بن أد)) ، وهم مزينة، ومن بني هلال بن رئاب ((إياس بن معاوية المزني)) القاضي المشهور. انظر جمهرة الأنساب لابن حزم: 192. ويدل على ذلك ان ابن حجر ترجم له في ((عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن الهلالي)) وفي ((عبد الرحمن المزني)) ، وذكر فيهما حديثه في الأعراف. وهذا الخبر ذكروه جميعًا من طرق مختلفة، وكلها مضطرب، وقد جمع الكلام فيه الحافظ ابن حجر في الإصابة في الموضعين، ولكنه لم يستوفه. ومهما يكن من شيء، فهو حديث ضعيف لضعف أبي معشر، ولما يحيط به من الجهالة كما أسلفت في التعليق على الأثر السالف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 458 وقال آخرون: بل هم ملائكة وليسوا ببني آدم. * ذكر من قال ذلك: 14707- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي مجلز قوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم) ، إلى قوله: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) ، قال: فنادى أصحاب الأعراف رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ، قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) . 14708- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران قال: قلت لأبي مجلز: يقول الله: (وعلى الأعراف رجال) ، وتزعم أنتَ أنهم الملائكة؟ قال فقال: إنهم ذكور، وليسوا بإناث. 14709- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال) ، قال: رجال من الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم، أهل النار وأهل الجنة، وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 459 14710- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن التيمي، عن أبي مجلز، بنحوه. 14711- . . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن التيمي، عن أبي مجلز قال: أصحاب الأعراف، الملائكة. 14712- حدثني المثنى قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال) ، قال: هم الملائكة. 14713- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال) ، قال: هم الملائكة. قلت: يا أبا مجلز، يقول الله تبارك وتعالى:"رجال"، وأنت تقول: ملائكة؟ قال: إنهم ذُكران ليسوا بإناث. 14714- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز في قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: الملائكة. قال قلت: يقول الله"رجال"؟ قال: الملائكة ذكور. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جل ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كُلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح سنده،ولا أنه متفق على تأويلها، ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان ذلك لا يدرك قياسًا، وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن"الرجال" اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم ودون سائر   (1) في المخطوطة: ((الملائكة)) دون صفتهم ((ذكور)) ، كأنه قطع الكلام بالإثبات. وإن كان يخشى أيضًا أن يكون الناسخ أسقط ما ثبت في المطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 460 الخلق غيرهم، كان بيِّنًا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة، قولٌ لا معنى له، وأن الصحيح من القول في ذلك ما قاله سائر أهل التأويل غيره. هذا مع مَنْ قال بخلافه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما فيها، وقد:- 14715- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني جرير عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال:"هم آخر مَنْ يفصل بينهم من العباد، وإذا فرغ ربُّ العالمين من فصله بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلكم الجنة، وأنتم عُتَقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل الجنة بسيماهم، وذلك بياض وجوههم، ونضرةُ النعيم عليها = ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم، وذلك سواد وجوههم، وزرقة أعينهم، فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم:"سلام عليكم". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) الأثر: 14715 - ((عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي، روى له الجماعة، مضى برقم: 14203، 14209. و ((أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي)) ، ثقة، روى له الجماعة مضى كثيراص، آخرها أيضًا رقم: 14203، 14209. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((أبو زرعة، عن عمرو بن جرير)) ، وهو خطأ. وهذا خبر مرسل حسن، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 87، وزاد إلى ابن المنذر. ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 482. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 461 * ذكر من قال ذلك: 14716- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: يعرفون أهل النار بسواد الوجوه، وأهل الجنة ببياض الوجوه. 14717 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: أنزلهم الله بتلك المنزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوَّذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيّون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله. 14718 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بسيماهم) ، قال: بسواد الوجوه، وزُرقة العيون. 14719- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون، وسيما أهل الجنة مبيَضَّة وجوههم. 14720- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرَفوهم ببياض الوجوه، وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه. 14721- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوبٌ عِظام، وكان حَسْمُ أمرهم لله، فأقيموا ذلك المقام، إذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 462 نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه، فقالوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) ، وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض الوجوه، فذلك قوله: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) . 14722- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، زعموا أن أصحاب الأعراف رجال من أهل الذنوب، أصابوا ذنوبًا، وكان حَسْم أمرهم لله، فجعلهم الله على الأعراف. فإذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه، فتعوذوا بالله من النار. وإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم:"أن سلام عليكم"، قال الله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) . قال: وهذا قول ابن عباس. 14723- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يعرفون كلا بسيماهم) ، يعرفون الناس بسيماهم، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم. 14724- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يعرفون كلا بسيماهم) ، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم. 14725- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: أهل الجنة بسيماهم. بيض الوجوه = وأهل النار بسيماهم، سود الوجوه. قال: وقوله (يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: أصحاب الجنة وأصحاب النار ="ونادوا أصحاب الجنة"، قال: حين رأوا وجوههم قد ابيضت. 14726- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: بسواد الوجوه. 14727- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن مبارك، عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 463 الحسن: (بسيماهم) ، قال: بسواد الوجوه وزرقة العيون. * * * و"السيماء"، العلامة الدالة على الشيء، في كلام العرب. وأصله من"السِّمَة"، نقلت واوها التي هي فاء الفعل، إلى موضع العين، كما يقال:"اضمحلّ" و"امضحلّ". وذكر سماعًا عن بعض بني عقيل:"هي أرض خامة"، يعني"وَخِمة". ومنه قولهم:"له جاه عند الناس"، بمعنى"وجه"، نقلت واوه إلى موضع عين الفعل. (1) وفيها لغات ثلاث:"سيما" مقصورة، و"سيماء"، ممدودة، و"سيمياء"، بزيادة ياء أخرى بعد الميم فيها، ومدها، على مثال"الكبرياء"، (2) كما قال الشاعر: (3) غُلامٌ رَمَاهُ الله بِالحُسْنِ إذْ رَمَى ... لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (4) * * * وأما قوله: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) ، أي: حلت عليهم أمنة الله من عقابه وأليم عذابه. (5) * * * واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) . فقال بعضهم: هذا خبر من الله عن أهل الأعراف: أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف، غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها. * ذكر من قال ذلك: 14728- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أهل الأعراف يعرفون الناسَ، فإذا مرُّوا عليهم   (1) انظر ((جاه)) فيما سلف 6: 415. (2) انظر تفسير ((سيما)) فيما سلف 5: 594 - 597 /7: 189، 190. (3) هو أسيد بن عنقاء الفزاري. (4) سلف البيت وتخريجه فيما سلف 5: 595 /7: 189. (5) انظر تفسير ((سلام)) فيما سلف ص: 114، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 464 بزُمْرة يُذْهب بها إلى الجنة قالوا:"سلام عليكم". يقول الله لأهل الأعراف: لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها. 14729- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، تلا الحسن: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم. 14730- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قال: أنبأكم الله بمكانهم من الطمع. 14731- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال، قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال: أما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم، فانتزع من أيديهم، (1) يقول الله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قال: في دخولها. قال ابن عباس: فأدخل الله أصحاب الأعراف الجنة. 14732- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعطاء: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قالا في دخولها. * * * وقال آخرون: إنما عني بذلك أهلَ الجنة، وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة:"سلام عليكم"، وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها، ولم يدخلوها بعدُ. * ذكر من قال ذلك: 14733- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قال: الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم. وهذا قبل أن   (1) في المطبوعة: ((ما انتزع)) ، والصواب من المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 465 يدخل أهل الجنة الجنة، أصحاب الأعراف ينادون أصحابَ الجنة: أنْ سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا صرفت أبصارُ أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار = يعني: حِيالَهم ووِجاههم = فنظروا إلى تشويه الله لهم = (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) ، الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها من سخطك ما أورثهم من عذابك ما هم فيه. 14734- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: وإذا مروا بهم = يعني بأصحاب الأعراف = بزمرة يُذهب بها إلى النار، قالوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) . 14735- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم، قالوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) . 14736- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن أخيه، عن عكرمة: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) ، قال: تحرد وجوههم للنار، فإذا رأوا أهل الجنة ذهبَ ذلك عنهم. (1)   (1) الأثر: 14736 - ((أبو مكين)) ، هو ((نوح بن ربيعة الأنصاري)) ، مضى برقم: 9742 - 9839. وكان وكيع يهم فيقول: ((أبو مكين)) هو ((نوح بن أبان)) ، أخو ((الحكم بن أبان)) ، ونبهوا على هذا الوهم. انظر ترجمة ((نوح بن ربيعة)) في التهذيب وابن أبي حاتم 4 / 1 / 482. وأخوه، يعني وكيع: ((الحكم بن أبان العدني)) ، وهو يروي عن طاوس وعكرمة، ثقة مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 334، وابن أبي حاتم 1 / 2 /113. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 466 14737- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) ، فرأوا وجوههم مسودّة، وأعينهم مزرقّة، = (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) . * * * القول في تأويل قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا) ، من أهل الأرض = (يعرفونهم بسيماهم) ، سيما أهل النار = (قالوا ما أغنى عنكم جمعكم) ، ما كنتم تجمعون من الأموال والعَدَد في الدنيا = (وما كنتم تستكبرون) ، يقول: وتكبُّركم الذي كنتم تتكبرون فيها، (1) كما: 14738- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، فمرّ بهم = يعني بأصحاب الأعراف = ناس من الجبَّارين عرفوهم بسيماهم. قال: يقول: قال أصحاب الأعراف: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) . 14739- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا) ، قال: في النار = (يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم   (1) انظر تفسير ((الاستكبار)) فيما سلف 11: 540 / 12: 421. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 467 وما كنتم تستكبرون) ، وتكبركم. (1) 14740- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) ، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ، = (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ، الآية، قلت لأبي مجلز: عن ابن عباس؟ قال: لا بل عن غيره. 14741- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم) ، قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم = (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ = (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) . 14742- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم) ، فالرجال، عظماء من أهل الدنيا. قال: فبهذه الصفة عرَف أهلُ الأعراف أهلَ الجنة من أهل النار. وإنما ذكر هذا حين يذهب رئيس أهل الخير ورئيس أهل الشر يوم القيامة = قال: وقال ابن زيد في قوله: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) ، قال: على أهل طاعة الله. * * *   (1) في المطبوعة: (( ... جميعكم وتكبركم وما كنتم تستكبرون)) ، وهو كذلك في المخطوطة، إلا أنه فوق ((وتكبركم)) حرف (م) دلالة على أنه مقدم عن مكانه، فرددته إلى الأصل، وهو الصواب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 468 القول في تأويل قوله: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّين بهذا الكلام. فقال بعضهم: هذا قِيل الله لأهل النار، توبيخًا على ما كان من قِيلهم في الدنيا، لأهل الأعراف، عند إدخاله أصحابَ الأعراف الجنة. * ذكر من قال ذلك: 14743 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال:"أصحاب الأعراف"، رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان حَسْم أمرهم لله، يقومون على الأعراف، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها. وإذا نظروا إلى أهل النار تعوَّذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة. فذلك قوله تعالى:"أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، يعني أصحابَ الأعراف="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون". 14744 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال، قال ابن عباس: إن الله أدخل أصحابَ الأعراف الجنة لقوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون". 14745 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قال الله لأهل التكبر والأموال:"أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، يعني أصحاب الأعراف="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون". 14746 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أهؤلاء"، الضعفاء="الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 469 ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"، قال: فقال حذيفة:"أصحاب الأعراف"، قوم تكافأت أعمالهم، فقصَّرت بهم حسناتهم عن الجنة، وقصَّرت بهم سيئاتهم عن النار، فجعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم. فلما قُضِي بين العباد، أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم عليه السلام، فقالوا: يا آدم، أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك! فقال: هل تعلمون أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبه، (1) وسجدت له الملائكة، غيري؟ فيقولون: لا! قال: فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، (2) ولكن ائتوا ابني إبراهيم! قال: فيأتون إبراهيم عليه السلام فيسألونه أن يشفع لهم عند ربه، فيقول: هل تعلمون من أحدٍ اتخذه الله خليلا؟ هل تعلمون أحدًا أحرقه قومه في النار في الله، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، (3) ولكن ائتوا ابني موسى! فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا، وقرّبه نجيًّا، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى! فيأتونه فيقولون: اشفع لنا عند ربك! فيقول: هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال: فيقولون: لا! قال: فيقول: أنا حجيجُ نفسي، ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، (4) ولكن ائتوا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني، فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول: أنا لها! ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فأثني على ربي، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قطُّ، ثم أسجد فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، سل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع! فأرفع رأسي فأقول: رب، أمتي! فيقال: هم لك، فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرَّب إلا غَبَطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام المحمود. قال: فآتي بهم باب الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيُذهب بهم إلى نهر يقال له"نهر الحيوان"، (5) حافتاه قَصَب من ذهب مكلل باللؤلؤ، (6) ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، (7) ويصيرون كأنهم الكواكب الدرّية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم:"مساكين أهل الجنة". 14747 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: إن الله أدخلهم بعد أصحاب الجنة، وهو قوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"، يعني أصحاب الأعراف. وهذا قول ابن عباس. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس، ومن ذكرنا قوله فيه=: قال الله لأهل التكبر عن الإقرار بوحدانية الله، والإذعان لطاعته وطاعة رسله، الجامعين في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء: أيها الجبابرة   (1) في المطبوعة: "رحمة الله إليه غضبه"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) "كنه الشيء" قدره ونهايته وغايته وحقيقته، يريد: ما عملت ما يبلغ بي مرتبة الشفاعة لكم. وفي المطبوعة: "ما علمت"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي تفسير ابن كثير، نقلا عن هذا الموضع من التفسير: "ما علمت كنهه ما أستطيع"، والصواب ما في مخطوطة الطبري. (3) في المطبوعة هنا أيضًا: "ما علمت"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "ما عملت فيه ما أستطيع"، بإسقاط"كنه" سهوًا من الناسخ على الأرجح. (4) في المطبوعة: "ما علمت كنه ما أستطيع"، وأثبت ما في المخطوطة، كما ذكرت في التعليقين السالفين. (5) في المطبوعة: "نهر الحياة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لما في تفسير ابن كثير. (6) "القصب" أنابيب مستطيلة مجوفة من الجوهر، أو الذهب أو الفضة. وكان في المطبوعة كما سلف آنفًا ص: 455، تعليق: 1، "قضب" بالضاد، وأثبت ما في المخطوطة، وغيرها من المراجع (7) في المخطوطة: "وريح"، بإسقاط"أهل الجنة". وفي المطبوعة: "وريحهم"، وأثبت ما في تفسير ابن كثير 3: 485، نقلا عن هذا الموضع من تفسير الطبري. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 470 كانوا في الدنيا، (1) أهؤلاء الضعفاء الذين كنتم في الدنيا أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ قال: قد غفرت لهم ورحمتهم بفضلي ورحمتي، ادخلوا يا أصحاب الأعراف الجنة لا خوف عليكم بعدها من عقوبة تعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا من الآثام والإجرام، ولا أنتم تحزنون على شيء فاتكم في دنياكم. * * * وقال أبو مجلز: بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل النار، بعد ما دخلوا النار، تعييرًا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة جنته. وأما قوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"، فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها. 14748 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم:"ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، قال: فهذا حين يدخل أهل الجنة الجنةَ ="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون". * * * القول في تأويل قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نزول عظيم البلاء بهم من شدة العطش والجوع، عقوبةً من الله لهم   (1) في المطبوعة: "أيها الجبابرة الذين كانوا في الدنيا"، زاد"الذين"، وليست في المخطوطة، والذي في المخطوطة حق الصواب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 472 على ما سلف منهم في الدنيا من ترك طاعة الله، وأداء ما كان فرض عليهم فيها في أموالهم من حقوق المساكين من الزكاة والصدقة. يقول تعالى ذكره:"ونادى أصحاب النار"، بعد ما دخلوها="أصحاب الجنة"، بعد ما سكنوها="أن"، يا أهل الجنة="أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، أي: أطعمونا مما رزقكم الله من الطعام، كما:- 14749 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: من الطعام. 14750 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: يستطعمونهم ويستسقونهم. * * * = فأجابهم أهل الجنة، إن الله حرم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذبوا في الدنيا رسله. * * * و"الهاء والميم" في قوله:"إن الله حرّمهما"، عائدتان على"الماء" وعلى"ما" التي في قوله:"أو مما رزقكم الله". * * * وبنحو ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14751 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: ينادي الرجلُ أخاه أو أباه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 473 فيقول:"قد احترقت، أفض عليَّ من الماء! "، فيقال لهم: أجيبوهم! فيقولون:"إن الله حرمهما على الكافرين" 14752 - وحدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان، عن عثمان، عن سعيد بن جبير:"ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: ينادي الرجل أخاه: يا أخي، قد احترقتُ فأغثني! فيقول:"إن الله حرمهما على الكافرين". (1) 14753 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قالوا إن الله حرمهما على الكافرين"، قال: طعامُ أهل الجنة وشرابُها. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن قِيل أهل الجنة للكافرين. يقول تعالى ذكره: فأجاب أهلُ الجنة أهلَ النار:"إن الله حرمهما على الكافرين" الذين كفروا بالله ورسله، الذين اتخذوا دينهم الذي أمرهم الله به لهوًا ولعبا، يقول: سخرية ولعبًا. (2) وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-   (1) الأثر: 14752 -"ابن دكين"، هو"الفضل بن دكين التيمي"، مضى مرارًا، منها: 2554، 3035، 8535. (2) انظر تفسير"اللهو" فيما سلف 11: 441. = وتفسير"اللعب" فيما سلف 11: 441، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 474 14754 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا"، الآية، قال: وذلك أنهم كانوا إذا دُعوا إلى الإيمان سخِروا ممن دعاهم إليه وهزؤوا به، اغترارًا بالله. * * * ="وغرتهم الحياة الدنيا"، يقول: وخدعهم عاجلُ ما هم فيه من العيش والخفض والدَّعة، عن الأخذ بنصيبهم من الآخرة، حتى أتتهم المنية (1) = يقول الله جل ثناؤه:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، أي ففي هذا اليوم، وذلك يوم القيامة ="ننساهم"، يقول: نتركهم في العذاب المبين جياعًا عطاشًا بغير طعام ولا شراب، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، ورفضوا الاستعداد له بإتعاب أبدانهم في طاعة الله. * * * وقد بينا معنى قوله:"ننساهم"، بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14755 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: "فاليوم ننساهم"، قال: نسوا في العذاب. 14756 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فاليوم ننساهم"، قال: نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا. 14757 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ننساهم"، قال: نتركهم في النار.   (1) انظر تفسير"الغرور" فيما سلف ص: 351، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"النسيان" فيما سلف 11: 357، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 475 14758 - حدثني المثتي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، قال: نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا. 14759 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، الآية، يقول: نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشرّ. 14760 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، قال: نؤخرهم في النار. * * * وأما قوله:"وما كانوا بآياتنا يجحدون"، فإن معناه:"اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، وكما كانوا بآياتنا يجحدون. * * * فـ"ما" التي في قوله:"وما كانوا" معطوفة على"ما" التي في قوله:"كما نسوا". * * * قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: فاليوم نتركهم في العذاب، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله يجحدون = وهي حججه التي احتج بها عليهم، من الأنبياء والرسل والكتب وغير ذلك (1) ="يجحدون"، يكذبون ولا يصدقون بشيء من ذلك. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (2) انظر تفسير"الجحد" فيما سلف 11: 334. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 476 القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم، يا محمد، لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب = يعني القرآن الذي أنزله إليه. يقول: لقد أنزلنا إليهم هذا القرآن، مفصَّلا مبيَّنًا فيه الحق من الباطل ="على علم"، يقول: على علم منا بحقِّ ما فُصِّل فيه، من الباطل الذي مَيَّز فيه بينه وبين الحق (1) = "هدى ورحمة"، يقول: بيناه ليُهْدَى ويُرْحَم به قومٌ يصدقون به، وبما فيه من أمر الله ونهيه، وأخباره، ووعده ووعيده، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى. وهذه الآية مردودة على قوله: (كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف 2] ="ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم". * * * و"الهدى" في موضع نصب على القطع من"الهاء" التي في قوله:"فصلناه"، (2) ولو نصب على فعل"فصلناه"، (3) فيكون المعنى: فصلنا الكتاب كذلك = كان صحيحًا. ولو قرئ:"هدى ورحمةٍ" كان في الإعراب فصيحًا، وكان خفض ذلك بالردِّ على"الكتاب". (4) * * *   (1) انظر تفسير"التفصيل" فيما سلف ص: 402، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) "القطع"، الحال، وانظر فهارس المصطلحات. (3) نصبه على"الفعل"، أي: هو مفعول مطلق، من غير فعله، كأنه قال: فصلناه تفصيلا. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 380. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 477 القول في تأويل قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"هل ينظرون إلا تأويله"، هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه ="إلا تأويله"، يقول: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به. * * * وقد بينا معنى"التأويل" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14761 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"هل ينظرون إلا تأويله"، أي: ثوابه ="يوم يأتي تأويله"، أي ثوابه. 14762 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله"، قال:"تأويله"، عاقبته. 14763 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن   (1) انظر تفسير"التأويل" فيما سلف 6: 199 - 206/ 8: 506. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 478 أبي نجيح: عن مجاهد،"هل ينظرون إلا تأويله"، قال: جزاءه ="يوم يأتي تأويله"، قال: جزاؤه. 14764 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14765 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هل ينظرون إلا تأويله"، أما"تأويله"، فعواقبه، مثل وقعة بدر، والقيامة، وما وعد فيها من موعد. (1) 14766 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق"، فلا يزال يقع من تأويله أمرٌ بعد أمر، حتى يتم تأويله يوم القيامة، ففي ذلك أنزل:"هل ينظرون إلا تأويله"، حيث أثابَ الله تبارك وتعالى أولياءَه وأعداءه ثواب أعمالهم. يقول يومئذ الذين نسوه من قبل:"قد جاءت رسل ربنا بالحق"، الآية. 14767 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله"، قال: يوم القيامة. 14768 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يوم يأتي تأويله"، قال: يوم يأتي حقيقته، (2) وقرأ قول الله تعالى: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ) ، [سورة يوسف: 100] . قال: هذا تحقيقها. وقرأ قول الله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ) ، [سورة آل عمران: 7] ، قال: ما يعلم   (1) في المطبوعة: "وما وعد فيه" وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "يوم يأتي تحقيقه" وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 479 حقيقته ومتى يأتي، إلا الله تعالى * * * وأما قوله:"يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل"، فإن معناه: يوم يجيء ما يؤول إليه أمرهم من عقاب الله ="يقول الذين نسوه من قبل"، أي: يقول الذين ضيَّعوا وتركوا ما أمروا به من العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذ من العذاب، من قبل ذلك في الدنيا ="لقد جاءت رسل ربنا بالحق"، أقسم المساكين حين عاينوا البلاءَ وحلّ بهم العقاب: أنّ رسل الله التي أتتهم بالنِّذارة وبلغتهم عن الله الرسالة، (1) قد كانت نصحت لهم وصَدَقتهم عن الله، وذلك حين لا ينفعهم التصديق. ولا ينجيهم من سَخَط الله وأليم عقابه كثرة القال والقيل. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14769 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق"، أما"الذين نسوه"، فتركوه، فلما رأوا ما وعدهم أنبياؤهم، استيقنوا فقالوا:"قد جاءت رسل ربنا بالحق". 14770 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يقول الذين نسوه"، قال: أعرضوا عنه. 14771 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * *   (1) "النذارة" بكسر النون، كالإنذار، على وزن"الرسالة"، وانظر ما كتبته آنفًا 10: 575، تعليق: 2. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 480 القول في تأويل قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) } قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم، أنهم يقولون عند حلول سَخَط الله بهم، وورودهم أليمَ عذابه، ومعاينتهم تأويل ما كانت رسلُ الله تعِدهم: هل لنا من أصدقاءَ وأولياء اليوم فيشفعوا لنا عند ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا (1) = أو نردّ إلى الدنيا مرة أخرى، فنعمل فيها بما يرضيه ويُعْتِبُه من أنفسنا؟ (2) قال هذا القولَ المساكينُ هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خُلة فيه لهم ولا شفاعة. يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:"قد خسروا أنفسهم"، (3) يقول: غَبَنوا أنفسهم حظوظها، ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الآخرة الدائم، بالخسيس من عَرَض الدنيا الزائل ="وضل عنهم ما كانوا يفترون"، يقول: وأسلمهم لعذاب الله، وحار عنهم أولياؤهم، (4) الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، (5) ويزعمون كذبًا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله. (6) 14772 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"قد خسروا أنفسهم"، يقول: شروها بخسران. * * *   (1) انظر تفسير"الشفاعة" فيما سلف 11: 547، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) "أعتبه من نفسه"، أعطاه العتبى - وهي الرضا - ورجع إلى مسرته. (3) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف ص: 357، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) في المطبوعة: "وحاد" بالدال، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. (5) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . (6) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 408 تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 481 وإنما رفع قوله:"أو نردُّ" ولم ينصب عطفًا على قوله:"فيشفعوا لنا"، لأن المعنى: هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا = أو هل نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ = ولم يرد به العطف على قوله:" فيشفعوا لنا". (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم، أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء (2) ="الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام"، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، كما:- 14773 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدءُ الخلق العرشُ والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدء الخلق يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وجُمع الخلق في يوم الجمعة، وتهوَّدت اليهودُ يوم السبت. ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون. * * * ="ثم استوى على العرش". * * *   (1) في المخطوطة خلط وتكرار في هذه الجملة، وصوابها ما في المطبوعة. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 380. (2) انظر تفسير"الرب" فيما سلف 1: 142- 143/ 12: 286. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 482 وقد ذكرنا معنى"الاستواء" واختلاف الناس فيه، فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وأما قوله:"يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا"، فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره (2) =" يطلبه"، يقول: يطلب الليل النهار ="حثيثًا"، يعني: سريعًا. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14774 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يطلبه حثيثًا"، يقول: سريعًا. 14775 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا"، قال: يغشي الليل النهارَ بضوئه، ويطلبه سريعًا حتى يدركه. * * * القول في تأويل قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمرَه، ألا لله   (1) انظر تفسير"الاستواء" فيما سلف 1: 428- 431. (2) انظر تفسير"الغشاوة" فيما سلف 1: 265، 266. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 483 الخلق كله، والأمرُ الذي لا يخالف ولا يردّ أمره، دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا تأمر، تبارك الله معبودُنا الذي له عبادة كل شيء، رب العالمين. (1) 14776 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه، قلَّ شكره، وحَبِط عمله. ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه، لقوله:"ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين". (2) * * *   (1) انظر تفسير"تبارك" فيما سلف ص: 238، تعليق 2، والمراجع هناك. = وتفسير"رب" فيما سلف قريبًا ص: 482، تعليق: 2 والمراجع هناك. = وتفسير"العالمين" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . (2) الأثر: 14776 -"عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري"، هكذا جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة، وهكذا نقله الحافظ ابن حجر عن هذا الموضع من التفسير في ترجمة (أبو عبد العزيز) من الإصابة، وهكذا نقله ابن كثير في تفسيره 3: 489. ولكن الذي أطبقت عليه كتب التراجم، والأسانيد الأخرى التي نقلها الحافظ ابن حجر، في موضع آخر من الإصابة أنه: "عبد الغفور بن عبد العزيز"، وكنوه"أبو الصباح"، ونسبوه"الواسطي"، وهو مترجم في لسان الميزان 4: 43، 44، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 55، وميزان الاعتدال 2: 142، وهو ضعيف منكر الحديث، وأخرجه البخاري في الضعفاء. وأبوه هو: "عبد العزيز الشامي"، ولم أجد له ذكرًا، إلا في أثناء هذه الأسانيد. وأبوه، الذي له صحبة يقال اسمه"سعيد الشامي"، وهو مترجم بذلك في الإصابة، وكنيته"أبو عبد العزيز"، وهو مترجم أيضًا في باب الكنى من الإصابة، وفي أسد الغابة 5: 247. وهذا الخبر، رواه الحافظ ابن حجر في الموضعين من ترجمة"أبي عبد العزيز" و"سعيد"، وابن الأثير في أسد الغابة 5: 247، وابن كثير في تفسيره 3: 489، والسيوطي في الدر المنثور 3: 92. وهو خبر ضعيف هالك الإسناد. و"بقية بن الوليد" كما قال ابن المبارك: ((كان صدوقًا، ولكنه يكتب عمن أقبل وأدبر)) . وقال أحمد: "إذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوه". وقال يحيى بن معين: "كان يحدث عن الضعفاء بمئة حديث قبل أن يحدث عن الثقات". وقال أبو زرعة: "بقية عجب!! إذا روى عن الثقات فهو ثقة". وذكر قول ابن المبارك الذي تقدم، ثم قال: "وقد أصاب ابن المبارك. ثم قال: هذا في الثقات، فأما في المجهولين، فيحدث عن قوم لا يعرفون ولا يضبطون". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 484 القول في تأويل قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ادعوا، أيها الناس، ربَّكم وحده، فأخلصوا له الدعاء، دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام ="تضرعًا"، يقول: تذلُّلا واستكانة لطاعته (1) ="وخفية"، يقول بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله، (2) كما:- 14777 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعرُ جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقُه الفقهَ الكثير، وما يشعرُ به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر، (3) وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية"، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) ، [سورة مريم: 3] .   (1) انظر تفسير"التضرع" فيما سلف 11: 355، 414. (2) انظر تفسير"خفية" فيما سلف 11: 414. (3) "الزور" (بفتح فسكون) جمع"زائر"، مثل"صاحب" و"صحب". وفي المخطوطة: "الزور" مضبوطة بالقلم بضم الزاي وتشديد الواو مفتوحة، وهو صواب أيضًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 485 14778 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، (1) فأشرفوا على وادٍ يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال: أيها الناس، اربَعُوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا! إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم". (2) 14779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية"، قال: السر. * * * وأما قوله:"إنه لا يحب المعتدين"، فإن معناه: إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه ومسألته ربَّه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حدَّ لهم في دعائهم إياه، ومسألتهم، وفي غير ذلك من الأمور، (3) كما:- 14780 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن عباد بن عباد، عن علقمة، عن أبي مجلز:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين"، قال: لا يسأل منازلَ الأنبياء عليهم السلام. 14781 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"إنه لا يحب المعتدين"،   (1) هذه الغزاة، هي غزوة خيبر. (2) الأثر: 14778- رواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 363) ، ومسلم في صحيحه 17: 25 من هذه الطريق، مطولا. وقوله: "اربعوا على أنفسكم"، أي: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم. وفي المخطوطة: "سميعًا قريبًا أنا معكم" غير منقوطة، وأثبت ما في الصحيحين، وفي المطبوعة، حذف ما في المخطوطة، ولم يزد"وهو" التي زدتها. (3) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 486 في الدعاء ولا في غيره = قال ابن جريج: إن من الدعاء اعتداءً، يُكره رفعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويُؤمر بالتضرُّع والاستكانة. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو الفساد فيها. * * * وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى، وبينا معناه بشواهده. (1) * * * ="بعد إصلاحها" يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته، بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحق، وإيضاحه حججه لهم (2) ="وادعوه خوفًا وطمعًا"، يقول: وأخلصوا له الدعاء والعمل، ولا تشركوا في عملكم له شيئًا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه. وإنّ مَن كان دعاؤه إياه على غير ذلك، فهو بالآخرة من المكذبين، لأنّ من لم يخف عقابَ الله ولم يرجُ ثوابه، لم يبال ما ركب من أمر يسخَطه الله ولا يرضاه ="إن رحمة الله قريب من المحسنين"، يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا، قريب منهم، وذلك هو رحمته، (3)   (1) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287، 416، ومواضع أخرى آخرها 10: 461، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . (3) انظر تفسير"الرحمة" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) . = وتفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 487 لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم. * * * ولذلك من المعنى ذُكِّر قوله:"قريب"، وهو من خبر"الرحمة"، و"الرحمة" مؤنثة، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النَّسب، والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخبارًا للأسماء، (1) أجرتها العرب مجرى الحال، فوحّدتها مع الواحد والاثنين والجميع، وذكَّرتها مع المؤنث، فقالوا:"كرامة الله بعيد من فلان"، و"هي قريب من فلان"، كما يقولون:"هند قريب منا"، و"الهندان منا قريب"، و"الهندات منا قريب"، لأن معنى ذلك: هي في مكان قريب منا. فإذا حذفوا المكان وجعلوا"القريب" خلفًا منه، ذكَّروه ووحَّدوه في الجمع، كما كان المكان مذكرًا وموحدًا في الجمع. وأما إذا أنثوه، أخرجوه مثنى مع الاثنين، ومجموعًا مع الجميع، فقالوا:"هي قريبة منا"، و"هما منّا قريبتان"، كما قال عروة [بن الورد] : (2) عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو، وَلا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ (3) فأنث"قريبة"، وذكّر"بعيدًا"، على ما وصفت. ولو كان"القريب"، من"القرابة" في النسب، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثًا، ومع الجميع إلا مجموعًا. (4)   (1) في المطبوعة: "إذا رفعت أخبارًا"، لم يحسن قراءة المخطوطة. (2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، والصواب أنه"عروة بن حزام"، كما سترى في التخريج، وكأنه سهو من الناسخ وزيادة منه، فإن هذا كله تابع فيه أبو جعفر، الفراء في معاني القرآن، والفراء لم يذكر سوى"عروة"، فزاد الناسخ سهوًا"بن الورد". (3) معاني القرآن للفراء 1: 381، على ما ذكره أبو جعفر، وهو نقله عنه. والبيت في ديوان عروة بن حزام، وفي تزيين الأسواق 1: 84، والبكري في شرح الأمالي: 401، من شعر له صواب إنشاده على الباء: عَشِيَّة لا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدَةٌ ... فَتَسْلُو، وَلا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبُ وَإنِّي لَتَغْشَانِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... لَهَا بَيْنَ جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبيبُ (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 381، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 216، 217.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 488 وكان بعض نحويي البصرة يقول: ذكَّر"قريب" وهو صفة لـ"الرحمة"، وذلك كقول العرب:"ريح خريق"، (1) و"ملحفَة جديد"، (2) و"شاة سديس". (3) قال: وإن شئت قلت: تفسير"الرحمة" هاهنا، المطر ونحوه، فلذلك ذكَّر، كما قال: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا) ، [سورة الأعراف: 87] ، فذكَّر، لأنه أراد الناس. وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث، كقول الشاعر: (4) وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا (5) * * * وقد أنكر ذلك من قِيله بعضُ أهل العربية، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكِّر"قريبًا"، توجيهًا منه للرحمة إلى معنى المطر، أن يقول:"هند قام"، توجيهًا منه لـ"هند" وهي امرأة، إلى معنى:"إنسان"، ورأى أن ما شبَّه به قوله:"إن رحمة الله قريب من المحسنين"، بقوله:"وإن كان طائفة منكم آمنوا"، غير مُشْبِهِه. وذلك أن"الطائفة" فيما زعم مصدر، بمعنى"الطيف"، كما"الصيحة" و"الصياح"، بمعنًى، ولذلك قيل: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) ، [سورة هود: 67] . * * *   (1) "ريح خريق": شديدة، وقيل: لينة سهلة. ضد. (2) في المطبوعة: "وساحفة حديد"، وفي المخطوطة: "وماحقه جديد"، غير منقوطة والصواب ما أثبت، وهو المثل الذي ضرب في هذا الباب. قال ابن سيده: "ملحفة جديد، وجديدة"، وقال سيبويه: وقد قالوا ملحفة جديدة، وهو قليلة. (3) "شاة سديس": أتت عليها السنة السادسة. (4) عامر بن جوين الطائي. (5) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 1: 432، ونسيت أن أذكر هناك أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير، ثم في 18: 118 (بولاق) ، وصدر البيت: فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 489 القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته. (1) * * * و"النشر" بفتح"النون" وسكون"الشين"، في كلام العرب، من الرياح، الطيبة اللينة الهبوب، التي تنشئ السحاب. وكذلك كل ريح طيبة عندهم فهي"نشر"، ومنه قول امرئ القيس: كَأَنَّ المُدَامَ وَصَوْبَ الغَمَامِ ... وَرِيحَ الخُزَامَى وَنَشْرَ القُطُرْ (2) * * * وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين، خلا عاصم بن أبي النجود، فإنه كان يقرؤه:"بشرًا" على اختلاف عنه فيه. * * *   (1) القراءة التي أثبتها أبو جعفر في تفسير الآية"نشرا"، ولكني أثبت في الآية قراءتنا في مصحفنا، وسأثبتها في سائر المواضع بقراءة أبي جعفر بالنون. (2) ديوانه: 79، واللسان (نشر) من قصيدة له طويلة، وهذا البيت في ذكر"هو" صاحبته وهذا البيت في صفة رائحة ثغرها عند الصباح، حين تتغير أفواه الناس، يقول بعده: يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أَنْيَابِهَا ... إذَا طَرَّبَ الطَّائِر المُسْتَحِرْ و"القطر" (بضمتين) : هو العود الذي يتبخر به. و"صوب الغمام"، وقعه حيث يقع. و"يعل" يسقى بالمدام مرة بعد مرة. و"الطائر المستحر"، الديك إذا صوت عند السحر. يصفها بطيب رائحة فمها، حين تتغير الأفواه بعد النوم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 490 فروى ذلك بعضهم عنه: (بُشْرًا) ، بالباء وضمها، وسكون الشين. وبعضهم، بالباء وضمها وضم الشين. وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) [سورة الروم: 46] ، تبشر بالمطر، وأنه جمع"بشير" يبشر بالمطر، جُمِع"بُشُرًا"، كما يجمع"النذير""نُذُرًا". (1) * * * وأما قرأة المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرؤوا ذلك: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِل الرِّيَاحَ نُشُرَا) ، بضم"النون"، و"الشين" بمعنى جمع"نَشور" جمع"نشرًا"، كما يجمع"الصبور""صُبُرًا"، و"الشكور""شُكُرًا". * * * وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معناها إذا قرئت كذلك: أنها الريح التي تهبّ من كل ناحية، وتجيء من كل وجه. (2) * * * وكان بعضهم يقول: إذا قرئت بضم النون، فينبغي أن تسكن شينها، لأن ذلك لغة بمعنى"النَّشْر" بالفتح. وقال: العرب تضم النون من"النُّشْر" أحيانًا، وتفتح أحيانًا بمعنى واحد. قال: فاختلاف القرأة في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه. وكان يقول: هو نظير"الخَسْف"،"والخُسْف"، بفتح الخاء وضمها. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأ ذلك: (نَشْرًا) و (نُشُرًا) ، بفتح"النون" وسكون"الشين"، وبضم"النون" و"الشين" قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار.   (1) في المطبوعة: "وأنه جمع بشير بشرًا، كما يجمع النذير نذرًا"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 217. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 491 .. ... .... ...... ..... ..... ...... ...... ...... ..... ..... ... ... ...... ..... ..... ... ... (1) . فلا أحب القراءة بها، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإعراب، لما ذكرنا من العلة. * * * وأما قوله:"بين يدي رحمته"، فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها. * * * والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه:"جاء بين يديه"، لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله فيهم، حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يَدَ له. (2) * * * و"الرحمة" التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع، المطر. * * * فمعنى الكلام إذًا: والله الذي يرسل الرياح ليّنًا هبوبها، طيبًا نسيمها، أمام غيْثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابًا ثقالا حتى إذا أقلتها = و"الإقلال" بها، حملها، كما يقال:"استقلّ البعير بحمله"، و"أقله"، إذا حمله فقام به = ساقه الله لإحياء بلد ميت، قد تعفَّت مزارعه، ودَرَست مشاربه، وأجدب أهلُه، (3) فأنزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14782 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) في موضع هذه النقط سقط لا شك فيه، ذكر فيه العلة التي سيشير إليها بعد. ولم أستطع أن أجد نقلا عن أبي جعفر يهدي إلى ما يسد هذا الخرم. (2) انظر تفسير: " بين يديه " فيما سلف 6: 160، 438. (3) انظر تفسير"ميت" و"موت الأرض" فيما سلف 3: 274/ 5: 446. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 492 حدثنا أسباط، عن السدي:"وهو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته" إلى قوله:"لعلكم تذكرون"، قال: إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين، طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان، فيخرجه من ثَمَّ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء، فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما"رحمته"، فهو المطر. * * * وأما قوله:"كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون"، فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقُحُوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم ودروس آثارهم ="لعلكم تذكرون"، يقول تعالى ذكرُه للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربتُ لكم، أيها القوم، هذا المثل الذي ذكرت لكم: من إحياء البلد الميت بقَطْر المطر الذي يأتي به السحاب الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن مَنْ كان ذلك من قدرته، فيسيرٌ في قدرته إحياء الموتى بعد فنائها، وإعادتها خلقًا سويًّا بعد دُرُوسها. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14783 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون"، وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء. * * * 14784 - وقال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى، أمطر   (1) انظر تفسير"التذكر" فيما سلف ص: 299، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 493 عليهم من ماء تحت العرش يُدعى"ماء الحيوان" أربعين سنة، فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. حتى إذا استكملت أجسادهم، نفخ فيهم الروح، ثم تُلْقى عليهم نَوْمة، فينامون في قبورهم. فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا، وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم، كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) ، فناداهم المنادي: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [سورة يس: 52] . (1) * * * 14785 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"كذلك نخرج الموتى"، قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح، فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض. * * *   (1) الأثر: 14784 - هذا الخبر عن أبي هريرة، رواه بغير إسناد، وكنت أظنه من رواية السدي في الأثر السالف، ولكني شككت في ذلك، فآثرت أن أضع له رقمًا مستقلا. وأيا ما كان، فإني لم أجد نص هذا الخبر في شيء من مراجعي. وحديث أبي هريرة في البعث، رواه مسلم في صحيحه 18: 91، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة: أربعون يومًا؟ قال: أَبَيْتُ. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيتُ. قالوا: أربعون سنة؟ قال أبيتُ، ثم ينزل الله من السماء ماءً فيَنْبُتُون كما يَنْبُتُ البَقْل. وَليس من الإنسانِ شيء إلا يَبْلَى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عَجْبُ الذنب، ومنه يُرَكَّبُ الخلقُ يوم القيامة". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 494 القول في تأويل قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا، بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. والذي خَبُث فردؤت تربته، وملحت مشاربه، لا يخرج نباته إلا نكدًا = = يقول: إلا عَسِرًا في شدة، كما قال الشاعر: (1) لا تُنْجِزُ الوعْدَ، إِنْ وَعَدْتَ، وإن ... أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تَافِهًا نَكِدَا (2) يعني بـ"التافه"، القليل، وبـ"النكد" العسر. يقال منه:"نكِد يَنْكَد نكَدًا، ونَكْدًا = فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ"، والنُّكْد، المصدر. ومن أمثالهم:"نَكْدًا وجحدًا"،"ونُكدًا وجُحْدا". و"الجحد"، الشدة والضيق. ويقال:"إذا شُفِه وسئل: (3) قد نَكَدوه ينكَدُونه نَكْدًا"، كما قال الشاعر: (4) وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا ... لا خَيْرَ فِي المَنْكُودِ والنَّاكِدِ (5) * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعض أهل المدينة: (إلا نَكَدًا) ، بفتح الكاف. * * *   (1) م أعرف قائله. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 217 ولسان العرب (تفه) . (3) "شفه الرجل" (بالبناء للمجهول) ، إذا كثر سؤال الناس إياه فأعطى حتى نفد ما عنده فأفنى ماله."فهو مشفوه" ومثله"منكود، ومثمود، ومعروك، ومعجوز، ومصفوف، ومكثور عليه". ويقال: "ماء مشفوه"، كثير الشاربة، وكذلك الماء والطعام. (4) م أعرف قائله. (5) اللسان (نكد) ، وقد ذكرت البيت آنفًا 1: 442، تعليق: 1 الجزء: 12 ¦ الصفحة: 495 وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف: (نَكْدًا) . * * * وخالفهما بعد سائر القرأة في الأمصار، فقرؤوه: (إلا نَكِدًا) ، بكسر الكاف. * * * كأن من قرأه:"نكَدًا" بنصب الكاف أراد المصدر. وكأنّ من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها، فسكنها على لغة من قال:"هذه فِخْذ وكِبْد"، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر"النون" من"نكد" حتى يكون قد أصاب القياس. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءةُ من قرأهُ: (نَكِدًا) ، بفتح"النون" وكسر"الكاف"، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه. * * * وقوله:"كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون"، يقول: كذلك: نُبين آية بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلا بعد مثل، (1) لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية، وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرَهم باتباعه، وتجنُّبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضرَبه الله للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، مثل للمؤمن = والذي خَبُث فلا يخرج نباته إلا نكدًا، مثلٌ للكافر. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14786 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والبلد الطيب يخرج نباته   (1) انظر تفسير"التصريف" فيما سلف 3: 275، 276/ 11: 356، 433/ 12: 25 = وتفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 496 بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا"، فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثلَ الكافر كالبلدة السَّبِخة المالحة التي يخرج منها النز (1) فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث. 14787 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والبلد الطيب"، و"الذي خبث" قال: كل ذلك من الأرض السِّباخ وغيرها، مثل آدم وذريته، فيهم طيب وخبيث. 14788 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 14789 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا"، قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن. 14790 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد = يعني ابن المفضل = قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث"، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا = و"النكد"، الشيء القليل الذي لا ينفع. فكذلك القلوب لما نزل القرآن، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع، كما لم يُخْرِج هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات.   (1) في المطبوعة: "التي تخرج منها البركة"، زاد"لا"، وليست في المخطوطة اتباعًا لما في الدر 3: 93. وفي المخطوطة مثلها أنه كتب"النزله" غير المنقوطة. وهو غير مفهوم إذا قرئ: "تخرج منها البركة". وصفة الأرض"السبخة" أنها أرض ذات ملح ونز، وهو الماء تتحلب عنه الأرض، فيصير مناقع. ومن أجل ذلك صار راجحًا عندي أن ما أثبته هو الصواب، وأن ما في المخطوطة من فعل الناسخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 497 14791 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد:"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا"، قال: الطيب ينفعه المطر فينبت،"والذي خبث" السباخُ، لا ينفعه المطر، لا يخرج نباته إلا نكدًا. قال: هذا مثل ضربه الله لآدم وذريته كلهم، إنما خلقوا من نفس واحدة، فمنهم من آمن بالله وكتابه، فطابَ. ومنهم من كفر بالله وكتابه، فخَبُث. * * * القول في تأويل قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) } قال أبو جعفر: أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية: أنه أرسل نوحًا إلى قومه، منذرَهم بأسَه، ومخوِّفَهم سَخَطه، على عبادتهم غيره، فقال لمن كفر منهم: يا قوم، اعبدوا الله الذي له العبادة، وذِلُّوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنه ليس لكم معبودٌ يستوجب عليكم العبادةَ غيرُه، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك"عذابَ يوم عظيم"، يعني: عذابَ يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربِّكم. * * * وقد اختلفت القَرَأة في قراءة قوله:"غيره". فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِهِ) ، بخفض"غير" على النعت لـ"إله". * * * وقرأه جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه) ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 498 برفع"غير"، ردًّا لها على موضع"من"، لأن موضعها رفع، لو نزعت من الكلام لكان الكلام رفعًا، وقيل:"ما لكم إله غيرُ الله". (1) فالعرب [لما وصفت من أن المعلوم بالكلام] (2) أدخلت "من" فيه أو أخرجت، وأنها تدخلها أحيانًا في مثل هذا من الكلام، وتخرجها منه أحيانًا، تردّ ما نعتت به الاسم الذي عملت فيه على لفظه، فإذا خفضت، فعلى كلام واحد، لأنها نعت لـ"الإله". وأما إذا رفعت، فعلى كلامين:"ما لكم غيره من إله"، وهذا قول يستضعفه أهل العربية. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن جواب مشركي قوم نوح لنوح، وهم"الملأ" = و"الملأ"، الجماعة من الرجال، لا امرأة فيهم (3) = أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له:"إنا لنراك"، يا نوح ="في ضلال مبين"، (4) يعنون في أمر زائل عن الحق، مبين زوالهُ عن قصد الحقّ لمن تأمله. (5) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 382، 383. (2) هكذا جاءت العبارة في المطبوعة والمخطوطة، وفي الكلام سقط لا شك فيه، لم أستطع أن أرده إلى أصله، ولذلك وضعت هذه العبارة بين القوسين. والظاهر أن السقط طويل، لأن أبا جعفر خالف هنا في هذا السياق ما درج عليه من ذكر أولي القراءتين بالصواب عنده. (3) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف 5: 291، وقد فسره هناك بما فسرته كتب اللغة، أنهم وجوه القوم ورؤساؤهم وأشرافهم. وأما التفسير الذي هنا، فلم يرد فيها، وهو شيء ينبغي أن يقيد. وهذا نص الفراء في معاني القرآن 1: 383. (4) انظر تفسير"الضلال" و"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) و (بين) . (5) في المطبوعة: "عن قصد الحد"، وهو لا معنى له، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة، وهذا صواب قراءتها. وانظر تفسير الآية التالية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 499 القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه مجيبًا لهم: يا قوم، لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالطاعة دون الأنداد والآلهة، زوالا مني عن محجة الحقّ، وضلالا لسبيل الصواب، وما بي ما تظنون من الضلال، ولكنّي رسول إليكم من رب العالمين بما أمرتكم به: من إفراده بالطاعة، والإقرار له بالوحدانية، والبراءة من الأنداد والآلهة. * * * القول في تأويل قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذبوه:"ولكني رسول من رب العالمين"، أرسلني إليكم، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم في تحذيري إياكم عقابَ الله على كفركم به، وتكذيبكم إياي، وردّكم نصيحتي ="وأعلم من الله ما لا تعلمون"، من أن عقابه لا يردُّ عن القوم المجرمين. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 500 القول في تأويل قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) } قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله عز ذكره عن قِيل نوح لقومه أنه قال لهم، إذ ردُّوا عليه النصيحة في الله، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيًّا، وقالوا له: (مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) ، [سورة هود: 27] =:"أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم"، يقول: أوعجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعِظة، يذكركم بما أنزل ربكم ="على رجل منكم"، قيل: معنى قوله:"على رجل منكم"، مع رجل منكم (1) =" لينذركم"، يقول: لينذركم بأس الله ويخوِّفكم عقابه على كفركم به (2) ="ولتتقوا"، يقول: وكي تتقوا عقابَ الله وبأسه، بتوحيده وإخلاص الإيمان به، والعمل بطاعته ="ولعلكم ترحمون"، يقول: وليرحمكم ربكم إن اتقيتم الله، وخفتموه وحَذِرتم بأسه. * * * وفتحت"الواو" من قوله:"أو عجبتم"، لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف استفهام. (3) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 383. (2) انظر تفسير"الإنذار" فيما سلف من فهارس اللغة (نذر) . (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 383. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 501 القول في تأويل قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه إذ أخبرهم أنه لله رسولٌ إليهم، يأمرهم بخلع الأنداد، والإقرار بوحدانية الله، والعمل بطاعته، وخالفوا أمر ربهم، ولجُّوا في طغيانهم يعمهون، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به، وكانوا بنوح عليه السلام أنفسًا عشرة، (1) فيما:- 14792 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: نوح، وبنوه الثلاثة سامٌ وحام ويافث، وأزواجهم، وستة أناسيّ ممن كان آمن به. * * * وكان حمل معه في الفلك من كل زوجين اثنين، كما قال تبارك وتعالى: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) [سورة هود: 40] . * * * و"الفلك"، هو السفينة. * * * "وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا"، يقول: وأغرق الله الذين كذبوا بحججه، ولم يتبعوا رسله، ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان. ="إنهم كانوا قومًا عمين"، يقول: عمين عن الحق، كما:- 14793 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"عمين"، قال: عن الحق.   (1) في المخطوطة ما أثبت، ولكن ناشر المطبوعة اجتهد فكتب"وكانوا بنوح عليه السلام ثلاث عشرة"، وهو تصرف معيب، فإن خبر ابن إسحاق هذا سيأتي في تفسير"سورة هود" 12: 26 (بولاق) ، وفيه: "فكانوا عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم"، فنوح وبنوه أربعة، وستة أناسي، فهذه عشرة. أما الأزواج فإنه لم يدخلهن في العدة كما ترى، وإنما عنى عدد الرجال دون النساء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 502 14794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قوما عمين"، قال: العَمَى، العامي عن الحق. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا = ولذلك نصب"هودًا"، لأنه معطوف به على"نوح" عليهما السلام = قال هود: يا قوم، اعبدوا الله فأفردوا له العبادة، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، فإنه ليس لكم إله غيره ="أفلا تتقون"، ربكم فتحذرونه، وتخافون عقابه بعبادتكم غيره، وهو خالقكم ورازقكم دون كل ما سواه. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عما أجاب هودًا به قومُه الذين كفروا بالله:"قال الملأ الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة الله إليهم (2) ="إنا لنراك"، يا هود"في سفاهة"، يعنون: في ضلالة عن الحق والصواب   (1) انظر تفسير"العمى" فيما سلف 11: 372، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير الملأ" فيما سلف قريبًا ص: 499، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 503 بتركك ديننا وعبادة آلهتنا (1) ="وإنا لنظنك من الكاذبين"، في قيلك:"إنّي رسول من رب العالمين" = قال:"يا قوم ليس بي سفاهة"، يقول: أي ضلالة عن الحق والصواب ="ولكني رسول من رب العالمين"، أرسلني، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأؤدّيها إليكم كما أمرني أن أؤدِّيَها. * * *   (1) انظر تفسير"السفاهة" فيما سلف ص: 153، تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 504 القول في تأويل قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) } قال أبو جعفر: يعني بقوله:"أبلغكم رسالات ربّي"، أؤدي ذلك إليكم، أيها القوم (1) ="وأنا لكم ناصح"، يقول: وأنا لكم في أمري إياكم بعبادة الله دون ما سواه من الأنداد والآلهة، ودعائكم إلى تصديقي فيما جئتكم به من عند الله، ناصحٌ، فاقبلوا نصيحتي، فإني أمين على وحي الله، وعلى ما ائتمنني الله عليه من الرسالة، لا أكذب فيه ولا أزيد ولا أبدِّل، بل أبلغ ما أمرت كما أمرت ="أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم"، يقول: أوعجبتم أن أنزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم لينذركم بأس الله ويخوّفكم عقابه (2) = "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم   (1) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف 10: 575/ 11: 9. (2) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبًا: ص501. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 504 نوح"، يقول: فاتقوا الله في أنفسكم، واذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب إذ عصوا رسولهم، وكفروا بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لمّا أهلكهم أبدلكم منهم فيها، (1) فاتقوا الله أن يحلّ بكم نظير ما حل بهم من العقوبة، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنَّته في قوم نوح قبلكم، على معصيتكم إياه وكفركم به ="وزادكم في الخلق بسطة"، زاد في أجسامكم طولا وعِظَمًا على أجسام قوم نوح، (2) وفي قواكم على قواهم، (3) نعمة منه بذلك عليكم، فاذكروا نعمه وفضله الذي فضلكم به عليهم في أجسامكم وقُوَاكم، (4) واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأنداد ="لعلكم تفلحون"، يقول: كي تفلحوا فتدركوا الخلود والبقاء في النعم في الآخرة، وتنجحوا في طلباتكم عنده. (5) * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله:" واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14795 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح"، يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم. 14796 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح"، أي: ساكني الأرض بعد قوم نوح. * * *   (1) انظر تفسير"خليفة" فيما سلف 1: 449/ 12: 288. (2) انظر تفسير"البسطة" فيما سلف 5: 313. (3) في المطبوعة: "وفي قوامكم على قوامهم"، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة. (4) في المطبوعة أيضًا: "وقوامكم"، صوابه من المخطوطة. (5) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ص: 312، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 505 وبنحو الذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله:"بسطة". * ذكر من قال ذلك: 14797 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وزادكم في الخلق بسطة"، قال: ما لقوّةِ قوم عاد. (1) * * * وأما"الآلاء"، فإنها جمع، واحدها:"إلًى" بكسر"الألف" في تقدير"مِعًى"، ويقال:"ألَى" في تقدير"قَفَا" بفتح"الألف". وقد حكي سماعًا من العرب:"إلْي" مثل"حِسْي". و"الآلاء"، النعم. * * * وكذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14798 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فاذكروا آلاء الله"، أي: نعم الله. 14799 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"آلاء الله"، فنعم الله. 14800 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فاذكروا آلاء الله"، قال: آلاؤه، نعمه. * * * قال أبو جعفر: و"عاد"، هؤلاء القوم الذين وصف الله صفتهم، وبعث إليهم هودًا يدعوهم إلى توحيد الله، واتّباع ما أتاهم به من عنده، هم، فيما:- 14801 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. * * *   (1) في المطبوعة: "ما لقوام قوم عاد"، والصواب ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 506 وكانت مساكنهم الشِّحْر، من أرض اليمن وما وَالى بلاد حضرموت إلى عُمَان، كما: 14802 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف. 14803 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبًا أحمر تخالطه مَدَرَةٌ حمراء، (1) ذا أرَاك وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، (2) هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه! قال: لا ولكني قد حُدِّثت عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود صلوات الله عليه. (3) 14804 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودًا، الأحقاف. قال: و"الأحقاف"، الرملُ، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن كله. (4) وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلِّها، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثانٍ يعبدونها من دون الله: صنم يقال له"صُداء"، وصنم يقال له"صَمُود"، وصنم   (1) "المدرة"، الطين العلك الذي لا رمل فيه. (2) "الأراك" و"السدر" نبتان. (3) الأثر: 14803-"محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي"، ترجم له البخاري في الكبير 1/ 1/ 135، وساق الخبر، بنحوه، مطولا، ولم يذكر فيه جرحًا. وابن أبي حاتم 3/ 2/ 297. "أبو الطفيل"، "عامر بن واثلة الكناني"، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شاب، ثبتت رؤيته رسول الله، ولم يثبت سماعه منه. قالوا: كان آخر من مات من الصحابة سنة مئة، أو ما بعدها. (4) في المطبوعة: "باليمن"، وأسقط"كله"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 507 يقال له"الهباء". فبعث الله إليهم هودًا، وهو من أوْسطهم نسبًا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحِّدوا الله ولا يجعلوا معه إلهًا غيره، وأن يكفُّوا عن ظلم الناس. ولم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك. فأبوا عليه وكذبوه. وقالوا:"من أشدّ منا قوة! ". واتبعه منهم ناسٌ، وهم يسيرٌ مكتتمون بإيمانهم. (1) وكان ممن آمن به وصدّقه رجلٌ من عاد يقال له:"مرثد بن سعد بن عفير"، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيَّهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبَّروا وبنوا بكل رِيع آية عبَثًا بغير نفع، كلمهم هود فقال: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [سورة الشعراء: 128-131] ، (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب = (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) ، إلى قوله: (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة هود: 53-56] . فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر من السَّماء ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جَهْد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طَلِبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثيرٌ شتى مختلفةٌ أديانُهم، وكلهم معظّم لمكة، يعرف حُرْمتها ومكانَها من الله. = قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفًا مكانه، (2) والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق = وإنما سموا"العماليق"، لأن   (1) في المطبوعة: "يكتمون إيمانهم"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: "وكان البيت في زمان معروفًا مكانه"، غير مستقيم، والذي في المطبوعة أقوم على السياق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 508 أباهم:"عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح" = وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكان أبوه حيًّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه. وكان السؤدد والشرف من العماليق، فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت. وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخيبري، رجلٍ من عادٍ، فلما قَحَطَ المطر عن عاد وجُهِدوا، (1) قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا قيل بن عنز (2) ولقيم بن هزّال بن هزيل، (3) وعتيل بن صُدّ بن عاد الأكبر. (4) ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، وجُلْهُمَة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر أخو أمه. ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدّة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وصِهْرَه. (5) = فلما نزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنِّيهم الجرادَتان = قينتان لمعاوية بن بكر. وكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شهرًا. فلما رأى معاوية بن بكر طُول مقامهم، وقد بعثهم قومُهم يتعوَّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، (6) شقَّ ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون   (1) "قحط المطر" (بفتحتين) و"قحط" (بالبناء للمجهول) : احتبس. و"القحطة" احتباس المطر، ولما كان احتباس المطر معقبًا للجدب، سمو الجدب قحطًا. (2) في المطبوعة"بن عنز"، وفي المخطوطة: "عتر"، وفي التاريخ"عثر" وسيأتي بعد في التاريخ"عنز". (3) في المطبوعة: "من هذيل"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري. (4) في المطبوعة: "وعقيل بن صد"، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا لما في التاريخ، وإن الذي في التاريخ هكذا: "وليقيم بن هزال بن هزيل بن عتيل بن ضد ... " و"ضد" بالضاد في التاريخ، وأظن الصاد أصح. (5) في المطبوعة: "وأصهاره"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ. (6) "يتغوثون" في المطبوعة والتاريخ، وفي المخطوطة: "يتعوذون"، غير منقوطة، وهي صحيحة، فأثبتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 509 عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له، (1) فيظنوا أنه ضِيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك مَنْ وراءهم من قومهم جَهْدًا وعَطَشا!! أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرًا نُغنِّيهم به، لا يدرون مَنْ قاله، لعل ذلك أن يحرِّكهم! فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك: أَلا يَا قَيْلَ، ويْحَكَ! قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا (2) فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا ... قَدَ امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلامَا مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ، فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلا الغُلامَا وَقدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ ... فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ عَيَامَى (3) وَإنَّ الْوَحْشَ تَأتِيهِمْ جِهَارًا ... وَلا تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا وَأنْتُمْ هَا هُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ ... نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ ... وَلا لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلامَا فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنَّتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومُكم يتعوَّذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، (4) وقد أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرمَ واستسقوا لقومكم!   (1) في المطبوعة: "إن أمرتهم بالخروج" وفي المخطوطة: "إن آمرهم بالخروج"، فصح أنه قد سقط من الكلام ما أثبته من التاريخ. (2) الأبيات في التاريخ، وفي البداية والنهاية 1: 126. وفي التاريخ"يسقينا الغماما"، وكذلك كانت في المطبوعة، وأثبت ما في المخطوطة، وفي البداية والنهاية: "يمنحنا". (3) في المخطوطة: "نساؤهم عراما"، والصواب ما في التاريخ والمطبوعة، "أعام القوم" هلكت إبلهم فلم يجدوا لبنًا. و"العيمة" شدة شهوة اللبن. و"عام القوم" قلَّ لبنهم من القحط."رجل عمان، وامرأة عيمى"، والجمع"عيام" و"عيامى". وفي البداية والنهاية"نساؤهم أيامى"، جمع"أيم"، التي هلك زوجها. (4) في المخطوطة: "سعودون" غير منقوطة، وفي التاريخ والمطبوعة: "يتغوثون"، وانظر التعليق السالف ص: 509، رقم: 6. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 510 فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تُسْقَون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيَّكم، وأنبتم إليه، سُقِيتم! فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جُلْهُمة بن الخيبريّ، خال معاوية بن بكر، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع دين هودٍ وآمن به: أَبَا سَعْدٍ فَإِنَّكَ مِنْ قَبِيلٍ ... ذَوِي كَرَمٍ وَأُمُّكَ مِنْ ثَمُودِ (1) فَإنَّا لَنْ نُطِيعَكَ مَا بقِينَا ... وَلَسْنَا فَاعِلِينَ لِمَا تُرِيدُ (2) أَتَأْمُرنَا لِنَتْرُكَ دِينَ رِفْدٍ ... وَرَمْلَ وَآلَ صُدَّ والعُبُودِ (3) وَنَتْرُكَ دِينَ آباءٍ كِرَامٍ ... ذَوِي رَأيٍ وَنَتْبَعَ دِينَ هُودِ ثم قالوا لمعاوية بن أبي بكر وأبيه بكرٍ: احبسَا عَنَّا مرثد بن سعد، فلا يقدمنَّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك دينَنَا! ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد. فلما ولَّوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها، قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. (4) فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله بمكة، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعُون، يقول:"اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفدُ عاد"! وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد. وقال وفد عاد:"اللهمّ أعطِ قَيْلا ما سألك، واجعل سؤلَنا مع سُؤله"! وكان قد   (1) الأبيات في تاريخ الطبري 1: 112. (2) في المطبوعة: "لا نطيعك"، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا لما في التاريخ. (3) في المخطوطة: "أتأمرنا بالسرك"، غير منقوطة، وفوقها حرف (ط) دلالة على الشك والخطأ، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا لما في التاريخ. وفي المطبوعة: "دين وفد، ورمل والصداء مع الصمود"، غير ما في المخطوطة تغييرًا تامًا. والذي أثبته من المخطوطة، مطابق لما في التاريخ. قال أبو جعفر في هذا الخبر، بعد هذه الأبيات في تاريخه: ((ورفد، ورمل، وضد، قبائل من عاد، والعبود منهم". (4) في المطبوعة: "فقال: لا أدعو الله بشيء مما خرجوا له"، زاد من عنده ما لا يحل له. وفي المخطوطة: "فقال أن يدعو الله بشيء مما خرجوا له"، والصواب من تاريخ الطبري. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 511 تخلّف عن وفد عاد حين دعا، لقمانُ بن عاد، وكان سيِّد عادٍ. حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال:"اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي"! وقال قيل بن عنز حين دعا:"يا إلهنا، إن كان هود صادقًا فاسقِنا، فإنّا قد هلكنا"! فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثًا: بيضاء، وَحمراء، وسوداء. ثم ناداه منادٍ من السحاب:"يا قيل، اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب". فقال:"اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماءً"! فناداه منادٍ:"اخترت رَمَادًا، رِمْدِدًا، (1) لا تُبقي مِن آل عاد أحدًا، (2) لا والدًا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته هَمِدًا، (3) إلا بني اللُّوذِيّة المُهَدَّى" = و"بنو اللوذية"، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر، (4) وكانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عادٌ الآخِرة، ومن كان من نسلهم الذين بقُوا من عاد. = وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قَيْل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من وادٍ يقال له:"المغيث". فلما رأوها استبشروا بها، وقالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ، يقول الله: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [سورة الأحقاف: 24-25] ، أي: كلّ شيء أُمِرَتْ به. وكان أوّل من أبصر ما فيها وعرف أنها رِيح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها"مَهْدَد".، فلما تيقنت ما فيها صاحت، (5) ثم صَعِقت. فلما أن أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُب النار، أمامها رجالٌ يقودُونها! فسخَّرها الله عليهم سبع   (1) "رماد رمدد"، متناه في الاحتراق والدقة. يقال: "رماد أرمد" و"رمدد" بكسر الراء وسكون الميم وكسر الدال و"رمدد" (بكسر الراء، وسكون الميم، وفتح الدال) . (2) في المطبوعة: "لا تبق"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (3) "هامد، وهمد، وهميد"، ميت هالك."همد، همودا"، مات وهلك. (4) في التاريخ: " ... هزال بن هزيل بن هزيلة بن بكر"، وكأنه الصواب. (5) في التاريخ"فلما تبينت"، وكأنها أرجح. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 512 ليال وثمانية أيام حسومًا، كما قال الله (1) = و"الحسوم"، الدائمة = فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك. فاعتزل هُود، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليهِ الجلود، وتَلتذُّ الأنفس، (2) وإنها لتمرُّ على عاد بالطَّعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكّة حتى مرُّوا بمعاوية بن بكر وأبيه، (3) فنزلوا عليه. فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمِرة مُسْيَ ثالثةٍ من مُصاب عادٍ، (4) فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودًا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر. فكأنهم شكُّوا فيما حدّثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: (5) صدَق وربِّ الكعبة! (6) 14805 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم، عن الحارث بن حسّان البكري قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بامرأة بالرّبَذَة، (7) فقالت: هل أنت حاملي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم! فحملتها حتى قدِمت المدينة، فدخلتُ المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وإذا بلالٌ متقلِّدَ السيف، وإذا رايات سُودٌ. قال قلت: ما هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم من غزوته. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على منبره، أتيته فاستأذنتُ، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، إن بالباب امرأة من بني تميم، وقد سألتني أن أحملها إليك. قال:   (1) سورة الحاقة: 7. (2) في المطبوعة: "وتلتذ به"، زاد ما ليس في المخطوطة ولا التاريخ. (3) في المخطوطة والمطبوعة: "وابنه"، والصواب من التاريخ، ومن أول الخبر. (4) "المسي" (بضم فسكون) ، المساء، كالصبح والصباح. وفي المطبوعة والتاريخ: "مساء ثالثة"، وأثبت ما في المخطوطة. (5) في المطبوعة: "هذيلة"، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (6) الأثر: 14804- هذا الخبر رواه الطبري في تاريخه، مختصرًا في أوله، مطولا بعد هذا في آخره 1: 111- 113. (7) في المطبوعة: "على امرأة"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 513 يا بلال، ائذن لها. قال: فدخلتْ، فلما جلست قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت الدَّبَرَة عليهم (1) = فإن رأيت أن تجعل الدَّهنا بيننا وبينهم حاجزًا فعلت! قال: تقول المرأة: فأين تضطرُّ مُضَرَك، يا رسول الله؟ (2) قال قلت: مَثَلي مَثَلُ مِعْزى حملت حَتْفًا! (3) قال قلت: وحملتُك تكونين عليَّ خَصْمًا! أعوذ بالله أن أكون كوافدِ عاد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما وافدُ عادٍ؟ قال قلت: على الخبير سقطتَ! إنّ عادًا قَحَطت فبعثت مَنْ يستسقي لها، فبعثُوا رجالا فمرُّوا على بكر بن معاوية، فسقاهم الخمر وتغنَّتهم الجرادتان شهرًا، ثم بعث من عنده رجلا حتى أتى جبالَ مَهْرة، (4) فدعَوْا، فجاءت سحابات. قال: وكلما جاءت سحابة قال: اذهبي إلى كذا، حتى جاءت سحابة، فنودي منها (5) "خذها رَمادًا رِمددًا * لا تدعُ من عادٍ أحدًا". قال: فسمعه وكتمهم حتى جاءهم العذاب (6) = قال أبو كريب: قال أبو بكر بعد ذلك في حديث عادٍ، قال: فأقبل الذين أتاهم، فأتى جبال مهرة، (7) فصعد فقال: اللهم إنّي لم أجئك لأسير فأفاديه، ولا لمريض فأشفيه، فأسْقِ عادًا ما كنت مُسْقِيه! قال: فرفعت له سحاباتٌ، قال: فنودي منها: اخْتَر! قال: فجعل يقول: اذهبي إلى بني فلان، اذهبي إلى بني فلان. قال: فمرَّت آخرَها سحابةٌ سوداء، فقال: اذهبي إلى عاد! فنودي منها:"خُذْها رمادًا رِمْددًا، لا تدع من عاد أحدًا". قال: وكتمهم، (8) والقوم عند بكر بن معاوية، يشربون. قال: وكره بكر بن معاوية أن يقولَ لهم، من أجل أنهم عنده، وأنهم في طعامه. قال: فأخذَ في الغناء وذكَّرهم. (9) 14806 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا سلام أبو المنذر النحوي قال، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري قال: خرجت لأشكوَ العلاء بن الحضرميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربَذَة، فإذا عجوزٌ منقَطعٌ بها، (10) من بني تميم، فقالت: يا عبد الله، إنّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فقدمت المدينة. قال: فإذا رايات، (11) قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا. (12) قال: فجلست حتى فرغ. قال: فدخل منزله = أو قال: رَحْله = فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فقعدت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان بينكم وبين   (1) في المطبوعة: "وكانت لنا الدائرة عليهم"، غير وزاد على ما في المخطوطة، وهو عبث بالنص، والصواب من المخطوطة."الدبرة" (بفتح الدال، وسكون الباء أو فتحها) : الهزيمة لهم، والدولة والظفر للآخرين. (2) في المطبوعة: "فإلى أين يضطر مضطرك يا رسول الله"، تصرف تصرفًا معيبًا مشينًا وأساء غاية الإساءة. والصواب ما في المخطوطة."مضر" هو جذم العرب وهو"مضر بن نزار بن معد بن عدنان"، ومنه تفرعت، قريش وبنو تميم، ولذلك قالت المرأة من تميم لرسول الله"مضرك"، لأنه جده وجدها. (3) في المطبوعة: "مثلي مثل ما قال الأول: معزى حملت حتفها"، زاد من غير هذه الرواية، وهي إساءة شديدة، وجعل: "حتفًا"، "حتفها"، فأثبت ما طابق روايته في التاريخ وقوله: "معزى حملت حتفًا"، أي حملت منيتها، مثل لمن يحمل ما فيه هلاكه. وهو غير موجود في كتب الأمثال. (4) "مهرة" (بفتح فسكون) ، حي عظيم، وهو أبو قبيلة: "مهرة بن حيدان بن عمرو ابن الحاف بن قضاعة"، وبلاد مهرة، في ناحية الشحر من اليمن، ببلاد العنبر على ساحل البحر. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ثم فصلوا من عنده حتى أتوا جبال مهرة"، وهذه جملة يختل بها سياق الخبر اختلالا شديدًا، وتختلف الضمائر، ولا يصبح للخبر رباط يمسكه، وكأنه عبث من الناسخ، فإن أبا جعفر روى هذا الخبر في التاريخ بإسناده ولفظه، فأثبت منه نص الخبر، إذ هو الذي يستقيم به الكلام. (5) في المطبوعة حذف"منها"، لغير علة ظاهرة. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "فسمعهم وكلمهم"، والصواب من التاريخ. (7) في المطبوعة والمخطوطة: "الذين آتاهم"، والصواب من التاريخ. (8) في المطبوعة والمخطوطة: "وكلمهم"، والصواب من التاريخ. (9) الأثر: 14805 -"أبو بكر بن عياش"، ثقة، كان من العباد الحفاظ المتقنين، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فكان يهم إذا روى. والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، فمن كان لا يكثر ذلك منه، فلا يستحق ترك حديثه، بعد تقد عدالته- هكذا قال ابن حبان، وصدق. مضى برقم: 2150، 3000، 5725، 8098. و"عاصم"، هو"عاصم ابن بهدلة"، "عاصم بن أبي النجود"، ثقة جليل مشهور، مضى مرارًا كثيرة. وأما "الحارث بن حسان البكري"، فيقال فيه: "الحارث بن يزيد البكري"، ويقال اسمه: "حريث"، وصحح ابن عبد البر أنه اسمه"الحارث بن حسان"، فقال: "والأكثر يقولون الحارث بن حسان البكري، وهو الصحيح إن شاء الله"، ولكن العجيب أن الحافظ ابن حجر قال في التهذيب: "وصحح ابن عبد البر أن اسمه حريث"، فوهم وهمًا شديدًا، والذي نقلته نص ابن عبد البر في الاستيعاب!! فليصحح ما في التهذيب. و"الحارث بن حسان البكري"، مترجم في ابن سعد 6: 22، والكبير للبخاري 1/ 2/ 259، والاستيعاب: 109، وابن أبي حاتم 1/ 2/ 71، وأسد الغابة 1: 323، والإصابة في ترجمته، والتهذيب. روى عنه أبو وائل، وسماك بن حرب. وسيأتي خبر"الحارث البكري"، بإسناد آخر: "عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري". وأما هذا الإسناد"عاصم، عن الحارث بن حسان البكري"، ليس بينهما"أبو وائل"، فقد قال ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة"الحارث": "ورواه أحمد بن حنبل أيضًا، وسعيد الأموي، ويحيى الحماني، وعبد الحميد بن صال، وأبو بكر بن شيبة، كلهم: عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث، ولم يذكر أبا وائل". قال الحافظ ابن حجر في التهذيب في ترجمة"الحارث": "وروى عنه عاصم ابن بهدلة"، والصحيح: عنه، عن أبي وائل، عن الحارث". وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: "واختلف في حديثه: منهم من يجعله عن عاصم ابن بهدلة، عن الحارث بن حسان، لا يذكر فيه أبا وائل، والصحيح فيه: عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان". وكذا قال غيرهما. وهذا الخبر بهذا الإسناد، رواه أبو جعفر مرة أخرى في تاريخه 1: 110، وروى صدره أحمد في مسنده 3: 481، "عن أبي بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم بن أبي الفزر (؟؟) ، عن الحارث بن حسان البكري"، مختصرًا، وهو صدر الخبر. وأما ما جاء في مطبوعة المسند"عاصم بن أبي الفزر"، فأرجح أنه تحريف"عاصم بن أبي النجود"، فالحديث حديثه، ولم أعلم أنه يقال له: "عاصم بن أبي الفزر". ورواه من هذه الطريق نفسها مختصرًا، ابن ماجه في سننه ص: 941، رقم: 2816، بنحو لفظ أحمد. وسيأتي تخريج خبر"الحارث" هذا، في الأثر التالي. (10) "منقطع بها" (بضم الميم، وفتح القاف والطاء) . يقال: "قطع بالرجل، فهو مقطوع به"، و"انقطع به، فهو منقطع به" (كله بالبناء للمجهول) : إذا كان مسافرًا، فعطبت راحلته، وذهب زاده وماله، أو أتاه أمر لا يقدر معه على أن يتحرك. (11) عند هذا الموضع قال أبو جعفر، في روايته في التاريخ: "قال أبو جعفر: أظنه قال: فإذا رايات سود". (12) في المطبوعة: "عمرو بن العاص"، حذف الباء، وهي ثابتة في المخطوطة، وفي رواية الخبر في التاريخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 514 تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت لنا الدَّبَرة عليهم، (1) وقد مررت بالربذة، فإذا عجوز منهم مُنقطَعٌ بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت، فقلت: يا رسول الله، اجعل بيننا وبين تميم الدَّهنا حاجزًا، فحميت العجوزُ واستوفزت، (2) وقالت: فأين تضطرُّ مُضَرَك يا رسول الله؟ (3) قال، قلت: أنا كما قال الأول:"معزى حملت حَتْفًا"! (4) حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصمًا! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد! قال: وما وافدُ عادٍ؟ " قلت (5) على الخبير سقطتَ! قال: وهو يستطعمني الحديثَ. (6) قلت: إن عادًا قُحِطوا فبعثوا"قَيْلا" وافدًا، فنزل على بكرٍ، فسقاه الخمرَ شهرًا وتغنّيه جاريتان يقال لهما"الجرادتان"، (7) فخرج إلى جبال مهرة، فنادى:"إني لم أجئ لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، اللهم فأسقِ عادًا ما كانت تُسْقِيه"! (8) فمرت به سحابات سُودٌ، فنودي منها: (9) "خذها رمادًا رِمْدِدًا، لا تبقي من عادٍ أحدًا". قال: فكانت المرأة تقول:"لا تكن كوافد عادٍ"! فما بَلَغني أنَّه ما أرسل عليهم من الريح، يا رسول الله، إلا قَدْر ما يجري في خاتمي (10) = قال أبو وائل: فكذلك بلغني. (11) 14807 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، أنّ عادًا أتاهم هود، فوعظهم وذكّرهم بما قَصّ الله في القرآن، فكذبوه وكفَروا، وسألوه أن يأتيهم بالعذاب، فقال لهم: (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) [سورة الأحقاف: 23] . وإن عادًا أصابهم حين كفروا قُحُوطُ المطر، (12) حتى جُهِدوا لذلك جَهْدًا شديدًا. وذلك أن هودًا دَعَا عليهم، فبعث الله عليهم الريح العَقيم، وهي الريح التي لا تُلْقِح الشجرَ. فلما نظروا إليها قالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [سورة الأحقاف: 24] . فلما دنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطيرُ بهم الريحُ بين السماء والأرض. فلما رأوها تبادَروا إلى البيوت، (13) فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم   (1) في المطبوعة: "وكانت لنا الدارة عليهم"، وفي المخطوطة: "وكانت الدائرة عليهم"، غير منقوطة، وأثبت رواية أبي جعفر في التاريخ، ورواية أحمد في مسنده. انظر التعليق السالف ص: 514، تعليق: 1. (2) "حميت": غضبت، وأخذتها الحمية والأنفة والغيظ. و"استوفز الرجل في قعدته"، إذا قعد قعودًا منتصبًا غير مطمئن، ولم يستو قائمًا، كالمتهيئ للوثوب، وذلك عند الشر والخصام والجدال والمماحكة. (3) في المطبوعة: "فإلى أين يضطر مضطرك"، وهو تغير لما في المخطوطة وزيادة عما فيها، كما فعل فيما سلف ص: 514، تعليق: 2. (4) في المطبوعة: "حتفها"، وهي مطابقة لرواية أحمد في مسنده، ولكن ما أثبته هو ما جاء في المخطوطة والتاريخ، إلا أن في التاريخ: "حيفا"، خطأ، صوابه ما أثبت. انظر ما سلف ص: 514، تعليق: 3. (5) في المطبوعة والمخطوطة: "قال: على الخبير سقطت"، وأثبت ما في التاريخ. (6) "استطعمه الحديث"، أي أغراه أن يحدثه، كأنه يريد أن يذيقه طعم حديثه. يقال ذلك إذا استدرجه، وهو أعلم بالحديث منه، وجاء تفسيره في خبر أحمد في مسنده: "وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه". وشرح هذا اللفظ في كتب اللغة غير واف، فقيده هناك. (7) في المطبوعة: "وغنته جاريتان"، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التفسير ومسند أحمد. (8) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "اللهم أسق" وأثبت ما في المخطوطة. وبقية الجملة محولة من مكانها في المخطوطة، وذلك قوله: "ما كنت تسقيه"، وهي ثابتة في التاريخ، ولكن جعلها في المطبوعة والمخطوطة: "مسقيه"، كما في الأثر السالف، ولكن"تسقيه" هي رواية أبي جعفر في التاريخ، ورواية أحمد أيضًا. (9) بعد قوله"فنودي منها"، وضع"ما كنت مسقيه"، كما أسلفت في التعليق الماضي. (10) في المطبوعة: "ففيما بلغني"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لرواية أبي جعفر في التاريخ، ورواية أحمد في المسند. (11) الأثر: - 14806 - هذا إسناد آخر للأثر السالف، وهو الإسناد الذي أشرت إليه هناك أن فيه"أبا وائل" بين"عاصم ابن بهدلة" و"الحارث بن حسان البكري، وأنه هو الصحيح. و"الحارث بن يزيد البكري"، هو"الحارث بن حسان البكري"، مختلف في ذلك، كما قلت في التعليق على رقم: 14805. و"سلام، أبو المنذر النحوي" هو"سلام بن سليمان المزني"، قال يحيى بن معين: "لا شيء"، وقال أبو حاتم: "صدوق، صالح الحديث". وقال الساجي: "صدوق، يهم، ليس بمتقن الحديث". وقال ابن معين مرة أخرى: "يحتمل لصدقه". مترجم في التهذيب، والكبير 2/ 2/ 135، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 259، وميزان الاعتدال 1: 400. وأما "أبو وائل"، فهو"شقيق بن سلمة الأسدي"، ثقة إمام، مضى مرارًا. أما المرأة المذكورة في هذا الخب، والخبر السالف، فهي: "قيلة بنت مخرمة التميمية"، من بني العنبر بن عمرو بن تميم، ويذكر في بعض الكتب"الغنوية"، وهو تصحيف"العنبرية". وحديث"قيلة" حديث طويل، فيه غريب كثير، ذكره ابن حجر في ترجمتها في الإصابة. وفي تحقيق خبرها، وخبر"الحارث بن حسان البكرير "أو" حريث بن حسان الشيباني"، وافد بكر بن وائل (كما في ترجمتها في ابن سعد 8: 228) ، فضل كلام ليس هذا موضعه. وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه بهذا الإسناد نفسه. ورواه أحمد في مسنده 3: 481، 482، من طريقي: من طريق عفان، عن سلام أبي المنذر، عن عاصم = ثم رواه من طريق زيد بن الحباب، عن أبي المنذر سلام بن سليمان النحوي، عن عاصم بن أبي النجود، بنحوه. ورواه ابن سعد في الطبقات 6: 22 من طريق عفان، عن سلام أبي المنذر، مختصرًا. وروى البخاري صدره في الكبير 1/ 2/259. ورواه ابن الأثير في ترجمة"الحارث" في أسد الغابة، وابن عبد البر في الاستيعاب مختصرًا، وابن حجر في الإصابة. ورواه ابن كثير في تفسيره 3: 502/ 7: 470، من طريق أحمد في مسنده. ورواه أيضًا في البداية والنهاية 1: 127، 128، وقال: "ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن زيد بن حباب، به. ووقع عنده: عن الحارث بن يزيد البكري، فذكره. ورواه أيضًا، عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن حسان البكري، فذكره. ولم أر في النسخة: أبا وائل، والله أعلم". قلت: يعني الأثر السالف، انظر التعليق هناك. وقال ابن كثير أيضًا في البداية والنهاية: "رواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به. ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر، عن عاصم ابن بهدلة. ومن طريقه رواه ابن ماجه. وهكذا أورد هذا الحديث، وهذه القصة، عند تفسير هذه القصة غير واحد، من المفسرين، كابن جرير وغيره. وقد يكون هذا السياق للإهلاك عاد الآخرة، فما فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم، كما سيأتي. وعاد الأولى قبل الخليل. وفيه ذكر"معاوية بن بكر" وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى، لا يشبه كلام المتقدمين. وفيه: أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر عاتية". وهذا نقد جيد جدًا، لهذه الأخبار السالفة جميعًا، والخبر الآتي بعد هذا. (12) في التاريخ: "قحط من المطر". (13) في المطبوعة والمخطوطة: "تنادوا البيوت"، وهو لا معنى له، صوابه من التاريخ"تبادروا"، أسرعوا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 517 من البيوت، فأصابتهم"في يوم نحس" = والنحس، هو الشؤم = و"مستمرّ"، استمر عليهم بالعذاب"سبعَ ليال وثمانية أيامٍ حُسومًا" (1) = حَسمت كل شيء مرّت به، (2) فلما أخرجتهم من البيوت قال الله: (تَنزعُ النَّاسَ) من البيوت، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) ، [سورة القمر: 20] = انقعر من أصوله ="خاوية"، خوت فسقطت. (3) فلما أهلكهم الله، أرسل عليهم طيرًا سودًا، (4) فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، فذلك قوله: (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ) [سورة الأحقاف: 25] . ولم تخرج ريحٌ قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنة فغلبتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، وذلك قوله: (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) ، [سورة الحاقة: 6] = و"الصرصر"، ذات الصوت الشديد. * * * القول في تأويل قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت عاد له: (5) أجئتنا تتوعَّدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين، كي نعبد الله وحده، وندين له بالطاعة   (1) في المطبوعة: "استمر عليهم العذاب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ. (2) هذا تفسير الآيات، من"سورة القمر": 19، و"سورة الحاقة": 7. (3) هذا تفسير آية"سورة الحاقة": 7 ="كأنهم أعجاز نخل خاوية". (4) في المطبوعة: "أرسل إليهم"، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (5) في المخطوطة: "قالت هود له"، وهو ظاهر الخطأ، صححه في المطبوعة: "قالت عاد لهود"، وأثبت ما دل عليه سهو الناسخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 520 خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرَّأ منها؟ فلسنا فاعِلي ذلك، ولا نحن متبعوك على ما تدعونا إليه، (1) فأتنا بما تعدنا من العقابِ والعذاب على تركنا إخلاص التوحيد لله، وعبادتنا ما نعبد من دونه مِنَ الأوثان، إن كنت من أهل الصدق على ما تقول وتعِدُ. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم عذَابٌ وغضبٌ من الله. * * * وكان أبو عمرو بن العلاء = فيما ذكر لنا عنه = يزعم أن"الرجز" و"الرجس" بمعنى واحد، وأنها مقلوبة، قلبت السين زايًا، كما قلبت"ستّ" وهي من"سداس" بسين، (2) وكما قالوا"قَرَبُوس" و"قَرَبُوت" (3) وكما قال الراجز: (4)   (1) في المطبوعة: "ولا متبعيك"، وفي المخطوطة: "ولا متبعوك"، أسقط الناسخ"نحن" فأثبتها. (2) في المطبوعة: "كما قلبت: شئز، وهي من: شئس"، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب ما أثبت، يدل عليه شاهد الرجز الذي بعده. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقربوز" بالزاي (وهي في المخطوطة غير منقوطة) ، والصواب المحكي عنه بالتاء. و"القربوس" حنو السرج" وهو بقاف وراء مفتوحتان، بعدهما باء مضمومة. (4) هو علباء بن أرقم اليشكري. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 521 أَلا لَحَى اللهُ بَنِي السِّعْلاتِ ... عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتِ لَيْسُوا بِأَعْفَافٍ وَلا أَكْيَاتِ (1) يريد" الناس"، و"أكياس"، فقلبت السين تاء، كما قال رؤبة: كَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَدِيدٍ مُبْزِي ... حَتَّى وَقَمْنَا كَيْدَهُ بالرِّجْزِ (2) روي عن ابن عباس أنه كان يقول:" الرجس"، السّخط. (3) 14808- حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: (قد وقع عليكم من ربكم رجس) يقول: سَخَط.   (1) نوادر أبي زيد: 104، 147، الحيوان 1: 187/ 6: 161، وفيه تخريج الأبيات، وغيرهما كثير. و"السعلاة" اسم الواحدة من نساء الجن، إذا لم تتغول لتفتن السفار. وزعموا أن عمرو بن يربوع تزوج السعلاة، وأولدها، وأنها أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم، فلما رأت برقًا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت إليهم، فقال عمرو بن يربوع: أَلا لِلهِ ضَيْفُكِ، يَا أُمَامَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا يعرف تمام البيت كما قال أبو زيد في نوادره: 146. رَأَى بَرْقًا فَأَوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ ... فَلا، بِكِ، ما أسَالَ وما أَغَامَا. وقوله: "ليسوا بأعفاف"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة. ورواية أبي زيد وغيره: "ليسوا أعفاء"، وهي القياس، جمع"عفيف"، وكأن"أعفاف" جمع"عف"، وقد نصوا على أنهم لم يجمعوا"عفا"، أو يكون كما جمع"شريف" على"أشراف"، في غير المضعف. (2) ديوانه: 64، هكذا جاء البيت الأول في المخطوطة والمطبوعة. وهو لا يكاد يصح، ورواية الديوان. مَا رَامَنَا من ذي عَدِيدٍ مَبْزى يقال: "أبزى فلان بفلان"، إذا غلبه وقهاه. و"وقم عدوه"، أذله وقهره. (3) في المطبوعة: "الرجز" مكان"الرجس"، وبين أن الصواب ما أثبت. = وانظر تفسير"الرجس" فيما سلف 10: 565/ 12: 111، 112، 194. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 522 وأما قوله: (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) فإنه يقول: أتخاصمونني في أسماء سمَّيتموها أصنامًا لا تضر ولا تنفع (1) = (أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان) يقول: ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة تحتجُّون بها، ولا معذرة تعتذرون بها، (2) لأن العبادة إنما هي لمن ضرَّ ونفع، وأثابَ على الطاعة وعاقب على المعصية، ورزق ومنَع. فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس، فإنه لا نفع فيه ولا ضرّ، إلا أن تتخذ منه آلةً، ولا حجة لعابد عبده من دون الله في عبادته إياه، لأن الله لم يأذن بذلك، فيعتذر من عبدَه بأنه يعبده اتباعًا منه أمرَ الله في عبادته إياه. (3) ولا هو= إذ كان الله لم يأذن في عبادته= مما يرجى نفعه، أو يخاف ضرّه، في عاجل أو آجل، فيعبد رجَاء نفعه، أو دفع ضره - (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) يقول: فانتظروا حكمَ الله فينا وفيكم= (إني معكم من المنتظرين) حكمَه وفصل قضائه فينا وفيكم. * * * القول في تأويل قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعَا إليه، من توحيد الله، وهجر الآلهة والأوثان= (برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) يقول: وأهلكنا الذين كذَّبوا من قوم هود بحججنا جميعًا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدًا، كما:-   (1) انظر تفسير"المجادلة" فيما سلف ص: 86، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"سلطان" فيما سلف ص: 404، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "فيعذر من عبده"، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 523 14809- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وقطعنا دابرَ الذين كذبوا بآياتنا) قال: استأصلناهم. * * * وقد بينا فيما مضى معنى قوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنعام: 45] ، بشواهده، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * = (وما كانوا مؤمنين) يقول: لم يكونوا مصَدّقين بالله ولا برسوله هود. القول في تأويل قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا. * * * و"ثمود"، هو ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَدِيس بن غاثر، (2) وكانت مساكنهما الحِجْر، بين الحجاز والشأم، إلى وادي القُرَى وما حوله. * * * ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحًا. * * *   (1) انظر تفسير"قطع دابرهم" فيما سلف 11: 363، 364. (2) في المطبوعة في الموضعين"ثمود بن عابر"، و"جديس بن عابر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو كذلك في تاريخ الطبري 1: 103"غاثر" بالغين والثاء، إلا أنه جاء في التاريخ 1: 115"جاثر" بالجيم والثاء، وكأن الأول هو الأصل، وأن الآخر على القلب عن الغين، هذا إذا لم يكن خطأ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 524 وإنما منع"ثمود"، لأن"ثمود" قبيلة، كما"بكر" قبيلة، وكذلك"تميم". * * * (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوزُ لكم أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حُجَّة وبرهان على صدق ما أقول، (1) وحقيقة ما إليه أدعو، من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، وتصديقي على أني له رسول. وبيِّنتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه، هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهَضْبة، دليلا على نبوّتي وصدق مقالتي، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحدٌ إلا الله. * * * وإنما استشهد صالح، فيما بلغني، على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة، لأنهم سألُوه إياها آيةً ودلالة على حقيقةِ قوله. * ذكر من قال ذلك، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة: 14810- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين! قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض! فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة، فقال صالح: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (= (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، [سورة الشعراء:155] . فلما ملُّوها عقروها، فقال لهم: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) ، [سورة هود:65] قال عبد العزيز: وحدثني رجل آخر: أنّ صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا حُمْرًا، واليوم الثاني   (1) انظر تفسير"البينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 525 صُفْرًا، واليوم الثالث سُودًا. قال: فصبَّحهم العذاب، فلما رأوا ذلك تحنَّطُوا واستعدُّوا. (1) 14812- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإلى ثمود أخاهم صالحًا) ، قال: إن الله بعث صالحا إلى ثمود، فدعاهم فكذّبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، فسألوه أن يأتيهم بآية، فجاءهم بالناقة، لها شِرْب ولهم شِرْبُ يومٍ معلوم. وقال: (ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء) . فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قوله: (فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) ، [سورة فصلت: 17] . وكانوا قد أقرُّوا به على وجه النفاق والتقيَّة، وكانت الناقة لها شِرْبٌ، فيومَ تشرب فيه الماء تمرّ بين جبلين فيرحمانها، (2) ففيهما أثرُها حتى الساعة، ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبُوا اللبنَ، فيرويهم، إنما تصبُّ صبًّا، (3) ويوم يشربون الماءَ لا تأتيهم. وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح: إنه يولدُ في شهركم هذا غلامٌ يكون هلاككم على يديه! فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم وُلد للعاشر فأبَى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء. فكان ابن العاشر أزْرَق أحمرَ، فنبت نباتًا سريعًا، فإذا مرَّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءَ كانوا مثل هذا! فغضب التِّسعة على صالح، لأنه أمرهم بذبح أبنائهم= (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) ،   (1) الأثر: 14810 -"عبد العزيز بن رفيع الأسدي"، تابعي ثقة، روى له الجماعة. روى عن أنس، وابن الزبير، وابن عباس، وابن عمر، وأبي الطفيل. مترجم في التهذيب. و"أبو الطفيل"، هو: "عامر بن واثلة الليثي"، مضى برقم: 9196. وقوله: "تحنطوا"، أي اتخذوا الحنوط، كما يفعلون بالميت: و"الحنوط"، هو ذريرة من مسك أوعنبر أو كافور أو صندل مدقوق، أو صبر، يتخذ للميت حتى لا يجيف ولا ينتن، أو لا تظهر رائحته للحي. وسقط من الترقيم: "14811": سهوًا مني. (2) في المطبوعة: "فيرجمونها، ففيها أثرها ... "، والصواب من المخطوطة. (3) في المطبوعة: "فكانت تصب اللبن صبًا"، غير ما في المخطوطة وبدله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 526 [النمل:49] . قالوا: نخرج، فيرى الناس أنّا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد، أتيناه فقتلناه، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا: (ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) ، يصدقوننا، يعلمون أنّا قد خرجنا إلى سفر! فانطلقوا، فلما دخلوا الغارَ أرادوا أن يخرجوا من الليل، فسقط عليهم الغارُ فقتلهم، فذلك قوله: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) حتى بلغ ها هنا: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة النمل: 48-51] . =وكبر الغلام ابن العاشر، ونبت نباتًا عجبًا من السرعة، فجلس مع قومٍ يصيبون من الشَّراب، فأرادُوا ماءً يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم يوم شِرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقةُ، فاشتدَّ ذلك عليهم، وقالوا في شأن الناقة: ما نَصْنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة، فنُسْقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيرًا لنا! فقال الغلام ابن العاشر: هل لكم في أن أعْقِرَها لكم؟ قالوا: نعم! فأظهروا دينَهم، فأتاها الغلام، فلما بَصُرت به شدَّت عليه، فهرب منها، فلما رأى ذلك، دخل خلف صخرةٍ على طريقها فاستتر بها، فقال: أحِيشوها عليّ! فأحَاشوها عليه، (1) فلما جازت به نادوه: عليك! (2) فتناولها فعقرها، فسقطت، فذلك قوله: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) ، [سورة القمر:29] . وأظهروا حينئذٍ أمرهم، وعقروا الناقة، وعَتَوْا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالحُ ائتنا بما تعِدنا. وفزع ناسٌ منهم إلى صالح، وأخبروه أن الناقة قد عُقرت، فقال: عليَّ بالفصيل! فطلبوا الفَصِيل فوجدوه على رَابية من الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلَّقت به في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رَغَا (3) الفصيلُ إلى الله، فأوحى الله إلى صالح: أنْ مُرْهم فليتمتَّعوا في دارهم ثلاثة أيام! فقال لهم صالح: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام، وآية ذلك أن تُصبح وجوهكم أوَّل يوم مصفَرَّة، والثاني محمرّة، واليوم الثالث مسوَدّة، واليومُ الرابعُ فيه العذاب. فلما رأوا العلامات تكفّنوا وتحنّطوا ولطَّخوا أنفسهم بالمرّ، ولبسوا الأنْطاع، وحفروا الأسراب فدخلوا فيها ينتظرون الصيحة، حتى جاءهم العذاب فهلكوا. فذلك قوله: (دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، لما أهلك الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا في الأرض، (4) فنزلوا فيها وانتشروا، ثم عتوا على الله. فلما ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا = وكانوا قومًا عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا = (5) رسولا (6) وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح، (7) وهو وادي القرى، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشأم! فبعث الله إليهم غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، (8) لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعَفون، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا = وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله، في يوم معلوم من السنة = فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن   (1) في المطبوعة: "أجيشوها ... فأجاشوها" بالجيم، والصواب بالحاء."حاش عليه الصيد حوشًا وحياشًا" و"أحاشه عليه"، إذا نفره نحوه، وساقه إليه، وجمعه عليه. (2) "عليك"، إغراء، بمعنى: خذه. (3) في المطبوعة والمخطوطة: "ثم دعا"، والصواب ما أثبت. من"رغاء الناقة"، وهو صوتها إذا ضجت. (4) "عمر يعمر" (نحو: فرح يفرح) و"عمر يعمر" (نحو: نصر ينصر) : عاش وبقي زمانًا طويلا. (5) في المطبوعة: "وكانوا قومًا عزبًا"، وفي المخطوطة: "وكانوا قومًا عربًا وهم من أوسطهم" والصواب ما أثبت. (6) السياق: "بعث إليهم صالحًا ... رسولا". (7) "قرح" (بضم فسكون) ، وهو سوق وادي القرى. (8) "شمط": ابيض شعره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 527 استجيب لك اتَّبعناك! وإن استجيب لنا اتَّبعتنا! فقال لهم صالح: نعم! فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك، وخرج صالح معهم إلى الله فدعَوْا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثم قال له جندع بن عمرو بن جواس بن عمرو بن الدميل، (1) وكان يومئذٍ سيّد ثمود وعظيمَهم: يا صالح، أخرج لنا من هذه الصخرة = لصخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها الكاثِبة = ناقةً مخترجة جَوْفاء وَبْرَاء = و"المخترجة"، ما شاكلت البُخْت من الإبل. (2) وقالت ثمود لصالح مثل ما قال جندع بن عمرو = فإن فعلت آمنَّا بك وصَدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ! وأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ وفَعَل الله لتصدِّقُنِّي ولتؤمنُنَّ بي! قالوا: نعم! فأعطوه على ذلك عهودَهم. فدعا صالح ربَّه بأن يخرجَها لهم من تلك الهَضْبة، كما وصفوا. = فحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدَّث: أنَّهم نظروا إلى الهضبة، حين دعا الله صالح بما دعا به، تتمخَّض بالناقة تمخُّض النَّتُوج بولدها، (3) فتحركت الهضبة، ثم انتفضت بالناقة، (4) فانصدعت عن ناقة، كما وصَفوا، جوفاءَ وَبْرَاء نَتُوج، ما بين جنبيها لا يعلمه إلا الله عِظمًا، فآمن به جندع بن عمرو ومَنْ كان معه على أمره من رهطه، وأراد أشرافُ ثمود أن يؤمنوا به ويصدِّقوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبُ أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكانوا   (1) في المطبوعة"حراش"، ولعل ما في المخطوطة يقرأ كما أثبته، وكما سيأتي في نسب آخر بعد قليل. (2) شرح"المخترجة"، لم أجده في غير هذا الخب، وهو بمثله في قصص الأنبياء للثعلبي. و"البخت" من الإبل، جمال طوال الأعناق، وهي الإبل الخراسانية، تنتج من بين عربية وفالج. (3) "النتوج" (بفتح النون) : الحامل. (4) في المطبوعة: "ثم أسقطت الناقة" غير ما في المخطوطة، وفيها: "ثم استفصت الناقة" كل ذلك غير منقوطة، فرأيت صواب قرأتها ما أثبت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 529 من أشراف ثمود، فردُّوا أشرافَها عن الإسلام والدخول فيما دعاهم إليه صالح من الرَّحمة والنجاة، (1) وكان لجندع ابن عم يقال له:"شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس"، فأراد أن يسلم، فنهاه أولئك الرهط عن ذلك، فأطاعهم، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فقال رجل من ثمود يقال له:"مهوس بن عنمة بن الدّميل"، وكان مسلمًا: وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْروٍ ... إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا (2) عَزِيزَ ثَمُودَ كُلِّهِمُ جَمِيعًا ... فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا لأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا ... وَمَا عَدَلوا بصَاحِبِهم ذُؤَابَا وَلكِنَّ الغُوَاةَ مِن َآلِ حُجْرٍ ... تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذُبَابَا (3) فمكثت الناقة التي أخرجها الله لهم معها سَقْبها في أرض ثمودَ ترعى الشجر وتشرب الماء، فقال لهم صالح عليه السلام: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) ، وقال الله لصالح: إن الماء قسمةٌ بينهم، كُلّ شِرْبٍ مُحْتَضَر= أي: إن الماء نصفان، لهم يوم، ولها يوم وهي محتضرة، فيومها لا تدع شربها. (4) وقال: (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، [سورة الشعراء:155] . فكانت، فيما بلغني والله أعلم، إذا وردت، وكانت تَرِد غِبًّا، (5) وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها"بئر الناقة"، فيزعمون أنها منها كانت تشرب إذا وردت، تضع رأسَها فيها، فما ترْفَعه حتى تشرب كل قطرة ماء في الوادي، ثم   (1) في المطبوعة: "وردوا أشرافها" بالواو، والأجود ما في المخطوطة. (2) الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير 1: 134، وقصص الأنبياء للثعلبي: 57، 58. (3) في المطبوعة: "ذئابًا"، وفي البداية والنهاية"ذآبا"، وكأن الصواب ما في قصص الأنبياء، وهو ما أثبته. والمخطوطة غير منقوطة. (4) هذا تفسير آية"سورة القمر": 28. (5) "غبا" (بكسر الغين) ، أي: ترد يومًا، وتدع يومًا، ثم ترد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 530 ترفع رأسها فتفشَّج (1) = يعني تفحَّج لهم (2) = فيحتلبون ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدَّخرون، حتى يملؤوا كل آنيتهم، ثم تصدر من غير الفجّ الذي منه وردت، لا تقدِرُ على أن تصدر من حيث ترِدُ لضيقِه عنها، فلا ترجع منه. حتى إذا كان الغدُ، كان يومهم، فيشربون ما شاؤوا من الماء، ويدّخرون ما شاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة. وكانت الناقة، فيما يذكرون، تَصِيف إذا كان الحرّ ظَهْرَ الوادي، (3) فتهرب منها المواشي، أغنامُهم وأبْقارهم وإبلُهم، فتهبط إلى بطن الوادي في حرِّه وجَدْبه= وذلك أن المواشي تنفِرُ منها إذا رأتها= وتشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مَواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدْب، فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاءِ والاختبار. وكانت مرابعُها، (4) فيما يزعمون، الحبابُ وحِسْمَى، كل ذلك ترعى مع وادي الحِجر، فكبر ذلك عليهم، فعتوا عن أمر ربهم، وأجمعوا في عقر الناقة رأيَهم. = وكانت امرأة من ثمودَ يقال لها:"عنيزة بنت غنم بن مجلز"، تكني بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل، أخي رُميل بن المهل، (5) وكانت امرأةَ ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات بناتٍ حسان، وكانت ذات مال من إبلٍ وبقر وغنم= وامرأة أخرى يقال لها:"صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا"، (6) سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال   (1) في المطبوعة: "تفسح"، والصواب ما أثبت، "تفشجت الناقة" (بالجيم) ، تفاجت، وذلك أن تباعد بين رجليها، ومثله"تفشحت" بالحاء المهملة. (2) "تفحجت"، باعدت بين رجليها. (3) في المطبوعة: "بظهر الوادي"، وأثبت ما في المخطوطة. و"الظهر" ما غلظ وارتفع من الوادي. و"البطن"، ما لان وسهل ورق واطمأن. (4) في المطبوعة: "مراتعها"، والصواب ما في المخطوطة. (5) في المطبوعة: "دميل"، وفي المخطوطة ما أثبته ظاهر"الراء". وقد مضى آنفًا في أنساب هذا الخبر"الدميل"، فلا أدري أهما واحد، أم هما اسمان مختلفان. (6) في المطبوعة: "بنت المحيا بن زهير"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي قصص الأنبياء: "مهر". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 531 له:"وادي المحيا"، وهو المحيَّا الأكبر، جد المحيَّا الأصغر أبي صدوف= وكانت"صدوف" من أحسن الناس، وكانت غنيَّة، ذات مالٍ من إبل وغنم وبقر= وكانتَا من أشدِّ امرأتين في ثمود عداوةً لصالح، وأعظمِه به كفرًا، (1) وكانتا تَحْتالان أن تُعْقَر الناقة مع كفرهما به، (2) لما أضرَّت به من مواشيهما. وكانت صدوف عند ابن خالٍ لها يقال له:"صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف"، من بني هليل، فأسلم فحسن إسلامه، وكانت صدوفُ قد فَوَّضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح حتى رَقَّ المال. فاطّلعت على ذلك من إسلامه صدوفُ، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام، فأبت عليه، وبيَّتتْ له، (3) فأخذت بنيه وبناته منه فغيَّبتهم في بني عبيد بطنِها الذي هي منه. وكان صنتم زوجُها من بني هليل، وكان ابنَ خالها، فقال لها: ردِّي عليَّ ولدي! فقالت: حتى أنافِرك إلى بني صنعان بن عبيد، أو إلى بني جندع بن عبيد! فقال لها صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد! (4) وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام، وأبطأ عنه الآخرون. فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه! فقال بنو مرداس: والله لتعطِنَّه ولده طائعةً أو كارهة! فلما رأت ذلك أعطته إياهم. =ثم إن صدوف وعُنيزة مَحَلَتا في عقر الناقة، (5) للشقاء الذي نزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له"الحباب" لعقر الناقة. وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل، فأبَى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له:"مصدع بن مهرج بن المحيَّا"، وجعلت له نفسها، على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناسِ، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك. =ودعت عنيزة بنت غنم،"قدارَ بن سالف بن جندع"، رجلا من أهل قُرْح. وكان قُدار رجلا أحمرَ أزرقَ قصيرًا،يزعمون أنه كان لزَنْيَةٍ، من رجل يقال له:" صهياد"، ولم يكن لأبيه"سالف" الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على فراش"سالف"، وكان يدعى له وينسب إليه. فقالت: أعطيك أيَّ بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة! وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار عزيزًا منيعًا في قومه. فانطلق قدار بن سالف، ومصدع بن مهرج، فاستنفرَا غُواةً من ثمود، فاتّبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر، أحدُ النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له:" هويل بن ميلغ" خال قدار بن سالف، أخو أمّه لأبيها وأمها، وكان عزيزًا من أهل حجر= و"دعير بن غنم بن داعر"، وهو من بني خلاوة بن المهل= و"دأب بن مهرج"، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم ..... (6) فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قُدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى. فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظمَ به   (1) في المطبوعة: "وأعظمهم به كفرًا"، كأنه استنكر ما في المخطوطة، وهو صريح العربية: أن يعاد الضمير بعد أفعل التفضيل بالإفراد والتذكير، مثل ما جاء في حديث نساء قريش: "خير نساء ركبن الإبل صوالح قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"، وكما قال ذو الرمة: وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جيدًا ... وَسَالِفَةً، وَأَحْسَنُهُ قَذَالا وقد مضى ذكر ذلك في الأجزاء السالفة 5: 448، تعليق: 2 وص: 557، تعليق: 1/ 6: 395، تعليق: 1/ 7: 87، تعليق: 4. (2) في المطبوعة: "وكانتا تحبان أن تعقر ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق كما في قصص القرآن للثعلبي. (3) في المطبوعة: "وسبت ولده"، وهو عبث محض، وفي المخطوطة: "وسب له" غير منقوطة، وكأن صواب قراءتها ما أثبت."بيتت له،: فكرت في الأمر وخمرته ودبرته ليلا. (4) في المطبوعة: "بل أن أقول إلى بني مرداس"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لسوء كتابتها، فأتى بكلام غث. (5) في المطبوعة: "تحيلا في عقر الناقة"، وهو كلام هالك، والصواب ما في المخطوطة ولكن الناشر لم يعرف معناه."محل به": كاده، واحتال في المكر به حتى يوقعه في الهلكة. (6) مكان النقط بياض في المخطوطة إلى آخر السطر، وفي الهامش حرف (ط) ، دلالة على الشك والخطأ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 532 عضَلَة ساقها. وخرجت أم غنم عنيزة، وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجهًا، فأسفرت لقدار وأرته إياه، (1) ثم ذمَّرته، (2) فشدّ على الناقة بالسيف، فخشَفَ عُرْقوبها، (3) فخرَّت ورغت رَغَاةً واحدة تحذّرُ سَقْبها، (4) ثم طعن في لبَّتها فنحرَها، وانطلق سقبها حتى أتى جبلا مُنِيفًا، (5) ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعًا ولاذ بها (6) = واسم الجبل فيما يزعمون"صنو"، (7) = فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت، (8) ثم قال: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته! فاتّبع السقبَ أربعةُ نفر من التّسعة الذين عقرُوا الناقة، وفيهم"مصدع بن مهرج"، فرماه مصدع بسهم، فانتظمَ قلبَه، ثم جرَّ برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمَه مع لحم أمه. =فلما قال لهم صالح:"أبشروا بعذاب الله ونقمته"، قالوا له وهم يهزؤون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ = وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد"أول" والاثنين"أهون"، والثلاثاء"دبار"، والأربعاء"جبار"، والخميس"مؤنس"، والجمعة"العروبة"، والسبت"شيار"، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء= فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس، يعني يوم الخميس،   (1) في المطبوعة: "فأسفرت عنه" بالزيادة وليست في المخطوطة، ولا ضرورة لها. (2) "ذمرته": شجعته وحثته وحرضته. (3) في المطبوعة: "فكشف عرقوبها"، وأثبت ما في المخطوطة: "خشف رأسه بالحجر"، شدخه. وكل ما شدخ، فقد خشف. وقيل: "سيف خاشف، وخشيف، وخشوف"، ماض. و"فحسف"، هكذا غير منقوطة في المخطوطة. (4) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "رغاة واحدة"، ولم تذكره كتب اللغة، بل قالوا: المرة الواحدة من"الرغاء"، "رغوة" والذي في الطبري جائز مثله في العربية. (5) في المطبوعة: "منيعا"، وأثبت ما في المخطوطة."والمنيف" العالي. (6) في المطبوعة: "فرغا ولاذ بها"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وأرجح أن صواب قراءتها هنا ما أثبت. (7) في المطبوعة: "صور"، أثبت ما في المخطوطة، وإن كنت في شك منه. (8) في المطبوعة، حذف"ثم"، وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 534 ووجوهكم مصفرّة، ثم تصبحون يوم العروبة، يعني يوم الجمعة، ووجوهكم محمرّة، ثم تصبحون يوم شيار، يعني يوم السبت، ووجوهكم مسودَّة، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، يعني يوم الأحد. فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلمَّ فلنقتل صالحًا، (1) إن كان صادقًا عجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا يكون قد ألحقناه بناقتِه! فأتوه ليلا ليبيِّتوه في أهله، فدمَغَتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤوا على أصحابهم، أتوا منزلَ صالح، فوجدوهم مشدَّخين قد رُضِخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم همُّوا به، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاحَ، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدًا، فقد وعدكم أنَّ العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربَّكم عليكم إلا غضبًا، وإن كان كاذبًا فأنتم من وراء ما تريدون! فانصرفوا عنهم ليلتَهم تلك، والنفر الذين رَضَختهم الملائكة بالحجارة، التسعةُ الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) إلى قوله: (لآية لقوم يعلمون) ، [سورة النمل: 48 - 52] . =فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح، وجوههم مصفرَّة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحًا قد صدَقهم، فطلبوه ليقتلوه. وخرج صالح هاربًا منهم، حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم:" بنو غنم"، فنزل على سيِّدهم رجلٍ منهم يقال له:" نفيل"، يكنى بأبي هدب، وهو مشرِك، فغيَّبه، فلم يقدروا عليه. فغدوا على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلُّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له:" ميدع بن هرم": يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلَّهم عليك، أفندلُّهم عليك؟ قال: نعم! فدلهم عليه"ميدع بن هرم"، فلما علموا بمكان صالح، أتوا أبا هُدْب فكلموه، فقال لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل! فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه. فجعل   (1) في المطبوعة: "هلموا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 535 بعضهم يخبر بعضًا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرَّة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرَّة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودّة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشأم، فنزل رملة فلسطين، وتخلّف رجل من أصحابه يقال له:" ميدع بن هرم"، فنزل قُرْح= وهي وادي القرى، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا= فنزل على سيِّدِهم رجلٍ يقال له:" عمرو بن غنم"، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يَشْتَركْ في قتلها، فقال له ميدع بن هرم: يا عمرو بن غنم، أخرج من هذا البلد، فإن صالحًا قال:"من أقام فيه هلك، ومن خرج منه نجا"، فقال عمرو: ما شرِكت في عَقْرها، وما رضيت ما صُنع بها! فلما كانت صبيحة الأحد أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مقعدة يقال لها:" الزُّرَيْعَة"، وهي الكلبة ابنة السِّلق، (1) كانت كافرة شديدَة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذابَ أجمعَ، فخرجت كأسرع ما يُرَى شيءٌ قط، حتى أتت أهل قُرْحٍ فأخبرتهم بما عاينتْ من العذاب وما أصاب ثمود منه، (2) ثم استسقت من الماء فسُقِيت، فلما شربت ماتت. 14812- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، أخبرني من سمع الحسن يقول: لما عقرت ثمود الناقة، ذهبَ فصيلها حتى صعد تلا فقال: يا رب، أين أمي؟ ثم رغا رَغوةً، فنزلت الصيحةُ، فأخمدتهم.   (1) في المطبوعة: "الدريعة، وهي كليبة ابنة السلق"، وفي المخطوطة"الدريعة وهي الكلبة ابنة السلق"، وقرأتها كما أثبتها. و"السلق"، الذئب، ويزعمون أن الذئب يستولد الكلبة، وأن ولدها منها يقال له"الديسم"، ويقال للكلاب"أولاد زارع"، فرجحت أن صواب قراءتها"الزريعة" بالتصغير، وأن الذي بعدها تفسير لها، كما هو ظاهر. و"السلق" (بكسر السين، وسكون اللام) . (2) في المطبوعة: "حتى أتت حيا من الأحياء، فأخبرتهم"، غير ما في المخطوطة، مع أن الصواب هو الذي فيها. و"قرح" سوق وادي القرى، كما مر آنفًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 536 14813- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن بنحوه= إلا أنه قال: أصعد تلا. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتَّعوا ثلاثة أيام! وقال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرَّة، ثم تصبح اليومَ الثاني محمرَّة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودَّة، فأصبحت كذلك. فلما كان اليوم الثالث وأيقنوا بالهلاك، تكفَّنوا وتحنَّطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم= قال قتادة: قال عاقر الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين! فجعلوا يدخلون على المرأة في حِجْرها فيقولون: (1) أترضين؟ فتقول: نعم! والصبيّ، حتى رضوا أجمعين، فعقرها. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال، لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قومُ صالح، فكانت ترد من هذا الفجّ، (2) وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يومًا، ويشربون لبنها يومًا. فعقروها، فأخذتهم الصيحة: أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حَرَم الله، قيل: من هو؟ قال: أبو رِغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه. (3)   (1) في المطبوعة: "في خدرها"، وأثبت ما في المخطوطة. و"الحجر" (بكسر الحاء وفتحها، وسكون الجيم) : الستر والحفظ، يعني حيث تستر. ولو قريء: "في حجرها" جمع"حجرة"، وهو البيت لكان حسنًا جدًا. (2) قوله: "وكانت ترد ... "، يعني الناقة. (3) الأثر: 14817-"عبد الله بن عثمان بن خثيم" القارئ، تابعي ثقة. مضى برقم: 4341، 5388، 7831، 9642. وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3: 296، من هذه الطريق نفسها بلفظه. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 505، وفي البداية والنهاية 1: 137، وقال: "وهذا الحديث على شرط مسلم، وهو ليس في شيء من الكتب الستة". وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (6: 270) ، وقال: "وروى أحمد والحاكم بإسناد حسن، عن جابر"، وذكر الخب. وسيأتي بإسناد آخر رقم: 14820. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 537 ... قال عبد الرزاق، قال معمر: وأخبرني إسماعيل بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر أبي رِغال، فقال: أتدرون ما هذا؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: هذا قبر أبي رِغال؟ قالوا فمن أبو رِغال؟ قال: رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب! فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عليه، فاستخرجوا الغصن. (1) 14814- . . . قال عبد الرزاق: قال: معمر: قال الزهري: أبو رِغال: أبو ثقيف. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال، مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر= ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال في حديثه: قالوا: من هو يا رسول   (1) الأثر: 14818- هذا خبر مرسل. "إسماعيل بن أمية الأموي"، ثقة، مضى برقم: 2615، 8458. وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه 3: 245 رقم: 3088، موصولا من حديث محمد بن إسحق، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول، حين خرجنا إلى الطائف، فمررنا بقبر". وذكر ابن كثير في تفسيره 3: 508، والبداية 1: 137، حديث أبي داود هذا، ثم قال: "هكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به. قال شيخنا أبو الحجاج المزي: وهو حديث حسن عزيز. قلت: تفرد بوصله بجير بن أبي بجير هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى بن معين: ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية. قلت [القائل ابن كثير] : وعلى هذا فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو مما أخذه من الزاملتين. قال شيخنا أبو الحجاج، بعد أن عرضت عليه ذلك: وهذا محتمل، والله أعلم". وسيأتي بإسناد آخر رقم: 14823. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 538 الله؟ قال: أبو رِغال. (1) 14815- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة قال، كان يقال إنّ أحمرَ ثمود الذي عقر الناقة، كان ولد زَنْية. 14816- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق قال، قال أبو موسى: أتيت أرض ثمود، فذرعت مَصْدرَ الناقة، فوجدته ستين ذراعًا. 14817- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وأخبرني إسماعيل بن أمية بنحو هذا= يعني بنحو حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر = قال: ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبر أبي رِغال، قالوا: ومن أبو رِغال؟ قال: أبو ثقيف، كان في الحرم لما أهلك الله قومه، منعه حرم الله من عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن ها هنا، ودفن معه غصن من ذهب. قال: فابتدره القوم يبحثون عنه، حتى استخرجوا ذلك الغصن. =وقال الحسن: كان للناقة يوم ولهم يومٌ، فأضرَّ بهم. (2) حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أنْ يصيبكم مثل الذي أصابهم! ثم قال: هذا وادي النَّفَر! (3) ثم قَنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. (4) * * *   (1) الأثر: 14820- هذا إسناد آخر للخبر السالف رقم: 14817. (2) الأثر: 14823- هذا إسناد آخر للأثر رقم: 14818. وأما كلمة الحسن البصري الأخيرة، فلا أدري من قائلها. (3) "وادي النفر"، كأنه يعني التسعة من ثمود الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والذين اجتمعوا على قتل صالح عليه السلام، فدمر الله عليهم. (4) الأثر: 14823- حديث الزهري هذا، رواه البخاري في مواضع من صحيحه (الفتح 6: 270) من طريق محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر = ثم رواه بعد من طريق يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. ثم رواه (الفتح 8: 95) من طريق عبد الرازق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. ورواه مسلم في صحيحه 18: 111، من طريق يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. وليس في روايتهما ذكر"وادي النفر". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم رفع رأسه"، وهو تحريف بلا شك، والصواب ما أثبت من رواية البخاري (الفتح 8: 95) . و"قنع رأسه"، غطاها بالقناع. وفي رواية البخاري الأخرى (الفتح 6: 270) : "ثم تقنع بردائه وهو على الرحل". وقوله: "أجاز الوادي"، أي قطعه وخلفه وراءه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 539 وأما قوله: (ولا تمسوها بسوء) ، فإنه يقول: ولا تمسوا ناقة الله بعقرٍ ولا نحر (1) = (فيأخذكم عذابٌ أليم) ، يعني: موجع. (2) * * *   (1) انظر تفسير"المس" فيما سلف: 11: 370، تعليق 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 540 القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه، واعظًا لهم: واذكروا، أيها القوم، نعمة الله عليكم= (إذ جعلكم خلفاء) ، يقول: تخلفون عادًا في الأرض بعد هلاكها. * * * و"خلفاء" جمع"خليفة". وإنما جمع"خليفة""خلفاء"، و"فُعلاء" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 540 إنما هي جمع"فعيل"، كما"الشركاء" جمع"شريك"، و"العلماء" جمع"عليم"، و"الحلماء" جمع"حليم"، لأنه ذهب بالخليفة إلى الرجل، فكأن واحدهم"خليف"، ثم جمع"خلفاء"، فأما لو جمعت"الخليفة" على أنها نظيرة"كريمة" و"حليلة" و"رغيبة"، قيل"خلائف"، كما يقال:"كرائم" و"حلائل" و"رغائب"، إذ كانت من صفات الإناث. وإنما جمعت"الخليفة" على الوجهين اللذين جاء بهما القرآن، لأنها جُمعت مرّة على لفظها، ومرة على معناها. (1) * * * وأما قوله: (وبوأكم في الأرض) ، فإنه يقول: وأنزلكم في الأرض، وجعل لكم فيها مساكن وأزواجًا، (2) = (تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا) ، ذكر أنهم كانوا ينقُبون الصخر مساكن، كما:- 14823- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وتنحتون الجبال بيوتًا) ، كانوا ينقبون في الجبال البيوتَ. * * * وقوله: (فاذكروا آلاء الله) ، يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم (3) = (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) . * * * وكان قتادة يقول في ذلك ما:- 14824- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،   (1) انظر تفسير"خليفة" فيما سلف 1: 449- 453/ 12: 288، 505 وقد استوفى هنا ما لم يذكره هناك. (2) انظر تفسير"بوأ" فيما سلف ص4: 164. (3) انظر تفسير"الآلاء" فيما سلف ص: 506. وكان في المطبوعة: "التي أنعمها"، وأثبت ما في المخطوطة، ولا أدري لم تصرف الناشر في مثل هذا!!. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 541 عن قتادة قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين. * * * وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه) ، قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح عن اتباع صالح والإيمان بالله وبه (2) = (للذين استضعفوا) ، يعني: لأهل المسكنة من تبَّاع صالح والمؤمنين به منهم، دون ذوي شرفهم وأهل السُّؤدد منهم= (أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه) ، أرسله الله إلينا وإليكم، قال الذين آمنوا بصالح من المستضعفين منهم: إنا بما أرسل الله به صالحًا من الحقّ والهدى مؤمنون، يقول: مصدِّقون مقرّون أنه من عند الله، وأن الله أمر به، وعن أمر الله دعانا صالح إليه= (قال الذين استكبروا) ، عن أمر الله وأمر رسوله صالح= (إنا) ، أيها القوم (بالذي   (1) انظر تفسير"عثا" فيما سلف 2: 123، 124/ 5: 499. = وتفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف: 487، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف 5: 291/ 12: 499، 503. = وتفسير"الاستكبار" فيما سلف: 11: 540/ 12: 421، 467. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 542 آمنتم به) ، يقول: صدقتم به من نبوّة صالح، وأن الذي جاء به حق من عند الله= (كافرون) ، يقول: جاحدون منكرون، لا نصدِّق به ولا نقرُّ. * * * القول في تأويل قوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمودُ الناقةَ التي جعلها الله لهم آية= (وعتوا عن أمر ربهم) ، يقول: تكبروا وتجبروا عن اتباع الله، واستعلوا عن الحق، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعتوا) ، علوا عن الحق، لا يبصرون. (1) 14825- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (عتوا عن أمر ربهم) ، علوا في الباطل. 14826- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: (وعتوا عن أمر ربهم) ، قال: عتوا في الباطل وتركوا الحق. 14827- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وعتوا عن أمر ربهم) ، قال: علوا في الباطل. * * * وهو من قولهم:"جبّار عاتٍ"، إذا كان عاليًا في تجبُّره. * * * = (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدُنا) ، يقول: قالوا: جئنا، يا صالح، بما تعدنا   (1) في المطبوعة: "لا يبصرونه"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 543 من عذاب الله ونقمته، استعجالا منهم للعذاب= (إن كنت من المرسلين) ، يقول: إن كنت لله رسولا إلينا، فإن الله ينصر رسله على أعدائه، فعجَّل ذلك لهم كما استعجلوه، يقول جل ثناؤه: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) . * * * القول في تأويل قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين عقروا الناقةَ من ثمود = (الرجفة) ، وهي الصيحة. * * * و"الرجفة"،"الفعلة"، من قول القائل:"رجَف بفلان كذا يرجُفُ رجْفًا"، وذلك إذا حرَّكه وزعزعه، كما قال الأخطل: إِمَّا تَرَيْنِي حَنَانِي الشَّيْبُ مِنْ كِبَرٍ ... كَالنَّسْرِ أَرْجُفُ، وَالإنْسَانُ مَهْدُودُ (1)   (1) ديوانه: 146 من قصيدة له جيدة، قالها في يزيد بن معاوية، وذكر فيها الشباب ذكرًا عجبًا، وقد رأى إعراض الغواني عنه من أجله، يقول بعده: وَقَدْ يَكُونُ الصِّبَى مِنِّي بِمَنْزِلَةٍ ... يَوْمًا، وتَقْتَادُنِي الهِيفُ الرَّعَادِيدُ يَا قَلَّ خَيْرُ الغَوَانِي، كيف رُغْنَ بِهِ ... فَشُرْبُهُ وَشَلٌ فِيهِنَّ تَصْرِيدُ أَعْرَضْنَ مِنْ شَمَطٍ في الرَّأْسِ لاحَ بِهِ ... فَهُنّ مِنْهُ، إِذَا أَبْصَرْنَهُ، حِيدُ قَدْ كُنَّ يَعْهَدْنَ مِنِّي مَضْحَكًا حَسَنًا ... وَمَفْرِقًا حَسَرَتْ عَنْهُ العَنَاقِيدُ فَهُنَّ يَشْدُونَ مِنِّي بَعْضَ مَعْرِفَةٍ، ... وَهُنَّ بالوُدِّ، لا بُخْلٌ ولا جُودُ قَدْ كَانَ عَهْدِي جَدِيدًا، فَاسْتُبِدَّ بِهِ، ... وَالعَهْدُ مُتَّبَعٌ مَا فِيهِ، مَنشُودُ يَقُلْنَ: لا أَنْتَ بَعْلٌ يُسْتَقَادُ لَهُ، ... وَلا الشَّبَابُ الَّذِي قَدْ فَاتَ مَرْدُودُ هَلْ لِلشَّبَابِ الذي قَدْ فَاتَ مرْدُودُ ? ... أَمْ هَلْ دَوَاءٌ يَرُدُّ الشِّيبَ مَوْجُودُ ? لَنْ يَرْجِعَ الشِّيبُ شُبَّانًا، وَلَنْ يَجِدُوا ... عِدْلَ الشَّبَابِ، مَا أَوْرَقَ العُودُ إِنَّ الشَّبَابَ لَمَحْمُودٌ بَشَاشَتُهُ ... والشَّيْبُ مُنْصَرفٌ عَنْهُ وَمَصْدُودُ وهي أبيات ملئت عاطفة وحزنًا وحسرة، فاحفظها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 544 وإنما عنى بـ"الرجفة"، ها هنا الصيحة التي زعزعتهم وحركتهم للهلاك، لأن ثمود هلكت بالصيحة، فيما ذكر أهل العلم. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14828- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"الرجفة"، قال: الصيحة. 14829- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14830- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فأخذتهم الرجفة) ، وهي الصيحة. 14831- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: (فأخذتهم الرجفة) ، قال: الصيحة. * * * وقوله: (فأصبحوا في دارهم جاثمين) ، يقول: فأصبح الذين أهلك الله من ثمود= (في دارهم) ، يعني في أرضهم التي هلكوا فيها وبلدتهم. * * * ولذلك وحَّد"الدار" ولم يجمعها فيقول" في دورهم"= وقد يجوز أن يكون أريد بها الدور، ولكن وجَّه بالواحدة إلى الجميع، كما قيل: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر: 1-2] . * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 545 وقوله: (جاثمين) ، يعني: سقوطًا صرعَى لا يتحركون، لأنهم لا أرواح فيهم، قد هلكوا. والعرب تقول للبارك على الركبة:"جاثم"، ومنه قول جرير: عَرَفْتُ المُنْتَأَى، وَعَرَفْتُ مِنْهَا ... مَطَايَا القِدْرِ كَالحِدَإِ الجُثُومِ (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14832- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (فأصبحوا في دارهم جاثمين) ، قال: ميتين. القول في تأويل قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله، خارجًا عن أرضهم من بين أظهُرهم، (2) لأن الله تعالى ذكره أوحَى إليه: إنّي مهلكهم بعد ثالثة. (3)   (1) ديوانه: 507، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 218، من قصيدته في هشام بن عبد الملك، مضى منها بيت فيما سلف 1: 170. يقول قبله: وَقَفْتُ عَلَى الدِّيَارِ، وَمَا ذَكَرْنَا ... كَدَارٍ بَيْنَ تَلْعَةَ والنَّظِيم و"المنتأى"، حفير النؤى حول البيت. و"مطايا القدر"، أثافيها، تركبها القدر فهي لها مطية. وجعلها كالحدإ الجثوم، لسوادها من سخام النار. وكان في المخطوطة: "عرفت الصاى"، غير منقوطة، وخطأ، صوابه ما في المطبوعة. (2) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 10: 575، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "بعد ثلاثة"، والصواب المحض ما أثبت من المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 546 وقيل: إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهُرها. (1) فأخبر الله جل ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم، فقال: (فتولى عنهم) صالح= وقال لقومه ثمود= (لقد أبلغتكم رسالة ربي) ، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربّي من أمره ونهيه (2) = (ونصحت لكم) ، في أدائي رسالة الله إليكم، في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان= (ولكن لا تحبون الناصحين) ، لكم في الله، الناهين لكم عن اتباع أهوائكم، الصادِّين لكم عن شهوات أنفسكم. * * * القول في تأويل قوله: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا لوطًا. * * * ولو قيل: معناه: واذكر لوطًا، يا محمد، (إذ قال لقومه) = إذ لم يكن في الكلام صلة"الرسالة" كما كان في ذكر عاد وثمود = كان مذهبًا. * * * وقوله: (إذ قال لقومه) ، يقول: حين قال لقومه من سَدُوم، وإليهم كان أرسل لوط= (أتأتون الفاحشة) ، وكانت فاحشتهم التي كانوا يأتونها، التي عاقبهم الله عليها، إتيان الذكور (3) = (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) ، يقول: ما سبقكم بفعل هذه الفاحشة أحد من العالمين، وذلك كالذي:-   (1) انظر معاني القرآن 1: 385. (2) انظر تفسير"الإبلاغ" فيما سلف: 10: 575/ 11: 95/ 12: 504. (3) انظر تفسير"الفاحشة" فيما سلف: ص: 402، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 547 14833- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار قوله: (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) ، قال: ما رُئي ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) } قال أبو جعفر: يخبر بذلك تعالى ذكره عن لوط أنه قال لقومه، توبيخًا منه لهم على فعلهم: إنكم، أيها القوم، لتأتون الرجال في أدبارهم، شهوة منكم لذلك، من دون الذي أباحه الله لكم وأحلَّه من النساء= (بل أنتم قوم مسرفون) ، يقول: إنكم لقوم تأتون ما حرَّم الله عليكم، وتعصونه بفعلكم هذا. * * * وذلك هو"الإسراف"، في هذا الموضع. (1) * * * و"الشهوة"،"الفَعْلة"، وهي مصدر من قول القائل:"شَهَيتُ هذا الشيء أشهاه شهوة" ومن ذلك قول الشاعر: (2) وأَشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ! ... إذَا مَا النُّجُومُ أَعْرَضَتْ وَاسْبَطَرَّتِ (3) فَقَامَ يَجُرُّ البُرْدَ، لَوْ أَنَّ نَفْسَهُ ... يُقَالُ لَهُ: خُذْهَا بِكَفَّيْكَ! خَرَّتِ (4)   (1) انظر تفسير"الإسراف" فيما سلف: ص: 395، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) م أعرف قائله. (3) البيت الأول في اللسان (شهى) ، ورواية اللسان: "واسْبَكَرَّتْ". وقوله: "وأشعث"، يعني رفيقه في السفر، طال عليه السفر، فاغبر رأسه، وتفرق شعره من ترك الأدهان. و"اسبطرت النحوم"، امتدت واستقامت وأسرعت في مسبحها. و"اسبكرت"، مثلها. (4) "خرت"، أي سقطت وتقوضت وهوت، وكان في المطبوعة: "جرت" بالجيم، وهو خطأ صرف. وهذا البيت الثاني، ورد مثله في شعر الأخطل، قال: وَأَبْيَضَ لا نَكْسٍ وَلا وَاهِنِ القُوَى ... سَقَيْنَا، إِذَا أُولَى العَصَافِيرِ صَرَّتِ حَبَسْتُ عَلَيْهِ الكَأْسَ غَيْرَ بَطِيئَةٍ ... مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى هَرَّهَا وَأَهَرَّتِ فَقَامَ يَجُرُّ البُرْدَ، لَوْ أَنَّ نَفْسَهُ ... بِكَفَّيْهِ مِنْ رَدِّ الحُمَيَّا لَخَرَّتِ وَأَدْبَرَ، لَوْ قِيلَ: اتَّقِ السَّيْفَ! لَمْ تُخَلْ ... ذُؤَابَتُهُ مِنْ خَشْيَةٍ إِقْشَعَرَّتِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 548 القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان جواب قوم لُوط للوط، إذ وبَّخهم على فعلهم القبيح، وركوبهم ما حرم الله عليهم من العمل الخبيث، إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطًا وأهله= ولذلك قيل:"أخرجوهم"، فجمع، وقد جرى قبل ذكر"لوط" وحده دون غيره. * * * وقد يحتمل أن يكون إنما جمع بمعنى: أخرجوا لوطًا ومن كان على دينه من قريتكم= فاكتفى بذكر"لوط" في أول الكلام عن ذكر أتباعه، ثم جمع في آخر الكلام، كما قيل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، [الطلاق: 1] . * * * وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) = (إنهم أناس يتطهرون) ، يقول: إن لوطًا ومن تبعه أناس يتنزهون عما نفعله نحنُ من إتيان الرجال في الأدبار. (2) * * *   (1) انظر ما سلف 2: 485- 487، وغيرها. (2) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف 10: 318، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 549 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد النخعي، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (إنهم أناس يتطهرون) ، قال: من أدبار الرجال وأدبار النساء. (1) 14834- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مجاهد: (إنهم أناس يتطهرون) ، من أدبار الرجال وأدبار النساء. 14835- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (إنهم أناس يتطهرون) ، قال: يتطهرون من أدبار الرجال والنساء. 14836- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (إنهم أناس يتطهرون) ، قال: من أدبار الرجال ومن أدبار النساء. 14837- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إنهم أناس يتطهرون) ، قال: يتحرَّجون. 14838- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنهم أناس يتطهرون) ، يقول: عابوهم بغير عَيْب، وذمُّوهم بغير ذَمّ. * * *   (1) الأثر: 14836-"هانئ بن سعيد النخعي"، صالح الحديث، مضى برقم: 13159، 13965. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 550 القول في تأويل قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أبى قوم لوط= مع توبيخ لوط إياهم على ما يأتون من الفاحشة، وإبلاغه إياهم رسالة ربه بتحريم ذلك عليهم= إلا التمادي في غيّهم، أنجينا لوطًا وأهله المؤمنين به، إلا امرأته، فإنها كانت للوط خائنة، وبالله كافرة. * * * وقوله: (من الغابرين) ، يقول: من الباقين. * * * وقيل: (من الغابرين) ، ولم يقل" الغابرات"، لأنه أريد أنها ممن بقي مع الرجال، (1) فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل:"من الغابرين". (2) * * * والفعل منه:"غبَرَ يَغْبُرُ غُبُورًا، وغَبْرًا"، (3) وذلك إذا بقي، كما قال الأعشى: عَضَّ بِمَا أَبْقَى المَوَاسِي لَهُ ... مِنْ أَمَةٍ فِي الزَّمَنِ الغَابِرِ (4) وكما قال الآخر: (5)   (1) في المطبوعة: "لأنه يريد" وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 218، 219. (3) قوله: "وغبرا"، ضبطته بفتح فسكون، ولم يرد هذا المصدر في شيء من كتب اللغة، اقتصروا على المصدر الأول. (4) ديوانه: 106، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 219، من قصيدته التي هجا بها علقمة، ومدح عامرًا، كما أسلفت في تخريج أبيات مضت من القصيدة، وفي المطبوعة ومجاز القرآن"من أمه"، وأثبت ما في الديوان، قال أبو عبيدة، بعد البيت: "لم يختن فيما مضى، فبقي من الزمن الغابر، أي الباقي. ألا ترى أنه قال: وَكُنَّ قَدْ أَبْقَيْنَ مِنْهَا أَذًى ... عِنْدَ المَلاقِي وَافِيَ الشَّافِر وهو هجاء لأم علقمة قبيح. (5) هو يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 551 وَأَبِي الَّذِي فَتَحَ البِلادَ بِسِيْفِهِ ... فَأَذَلَّها لِبَنِي أَبَانَ الغَابِرِ (1) يعني: الباقي. * * * فإن قال قائل: فكانت امرأة لوط ممن نجا من الهلاك الذي هلك به قوم لوط؟ قيل: لا بل كانت فيمن هلك. فإن قال: فكيف قيل: (إلا امرأته كانت من الغابرين) ، وقد قلت إن معنى"الغابر" الباقي؟ فقد وجب أن تكون قد بقيت؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه، وإنما عنى بذلك، إلا امرأته   (1) خزانة الأدب 1: 55، وكان يزيد شريفًا عزيزًا، وأبوه الحكم بن أبي العاصي الثقفي، أحد أصحاب الفتوح الكثيرة في فارس وغيرها، وكذلك عمه عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله، فدعاه الحجاج بن يوسف الثقفي، فولاه فارس، فلما جاء يأخذ عهده، قال له الحجاج: يا يزيد، أنشدني بعض شعرك، وإنما أراد أن ينشده مديحًا له، فأنشده قصيدة يفخر فيها، يقول: وَأَبِي الَّذِي فَتَحَ البِلادَ بِسَيْفِه ... فَأَذلَّهَا لِبَنِي أَبَانَ الغَابِرِ وَأَبِي الَّذِي سَلَبَ ابْنَ كِسْرَى رايةً ... بيضاءَ تَخْفِقُ كالعُقَابِ الكَاسِرِ وِإذَا فَخَرْتُ فَخَرْتُ غَيْرَ مُكَذَّب ... فَخْرًا أَدُقُّ بِهِ فَخَارَ الفَاخِرِ فنهض الحجاج مغضبًا، وخرج يزيد من غير أن يودعه. فأرسل الحجاج حاجبه وراءه يرتجع منه العهد، ويقول له: أيهما خير لك، ما ورثك أبوك أم هذا؟ فقال يزيد: قل له: وَرِثْتُ جَدِّي مَجْدَهُ وَفَعَالَهُ ... وَوَرِثْتَ جَدَّك أعْنُزًا بالطائفِ ثم سار ولحق بسليمان بن عبد الملك وهو ولي للعهد، فضمه إليه وجعله من خاصته. وروى صاحب الخزانة: "لبني الزمان الغابر"، وأما رواية جعفر"لبني أبان"، فإنه يعني عشيرته ورهطه، فإن جده هو"أبو العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار الثقفي". وقوله"وأبي الذي سلب ابن كسرى راية"، يعني أباه الحكم في فتح فارس، وإصطخر سنة 23 من الهجرة. (انظر تاريخ الطبري 5: 6/ وفتوح البلدان: 393، 394) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 552 كانت من الباقين قبلَ الهلاك، والمعمَّرين الذين قد أتى عليهم دهرٌ كبيرٌ ومرّ بهم زمن كثيرٌ، حتى هرِمت فيمن هرِم من الناس، فكانت ممن غبرَ الدهرَ الطويلَ قبل هلاك القوم، فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب. * * * وقيل: معنى ذلك: من الباقين في عذاب الله. * ذكر من قال ذلك: 14839- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) ، [سورةالشعراء: 171 /سورة الصافات: 135] ، في عذاب الله. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمطرنا على قوم لوط الذين كذبوا لوطًا ولم يؤمنوا به، مطرًا من حجارة من سجّيل أهلكناهم به= (فانظر كيف كان عاقبه المجرمين) ، يقول جل ثناؤه: فانظر، يا محمد، إلى عاقبة هؤلاء الذين كذبوا الله ورسوله من قوم لوط، فاجترموا معاصيَ الله، وركبوا الفواحش، واستحلوا ما حرم الله من أدبار الرجال، كيف كانت؟ وإلى أي شيء صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟ فإن ذلك أو نظيرَه من العقوبة، عاقبةُ من كذَّبك واستكبر عن الإيمان بالله وتصديقك إن لم يتوبوا، من قومك. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 553 القول في تأويل قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ولد مدين= و"مدين"، هم ولدُه مديان بن إبراهيم خليل الرحمن، (1) فيما:- 14840- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. * * * فإن كان الأمر كما قال: فـ"مدين"، قبيلة كَتميم. =وزعم أيضًا ابن إسحاق: أن شعيبًا الذي ذكر الله أنه أرسله إليهم، من ولد مدين هذا، وأنه"شعيب بن ميكيل بن يشجر"، قال: واسمه بالسريانية،"بثرون". (2) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام= على ما قاله ابن إسحاق: ولقد أرسلنا إلى ولد مدين، أخاهم شعيب بن ميكيل، يدعوهم إلى طاعة الله، والانتهاء إلى أمره، وترك السعي في الأرض بالفساد، والصدِّ عن سبيله، فقال لهم شعيب: يا قوم، اعبدوا الله وحده لا شريك له، ما لكم من إله يستوجب عليكم العبادة   (1) في المطبوعة: "مدين بن إبراهيم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري 1: 159. (2) (2) في المخطوطة: "يثروب"، غير منقوطة، بالباء، وهذه أسماء لا أستطيع الآن ضبطها، وانظر تاريخ الطبري 1: 167، والبداية والنهاية 1: 185. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 554 غير الإله الذي خلقكم، وبيده نفعكم وضركم= (قد جاءتكم بينة من ربكم) ، يقول: قد جاءتكم علامة وحجة من الله بحقيقة ما أقول، وصدق ما أدعوكم إليه (1) = (فأوفوا الكيل والميزان) ، يقول: أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به، وبالوزن الذي تزنون به (2) = (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول ولا تظلموا الناس حقوقهم، ولا تنقصوهم إياها. (3) =ومن ذلك قولهم:"تَحْسَبُها حَمْقَاءَ وهي بَاخِسَةٌ"، (4) بمعنى: ظالمة = ومنه قول الله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) ، [سورة يوسف: 20] ، يعني به: رديء. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14841- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم. 14842- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ،: قال: لا تظلموا الناس أشياءهم. * * * قوله: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ، يقول: ولا تعملوا في أرض   (1) انظر تفسير"بينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (2) انظر تفسير"إيفاء الكيل والميزان" فيما سلف ص224. (3) انظر تفسير"البخس" فيما سلف 6: 56. (4) هذا مثل، انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 83، 219، وأمثال الميداني 1: 108، وجمهرة الأمثال: 68، واللسان (بخس) ، وروايتهم: "وهي باخس"، بمعنى: ذات بخس، على النسب. يضرب المثل لمن يتباله وفيه دهاء. وذلك أن رجلا من بني العنبر بن عمرو بن تميم، حاورته امرأة فحسبها حمقاء، لا تعقل، ولا تحفظ مالها. فقال لها: ألا أخلط مالي ومالك؟ يريد أن يخلط ثم يقاسمها، فيأخذ الجيد ويدع لها الرديء. فلما فعل وجاء يقاسمها، نازعته، فلم يخلص منها حتى افتدى منها بما أرادت. فلما عوتب في اختداعه المرأة على ضعفها قال: "تحسبها حمقاء وهي باخس". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 555 الله بمعاصيه، وما كنتم تعملونه قبل أن يبعث الله إليكم نبيه، من عبادة غير الله، والإشراك به، وبخس الناس في الكيل والوزن (1) = (بعد إصلاحها) ، يقول: بعد أن قد أصلح الله الأرض بابتعاث النبي عليه السلام فيكم، ينهاكم عما لا يحل لكم، وما يكرهه الله لكم (2) = (ذلكم خير لكم) ، يقول: هذا الذي ذكرت لكم وأمرتكم به، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والوزن، وترك الفساد في الأرض، خيرٌ لكم في عاجل دنياكم وآجل آخرتكم عند الله يوم القيامة= (إن كنتم مؤمنين) ، يقول: إن كنتم مصدقيَّ فيما أقول لكم، وأؤدِّي إليكم عن الله من أمره ونهيه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) } قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، ولا تجلسوا بكل طريق = وهو"الصراط" = توعدون المؤمنين بالقتل. (3) * * * وكانوا، فيما ذكر، يقعدون على طريق من قصد شعيبًا وأراده ليؤمن به، فيتوعَّدونه ويخوِّفونه، ويقولون: إنه كذاب! * ذكر من قال ذلك: 14843- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،   (1) انظر تفسير"الإفساد في الأرض" فيما سلف ص542، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . (3) انظر تفسير"الصراط" فيما سلف 1: 170- 177، ثم فهارس اللغة (سرط) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 556 عن قتادة: (بكل صراط توعدون) ، قال: كانوا يوعدون مَنْ أتى شعيبًا وغشِيَه فأراد الإسلام. 14844- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، و"الصراط"، الطريق، يخوِّفون الناس أن يأتوا شعيبًا. 14845- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله) ، قال: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون مَنْ أتى عليهم: أن شعيبًا عليه السلام كذاب، فلا يفتنكم عن دينكم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (بكل صراط) ، قال: طريق= (توعدون) ، بكل سبيل حق. (1) 14846- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 14847- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، كانوا يقعدون على كل طريق يوعدون المؤمنين. 14848- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن السدي: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، قال: العشَّارُون. حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره= شك   (1) في المطبوعة: حذف"قال: طريق"، وغير سائر العبارة فكتب: "توعدون كل سبيل حق"، فأفسد الكلام إفسادًا!! والصواب من المخطوطة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 557 أبو جعفر الرازي = قال: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسْرِي به على خشبة على الطريق، لا يمرُّ بها ثوبٌ إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: ما هذا يا جبريل؟ ، قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه! ثم تلا (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون) . (1) * * * وهذا الخبر الذي ذكرناه عن أبي هريرة، يدلّ على أن معناه كان عند أبي هريرة: أن نبي الله شعيبًا إنما نهى قومه بقوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، عن قطع الطريق، وأنهم كانوا قُطَّاع الطريق. * * * وقيل: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، ولو قيل في غير القرآن:"لا تقعدوا في كلّ صراط"، كان جائزًا فصيحًا في الكلام، وإنما جاز ذلك لأن الطريق ليس بالمكان المعلوم، فجاز ذلك كما جاز أن يقال:"قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا". * * * وقال: (توعدون) ، ولم يقل:"تَعِدُون"، لأن العرب كذلك تفعل فيما أبهمت ولم تفصح به من الوعيد. تقول:"أوعدته" بالألف،"وتقدَّم مني إليه   (1) الأثر: 14853- هذا مختصر من أثر طويل، سيرويه أبو جعفر بهذا الإسناد في تفسير"سورة الإسراء" 15: 6 (بولاق) ، وسيأتي تخريجه هناك. و"أبو جعفر الرازي" و"الربيع بن أنس"، و"أبو العالية"، ثقات جميعًا، ومضوا في مواضع مختلفة. وهذا الخبر ذكره الهيثمي مطولا في مجمع الزوائد 1: 67- 72 وقال: "رواه البزار ورجاله موثقون، إلا أن الربيع بن أنس قال: عن أبي العالية أو غيره، فتابعيه مجهول". ولكن نص أبي جعفر هنا وهناك، يدل على أن أبا جعفر الرازي شك في أنه عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة، فلعل ما في رواية البزار مخالف لما في رواية أبي جعفر الطبري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4: 144 مطولا، ونسبه إلى البزار، وأبي يعلي، وابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 558 وعيد"، فإذا بينت عما أوعدت وأفصحت به، (1) قالت:"وعدته خيرًا"، و"وعدته شرًّا"، بغير ألف، كما قال جل ثناؤه: (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، [سورة الحج: 72] . * * * وأما قوله: (وتصدون عن سبيل الله من آمن به) ، فإنه يقول: وتردُّون عن طريق الله، وهو الردُّ عن الإيمان بالله والعمل بطاعته (2) = (من آمن به) ، يقول: تردُّون عن طريق الله مَنْ صدق بالله ووحّده= (وتبغونها عوجًا) ، يقول: وتلتمسون لمن سلك سبيل الله وآمن به وعمل بطاعته (3) = (عوجًا) ، عن القصد والحق، إلى الزيغ والضلال، (4) كما:- 14849- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتصدون عن سبيل الله) ، قال: أهلها= (وتبغونها عوجًا) ، تلتمسون لها الزيغ. 14850- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 14851- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وتبغونها عوجًا) ، قال: تبغون السبيل عن الحق عوجًا. 14852- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وتصدون عن سبيل الله) ، عن الإسلام= تبغون السبيل= (عوجًا) ، هلاكًا. * * *   (1) في المخطوطة: ((فإذا نصب عما أوعدت" غير منقوطة، ولم أحسن توجيه قراءتها، فتركت ما في المطبوعة على حاله، إذ كان صوابًا واضحًا. 1، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 385. (2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: 448، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"بغى" فيما سلف ص: 448، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"العوج" فيما سلف 7: 54/ 12: 448. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 559 وقوله: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) ، يذكرهم شعيب نعمة الله عندهم بأن كثّرَ جماعتهم بعد أن كانوا قليلا عددهم، وأنْ رَفعهم من الذلة والخساسة، يقول لهم: فاشكروا الله الذي أنعم عليكم بذلك، وأخلصوا له العبادة، واتقوا عقوبته بالطاعة، واحذروا نقمته بترك المعصية،= (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) ، يقول: وانظروا ما نزل بمن كان قبلكم من الأمم حين عتوا على ربهم وعصوا رسله، من المَثُلات والنقمات، وكيف وجدوا عقبى عصيانهم إياه؟ (1) ألم يُهلك بعضهم غرقًا بالطوفان، وبعضهم رجمًا بالحجارة، وبعضهم بالصيحة؟ * * * و"الإفساد"، في هذا الموضع، معناه: معصية الله. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) } قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (وإن كان طائفة منكم) ، وإن كانت جماعة منكم وفرقة (3) = (آمنوا) ، يقول: صدّقوا بالذي أرسلتُ به من إخلاص العبادة لله، وترك معاصيه، وظلم الناس، وبخسهم في المكاييل والموازين، فاتّبعوني على ذلك= (وطائفة لم يؤمنوا) ، يقول: وجماعة أخرى لم يصدِّقوا بذلك، ولم يتبعوني عليه= (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا) ، يقول: فاحتبسوا على قضاء   (1) انظر تفسير"العاقبة" فيما سلف 11: 272، 273/ 12: 129. (2) انظر تفسير"الإفساد" فيما سلف ص: 556، تعليق 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 6: 500/ 9: 141/ 12: 240. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 560 الله الفاصل بيننا وبينكم (1) = (وهو خير الحاكمين) ، يقول: والله خيرُ من يفصل وأعدل من يقضي، لأنه لا يقع في حكمه مَيْلٌ إلى أحدٍ، ولا محاباة لأحدٍ. * * *   (1) انظر تفسير"الصبر" فيما سلف 7: 508، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير"الحكم" فيما سلف 9: 175، 324، 462/ 11: 413. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 561 القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (قال الملأ الذين استكبروا) ، يعني بالملأ الجماعة من الرجال (1) = ويعني بالذين استكبروا، الذين تكبروا عن الإيمان بالله، والانتهاء إلى أمره، واتباع رسوله شعيب، لما حذرهم شعيبٌ بأسَ الله، على خلافهم أمرَ ربهم، وكفرهم به (2) = (لنخرجنك يا شعيب) ، ومن تبعك وصدقك وآمن بك، وبما جئت به معك= (من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) ، يقول: لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه (3) =قال شعيب مجيبًا لهم: (أولو كنا كارهين) . ومعنى الكلام: أن شعيبًا قال لقومه: أتخرجوننا من قريتكم، وتصدّوننا عن سبيل الله، ولو كنا كارهين لذلك؟ = ثم أدخلت"ألف" الاستفهام على"واو" "ولو". * * *   (1) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف ص: 542، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"استكبر" فيما سلف ص: 542، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الملة" فيما سلف ص: 282، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 561 القول في تأويل قوله: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم، والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه من قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: (قد افترينا على الله كذبًا) ، يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، (1) وتخرّصنا عليه من القول باطلا= إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه= وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها، ونترك الحق الذي نحن عليه= (إلا أن يشاء الله ربنا) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها، فيمضي فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا= (وسع ربنا كل شيء علما) ، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن. (2) فإن يكن سبق لنا في علمه أنّا نعود في ملتكم، ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن، (3) فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فإنا غير عائدين في ملّتكم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14853- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 481، تعليق: 6، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"وسع" فيما سلف ص: 207، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "فلا يخفى" بالفاء، ومثلها في المخطوطة غير منقوطة، والصواب بالواو. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 562 حدثنا أسباط، عن السدي: (قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذن نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، إلا أن يشاء الله ربنا، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئًا، فإنه وسع كل شيء علمًا. * * * وقوله: (على الله توكلنا) ، يقول: على الله نعتمد في أمورنا وإليه نستند فيما تعِدوننا به من شرِّكم، أيها القوم، فإنه الكافي من توكَّل عليه. (1) * * * ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه بالدعاء على قومه= إذ أيس من فلاحهم، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة، والإقرار له بالرسالة، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من فَسَقتهم العطبَ والهلكة= (2) بتعجيل النقمة، فقال: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، يقول: احكم بيننا وبينهم بحكمك الحقّ الذي لا جور فيه ولا حَيْف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق= (وأنت خير الفاتحين) ، يعني: خير الحاكمين. (3) * * * ذكر الفرَّاء أنّ أهلَ عُمان يسمون القاضي"الفاتح" و"الفتّاح". (4) وذكر غيره من أهل العلم بكلام العرب: أنه من لغة مراد، (5) وأنشد لبعضهم بيتًا وهو: (6)   (1) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف 7: 346/ 8: 566/ 10: 108، 184. (2) السياق: " ... بالدعاء على قومه ... بتعجيل النقمة". (3) انظر تفسير"الفتح" فيما سلف 2: 254/ 10: 405. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 385. (5) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 220، 221. (6) هو الأسعر الجعفي، أو محمد بن حمران بن أبي حمران. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 563 أَلا أَبْلِغْ بَني عُصْمٍ رَسُولا ... بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14854- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول:"تعالَ أفاتحك"، تعني: أقاضيك. 14855- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، يقول: اقض بيننا وبين قومنا. 14856- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا مسعر قال، سمعت قتادة يقول: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، حتى سمعت ابنةَ ذي يزن تقول:"تعالَ أفاتحك". 14857- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، أي: اقض بيننا وبين قومنا بالحق. 14858- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ،: اقض بيننا وبين قومنا بالحق. 14859- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، أما قوله: (افتح بيننا) ، فيقول: احكم بيننا.   (1) سلف البيت وتخريجه 2: 254، ولم أنسبه هناك إلى هذا الموضع من تفسير الطبري، فقيده، ويزاد أنه في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 220، 221، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"فإني عن فتاحتكم"، والصواب ما سلف، وما في المخطوطة هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 564 14860- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال الحسن البصري: افتح احكم بيننا وبين قومنا، و (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ، [الفتح: 1] حكمنا لك حكمًا مبينًا. 14861- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: "افتح"، اقض. 14862- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير قال، حدثنا مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس قال: لم أكن أدري ما (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها:"انطلق أُفاتحك". * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقالت الجماعة من كفرة رجال قوم شعيب= وهم"الملأ" (1) = الذين جحدوا آيات الله، وكذبوا رسوله، وتمادوا في غيِّهم، لآخرين منهم: لئن أنتم اتبعتم شُعَيبًا على ما يقول، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله، والانتهاء إلى أمره ونهيه، وأقررتم بنبوَّته= (إنكم إذًا لخاسرون) ، يقول: لمغبونون في فعلكم، وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون، إلى دينه الذي يدعوكم إليه= وهالِكُون بذلك من فعلكم. (2) * * *   (1) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف ص561، تعليق: 22 والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف ص: 481، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 565 القول في تأويل قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) } قال أبو جعفر: يقول: فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب، الرجفة. وقد بيّنت معنى"الرجفة" قبل، وأنها الزلزلة المحركة لعذاب الله. (1) * * * (فأصبحوا في دارهم جاثمين) ، على ركبهم، موتَى هلكى. (2) * * * وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به، كما:- 14863- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإلى مدين أخاهم شعيبًا) ، قال: إن الله بعث شعيبًا إلى مدين، وإلى أصحاب الأيكة = و"الأيكة"، هي الغيضة من الشجر = وكانوا مع كفرهم يبخَسون الكيل والميزان، فدعاهم فكذبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، وما ردُّوا عليه. فلما عتوا وكذبوه، سألوه العذابَ، ففتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فأهلكهم الحرّ منه، فلم ينفعهم ظلٌ ولا ماء. ثم إنه بعثَ سحابةً فيها ريحٌ طيبة، فوجدوا بَرْدَ الرّيح وطيبِها، فتنادوا: الظُّلّةَ، عليكم بها"! فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، انطبقت عليهم فأهلكتهم، فهو قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ، [سورة الشعراء: 189] . 14864- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان من خبر قصة شعيب وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن. كانوا أهلَ بخسٍ للناس في مكاييلهم وموازينهم، مع كفرهم بالله، وتكذيبهم نبيَّهم. وكان يدعوهم   (1) انظر تفسير"الرجفة" فيما سلف ص: 544، 545. (2) انظر تفسير"الجثوم" فيما سلف: ص: 545، 546. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 566 إلى الله وعبادته، وترك ظلم الناس وبخسهم في مكاييلهم وموازينهم، فقال نُصْحًا لهم، وكان صادقا: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، [هود: 88] . قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم= فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة= إذا ذكر شعيبًا قال:"ذاك خطيب الأنبياء"! لحسن مراجعته قومه فيما يرادُ بهم. فلما كذَّبوه وتوعَّدوه بالرَّجْم والنفي من بلادهم، وعتوا على الله، أخذهُم عذاب يوم الظُّلة، إنه كان عذاب يوم عظيم. فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له:" عمرو بن جلهاء، لما رآها قال: يَا قَوْم إنَّ شُعَيْبًا مُرْسَلٌ فَذَرُوا ... عنكم سُمَيْرًا وَعِمْرَانَ بْنَ شَدَّادِ إنِّي أَرَى غَبْيَةً يَا قَوْم قَدْ طَلَعَتْ ... تَدْعُو بِصَوْتٍ عَلَى صَمَّانَةِ الْوَادِي (1) وَإِنَّكمْ لَنْ تَرَوْا فِيهَا ضَحَاءَ غَدٍ ... إلا الرَّقِيمَ يُمَشِّي بَيْنَ أنْجَادِ (2) و"سمير" و"عمران"، كاهناهم= و"الرقيم"، كلبهم. (3) حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق (4) قال: فبلغني، والله أعلم، أنَّ الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم، ثم أنشأ لهم   (1) في المطبوعة: "إني أرى غيمة"، وهي كذلك في قصص الأنبياء، وفي المخطوطة ما أثبت، وهي في الدر المنثور"عينة" خطأ، صوابه ما أثبت. و"الغبية" (بفتح فسكون) : الدفعة الشديدة من المطر، وقيل: هي المطرة ليست بالكثيرة. وأراد بها هنا سحابة ذات غبية. و"الصمانة". و"الصمان"، أرض صلبة ذات حجارة إلى جنب رمل. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنكم إن تروا"، والصواب ما أثبت، وفي قصص الأنبياء: "فإنه لن يرى فيها"، وفي الدر المنثور: "فإنه لا يرى". وكان في المطبوعة: "ما فيها إلا الرقيم ... " زيادة مفسدة للوزن، ليست في المخطوطة، ولعلها من الطباعة. و"الأنجاد" جمع"نجد"، وهي الأرض المرتفعة. و"الضحاء" بفتح الضاد، ممدودًا، مثل"الضحى" (بضم الضاد) ، وهو إذا امتد النهار وقارب أن ينتصف. وكان في المطبوعة: "ضحاة غد". (3) الأثر: 14869- الدر المنثور 3: 103، وقصص الأنبياء للثعلبي: 144. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "أبو سحق"، وهو خطأ ظاهر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 567 الظُّلةَ كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدرُوها يستغيثون ببَرْدها مما هم فيه من الحر، حتى إذا دَخلوا تحتها، أطبقت عليهم، فهلكوا جميعًا، ونجى الله شعيبًا والذين آمنوا معه برحمته. 14865- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني أبو عبد الله البجلي قال:"أبو جاد" و"هوّز" و"حُطّي" و"كلمون" و"سعفص" و"قرشت"، أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب"كلمون"، فقالت أخت كلمون تبكيه: كَلَمُونٌ (1) هَدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ وَسْطَ المَحَلَّهْ سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ الْـ ... حَتْفُ نَارًا وَسْطَ ظُلَّةْ جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ، ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّةْ (2) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "كلمون"، هكذا، وفي التاريخ 1: 99، وسائر الكتب"كلمن"، فتركتها على حالها هنا. (2) الأثر: 14871-"أبو عبد الله البجلي"، لم أجد من يكنى بها، ولكن روى أبو جعفر في تاريخه مثل هذا الخبر، في ذكر هلاء الملوك (1: 99) ، وإسناد يفسر هذا الإسناد قال: "حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن يحيى بن العلاء، عن القاسم بن سلمان، عن الشعبي قال: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، كانوا ملوكًا جبابرة ... " و"يحيى بن العلاء البجلي"، كنيته"أبو سلمة"، ويقال"أبو عمرو". ولم أجد كنيته"أبو عبد الله"، ولكن ظاهر هذا الإسناد يرجح أن"أبا عبد الله البجلي"، هو نفسه"يحيى بن العلاء البجلي"، والله أعلم. و"يحيى بن العلاء البجلي"، قال أحمد: "كذاب يضع الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 4/ 2 / 297، وابن أبي حاتم 4 2/ 179. وهذا الخبر رواه البغوي (هامش تفسير ابن كثير 3: 520) ، وقصص الأنبياء للثعلبي: 144، عن أبي عبد الله البجلي، وفيها جميعًا"كلمن"، وزدت منها ما بين القوسين، ولكني كتبته كأخواته في المخطوطة. وروي في البغوي: "كلمن قد هد ركني"، وفي قصص الأنبياء: "كلمن أهدد ركني"، ولا أدري ما هذا!! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 568 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأهلك الذين كذبوا شعيبًا فلم يؤمنوا به، فأبادَهم، فصارت قريتهم منهم خاوية خلاءً= (كأن لم يغنوا فيها) ، يقول: كأن لم ينزلوا قطّ ولم يعيشوا بها حين هلكوا. * * * يقال:"غَنِيَ فلان بمكان كذا، فهو يَغْنَى به غِنًى وغُنِيًّا"، (1) إذا نزل به وكان به، كما قال الشاعر. (2) وَلَقَدْ يَغْنَى بِهَا جِيرَانُكِ الْ ... مُمْسِكُو مِنْكِ بِعَهْدٍ وَوِصَالِ (3)   (1) هذا المصدر الثاني"غنيا" ليس في شيء من مراجع اللغة، وضبطته بضم الغين وكسر النون وتشديد الياء، على زنة"فعول" وهكذا استظهرت. ولا أدري أيصح ذلك أم لا يصح. (2) هو عبيد بن الأبرص. (3) ديوانه: 58، مختارات ابن الشجري 2: 37، والخصائص لابن جني 2: 2455 والمنصف لابن جني 1: 66، والخزانة 3: 237، وهي القصيدة الفاخرة التي لم يتجشم فيها إلا ما في نهضته ووسعه، عن غير اغتصاب واستكراه أجاءه إليه، فقاد القصيدة كلها على أن آخر مصراع كل بيت منها منته إلى (ال) التعريف، كما قال ابن جني في الخصائص، أولها: يَا خَلِيلَيَّ اُرْبَعَا وَاُسْتَخْبِرَا الْـ ... مَنْزِلَ الدَّارِسَ مِنْ أهْلِ الحِلالِ مِثْلَ سَحْقِ البُرْدِ عَفَّى بَعْدَكِ الْ ... قَطْرُ مَغْنَاهُ، وَتَأَوِيبُ الشَّمَالِ وَلَقَدْ يَغْنَى بِه جِيرَانُكِ الْـ ... مُمْسِكُو مِنْكِ بِأَسْبَابِ الوِصَالِ واستمر بها على ذلك النهج. وكان في المطبوعة: "المستمسكو"، وهو تغيير لما في المخطوطة، وللرواية معًا. وقوله: "الممسكو" يعني"الممسكون"، فحذف النون لطول الاسم، لا للإضافة. وهكذا تفعل العرب أحيانا، كما قال الأنصاري: الْحَافِظُو عَوْرةَ العَشِيرَةِ لا ... يَأْتِيهِمُ مِنْ وَرَائِنَا نَطَفُ وقول الأخطل: أَبَنيِ كُلَيْبٍ، إِنْ عَمَّيَّ اللَّذَا ... قَتَلا المُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلالا انظر سيبويه 1: 95، والمنصف 1: 67. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 569 وقال رؤبة: وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعَا (1) إنما هو"مفعل" من"غني". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14866- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة. (كأن لم يغنوا فيها) ،: كأن لم يعيشوا، كأن لم ينعموا. 14867- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (كأن لم يغنوا فيها) ، يقول: كأن لم يعيشوا فيها. 14868- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، كأن لم يكونوا فيها قطُّ. * * * وقوله: (الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين) ، يقول تعالى ذكره: لم يكن الذين اتَّبعوا شعيبًا الخاسرين، بل الذين كذّبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين. (2) لأنه أخبر عنهم جل ثناؤه: أن الذين كذبوا شعيبًا قالوا للذين أرادُوا اتباعه: (لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون) ، فكذبهم الله بما أحلَّ بهم من عاجلِ نَكاله، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما خسر تُبَّاع شعيب، بل كانَ الذين كذبوا شعيبًا لما جاءت عقوبة الله، هم الخاسرين، دون الذين صدّقوا وآمنوا به. * * *   (1) ديوانه: 87، ومضى منها بيت فيما سلف 2: 540 في مديح قومه بني تميم، يقول: هَاجَتْ، وَمِثْلي نَوْلُهُ أَنْ يَرْبَعَا ... حَمَامَةٌ هَاجَتْ حَمَامًا سُجَّعَا أَبْكَتْ أَبَا الشَّعْثَاءِ وَالسَّمَيْدَعَا ... وعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بضَلْفَعَا بَادَتْ وَأَمْسَى خَيْمُها تَذَعْذَعَا و"أبو الشعثاء" يعني نفسه. و"ضلفع"، اسم موضع. (2) انظر تفسير"الخسران" فيما سلف ص: 565، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 570 القول في تأويل قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأدبر شعيب عنهم، شاخصًا من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله، (1) وقال لما أيقن بنزول نقمة الله بقومه الذين كذّبوه، حزنًا عليهم: (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) ، وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم، (2) من تحذيركم غضبَه على إقامتكم على الكفر به، وظلم الناس أشياءهم= (ونصحت لكم) ، بأمري إياكم بطاعة الله، ونهيكم عن معصيته- (فكيف آسى) ، يقول: فكيف أحزن على قوم جَحَدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله، وأتوجَّع لهلاكهم؟ (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك. 14869- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (فكيف آسى) ، يعني: فكيف أحزن؟ 14870- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فكيف آسى) ، يقول: فكيف أحزن؟ 14871- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:   (1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف ص: 546، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف ص: 547 تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الأسى" فيما سلف 10: 200، 475. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 571 أصاب شعيبًا على قومه حُزْن لما يرى بهم من نقمةِ الله، ثم قال يعزي نفسه، فيما ذكر الله عنه: (، يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) . * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، معرِّفَه سنّته في الأمم التي قد خَلَت من قبل أمته، ومذكّرَ من كفر به من قريش، لينزجروا عما كانوا عليه مقيمين من الشرك بالله، والتكذيب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلنا في قرية من نبي) ، قبلك= (إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) ، وهو البؤس وشَظَف المعيشة وضِيقها= و"الضراء"، وهي الضُّرُ وسوء الحال في أسباب دُنياهم= (لعلهم يضرعون) ، يقول: فعلنا ذلك ليتضرّعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه، وينيبوا، (1) بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائِهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك. 14872- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) ، يقول: بالفقر والجوع. * * *   (1) انظر تفسير"التضرع" فيما سلف 11: 345، 414/ 12: 485. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 572 وقد ذكرنا فيما مضى الشواهدَ على صحّة القول بما قلنا في معنى:"البأساء"، و"الضراء"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * وقيل:"يضرّعون"، والمعنى: يتضرعون، ولكن أدغمت"التاء" في"الضاد"، لتقارب مخرجهما. * * * القول في تأويل قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ثم بدلنا) أهلَ القرية التي أخذنا أهلها بالبأساء والضراء= (مكان السيئة) ، وهي البأساء والضراء. وإنما جعل ذلك"سيئة"، لأنه ممّا يسوء الناس= ولا تسوءهم"الحَسَنة"، وهي الرخاء والنعمة والسعة في المعيشة (2) = (حتى عفوا) ، يقول: حتى كَثرُوا. * * * وكذلك كل شيء كثر، فإنه يقال فيه:"قد عفا"، (3) كما قال الشاعر: (4) ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (5)   (1) انظر تفسير"البأساء" فيما سلف 3: 349- 353/ 4: 288/11: 354 = وتفسير"الضراء" فيما سلف 3: 349- 353/ 4: 288/ 7: 214/ 11: 355. (2) انظر تفسير"الضراء" فيما سلف قبل في التعليق السابق. = وتفسير"السراء" فيما سلف 7: 213. = وتفسير"السيئة" و"الحسنة"، فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) (حسن) . = وتفسير"مس" فيما سلف ص: 540، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"عفا" فيما سلف 3: 370/ 4: 343. (4) هو لبيد. (5) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 4: 343. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 573 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك. 14873- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (مكان السيئة الحسنة) ، قال: مكان الشدة رخاء= (حتى عفوا) . 14874- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (مكان السيئة الحسنة) ، قال:"السيئة"، الشر، و"الحسنة"، الرخاء والمالُ والولد. 14875- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (مكان السيئة الحسنة) ، قال:"السيئة"، الشر، و"الحسنة"، الخير. 14876- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) ، يقول: مكان الشدة الرَّخاء. 14877- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) ، قال: بدلنا مكان ما كرهوا ما أحبُّوا في الدنيا= (حتى عفوا) ، من ذلك العذاب= (وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء) . * * * واختلفوا في تأويل قوله: (حتى عفوا) . فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: 14878- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الجزء: 12 ¦ الصفحة: 574 معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (حتى عفوا) ، يقول: حتى كثروا وكثرت أموالهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (حتى عفوا) ، قال: جَمُّوا. (1) 14879- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (حتى عفوا) ، قال: كثرت أموالهم وأولادهم. 14880- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14881- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (حتى عفوا) ، حتى كثروا. 14882- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (حتى عفوا) ، قال: حتى جَمُّوا وكثروا. 14883- ... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (حتى عفوا) ، قال: حتى جَمُّوا. 14884- ... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (حتى عفوا) ، يعني: جَمُّوا وكثروا. 14885- ... قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن مجاهد: (حتى عفوا) ، قال: حتى كثرت أموالهم وأولادهم. حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حتى عفوا) ، كثروا كما يكثر النّبات والرّيش، (2) ثم أخذهم عند ذلك بغتة وهم لا يَشْعُرون. * * *   (1) "جم الشيء"، و"استجم"، كثر. و"مال جم"، كثيرة. (2) "الريش" (بكسر الراء) : المتاع والأموال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 575 وقال آخرون: معنى ذلك: حتى سُرُّوا. * ذكر من قال ذلك. 14886- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (حتى عفوا) ، يقول: حتى سُرُّوابذلك. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة في معنى:"عفوا"، تأويلٌ لا وجه له في كلام العرب. لأنه لا يعرف"العفو" بمعنى السرور،في شيء من كلامها، إلا أن يكون أراد: حتى سُرُّوا بكثرتهم وكثرةِ أموالهم، فيكون ذلك وجهًا، وإن بَعُد. * * * وأما قوله: (وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء) ، فإنه خبرٌ من الله عن هؤلاء القوم الذين أبدلهم مكان الحسنة السيئة التي كانوا فيها، استدراجًا وابتلاء، أنهم قالوا إذ فعل ذلك بهم: هذه أحوال قد أصابتْ مَنْ قبلنا من آبائنا، ونالت أسلافَنا، ونحن لا نعدُو أن نكون أمثالَهم يصيبنا ما أصابهم من الشدة في المعايش والرخاء فيها= وهي"السراء"، لأنها تَسرُّ أهلها. (1) وجهل المساكين شكرَ نعمة الله، وأغفلوا من جهلهم استدامةَ فضلهِ بالإنابة إلى طاعته، والمسارعة إلى الإقلاع عما يكرهه بالتوبة، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون. يقول جل جلاله: (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) ، يقول: فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة، أتاهم على غِرّة منهم بمجيئه، (2) وهم لا يدرون ولا يعلمون أنّه يجيئهم، بل هُم بأنه آتيهم مكذّبون حتى يعاينوه ويَرَوه. (3) * * *   (1) انظر تفسير"السراء" ومراجعه فيما سلف قريبًا ص: 573، تعليق: 1. (2) انظر تفسير"البغتة" فيما سلف 11: 325، 360، 368. (3) انظر تفسير"شعر" فيما سلف ص: 93، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 576 {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) } الجزء: 12 ¦ الصفحة: 577 (1) القول في تأويل قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفأمن، يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله، ويجحدون آياته، استدراجَ الله إيّاهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحّة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصَّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، (2) فإنّ مكر الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجًا، مع مقامهم على كفرهم، وإصرارهم على معصيتهم= (إلا القوم الخاسرون) وهم الهالكون. (3) * * * القول في تأويل قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) } قال أبو جعفر: يقول: أوَلم يَبن للّذين يُسْتخلفون في الأرض بعد هلاك آخرين قبلهم كانُوا أهلها، (4) فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم= (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) ، يقول: أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأخذناهم بذنوبهم، وعجّلنا لهم بأسَنا كما عجلناه لمن كان قبلهم ممن ورثوا عنه الأرض، فأهلكناهم بذنوبهم= (ونطبع على قلوبهم) ، (5) يقول:   (1) سقط تفسير هذه الآيات الثلاث من المطبوعة، ولم ينبه إليه الناشر. وهو ساقط أيضًا من المخطوطة، وقد ساق الكلام فيها متصلا ليس بينه بياض، فسها عن هذه الآيات الثلاث. والظاهر أن هذا نقص قديم، لا أدري أهو من الطبري نفسه، أم من ناسخ النسخة العتيقة التي نقلت عنها نسختنا، أم من ناسخ نسختنا التي بين أيدينا. والدليل على أنه خرم قديم، أني لم أجد أحدًا قط نقل شيئًا عن الطبري وأخباره في تفسير هذه الآية. لم يذكر ابن كثير شيئًا منسوبًا إلى ابن جرير، ولا السيوطي في الدر المنثور، ولا القرطبي، ولا أبو حيان، ولا أحد ممن هو مظنة أن ينقل عن أبي جعفر. فهذا يكاد يرجح أن جميع النسخ التي وقعت في أيديهم كان فيها هذا الخرم، ولكن لم ينبه أحد منهم إليه. ومن أجل ذلك وضعت الآيات وحدها، وتركت مكان الخرم بياضًا في هذه الصفحة والتي تليها. (2) انظر تفسير"المكر" فيما سلف ص: 95، 97 تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير"الخسران" فيما سلف ص: 570 تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (5) انظر تفسير"الطبع" فيما سلف 1: 258- 261/ 9: 364. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 578 ونختم على قلوبهم = فهم (لا يسمعون) ، موعظةً ولا تذكيرًا، سماعَ منتفع بهما. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك. 14887- حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو لم يهد) ، قال: يبيَّن. 14888- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14889- ... قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (أولم يهد) ، أولم يُبَيَّنْ. 14890- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) ، يقول: أو لم يتبين لهم. 14891- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) ، يقول: أولم يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها= هم المشركون. 14892- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) ، أولم نُبَيِّنْ لهم= (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) ، قال: و"الهدى"، البيان الذي بُعث هاديًا لهم، مبيِّنًا لهم حتى يعرفوا. لولا البيان لم يعرفُوا. * * * الجزء: 12 ¦ الصفحة: 580 القول في تأويل قوله: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذه القرى التي ذكرت لك، يا محمد، أمَرها وأمر أهلها= يعني: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب= "نقص عليك من أنبائها" فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها، وما كان من أمرهم وأمر رُسل الله التي أرسلت إليهم، (1) لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا، ويعلم مكذبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذَّب رسل الله، فيرتدعوا عن تكذيبك، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته= "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات"، يقول: ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها،= "رسلهم بالبينات"، يعني بالحجج: البينات (2) = "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل". * * * [ثم] اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (3) . فقال بعضهم: معناه: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك، (4) وذلك يوم أخذِ ميثاقهم   (1) انظر تفسير ((القصص)) فيما سلف 12: 406، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير ((النبأ)) فيما سلف 12: 287، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((البينات)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (3) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق. (4) في المطبوعة: ((بما كذبوا قبل ذلك)) ، وفي المخطوطة: ((بما يحدثوا قبل ذلك)) ، واستظهرت أن يكون الصواب ما أثبت، لقوله في الأثر الذي استدل به ((فآمنوا كرها)) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام. * ذكر من قال ذلك. 14901 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهًا. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل، بما سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم أخرجهم من صُلب آدم عليه السلام. * ذكر من قال ذلك: 14902 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل: قال: كان في علمه يوم أقرُّوا له بالميثاق. 14903 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال، يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء، ويدعوا علمَ ما أخفى الله عليهم، (1) فإن علمه نافذٌ فيما كان وفيما يكون، وفي ذلك قال: "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين"، قال: نفذ علمه فيهم، أيُّهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان آدم. وتصديق ذلك حيث قال لنوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، [هود: 48] ، وقال في ذلك: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) ، [الأنعام: 28] ، وفي ذلك قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء: 15] ،   (1) في المخطوطة: ((ولوا علم ما أخفي الله عليهم)) ، وكأن الصواب ما في المطبوعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 وفي ذلك قال: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، ولا حجة لأحد على الله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: "فما كانوا " لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله، "ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" هلاكهم، كما قال جل ثناؤه: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) . * ذكر من قال ذلك: 14904 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "بما كذبوا من قبل"، قال: كقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) . قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب، القولُ الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب والربيع. وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به، فلن يؤمن أبدًا، وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدًا، فأخبر جل ثناؤه عنهم، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه، قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم. ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين وَرِثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد أهلها، الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده= كان وجهًا ومذهبًا، غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن. * * * وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه: لو ردّوا ما كانوا ليؤمنوا= فتأويلٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا من خبر عن الرسول صحيح. وإذا كان ذلك كذلك، فأولى منه بالصواب ما كان عليه من ظاهر التنزيل دليل. * * * وأما قوله: "كذلك يطيع الله على قلوب الكافرين"، فإنه يقول تعالى ذكره: كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم، يا محمد، في هذه السورة، حتى جاءهم بأسُ الله فهلكوا به= "كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين"، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من قومك. (1) . * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك، يا محمد، نبأها= "من عهد"، يقول: من وفاء بما وصيناهم به، من توحيد الله، واتباع رسله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه، وهجر عبادة الأوثان والأصنام. * * * و"العهد"، هو الوصية، قد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2) . = "وإن وجدنا أكثرهم"، يقول: وما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم، تاركين عهده ووصيته.   (1) انظر تفسير الطبع فيما سلف 12: 579، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((العهد)) فيما سلف 1: 410، 557 / 2: 279 / 3: 20 - 24، 349 / 6: 526. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 وقد بينا معنى "الفسق"، قبل. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14905 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: "وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" قال: القرون الماضية. 14906 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد"، الآية، قال: القرون الماضية. و"عهده"، الذي أخذه من بني آدم في ظهر آدم ولم يفوا به. 14907 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام. 14908 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" وذلك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به. * * *   (1) انظر تفسير الفسق فيما سلف 12: 195 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، موسى بن عمران. * * * و"الهاء والميم" اللتان في قوله: "من بعدهم"، هي كناية ذكر الأنبياء عليهم السلام التي ذكرت من أول هذه السورة إلى هذا الموضع. * * * ="بآياتنا" يقول: بحججنا وأدلتنا (1) "إلى فرعون وملئه"، يعني: إلى جماعة فرعون من الرجال (2) = "فظلموا بها"، يقول: فكفروا بها. و"الهاء والألف" اللتان في قوله: "بها" عائدتان على "الآيات". ومعنى ذلك: فظلموا بآياتنا التي بعثنا بها موسى إليهم= وإنما جاز أن يقال: "فظلموا بها،" بمعنى: كفروا بها، لأن الظلم وَضْعُ الشيء في غير موضعه. وقد دللت فيما مضى على أن ذلك معناه، بما أغنى عن إعادته. (3) . * * * والكفر بآيات الله، وضع لها في غير موضعها، وصرف لها إلى غير وجهها الذي عُنِيت به= "فانظر كيف كان عاقبه المفسدين"، يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد، بعين قلبك، كيف كان عاقبة   (1) انظر تفسير ((الآية)) فيما سلف في فهارس اللغة (أيى) . (2) انظر تفسير ((الملأ)) فيما سلف 12: 565 تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض؟ (1) = يعني فرعون وملأه، إذ ظلموا بأيات الله التي جاءهم بها موسى عليه السلام، وكان عاقبتهم أنهم أغرقوا جميعًا في البحر. القول في تأويل قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) } قال أبوجعفر: يقول جل ثناؤه: وقال موسى لفرعون: يا فرعون إنّي رسول من رب العالمين. * * *   (1) انظر تفسير ((العاقبة)) فيما سلف 12: 560، تعليق 1، والمراجع هناك. = وتفسير ((الفساد)) فيما سلف 12: 560 تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 القول في تأويل قوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: "حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق". فقرأه جماعة من قراء المكيين والمدنيين والبصرة والكوفة: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ) ، بإرسال "الياء" من "على"، وترك تشديدها، بمعنى: أنا حقيقٌ بأن لا أقول على الله إلا الحق= فوجهوا معنى "على" إلى معنى "الباء" كما يقال: "رميت بالقوس" و"على القوس"، و"جئت على حال حسنة" و"بحال حسنة". (1) .   (1) انظر ما سلف 11: 317، تعليق: 1، ومعاني القرآن للفراء 1: 386. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: إذا قرئ ذلك كذلك، فمعناه: حريص على أن لا أقول، أو فحق أن لا أقول. (1) . * * * وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة: " حَقِيقٌ عَلَيَّ أَلا أَقُولَ"، بمعنى: واجب عليَّ أن لا أقول، وحق علي أن لا أقول. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصوابَ. * * * وقوله: "قد جئتكم ببينة من ربكم"، يقول: قال موسى لفرعون وملئه: قد جئتكم ببرهان من ربكم، يشهدُ، أيها القوم، على صحة ما أقول، (2) وصدق ما أذكر لكم من إرسال الله إياي إليكم رَسولا فأرسل يا فرعون معي بني إسرائيل. فقال له فرعون: "إن كنت جئت بآية"، يقول: بحجة وعلامة شاهدة على صدق ما تقول (3) = "فأت بها إن كنت من الصادقين". * * *   (1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 224، وكان في المطبوعة هنا: ((حريص على أن لا أقول إلا بحق)) ، وفي المخطوطة: ((حريص على أن لا أقول بحق لا أقول)) ، وكلتاهما خطأ، والصواب من مجاز القرآن، فهو نص كلامه. (2) انظر تفسير ((البينة)) فيما سلف 10: 242، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 القول في تأويل قوله: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فألقى موسى عصاه= "فإذا هي ثعبان مبين"، يعني حية= "مبين" يقول: تتبين لمن يراها أنها حية. (1) . * * * وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14909 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: تحولت حية عظيمة. وقال غيره: مثل المدينة. 14910 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فإذا هي ثعبان مبين"، يقول: فإذا هي حية كاد يَتَسوَّره= يعني: كاد يَثبُ عليه. (2) . 14911 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فإذا هي ثعبان مبين"، "والثعبان": الذكر من الحيات، فاتحةً فاها، واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، (3) ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رأها ذُعِر منها، ووثب فأحدث، ولم يكن   (1) انظر تفسير ((مبين)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (2) في المطبوعة: ((كادت)) بالتأنيث في الموضعين وأثبت ما في المخطوطة. وفي ((الحية)) ذكر وأنثى. (3) (اللحي)) بفتح اللام وسكون الحاء، وهما ((لحيان)) : وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 يُحْدِث قبل ذلك، وصاح: يا موسى، خذها وأنا مؤمن بك، وأرسل معك بنى إسرائيل! فأخذها موسى فعادت عصًا. 14912 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: ألقى العصا فصارت حية، فوضعت فُقْمًا لها أسفل القبة، وفُقْمًا لها أعلى القبة (1) = قال عبد الكريم، قال إبراهيم: وأشار سفيان بأصبعه الإبهام والسبابة هكذا: شِبْه الطاق (2) = فلما أرادت أن تأخذه، قال فرعون: يا موسى خذها! فأخذها موسى بيده، فعادت عصا كما كانت أول مرة. 14913 - حدثنا العباس بن الوليد قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ألقى عصاه فتحولت حيه عظيمة فاغرةً فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رأى فرعون أنها قاصدةٌ إليه، اقتحم عن سريره، (3) فاستغاث بموسى أن يكفَّها عنه، ففعل. 14914 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " ثعبان مبين" قال: الحية الذكر. 14915 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون: (4) أعرفك؟ قال: نعم! قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا؟ [سورة الشعراء: 18] . قال: فرد إليه موسى الذي ردَّ،   (1) ((الفقم)) (بضم فسكون) هو ((اللحي)) الذي فسرته قبل، وهما ((فقمان)) . (2) ((الطاق)) هو عقد البناء، وهو ما عطف من الأبنية كأنه القوس. (3) ((اقتحم عن سريره)) ، رمي بنفسه وسقط عن سريره. (4) في المطبوعة والمخطوطة: ((قال له موسي: أعرفك)) ، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه من تفسير ابن كثير 3: 527. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 فقال فرعون: خذوه! فبادره موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فحملت على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضُهم بعضًا، وقام فرعون منهزمًا حتى دخل البيتَ. 14916 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، [سورة طه: 20] ، (1) قال: ما بين لَحْيَيها أربعون ذراعًا. 14917 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك: "فإذا هي ثعبان مبين"، قال: الحية الذكر. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله: "ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"، فإنه يقول: وأخرج يده، فإذا هي بيضاء تلوح لمن نظر إليها من الناس. (2) . * * * وكان موسى، فيما ذكر لنا، آدمَ، فجعل الله تحوُّل يده بيضاء من غير برص، له آية، وعلى صدق قوله: "إني رسول من رب العالمين"، حجة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14918 - حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، قال: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء = يعني: من غير برص= ثم أعادها إلى كمّه، فعادت إلى لونها الأول. 14919 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((فألقي عصاه فإذا هي حية تسعي)) ليس هذا في شيء من التلاوة، والتلاوة ما أثبت. (2) انظر تفسير ((نزع)) فيما سلف 12: 437. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: "بيضاء للناظرين"، يقول: من غير برص. 14920 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"، قال: نزع يده من جيبه بيضاء من غير برص. 14921 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14922 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ونزع يده"، أخرجها من جيبه= "فإذا هي بيضاء للناظرين". 14923 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: "ونزع يده" قال: نزع يده من جيبه= "فإذا هي بيضاء للناظرين"، وكان موسى رجلا آدم، فأخرج يده، فإذا هي بيضاء، أشد بياضا اللبن= "من غير سوء"، قال: من غير برص، آيةً لفرعون. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الجماعة من رجال قوم فرعون والأشراف منهم (1) = "إن هذا"، يعنون موسى صلوات الله عليه = "لساحر   (1) انظر تفسير ((الملأ)) فيما سلف ص 12،، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 عليم"، يعنون: أنه يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم، حتى يخيل إليهم العصا حية، والآدم أبيض، والشيء بخلاف ما هو به. ومنه قيل: "سَحر المطرُ الأرضَ"، إذا جادها، فقطع نباتها من أصوله، وقلب الأرض ظهرًا لبطن، فهو يَسْحَرُها سَحْرًا"، و"الأرض مسحورة"، إذا أصابها ذلك. (1) فشبه "سحر الساحر" بذلك، لتخييله إلى من سحره أنه يرى الشيء بخلاف ما هو به، (2) ومنه قول ذي الرمة في صفة السراب: وَسَاحِرَةِ العُيُونِ مِنَ المَوَامِي تَرقَّصُ في نَوَاشِرِهَا الأرُومُ (3) . وقوله (عليم) يقول: ساحر عليم بالسحر (4) = "يريد أن يخرجكم من   (1) هذا البيان عن معنى ((سحر المطر الأرض)) ، جيد جداً، مبين عن معنى الكلمة، وهو أوضح مما جاء في كتب اللغة، فليقيد هذا هناك. (2) انظر تفسير ((السحر)) فيما سلف 2: 436 - 442 / 11: 265. (3) ديوانه: 591، واللسان (أرم) ، بهذه الرواية، أما رواية الديوان فهي: وَسَاحِرَةِ السَّرَابِ مِنَ المَوَامِي ... تَرَقَّصُ فِي عَسَاقِلِهَا الأُورُومُ تَمُوتُ قَطَا الفَلاةِ بِهَا أُوَامًا ... وَيَهْلِكُ فِي جَوَانِبِهَا النَّسِيمُ بِهَا غُدُرٌ، وَلَيْسَ بِهَا بَلالٌ ... وَأَشْبَاحٌ تَحُولُ وَلا تَرِيمُ وهذا شعر غاية! ، والرواية التي هنا هي رواية أبي عبيدة في مجاز القرآن. ورواية أبي عمرو بن العلاء: ((نواشرها)) . وكان في المطبوعة: ((نواشزها)) بالزاي، وهي في المخطوطة غير منقوطة. و ((الموامى)) جمع موماة، وهي المفازة الواسعة الملساء، لا ماء بها ولا أنيس. و ((العساقل)) جمع ((عسقلة)) ، و ((العساقيل)) جمع ((عسقول)) ، وهي قطع السراب التي تلمع وتتريع لعين الناظر. و ((الأوروم)) جمع إرم، وهي الأعلام، وقيل: هي قبور عاد وإرم. ورواية ديوانه ((وساجرة)) بالجيم، أي مملوءة من السراب. يصف السراب وهو يترجرج، فترى الحجارة والأعلام ترتفع فيه وتنخفض، وهو يتحرك بها. وأما رواية أبي جعفر ((ترقص في نواشرها)) ، فلم أجد له تفسيرًا عند أحد من شراح الشعر، أو في كتب اللغة. وظني أنه يعني به السراب كما قال ((في عساقلها)) ، وإنها من ((نشر الشيء)) بسطه ومده، وعنى به ما يمتد من السراب وينبسط؟ (4) انظر تفسير ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 أرضكم" أرض مصر، معشر القبط السحرة (1) = وقال فرعون للملأ "فماذا تأمرون" يقول: فأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره؟ بأي شيء تشيرون فيه؟ * * * وقيل: "فماذا تأمرون"، والخبر بذلك عن فرعون، ولم يذكر فرعون، وقلما يجيء مثل ذلك في الكلام، وذلك نظير قوله: (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، [يوسف: 51-52] . فقيل: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، من قول يوسف، ولم يذكر يوسف، ومن ذلك أن يقول: "قلت لزيد قم، فإنى قائم"، وهو يريد: "فقال زيد: إنّي قائم". (2) . * * * القول في تأويل قوله: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره. قال الملأ من قوم فرعون لفرعون: أرجئه: أي أخِّره. * * * وقال بعضهم: معناه: احبس. * * * والإرجاء في كلام العرب التأخير. يقال منه: "أرجيت هذا الأمر"،   (1) هكذا في المخطوطة مضبوطة بشدة على السين: ((السحرة)) ولو قرئت ((بسحره)) ، لكان صواب جيداً. (2) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 387 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 و"أرجأته"، إذا أخرته. ومنه قول الله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) ، [سورة الأحزاب: 51] تؤخر، فالهمز من كلام بعض قبائل قيس، يقولون: "أرجأت هذا الأمر"، وترك الهمز من لغة تميم وأسد، يقولون: "أرجيته". (1) . * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض العراقيين: "أَرْجِهِ" بغير الهمز وبجرّ الهاء. وقرأه بعض قرأة الكوفيين: "أَرْجِهْ" بترك الهمز وتسكين "الهاء"، على لغة من يقف على الهاء في المكنيِّ في الوصل، (2) إذا تحرك ما قبلها، كما قال الراجز: (3) أَنْحَى عَلَيَّ الدَّهْرُ رِجْلا وَيَدَا يُقْسِمُ لا يُصْلِحُ إلا أَفْسَدَا فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهُ غَدَا (4) وقد يفعلون مثل هذا بهاء التأنيث، فيقولون: "هذه طلحَهْ قد أقبلت"، كما قال الراجز: (5) لَمَّا رأَى أنْ لا دَعَهْ وَلا شِبَعْ مَالَ إلَى أَرْطَأةِ حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ (6)   (1) تفصيل اللغات ونسبتها إلى قبائلها، ليس في شيء من معاجم اللغة، فهي زيادة تقيد في مكانها هناك. (2) ((المكنى)) ، الضمير. (3) هو دويد بن زيد بن نهد القضاعى، وهو أحد المعمرين. (4) طبقات فحول الشعراء: 28، والمعمرين: 20، وأما لى الشريف 1: 137، والشعر والشعراء: 51 والمؤتلف والمختلف: 114، وشرح شواهد الشافية: 274؛ وغيرها كثير، وهو من قديم الشعر، كما قال ابن سلام. ورواية هذه الأبيات تختلف اختلافا كبيرا في المراجع جميعا كما أشرت إليه في شرح طبقات ابن سلام. وكان في المطبوعة ((ألحى على الدهر)) ، و ((فقسمه لا نصلح)) ، وهذا خطأ فاسد صوابه في المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء. (5) يقال هو: منظور بن حبة الأسدي. (6) معاني القرآن للفراء 1: 388، إصلاح المنطق: 108، وتهذيب إصلاح المنطق 1: 167، وشرح شواهد الشافية: 274 - 276، 480، يصف ظبيا، ويقول قبله: يَا رَبُّ أَبَّازٍ مِنَ العُفْرِ صَدَعْ ... تَقَبَّضَ الذّئْبُ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعْ قال التبريزى في شرحها: ((يصف ظبياً. والأباز: الذي يقفز. والعفر من الظباء: التي تعلو ألوانها حمرة. وتقبض: أي أنه جمع قوائمه ليثبت على الظبى. لما رأي أن أن لا دعه، يعني الذئب، لما رأي أنه لا يشبع من الظبى ولا يدركه، وأنه قد تعب في طلبه. مال إلى أرطاة فاضطجع عندها. والأرطى: ضرب من شجر الرمل، واحدته أرطاة. والحقف: المعوج من الرمل)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 وقراه بعض البصريين: "أَرْجِئْهُ" بالهمز وضم "الهاء"، على لغة من ذكرت من قيس. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، أشهرها وأفصحها في كلام العرب، وذلك ترك الهمز وجرُّ "الهاء"، وإن كانت الأخرى جائزة، غير أن الذي اخترنا أفصح اللغات وأكثرها على ألسن فصحاء العرب. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "أرجه" فقال بعضهم: معناه: أخره. * ذكر من قال ذلك: 14924 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله: "أرجه وأخاه" قال: أخِّره. * * * وقال آخرون. معناه احبسه. * ذكر من قال ذلك: 14925 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "أرجه وأخاه"، أي: أحبسه وأخاه. * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 وأما قوله: "وأرسل في المدائن حاشرين" يقول: من يحشرُ السحرة فيجمعهم إليك. (1) . * * * وقيل: هم الشُّرَط. * ذكر من قال ذلك: 14926 - حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن ابن عباس: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط. 14927 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط. 14928 - قال: حدثنا حميد، عن قيس، عن السدي: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط. 14929 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: "في المدائن حاشرين"، قال: الشرط. 14930 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط. * * *   (1) انظر تفسير "الحشر" فيما سلف 12: 115، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 القول في تأويل قوله: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشورة الملأ من قوم فرعون على فرعون، أن يرسل في المدائن حاشرين يحشرون كل ساحر عليم. * * * =وفي الكلام محذوف، اكتفى بدلالة الظاهر من إظهاره، وهو: فأرسل في المدائن حاشرين، يحشرون السحرة. * * * ="فجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرًا" يقول: إن لنا لثوابًا على غلبتنا موسى عندك (1) = "إن كنا"، يا فرعون، "نحن الغالبين". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14931 - حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "فأرسل في المدائن حاشرين"، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعملُ هذا الساحر؟ (2) قالوا: يعمل بالحيات. قالوا: والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر والحيات والحبال والعصي أعلم منا، فما أجرنا إن غلبنا؟ فقال لهم: أنتم قرابتي وحامَّتي، (3) وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم. 14932 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان،   (1) انظر تفسير ((الأجر)) فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) . (2) في المطبوعة: ((بم يعمل)) وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضاً. (3) في المطبوعة: ((وحاميتى)) ، والصواب في المخطوطة. و ((الحامة)) و ((الحميم)) خاصة الرجل من أهله وولده وذوى قرابته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 قال: حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال فرعون: لا نغالبه = يعني موسى = إلا بمن هو منه، فأعدّ علماء من بني إسرائيل، فبعث بهم إلى قرية بمصر يقال لها: "الفرما"، يعلمونهم السحر كما يعلم الصبيان الكِتَاب في الكتّاب. قال: فعلموهم سحرًا كثيرًا. قال: وواعد موسى فرعون موعدًا، فلما كان في ذلك الموعد، بعث فرعون، فجاء بهم وجاء بمعلمهم معهم، فقال له: ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم من السحر سحرًا لا يطيقه سحر أهل الأرض، إلا أن يكون أمرًا من السماء، فإنه لا طاقة لهم به، فأما سحر أهل الأرض، فإنه لن يغلبهم. فلما جاءت السحرة قالوا لفرعون: أئن لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم إذًا لمن المقربين. (1) 14933 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فأرسل فرعون في المدائن حاشرين"، فحشروا عليه السحرة= "فلما جاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين" يقول: عطية تعطينا= "إن كنا نحن الغالبين* قال نعم وإنكم لمن المقربين". 14934 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين* يأتوك بكل ساحر عليم"، أي كاثره بالسحرة، لعلك أن تجد في السحرة من يأتي بمثل ما جاء به. وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم. (2) وبعث فرعون في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحرًا إلا أتي به. فذكر لي، والله أعلم، أنه جمع له خمسة عشر ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه، أمرهم أمره، وقال لهم: قد جاءنا ساحرٌ ما رأينا مثله قط، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم، وقرَّبتكم على أهل مملكتي!   (1) هكذا جاءت في المخطوطة. كما كتبتها، لم يذكر لفظ الآية كما هو في التلاوة. (2) في المطبوعة: ((من سلطانه)) ، وكان في المخطوطة: ((من سلطان وبعث فرعون)) ، أسقط من الكلام ما أثبته من تاريخ الطبري 1: 210. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 قالوا: وإن لنا ذلك إن غلبناه؟ قال: نعم!. (1) . 14935 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة قال: السحرة كانوا سبعين= قال أبو جعفر: أحسبه أنه قال: ألفًا. (2) 14936 - قال: حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن ابن المنذر، قال: كان السحرة ثمانين ألفا. 14937 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن خيثمة، عن أبي سودة، عن كعب قال: كان سحرة فرعون اثني عشر ألفًا. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال فرعون للسحرة، إذ قالوا له: إن لنا عندك ثوابًا إن نحن غلبنا موسى؟ قال: نعم، لكم ذلك، وإنكم لممن أقرِّبه وأدْنيه مني= "قالوا يا موسى" يقول: قالت السحرة لموسى: يا موسى، اختر أن تلقي عصاك، أو نلقي نحن عصينا. ولذلك أدخلت "أن" مع "إما" في الكلام، لأنها في موضع أمر بالاختيار. ف"أن" إذًا في موضع نصب لما وصفت من المعنى، لأن معنى الكلام: اختر أن تلقي أنت، أو نلقي نحن، والكلام مع "إما" إذا كان على وجه الأمر، فلا بد   (1) الأثر: 14934 - هذا جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر؛ بإسناده هذا في تاريخه 1: 210. (2) يعني "سبعين ألفًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 من أن يكون فيه "أن"، كقولك للرجل: إما أن تمضي، وإما أن تقعد"، بمعنى الأمر: امض أو اقعد، فإذا كان على وجه الخبر، لم يكن فيه "أن" كقوله: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 106] . وهذا هو الذي يسمى "التخيير" (1) = وكذلك كل ما كان على وجه الخبر، و"إما" في جميع ذلك مكسورة. (2) . * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة: (ألقوا) ما أنتم ملقون! فألقت السحرة ما معهم، فلما ألقوا ذلك= "سحروا أعين الناس"، خيلوا إلى أعين الناس بما أحدثوا من التخييل والخُدَع أنها تسعى (3) "واسترهبوهم"، يقول: واسترهبوا الناس بما سحروا في أعينهم، حتى خافوا من العصيّ والحبال، ظنًّا منهم أنها حيات= "وجاؤوا" كما قال الله، = "بسحر عظيم"، بتخييل عظيم كبير، من التخييل والخداع (4) . وذلك كالذي: - 14938 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون! فألقوا حبالهم وعصيهم!   (1) قوله: ((وهذا الذي سيمى التخيير)) ، هو الحكم الأول في دخول ((أن)) مع ((إما)) ، أما الذي يجئ على وجه الخبر نحو: ((إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم)) ، فهم يسمونه ((الإبهام)) . وكان حق أبي جعفر أن يقدم قوله ((وهذا الذي يسمى التخيير)) قبل قوله: ((فإذا كان على وجه الخبر)) ، لرفع الشبهة عن كلامه. (2) انظر معاني القرآن 1: 389، 390، وهو فصل جيد جداً. (3) انظر تفسير ((السحر) 9 فيما سلف ص: 19، تعليق 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((السحر) 9 فيما سلف ص: 19، تعليق 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم رجل إلا معه حبل وعصا= "فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم" يقول: فرَّقوهم، (1) فأوجس في نفسه خيفة موسى. 14939 - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ألقوا حبالا غلاظًا طوالا وخشبًا طوالا قال: فأقبلت يخيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى. 14940 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: صفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه. وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمعَ، وفرعونُ في مجلسه مع أشراف مملكته، ثم قالت السحرة: (يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه: 65-66] . (2) . فكان أوّل ما اختطفوا بسحرهم بصرَ موسى وبصرَ فرعون، ثم أبصارَ الناس بعدُ. ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصىّ والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال، (3) قد ملأت الوادي يركبُ بعضها بعضًا= (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) ، [طه: 67] ، وقال: والله إن كانت لعصيًّا في أيديهم، ولقد عادت حيات! وما تعدو عصايَ هذه! (4) أو كما حدّث نفسه. (5) . 14941 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، وألقوا سبعينَ ألف حبل، وسبعين ألف عصًا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.   (1) ((فرقوهم)) (بتشديد الراء) ، أدخلوا عليهم الفرق (بفتح الفاء والراء) ، وهو الفزع. (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((كأمثال الحبال)) بالحاء، والصواب من التاريخ. (3) في المطبوعة والمخطوطة: ((كأمثال الحبال)) بالحاء، والصواب من التاريخ. (4) في المطبوعة والمخطوطة: ((وما تعدوا هذه)) بإسقاط ((عصأي)) ، أثبتها من التاريخ. (5) الأثر: 14940 - وهو جزء من أثر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 210، 211، وهو تابع للأثر السالف رقم 14934، وبينهما فصل من كلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 القول في تأويل قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) } يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك، فألقاها فاذا هي تلقم وتبتلع ما يسحرون كذبًا وباطلا. * * * يقال منه: لقفت الشيء فأنا ألقُفُه لَقْفًا ولَقَفَانًا. (1) . * * * =وذلك كالذي:- 14942 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك"، فألقى موسى عصاه، فتحولت حية، فأكلت سحرهم كله. 14943 - حدثنا عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون= لا تمر بشيء من حبالهم وخُشُبهم التي ألقوها إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمرٌ من السماء، وليس هذا بسحر، فخرُّوا سجَّدًا وقالوا: آمنا بربّ العالمين* رب موسى وهارون. (2) .   (1) انظر معاني القرآن للفراء: 390. (2) هذا تضمين آية "سورة طه": 70. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 14944 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أوحى الله إلى موسى: لا تخف، وألق ما في يمينك تلقف ما يأفكون. فألقى عصاه، فأكلت كل حية لهم. فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون. 14945 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أوحى الله إليه: أن ألق ما في يمينك! فألقى عصاه من يده، فاستعرضَت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها، تبتلعها، حية حية، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوه. ثم أخذها موسى، فإذا هى عصاه في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدًا قالوا: "آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. لو كان هذا سحرا ما غلبنا"! (1) . 14946 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: أوحى الله إليه: أن ألق عصاك! فألقى عصاه، فاذا هي ثعبان فاغرٌ فاه، فابتلع حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجّدًا، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنارَ وثوابَ هلهما. (2) . 14947 - (3) حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "يأفكون" قال: يكذبون. 14948 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "فإذا هي تلقف ما يأفكون"، قال: يكذبون. 14949 - حدثنا إبراهيم بن المستمر قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا قرة بن خالد السدوسي، عن الحسن: "تلفق ما يأفكون"، قال: حيالهم وعصيهم، تسترطها استراطا. (4) .   (1) الأثر: 14945 - جزء من خبر أبي جعفر في تاريخه 1: 210، 211، وهو تابع للأثر السالف رقم 14940. (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((وثواب أهلها)) ، والسياق يقتضي ما أثبت. (3) أخشى أن يكون سقط قبل هذه الآثار تفسير ((الإفك)) بمعنى الكذب، ولذلك فصلتها عن الآثار التي قبلها. (4) الأثر: 14949 - ((إبراهيم بن المستمر الهذلى الناجى العروقى)) ، ثقة.روى عن أبيه ((المستمر)) ، وعن حيان بن هلال، وأبي داود الطيالسي، وأبي عاصم النبيل، وغيرهم. روى عنه الأربعة، وابن خزيمة، وأبو حاتم مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/140. و ((عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدى)) مضى برقم 5458، 8332. و ((سرط الطعام)) ، و ((استرطه)) ، إذا ازدرده، وابتلعه ابتلاعاً سهلا سريعا ً لا غصة فيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 القول في تأويل قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فظهر الحق وتبين لمن شهده وحضره في أمر موسى، وأنه لله رسول يدعو إلى الحق= "وبطل ما كانوا يعملون"، من إفك السحر وكذبه ومخايله. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14950 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "فوقع الحق"، قال: ظهر. 14951 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد في قوله: "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون"، قال: ظهر الحق، وذهب الإفك الذي كانوا يعملون. 14952 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: "فوقع الحق"، قال: ظهر الحق. 14953 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فوقع الحق"، ظهر موسى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 القول في تأويل قوله: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغلب موسى فرعون وجموعه= "هنالك"، عند ذلك= "وانقلبوا صاغرين"، يقول: وانصرفوا عن موطنهم ذلك بصغر مقهورين. (1) . يقال منه: "صغِرَ الرجل يصْغَر صَغَرًا وصُغْرًا وصَغارًا. (2) القول في تأويل قوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) } * * *   (1) انظر تفسير ((انقلب)) فيما سلف 3: 163 / 7: 414 / 10: 170. (2) انظر تفسير ((صغر)) فيما سلف 112: 96، 330. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 القول في تأويل قوله: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقي السحرة عندما عاينوا من عظيم قدرة الله، ساقطين على وجوههم سجَّدًا لربهم، (1) يقولون: "آمنا برب العالمين"، يقولون: صدقنا بما جاءنا به موسى، وأنّ الذي علينا عبادته، هو الذي يملك الجنّ والإنس وجميع الأشياء، وغير ذلك، (2) ويدبر ذلك كله= "رب موسى وهارون"، لا فرعون، كالذي:- 14954 - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما رأت السحرة ما رأت، عرفت أن ذلك أمر من السماء وليس بسحر، فخروا سجدًا، (3) وقالوا: "آمنا برب العالمين* رب موسى وهارون". * * *   (1) انظر تفسير ((سجد)) فيما سلف من فهارس اللغة (سجد) . (2) انظر تفسير ((العالمين)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . (3) في المطبوعة: ((خروا)) بغير فاء، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 القول في تأويل قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله= يعني صدّقوا رسوله موسى عليه السلام، لما عاينوا من عظيم قدرة الله وسلطانه: "آمنتم به"، يقول: أصدقتم بموسى وأقررتم بنبوّته= "قبل أن آذن لكم"، بالإيمان به= "إن هذا"، يقول: تصديقكم إياه، وإقراركم بنبوّته= "لمكر مكرتموه في المدينة"، يقول لخدعة خدعتم بها من في مدينتنا، (1) لتخرجوهم منها= "فسوف تعلمون"، ما أفعل بكم، وما تلقون من عقابي إياكم على صنيعكم هذا. * * * وكان مكرهم ذلك فيما:- 14955 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، في حديث ذكره، عن أبي مالك= وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: التقى موسى وأميرُ السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي، وتشهد أنّ ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غدًا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك، ولأشهدن أنك حق! وفرعون ينظر إليهم، فهو قول فرعون: "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة"، إذ التقيتما لتتظاهرا فتخرجا منها أهلها. (2) . * * *   (1) انظر ((المكر)) فيما سلف 12: 95، 97: 597. (2) الأثر: 14955 - هذا جزء من خبر طويل، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 213. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 القول في تأويل قوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله وصدقوا رسوله موسى: "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف"، وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فيخالف بين العضوين في القَطْع، فمخالفته في ذلك بينهما هو "القطع من خلاف". (1) . * * * ويقال: إن أوّل من سن هذا القطع فرعون= "ثم لأصلبنكم أجمعين"، وإنما قال هذا فرعون، لما رأى من خذلان الله إياه، وغلبة موسى عليه السلام وقهره له. 14956 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري وحبوية الرازي، عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين"، قال: أوّل من صلّب، وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون. (2) . * * *   (1) انظر تفسير ((القطع من خلاف)) فيما سلف 10: 268. (2) الأثر 14956 - ((حبوية الرازي)) ، هو ((إسحق بن إسماعيل الرازي)) ، ((أبو يزيد)) ، مضى برقم: 14365، 14550. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 القول في تأويل قوله: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال السحرة مجيبة لفرعون، إذ توعَّدهم بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، والصلب: "إنا إلى ربّنا منقلبون" يعني بالانقلاب إلى الله، الرجوع إليه والمصير (1) = وقوله: "وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا"، يقول: ما تنكر منا، يا فرعون، وما تجد علينا، إلا من أجل أن آمنا، أي = صدقنا (2) "بآيات ربنا"، يقول: بحجج ربّنا وأعلامه وأدلته التي لا يقدر على مثلها أنت ولا أحد، سوى الله، الذي له ملك السموات والأرض. (3) . ثم فزعوا إلى الله بمسألته الصبرَ على عذاب فرعون، وقبض أرواحهم على الإسلام فقالوا: (ربنا أفرغ علينا صبرًا) ، يعنون بقولهم: "أفرغ"، أنزل علينا حَبْسًا يحبسنا عن الكفر بك، (4) عند تعذيب فرعون إيانا= (وتوفنا مسلمين) ، يقول: واقبضنا إليك على الإسلام دين خليلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لا على الشرك بك (5) . 14957 - فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) ، فقتلهم   (1) انظر تفسير ((الانقلاب)) فيما سلف ص: 32، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((نقم)) فيما سلف 10: 433. (3) انظر تفسير ((الآية فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) . (4) انظر تفسير ((أفرغ علينا صبرًا)) فيما سلف 5: 354. وتفسير = ((الصبر)) فيما سلف 12: 561، تعليق: 1، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير ((توفاه)) فيما سلف 12: 415، تعليق 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 وصلبهم، كما قال عبد الله بن عباس، حين قالوا: (ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفّنا مسلمين) . قال: كانوا في أول النهار سحرة، وفى آخر النهار شهداء. 14958 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد بن عمير قال: كانت السحرة أول النهار سحرة، وآخر النهار شهداء. 14959 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وألقي السحرة ساجدين) ، قال: ذكر لنا أنهم كانوا في أوّل النهار سحرة، وآخره شهداء. 14960 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين) ، قال: كانوا أوّل النهار سحرة، وآخره شهداء. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون (1) أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل (2) = "ليفسدوا في الأرض"، يقول: كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر (3) = (ويذرك وآلهتك) ،   (1) انظر تفسير ((الملأ)) فيما سلف ص 18، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((يذر)) فيما سلف 12: 136، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((الفساد في الأرض)) فيما سلف ص: 13، تعلق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 يقول: "ويذرك"، ويدع خِدْمتك موسى وعبادتك وعبادة آلهتك. * * * وفي قوله: (ويذرك وآلهتك) ، وجهان من التأويل. أحدهما: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك= وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل، كان النصبُ في قوله: (ويذرك) ، على الصرف، (1) لا على العطف به على قوله: "ليفسدوا". والثاني: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وليذرك وآلهتك = كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين. وإذا وجِّه الكلام إلى هذا الوجه، كان نصب: (ويذرك) على العطف على (ليفسدوا) . قال أبو جعفر: والوجه الأول أولى الوجهين بالصواب، وهو أن يكون نصب (ويذرك) على الصرف، لأن التأويل من أهل التأويل به جاء. * * * وبعدُ، فإن في قراءة أبيّ بن كعب الذي:- 14961 - حدثنا أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج عن هارون قال، في حرف أبي بن كعب: (وقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ وآلِهَتَكَ) . (2) * * * دلالةً واضحةً على أن نصب ذلك على الصرف. * * * وقد روي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) ، عطفًا بقوله: (ويذرك) على قوله: (أتذر موسى) .   (1) ((الصرف)) ، مضى تفسيره في 7: 247، تعليق: 2، والمراجع هناك. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 391. (2) انظر أيضاً معاني القرآن للفراء 1: 391. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 = كأنه وجَّه تأويله إلى: أتذر موسى وقومه، ويذرك وآلهتك، ليفسدوا في الأرض. وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وهو يذرك وآلهتك؟ = فيكون "يذرك" مرفوعًا بابتداء الكلام والسلامة من الحوادث. (1) * * * وأما قوله: (وآلهتك) ، فإن قرأة الأمصار على فتح "الألف" منها ومدِّها، بمعنى: وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها. * * * وقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: كان له بقرة يعبدها. * * * وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ) بكسر الألف بمعنى: ويذرك وعبودتك. (2) * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها، هي القراءة التي عليها قرأة الأمصار، لإجماع الحجة من القرأة عليها. * * * * ذكر من قال: كان فرعون يعبد آلهة = على قراءة من قرأ: (ويذرك وآلهتك) . 14962 - حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ويذرك وآلهتك) ، وآلهته فيما زعم ابن عباس، كانت البقر،   (1) في المطبوعة، حذف قوله: ((والسلامة من الحوادث)) ، كأنه لم يفهمها، وإنما أراد سلامته من العوامل التي ترفعه أو تنصبه أو تجره. وفي المخطوطة: ((إلى ابتداء الكلام)) ، وفي المطبوعة: ((على إبتدا الكلام)) ، والأجود ما أثبت. (2) انظر ما سلف 1: 123، 124، وفي تفسير ((الإلاهة)) ، وخبرا ابن عباس ومجاهد بإسنادهما، وسيأتي برقم: 14966 - 14971. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عِجْلا وبقرة. 14963 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن عمرو، عن الحسن قال: كان لفرعون جمانة معلقة في نحره، يعبدها ويسجد لها. 14964 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا أبان بن خالد قال، سمعت الحسن يقول: بلغني أن فرعون كان يعبدُ إلهًا في السر، وقرأ: "ويذرك والهتك ". 14965 - حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن أبي بكر، عن الحسن قال: كان لفرعون إله يعبده في السر. * * * * ذكر من قال: معنى ذلك: ويذرك وعبادتك، على قراءة من قرأ: (وَإَلاهَتَكَ) . 14966 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ) قال: إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد. (1) 14967 - . . . قال، حدثنا أبي، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قرأ، (ويَذَرَكَ وإِلاهَتَكَ) قال: وعبادتك، ويقول: إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبُد. (2) 14968 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) الأثر: 14966 - ((محمد بن عمرو بن الحسن بن على بن أبي طالب)) تابعي ثقة، مضى برقم: 2892، 2892 م. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: ((محمد بن عمرو، عن الحسن)) ، وهو خطأ. وقد مضى الخبر على الصواب بهذا الإسناد فيما سلف رقم: 143، وسيأتيعلى الصواب برقم 19471. (2) الأثر: 14967 - ((نافع بن عمر)) ، مضى مرارًا، وكان في المخطوطة والمطبوعة ((عن نافع، عن ابن عم)) ، وهو خطأ، والصواب كما مضى برقم: 142 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ) ، قال: يترك عبادتك. 14969 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: (وَإِلاهَتَكَ) ، يقول: وعبادتك. 14970 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ) ، قال: عبادتك. 14971 - حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن حسين، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ) ، وقال: إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد. (1) * * * وقد زعم بعضهم: أن من قرأ: "وَإِلاهَتَكَ"، إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ: (وآلِهَتَكَ) ، غير أنه أنّث وهو يريد إلهًا واحدًا، كأنه يريد: ويذرك وإلاهك = ثم أنث "الإله" فقال: "وإلاهتك". * * * وذكر بعض البصريين أن أعرابيًّا سئل عن "الإلاهة" فقال: "هي عَلَمة" يريد علمًا، فأنث "العلم"، فكأنه شيء نصب للعبادة يعبد. وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي: (2) تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّعْبَاء قَصْرًا وَأَعْجَلْنَا الإلاهَةَ أَنْ تَؤُوبَا (3)   (1) الأثر: 14971 - ((محمد بن عمرو بن الحسن بن على بن أبي طالب)) ، انظر التعليق على رقم 14966. (2) في المخطوطة: ((وقد قال عتيبة بن شهاب اليربوعي)) ، وهو خطأ لا شك فيه، وفي المطبوعة: ((وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي)) ، وهو صواب من تغيير ناشر المطبوعة الأولى، وقد أثبت حق النسب، جامعاً بين ما في المخطوطة والمطبوعة. ويقال هي ((أمنه بنت عتيبة)) ، ويقال اسمها ((ميه)) ، وهي ((أم البنين)) . ويقال: هو لنائحة عتيبة. (3) بلاغات النساء: 189، معجم ما استعجم: 1156، معجم البلدان ((اللعباء)) ، اللسان (لعب) (أله) ، وغيرها كثير. قالت ترثى أباها، وقتل يوم خو، قتلته بنو أسد، وبعد البيت: عَلَى مِثْلِ ابنِ مَيَّهَ، فَانْعِيَاهُ ... يَشُقُّ نَوَاعِمُ البَشَرِ الجُيُوبَا وَكانَ أَبِى عُتَيْبَةُ شَمَّرِيًّا عَوَانُ ... وَلا تَلْقَاهُ يَدَّخِرُ النَّصِيبَا ضَرُوبًا بِاليَدَيْنِ إذَا اشْمَعَلَّتْ ... الحَرْبِ، لا وَرِعًا هَيُوبَا و ((اللعباء)) بين الربذة، وأرض بنى سليم، وهي لفزارة، ويقال غير ذلك. و ((قصرا)) ، أي عشيا.وفي المطبوعة: ((عصراً)) ، وهي إحدى روايات البيت، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 يعني بـ"الإلاهة"، في هذا الموضع، الشمس. وكأنّ هذا المتأول هذا التأويل، وجّه "الإلاهة"، إذا أدخلت فيها هاء التأنيث، وهو يريد واحد "الآلهة"، إلى نحو إدخالهم "الهاء" في "وِلْدتي" و"كوكبتي" و"مَاءتي"، (1) وهو "أهلة ذاك"، وكما قال الراجز: (2) يَا مُضَرُ الْحَمْرَاءُ أَنْتِ أُسْرَتِي وأنت ملجاتي وأنت ظهرتي (3) يريد: ظهري. * * * وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرآ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال، مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك. * * * وقوله: (قال سنقتل أبناءهم) ، يقول: قال فرعون: سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل = (ونستحيي نساءهم) ، يقول: ونستبقي إناثهم (4) = (وإنا   (1) في المطبوعة: ((أماتى)) وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة. (2) لم أعرف قائله. (3) (3) قوله: ((ملجاتى)) بتسهيل الهمزة، وأصله ((ملجأتى)) ، وألحق التاء أيضاً في هذا بقولهم: ((ملجأ)) بالحرفان جميعاً شاهد على ما قاله أبو جعفر. (4) انظر تفسير ((الاستحياء)) فيما سلف 2: 41 - 48. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 فوقهم قاهرون) ، يقول: وإنا عالون عليهم بالقهر، يعني بقهر الملك والسلطان. (1) وقد بينا أن كل شيء عالٍ بالقهر وغلبة على شيء، فإن العرب تقول: هو فوقه. (2) * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "قال موسى لقومه"، من بني إسرائيل، لما قال فرعون للملأ من قومه: "سنقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم": = (استعينوا بالله) على فرعون وقومه فيما ينوبكم من أمركم= "واصبروا" على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم من فرعون. وكان قد تبع موسى من بني إسرائيل على ما: - 14972 - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل. * * * وقوله: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) ، يقول: إن الأرض لله، لعل الله أن يورثكم = إن صبرتم على ما نالكم من مكروه في أنفسكم وأولادكم من فرعون، واحتسبتم ذلك، واستقمتم على السداد = أرضَ فرعون وقومه، بأن يهلكهم   (1) انظر تفسير ((القهر)) فيما سلف 11: 284، 408 (2) انظر تفسير ((فوق)) فيما سلف 11: 284، وفهارس اللغة ((فوق)) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 ويستخلفكم فيها، فإن الله يورث أرضه من يشاء من عباده = (والعاقبة للمتقين) ، يقول: والعاقبة المحمودة لمن اتقى الله وراقبه، فخافه باجتناب معاصيه وأدَّى فرائضه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى، حين قال لهم "استعينوا بالله واصبروا" = (أوذينا) بقتل أبنائنا = (من قبل أن تأتينا) ، يقول: من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا، لأن فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظلَّه زمان موسى على ما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. (2) وقوله: (ومن بعد ما جئتنا) ، يقول: ومن بعد ما جئتنا برسالة الله، لأن فرعون لما غلبت سَحرَته، وقال للملأ من قومه ما قال، أراد تجديدَ العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم. * * * وقيل: إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك، حين خافوا أن يدركهم فرعون وهم منه هاربون، وقد تراءى الجمعان، فقالوا له: (يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا) ، كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا = (ومن بعد ما جئتنا) ، اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا.   (1) انظر تفسير ((العاقبة)) فيما سلف: ص 13، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر ما سلف 2: 41 - 48. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: * * * 14973 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (من قبل أن تأتينا) ، من قبل إرسال الله إياك وبعده. 14974 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14974 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما تراءى الجمعان فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رَدِفهم، (1) قالوا: (إنا لمدركون) ، وقالوا: (أوذينا من قبل أن تأتينا) ، كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا = (ومن بعد ما جئتنا) ، اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا = إنا لمدركون. (2) 14975 - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سار موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برَهَج دوابِّ فرعون، فقالوا: "يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا"، هذا البحر أمامنا وهذا فرعون بمن معه! قال: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) . * * * وقوله: (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم) ، يقول جل ثناؤه: قال موسى   (1) "ردفهم": تبعهم. (2) الأثر: 14974 - هو جزء من خبر طويل فرقه أبو جعفر في مواضع من تفسيره، ورواه في تاريخه 1: 214. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 لقومه: لعل ربكم أن يهلك عدوكم: فرعون وقومه (1) = (ويستخلفكم) ، يقول: يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم، لا تخافونهم ولا أحدًا من الناس غيرهم (2) = (فينظر كيف تعملون) ، يقول: فيرى ربكم ما تعملون بعدهم، من مسارعتكم في طاعته، وتثاقلكم عنها. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد اختبرنا قوم فرعون وأتباعه على ما هم عليه من الضلالة = "بالسنين"، يقول: بالجُدوب سنة بعد سنة، والقحوط. * * * يقال منه: "أسْنَتَ القوم"، إذا أجدبوا. * * * (ونقص من الثمرات) ، يقول: واختبرناهم مع الجدوب بذهاب ثمارهم وغلاتهم إلا القليل = (لعلهم يذكرون) ، يقول: عظة لهم وتذكيرًا لهم، لينزجروا عن ضلالتهم، ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة. (3) وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14976 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك،   (1) انظر تفسير ((عسى)) فيما سلف 10: 405، تعليق 1، والمراجع هناك.ثم انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 225. = وتفسير ((الإهلاك)) فيما سلف من فهارس اللغة (هلك) (2) (2) انظر تفسير ((الاستخلاف)) فيما سلف 12: 126. (3) انظر تفسير ((التذكرة)) فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) ، قال: سني الجوع. 14977 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (بالسنين) ، الجائحة = (ونقص من الثمرات) ، دون ذلك. 14978 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 14979 - حدثني القاسم بن دينار قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن رجاء بن حيوة في قوله: (ونقص من الثمرات) ، قال: حيث لا تحمل النخلة إلا تمرة واحدة. (1) 14980 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رجاء بن حيوة، عن كعب قال: يأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا ثمرة. 14981 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن رجاء بن حيوة: (ونقص من الثمرات) ، قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة. 14982 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، قوله: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنيين) ، أخذهم الله بالسنين، بالجوع، عامًا فعامًا = (ونقص من الثمرات) ، فأما "السنين" فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم = وأما "بنقص من الثمرات" فكان ذلك في أمصارهم وقراهم. * * *   (1) الأثر 14979 - ((القاسم بن دينار)) نمنسوب إلى جده، وهو ((القاسم بن زكريا بن دينار القرشي)) ، أبو محمد الطحان، روى عن وكيع، وعبيد الله بن موسى، وعلى بن فادم، وأبي داود الحفري.روى عنه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو حاتم، وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/2/110. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 القول في تأويل قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ (131) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإذا جاءت آل فرعون العافية والخصب والرخاء وكثرة الثمار، ورأوا ما يحبون في دنياهم (1) = (قالوا لنا هذه) ، نحن أولى بها = (وإن تصبهم سيئة) ، يعني جدوب وقحوط وبلاء (2) = (يطيروا بموسى ومن معه) ، يقول: يتشاءموا ويقولوا: ذهبت حظوظنا وأنصباؤنا من الرخاء والخصب والعافية، مذ جاءنا موسى عليه السلام. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14983 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (فإذا جاءتهم الحسنة) ، العافية والرخاء = (قالوا لنا هذه) ، نحن أحق بها = (وإن تصبهم سيئة) ، بلاء وعقوبة = (يطيروا) ، يتشاءموا بموسى. 14984 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. 14985 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) ، قالوا: ما أصابنا هذا إلا بك يا موسى وبمن معك، ما رأينا شرًّا ولا أصابنا حتى رأيناك! وقوله: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه) ، قال: الحسنة   (1) انظر تفسير ((الحسنة)) فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) . (2) انظر تفسير ((السيئة)) فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 ما يحبُّون. وإذا كان ما يكرهون قالوا: ما أصابنا هذا إلا بشؤم هؤلاء الذين ظلموا! قال قوم صالح: (اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) ، فقال الله إنما: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) ، [سورة النمل: 47] . (1) * * * القول في تأويل قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا ما طائر آل فرعون وغيرهم = وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من أنصباء الخير والشر = "إلا عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون"، أن ذلك كذلك، فلجهلهم بذلك كانوا يطَّيّرون بموسى ومن معه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 14986 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (ألا إنما طائرهم عند الله) ، يقول: مصائبهم عند الله. قال الله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) . 14987 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (ألا إنما طائرهم عند الله) ، قال: الأمر من قبل الله. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: ((إنما طائركم)) ، بزيادة ((إنما)) ، وهو خطأ، تلك آية أخرى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 القول في تأويل قوله: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال آل فرعون لموسى: يا موسى، مهما تأتنا به من علامة ودلالة = "لتسحرنا"، يقول: لتلفتنا بها عما نحن عليه من دين فرعون = (فما نحن لك بمؤمنين) ، يقول: فما نحن لك في ذلك بمصدقين على أنك محق فيما تدعونا إليه. * * * وقد دللنا فيما مضى على معنى "السحر" بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وكان ابن زيد يقول في معنى: (مهما تأتنا به من آية) ، ما: - 14988 - حدثني يونس قال، [أخبرنا ابن وهب] ، قال ابن زيد في قوله: (مهما تأتنا به من آية) ، قال: إن ما تأتنا به من آية = وهذه فيها زيادة "ما". (2) * * * القول في تأويل قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى "الطوفان". فقال بعضهم: هو الماء. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير ((السحر)) فيما سلف ص: 27، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) الأثر: 14988 - الزيادة بين القوسين، لا بد منها، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم 14985، وإنما هذا سهو من الناسخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 14989 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما جاء موسى بالآيات، كان أول الآيات الطوفان، فأرسل الله عليهم السماء. (1) 14990 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي مالك قال: "الطوفان"، الماء. 14991 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: "الطوفان"، الماء. 14992 - . . . قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: "الطوفان"، الغرق. 14993 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الطوفان"، الماء، "والطاعون"، على كل حال. (2) 14994 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الطوفان"، الموت على كل حال. 14995 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "الطوفان"، الماء. * * * وقال آخرون: بل هو الموت. * ذكر من قال ذلك: 14996 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن يمان قال،   (1) الأثر: 14989 - ((حبوية)) ، ((أبو يزيد)) هو ((إسحق بن إسماعيل الرازي)) ، مضى برقم: 14365، 14550، 14956، وكان في المطبوعة: ((حبويه الرازي)) ، وهو صواب، إلا أنه لم يحسن قراءة المخطوطة، فغيرها، وكان فيها: ((حبوية أبو مزيد)) ، الصواب ما أثبت. (2) لعل صواب العبارة ((والطاعون، الموت على كل حال)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 حدثنا المنهال بن خليفة، عن الحجاج، عن الحكم بن ميناء، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطوفان الموتُ. (1) 14997 - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء: ما الطوفان؟ قال: الموت. (2) 14998 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عطاء عمن حدثه، عن مجاهد قال: "الطوفان"، الموت. 14999 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن عبد الله بن كثير: (فأرسلنا عليهم الطوفان) ، قال: الموت = قال ابن جريج: وسألت عطاء عن "الطوفان"، قال: الموت = قال ابن جريج: وقال مجاهد: الموتُ على كل حال. 15000 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن حجاج، عن رجل، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطوفان الموت. (3)   (1) الأثر: 14996 - ((المنهال بن خليفة العجلي)) ، ((أبو قدامة)) ، متكلم فيه. ضعفه ابن معين، والنسائي، والحاكم. وقال البخاري: ((صالح، فيه نظر)) ، وقال في موضع آخر /: ((حديثه منكر)) . وقال ابن حبان: ((كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير)) . مترجم من التهذيب، والكبير 4/2/12، وابن أبي حاتم 4/1/357، وميزان الاعتدال 3: 204. و ((الحجاج)) هو ((الحجاج بن أرطاة)) ، مضى مرارًا. و ((الحكم بن ميناء الأنصاري)) ، تابعي ثقة. مترجم من التهذيب، والكبير 1/2/340، وابن أبي حاتم 1/2/127. وهذا الخبر، رواه ابن كثير في تفسيره 3: 536، عن هذا الموضع ثم قال: ((وكذا ورواه ابن مردويه، من حديث يحيى بن يمان به، وهو حديث غريب)) . قلت: وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ وانظر الأثر التالي رقم 15000 (2) الأثر: 14997 - ((عباس بن محمد)) ، هو ((عباس بن محمد بن حاتم الدورى)) شيخ الطبري، مضى برقم: 7701. (3) الأثر: 15000 - هذا إسناد آخر للخبر رقم: 14996، إلا أنه أبهم الراوي عن عائشة، وبينه هناك، وهو ((الحكم بن ميناء)) . وقد مضى تخريج هذا الخبر، وبيان ضعفه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 وقال آخرون: بل ذلك كان أمرًا من الله طاف بهم. * ذكر من قال ذلك: 15001 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس: (فأرسلنا عليهم الطوفان) ، قال: أمرُ الله الطوفان، ثم قرأ (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) ، [القلم: 19] . * * * وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة، (1) يزعم أن "الطوفان" من السيل: البُعَاق والدُّباش، وهو الشديد. (2) ومن الموت المبَالغ الذَّريع السريع. (3) * * * وقال بعضهم: هو كثرة المطر والريح. * * * وكان بعض نحويي الكوفيين يقول: "الطوفان" مصدر مثل "الرجحان" و"النقصان"، لا يجمع. * * * وكان بعض نحويي البصرة يقول: هو جمع، واحدها في القياس "الطوفانة". (4) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، ما قاله ابن عباس، على ما رواه عنه أبو ظبيان (5) أنه أمر من الله طاف بهم، وأنه مصدر من قول   (1) هو أبو عبيدة، في مجاز القرآن 1: 226. (2) ((البعاق)) (بضم الباء) : هو المطر الكثير الغزير الذي يتبعق بالماء تبعقاً، أي يسيل به سيلا كثيفاً. و ((سيل دباش)) (ضم الدال) عظيم، يجرف كل شيء جرفاً. (3) في المخطوطة: ((المتابع)) ، وفي مجاز القرآن: ((المبالغ)) ، والذي في المطبوعة ((المتتابع)) فآثرت نص أبي عبيدة. (4) هو الأخفش، قال ابن سيدهْ: ((الأخفش ثقة، وإذا حكى الثقة شيئاً لزم قبوله)) . (5) يعني الخبر رقم 15001. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 القائل: "طاف بهم أمر الله يطوف طُوفَانًا"، كما يقال: " نقص هذا الشيء ينقُص نُقْصَانًا ". وإذا كان ذلك كذلك، جاز أن يكون الذي طاف بهم المطر الشديد = وجاز أن يكون الموتَ الذريعَ. ومن الدلالة على أن المطر الشديد قد يسمى "طوفانًا" قول حُسَيل بن عُرْفطة (1) غَيَّر الجِدَّةُ مِنْ آيَاتِهَا خُرُقُ الرِّيحِ وَطُوفَانُ المَطَرْ (2) ويروى: خُرُقُ الرِّيحِ بِطُوفَان المَطَرْ وقول الراعي: تُضْحِي إذَا العِيسُ أَدْرَكْنَا نَكَائِثَهَا خَرْقَاءَ يَعْتَادُهَا الطُّوفَانُ والزُّؤُدُ (3) وقول أبي النجم:   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((الحسن بن عرفطة)) ، وهو خطأ، وقال أبو حاتم ((حسين بن عرفطة)) ، هو خطأ.انظر نوادر أبي زيد 75، 77، وهو ((حسيل بن عرفطة الأسدى)) شاعر جاهلي. (2) نوادر أبي زيد: 77، الوساطة: 329، اللسان (طوف) ، وقبله: لَمْ يَكُ الحًقُّ عَلَى أَنْ هَاجَهُ ... رَسْمُ دَارٍ قَدْ تَعَفَّى بِالسِّرَرْ قال أبو حاتم ((بالسرر)) بفتح السين والراء. و ((الخرق)) : القطع من الريح، واحدتها ((خرقة)) . و ((طوفان المطر)) ، كثرته. وروى الأصمعى ((خرق)) (يعني بضم الخاء والراء) . هذا نص ما في نوادر أبي زيد. و ((خرق)) (بضمتين) جمع ((خريق)) ، وهي الريح الشديدة الهبوب التي تخترق المواضع. (3) اللسان (نكث) (زأد) ، ولعلها من شعره الذي مدح به عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان (انظر خزانة الادب 3: 288) و ((النكائث)) جمع ((نكيثة)) ، وهي جهد قوة النفس. يقال: ((فلآن شديد النكيثة)) أي النفس. ويقال: ((بلغت نكيثته)) (بالبناء للمجهول) أي: جهد نفسه. و ((بلغ فلآن نكيثة بعيره)) أي: أقصي مجهوده في السير. و ((الزؤد)) (بضم الهمزة وسكونها) : الفزع والخوف. و ((خرقاء)) من صفة الناقة. وهي التي لا تتعهد مواضع قوائمها من نشاطها. يصفها بالحدة كأنها مجنونة، إذا كلت العيس، بقيت قوتها وفضل نشاطها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 قَدْ مَدَّ طُوفَانٌ فَبَثَّ مَدَدَا شَهْرًا شَآبِيبَ وَشَهْرًا بَرَدَا (1) * * * وأما "القُمَّل"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه. فقال بعضهم: هو السوس الذي يخرج من الحنطة. * ذكر من قال ذلك: 15002 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "القمّل"، هو السوس الذي يخرج من الحنطة. 15003 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بنحوه. * * * وقال آخرون: بل هو الدَّبَى، وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له. * ذكر من قال ذلك: 15004 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: "القمّل"، الدبى. 15005 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: الدبى، القمّل. 15006 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: "القمل"، هو الدَّبَى.   (1) لم أجده في مكان آخر. و ((الشآيب)) . جمع ((شؤبوب)) ، وهي الدفعة من المطر. ويقال: ((لا يقال للمطر شآبيب، إلا وفيه برد)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 15007 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "القمل"، الدبيَ. 15008 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة قال: "القُمَّل"، هي الدَّبَى، وهي أولاد الجراد. 15009 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: "القمل"، الدبى. 15010 - . . . . قال حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس عمن ذكره، عن عكرمة قال: "القمل"، بناتُ الجراد. 15011 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قال: "القمل"، الدبَى. * * * وقال آخرون: بل "القمل"، البراغيثُ. *ذكر من قال ذلك: 15012 - حدثني يونس قال، أخبرنا أبن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل) ، قال: زعم بعض الناس في القمل أنها البراغيث. * * * وقال بعضهم: هي دوابُّ سُودٌ صغار. * ذكر من قال ذلك: 15013 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر قال: سمعت سعيد بن جبير والحسن قالا القمّل: دوابّ سود صغار. * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم (1) أن "القمل"، عند العرب: الحَمْنان = والحمنان ضرب من القِرْدان واحدتها: "حَمْنانة"، فوق القَمقامة. (2) و"القمَّل" جمع، واحدتها "قملة"، وهي دابة تشبه القَمْل تأكلها الإبل فيما بلغني، وهي التي عناها الأعشى في قوله: (3) قَوْمٌ تُعَالِجُ قُمَّلا أَبْنَاؤُهُمْ وَسَلاسِلا أُجُدًا وَبَابًا مُؤْصَدَا (4)   (1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 226. (2) ((القمقامة)) ، صغار القردان (جمع قراد) وهو أول ما يكون صغيراً، لا يكاد يرى من صغره، وهو أيضاً ضرب من القمل شديد التشبث بأصول الشعر. (3) في المطبوعة: ((الأعمش)) وهو خطأ في الطباعة. (4) ديوانه: 154، واللسان (قمل) . من قصيدته التي قالها لكسرى حين أراد من بنى ضبيعة (رهط الأعشى) رهائن، لما أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد، فأخذ كسرى قيس بن مسعود، ومن وجد من بكر، فجعل يحبسهم، فقال له الأعشى: مَنْ مُبْلِغٌ كِسْرَى، إذَا مَا جَاءَهُ رُهُنًا، ... عَنِّى مآلِكَ مُخْمِشَاتٍ شُرَّدَا آلَيْتُ لا نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهْنًا فَيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدَا حَتَّى يُفِيدُكَ مِنْ بَنِيهِ رَهِينَةً ... نَعْشُ، وَيَرْهَنُكَ السِّمَاكُ الفَرْقَدَا يقول: من يبلغ كسرى عني تغضبه، رسائل تأتيه من كل مكان: أننا آلينا أن لا نعطيه من أبنائنا رهائن، يتولى إفسادهم كما أفسد رجالا من قبل، ولن ينال منا ذلك حتى تعطيه نجوم السماء رهائن من صواحباتها. ثم قال له: لَسْنَا كَمَنْ جَعَلَتْ إيَادُ دَارَهَا ... تَكْرِيت تَمْنَع حَبَّها أَنْ يُحْصَدا قَوْمًا يُعَالَجُ.. .. .. .. .. .. .. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جَعَلَ الإِلَهُ طَعَامَنَا فِي مَالِنَا ... رِزْقًا تَضَمَّنَهُ لَنَا لَنْ يَنْفَدَا يقول: لسنا كإياد التي آتتك الرهائن فأنها نزلت تكريت تنظر ما يحصد من الزرع من سنة إلى سنة، فهم حراثون، قد قملوا، فقام أبناؤهم يعالجون القمل، ويجرون السلاسل ليشدوها على الأجران، ويجهدون في تغليق أبوابها. أما نحن، فالله قد جعل إبلنا رزقنا، ضمنت لنا من ألبانها طعاماً لا ينفد، ونزعنا عن أعناقنا ربقة عبودية القرى والأمصار، إلى حرية البادية، نغدو فيها ونروح، ليس لك علينا سلطان. وهذا من شعر أحرار العرب. و ((الأجد)) (بضمتين) : القوى الموثق. يقال: ((ناقة أجد)) ، قوية وثيقة التركيب. و ((ناقة مؤجدة القرى)) ، مثله. ويقال: ((الحمد لله الذي آجدنى بعد ضعف)) ، أي: قوانى. و ((المؤصد)) من ((أوصد الباب)) أغلقه وأطبقه، فهو ((موصد)) و ((مؤصد)) بالهمز، ومثله قوله تعالى ذكره: ((إنها عليهم مؤصدة)) بالهمز، أي مطبقة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 وكان الفراء يقول: لم أسمع فيه شيئًا، فإن لم يكن جمعًا، فواحده "قامل"، مثل "ساجد" و"راكع"، (1) وإن يكن اسمًا على معنى جمع، (2) فواحدته: "قملة". * ذكر المعاني التي حدثت في قوم فرعون بحدوث هذه الآيات، والسبب الذي من أجله أحدَثها الله فيهم. 15014 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل! فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان = وهو المطر = فصبّ عليهم منه شيئًا، فخافوا أن يكون عذابًا، فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك أن يكشف عنا المطر، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل (3) ، فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ. فقالوا: هذا ما كنا نتمنَّى، فأرسل الله عليهم الجراد، فسلَّطه على الكلأ فلما رأوا أثَره في الكلأ عرفوا أنه لا يُبقى الزرع. فقالوا: يا موسى ادْع لنا ربك فيكشف عنا الجرادَ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف   (1) في المطبوعة: ((فإن لم يكن جمعاً)) ، بزيادة ((لم)) وهي مفسدة للكلام، والصواب من المخطوطة. (2) لم أجد هذا في معاني القرآن للفراء، في هذا الموضع من تفسير الآية. انظر معاني القرآن للفراء 1: 393، بل قال الفراء هنا: ((القمل، وهو الدبى الذي لا أجنحة له)) ، ولم يزد. (3) (3) في المطبوعة: ((ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل)) ، غير ما في المخطوطة، ولم يكتب نص آية ((سورة الأعراف)) : 134. وكان في المخطوطة ما أثبته، إلا أنه كتب: ((لئن كشف عنا المطر فتؤمن لك)) وصواب الجملة ما أثبت إن شاء الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 عنهم الجرادَ، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فدَاسُوا وأحرزُوا في البيوت، (1) فقالوا: قد أحرزْنَا فأرسل الله عليهم القُمَّل = وهو السوس الذي يخرج منه = فكان الرجل يخرج عشرة أجرِبة ٍإلى الرحى، فلا يردّ منها ثلاثة أقفِزة. فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا القمَّل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضِفْدَع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا! فقال: وما عسى أن يكون كيدُ هذا! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع، ويهمُّ أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه. فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! [فكشف عنهم فلم يؤمنوا] (2) فأرسل الله عليهم الدم، فكان ما استقوا من الأنهار والآبار، أو ما كان في أوعيتهم وجدُوه دمًا عَبِطًا، (3) فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدّم، وليس لنا شراب! فقال: إنه قد سحركم! فقالوا: من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئًا من الماءِ إلا وجدناه دمًا عبيطًا؟ فأتوه فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. 15015 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن ابن عباس قال، لما خافوا الغرق، قال فرعون: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنّا هذا المطر، فنؤمن لك = ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن يعقوب. (4)   (1) ((داس الناس الحب)) درسوه. و ((أحرز الشيء)) : ضمه وحفظه، وصانه عن الأخذ. (2) ما بين القوسين، ليس في المخطوطة، وفي المخطوطة عند هذا الوضع، حرف (ط) بين ((إسرائيل)) و ((فأرسل)) و (ط) أخرى في الهامش، دلالة على الخطأ. والذي في المطبوعة صواب إن شاء الله. (3) ((الدم العبيط)) ، هو الطرى. (4) الأثر: 15015 - ((حبويه)) ، ((أبو يزيد)) ، هو ((إسحاق بن إسماعيل الرازي)) ، مضى برقم 14365، 14550، 14956، 14989، وكان في المطبوعة هنا ((حبوبة الرازي)) ، والصواب من المخطوطة، ومن تحقيق ذلك فيما سلف من الأرقام التي ذكرتها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 15016 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم إن الله أرسل عليهم = يعني على قوم فرعون = الطوفان، وهو المطر، فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربَّك يكشف عنَّا، ونحن نؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فكشف الله عنهم، (1) ونبتت به زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنا لم نمطر. فبعث الله عليهم الجراد، فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعو ربّه، فيكشفه، ويؤمنوا به. فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقيّة فقالوا: لم تؤمنون، وقد بقي من زرعنا بقيه تكفينا؟ فبعث الله عليهم الدَّبى = وهو القمل = فلحس الأرض كلها، (2) وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضُّه، وكان لأحدهم الطعام فيمتلئ دَبًى، حتى إن أحدهم ليبني الأسطوانة بالجصّ، فيزلّقُها حتى لا يرتقي فوقها شيء، (3) يرفع فوقها الطعام، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دَبًى، فلم يصابوا ببلاء كان أشدَّ عليهم من الدبى = وهو "الرِّجْز" الذي ذكر الله في القرآن أنه وقع عليهم = فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشف عنهم ويؤمنوا به، فلما كُشف عنهم، أبوا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدَّم، فكان الإسرائيلي يأتي هو والقِبْطي يستقيان من ماء واحد، فيخرج ماءُ هذا القبطي دمًا، ويخرج للإسرائيلي ماءً. فلما اشتدَّ ذلك عليهم، سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به، فكشف ذلك، فأبوا أن يؤمنوا، وذلك حين يقول الله: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) ، [الزخرف: 50] (4)   (1) (1) في المطبوعة: ((فكشف الله عنهم)) ، واثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (2) (2) ((لحس الجراد النبات)) إذا أكله ولم يبق منه شيء، ومنه قيل لسنوات القحط الشداد " اللواحس" لأنها تلحس كل شيء. (3) ((زلق البناء أو المكان تزليقًا)) ، إذا ملسه حتي لايثبت عليه شيء. (4) الأثر: 15016- هو جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 211، 212 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 15017 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فأرسلنا عليهم الطوفان) ، قال: أرسل الله عليهم الماءَ حتى قاموا فيه قيامًا. ثم كشف عنهم فلم يؤمنوا، (1) وأخصبت بلادهم خصبًا لم تخصب مثله، فأرسل الله عليه الجرادَ فأكله إلا قليلا فلم يؤمنوا أيضًا. فأرسل الله القمّل = وهي الدَّبى، وهي أولاد الجراد = فأكلت ما بقي من زروعهم، فلم يؤمنوا. فأرسل عليهم الضفادع، فدخلت عليهم بيوتهم، ووقعت في آنيتهم وفُرشهم، فلم يؤمنوا. ثم أرسل الله عليهم الدمَ، فكان أحدهم إذا أراد أن يشرب تحوَّل ذلك الماء دمًا، قال الله: (آيات مفصلات) . 15018 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فأرسلنا عليهم الطوفان) ، حتى بلغ: (مجرمين) ، قال: أرسل الله عليهم الماء حتى قاموا فيه قيامًا، فدعوا موسى، فدعا ربّه فكشفه عنهم، ثم عادوا لسوء ما يحضر بهم. ثم أنبتت أرضهم، ثم أرسل الله عليهم الجراد، فأكل عامة حُروثهم وثمارهم. ثم دعوا موسى فدعا ربه فكشف عنهم، ثم عادوا بشرِّ ما يحضر بهم. فأرسل الله عليهم القمل، هذا الدبى الذي رأيتم، فأكل ما أبقى الجراد من حُروثهم، فلحسه. فدعوا موسى، فدعا ربه فكشفه عنهم، ثم عادوا بشرّ ما يحضر بهم. ثم أرسل الله عليهم الضفادع حتى ملأت بيوتهم وأفنيتهم. فدعوا موسى، فدعا ربه فكشف عنهم. ثم عادوا بشرّ ما يحضر بهم، فأرسل الله عليهم الدم، فكانوا لا يغترفون من مائهم إلا دمًا أحمر، حتى لقد ذُكر أنَّ عدو الله فرعون، كان يجمع بين الرجلين على الإناء الواحد، القبطي والإسرائيلي، فيكون مما يلي الإسرائيلي ماءً، ومما يلي القبطي دمًا. فدعوا موسى، فدعا ربه، فكشفه عنهم في تسع آياتٍ:   (1) في المخطوطة: 0 ((ثم كشف عنهم فلم ينتفعوا)) وتركت ما في المطبوعة علي حاله، لقوله في الأخرى: ((فلم يؤمنوا أيضاً)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 السنين، ونقص من الثمرات، وأراهم يدَ موسى عليه السلام وعصاه. 15019 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فارسلنا عليهم الطوفان) ، وهو المطر، حتى خافوا الهلاك، فأتوا موسى فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنّا المطر، [إنا نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربّه فكشف عنهم المطر] ، (1) فأنبت الله به حرثهم، وأخصب به بلادهم، فقالوا: ما نحبُّ أنا لم نُمطر بترك ديننا، فلن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الجراد، فأسرعَ في فسادِ ثمارهم وزروعهم، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك [أن يكشف عنا الجراد، فإنا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل!] . (2) فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد. وكان قد بقي من زروعهم ومعاشهم بقايا، فقالوا، قد بقي لنا ما هو كافينا، فلن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل الله عليهم القُمَّل = وهو الدَّبى = فتتبع ما كان ترك الجراد، فجزعوا وأحسُّوا بالهلاك، قالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الدَّبى، فإنا سنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الدَّبى، فقالوا: ما نحن لك بمؤمنين، ولا مرسلين معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأ بيوتهم منها، ولقُوا منها أذًى شديدًا لم يلقوا مثله فيما كان قبله، أنها كانت تثبُ في قدورهم، فتفسد عليهم طعامهم، وتطفئ نيرانهم. قالوا: يا موسىادع لنا ربك أن يكشف عنا الضفادع، فقد لقينا منها بلاءً وأذًى، فإنا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الضفادع، فقالوا: لا نؤمن لك، ولا نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الدّم، فجعلوا لا يأكلون إلا الدم، ولا يشربون إلا الدم، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك أن يكشف عنّا الدم، فإنا سنؤمن لك،   (1) في المخطوطة، أسقط ما بين القوسين، وإثباته حق الكلام. (2) ما بين القوسين، ليس في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الدم، فقالوا: يا موسى، لن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل! فكانت آيات مفصَّلات بعضها على إثر بعض، ليكون لله عليهم الحجة، فأخذهم الله بذنوبهم، فأغرقهم في اليمّ. 15020 - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أرسل على قوم فرعون الآيات: الجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، آياتٌ مفصّلات. قال: فكان الرجل من بني إسرائيل يركبُ مع الرجل من قوم فرعون في السّفينة، فيغترف الإسرائيلي ماءً، ويغترف الفرعوني دمًا. قال: وكان الرجل من قوم فرعون ينام في جانب، فيكثر عليه القمل والضفادع حتى لا يقدر أن ينقلب على الجانب الآخر. فلم يزالوا كذلك حتى أوحى الله إلى موسى: أنْ أسْرِ بعبادِي إنكم متَّبعون. 15021 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أتى موسى فرعون بالرسالة، أبى أن يؤمن وأن يرسل معه بني إسرائيل، فاستكبر قال: لن أرسل معك بني إسرائيل! (1) فأرسل الله عليهم الطوفان = وهو الماء = أمطر عليهم السماء، حتى كادوا يهلكون، وامتنع منهم كل شيء، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا هذا لنؤمننّ لك ولنرسلن معك بني إسرائيل! فدعا الله فكشف عنهم المطر، فأنبت الله لهم حُروثهم، وأحيا بذلك المطر كل شيء من بلادهم، فقالوا: والله ما نحبَّ أنا لم نكن أمطرنا هذا المطر، ولقد كان خيرًا لنا، فلن نرسل معك بني إسرائيل، ولن نؤمن لك يا موسى! فبعث الله عليهم الجراد، فأكل عامة حروثهم، وأسرع الجراد في فسادِها، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا الجراد، فإنا مؤمنون لك، ومرسلون معك بني إسرائيل!   (1) في المطبوعة: ((لن نرسل)) ، وأثبت مافي المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 فكشف الله عنهم الجراد. وكان الجراد قد أبقى لهم من حروثهم بقيَّة، فقالوا: قد بَقي لنا من حروثنا ما كان كافِينَا، فما نحن بتاركي ديننا، ولن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم القمّل = و"القمّل"، الدبى، وهو الجراد الذي ليست له أجنحة = فتتبع ما بقي من حروثهم وشجرهم وكل نبات كان لهم، فكان القمّل أشدّ عليهم من الجراد، فلم يستطيعوا للقمل حيلةً، وجزعوا من ذلك. وأتوا موسى، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فإنه لم يبق لنا شيئًا، قد أكل ما بقي من حروثنا، ولئن كشفت عنا القمل لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل! فكشف الله عنهم القمل، فنكثوا، وقالوا: لن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الضفادع، فامتلأت منها البيوتُ، فلم يبق لهم طعام ولا شراب إلا وفيه الضفادع، فلقوا منها شيئًا لم يلقوه فيما مضى، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربّك لئن كشفت عنا الرِّجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل! قال: فكشف الله عنهم، فلم يفعلوا، فأنزل الله: (فلمَّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) ، إلى: (وكانوا عنها غافلين) . 15022 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برِّية، فلما أرسلها الله على آل فرعون، سمعت وأطاعت، فجعلت تغرق أنفسها في القُدُور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها بَرْدَ الماء. 15023 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فرجع عدوّ الله = يعني فرعون، حين آمنت السحرة = مغلوبًا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتماديَ في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات،، فأرسل الطوفان = وهو الماء = ففاض على وجه الأرض، ثم ركد، لا يقدرون على أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 يحرُثوا، ولا يعملوا شيئًا، حتى جُهِدوا جوعًا; فلما بلغهم ذلك، قالوا: يا موسى، ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل! فدعا موسى ربه، فكشفه عنهم، فلم يفُوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر، فيما بلغني، حتى إنْ كان ليأكل مساميرَ الأبواب من الحديد، حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا. فأرسل الله عليهم القمّل، فذكر لي أنّ موسى أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه. فمضى إلى كثيبٍ أهيل عظيم، (1) فضربه بها، فانثَالَ عليهم قمَّلا (2) حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومنعهم النوم والقرار. فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية، فلا يكشف أحدٌ ثوبًا ولا طعامًا ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه. فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا. فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دمًا، لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغترفون من إناء، إلا عاد دمًا عبيطًا. (3) 15024 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي: أنه حُدِّث: أن المرأة من آل فرعون كانت تأتي المرأةَ من بني إسرائيل حين جَهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك! فتغرف لها من جرَّتها أو تصبّ لها من قربتها، فيعود في الإناء دمًا، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مُجيِّه في فيَّ! فتأخذ في فيها ماءً، فإذا مجته في فيها صار دمًا، فمكثوا في ذلك سبعةَ أيام. (4)   (1) ((كثيب أهيل)) (علي وزن أفعل) : منهال لايثبت رمله حتي يسقط (2) ((انثال التراب انثيالا)) : انصب انصبابآ من كل وجه. (3) الأثر: 15023- هذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 215. (4) الأثر: 15024- هذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه مطولا 1: 215، 216. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 15025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الجراد يأكل زروعهم ونباتهم، والضفادع تسقط على فرشهم وأطعمتهم، والدم يكون في بيوتهم وثيابهم ومائهم وطعامهم. = قال، حدثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لما سال النِّيلُ دمًا، فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيّبًا، ويستقي الفرعوني دمًا، ويشتركان في إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماءً طيّبًا وما يلي الفرعوني دمًا. 15026- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر قال، حدثني سعيد بن حبير: أن موسى لمّا عالج فرعون بالآيات الأربع: العصا، واليد، ونقص من الثمرات، والسنين = قال: يا رب، إن عبدك هذا قد علا في الأرض وَعتَا في الأرض، وبغى علي، وعلا عليك، وعالى بقومه، ربِّ خذ عبدك بعُقوبة تجعلها له ولقومه نِقْمةً، وتجعلها لقومي عظةً، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية! فبعث الله عليهم الطوفان = وهو الماء = وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة بعضها في بعض، فامتلأت بيوت القبط ماءً، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من جَلس منهم غرق، (1) ولم يدخل في بيوت بني إسرائيل قطرة. فجعلت القبط تنادي موسى: ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل! قال: فواثقوا موسى ميثاقًا أخذَ عليهم به عهودهم، وكان الماء أخذهم يوم السبت، فأقام عليهم سبعة أيام إلى السبت الآخر. فدعا موسى ربه، فرفع عنهم الماء، فأعشبت بلادهم من ذلك الماء، فأقاموا شهرًا في عافية، ثم جحدوا وقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا، وخصبًا لبلادنا، ما نحب أنه لم يكن. = قال: وقد قال قائل لابن عباس: إني سألت ابن عمر عن الطوفان، فقال: ما أدري، موتا كان أو ماء! فقال ابن عباس: أما يقرأ ابن عمر "سورة العنكبوت" حين   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((من حبس)) ، والصواب ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 ذكر الله قوم نوح فقال: (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) ، [العنكبوت: 14] . أرأيت لو ماتوا، إلى مَنْ جاء موسى عليه السلام بالآيات الأربع بعد الطوفان؟ = قال: فقال موسى: يا رب إن عبادك قد نقضُوا عهدك، وأخلفوا وعدي، رب خذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية في الأمم الباقية! قال: فبعث الله عليهم الجراد، فلم يدع لهم ورقةً ولا شجرة ولا زهرة ولا ثمرة إلا أكله، (1) حتى لم يُبْقِ جَنًى، (2) حتى إذا أفنى الخضر كلها، أكل الخشب، حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت. وابتلى الجراد بالجوع، فجعل لا يشبع، غير أنه لا يدخل بيوتَ بني إسرائيل. فعجُّوا وصاحُوا إلى موسى، (3) فقالوا: يا موسى، هذه المرّة ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل! فأعطوه عهدَ الله وميثاقه، فدعا لهم ربّه، فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، ثم أقاموا شهرًا في عافية، ثم عادوا لتكذيبهم ولإنكارهم، ولأعمالهم أعمال السَّوْء قال: فقال موسى: يا رب، عبادُك، قد نقضوا عهدي، وأخلفوا موعدي، فخذهم بعقوبة تجعلُها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية! فأرسل الله عليهم القمَّل = قال أبو بكر: سمعت سعيد بن جبير والحسن يقولان: كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى "عين شمس"، (4) فمشى موسى إلى ذلك الكثيب، فضربه بعصاه ضربةً صارَ قمّلا تدب إليهم = وهي دوابّ سود صغار. فدبَّ إليهم القمّل، فأخذ أشعارهم وأبشارهم وأشفارَ عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودَهم، كأنه الجدريّ عليهم، فصرخوا وصاحوا إلى موسى: إنا نتوب ولا نعود،   (1) في المطبوعة: ((إلا أكلها)) ، وأثبت مافي المخطوطة، وهو صواب. (2) ((الجني)) الثمر كله. (3) ((عج يعج عجا)) رفع صوته وصاح بالدعاء والاستغاثة. (4) ((الكثيب الأعفر)) : هو هنا الأحمر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 فادع لنا ربك! فدعا ربه فرفع عنهم القمل بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. فأقاموا شهرًا في عافية، ثم عادوا وقالوا: ما كنّا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر مِنّا اليوم، جعل الرَّمل دوابّ! وعزَّة فرعون لا نصدِّقه أبدًا ولا نتبعه! فعادوا لتكذيبهم وإنكارهم، فدعا موسى عليهم فقال: يا رب إن عبادك نقضوا عهدي، وأخلفوا وعدي، فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آيه في الأمم الباقية! فأرسل الله عليهم الضفادع، فكان أحدهم يضطجع، فتركبه الضفادع، فتكون عليه رُكَامًا، حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى الشق الآخر، ويفتح فاه لأكْلته، فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه، ولا يعجن عجينًا إلا تسدَّحَت فيه، (1) ولا يطبخ قِدْرًا إلا امتلأت ضفادع، فعذِّبوا بها أشد العذاب، فشكوا إلى موسى عليه السلام وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود! فأخذَ عهدهم وميثاقهم. ثم دعا ربه، فكشف الله عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعًا من السبت إلى السبت. فأقاموا شهرًا في عافية، ثم عادوا لتكذيبهم وإنكارهم وقالوا: قد تبيَّن لكم سحره، يجعل التراب دوابَّ، ويجيء بالضفادع في غير ماءٍ! فآذوا موسى عليه السلام فقال موسى: يا رب إن عبادك نقضوا عهدي، وأخلفوا وعدي، فخذهم بعقوبة تجعلها لهم عقوبة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية! فابتلاهم الله بالدم، فأفسد عليهم معايشهم، فكان الإسرائيلي والقبطيّ يأتيان النيل فيستقيان، فيخرج للإسرائيليّ ماءً، ويخرج للقبطي دمًا، ويقومان إلى الحُبِّ فيه الماءُ، (2) فيخرج للإسرائيلي في إنائه ماءً، وللقبطي دمًا. 15027 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد   (1) في المطبوعة: ((تشدخت)) بالشين والخاء، ولامعني لها هنا، وهي من المخطوطة غير منقوطة وكأن هذا صواب قراءتها. يقال: ((سدح الشيء)) إذا بسطه علي الأرض أو أضجعه. و ((انسدح الرجل)) استلقي وفرج رجليه. وقوله ((تسدح)) (بتشديد الدال) ، قياس عربي صحيح. (2) ((الحب)) (بضم الحاء) : الجرة الضخمة يكون فيها الماء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 قال: سمعت مجاهدًا، في قوله: (فأرسلنا عليهم الطوفان) ، قال: الموت = "والجراد" قال: الجراد يأكل أمتعتهم وثيابهم ومسامير أبوابهم = "والقمل" هو الدّبى، سلطه الله عليهم بعد الجراد = قال: "والضفادع"، تسقط في أطعمتهم التي في بيوتهم وفي أشربتهم. (1) * * * وقال بعضهم: "الدم" الذي أرسله الله عليهم، كان رُعافًا. * ذكر من قال ذلك: 15028 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أحمد بن خالد قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا زهير قال، قال زيد بن أسلم: أما "القمل" فالقمل = وأما "الدم"، فسلط الله عليهم الرُّعاف. (2) * * * وأما قوله: (آيات مفصلات) ، فإن معناه: علامات ودلالات على صحّة نبوّة موسى، (3) وحقيقة ما دعاهم إليه (4) = "مفصلات"، قد فصل بينها، فجعل بعضها يتلو بعضًا، وبعضها في إثر بعض. (5) * * *   (1) الأثر: 15027- ((أبو سعد المدني)) ، وكان في المخطوطة، والمطبوعة: ((ابن سعد)) ، وهو خطأ، وهو إسناد مر مرارآ، أقربه رقم: 14916. (2) الأثر: 15028- ((أحمد بن خالد)) ، كأنه ((أحمد بن خالد بن موسي الوهبي)) ، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 49 و ((يحيى بن أبي بكير الأسدي)) ، مضى مرارًا، آخرها رقم: 7544، و ((زهير)) ، هو: ((زهير بن محمد التميمي)) ، مضى برقم: 5230، 6628. (3) انظر تفسير ((آية)) فيما من فهارس اللغة اللغة (أيي) (4) في المطبوعة: ((وحقية)) مكان ((وحقيقة)) ، فعل بها كما فعل بكل أخواتها من قبل. انظر ماسلف 12: 244، تعليق: 3، والمراجع هناك. (5) وانظر تفسير ((التفصيل)) في م سلف 12: 477، تعليق: 1 والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15029 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: فكانت آيات مفصلات بعضها في إثر بعض، ليكون لله الحجة عليهم، فأخذهم الله بذنُوبهم، فأغرقهم في اليمّ. 15030 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (آيات مفصلات) ، قال: يتبع بعضها بعضًا، ليكون لله عليهم الحجة، فينتقم منهم بعد ذلك. وكانت الآية تمكث فيهم من السبت إلى السبت، وترفع عنهم شهرًا، قال الله عز وجل: (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ) ، [الأعراف: 136] ... الآية. 15031 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: (آيات مفصلات) ،: أي آية بعد آية، يتبع بعضُها بعضًا. (1) * * * وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى "المفصلات"، ما: - 15032 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في "آيات مفصلات"، قال: معلومات. * * *   (1) الأثر: 15031 - هو قطعة من الآثر السالف رقم: 15023، أسقطها أبو جعفر من صلب الكلام، وأفردها ههنا. وأما في التاريخ 1: 215، فقد ساق الخبر متصلا، وفيه هذه الجملة من التفسير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 القول في تأويل قوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فاستكبر هؤلاء الذين أرسل الله عليهم ما ذكر في هذه الآيات من الآيات والحجج، عن الإيمان بالله وتصديق رسوله موسى صلى الله عليه وسلم واتباعه على ما دعاهم إليه، وتعظموا على الله وعتَوا عليه (1) = (وكانوا قومًا مجرمين) ، يقول: كانوا قومًا يعملون بما يكرهه الله من المعاصي والفسق عتوًّا وتمرّدًا. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ولما وقع عليهم الرجز"، ولما نزل بهم عذاب الله، وحَلّ بهم سخطه. * * * ثم اختلف أهل التأويل في ذلك "الرجز" الذي أحبر الله أنه وقع بهؤلاء القوم. فقال بعضهم: كان ذلك طاعونًا. * ذكر من قال ذلك: 15033 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: وأمر موسى قومه من بني إسرائيل = وذلك   (1) انظر تفسير ((الاستكبار)) فيما سلف 12: 561، تعليق: 3، والمراجع هناك: (2) انظر تفسير ((الإجرام)) فيما سلف 12: 207، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 بعد ما جاء قوم فرعونَ بالآيات الخمس: الطوفان وما ذكر الله في هذه الآية، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل = فقال: ليذبح كل رجل منكم كبشًا، ثم ليخضب كفّه في دمه، ثم ليضرب به على بابه! فقالت القبط لبني إسرائيل = لم تعالجُون هذا الدمَ على أبوابكم؟ (1) فقالوا: إن الله يرسل عليكم عذابًا، فنسلم وتهلكون. فقالت القبط: فما يعرفكم الله إلا بهذه العلامات؟ فقالوا: هكذا أمرنا به نبيّنا! فأصبحوا وقد طُعِنَ من قوم فرعون سبعون ألفًا، فأمسوا وهم لا يتدَافنون. فقال فرعون عند ذلك: (ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفتَ عنا الرجز) ، وهو الطاعون، (لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) ، فدعا ربه، فكشفه عنهم، فكان أوفاهم كلّهم فرعون، فقال لموسى: اذهب ببني إسرائيل حيث شئت. 15034 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه الرازي وأبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير = قال حبويه، عن ابن عباس = (لئن كشفت عنا الرجز) قال: الطاعون. * * * وقال آخرون: هو العذاب. * ذكر من قال ذلك: 15035 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الرجز" العذاب. 15036 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 15037 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلما كشفنا عنهم الرجز) ، أي العذاب. 15038 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال،   (1) في المطبوعة: ((لم تجعلون)) ، وفي المخطوطة كما أثبتها. سيئة الكتابة، ومعناها قريب من الصواب إن شاء الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 حدثنا معمر، عن قتادة: (ولما وقع عليهم الرجز) ، يقول: العذاب. 15039 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولما وقع عليهم الرجز) ، قال، "الرجز"، العذاب الذي سلط الله عليهم من الجراد والقمل وغير ذلك، وكلّ ذلك يعاهدونه ثم ينكثون. * * * وقد بينا معنى "الرجز" فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده المغنية عن إعادتها. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز = وهو العذاب والسخط من الله عليهم = فزعوا إلى موسى بمسألته ربَّه كشفَ ذلك عنهم. وجائز أن يكون ذلك "الرجز" كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، لأن كل ذلك كان عذابًا عليهم = وجائز أن يكون ذلك "الرجز" كان طاعونًا، ولم يخبرنا الله أيّ ذلك كان، ولا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيِّ ذلك كان خبرٌ، فنسلم له. فالصواب أن نقول فيه كما قال جل ثناؤه: (ولما وقع عليهم الرجز) ، ولا نتعداه إلا بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل، وهو لمّا حل بهم عذاب الله وسخطه. * * * = (قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) ، يقول: بما أوصاك وأمرك به. (2) وقد بينا معنى: "العهد"، فيما مضى. * * * = (لئن كشفت عنا الرجز) ، يقول: لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن   (1) انظر تفسير ((الرجز)) فيما سلف 2: 116 - 118/12: 521. (2) انظر تفسير ((العهد)) فيما سلف ص: 10، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 فيه (1) (لنؤمننّ لك) ، يقول: لنصدقن بما جئت به ودعوت إليه ولنقرَّنّ به لك = (ولنرسلن معك بني إسرائيل) ، يقول: ولنخلِّين معك بني إسرائيل فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاؤوا. * * * القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه فأجابه، فلما رفع الله عنهم العذاب الذي أنزله بهم = (إلى أجل هم بالغوه) ، ليستوفوا عذابَ أيامهم التي جعلَها الله لهم من الحياة أجلا إلى وقت هلاكهم (2) = (إذا هم ينكثون) ، يقول: إذا هم ينقضون عهودَهم التي عاهدوا ربَّهم وموسى، ويقيمون على كفرهم وضلالهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15040 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (إلى أجل هم بالغوه) ، قال: عدد مسمَّى لهم من أيامهم. 15041 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 15042 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،   (1) انظر تفسير ((الكشف)) فيما سلف 11: 354. (2) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف 12: 405، تعليق: 2، والمرجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 حدثنا أسباط، عن السدي: (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) ، قال: ما أعطوا من العهود، وهو حين يقول الله: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) ، وهو الجوع = (ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) ، [الأعراف: 130] . * * * القول في تأويل قوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما نكثوا عهودهم = "انتقمنا منهم"، يقول: انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم، (1) وذلك عذابه = "فأغرقناهم في اليمّ"، وهو البحر، كما قال ذو الرمة: دَاوِيَّةٌ وَدُجَى لَيْلٍ كَأَنَّهُمَا يَمٌّ تَرَاطَنُ فِي حَافَاتِهِ الرُّومُ (2)   (1) انظر تفسير ((الانتقام)) فيما سلف 11: 47، 56، 57. (2) ديوانه: 576، من قصيدة باذخة، وهذا البيت منها في صفه فلاة مخوفة، يقول قبله: بَيْنَ الرَّجَا والرَّجَا من جَنْبٍ وَاصِيَةٍ ... يَهْمَاءَ خَابِطُهَا بِالخَوْفِ مَكْعُومُ لِلجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلٌ ... كَمَا تَجَاوَبَ يَوْمَ الرِّيحِ عَيْشُومُ هَنَّا، وَهَنَّا وَمِنْ هَنَّا لَهُنَّ، بِهَا ... ذَاتَ الشَّمَائِلِ وَالأَيْمَانِ هَيْنُومُ دَوِّيَّةٌ وَدُجَي لَيْل ............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ((الرجا)) الناحية. و ((الواصية)) ، فلاة تتصل بفلاة مخوفة أخري، كأن بعضها يوصي بعضاً بالأهوال.و ((خابطها)) الساري فيها لايكاد يهتدي. ((يهماء)) ، مبهمة لايكاد المرء يهتدي فيها. و ((مكعوم)) مشدود الفم، لايطيق أن ينطق من الرعب. و ((زجل الجن)) ، صوتها وعزيفها. و ((العيشوم)) نبت له خشخشة إذا هبت عليه الريح. و ((الهينوم)) ، الهينمة وهو صوت تسمعه ولا تفهمه. يقول تأتيه هذه الأصوات من يمين وشمال. و ((الدوية)) و، الداوية، الفلاة التي يسمع فيها دوي الصوت، لبعد أطرافها. وهذا شعر فاخر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 وكما قال الراجز: (1) * كَبَاذِحِ الْيَمِّ سَقَاهُ الْيَمُّ * (2) = (بأنهم كذبوا بأياتنا) ، يقول: فعلنا ذلك بهم بتكذيبهم بحججنا وأعلامنا التي أريناهموها (3) = (وكانوا عنها غافلين) ، يقول: وكانوا عن النقمة التي أحللناها بهم، غافلين قبل حلولها بهم أنّها بهم حالَّةٌ. * * * و"الهاء والألف" في قوله: "عنها"، كناية من ذكر "النقمة"، فلو قال قائل: هي كناية من ذكر "الآيات"، ووجّه تأويل الكلام إلى: وكانوا عنها معرضين = فجعل إعراضهم عنها غفولا منهم إذ لم يقبلوها، كان مذهبًا. يقال من "الغفلة"، "غفل الرجل عن كذا يغفُل عنه غَفْلة وغُفُولا وغَفَلا". (4) * * *   (1) هو العجاج. (2) ديوانه: 63، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 227، من أرجوزة ذكر فيها مسعود بن عمرو العتكي الأزدي، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج. فقال يذكر تميما وخزيمة، وقيس عيلان حين اجتمعت كتائبهم وجيوشهم: وَأَصْحَروا حين اسْتَجَمَّ الجَمُّ ... بِذِي عُبَابٍ بَحرُهُ غِطَمُّ كَبَاذِخِ اليِمِّ سَقَاهُ اليَمُّ ... لَهُ نَوَاحٌ وَلَه أُسْطُمُّ وكان في المطبوعة: ((كمادح اليم)) ، وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وقوله: ((كباذخ اليم)) ، يعني موج البحر، ((سقاه اليم)) ، أي: أمده اليم، فهو لا يزال في علو وارتفاع. و ((الغطم)) ، البحر الكثير الماء الملتطم الموج. و ((أسطم البحر)) ، مجتمعه ووسطه، حيث يضرب بعضه بعضاً من كثرته. (3) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) (4) انظر تفسير ((الغفلة)) فيما سلف 2: 244، 316 / 3: 127، 184 /9: 162 ولم يبين فيما سلف هذا البيان الذي جاء به هنا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 القول في تأويل قوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم، فيذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، ويستخدمونهم تسخيرًا واستعبادًا من بني إسرائيل (1) = مشارق الأرض الشأم، وذلك ما يلي الشرق منها = "ومغاربها التي باركنا فيها"، يقول: التي جعلنا فيها الخير ثابتًا دائمًا لأهلها. (2) وإنما قال جل ثناؤه: (وأورثنا) ، لأنه أورث ذلك بني إسرائيل بمهلك من كان فيها من العمالقة. * * * وبمثل الذي قلنا في قوله: (مشارق الأرض ومغاربها) ، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15043 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق في الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) ، قال: الشأم. 15044 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن فرات القزاز قال: سمعت الحسن يقول، فذكر نحوه. 15045 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن فرات   (1) انظر تفسير ((الاستضعاف)) فيما سلف 12: 542. (2) انظر تفسير ((البركة)) فيما سلف من فهارس اللغة (برك) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 القزاز، عن الحسن، "الأرض التي باركنا فيها"، قال: الشأم. 15046 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) ، هي أرض الشأم. 15047 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: (مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) ، قال: التي بارك فيها، الشأم. * * * وكان بعض أهل العربية يزعم "أن مشارق الأرض ومغاربَها"، نصب على المحلّ، بمعني: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق في الأرض ومغاربها = وأن قوله: "وأورثنا" إنما وقع على قوله: (التي باركنا فيها) . (1) وذلك قول لا معنى له، لأن بني إسرائيل لم يكن يستضعفهم أيام فرعون غير فرعون وقومه، ولم يكن له سلطان إلا بمصر، فغير جائز والأمر كذلك أن يقال: الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها. * * * فإن قال قائل: فإن معناه: في مشارق أرض مصر ومغاربها = فإن ذلك بعيد من المفهوم في الخطاب، مع خروجه عن أقوال أهل التأويل والعلماء بالتفسير. * * * وأما قوله: (وتمت كلمة ربك الحسنى) ، فإنه يقول: وَفَي وعدُ الله الذي وعد بني إسرائيل بتمامه، على ما وعدهم، من تمكينهم في الأرض، ونصره إياهم على عدوّهم فرعون = و"كلمته الحسنى"، قوله جل ثناؤه: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ   (1) يعني بالوقوع، أنه تعدي إليه، فهو له مفعول به. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) ، [القصص: 5-6] . * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15048 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) ، قال: ظهرَ قوم موسى على فرعون، و "تمكين الله لهم في الأرض"، وما ورَّثهم منها. (1) 15049 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. * * * وأما قوله: (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه) ، فإنه يقول: وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العِمارات والمزارع = (وما كانوا يعرشون) ، يقول: وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، وأخرجناهم من ذلك كله، وخرَّبنا جميع ذلك. * * * وقد بينا معنى "التعريش"، فيما مضى بشواهده. (2) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15050 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (وما كانوا يعرشون) ، يقول: يبنون.   (1) في المطبوعة: ((ظهور قوم موسي 000)) ثم: ((وما ورثهم منها)) بزيادة الواو، وأثبت ما في المخطوطة، فهو مستقيم غاية الاستقامة. (2) انظر تفسير ((التعريش)) فيما سلف 12: 156. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 15051 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يعرشون) ، يبنون البيوت والمساكن ما بلغت، وكان عنبهم غير معرَّش. (1) 15052 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (يَعْرِشُونَ) ، بكسر الراء = سوى عاصم بن أبي النجود، فإنه قرأه بضمّها. * * * قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان في العرب، يقال: "عَرَش يعرِش ويعْرُش. فإذا كان ذلك كذلك، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لاتّفاق مَعْنَيي ذلك، (2) وأنهما معروفان من كلام العرب. وكذلك تفعل العرب في "فَعَل"، إذا ردّته إلى الاستقبال، تضمُّ العين منه أحيانًا، وتكسره أحيانًا. غير أن أحبَّ القراءتين إليّ كسر "الراء"، لشهرتها في العامة، وكثرة القرأة بها، وأنها أصحُّ اللغتين. * * *   (1) في المطبوعة: ((غير معروش)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: ((معني ذلك)) بالأفراد، وأثبت ما في المخطوطة بالتثنية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 القول في تأويل قوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد الآيات التي أريناهموها، والعبر التي عاينوها على يدي نبيّ الله موسى، فلم تزجرهم تلك الآيات، ولم تعظهم تلك العبر والبينات! حتى قالوا = مع معاينتهم من الحجج ما يحق أن يذكُرَ معها البهائم، إذ مرُّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، يقول: يقومون على مُثُل لهم يعبدونها من دون الله (1) = "اجعل لنا" يا موسى "إلهًا"، يقول: مثالا نعبده وصنما نتخذُه إلهًا، كما لهؤلاء القوم أصنامٌ يعبدونها. ولا تنبغي العبادة لشيء سوى الله الواحد القهار. وقال موسى صلوات الله عليه: إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجبَ حقه عليكم، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السموات والأرض. * * * وذكر عن ابن جريج في ذلك ما: - 15053 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) ، قال ابن جريج: "على أصنام لهم"، قال: تماثيل بقر. فلما كان عجل السامريّ شبِّه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أوّل شأن العجل: (قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) ، * * *   (1) انظر تفسير ((العكوف)) فيما سلف 3: 41، 539، 540. و ((المثل)) (بضمتين) جمع ((مثال)) (بكسر الميم) ، وهو الصورة، مثل ((التمثال)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 وقيل: إن القوم الذين كانوا عكوفًا على أصنام لهم، الذين ذكرهم الله في هذه الآية، قوم كانوا من لَخْم. * ذكر من قال ذلك: 15054 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا بشر بن عمرو قال، حدثنا العباس بن المفضل، عن أبي العوام، عن قتادة: (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) ،قال: على لخم. (1) * * * وقيل: إنهم كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم. وقد:- 15055 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن أبا واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بِسدْرة، (2) قلت: يا نبي الله، اجعل لنا هذه ذاتُ أنواط كما للكفار ذاتُ أنواط! وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها (3) = فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة"، إنكم ستركبون سنن الذين من قبلكم. (4) 15056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا   (1) الأثر: 15054 - ((بشر بن عمر الحكم بن عقبة الزهراني الأزدي)) ، روي له الجماعة. مضى برقم 3375. و ((العباس بن المفضل)) ، هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأرجح أنه ((العباس بن الفضل الأنصارى الواقفي)) ، مترجم في التهيب، وابن أبي حاتم 2/1/212، وهو متروك الحديث. و ((أبو العوام)) ، هو ((عمران بن داور القطان)) ، مضى برقم: 7503. (2) ((السدرة)) ، وواحدتها ((سدرة)) ، هو شجر النبق. (3) ((ناط الشيء ينوطه نوطا)) ، علقه. و ((الأنواط)) ما يعلق على الهودج أو غيره، وهي المعاليق. (4) الأثر: 15055 - خبر أبي واقد الليثى، في ((ذات أنواط)) ، رواه أبو جعفر من أربع طرق، هذا أولها، وهو خبر مرسل، لأن الزهري لم يسنده. وسيأتي تخريجه في الذي يليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 معمر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا نبي الله، اجعل لنا هذه ذات أنواط، فذكر نحوه. (1) 15057- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه. (2) 15058 - حدثني المثنى قال، حدثنا ابن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي: أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها "ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط. قال: "قلتم والذي نفسي بيده، ما قال قوم موسى: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون"، إنها السنن، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم. (3) * * *   (1) الأثر: 15056 - ((سنان بن أبي سنان = الديلى أو الدؤلى =الجدرى)) ، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/163، وابن أبي حاتم 2/1/252. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 218 من طريق عبد الرازق، عن معمر، بنحوه. (2) الأثر: 15057 - رواه ابن إسحق في سيرته 4: 84، عن ((أبي واقد الليثى، الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بكفر)) ، وفي المطبوعة الحلبية ((أن الحارث بن مالك)) ، بزيادة ((أن)) ، وهي زيادة فاسدة، ليست في سائر النسخ. (3) الأثر: 15058 - ((ابن صالح)) : هو ((عبد الله بن صالح الجهني المصري)) ، ((أبو صالح)) ، كاتب الليث بن سعد. وأسقط في المطبوعة والمخطوطة [حدثني المثنى قال] ، وأبو جعفر لم يدرك أبا صالح، وإنما يروى عنه عن طريق ((المثنى)) ، كما سلف في إسناده الدائر في التفسير، وأقربه: 15050: ((حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح)) . وقد رواه البخاري كما سترى عن أبي صالح مباشرة، فلذلك ثبت أنه قد سقط من الإسناد: [حدثني المثنى] فزدتها، وانظر مثل هذا الإسناد فيما سلف: 2350. والليث هو ((الليث بن سعد)) الإمام. و ((عقيل)) هو ((عقيل بن خالد الأيلي)) ، مضى برقم: 19، 2350، ثقة ثبت حجة. وهذا الخبر رواه أحمد من طريق حجاج، عن ليث بن سعد، بنحوه، ورواه البخاري مختصراً في تاريخه 2/2/164 قال: ((وقال لنا أبو صالح حدثني الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرنى سنان بن أبي سنان الدؤلى، ثم الجدرى، عن أبي واقد الليثى، سمع النبي صلى الله عليه وسلم: لتركبن سنن من قبلكم)) . وزاد أحمد طريقاً أخرى في مسنده لخبر أبي واقد، طريق مالك بن أنس، عن الزهرى، عن سنان ابن أبي سنان (المسند رقم 5: 218) . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 191 من طريق إبراهيم بن سعد الزهرى، عن [الزهرى] ، عن سنان بن أبي سنان، نحوه. وفي المسند إسقاط [الزهرى] . وخرجه السيوطي في الدر المنشور 3: 114، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردوية. و ((السنن)) (بفتحتين) : نهج الطريق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 القول في تأويل قوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) } قال أبو حعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل موسى لقومه من بني إسرائيل. يقول تعالى ذكره: قال لهم موسى: إن هؤلاء العُكوف على هذه الأصنام، الله مُهْلِكٌ ما هم فيه من العمل ومفسده، ومخسرهم فيه، بإثابته إياهم عليه العذاب المهين = "وباطل ما كانوا يعملون"، من عبادتهم إياها، فمضمحلّ، لأنه غير نافعهم عند مجيء أمر الله وحلوله بساحتهم، (1) ولا مدافع عنهم بأسَ الله إذا نزل بهم، ولا منقذهم من عذابه إذا عذبهم في القيامة، فهو في معنى ما لم يكن. (2) * * *   (1) في المطبوعة: ((غير نافع)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير ((الباطل)) فيما سلف من فهارس اللغة (بطل) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15059 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، = حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد = قالا جميعًا، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) ، يقول: مهلك ما هم فيه. 15060 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) ، يقول: خُسْران. 15061 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) ، قال: هذا كله واحد كهيئة: "غفور رحيم"، "عفوّ غفور". قال: والعرب تقول: "إنه البائس لمُتَبَّرٌ"، "وإنه البائس لَمُخَسَّرٌ. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى لقومه: أسِوَى الله ألتمسكم إلهًا، وأجعل لكم معبودًا تعبدونه، (1) والله الذي هو خالقكم، فضلكم على عالمي دهركم وزمانكم؟ (2) يقول: أفأبغيكم معبودًا لا ينفعكم ولا يضركم تعبدونه، وتتركون عبادة من فضلكم على الخلق؟ إن هذا منكم لجهل!   (1) انظر تفسير ((بغى)) فيما سلف 12: 559، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((العالمين)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم: واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الآيات والعبر، وبعد النعم التي سلفت مني إليكم، والأيادي التي تقدمت = فعلَكم ما فعلتم = (إذ أنجيناكم من آل فرعون) ، وهم الذين كانوا على منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه (1) = (يسومونكم سوء العذاب) ، يقول: إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه. (2) * * * وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ما كان العذاب الذي كان يسومهم سيئه. (3) * * * = (يقتلون أبناءكم) ، الذكورَ من أولادهم = (ويستحيون نساءكم) ، يقول: يستبقون إناثهم (4) = (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) ، يقول: وفي سومهم إياكم سوء العذاب، اختبار من الله لكم ونعمة عظيمة. (5) * * *   (1) انظر تفسير ((الآل)) فيما سلف 2: 37 / 3: 222، تعليق 3 / 6: 326 / 8: 480. (2) انظر تفسير ((السوم)) فيما سلف 2: 40. (3) انظر ما سلف 2: 40، 41. (4) انظر تفسير ((الاستحياء)) فيما سلف 2: 41 - 48 / 13: 41. (5) انظر تفسير ((البلاء)) فيما سلف 12: 289، تعليق: 2، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: ((وتعمد عظيم)) ، ولا معنى له، والصواب ما أثبت، وانظر ما سلف في تفسير نظيرة هذه الآية 2: 48، 49، فمنه استظهرت الصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 القول في تأويل قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قال أبوجعفر: يقول تعالى ذكره: وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة. (1) وقيل: إنها ثلاثون ليلة من ذي القعدة. = (وأتممناها بعشر) ، يقول: وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة. * * * وقيل: إن العشر التي أتمها به أربعين، عشر ذي الحجة. * ذكر من قال ذلك. 15062 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) ، قال: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة. 15063 - ... قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) ، قال: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة. ففي ذلك اختلفوا. (2) 15064 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) ، هو ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فذلك قوله: (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) . 15065 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن الثلاثين التي كان واعدَ موسى ربه، كانت   (1) انظر تفسير ((المواعدة)) فيما سلف 2: 58 - 60، في نظيرة هذه الآية. (2) الأثر: 15063 - وضعت النقط، لأنه اختصار أراد به أن صدر الإسناد هو صدر الإسناد الذي قبله، وقد مضى مثل ذلك مرارًا ولم أشر إليه، فآثرت منذ الآن، أن أضع النقط تنبيهاً على ذلك، فهو رواية سفيان بن وكيع، عن جرير، كما مضى مرارًا مثل هذا الإسناد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 ذا القعدة، والعشرَ من ذي الحجة التي تمم الله بها الأربعين. 15066 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) ، قال: ذو القعدة. (وأتممناها بعشر) ، قال: عشر ذي الحجة = قال ابن جريج: قال ابن عباس مثله. 15067 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) ، قال: ذو القعدة، والعشر الأوَل من ذي الحجة. 15068 - ... قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق: (وأتممناها بعشر) ، قال: عشر الأضحى. * * * وأما قوله: (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) ، فإنه يعني: فكمل الوقت الذي واعد الله موسى أربعين ليلة، (1) وبلغها. كما:- 15069 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (فتم ميقات ربه) ، قال: فبلغ ميقات ربه أربعين ليلة. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لما مضى لموعد ربه قال لأخيه هارون: (اخلفني في قومي) ، يقول: كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع. * * *   (1) انظر تفسير ((التمام)) فيما سلف 3: 17، 18 / 4: 7/ 12: 62. = وتفسير ((الميقات)) فيما سلف 3: 553 - 555. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 يقال منه: "خَلَفه يخْلُفه خِلافة". (1) * * * (وأصلح) ، يقول: وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته، كما:- 15070 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: "وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح"، وكان من إصلاحه أن لا يدع العجل يُعْبد. * * * وقوله: (ولا تتبع سبيل المفسدين) ، يقول: ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض، بمعصيتهم ربهم، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم، ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم. (2) * * * وكانت مواعدة الله موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون، ونجَّى منه بني إسرائيل، فيما قال أهل العلم، كما:- 15071 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) ، الآية، قال: يقول: إن ذلك بعد ما فرغ من فرعون وقبل الطور، لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرّق آل فرعون، وخلص إلى الأرض الطيبة، أنزل الله عليهم فيها المنّ والسلوى، وأمره ربه أن يلقَاه، فلما أراد لقاء ربه، استخلف هارون على قومه، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة، ميعادًا من قِبَله، من غير أمر ربه ولا ميعاده. فتوجه ليلقى ربه، فلما تمت ثلاثون ليلة، قال عدو الله السامريُّ: ليس يأتيكم موسى، وما يصلحكم إلا إله تعبدونه! فناشدهم هارون وقال: لا تفعلوا، انظروا ليلتكم هذه ويومكم هذا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم! فقالوا: نعم! فلما أصبحوا   (1) انظر تفسير ((الخلافة)) فيما سلف 12: 540، 541 تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((اتبع)) و ((الفساد)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) (فسد) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 من غد ولم يروا موسى، عاد السامري لمثل قوله بالأمس. قال: وأحدث الله الأجل بعد الأجل الذي جعله بينهم عشرًا، (1) فتم ميقات ربه أربعين ليلة، فعاد هارون فناشدهم إلا ما نظروا يومهم ذلك أيضًا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم! ثم عاد السامري الثالثة لمثل قوله لهم، وعاد هارون فناشدهم أن ينتظروا، فلما لم يروا ... (2) 15072 - قال القاسم، قال الحسين، حدثني حجاج قال، حدثني أبو بكر بن عبد الله الهذليّ قال: قام السامري إلى هارون حين انطلق موسى فقال: يا نبي الله، إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حليًّا كثيرًا من زينتهم، وإن الجند الذين معك قد أسرعوا في الحلي يبيعونه وينفقونه، (3) وإنما كان عارية من آل فرعون، فليسوا بأحياء فنردّها عليهم، ولا ندري لعل أخاك نبيّ الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأي، إما يقرّبها قربانا فتأكلها النار، وإما يجعلها للفقراء دون الأغنياء! فقال له هارون: نِعْمَ ما رأيت وما قلت! فأمر مناديًا فنادى: من كان عنده شيء من حليّ آل فرعون فليأتنا به! فأتوه به، فقال هارون: يا سامري أنت أحق من كانت عنده هذه الخزانة! فقبضها السامري، وكان عدو الله الخبيث صائغًا، فصاغ منه عجلا جسدًا، ثم قذف في جوفه تُرْبة من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل عليه السلام إذ رآه في البحر، فجعل   (1) في المطبوعة: ((بينهم عشرا)) وفي المخطوطة غير منقوطة، وهذا صوابها. (2) الأثر 15071 - هذا خبر لم يتم كما ترى، ولم أجده في مكان آخر. وسبب ذلك أن قوله ((فلما لم يروه)) هو في المخطوطة في آخر الصفحة اليسرى، ثم بدأ بعدها: ((قال القاسم)) ، فظاهر أن الناسخ عجل، فأسقط من الخبر تمامه، لما قلب الصفحة، وبدأ الخبر التالي بعده. (3) (3) في المطبوعة: ((وإن الذين معك)) ، حذف ((الجند)) ، لأنها غير منقوطة، فلم يحسن قراءتها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 يخور، ولم يخر إلا مرة واحدة، وقال لبني إسرائيل: إنما تخلف موسى بعد الثلاثين الليلة يلتمس هذا! (هذا إلهُكُمْ وإلهُ مُوسَى فَنَسِي) ، [طه: 88] . يقول: إن موسى عليه السلام نسي ربّه. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} قال أبوجعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه (1) = "وكلمه ربه"، وناجاه = " قال" موسى لربه = (أرني أنظر إليك) ، قال الله له مجيبًا: " (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) . * * * وكان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه، ما:- 15073 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: إن موسى عليه السلام لما كلمه ربه، أحب أن ينظر إليه = قال: "رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني"، فحُفَّ حول الجبل [بملائكة] ، (2) وحُفَّ حول الملائكة بنار، وحُفّ حول النار بملائكة، وحُفّ حول الملائكة بنار، ثم تجلى ربه للجبل. 15074 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن   (1) انظر تفسير ((الميقات)) فيما سلف قريباً ص: 87، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) هذه الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) ، [مريم: 52] ، قال: حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرّبه الربّ حتى سمع صَرِيف القلم، (1) فقال عند ذلك من الشوق إليه: (رب أرني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) . 15075 - حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي قال: لما تخلف موسى عليه السلام بعد الثلاثين، حتى سمع كلام الله، اشتاق إلى النظر إليه فقال: (ربّ أرني أنظر إليك! قال: لن تراني) ، وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا، من نظر إلي مات! قال: إلهي سمعت منطقك، واشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك ثم أموتُ أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك! قال: فانظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. 15076 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (أرني انظر إليك) ، قال: أعطني. 15077 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: استخلف موسى هارون على بني إسرائيل وقال: إني متعجل إلى ربي، فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للقيّه شوقًا إليه، وأقام هارون في بني إسرائيل، ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. فلما كلم الله موسى، طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال الله لموسى: إنك لن تراني، (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) ، الآية. قال ابن إسحاق: فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر موسى لما طلب النظر إلى ربه، وأهل الكتاب يزعمونَ وأهلُ التوراة: أنْ قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة، ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله، والله أعلم. = قال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأوّل بأحاديث أهل الكتاب، إنهم   (1) ((صريف القلم والباب والناب)) ، ونحوها: وهو مثل ((الصرير)) ، وهو صوت ممتد حاد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 يجدون في تفسير ما عندهم من خبر موسى حين طلب ذلك إلى ربه، أنه كان من كلامه إياه حين طمع في رؤيته، وطلب ذلك منه، وردّ عليه ربه منه ما ردّ: أن موسى كان تطهّر وطهّر ثيابه، وصام للقاء ربه. فلما أتى طور سينا، ودنا الله له في الغمام فكلّمه، سبحه وحمّده وكبره وقدَّسه، مع تضرع وبكاء حزين، ثم أخذ في مِدْحته، فقال: ربّ ما أعظمك وأعظم شأنك كله! من عظمتك أنه لم يكن شيء من قبلك، فأنت الواحد القهار، كأن عرشك تحت عظمتك نارًا توقد لك، وجعلت سرادقًا [من نور] من دونه سرادق من نور، (1) فما أعظمك ربّ وأعظم ملكك! جعلت بينك وبين ملائكتك مسيرة خمسمائة عام. فما أعظمك رب وأعظم ملكك في سلطانك! فإذا أردت شيئًا تقضيه في جنودك الذين في السماء أو الذين في الأرض، وجنودك الذين في البحر، بعثت الريح من عندك لا يراها شيء من خلقك، إلا أنت إن شئت، (2) فدخلت في جوف من شئت من أنبيائك، فبلغوا لما أردت من عبادك. (3) وليس أحد من ملائكتك يستطيع شيئًا من عظمتك ولا من عرشك ولا يسمع صوتك، فقد أنعمت عليّ وأعظمت عليّ في الفضل، وأحسنت إليّ كلّ الإحسان! عظمتني في أمم الأرض، وعظمتني عند ملائكتك، وأسمعتني صوتك، وبذلت لي كلامك، وآتيتني حكمتك، فإن أعدَّ نعماك لا أحصيها، وإن أُرِد شكرك لا أستطيعه. (4) دعوتك، ربّ، على فرعون بالآيات العظام، والعقوبة الشديدة، فضربت بعصاي التي في يدي البحر فانفلق لي ولمن معي! ودعوتك حين أجزتُ البحر، (5) فأغرقت عدوك وعدوّي. وسألتك الماء لي ولأمتي، فضربت بعصاي التي في يدي الحجر، فمنه أرويتني وأمتي. وسألتك لأمتي طعامًا لم يأكله أحد كان قبلهم، فأمرتني أن أدعوك من قبل المشرق ومن قبل المغرب، فناديتك من شرقي أمتي فأعطيتهم المن من مشرق لنفسي، (6) وآتيتهم السلوى من غربيهم من قبل البحر، واشتكيت الحر فناديتك، فظللت عليهم بالغمام. فما أطيق نعماك علي أن أعدّها ولا أحصيها، وإن أردت شكرها لا أستطيعه. (7) فجئتك اليوم راغبًا طالبًا سائلا متضرعًا، لتعطيني ما منعت غيري. أطلب إليك، وأسالك يا ذا العظمة والعزة والسلطان، أن تريني أنظر إليك، فإني قد أحببت أن أرى وجهك الذي لم يره شيء من خلقك! قال له رب العزة: ألا ترى يا ابن عمران ما تقول؟ (8) تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق! لا يراني أحد فيحيا، [أليس في السموات معمري، فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي، وليس في الأرض معمري، فإنها قد ضعفت أن تسع بجندي] . (9) فلستُ في مكان واحد فأتجلى لعين تنظر إليّ. قال موسى: يا رب، أن أراك وأموت، أحب إليّ من أن لا أراك وأحيا. قال له رب العزة: يا ابن عمران تكلمتَ بكلام هو أعظم من سائر الخلق، لا يراني أحد فيحيا! قال: رب تمم علي نعماك، وتمم عليّ فضلك، وتمم عليّ إحسانك، بهذا الذي سألتك، (10) ليس لي أن أراك فأقبض، ولكن أحب أن أراك فيطمئن قلبي. قال له: يا ابن عمران، لن يراني أحد فيحيا! قال: موسى رب تمم عليّ نعماك وتمم عليّ فضلك، وتمم علي إحسانك بهذا الذي سألتك، فأموت على أثر ذلك، (11) أحب إلي من الحياة! فقال الرحمن المترحِّم على خلقه: قد طلبت يا موسى، [وحيـ] لأعطينك (12) سؤلك إن استطعت أن تنظر إليّ، فاذهب فاتخذ لوحين، ثم انظر إلى الحجر الأكبر في رأس الجبل، فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلا مجلسك يا ابن عمران. ثم انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير، ففعل موسى كما أمره ربه، نحت لوحين ثم صعد بهما إلى الجبل فجلس على الحجر، فلما استوى عليه، أمر الله جنوده الذين في السماء الدنيا فقال: ضعي أكتافك حول الجبل. فسمعت ما قال الرب، ففعلت أمره. ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي موسى أربعة فراسخ من كل ناحية، ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمرُّوا بموسى، فاعترضوا عليه، فمروا به طيرانَ النُّغَر، (13) تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد، فقال موسى بن عمران عليه السلام: رب، إني كنت عن هذا غنيًّا، ما ترى عيناي شيئًا، قد ذهب بصرهما من شعاع النور المتصفِّف على ملائكة ربي! ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه! فهبطوا أمثال الأسد لهم لَجَبٌ بالتسبيح والتقديس، (14) ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى ومما سمع، فاقشعرّت كل شعرة في رأسه وجلده، ثم قال: ندمت على مسألتي إياك، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له كبير الملائكة ورأسهم (15) يا موسى، اصبر لما سألت، فقليل من كثير ما رأيت! ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة: أن اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه! فأقبلوا أمثال النسور لهم قَصْفٌ ورجفٌ ولجبٌ شديد، (16) وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس، كلجَب الجيش العظيم، كلهب النار. (17) ففزع موسى، وأَسِيَتْ نفسه وأساء ظنه، (18) وأَيِسَ من الحياة، فقال له كبير الملائكة ورأسهم: مكانك يا ابن عمران، حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران! فأقبلوا وهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مرُّوا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مرُّوا به قبلهم. فاصطكّت ركبتاه، وأرعد قلبه، واشتد بكاؤه، فقال كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت، فقليل من كثيرٍ ما رأيت! ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى! فهبطوا عليه سبعةَ ألوان، فلم يستطع موسى أن يُتبعهم طرفه، ولم ير مثلهم، ولم يسمع مثل أصواتهم، وامتلأ جوفه خوفًا، واشتد حزنه وكثر بكاؤه، فقال له كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران، مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة: أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني موسى بن عمران، واعترضوا عليه! فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نارًا أشد ضوءًا من الشمس، ولباسهم كلهب النار، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات كلهم، يقولون بشدة أصواتهم: "سبوح قدوس، رب العزة أبدا لا يموت" في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا، وهو يبكي ويقول: "رب أذكرني، ولا تنس عبدك، لا أدري أأنفلتُ مما أنا فيه أم لا إن خرجت أحرقت، وإن مكثت مت"! فقال له كبير الملائكة ورئيسهم (19) قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلئ جوفك، وينخلع قلبك، ويشتد بكاؤك، فاصبر للذي جلست لتنظر إليه يا ابن عمران! وكان جبل موسى جبلا عظيما، فأمر الله أن يحمل عرشه، ثم قال: مرُّوا بي على عبدي ليراني، فقليل من كثيرٍ ما رأى! فانفرج الجبل من عظمة الرب، وغشَّي ضوء عرش الرحمن جبل موسى، ورفعت ملائكة السموات أصواتها جميعا، فارتجّ الجبل فاندكَّ، وكل شجرة كانت فيه، وخرّ العبد الضعيفُ موسى بن عمران صعقًا على وجهه، ليس معه روحه، فأرسل الله الحياة برحمته، فتغشاه برحمته (20) وقلب الحجر الذي كان عليه وجعله كالمعِدة كهيئة القبة، (21) لئلا يحترق موسى، فأقامه الروح، مثل الأم أقامت جنينها حين يصرع. قال: فقام موسى يسبح الله ويقول: آمنت أنك ربي، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا، ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه، فما أعظمك ربّ، وأعظم ملائكتك، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، تأمر الجنود الذين عندك فيطيعونك وتأمر السماء وما فيها فتطيعك، لا تستنكف من ذلك، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء، رب تبت إليك، الحمد لله الذي لا شريك له، ما أعظمك وأجلّك ربَّ العالمين! * * *   (1) الزيادة بين القوسين مما يقتضيه السياق. (2) في المخطوطة والمطبوعة: ((بعثت الريح)) ، ولا أشك أن الصواب ما أثبت، ويعني بذلك ما قال الله سبحانه في ((سورة غافر)) 15: " رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ " (3) في المطبوعة: ((لما أردت من عبادك)) وفي المخطوطة: ((ما أردت)) ، والصواب ما أثبت. (4) في المطبوعة: (وإن أردت شكرك لا أستطيعها)) ، وفي المخطوطة: ((وإن أرد شكرك لا أستطيعها)) ، والصواب ما أثبت. (5) في المطبوعة: ((جزت)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضاً. (6) في المطبوعة: ((مشرقي لننفسى)) ، وهذه جملة مضطربة لا أدرى ما صوابها. (7) في المطبوعة والمخطوطة: ((لا أستطيعها)) ، والصواب ما أثبت. (8) في المطبوعة: ((فلا ترى)) وأثبت ما في المخطوطة. (9) هذه العبارة التي بين القوسين، لم أدر ما هي، قد جاءت في المخطوطة هكذا: ((في السماء معمرى ... )) ، وسائر الجملة كما في المطبوعة. وأنا في شك من ألفاظها، ولم أستطع أن اهتدي إلى تحريفها، فوضعتها بين القوسين. والخبر كله مضطرب اللفظ، ولم أجده في مكان آخر. فلذلك تركته كما هو، إلا أن يكون خطأ ظاهراً. (10) في المطبوعة: ((هذا الذي سألتك)) ، وأثبت ما في المخطوطة. وكذلك كانت في المطبوعة في الجملة التالية. (11) في المطبوعة: "هذا الذي سألتك ليس لي أن أراك فأموت " زادها قياسًا على السالف قبلها وأثبت ما في المخطوطة. (12) هذه الكلمة بين القوسين (هكذا في المخطوطة) . ولا أدري ما قراءتها. وأما في المطبوعة فقد حذفها وغير ما بعدها وكتب: "وأعطيتك" مكان "لأعطينك". (13) ((النغر)) (بضم ففتح) : ضرب من الطير حمر المناقير وأصول الأحناك، يقال: هو البلبل عند أهل المدينة. (14) ((اللجب)) (بفتحتين) : ارتفاع الأصوات واختلاطها. (15) في المطبوعة والمخطوطة: ((خير الملائكة)) وكأن الصواب ((كبير الملائكة)) ، كما أثبثها، وقد جاءت ((خير الملائكة)) في جميع المواضع الآتية، الأخير منها فقد كتبت علي الصواب: ((كبير)) . (16) في المطبوعة: ((نخف)) ، وفي المخطوطة: ((قصف)) غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. و ((القصف)) و ((القصيف)) صوت الرعد وما أشبهه. (17) في المطبوعة: ((أو كلهب)) بزيادة ((أو)) وأثبت ما في المخطوطة. (18) في المطبوعة: ((وأيست نفسه، وأساء ظنه)) وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. يقال: ((أسيت نفسه)) أي: حزنت. وانظر تفسير ((ساء ظنه)) فيما سلف 3: 585، تعليق: 1، ومعناه: خامرته الظنون السيئة. (19) انظر التعليق السالف ص: 95، تعليق: 1. (20) في المطبوعة أسقط ((الروح)) من الجملة. (21) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: ((كالمعدة)) ، ولا أدري أيصح هذا أم لا؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما اطّلع الرب للجبل، جعل الله الجبل دكًّا، أي: مستويًا بالأرض = (وخر موسى صعقًا) ، أي: مغشيا عليه. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15078 - حدثني الحسين بن محمد بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) ، قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر = (جعله دكًّا، قال: ترابًا = (وخر موسى صعقًا) ، قال: مغشيًّا عليه. 15079 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: تجلى منه مثل الخِنصر، فجعل الجبل دكَّا، وخر موسى صعقًا، فلم يزل صعقًا ما شاء الله. 15080 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وخر موسى صعقا) ، قال: مغشيًّا عليه. 15081 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا) ، قال انقعر بعضه على بعض = (وخر موسى صعقًا) ، أي: ميتا. 15082 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وخر موسى صعقًا) ، أي: ميتًا.   (1) انظر تفسير ((الصعقة)) فيما سلف 2: 83، 84 /9: 359. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 15083 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (دكًّا) ، قال: دك بعضه بعضًا. 15084 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا) ، قال: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه. 15085 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، عن الحجاج، عن أبي بكر الهذلي: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا) ، انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة. 15086 - حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي قال، حدثنا قرة بن عيسى قال، حدثنا الأعمش، عن رجل، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكًّا" = وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة. (1) 15087 - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا) ، قال هكذا بإصبعه، (2) =ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر =فساخ الجبل". (3)   (1) الأثر: 15086 - ((أحمد بن سهيل الواسطى)) ، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة. و"قرة أبي عيسى"، لم أجد له ترجمة ولا ذكرا. وهذا الخبر ذكره ابن كثير في تفسيره نقلا عن هذا الموضع، ولم يزد علي أن قال: ((هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم)) . (2) ((قال)) هنا بمعني: أشار. (3) الأثر: 15087 - ((حماد)) ، هو حماد بن سلمة)) ، مضى مرارًا. و ((ثابت)) هو ثابت بن أسلم البنانى)) ، ثقة، روى له الجماعة: مضى برقم: 2942، 7030. وهو إسناد رجالة ثقات. وهذا الخبر رواه الترمذي في تفسير الآية، من طريق سليمان بن حرب، عن حماد، ثم قال ((هذا حديث صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة)) . وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 546، عن هذا الموضع في تفسير الطبري، ولكنه كتب إسناده هكذا: ((حدثنا حماد، عن ليث، عن أنس)) ثم قال: ((هكذا وقع في هذا الرواية: ((حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ليث، عن أنس)) وليس ذلك كما نقل، فان الثابت في المخطوطة والمطبوعة، ((حماد، عن ثابت، عن أنس)) ، ليس فيها ((ليث)) ، فلا أدرى كيف وقع هذا للحافظ ابن كثير، ولا من أين؟ . وانظر تخريج الأثر التالي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 15088 - حدثني المثنى قال، حدثنا هدبة بن خالد قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا) ، قال: وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل = فقال حميد لثابت: تقول هذا؟ قال: فرفع ثابت يده فضرب صدر حُمَيْد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس، وأنا أكتمه! (1) 15089 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخرّ موسى صعقًا) ، وذلك أن الجبل حين كُشِف الغطاء ورأى النور، صار مثل دكّ من الدكَّات. (2)   (1) الأثر: 15088 - هو مطول الأثر السالف. وقد رواه ابن كثير تفسيره 3: 546، 547، ثم قال: ((وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المثنى، معاذ ابن معاذ العنبرى، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البنانى، عن أنس بن مالك)) ثم ذكر الخبر بنحوه. ثم قال: ((وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية، عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق، عن معاذ بن معاذ)) . ورواه الحاكم في المستدرك 2: 320، من طريق عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، وعن طريق سليمان بن حرب، عن حماد، بنحو حديث هد بة بن خالد، عن حماد، ثم قال: ((هذا حديث صحيح علي شرط مسلم)) ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير: ((وهذا إسناد صحيح له علة فيه)) . بعد أن ذكر خبر أبي جعفر. و ((حميد)) المذكور في هذا الخبر، هو ((حميد الطويل)) . (2) (2) لعل صواب من ((الدكاوات)) ، كما سيأتي في ص: 101، تعليق: 1. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 15090 - حدثنا الحرث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه) ، فإنه أكبر منك وأشد خلقا = (فلما تجلى ربه للجبل) ، فنظر إلى الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل يندك على أوله (1) . فلما رأى موسى ما يصنع الجبل، خر صعقًا. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (دكًّا) . فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: (دكًّا) ، مقصورًا بالتنوين بمعنى: "دكّ الله الجبل دكًّا" أي: فتته، واعتبارًا بقول الله: (كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا) ، [سورة الفجر: 21] وقوله: (وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) ، [سورة الحاقة: 14] واستشهد بعضهم على ذلك بقول حميد: (2) يَدُكُّ أَرْكَانَ الجِبَال هَزَمُهْ تَخْطُرِ بِالبِيضِ الرِّقَاقِ بُهَمُهْ (3) * * * وقرأته عامة قرأة الكوفيين: "جَعَلَهُ دَكَّاءَ"، بالمد وترك الجر والتنوين، مثل * * *   (1) (1) هكذا في المطبوعة: وفي المخطوطة: ((على أدله)) أيضاً، ولكن بشدة على اللام، فكأنها تقرأ: ((على أذله)) ، وهي أوضح معنى من التي في المطبوعة. يعني أنه ذل أشد ذل فاندك. (2) حميد، هو حميد الأرقط. (3) لم أجد البيتين في مكان، وفي تاريخ الطبري 7: 41، أبيات من رجز، كأن الذي هنا من تمامها. وكان في المطبوعة هنا: ((هدمه)) ، والصواب ما أثبت، والمخطوطة غير منقوطة، وكأنها هناك راء مهملة لا دال. و ((الهزم)) (بفتحتين) و ((الهزيم)) هو صوت الرعد الذي يشبه التكسر، ومثله قول رؤبة في صفة جيش لجب: * يُرْجِفُ أَنْضَادَ الجِبَالِ هَزَمَهُ * و ((تخطر)) أي تمشى متمايلة، تهز سيوفها معجبة مدلة بقوتها وبأسها و ((البهم)) جمع ((بهمة)) (بضم فسكون) : وهو الفارس الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له، ولا من أين يدخل عليه مقاتله، من شدة بأسه ويقظته. و ((البيض الرقاق)) : السيوف الرقيقة من حسن صقلها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 "حمراء" و"سوداء". وكان ممن يقرؤه كذلك، عكرمة، ويقول فيه ما:- 15091- حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد، عن يزيد بن حازم، عن عكرمة قال: "دكَّاء من الدكَّاوات". وقال: لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صَحراء ترابًا. (1) * * * واختلف أهل العربية في معناه إذا قرئ كذلك. فقال بعض نحويي البصرة: العرب تقول: "ناقة دكَّاء"، ليس لها سنام. وقال: "الجبل" مذكر، فلا يشبه أن يكون منه، إلا أن يكون جعله: "مثل دكاء"، حذف "مثل"، وأجراه مجرى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 82] . * * * وكان بعض نحويي الكوفة يقول: معنى ذلك: جعل الجبل أرضًا دكاء، ثم حذفت "الأرض"، وأقيمت "الدكاء" مقامها، إذْ أدَّت عنها. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي، قراءةُ من قرأ: (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ، بالمد وترك الجر، لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحته. وذلك أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فساخ الجبل"، (2) ولم يقل: "فتفتت" ولا "تحول ترابًا". ولا شك أنه إذا ساخ فذهب، ظهرَ وجهُ الأرض، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها، وصارت   (1) (1) الأثر 15091 - ((عباد بن عباد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي)) ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 82. و ((يزيد بن حازم بن يزيد الأزدي الجهضمى)) ، وثقه أحمد وابن معين، وهو أخو ((جرير ابن حازم)) ، أكبر منه. مترجم في التهذيب، والكبير 4/ 2/325، وابن أبي حاتم 4/2/257. وقوله: ((دكاء من الدكاوات)) ، ((الدكاوات)) جمع ((دكاء)) ، وهي الرابية من الطين ليست غليظة، وأجروه مجرى الأسماء، لغلبته، كقولهم: ((ليس في الخضراوات صدقة)) . وكان في المطبوعة: ((صار صخرة تراباً)) ، وفي المخطوطة: ((صار صحرا ترابا)) وهذا صواب قرأةتها. (2) (2) يعني في الأثرين رقم 15087، 15088 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 دكاء بلا سنام. وأما إذا دك بعضه، فإنما يكسر بعضه بعضًا ويتفتت ولا يَسُوخ. وأما "الدكاء" فإنها خَلَفٌ من "الأرض"، فلذلك أنثت، (1) على ما قد بينت. * * * فمعنى الكلام إذًا: فلما تجلى ربه للجبل ساخ، فجعل مكانه أرضًا دكاء. وقد بينا معنى "الصعق" بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى صلى الله عليه وسلم= " قال سبحانك"، تنزيهًا لك، يا رب، وتبرئةً أن يراك أحد في الدنيا، (3) ثم يعيش = "تبت إليك"، من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية= "وأنا أوّل المؤمنين"، بك من قومي، أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15092- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن موسى، عن أبي   (1) (1) في المطبوعة: ((فلذلك أتت)) وفي المخطوطة: ((فلذلك أتيت)) ، وصواب ذلك ما أثبت. (2) (2) انظر تفسير ((الصعق)) فيما سلف 2: 83، 84 /: 359. (3) (3) انظر تفسير ((سبحان)) فيما سلف 12: 10، تعليق 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: "تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين"، قال: كان قبله مؤمنون، ولكن يقول: أنا أوّل من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة. 15093- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما رأى موسى ذلك وأفاق، عرف أنه قد سأل أمرًا لا ينبغي له، فقال: "سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين"، قال أبو العالية: عنى: إني أوّل من آمن بك أنه لن يراك أحدٌ قبل يوم القيامة. 15094- حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، قال سفيان، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وخر موسى صعقًا"، فمرّت به الملائكة وقد صعق، فقالت: يا ابن النساء الحيَّض، لقد سألت ربك أمرًا عظيمًا! فلما أفاق قال: سبحانك لا إله إلا أنت تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين! قال: أنا أوّل من آمن أنه لا يراك أحدٌ من خلقك = يعني: في الدنيا. 15095- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين"، يقول: أنا أوّل من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك. 15096- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: "سبحانك تبت إليك"، قال: من مسألتي الرؤية. 15097- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: "قال سبحانك تبت إليك"، أن أسألك الرؤية. 15098- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن رجل، عن مجاهد: "سبحانك تبت إليك"، أن أسألك الرؤية. 15099- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 ابن عيينة، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد في قوله: "سبحانك تبت إليك"، قال: تبت إليك من أن أسألك الرؤية. * * * وقال آخرون: معنى قوله: وأنا أول المؤمنين بك من بني إسرائيل. * ذكر من قال ذلك: 15100- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأنا أول المؤمنين"، قال: أول من آمن بك من بني إسرائيل. 15101- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأنا أول المؤمنين"، يعني: أول المؤمنين من بني إسرائيل. 15102- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "وأنا أول المؤمنين"، أنا أول قومي إيمانًا. 15103- حدثنا ابن وكيع والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن رجل، عن مجاهد: "وأنا أول المؤمنين"، يقول: أول قومي إيمانًا. 15104- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وأنا أول المؤمنين"، قال: أنا أول قومي إيمانًا. 15105- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: "وأنا أول المؤمنين"، قال: أول قومي آمن. * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله: "وأنا أول المؤمنين"، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 على قول من قال: معناه: أنا أول المؤمنين من بني إسرائيل= لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء، منهم ولدُ إسرائيل لصُلْبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء. فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل. * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، قال الله لموسى: "يا موسى إني اصطفيتك على الناس"، يقول: اخترتك على الناس (1) = "برسالاتي" إلى خلقي، أرسلتك بها إليهم = "وبكلامي"، كلمتك وناجيتك دون غيرك من خلقي. = "فخذ ما آتيتك" يقول: فخذ ما أعطيتك من أمري ونهيي وتمسك به، واعمل به [ ... ] (2) = "وكن من الشاكرين"، لله على ما آتاك من رسالته، وخصك به من النجوى، (3) بطاعته في أمره ونهيه، والمسارعة إلى رضاه. * * *   (1) (1) انظر تفسير ((الاصطفاء)) فيما سلف 3: 91، 96 / 5: 312 / 6: 326، 393. (2) (2) في المطبوعة: ((واعمل به يريد)) وفي المخطوطة: ((واعمل به يديك)) ، ولا معنى لذلك هنا، وكأنها محرفة عن ((بجد)) أو ما أشبه ذلك، ولكني لم أحسن معرفتها، فتركت مكانها نقطا بين قوسين. وانظر تفسير قوله في ((سورة البقرة)) : 63 ((خذوا ما آتيناكم بقوة)) ج2: 160، 161. (3) (3) في المطبوعة والمخطوطة: ((وحصل به من النجوى)) ، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 القول في تأويل قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا لموسى في ألواحه. * * * وأدخلت الألف واللام في "الألواح" بدلا من الإضافة، كما قال الشاعر: (1) والأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِب (2) وكما قال جل ثناؤه: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ، [سورة النازعات: 41] ، يعني: هي مأواه. (3) * * * وقوله: "من كل شيء"، يقول: من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعز سلطانه= "موعظة"، لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح (4) = "وتفصيلا لكل شيء"، يقول: وتبيينًا لكل شيء من أمر الله ونهيه. (5) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15106- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =: أو سعيد بن جبير، وهو في أصل   (1) (1) هو النابغة الذبيانى. (2) (2) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 5: 160، تعليق: 3، ولم يذكر هناك موضعه هناك، فليقيد، والبيت، بروايته آنفاً:لَهُمْ شِيمَةٌ لم يُعْطِها الدَّهْرُ غَيْرَهُمْ ... من الناسِ، فَالأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ (3) (3) انظر ما سلف 5: 160، 161. (4) (4) انظر تفسير ((الموعظة)) فيما سلف من فهارس اللغة (وعظ) . (5) (5) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف ص: 68، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 كتابي: عن سعيد بن جبير= في قول الله: "وتفصيلا لكل شيء"، قال: ما أمروا به ونهوا عنه. 15107- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 15108- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء"، من الحلال والحرام. 15109- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدا يقول في قوله: "وتفصيلاً لكل شيء"، قال: ما أمروا به ونهوا عنه. 15110- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال عطية: (1) أخبرني ابن عباس: أن موسى صلى الله عليه وسلم انْصَلتَ لما كربه الموت، (2) قال: هذا من أجل آدم! قد كان الله جعلنا في دار مثوًى لا نموت، فخطأ آدم أنزلنا هاهنا! فقال الله لموسى: أبعث إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم! فلما بعث الله آدم، سأله   (1) (1) هو ((عطية العوفي)) ، وهو جد ((محمد بن سعد)) الأعلى. انظر تفسير هذا الإسناد في رقم: 305. (2) (2) في المطبوعة، والدر المنثور 3: 21: ((أن موسى صلى الله عليه وسلم لما كربه الموت)) . أسقط الذي كتبت: ((انصلت)) ، وهي في المخطوطة هكذا: ((الطيب)) غير منقوطة، ولم أجد لها لفظاً يطابق رسمها، ويجرى في معناها أقرب من ((انصلت)) . يقال: ((انصلت في الأمر)) ، إذا انجرد وأسرع. يقال: ((انصلت يعدو)) إذا أسرع، و ((المنصلت)) : المسرع من كل شيء. وقد روى البخاري في صحيحة، عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام. فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد أن يموت، الحديث. فكأن هذا كان منه لما كره الموت وأبغضه، فأسرع لما رآه يقول ما قال. هذا ما رأيت، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر أخبار وفاة موسى عليه السلام في البداية والنهاية 1: 316 - 319. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 موسى، فقال أبونا آدم عليهما السلام: يا موسى، سألت الله أن يبعثني لك! قال موسى: لولا أنت لم نكن هاهنا! قال له آدم: أليس قد أتاك الله من كل شيء موعظة وتفصيلا أفلست تعلم أنه ما أصاب في الأرض من مصيبة ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن يبرأها؟ (1) قال موسى: بلى! فخصَمه آدم صلى الله عليهما. (2) 15111- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول في قوله: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال: كتب له: لا تشرك بي شيئًا من أهل السماء ولا من أهل الأرض، فإن كل ذلك خلقي. لا تحلف باسمي كاذبًا، فإن من حلف باسمي كاذبًا فلا أزكِّيه، ووقِّر والديك. * * * القول في تأويل قوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء: خذ الألواح بقوة. * * * وأخرج الخبر عن "الألواح"، والمراد ما فيها. * * *   (1) (1) هذا تضمين آية ((سورة الحديد)) : 22. (2) (2) الأثر: 15110 - هذا خبر ضعيف الإسناد جداً، كما سلف في شرح إسناده رقم: 305. واحتجاج آدم وموسى عليهما السلام، روى خبره البخاري ومسلم، وسائر كتب السنن، وانظر فصلا جيداً جمعه ابن كثير في البداية والنهاية 1: 81 - 85. ويقال: ((خاصمه، فخصمه)) أي غلبه في الخصام. وهو الاحتجاج. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 واختلف أهل التأويل في معنى "القوة"، في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناها بجدٍّ. * ذكر من قال ذلك: 15112- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "فخدها بقوة"، قال: بجدّ. 10113- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فخذها بقوّة"، قال: بجد واجتهاد. * * * وقال آخرون: معنى ذلك، فخذها بالطاعة لله. * ذكر من قال ذلك: 15114- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: "فخذها بقوة"، قال: بالطاعة. * * * وقد بينا معنى ذلك بشواهده، واختلاف أهل التأويل فيه، في "سورة البقرة" عند قوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [سورة البقرة: 63] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قلنا لموسى: "وأمر قومك"، بني إسرائيل = "يأخذوا بأحسنها"، يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها، كما:-   (1) (1) انظر ما سلف 2: 160، 161. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 15115- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، بأحسن ما يجدون فيها. 15116- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، قال: أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه. * * * فإن قال قائل: وما معنى قوله: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن؟. قيل: لا ولكن كان فيها أمرٌ ونهيٌ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله، ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به، أحسنُ من العمل بالمنهي عنه. * * * القول في تأويل قوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لموسى، إذ كتب في الألواح من كل شيء: خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم، فإني سأريه في الآخرة عند مصيره إليّ، "دارَ الفاسقين"، وهي نار الله التي أعدها لأعدائه. (1) * * * وإنما قال: "سأريكم دار الفاسقين"، كما يقول القائل لمن يخاطبه: "سأريك غدًا إلامَ يصير إليه حال من خالف أمري! "، على وجه التهدُّد والوعيد لمن عصاهُ وخالف أمره. (2) * * *   (1) (1) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف. ص: 11، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) (2) في المطبوعة ((على وجه التهديد)) وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض الصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك. * ذكر من قال ذلك: 15117- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "سأريكم دار الفاسقين"، قال: مصيرهم في الآخرة. 15118- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 15119- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، في قوله: "سأريكم دار الفاسقين"، قال: جهنم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخلكم أرض الشام، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة. * ذكر من قال ذلك: 15120- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "سأريكم دار الفاسقين"، منازلهم. 15121- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "دار الفاسقين"، قال: منازلهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون، وهي مصر. * ذكر من قال ذلك: .................................................................................................. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 .............................................................................................. (1) * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لأن الذي قبل قوله جل ثناؤه: "سأريكم دار الفاسقين"، أمرٌ من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة. فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيّعه وفرَّط في العمل لله، وحاد عن سبيله، دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه، أو عما لم يجر له ذكر. القول في تأويل قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: معناه: سأنزع عنهم فهم الكتاب. * ذكر من قال ذلك: 15122- حدثنا أحمد بن منصور المروزي قال، حدثني محمد بن عبد الله بن بكر قال: سمعت ابن عيينة يقول في قول الله: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق"، قال يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي. (2) * * *   (1) (1) هكذا بياض بالمخطوطة قدره خمسة أسطر، وبهامش المخطوطة بالمداد الأحمر: ((نقص، كذا الأصل)) . (2) (2) الأثر: 15122 - ((أحمد بن منصور بن سيار الرمادى)) ، شيخ الطبري، مضى برقم: 10260، 10521. و ((محمد بن عبد الله بن بكر بن سليمان الخزاعى الصنعانى الخلنجى)) ، صدوق. روى عنه النسائى، وأبو حاتم وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/2/295. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 قال أبو جعفر: وتأويل ابن عيينة هذا يدل على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدًا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، دون قوم موسى، لأن القرآن إنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون، موسى عليه السلام. * * * وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج. * ذكر من قال ذلك: 15123- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "سأصرف عن آياتي"، عن خلق السموات والأرض والآيات فيها، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، (1) وغير ذلك من فرائضه. والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه، فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، (2) وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم، لأنه جلّ ثناؤه قال: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا) ، فلا تبديل لكلمات الله. * * *   (1) (1) في المطبوعة: ((على حقيقة ما امر به عباده)) ، فعل بها ما فعل بسوابقها. انظر ما سلف ص: 68، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) (2) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و= "وتكبرهم فيها بغير الحق"، تجبرهم فيها، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله، والإذعان لأمره ونهيه، (1) وهم لله عبيدٌ يغذوهم بنعمته، (2) ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيًّا، (3) = "كل آية"، يقول: كل حجة لله على وحدانيته وربوبيته، وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره. (4) = "لا يؤمنوا بها"، يقول: لا يصدقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة، ولكنهم يقولون: "هي سحر وكذب" = "وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا"، يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب، وصاروا إلى نعيم الأبد، لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقًا، جهلا منهم وحيرة (5) = "وإن يروا سبيل الغي"، يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلّوا وهلكوا. * * * وقد بينا معنى "الغي" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (6)   (1) (1) انظر تفسير ((التكبر)) فيما سلف: 70، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) (2) في المطبوعة: ((يغدوهم)) بالدال المهملة، والصواب ما أثبت. (3) (3) ((أراح عليه حقه)) ، رده عليه، يقول الشاعر:إلا تريحى علينا الحق طائعة ... دُونَ القُضَاةِ، فَقَاضِينَا إلَى حَكَمِ (4) (4) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) . (5) (5) انظر تفسير ((السبيل)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . = وتفسير ((الرشد)) فيما سلف 3: 482 / 5: 416 / 7: 576. (6) (6) انظر تفسير ((الغي)) فيما سلف 5: 416 / 12: 333. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 "يتخذوه سبيلا"، يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقًا، لصرف الله إياهم عن آياته، وطبعه على قلوبهم، فهم لا يفلحون ولا ينجحون= "ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين"، يقول تعالى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا، عقوبةً منا لهم على تكذيبهم بآياتنا = "وكانوا عنها غافلين"، يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقيقة ما أمرناهم به ونهيناهم عنه= "غافلين"، لا يتفكرون فيها، لاهين عنها، لا يعتبرون بها، فحق عليهم حينئذ قول ربنا فعَطِبوا. (1) * * * واختلف القرأة في قراءة قوله: "الرشد". فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين: (الرُّشْدِ) ، بضم "الراء" وتسكين "الشين". * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة وبعض المكيين: (الرَّشَدِ) ، بفتح "الراء" و"الشين". * * * ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه، وفيه إذا فتحتا جميعًا. فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه: الصلاح، كما قال الله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) ، [سورة النساء: 6] ، بمعنى: صلاحًا. وكذلك كان يقرؤه هو= ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه: الرشد في الدين، كما قال جل ثناؤه: (تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [سورة الكهف: 66] ، (2)   (1) (1) انظر تفسير ((الغفلة)) فيما سلف ص: 75، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) (2) قراءتنا وقراءة السبعة: ((رشدا)) (بضم الراء وسكون الشين) ، وقراءة أبي عمرو من السبعة كما ذكر أبو جعفر، ولذلك استدل بها أبو عمرو في هذا الموضع. ولم يذكر هذه القراءة أبو جعفر في تفسير الآية من سورة الكهف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 بمعنى الاستقامة والصواب في الدين. * * * وكان الكسائي يقول: هما لغتان بمعنى واحد، مثل: "السُّقم" و"السَّقَم"، و"الحُزْن" و"الحَزَن" وكذلك "الرُّشْد" و"الرَّشَد". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضةٌ القراءة بهما في قرأة الأمصار، متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ بها. * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحق، وكلّ مكذِّبٍ حججَ الله ورسله وآياته، وجاحدٍ أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته، ومنكرٍ لقاء الله في آخرته= ذهبت أعمالهم فبطلت، وحصلت لهم أوزارها فثبتت، لأنهم عملوا لغير الله، وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضى الله، فصارت أعمالهم عليهم وبَالا. يقول الله جل ثناؤه: "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون"، يقول: هل يثابون إلا ثواب ما كانوا يعملون؟ (1) فصار ثواب أعمالهم الخلودَ في نار أحاط بهم سرادقها، إذ كانت أعمالهم في طاعة الشيطان، دون طاعة الرحمن، نعوذ بالله من غضبه. وقد بينا معنى "الحبوط" و"الجزاء" و"الآخرة"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (2)   (1) (1) في المطبوعة: ((هل ينالون إلا ثواب)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) (2) انظر تفسير ((الحبوط)) فيما سلف 11: 514، تعليق: 2، والمراجع هناك. وتفسير ((الجزاء)) ، و ((الآخرة)) ، فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) و (أخر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 القول في تأويل قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتخذ بنو إسرائيل قومُ موسى، من بعد ما فارقهم موسى ماضيًا إلى ربه لمناجاته، ووفاءً للوعد الذي كان ربه وعده = "من حليهم عجلا"، وهو ولد البقرة، فعبدوه. (1) ثم بين تعالى ذكره ما ذلك العجل فقال: "جسدًا لا خوار"= و"الخوار": صوت البقر = يخبر جل ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل. وذلك أن الرب جلّ جلاله الذي له ملك السموات والأرض، ومدبر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار، لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير. وقال هؤلاء الذين قص الله قصَصهم لذلك: "هذا إلهنا وإله موسى"، فعكفوا عليه يعبدونه، جهلا منهم، وذهابًا عن الله وضلالا. * * * وقد بينا سبب عبادتهم إياه، وكيف كان اتخاذ من اتخذ منهم العجل، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2) * * * وفي "الحلي" لغتان: ضم "الحاء" وهو الأصل = وكسرها، وكذلك ذلك في كل ما شاكله من مثل "صلى" و"جثّي" و"عتّي"، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، لاستفاضة القراءة بهما في القراءة، ولا تفاق معنييهما. (3) * * *   (1) (1) مضى ذكر ((العجل)) فيما سلف 2: 63، 72، 354، 357 / 9: 356، ولم يفسره إلا في هذا الموضع. (2) (2) انظر ما سلف 2: 63 - 68 / ثم ص: 74 - 78. (3) (3) في المطبوعة: ((لا تفارق بين معنييهما)) ، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام ومسخه. والصواب ما في المخطوطة، ولكنى زدت الواو، لأنها حق الكلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 وقوله: "ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا"، يقول: ألم ير الذين عكفوا على العجل الذي اتخذوه من حليهم يعبدونه، أن العجل لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا؟ يقول: ولا يرشدهم إلى طريق؟ (1) وليس ذلك من صفة ربهم الذي له العبادة حقًا، بل صفته أنه يكلم أنبياءه ورسله، ويرشد خلقه إلى سبيل الخير، وينهاهم عن سبيل المهالك والردى. يقول الله جل ثناؤه: "اتخذوه"، أي: اتخذوا العجل إلهًا، وكانوا باتخاذهم إياه ربًّا معبودًا ظالمين لأنفسهم، لعبادتهم غير من له العبادة، وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له الألوهة. * * * وقد بينا معنى "الظلم" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولما سقط في أيديهم"،: ولما ندم الذين عبدوا العجل الذي وصف جل ثناؤه صفته، عند رجوع موسى إليهم، واستسلموا لموسى وحكمه فيهم. * * * وكذلك تقول العرب لكل نادم على أمر فات منه أو سلف، وعاجز عن شيء: "قد سُقِط في يديه" و"أسقط"، لغتان فصيحتان، وأصله من الاستئسار، وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه، فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره،   (1) (1) انظر تفسير ((سبيل)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (2) (2) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 فيكتفه. فالمرميّ به مسقوط في يدي الساقط به. فقيل لكل عاجز عن شيء، وضارع لعجزه، (1) متندِّمٍ على ما قاله: "سقط في يديه" و"أسقط". (2) * * * وعنى بقوله: "ورأوا أنهم قد ضلوا"، ورأوا أنهم قد جاروا عن قصد السبيل، وذهبوا عن دين الله، وكفروا بربهم، قالوا تائبين إلى الله منيبين إليه من كفرهم به: "لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين". * * * ثم اختلفت القرأة في قرأةة ذلك. فقرأه بعض قرأة أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة: (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا) بالرفع، على وجه الخبر. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا) ، بالنصب، بتأويل: لئن لم ترحمنا يا ربنا= على وجه الخطاب منهم لربهم. واعتلّ قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين: (قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وتَغْفِرْ لَنَا) ، وذلك دليل على الخطاب. (3) * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءة في ذلك، القراءة على وجه   (1) (1) في المطبوعة: ((ومضارع لعجزه)) ، والصواب من المخطوطة. (2) (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 393، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 228، والذي قاله أبو جعفر تفصيل جيد، وبيان عن أصل الحرف، قلما تصيبه في كتب اللغة. (3) (3) في المطبوعة والمخطوطة: ((قالوا لئن ترحمنا ربنا وتغفر لنا)) كسياق الآية في مصحفنا، وهذا لا دليل فيه على الخطاب. ولكن ما أثبته هو الذي فيه الدليل على الخطاب، لتقديم قوله: ((ربنا)) ، وهي قراءة أبي بن كعب، وهي كذلك في مصحف عبد الله بن مسعود، كما ذكر الفراء في معاني القرآن 1: 393. فقوله: ((واعتل قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين)) ، أرجح أنه يعني إحدى قراءتي عبد الله بن مسعود، وأيضاً، فإن الآية ستأتى بعد أسطر على الصواب في المخطوطة، ولكن يغيرها ناشر المطبوعة، كما في التعليق التالي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 الخبر بالياء في (يَرْحَمْنَا) ، وبالرفع في قوله: (رَبُّنَا) ، لأنه لم يتقدم ذلك ما يوجب أن يكون موجَّهًا إلى الخطاب. * * * والقراءة التي حكيت على ما ذكرنا من قراءتها: (قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا) ، (1) لا نعرف صحتها من الوجه الذي يجب التسليم إليه. * * * ومعنى قوله: (لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا) ،: لئن لم يتعطف علينا ربنا بالتوبة برحمته، ويتغمد بها ذنوبنا، لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم. (2) * * *   (1) (1) في المطبوعة: ((قالوا لئن ترحمنا ربنا)) ، بتأخير ((ربنا)) ، والصواب تقديمها كما في المخطوطة. وهو تصرف سيئ من الناشر. انظر التعليق لسالف. (2) (2) انظر تفسير ((الرحمة)) و ((المغفرة)) و ((الخسران)) فيما سلف (رحم) (غفر) (خسر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 القول في تأويل قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل، رجع غضبان أسفًا، لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومه، وأن السامري قد أضلّهم، فكان رجوعه غضبان أسفًا لذلك. * * * و"الأسف" شدة الغضب، والتغيظ به على من أغضبه، كما:- 15124- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا عبد السلام بن محمد الحضرمي قال، حدثني شريح بن يزيد قال، سمعت نصر بن علقمة يقول: قال أبو الدرداء: قول الله: "غضبان أسفًا"، قال: "الأسف"، منزلة وراء الغضب، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 أشدُّ من ذلك، وتفسير ذلك في كتاب الله: ذهب إلى قومه غضبان، وذهب أسفًا. (1) * * * وقال آخرون في ذلك ما:- 15125- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أسفًا"، قال: حزينًا. 15126- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا"، يقول: "أسفًا"، "حزينًا"، وقال في "الزخرف": (فَلَمَّا آسَفُونَا) [سورة الزخرف: 55] ، يقول: أغضبونا= و"الأسف"، على وجهين: الغضب، والحزن. 15127- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا سليمان بن سليمان قال، حدثنا مالك بن دينار قال، سمعت الحسن يقول في قوله: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا"، قال: غضبان حزينًا. * * * وقوله: "قال بئسما خلفتموني من بعدي"، يقول: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم وأوليتموني فيمن خلفت ورائي من قومي فيكم، وديني الذي أمركم به ربكم. يقال منه: "خلفه بخير"، و"خلفه بشر"، إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم، خيرًا أو شرًّا. (2) * * * وقوله: "أعجلتم أمر ربكم"، يقول: أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم، وذهبتم عنه؟ * * *   (1) الأثر: 15124 - ((عبد السلام بن محمد الحضرمى)) ، يعرف ب ((سليم)) ، مترجم في التهذيب، وقال: ((وقد ذكره البخاري فلم يذكر فيه جرحاً)) ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 48، وذكره ابن حبان في الثقات. و ((شريح بن يزيد الحضرمى)) ، ((أبو حيوة)) ، لم يذكر فيه البخاري جرحاً، ووثقه ابن حبان. ممترجم في التهذيب، والكبير 2/2/231. و ((نصر بن علقمة الحضرمى)) ، ((أبو علقمة)) ، وثقه دحيم وابن حبان، ولم يذكر فيه البخاري جرحاً. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/102، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 469، وروايته عن أبي الدرداء مرسلة. (2) (1) انظر تفسير ((خلف)) فيما سلف ص: 88، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 يقال منه: "عجل فلان هذا الأمر"، إذا سبقه = و"عجل فلانٌ فلانًا"، إذا سبقه = "ولا تَعْجَلْني يا فلان"، لا تذهب عني وتدعني= و"أعجلته": استحثثته. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقى موسى الألواح. * * * ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إياها. فقال بعضهم: ألقاها غضبًا على قومه الذين عبدوا العجل. * ذكر من قال ذلك: 15128- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وألقى الألواح من الغضب. 15129- وحدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما رجع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 موسى إلى قومه، وكان قريبًا منهم، سمع أصواتهم، فقال: إني لأسمع أصواتَ قومٍ لاهين: فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه. 15130- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخذ موسى الألواح، ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فقال: (يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) ، إلى قوله: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [سورة طه: 86-87] ، فألقى موسى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه= (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [سورة طه: 94] . 15131- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، ألقى الألواح من يده، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته، ويقول: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [سورة طه: 92، 93] . * * * وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه، فاشتدّ ذلك عليه. * ذكر من قال ذلك: 15132- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "أخذ الألواح"، قال: رب، إني أجد في الألواح أمةً خيرَ أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون= أي آخرون في الخلق= السابقون في دخول الجنة، (1) رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد!   (1) (1) في المطبوعة: ((الآخرون السابقون = أي: آخرون في الخلق، سابقون في دخول الجنة)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها،= وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرًا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئًا، ولم يعرفوه. قال قتادة: وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئًا لم يعطه أحدًا من الأمم = قال: ربِّ اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فضول الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ثم يؤجرون عليها= وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه، بعث الله عليها نارًا فأكلتها، وإن ردَّت عليه تركت تأكلها الطير والسباع. قال: وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم= قال: رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفَّعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد! قال: فأعطي نبي الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبيٌّ، قال الله: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) ، [سورة الأعراف: 143] . قال: فرضي نبي الله. ثم أعطي الثانية: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: 159] ، قال: فرضي نبي الله صلى الله عليه وسلم كل الرضى. 15133- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد، ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ= إلا أنه قال في حديثه: فألقى موسى عليه السلام الألواح، وقال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليهما. * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك، أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجل، لأن الله جل ثناؤه بذلك أخبر في كتابه فقال: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه". * * * وذكر أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في الألواح التوراة، (1) أدناه منه حتى سمع صريف القلم. * ذكر من قال ذلك: 15134- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي عمارة، عن علي عليه السلام قال: كتب الله الألواح لموسى عليه السلام، (2) وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح. 15135- .... قال حدثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد   (1) (1) في المطبوعة: ((وذلك أن الله لما كتب)) ، والصواب في المخطوطة. (2) (2) في المطبوعة: ((لما كتب الله الألواح)) ، والصواب حذف ((لما)) كما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 بن جبير قال: أدناه حتى سمع صريف الأقلام. (1) * * * وقيل: إن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى موسى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وكان فيما رفع "تفصيل كل شيء"، الذي قال الله: "وَكَتَبْنَا لَهْ فِي اْلألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ" وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قال الله: (أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) ، [سورة الأعراف: 154] . * * * وكانت التوراة فيما ذكر سبعين وَقْر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، كما:- 15136- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن خالد المكفوف قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: أنزلت التوراة وهي سبعون وَقْر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى بن عمران، وعيسى، وعزير، ويوشع بن نون، صلوات الله عليهم. * * * واختلفوا في "الألواح". فقال بعضهم: كانت من زُمرد أخضر. * * * وقال بعضهم: كانت من ياقوت. * * * وقال بعضهم: كانت من بَرَد. * * * * ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك. 15137- حدثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقي قال، حدثنا حجاج بن محمد،   (1) (1) الأثر: 15135 - وضعت النقط في هذا الخبر، للدلالة على أن هذا الإسناد ملحق بالإسناد السالف، وصدره هكذا: ((حدثني الحارث قال، حثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل .... )) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ألقى موسى الألواح فتكسرت، فرفعت إلا سدسها= قال ابن جريج: وأخبرني أن الألواح من زبرجد وزمرد من الجنة. 15138- وحدثني موسى بن سهل الرملي، وعلي بن داود، وعبد الله بن أحمد بن شبويه، وأحمد بن الحسن الترمذي قالوا، أخبرنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كانت ألواح موسى عليه السلام من بَرَد. (1) 15139- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي الجنيد، عن جعفر بن أبي المغيرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الألواح، من أي شيء كانت؟ قال: كانت من ياقوتة، كتابة الذهب، كتبها الرحمن بيده، فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها. 15140- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عبد الرحمن، عن محمد بن أبي الوضاح، عن خصيف، عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح زمردًا، فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة، وذهب التفصيل. 15141- قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الأشجعي، عن محمد بن مسلم، عن خصيف، عن مجاهد قال: كانت الألواح من زمرد أخضر. * * * وزعم بعضهم: أن الألواح كانت لوحين. فإن كان الذي قال كما قال، فإنه قيل: "وكتبنا له في الألواح"، وهما لوحان، كما قيل: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [سورة النساء: 11] ، وهما أخوان. (2) * * *   (1) (1) الأثر 15138 - انظر الأثر رقم 914، والتعليق عليه. (2) (2) انظر ما قال في الجمع، والمراد به اثنان فيما سلف 8: 41 - 44، ومعاني القرآن للفراء 1: 394. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 أما قوله: "وأخذ برأس أخيه يجره إليه"، فإن ذلك من فعل نبي الله صلى الله عليه وسلم كان، لموجدته على أخيه هارون في تركه أتباعه، وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الذي تركهم فيه، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل موسى عليه السلام له: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ؟ [سورة طه: 92، 93] ، حين أخبره هارون بعذره فقبل عذره، وذلك قيله لموسى: (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ، [سورة طه: 94] ، وقال: "يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء"، الآية: * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: "يا ابن أم". فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض أهل البصرة: (يَا ابْنَ أُمَّ) بفتح "الميم" من "الأم". * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (يَا ابْنَ أُمِّ) بكسر "الميم" من الأم. * * * واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره، مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان مستعملتان في العرب. فقال بعض نحويي البصرة: قيل ذلك بالفتح، على أنهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا، كما قيل: "يا ابن عمَّ"، وقال: هذا شاذ لا يقاس عليه. وقال: من قرأ ذلك: "يا ابن أمِّ"، فهو على لغة الذين يقولون: "هذا غلامِ قد جاء؟ "، جعله اسمًا واحدًا آخره مكسور، مثل قوله: "خازِ باز". (1) * * *   (1) (1) ((الخازباز)) ، هو ضرب من الذبان، و ((خاز)) و ((باز)) صوتان من صوت الذباب، فجعلا واحداً، وبنيا على الكسر، لا يتغير في الرفع والنصب والجر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 وقال بعض نحويي الكوفة: قيل: "يا ابن أمَّ" و "يا ابن عمَّ"، فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات، فيقال: "يا حسرتا"، "يا ويلتا". قال: فكأنهم قالوا: "يا أماه"، و"يا عماه"، ولم يقولوا ذلك في "أخ"، ولو قيل ذلك لكان صوابًا. قال: والذين خفضوا ذلك، فإنه كثر في كلامهم حتى حذفوا الياء. قال: ولا تكاد العرب تحذف "الياء" إلا من الاسم المنادَى يضيفه المنادِي إلى نفسه، إلا قولهم: "يا ابن أمِّ" و"يا ابن عمِّ"، وذلك أنهما يكثر استعمالهما في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا "الياء" فقالوا: "يا ابن أبي" و"يا ابن أختي، وأخي"، و"يا ابن خالتي"، و"يا ابن خالي". (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إذا فتحت "الميم" من "ابن أم"، فمرادٌ به الندبة: يا ابن أماه، وكذلك من "ابن عم". فإذا كسرت فمرادٌ به الإضافة، ثم حذفت "الياء" التي هي كناية اسم المخبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر تشبيه كسر ذلك إذا كسر ككسر الزاي من "خاز باز"، (2) لأن "خاز باز" لا يعرف الثاني إلا بالأول، ولا الأول إلا بالثاني، فصار كالأصوات. وحكي عن يونس الجرمي تأنيث "أم" وتأنيث "عم"، (3) وقال: لا يجعل اسمًا واحدًا إلا مع "ابن" المذكر. قالوا: وأما اللغة الجيدة والقياسُ الصحيح، فلغة من قال: "يا ابن أمي" بإثبات "الياء"، كما قال أبو زبيد: يَا ابْنَ أُمِّي، وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي أَنْتَ خَلَّفْتَني لِدَهْرٍ شَدِيدِ (4)   (1) (1) هذه كلها مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 394. (2) (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((من أنكر نسبته كسر ذلك ... )) ، وصواب قراءته ما أثبته ((تشبيه)) . (3) (3) ((يونس الجرمى)) ، هكذا جاء هنا أيضاً، وانظر ما سلف 10: 120، تعليق: 1، ثم 11: 544، تعليق: 3، وما سيأتي ص: 138. (4) (4) أمالي اليزيدي 9، جمهرة أشعار العرب: 139 واللسان (شقق) ، وشواهد العينى (هامش خزانة الأدب) : 4: 222، وغيرها. من قصيدة مختارة، يرثى ابن أخته اللجلاج، ويقال: يرثى أخاه اللجلاج، ويروى البيت: يَا ابْنَ خَنْسَاء، شِقَّ نَفْسِيَ يَا لَجْلاجُ، خَلَّيْتَنِى لِدَهْرٍ شَدِيدِ وأما هذه الرواية، فهي رواية النحاة جميعًا في كتبهم في باب النداء. يقول فيها: كُلَّ مَيْتٍ قَدِ اغْتَفَرْتُ، فلا أُو ... جع مِنْ وَالِدٍ وَلا مَوْلُودِ غَيْرَ أَنَّ اللَّجْلاجَ هَدَّ جَنَاحِي ... يَوْمَ فَارَقْتُهُ بِأَعْلَى الصَّعِيدِ فِي ضَرٍيحٍ عَلَيْهِ عِبْءٌ ثَقِيلٌ ... مِنْ تُرَابٍ وجَنْدَلٍ مَنْضُودِ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ صَدٍ ... حَرَّ انَ يَدْعُو بِاللَّيْلِ غَيْرَ مَعُودِ صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ ... وَلَقَدْ كَانَ عُصْرة المَنْجُودِ وقوله: ((شقيق)) تصغير ((شقيق)) ، وهو الأخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 وكما قال الآخر: (1) يَا ابْنَ أُمِّي! وَلَوْ شَهِدْتُكَ إِذْ تَدْ عُو تَمِيمًا وَأَنْتَ غَيْرُ مُجَابِ (2)   (1) (1) هو غلفاء بن الحارث، وهو معد يكرب بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندى، وهو عم امرئ القيس بن حجر إمام الشعراء. وسمى ((غلفاء)) ، لأنه كان يغلف رأسه بالمسك. ويقال: هو أول من فعل ذلك. (2) (2) النقائض: 457، 1077، الوحشيات رقم: 213، الأغاني: 12: 213، من قصيدة يرثي بها أخاه شرحبيل بن الحارث، قتيل يوم الكلاب الول (انظر خبر ذلك في النقائض، والأغاني) ، يقول قبله، وهو أول الشعر:إِنَّ جَنْبِي عَنِ الفِرَاشِ لَنَابِي ... كَتَاجَافِي الأسَرِّ فَوْقَ الظِّرَابِ مِنْ حَدِيثٍ نَمَى إلَيّ فَلا تَرْ ... قَأُ عَيْنِي، وَلا أُسِيغُ شَرَابِي مُرَّةٌ كَالذِّعَافِ أكْتُمُهَا النَّا ... سَ، عَلَى حَرِّ مَلَّةٍ كالشِّهَابِ مِنْ شُرْحَبِيلَ إِذْ تَعَاوَرُه الأرْ ... مَاحُ فِي حَالِ لَذَّةٍ وشَبَابِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَا ابْنَ أُمِّي ................ لَتَرَكْتُ الحُسَامَ تَجْرِي ظُبَاهُ ... مِنْ دِمَاءِ الأعْدَاءِ يَوْمَ الكُلابِ ثُمَّ طَاعَنْتُ مِنْ وَرَائِكَ حَتَّى ... تَبْلُغَ الرُّحْبَ، أو تُبَزَّ ثيَابي وقوله: ((الأسر)) ، هو البعير تخرج في كركرته قرحة لا يقدر معها أن يبرك إلا على مستو من الأرض. وفي ((الظراب)) : جمع ((ظرب)) (بفتح ثم كسر) ، وهو من الحجارة ما كان ناتئاً في جبل أو أرض خربة، وكان طرفه الناتئ محدداً. و ((الملة)) (بفتح الميم) : الرماد الحار. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 وإنما أثبت هؤلاء الياء في "الأم"، لأنها غير مناداة، وإنما المنادى هو "الابن" دونها. وإنما تسقط العرب "الياء" من المنادى إذا أضافته إلى نفسها، لا إذا أضافته إلى غير نفسها، كما قد بينا. (1) * * * وقيل: إن هارون إنما قال لموسى عليه السلام: "يا ابن أم"، ولم يقل: "يا ابن أبي"، وهما لأب واحد وأم واحدة، استعطافا له على نفسه برحم الأم. (2) * * * وقوله: "إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني"، يعني بالقوم، الذين عكفوا على عبادة العجل وقالوا: "هذا إلهنا وإله موسى"، وخالفوا هارون. وكان استضعافهم إياه: تركهم طاعته واتباع أمره= (3) = "وكادوا يقتلونني"، يقول: قاربوا ولم يفعلوا. (4) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: "فلا تشمت". فقرأ قرأة الأمصار ذلك: (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ) ، بضم "التاء" من "تشمت" وكسر "الميم" منها، من قولهم: "أشمت فلان فلانًا بفلان"، إذا سره فيه بما يكرهه المشمت به. * * * وروي عن مجاهد أنه قرأ ذلك: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ) . 15142- حدثني بذلك عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال حميد بن قيس: قرأ مجاهد: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ) . 15143- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن حميد قال: قرأ مجاهد: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ) . 15144- حدثت عن يحيى بن زياد الفراء قال، حدثنا سفيان بن عيينة،   (1) (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 394. (2) (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 394. (3) (2) انظر تفسير ((استضعف)) فيما سلف ص: 76، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) (3) انظر تفسير ((كاد)) فيما سلف 2: 218. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 عن رجل، عن مجاهد، أنه قال: (لا تُشْمِتْ) . (1) * * * وقال الفراء: قال الكسائي: ما أدرى، فلعلهم أرادوا: فلا تشمت بي الأعداءُ، فإن تكن صحيحة فلها نظائر. العرب تقول: "فَرِغت وفَرَغت"، فمن قال: "فَرغت"، قال: "أنا أفرُغ"، ومن قال: "فرِغت"، قال: "أنا أفرَغُ"، وكذلك: "ركِنت" "وركَنت"، و"شمِلهم أمرٌ" (2) "وشمَلهم"، (3) في كثير من الكلام. قال: "والأعداء" رفع، لأن الفعل لهم، لمن قال: "تشمَت" أو "تشمِت". (4) * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها، قراءةُ من قرأ: (فَلا تُشْمِتْ) : بضم "التاء" الأولى، وكسر "الميم" من: "أشمتُّ به عدوه أشمته به"، ونصبِ "الأعداء"، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليها، وشذوذ ما خالفها من القراءة، وكفى بذلك شاهدا على ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلم بكلام العرب: "شمت فلان فلانًا بفلان"، و"شمت فلان بفلان يشمِت به"، وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوِّه: "شمِت به" بكسر "الميم": "يشمَت به"، بفتحها في الاستقبال. * * * وأما قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين"، فإنه قولُ هارون لأخيه موسى. يقول: لا تجعلني في موجدتك عليَّ وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك، محلَّ من عصاك فخالف أمرك، وعبد العجل بعدك، فظلم نفسه، وعبد غيرَ من له العبادة، ولم أشايعهم على شيء من ذلك، كما:-   (1) (1) الأثر: 15144 - رواه الفراء في معاني القرآن 1: 394، وقال عند قوله: ((عن رجل)) : ((أظنه الأعرج)) ، يعني: ((حميد بن قيس المكى)) المذكور في الإسنادين السالفين. (2) (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((ركبت وركبت)) ، والصواب في معاني القرآن للفراء. (3) (3) في معاني القرآن: ((وشملهم شر)) . (4) (4) معاني القرآن للفراء 1: 394. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 15145- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين"،) قال: أصحاب العجل. 15146- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله. * * * القول في تأويل قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى، لما تبين له عذر أخيه، وعلم أنه لم يفرط في الواجب الذي كان عليه من أمر الله، في ارتكاب ما فعله الجهلة من عبدة العجل: "رب اغفر لي"، مستغفرًا من فعله بأخيه، ولأخيه من سالفٍ سلف له بينه وبين الله: (1) تغمد ذنوبنا بستر منك تسترها به (2) = "وأدخلنا في رحمتك"، يقول: وارحمنا برحمتك الواسعة عبادك المؤمنين، فإنك أنت أرحم بعبادك من كل من رحم شيئًا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "إن الذين اتخذوا العجل" إلهًا= "سينالهم غضب من ربهم"، بتعجيل الله لهم ذلك (3) = "وذلة"، وهي الهوان، لعقوبة الله   (1) (1) في المطبوعة: ((من سالف له)) ، أسقط ((سلف)) ، وهي من المخطوطة. (2) (2) انظر تفسير ((المغفرة)) فيما سف من فهارس اللغة (غفر) . (3) (3) انظر تفسير ((نال)) فيما سلف 12: 408، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 إياهم على كفرهم بربهم= (1) "في الحياة الدنيا"، في عاجل الدنيا قبل آجل الآخرة. * * * وكان ابن جريج يقول في ذلك بما: - 15147- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين"، قال: هذا لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى عليه السلام، ومن فرّ منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضًا. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله ابن جريج، وإن كان قولا له وجه، فإن ظاهر كتاب الله، مع تأويل أكثر أهل التأويل، بخلافه. وذلك أن الله عم بالخبر عمن اتخذ العجل أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وتظاهرت الأخبار عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين بأن الله إذ رجع إلى بني إسرائيل موسى عليه السلام، تابَ على عبدة العجل من فعلهم بما أخبر به عن قيل موسى عليه السلام في كتابه، وذلك قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة: 54] ، ففعلوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم. فكان أمرُ الله إياهم بما أمرهم به من قتل بعضهم أنفُس بعض، عن غضب منه عليهم بعبادتهم العجل. فكان قتل بعضهم بعضًا هوانًا لهم وذلة أذلهم الله بها في الحياة الدنيا، وتوبة منهم إلى الله قبلها. وليس لأحد أن يجعل خبرًا جاء الكتاب بعمومه، في خاصٍّ مما عمه الظاهر، بغير برهان من حجة خبر أو عقل. ولا نعلم خبرًا جاء بوجوب نقل ظاهر قوله: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم"، إلى باطن خاصّ = ولا من العقل عليه دليل، فيجب إحالة ظاهره إلى باطنه. * * *   (1) (1) انظر تفسير ((الذلة)) فيما سلف 2: 212 / 7: 171 / 11: 421. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 ويعني بقوله: "وكذلك نجزي المفترين"، وكما جَزيت هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهًا، من إحلال الغضب بهم، والإذلال في الحياة الدنيا على كفرهم ربّهم، ورِدَّتهم عن دينهم بعد إيمانهم بالله، كذلك نجزي كل من افترى على الله، فكذب عليه، وأقر بألوهية غيره، وعبد شيئًا سواه من الأوثان، بعد إقراره بوحدانية الله، وبعد إيمانه به وبأنبيائه ورسله وقِيلَ ذلك، إذا لم يتب من كفره قبل قتله. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15148- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب قال: تلا أبو قلابة: "سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا" الآية، قال: فهو جزاء كل مفترٍ يكون إلى يوم القيامة: أن يذله الله عز وجل. 15149- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قرأ أبو قلابة يومًا هذه الآية: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين"، قال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة. 15150- ... قال حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن ثابت، وحميد: أن قيس بن عُبَاد، وجارية بن قدامة، دخلا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالا أرأيت هذا الأمر الذي أنت فيه وتدعو إليه، أعهدٌ عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأيٌ رأيته؟ قال: ما لكما ولهذا؟ أعرضا عن هذا! فقالا والله لا نعرضُ عنه حتى تخبرنا! فقال: ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتابًا في قراب سيفي هذا! فاستلَّه، فأخرج الكتاب من قراب سيفه، وإذا فيه: "إنه لم يكن نبيّ إلا له حرم، وأنّي حرمت المدينة   (1) (1) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف 12: 562، تعلق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 كما حرّم إبراهيم عليه السلام مكة، لا يحمل فيها السلاحُ لقتال. من أحدث حدثًا أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عَدْل". فلما خرجا قال أحدهما لصاحبه: أما ترى هذا الكتاب؟ فرجعا وتركاه وقالا إنا سمعنا الله يقول "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم"، الآية، وإن القوم قد افتروا فرية، ولا أدري إلا سينزل بهم ذلة. (1) 15151- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة: في قوله: "وكذلك نجزي المفترين" قال: كل صاحب بدعة ذليلٌ. * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره أنه قابلٌ من كل تائب إليه من ذنب أتاه، صغيرةً كانت معصيته أو كبيرةً، كفرًا كانت أو غير كفر، كما   (1) (1) الأثر: 15150 - كان إسناد هذا الخبر في المطبوعة هكذا: ((قال، حدثنا حماد، عن ثابت: أن حميد بن قيس بن عباد، وحارثه بن قدامة)) ، وفي المخطوطة: ((قال حدثنا حماد عن ثابت وحميد بن قيس بن عباد، وحارثه بن قدامة)) . ((حارثة)) غير منقوطة. وهما جميعاً خطأ، صوابه ما أثبت. و ((حماد)) هو: ((حماد بن سلمة)) ، ثقة مشهور، مضى مرارًا. و ((ثابت)) هو ((ثابت بن أسلم البنانى)) ، مضى مرارًا. و ((حميد)) هو ((حميد الطويل)) ، وهو: ((حميد بن أبي حميد)) ، الإمام المشهور، مضى مرارًا، وهو خال ((حماد بن سلمة)) . وأما ((قيس بن عباد القيسى الضبعى)) ، فهو ثقة قليل الحديث، روى عنه الحسن. قدم المدينة في خلافة عمر. وهو ممن قتلهم الحجاج في من خرج مع ابن الأشعث. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7 / 1 / 95، والكبير 4/1/145، وابن أبي حاتم 3/12/101، وفي الإصابة في القسم الثالث. وأما ((جارية بن قدامة بن زهير بن الحصين السعدي)) ، يقال هو بن عم الأحنف بن قيس، ويقال هو: عمه. وقال الطبراني: ((ليس بعم الأحنف أخي أبيه، ولكنه كان يدعوه عمه على سبيل الإعظام له)) . وجارية تميمى من أشراف تميم وكان شجاعاً فاتكاً، وهو صحابي ثابت الصحبة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/1/38، والكبير 1/2/236، وابن أبي حاتم 1/1/520، وفي الإصابة، وغيرها. وهذا الخبر لم أهتد إليه بهذا الإسناد، وهذه السياقة، في شيء من الكتب، ولكن خبر الصحيفة، عن ((قيس بن عباد)) ، رواه أحمد في مسنده رقم 993، من طريق يحيى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى على، فقلنا: هل عهد إليك نبى الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟)) ، وساق خبراً آخر. وروى أحمد خبر الصحيفة في مسند علي رضي الله عنه، بأسانيد مختلفة، وألفاظ مختصرة ومطولة، ومؤتلفة ومختلفة. انظر رقم 615، 872، 874، 954، 962، 1037، 1297، 1306، وليس في شيء منها ذكر ((جارية بن قدامة)) . ومع ذلك فخبر أبي جعفر صحيح الإسناد، فكأنهما حادثتان مختلفتان. وكان في المخطوطة: ((ولا أدرى إلا سينزل به ذلة)) والصواب ما صححه ناشر المطبوعة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 قبل من عَبَدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم. يقول جل ثناؤه: والذين عملوا الأعمال السيئة، ثم رجعوا إلى طلب رضى الله بإنابتهم إلى ما يحب مما يكره، وإلى ما يرضى مما يسخط، من بعد سيئ أعمالهم، وصدَّقوا بأن الله قابل توبة المذنبين، وتائبٌ على المنيبين، بإخلاص قلوبهم ويقين منهم بذلك= "لغفور"، لهم، يقول: لساتر عليهم أعمالهم السيئة، وغير فاضحهم بها= "رحيم"، بهم، وبكل من كان مثلهم من التائبين. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولما سكت عن موسى الغضب". ولما كفّ عنه وسكن. (2) * * *   (1) (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية في فهارس اللغة. (2) (2) في المطبوعة: ((ولما كف موسى عن الغضب)) ، وهو اجتهاد من ناشر المطبوعة الأولى، ولم يصب. فإن المخطوطة أسقطت تفسير العبارة، وجاء فيها هكذا: ((ولما سكت عن موسى الغضب، وكذلك كل كاف ...... )) ، والتفسير الذي أثبته الناشر الأول تفسير ذكره الزجاج قال: ((معناه: ولما سكن. وقيل: معناه: ولما سكت موسى عن الغضب - على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأس، والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة. قال والقول الأول الذي معناه سكن، هو قول أهل العربية)) . ولو أراد أبو جعفر، لفسره كما فسره الزجاج، فآثرت أن أضع تفسير أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 229، لأن الذي يليه هو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 وكذلك كل كافٍّ عن شيء: "ساكت عنه"، وإنما قيل للساكت عن الكلام "ساكت"، لكفه عنه. (1) وقد ذكر عن يونس الجرمي أنه قال (2) يقال: "سكت عنه الحزن"، وكلُّ شيء، فيما زعم، ومنه قول أبي النجم: وَهَمَّتِ الأفْعَى بِأَنْ تَسِيحَا وَسَكَتَ المُكَّاءُ أَنْ يَصِيحَا (3) * * * = "خذ الألواح"، يقول: أخذها بعد ما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب = "وفي نسختها هدى ورحمة"، يقول: وفيما نسخ فيها، أي كتب فيها (4) = "هدى" بيان للحق= "ورحمة للذين هم لربهم يرهبون"، يقول: للذين يخافون الله ويخشون عقابَه على معاصيه. (5) * * * واختلف أهل العربية في وجه دخول "اللام" في قوله: "لربهم يرهبون"،   (1) (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 229. (2) (2) انظر ما سلف ص: 129، تعليق: 3. (3) (3) لم أجد البيتين. وكان في المطبوعة: ((تسبحا)) و ((تضبحا)) ، وهو خطأ وفساد، ولأبي النجم أبيات كثيرة من الرجز على هذا الوزن، ولم أجد الرجز بتمامه. وصواب قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت. (4) (4) انظر تفسير ((النسخة)) فيما سلف 2: 472. = وكان في المطبوعة هنا، مكان قوله: ((أي: كتب فيها)) ، ما نصه: ((أي: منها)) ، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأن الناسخ كتبها بخط دقيق في آخر السطر، فوصل الكلام بعضه ببعض، فساءت كتابته. (5) (5) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 مع استقباح العرب أن يقال في الكلام: "رهبت لك": بمعنى رهبتك= "وأكرمت لك"، بمعنى أكرمتك. فقال بعضهم: ذلك كما قال جل ثناؤه: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) ، [سورة يوسف: 43] ، أوصل الفعل باللام. * * * وقال بعضهم: من أجل ربِّهم يرهبون. * * * وقال بعضهم: إنَّما دخلت عَقِيب الإضافة: الذين هم راهبون لربهم، وراهبُو ربِّهم= ثم أدخلت "اللام" على هذا المعنى، لأنها عَقِيب الإضافة، لا على التكليف. (1) * * * وقال بعضهم: إنما فعل ذلك، لأن الاسم تقدم الفعل، فحسن إدخال "اللام". * * * وقال آخرون: قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [سورة النمل: 72] . (2) * * * وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: سمعت الفرزدق يقول: "نقدت له مائة درهم"، يريد: نقدته مائة درهم. (3) قال: والكلام واسع. * * *   (1) (1) في المطبوعة: لا على التعليق)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه يعني بقوله: ((التكليف)) معنى التعليق)) ، لأن ((التكليف)) هو ((التحميل)) ، ولم أجد تفسير هذه الكلمة في مكان آخر، ولعلها من اصطلاح بعض قدماء النحاة. (2) (2) انظر ما سلف 6: 511 / 7: 164، ومعاني القرآن للفراء 1: 233. (3) (3) نقله الفراء في معاني القرآن 1: 233 عن الكسائى، قال: ((سمعت بعض العرب يقول: نقدت لها مئة درهم، يريد: نقدتها مئة، لامرأة تزوجها)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 القول في تأويل قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم، (1) للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل، كما: - 15152- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرناه! فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رَبِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي! (2) 15153- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيِّر فالخيرَ، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتَطَهَّروا، وطهِّروا ثيابكم! فخرج بهم إلى طور سيْناء، لميقات وقَّته له ربه. وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال السبعون =فيما ذكر لي= حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربِّه، لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربِّنا! فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، حتى تغشى الجبلَ كله. ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا! وكان موسى إذا كلمه الله وقَع على جبهته نور   (1) (1) انظر تفسير ((الميقات)) فيما سلف 3: 553 - 555 / 13: 87، 90. (2) (2) الأثر: 15152 - مضى مطولا برقم 958، ومراجعه هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه! فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقَعوا سجودًا، فسمعوه وهو يكلِّم موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل! فلما فرغ الله من أمره، انكشف عن موسى الغمام. أقبل إليهم، (1) فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة! فأخذتهم الرجفة= وهي الصاعقة= فَافْتُلِتَتْ أرواحهم، (2) فماتوا جميعًا، وقام موسى عليه السلام يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبلُ وإياي! قد سفهوا! أفتهلك مَنْ ورائي من بني إسرائيل؟ (3) 15154- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرزَ بهم ليدعوا ربَّهم. فكان فيما دَعَوُا الله قالوا: اللهم أعطِنا ما لم تعط أحدًا بعدنا! فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة. قال موسى: ربِّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيَّاي! 15155- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر، عن ميمون: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: لموعدهم الذي وعدهم. 15156 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: اختارهم لتمام الوعد. * * * وقال آخرون: إنما أخذتهم الرجفة من أجل دَعْواهم على موسى قتلَ هارون.   (1) (1) في المطبوعة: ((وانكشف عن موسى ......... أقبل)) ، غير ما في المخطوطة. كما فعل آنفاً في رقم: 957. (2) (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فالتقت أرواحهم)) ، ولا معنى لها، صوابها ما أثبته. ((افتلتت نفسه)) (بالبناء للمجهول) : مات فلتة، أي بغتة. وانظر ما سلف 2: 87، تعليق: 1. (3) (3) الأثر: 15153 - مضى هذا الخبر برقم 957، ومراجعه هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 * ذكر من قال ذلك: 15157- حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبد السَّلولي، عن علي رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جَبَلٍ، فنام هارون على سرير، فتوفاه الله. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه الله. قالوا: أنت قتلته، حسدتنا على خُلقه ولينه= أو كلمة نحوها= قال: فاختاروا من شئتم! قال: فاختاروا سبعين رجلا. قال: فذلك قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: فلما انتهوا إليه، قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكنني توفّاني الله! قالوا: يا موسى لن تعصَي بعد اليوم! قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى يرجع يمينًا وشمالا وقال: "يا رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء"، قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياءَ كلهم. (1) 15158- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني سلول، أنه سمع عليًّا رضي الله عنه يقول في هذه الآية: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: كان هارون   (1) الأثر: 15157 - ((عمارة بن عبد السلولي)) ، هو أخو ((سليم بن عبد السلولى)) و ((زيد بن عبد السلولي)) ، قال العجلي: ((هم ثلاثة إخوة: سليم بن عبد، وعمارة بن عبد، وزيد بن عبد، ثقات، سلوليون، كوفيون)) . روى عن علي، وحذيفة. لم يرو عنه غير أبي إسحق الهمداني.قال أحمد بن حنبل: ((عمارة بن عبد، مستقيم الحديث، لا يروى عنه غير أبي إسحق)) . وقال أبو حاتم: ((شيخ مجهول لا يحتج بحديثه)) . مترجم في ابن سعد 6: 158، وابن أبي حاتم 3/1/367، وميزان الاعتدال 2: 248، ومر ذكره في التعليق على رقم 8754. وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 561، 562: ((وهذا أثر غريب جدا، وعمارة بن عبد هذا، لا أعرفه)) . فقد تبين مما ذكرت أنه معروف، وأن ابن كثير لم يستوعب بحثه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 128، ونسبه إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في كتاب: من عاش بعد الموت، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ ولم أجده في كتاب ((من عاش بعد الموت)) المطبوع، فدل هذا علي نقص النسخة المطبوعة منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 حسنَ الخلق محبَّبًا في بني إسرائيل. قال: فلما مات، دَفَنَه موسى. قال: فلما أتى بني إسرائيل، قالوا له: أين هارون؟ قال: مات! فقالوا: قتلته! قال: فاختار منهم سبعين رجلا. قال: فلما أتوا القبرَ قال موسى: أقُتِلت أو مِتّ! قال مت! فأُصعقوا، فقال موسى: ربِّ ما أقول لبني إسرائيل؟ إذا رجعت يقولون: أنت قتلتهم! قال: فأحيُوا وجُعِلوا أنبياء. 15159- حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الربيع بن حبيب قال: سمعت أبا سعيد =يعني الرقاشي= وقرأ هذه الآية: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، فقال: كانوا أبناءَ ما عدا عشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهلُه وصباه، وأنّ من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئًا. (1) * * * وقال آخرون: إنما أخذت القوم الرَّجفة، لتركهم فِراق عبدة العجل، لا لأنهم كانوا من عَبَدته. * ذكر من قال ذلك: 15160- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، فقرأ حتى بلغ: "السفهاء منا"، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إنما تناولتهم الرجفة، لأنهم لم يزايلوا   (1) (1) الأثر: 15159 - ((عبد الله بن الحجاج بن المنهال)) لم أجد له ترجمة. وأبوه ((الحجاج بن المنهال الأنماطي)) ، مضى مرارا كثيرة. و ((الربيع بن حبيب الحنفي)) ، ((أبو سعيد)) . روى عن الحسن، وابن سيرين، وأبي جعفر الباقر. روى عنه أبو داود الطيالسي، ويحيى القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث. وثقه أحمد ويحيى. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/253، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 457. و ((أبو سعيد الرقاشي)) هو فيما أرجح ((قيس، مولى أبي ساسان حضين بن المنذر الرقاشي)) . وكان أبو سعيد قليل الحديث. مترجم في ابن سعد 7/1/154 والكبير 4/1/151، وابن أبي حاتم 3/2/106. وهناك أيضا ((أبو سعيد الرقاشي)) ، البصري وهو ((بيان بن جندب الرقاشى)) ، روى عن أنس. مترجم في الكبير 1/2/133، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 424، ولسان الميزان 2: 69. قال ابن حبان في الثقات: ((يخطئ)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 القوم حين نَصَبُوا العجل، وقد كرهوا أن يجامِعُوهم عليه. 15161- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، ممن لم يكن قال ذلك القول، على أنهم لم يجامعوهم عليه، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومَهم حين اتخذوا العجل. قال: فلما خرجوا ودعوا، أماتهم الله ثم أحياهم. فلما أخذتهم الرجفة قال: "رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا". 15162- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، قال مجاهد: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"= و"الميقات"، الموعد= فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاءَ فلم يستجب لهم، علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابَه قومهم= قال أبو سعد (1) فحدثني محمد بن كعب القرظي قال: لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف. قال: فأخذتهم الرجفة، فماتوا ثم أحياهم الله. 15163- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عون، عن سعيد بن حيان، عن ابن عباس: أن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، إنما أخذتهم الرجفة، أنهم لم يرضَوا ولم ينهَوا عن العجل. 15164- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عون قال، حدثنا سعيد بن حيان، عن ابن عباس، بنحوه. * * * واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: "قومه سبعين رجلا لميقاتنا". فقال بعض نحويي البصرة: معناه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا = فلما نزع "من" أعمل الفعل، كما قال الفرزدق:   (1) (1) في المخطوطة والمطبوعة: ((قال ابن سعد)) ، والصواب ما أثبت، كما سلف في إسناد الخبر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 وَمِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً وَجُودًا، إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ (1) وكما قال الآخر: (2) أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ (3)   (1) (1) ديوانه: 516، النقائض: 696، سيبويه 1: 18، الكامل 1: 21، أملى الشجرى 1: 186، الخزانة 3: 669، 672، اللسان (خير) وغيرها كثير. وهو أول قصيدة ناقض بها جريراً، وذكر فيها فضائل قومه بني تميم ومآثرهم، وعنى بهذا البيت أباه غالبا، وهو أحد أجواد بني تميم، ثم قال بعده:ومِنَّا الَّذِي أَعْطَى الرَّسُولُ عَطِيَّةً ... أُسَارَى تَمِيمٍ، والعُيُونُ دَوَامِعُ يعني الأقرع بن حابس، الذي كلم رسول الله في أصحاب الحجرات، وهم بنو عمرو بن جندب ابن العنبر بن عمرو بن تميم، فرد رسول الله سبيهم. ثم أفاض في ذكر مآثرهم. (2) (2) هو أعشى طرود: ((إياس بن عامر بن سليم بن عامر)) . وروى هذا البيت أيضاً في شعر نسب إلى عمرو بن معد يكرب، وإلى العباس بن مرداس، وإلى زرعة بن السائب، وإلى خفاف بن فدية (الخزانة 1: 166) . (3) ديوان الأعشين: 284، سيبويه 1: 17، والمؤتلف والمختلف: 17، الكامل 1: 21، أمالي الشجري 1: 265 / 2: 240، الخزانة 1: 164 - 167، وغيرها كثير. فمن نسبها إلى أعشى طرود قال من بعد أبيات يذكر وصية أبيه له: إِنِّي حَوَيْتُ عَلَى الأَقْوَامِ مَكْرُمَة ... قِدْمًا، وَحَذَّرَنِي مَا يَتَّقُونَ أَبِي وَقَالَ لِي قَوْلَ ذِي عِلْمٍ وَتَجْرُبَةٍ ... بِسَالِفَاتِ أُمُورِ الدَّهْرِ وَالحِقَبِ أَمَرْتُكَ الرُّشْدَ، فافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ لا تَبْخَلَنَّ بِمَالٍ عَنْ مَذَاهِبِهِ ... فِي غَيْرِ زَلَّةِ إِسْرَافٍ وَلا تَغَبِ فَإنّ وُرَّاثَهُ لَنْ يَحْمَدُوكَ بِهِ ... إِذَا أَجَنُّوكَ بَيْنَ اللِّبْنِ وَالخَشَبِ ((التغب)) : الهلاك، يعني إهلاك المال في غير حقه. ويروى: ((ذا مال وذا نسب)) بالسين، وهو أجود، لأن النشب هو المال نفسه. وقوله: ((بين النشب والخشب)) ، يعني: ما يسوى عليه في قبره من الطين والخشب. أما الشعر المنسوب إلى عمرو بن معد يكرب أو غيره فهو: إِنِّي حَوَيْتُ عَلَى الأقْوَامِ مَكْرُمَةً ... قِدْمًا، وَحَذَّرَنِي مَا يَتَّقُونَ أَبِي فَقَالَ لِي قَوْلَ ذِي رَأيٍ وَمَقْدِرَةٍ ... مُجَرَّبٍ عَاقِلٍ نَزْهٍ عَنْ الرَّيَبِ قَدْ نِلْتَ مَجْدًا فَحَاذِرْ أَنْ تُدَنِّسُهُ ... أبٌ كَرِيمٌ، وجَدٌّ غَيْرُ مُؤْتَشَبِ أَمَرْتُكَ الخَيْرَ ................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . واتْرُكْ خَلائِقَ قَوْمٍ لا خَلاقَ لَهُمْ ... وَاعْمِدْ لأَخْلاقِ أَهْلِ الفَضْلِ والأدَبِ وَإِنْ دُعِيتَ لِغَدْرٍ أوْ أُمِرْتَ بِهِ ... فَاهْرُبْ بِنَفْسِكَ عَنْهُ آبِدَ الْهَرَبِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 وقال الراعي: اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ غَثَّتْ خَلائِقُهُمْ وَاعْتَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ (1) * * * وقال بعض نحويي الكوفة: إنما استُجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت "من"، لأنه مأخوذ من قولك: "هؤلاء خير القوم" و"خير من القوم"، فلما جازت الإضافة مكان "من" ولم يتغير المعنى، (2) استجازُوا: أن يقولوا: "اخترتكم رجلا"، و"اخترت منكم رجلا"، وقد قال الشاعر: (3) فَقُلْتُ لَهُ: اخْتَرْهَا قَلُوصًا سَمِينَةً (4)   (1) (1) لم أجد البيت في مكان. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((إذ عنت)) بالعين المهملة والنون. ولا معنى لها، ورجحت أن الصواب ((غثت)) بالغين والثاء. يقال: ((غثثت في خلقك وحالك غثاثة وغثوثة)) ، ولذلك إذا ساء خلقه وحاله. و ((الغث)) الردئ من كل شيء. و ((اعتل)) ، طلب العلل لمنع العطاء. (2) (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فإذا جازت الإضافة)) ، وأثبت صواب سياقها من معاني القرآن للفراء، فهو نص كلامه. (3) (3) هو الراعي النميري. (4) (4) طبقات فحول الشعراء، لابن سلام: 450، وما قبلها، وشرح الحماسة 4: 37، وما قبله، ومعاني القرآن للفراء 1: 395 (وهذا روايته) ، وغيرها. وهو من شعر قاله الراعى لما نزل به ضيف من بنى كلاب في سنة حصاء مجدبة، وليس عنده قرى، والكلابي على ناب له (وهي الناقة المسنة) ، فأمر الراعى ابن أخيه حبتراً، فنحرها من حيث لا يعلم الكلابي، فأطمعه لحمها، فقال الراعي في قصيدته يذكر أنه نظر إلى ناقة الكلابي: فَأَبْصَرْتُهَا كَوْمَاءَ ذَاتَ عَرِيَكَةٍ ... هِجَانًا مِنَ الَّلاتِي تَمَتَّعْنَ بِالصَّوَى فَأَوْمَضْتُ إيمَاضًا خَفَيًّا لِحَبْتَرٍ ... وَللهِ عَيْنًا حَبْتَرٍ! أَيَّمَا فَتَى فَقُلْتُ لَهُ: أَلْصِقْ بِأَبْيَسِ سَاقِهَا ... فَإنْ يُجْبَرِ العُرْقُوبُ لا يَرْقَأُ النَّسَا فَقَامَ إِلَيْهَا حَبْتَرٌ بِسِلاحِهِ، ... مَضَى غَيْرَ مَنْكُودٍ، ومُنْصُلَهُ انْتَضَى كَأَنِّي وَقَدْ أشْبَعْتُهُ مِنْ سِنَامِهَا ... كَشَفْتُ غِطَاءً عَنْ فُؤَادِي فَانْجَلَى وهذا تصوير جميل جيد، لهذه الحادثة الطريفة. ثم قال: فَقُلْتُ لِرَبِّ النَّابِ: خُذْهَا فَتِيَّةً ... وَنَابٌ عَلَيْهَا مِثْلُ نَابِكَ فِي الحَيَا أي: خذ مكانها ناقة فتية، وناقة أخرى مسنة مثل نابك المسنة، يوم يأتي الخصب، وتحيي أموالنا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 وقال الراجز: (1) * تَحْتَ الَّتِي اخْتَارَ لَهُ اللهُ الشَّجَرْ * (2) بمعنى: اختارَها له الله من الشجر. (3) * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب، لدلالة "الاختيار" على طلب "من" التي بمعنى التبعيض، ومن شأن العرب أن تحذف الشيء من حَشْو الكلام إذا عُرِف موضعه، وكان فيما أظهرت دلالةٌ على ما حذفت. فهذا من ذلك إن شاء الله. * * *   (1) (1) هو العجاج. (2) (2) ديوانه: 15، معاني القرآن للفراء 1: 395، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 229، اللسان (خير) ، ورواية الديوان، ومعاني القرآن: ((تحت الذي)) . وهو من قصيدته في مدح عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، مضت منها أبيات كثيرة، انظر ما سلف 10: 172، تعليق: 2، وهذا البيت في ذكر نبى الله صلى اله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وبيعتهم تحت الشجرة. وهي بيعة الرضوان في عمرة الحديبية، فذكر عهد رسول الله، وعهد الصديق، وعهد عمر، وعهد المهاجرين، وعهد الأنصار، ثم ذكر بيعة الرضوان فقال: وَعُصْبَةِ النَّبِيِّ إِذْ خَافُوا الحَصَرْ ... شَدُّوا لَهُ سُلْطَانَهُ حَتَّى اقْتَسَرْ بِالْقَتْلِ أَقْوَامًا وَأَقْوَامًا أَسَرْ ... تَحْتَ الَّذِي اخْتَارَ لَهُ اللهُ الشَّجَرْ وفي المخطوطة: ((تحت التي اختارها له الله)) ، وهو خطأ ظاهر، صوابه ما في المطبوعة. (3) (3) انظر مجاز القرآن 1: 229، ونصه: ((تحت الشجرة التي اختار له الله من الشجر)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 وقد بينا معنى "الرجفة" فيما مضى بشواهدها، وأنّها: ما رجف بالقوم وزعزعهم وحرّكهم، (1) أهلكهم بعدُ فأماتهم، (2) أو أصعقهم، فسلب أفهامهم. (3) * * * وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع وقول من قال: إنها كانت صاعقة أماتتهم. (4) 15165- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فلما أخذتهم الرجفة"، ماتوا ثم أحياهم. 15166- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "سبعين رجلا لميقاتنا"، اختارهم موسى لتمام الموعد= "فلما أخذتهم الرجفة"، ماتوا ثم أحياهم الله. 15167- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "فلما أخذتهم الرجفة"، قال: رُجف بهم. * * *   (1) (1) في المطبوعة: ((ما رجف بالقوم وأرعبهم)) ، لم يحسن قراءة المخطوطة لأنها غير منقوطة، ولأنها سيئة الكتابة، فاجتهد واخطأ. وقد مضى اللفظ على الصواب فيما سلف، انظر التعليق التالي رقم: 3، في المراجع. (2) (2) في المطبوعة، زاد ((واو)) فكتب: ((وأهلكهم)) عطفاً على ما قبله، فأفسد معنى أبي جعفر. وإنما أراد أبو جعفر أن الرجفة: إما أن تعقب الهلاك، وتصعق من تنزل به فتسلبه فهمه من شدة الروع. (3) (3) انظر تفسير ((الرجفة)) فيما سلف: 12: 544، 545، 566. (4) (4) انظر ما سلف قديماً 2: 84 - 90، ثم ما سلف حديثاً ص: 140. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 القول في تأويل قوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا، أي: بعبادة من عبد العجل؟ قالوا: وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يَعبد العجل. وقال موسى ما قال، ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك. (1) * ذكر من قال ذلك: 15168- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجلَ! فذلك حين يقول موسى: "إن هي إلا فتنتك تُضل بها من تشاء وتهدي من تشاء". (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم، هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل، إذا انصرفت إليهم وليسوا معي= و"السفهاء"، على هذا القول، كانوا المهلَكين الذين سألوا موسى أن يُرِيهم ربَّهم. * ذكر من قال ذلك: 15169- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعًا، قام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب   (1) (1) انظر تفسير ((السفهاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (سفه) = وتفسير ((الهلاك)) فيما سلف (هلك) . (2) (2) الأثر: 15168 - مضى قديمًا برقم 958 بتمامه، ومضى صدره قريبًا برقم: 15152 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 إليه، يقول: "رب لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي"، قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاكٌ، قد اخترت منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر، أرجع إليهم وليس معى رجل واحد! فما الذي يصدِّقونني به، أو يأمنونني عليه بعد هذا؟ (1) * * * وقال آخرون في ذلك بما: - 15170- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، أتؤاخذنا وليس منا رجلٌ واحد تَرَك عبادتك، ولا استبدل بك غيرك؟ * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، وأنّه إنما عنى ب"السفهاء" عبدةَ العجل. وذلك أنه محالٌ أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخيَّر من قومه لمسألة ربِّه ما أراه أن يسألَ لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم، ومحالٌ أن يكون الأفضل كان عنده مَنْ أشرك في عبادة العجل واتخذَه دون الله إلهًا. * * * قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدًا أن الله سبحانه يعاقب قومًا بذنوب غيرهم، فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل، ونحن من ذلك برآء؟ قيل: جائز أن يكون معنى "الإهلاك" قبض الأرواح على غير وجه العقوبة، كما قال جل ثناؤه: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ، [سورة النساء: 176] = يعني: مات= فيقول: أتميتنا بما فعل السُّفهاء منَّا؟ (2) * * *   (1) الأثر: 15169 مضى قديما برقم 957 بتمامه، ومضى قريبا بتمامه رقم: 15153. (2) انظر تفسير ((الهلاك)) فيما سلف 9: 30 / 104: 147، وفهارس اللغة (هلك) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 وأما قوله: "إن هي إلا فتنتك"، فإنه يقول جل ثناؤه: ما هذه الفعلة التي فعلَها قومي، من عبادتهم ما عبَدُوا دونك، إلا فتنة منك أصَابتهم= ويعني ب"الفتنة"، الابتلاء والاختبار (1) = يقول: ابتليتهم بها، ليتبين الذي يضلَّ عن الحق بعبادته إياه، والذي يهتدي بترك عبادته. وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سببٍ منه جل ثناؤه. * * * وبنحو ما قلنا في "الفتنة" قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15171- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (إن هي إلا فتنتك"،) قال: بليّتك. 15172- .... قال، حدثنا حبويه الرازي، عن يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: "إلا فتنتك"،: إلا بليتك. (2) 15173- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، (3) عن الربيع بن أنس: "إن هي إلا فتنتك"، قال: بليتك. 15174- .... قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء"، إن هو إلا عذابك تصيبُ به من تشاء، وتصرفه عمن تشاء. (4)   (1) (1) انظر تفسير ((الفتنة)) فيما سلف 12: 373، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) (2) الأثر: 15172 - ((حبويه الرازي)) هو: ((إسحق بن إسماعيل الرازي)) ((أبو يزيد)) ، مضى مرارًا، آخرها رقم 15015، والراوي عن حبويه هو ((ابن وكيع)) ، كما هو ظاهر، ولذلك وضعت نقطاً مكان اسمه، في هذا الموضع وما يشابهه من المواضع، حيث يختصر أبو جعفر شيخه من الإسناد. (3) (3) في المطبعة والمخطوطة: ((أخبرنا ابن جعفر)) ، وهو خطأ ظاهر جداً، صوابه ما أثبت. وقد مضى هذا الإسناد وشبهه من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع، انظر ما سلف قريباً: 15171. (4) (4) الأثر: 15174 - شيخ الطبري في هذا الإسناد، هو ((المثنى)) المذكور في الأثر قبله. وسأضع هذه النقط، حيث يختصر أبو جعفر شيخه، ثم لا أنبه إليه، ومعلوم أن المحذوف هو شيخه في الإسناد قبله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 15175- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "إن هي إلا فتنتك"، أنت فتنتهم. * * * وقوله: "أنت ولينا"، يقول: أنت ناصرنا. (1) = "فاغفر لنا"، يقول: فاستر علينا ذنوبَنا بتركك عقابَنا عليها= "وارحمنا"، تعطف علينا برحمتك= "وأنت خير الغافرين"، يقول: خير من صَفَح عن جُرم، وسَتر على ذنب. (2) * * *   (1) (1) انظر تفسير ((ولى)) فيما سلف 11: 282، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) (2) انظر تفسير ((المغفرة)) ، و ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) و (رحم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 القول في تأويل قوله: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه: "واكتب لنا"، أي: اجعلنا ممن كتَبت له= "في هذه الدنيا حسنَةً"، وهي الصالحات من الأعمال (1) = "وفي الآخرة"، ممن كتبتَ له المغفرة لذنوبه، كما: - 15176- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة"، قال: مغفرة. * * * وقوله: "إنا هُدنا إليك"، يقول: إنا تبنا إليك. (2) * * * وبنحو ذلك قال أهل التأويل.   (1) (3) انظر تفسير ((الحسنة)) فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) . (2) (4) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف 12: 198، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 * ذكر من قال ذلك: 15177- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، وابن فضيل، وعمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير= وقال عمران: عن ابن عباس = "إنا هدنا إليك" قال: تبنا إليك. 15178- قال حدثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، قال: تبنا إليك. 15179- .... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: تبنا إليك. 15180- .... قال، حدثنا عبد الله بن بكر، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك: أن ابن عباس قال في هذه الآية: "إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك. (1) 15181- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير= قال: أحسبه عن ابن عباس: "إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك. 15182- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "إنا هدنا إليك"، يقول تبنا إليك. 15183- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني يحيى بن سعيد قال، حدثنا   (1) (1) الأثر: 15180 - ((عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي)) ، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: 8284، 10885، 11232. و ((حاتم بن أبي صغيرة)) ، هو ((حاتم بن مسلم)) ((أبو يونس)) القشيري، وقيل: الباهلي، و ((أبو صغيرة)) ، هو أبو أمه، ثقة. روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 71، وابن أبي حاتم 1/2/257. وكان في المخطوطة والمطبوعة: ((حاتم بن أبي مغيرة)) ، بالميم في أوله، وهو خطأ محض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 سفيان قال، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير في قوله: "إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك. 15184- .... قال، حدثنا عبد الرحمن، ووكيع بن الجراح قالا حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير، بمثله. 15185- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير، مثله. 15186- .... قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: تبنا إليك. 15187- .... قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام عن إبراهيم التيمي قال: تبنا إليك. 15187م- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، مثله. 15188- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "إنا هدنا إليك"، أي: إنا تبنا إليك. 15189- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: "هدنا إليك"، قال: تبنا. 15190- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إنا هدنا إليك"، يقول: تبنا إليك. 15191- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إنا هدنا إليك"، يقول: تبنا إليك. 15192- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 15193- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: "هدنا إليك"، قال: تبنا إليك. 15194- ... قال، حدثنا أبي، عن أبي حجير، عن الضحاك، قال: تبنا إليك. (1) 15195- .... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: تبنا إليك. 15196- وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر مثله. 15197- ... قال، حدثنا أبي، وعبيد الله، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد قال: تبنا إليك. 15198- ... قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، مثله. (2) 15199- ... قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي عليه السلام قال: إنما سميت "اليهود"، لأنهم قالوا: "هدنا إليك". (3) 15200- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "إنا هدنا إليك"، يعني: تبنا إليك. 15201- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، سمعت رجلا يسأل سعيدًا: "إنا هدنا إليك"، قال: إنا هدنا إليك. * * * وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (4) * * *   (1) (1) الأثر: 15194 - ((أبو حجير)) الذي يروى عن الضحاك، ويروى عنه وكيع، قال أحمد ابن حنبل: ((ما حدثني عنه إلا وكيع)) ، مترجم في لسان الميزان 6: 363. ولم أجد له ترجمة في غيره من كتب الرجال. (2) (2) الأثر: 15198 - ((حبويه)) ، ((أبو يزيد)) ، مضى قريباً برقم 15172. (3) (3) الأثر: 15199- ((جابر بن عبد الله بن يحيى)) ، هكذا هو في المخطوطة، وفي المطبوعة ((جابر، عن عبد الله بن يحيى)) ، ولم أجد لشيء من ذلك ذكراً في الكتب. وهو محرف بلا شك عن شيء آخر. وانظر ما سلف رقم 1094، عن ابن جريج. بمعنى هذا الخبر. (4) (4) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف ص: 152، تعليق. 4، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 القول في تأويل قوله: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى: هذا الذي أصبتُ به قومك من الرجفة، عذابي أصيب به من أشاء من خلقي، كما أصيب به هؤلاء الذين أصبتهم به من قومك (1) = "ورحمتي وسعت كل شيء"، يقول: ورحمتي عمَّت خلقي كلهم. (2) * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: مخرجه عامٌّ، ومعناه خاص، والمراد به: ورحمتي وَسِعت المؤمنين بي من أمة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم. واستشهد بالذي بعده من الكلام، وهو قوله: "فسأكتبها للذين يتقون"، الآية. * ذكر من قال ذلك: 15202- حدثني المثني قال، حدثنا أبو سلمة المنقري قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه قرأ: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون". قال: جعلها الله لهذه الأمة. (3)   (1) (1) انظر تفسير ((الإصابة)) فيما سلف من فهارس اللغة (صوب) . (2) (2) انظر تفسير ((وسع)) فيما سلف 12: 562، تعليق 2، والمراجع هناك. (3) (3) الأثر: 15202 - ((أبو سلمة المنقري)) ، هو ((أبو سلمة التبوذكي)) : ((موسى بن إسماعيل المنقري)) ، مولاهم، روى عنه البخاري، وأبو داود، وروى له الباقون من أصحاب الكتب الستة بالواسطة. ثقة إمام. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/280، وابن أبي حاتم 4/1/136. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 15203- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، قال سفيان قال، أبو بكر الهذلي: فلما نزلت: "ورحمتي وسعت كل شيء"، قال إبليس: أنا من "الشيء"! فنزعها الله من إبليس، قال: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فقال اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا! فنزعها الله من اليهود فقال: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي"، قال: نزعها الله عن إبليس، وعن اليهود، وجعلها لهذه الأمة. (1) 15204- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما نزلت: "ورحمتي وسعت كل شيء"، قال إبليس: أنا من "كل شيء! ". قال الله: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، الآية. فقالت اليهود: ونحن نتقي ونؤتي الزكاة! فأنزل الله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي"، قال: نزعها الله عن إبليس، وعن اليهود، وجعلها لأمة محمدٍ: سأكتبها للذين يتّقون من قومك. 15205- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"، فقال إبليس: أنا من ذلك "الشيء"! فأنزل الله: "فسأكتبها للذين يتقون" معاصي الله= "والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فتمنتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطًا وَثيقًا بَيِّنًا، فقال: "الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي"، فهو نبيّكم، كان أميًّا لا يكتُب صلى الله عليه وسلم. 15206- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا خالد الحذاء،   (1) (1) الأثر: 15203 - لا ((عبد الكريم)) ، هو ((عبد الكريم بن الهيثم بن زياد القطان)) ، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 892. و ((إبراهيم بن بشار الرمادى)) ، ثقة. مضى برقم 892، 6321. و ((سفيان)) هو: ابن عيينة. و ((أبو بكر الهذلى)) ضعيف مضى مرارًا، آخرها رقم 14690. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 عن أنيس بن أبي العريان، عن ابن عباس في قوله: "واكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك"، قال: فلم يعطها، فقال: "عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون" إلى قوله: "الرسول النبي الأمي". (1) 15207- حدثني ابن وكيعٍ قال، حدثنا ابن علية، وعبد الأعلى، عن خالد، عن أنيس أبي العُريان= قال عبد الأعلى، عن أنيس أبي العُرْيان= وقال: قال ابن عباس: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنَّا هدنا إليك"، قال: فلم يعطها موسى، قال: "عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها"، إلى آخر الآية. 15208- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كان الله كتب في الألواح ذكر محمد وذكرَ أمته، وما ذَخَر لهم عنده، وما يسَّر عليهم في دينهم، وما وَسَّع عليهم فيما أحلّ لهم، فقال:   (1) (1) الأثران 15206، 15207 - ((أنيس أبو العريان المجاشعى)) ، بغير (ابن) بينهما، مترجم في الكبير 1 / 2 / 44، وابن أبي حاتم 1/1/333، ولم يشر واحد منها إلى انه: ((أنيس ابن أبي العريان)) . وفي المخطوطة في الخبر الأول: ((أنيس بن أبي العريان)) بإثبات (ابن) ، وفي الخبر الثاني في الموضعين كليهما ((أنيس بن العريان)) بغير (ابن) كما أثبتها، وأما في المطبوعة، فإنه جعله في المواضع كلها ((أنيس ابن أبي العريان)) ، وهو تصرف معيب لا شك في ذلك. والظاهر أنه اختلف على ابن علية رواية اسمه، رواه مرة ((أنيس بن أبي العريان)) ، ثم رواه أخرى ((أنيس أبي العريان)) ، كما في الأثر الثاني منهما، وذكر الطبري قول عبد الأعلى، ليؤيد به هذه الرواية عن ابن علية. فإن صح هذا الاختلاف على ابن عيينة، وإلا فإنه ينبغي أن يكون أحد أمرين: إما أن يكون صواب الخبر الأول: ((أنيس أبي العريان)) . والثاني ((أنيس أبي العريان)) في الأولى، وعن عبد الأعلى ((أنيس ابن أبي العريان)) . أو: أن يكون الأول عن ابن عيينة: ((أنيس بن أبي العريان)) ، والثاني أيضاً: ((أنيس ابن أبي العريان)) ، وعن عبد الأعلى: ((أنيس بن أبي العريان)) . والله أعلم بالصواب في كل ذلك، ولا مرجح عندي.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 "عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون" = يعني: الشركَ= الآية. * * * وقال آخرون: بل ذلك على العموم في الدنيا، وعلى الخصوص في الآخرة. * ذكر من قال ذلك: 15209- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: "ورحمتي وسعت كل شيء"، قالا وسعت في الدنيا البَرَّ والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتَّقوا خاصَّةً. * * * وقال آخرون: هي على العموم، وهي التوبة. * ذكر من قال ذلك: 15210- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين* واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك"، فقال: سأل موسى هذا، فقال الله: "عذابي أصيب به من أشاء"= العذاب الذي ذَكر= "ورحمتي"، التوبةُ = (وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) ، قال: فرحمته التوبةُ التي سأل موسى عليه السلام، كتبها الله لنا. * * * وأما قوله: "فسأكتبها للذين يتقون"، فإنه يقول: فسأكتب رحمتي التي وسعت كل شيء= ومعنى "أكتب" في هذا الموضع: أكتب في اللوح الذي كُتِب فيه التوراة "للذين يتقون"، (1) يقول: للقوم الذين يخافون الله ويخشون عقابه على الكفر به والمعصية له في أمره ونهيه، فيؤدُّون فرائضه، ويجتنبون معاصيه. (2)   (1) (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((الذين يتقون)) بغير لام، والصواب ما أثبت. (2) (2) انظر تفسير ((التقوى)) فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنّهم يتقونه. فقال بعضهم: هو الشرك. * ذكر من قال ذلك: 15211- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "فسأكتبها للذين يتقون"، يعني الشرك. * * * وقال آخرون: بل هو المعاصي كلها. * ذكر من قال ذلك: 15212- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة "فسأكتبها للذين يتقون"، معاصي الله. * * * وأما "الزكاة وإيتاؤها"، فقد بيَّنا صفتها فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1) * * * وقد ذكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك ما: - 15213- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "ويؤتون الزكاة"، قال: يطيعون الله ورسولَه. * * * فكأنّ ابن عباس تأوَّل ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكِّي النفسَ ويطهِّرها من صالحات الأعمال. * * * وأما قوله: "والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فإنه يقول: وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلتنا يصدِّقون ويقرُّون. (2) * * *   (1) (1) انظر تفسير ((إيتاء الزكاة)) فيما سلف 1: 573، 574، وما بعده في فهارس اللغة (زكا) و (أتى) . (2) (2) انظر تفسير ((الآيات)) و ((والإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) و (أمن) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ} قال أبو جعفر: وهذا القول إبانةٌ من الله جل ثناؤه عن أنّ الذين وَعَد موسى نبيَّه عليه السلام أن يكتب لهم الرحمة التي وصفَها جل ثناؤه بقوله: "ورحمتي وسعت كل شيء"، هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يعلم لله رسولٌ وُصف بهذه الصفة = أعني "الأمي" = غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وبذلك جاءت الروايات عن أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15214- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 15215- .... قال، حدثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن ابن عباس قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 15216- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد في قوله: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال موسى عليه السلام: ليتني خلقت في أمّة محمدٍ!. 15217- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: الذين يتّبعون محمدًا صلى الله عليه وسلم. 15218- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن نوف الحميري قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه، قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدًا وطهورًا، وأجعل السكينة معكم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 في بيوتكم، وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظَهْر قلوبكم، (1) يقرؤها الرجل منكم والمرأةُ، والحرُّ والعبدُ، والصغير والكبير. فقال موسى لقومه: إن الله قد يجعل لكم الأرض طهورًا ومسجدًا. قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس! قال: ويجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا أن تكون كما كانت، في التابوت! قال: ويجعلكم تقرأون التوراة عن ظهر قلوبكم، (2) ويقرؤها الرجل منكم والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرًا! فقال الله: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة" إلى قوله: "أولئك هم المفلحون". (3) 15219- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي قال: لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل، كلّمه الله فقال: إني قد بسطت لهم الأرض طهورًا ومساجدَ يصلُّون فيها حيث أدركتهم الصلاة، إلا عند مرحاضٍ أو قبر أو حمّام، وجعلت السكينة في قلوبهم، وجعلتهم يقرأون التوراةَ عن ظهر ألسنتهم. قال: فذكر ذلك موسى لبني إسرائيل، فقالوا: لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، فاجعلها لنا في تابوت، ولا نقرأ التوراة إلا نظرًا، ولا نصلي إلا في الكنيسة! فقال الله: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة"، حتى بلغ "أولئك هم المفلحون". قال: فقال موسى عليه السلام: يا ربّ، اجعلني نبيَّهم! قال: نبيُّهم منهم! قال: رب اجعلني منهم! قال: لن تدركهم! قال: يا ربّ، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وِفَادَتنا لغيرنا! فأنزل الله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: 159] .   (1) (1) في المطبوعة: ((عن ظهور قلوبكم)) ، بجمع ((ظهور)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (2) (2) في المطبوعة: ((عن ظهور)) ، وتنظر التعليق السالف. (3) الأثر: 15218 "نوف الحميري" هو نوف البكالي المذكور في الأثريين التاليين: 515219، 15220، وهو "نوف بن فضالة الحميري البكالي الشامي" مضى برقم: 3965، 9446، 9456. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 = قال نوف البكالي: فاحمدوا الله الذي حَفظ غيبتكم، وأخذ لكم بسهمكم، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم. 15220- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي بنحوه= إلا أنه قال: فإني أنزل عليكم التوراة تقرأونها عن ظهر ألسنتكم، رجالكم ونساؤُكم وصبيانكم. قالوا: لا نُصلّي إلا في كنيسة، ثم ذكر سائر الحديث نحوه. 15221- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (1) 15222- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 15223- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: لما قيل: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، تمنّتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطًا بيّنًا وثيقًا فقال: "الذين يتبعون الرَّسول النبيّ الأمي"، وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم، كان أمِّيًّا لا يكتبُ. (2) * * * وقد بينا معنى "الأمي" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (3) * * * وأما قوله: "الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل"، فإن "الهاء"   (1) (1) الأثر: 15221 - ((إسحق بن إسماعيل)) هو ((حبويه)) ، ((أبو يزيد الرازي)) ، الذي مضى قريباً برقم: 15198، وصرح هنا أول مرة باسمه. (2) (2) الأثر: 15223 - انظر الأثر السالف رقم: 15205 (3) (3) انظر تفسير ((الأمي)) فيما سلف 2: 257 - 259 / 3: 442 / 6: 281، 282، 522/ ثم انظر رقم: 5827، 1774، 6775. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 في قوله: "يجدونه"، عائدة على "الرسول"، وهو محمّد صلى الله عليه وسلم، كالذي: - 15224- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ"، هذا محمّد صلى الله عليه وسلم. 15225- حدثني ابن المثني قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت: أخبرني عن صفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفتِه في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكّل، (1) ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملةَ العوجاء، بأن يقولوا: "لا إله إلا الله"، فنفتح به قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا، وأعينًا عُمْيًا= قال عطاء: ثم لقيتُ كعبًا فسألته عن ذلك، فما اختلفا حرفًا، إلا أن كعبًا قال بلغته: قلوبًا غُلُوفيا، وآذانًا صمومِيَا، وأعينًا عُمْوميا. (2) 15226- حدثني أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي قال، حدثني عطاء قال: لقيت عبد الله   (1) (1) في المطبوعة: ((سميتك)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) (2) الأثر: 15225 - ((عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي)) ، ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة، سلف برقم: 5458. و ((فليح)) ، هو ((فليح بن سليمان بن أبي المغيرة الخزامي)) ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 5090. و ((هلال بن على بن أسامة المدني)) ، وينسب إلى جده فيقال: ((هلال بن أسامة)) ، ثقة، مضى برقم: 1495. وانظر الآثار التالية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 بن عمرو بن العاص، فذكر نحوه= إلا أنه قال في كلام كعب: أعينًا عمومَا، وآذانًا صموما، وقلوبًا غُلُوفَا. 15227- ... قال، حدثنا موسى قال، حدثنا عبد العزيز بن سلمة، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بنحوه= وليس فيه كلام كعب. 15228- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله: "الذي يجدونه مكتوبًا عندهم"، يقول: يجدون نعتَه وأمرَه ونبوّته مكتوبًا عندهم. * * * القول في تأويل قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يأمر هذا النبيُّ الأميُّ أتباعَه بالمعروف= وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى، فذلك "المعروف" الذي يأمرهم به (1) = "وينهاهم عن المنكر" وهو الشرك بالله، والانتهاء عمّا نهاهم الله عنه. (2) وقوله: "ويحل لهم الطيبات"، وذلك ما كانت الجاهلية تحرِّمه من البحائر والسَّوائب والوصائل والحوامي (3) = "ويحرم عليهم الخَبَائث"، وذلك لحم الخنزير والرِّبا وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله، (4) كما:-   (1) (1) انظر تفسير ((المعروف)) فيما سلف 9: 201 تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) (2) انظر تفسير ((المنكر)) فيما سلف 10: 496 تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) (3) انظر تفسير ((الطيبات)) فيما سلف 11: 96 تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) (4) انظر تفسير ((الخبائث)) فيما سلف 11: 96 تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 15229- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "ويحرم عليهم الخبائث"، وهو لحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرَّمات من المآكلِ التي حرمها الله. * * * وأما قوله: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: يعني بـ"الإصر"، العهدَ والميثاقَ الذي كان أخذه على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة. * ذكر من قال ذلك: 15230- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: عهدهم. 15231- ... قال حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: عهدهم. 15232- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن علي قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. 15233- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن مبارك، عن الحسن: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: العهود التي أعطوها من أنفسهم. 15234- .... قال، حدثنا ابن نمير، عن موسى بن قيس، عن مجاهد: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: عهدهم. (1) 15235- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، يقول: يضع عنهم عهودهم ومواثيقَهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل.   (1) (1) الأثر: 15234 - ((موسى بن قيس الحضرمى)) ، مضى برقم: 6513. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 15236- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرّم عليهم. يقول: يضع ذلك عنهم. * * * وقال بعضهم: عني بذلك أنه يضع عمن اتّبع نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، التشديدَ الذي كان على بني إسرائيل في دينهم. * ذكر من قال ذلك: 15237- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بإقالةٍ منه وتجاوزٍ عنه. 15238- حدثني المثني قال حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: البولَ ونحوه، مما غُلِّظ على بني إسرائيل. 15239- .... قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: شدّة العمل. 15240- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" قال: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وُضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم. 15241- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن ابن سيرين قال: قال أبو هريرة لابن عباس: ما علينا في الدين من حَرَج أن نزني ونسرق؟ قال: بلى! ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضِع عنكم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 15242- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: إصرهم الذي جعله عليهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ "الإصر" هو العهد= وقد بينا ذلك بشواهده في موضعٍ غير هذا بما فيه الكفاية (1) = وأن معنى الكلام: ويضع النبيُّ الأميُّ العهدَ الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل، من إقامة التوراة والعملِ بما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضةً، فنسخها حُكْم القرآن. * * * وأما "الأغلال التي كانت عليهم"، فكان ابن زيد يقول بما: - 15243- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه في قوله: "والأغلال التي كانت عليهم"، قال: "الأغلال"، وقرأ (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [سورة المائدة: 64] . قال: تلك الأغلال. قال: ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالنبيّ فيضع ذلك عنهم. * * * القول في تأويل قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي، وأقرُّوا بنبوّته (2) = "وعزَّروه"، يقول: وَقَّروه وعظموه وحَمَوه من الناس، (3) كما: - 15244- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) (1) انظر تفسير ((الإصر)) فيما سلف 6: 135 - 138، 560. (2) (2) انظر تفسير ((الإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (أمن) . (3) (3) انظر تفسير ((التعزير)) فيما سلف 10: 119 - 121. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وعزروه"، يقول: حموه وقَّروه. 15245- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثني موسى بن قيس، عن مجاهد: "وعزروه ونصروه": "عزَّروه"، سدَّدوا أمره، وأعانوا رَسُوله= "ونَصَرُوه". * * * وقوله: "نصروه"، يقول: وأعانوه على أعداء الله وأعدائه، بجهادهم ونصب الحرب لهم = "واتبعوا النور الذي أنزل معه"، يعني القرآن والإسلام (1) = "أولئك هم المفلحون"، يقول: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جل ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، هم المنجحون المدرِكون ما طلبُوا ورجَوْا بفعلهم ذلك. (2) 15246- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: فما نقموا= يعني اليهود= إلا أن حسدوا نبيَّ الله، فقال الله: "الذين آمنوا به وعزّروه ونصروه"، فأما نصره وتعزيره فقد سبقتم به، ولكن خياركم من آمن بالله واتَّبع النور الذي أنزل معه. * * * يريد قتادة بقوله "فما نَقَموا إلا أن حسدوا نبي الله"، أن اليهودَ كان محمَّد صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند الله رحمةً عليهم لو اتبعوه، لأنه جاء بوضع الإصر والأغلال عنهم، فحملهم الحسد على الكفر به، وترك قبول التخفيف، لغلبة خِذْلانِ الله عليهم. * * *   (1) (1) انظر تفسير ((النور)) فيما سلف 11: 526، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) (2) انظر تفسير ((الفلاح)) فيما سلف: 12: 505، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل"، يا محمد للناس كلهم= "إنّي رسول الله إليكم جميعًا"، لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرُّسل، مرسلا إلى بعض الناس دون بعض. فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إلى جميعكم. وقوله: "الذي"، من نعت اسم "الله" وإنما معنى الكلام: قل: يا أيها الناس إني رسول الله، الذي له ملك السموات والأرض، إليكم. ويعني جل ثناؤه بقوله: "الذي له ملك السموات والأرض"، الذي له سلطان السَّموات والأرض وما فيهما، وتدبير ذلك وتصريفه (1) = "لا إله إلا هو"، يقول: لا ينبغي أن تكون الألوهة والعِبادة إلا له جل ثناؤه، دون سائر الأشياء غيره من الأنداد والأوثان، إلا لمن له سلطان كل شيء، والقادر على إنشاء خلق كل ما شاء وإحيائه، وإفنائه إذا شاء إماتته = "فآمنوا بالله ورسوله"، يقول جل ثناؤه: قل لهم: فصدِّقوا بآيات الله الذي هذه صفته، وأقِرُّوا بوحدانيته، وأنه الذي له الألوهة والعبادة، وصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنَّه مبعوث إلى خلقه، داع إلى توحيده وطاعته. * * *   (1) (1) انظر تفسير ((الملك)) فيما سلف من فهارس اللغة (ملك) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 القول في تأويل قوله: {النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) } قال أبو جعفر: أما قوله: "النبي الأمي"، فإنه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وقد بينت معنى "النبي" فيما مضى بما أغنى عن إعادته= ومعنى قوله: "الأمي". (1) * * * = "الذي يؤمن بالله"، يقول: الذي يصدق بالله وكلماته. * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وكلماته". (2) فقال بعضهم: معناه: وآياته. * ذكر من قال ذلك: 15247- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "الذي يؤمن بالله وكلماته"، يقول: آياته. * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك عيسى ابن مريم عليه السلام. * ذكر من قال ذلك: 15248- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: "الذي يؤمن بالله وكلماته"، قال: عيسى ابن مريم. 15149- وحدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا   (1) (1) انظر تفسير ((النبي)) فيما سلف 2: 140 - 142 / 6: 284، 380، وغيرها من المواضع. = وتفسير ((الأمي)) ، فيما سلف قريباً ص: 163، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) (2) انظر تفسير ((الكلمة)) فيما سلف من الفهارس اللغة (كلم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 أسباط، عن السدي: "الذي يؤمن بالله وكلماته"، فهو عيسى ابن مريم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنَّ الله تعالى ذكره أمرَ عباده أن يصدِّقوا بنبوِّة النبيّ الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، ولم يخصص الخبرَ جل ثناؤه عن إيمانه من "كلمات الله" ببعض دون بعضٍ، بل أخبرهم عن جميع "الكلمات"، فالحق في ذلك أن يعمَّ القول، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بكلمات الله كلِّها، على ما جاء به ظاهرُ كتابِ الله. * * * وأما قوله: "واتبعوه لعلكم تهتدون"، فاهتدوا به أيها الناس، واعملوا بما أمركم أن تعملوا به من طاعة الله= "لعلكم تهتدون"، يقول: لكي تهتدوا فترشدوا وتصيبوا الحقّ في اتّباعكم إيّاه. * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ومن قوم موسى"، يعني بني إسرائيل= "أمة"، يقول: جماعة (1) = "يهدون بالحق"، يقول: يهتدون بالحق، أي يستقيمون عليه ويعملون (2) "وبه يعدلون"، أي: وبالحق يعطُون ويأخذون، ويُنصفون من أنفسهم فلا يجورون. (3) * * * وقد قال في صفة هذه الأمة التي ذكرها الله في الآية، جماعةٌ أقوالا نحن ذاكرو ما حضَرنا منها.   (1) (1) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف 12: 415، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) (2) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (3) (3) انظر تفسير ((العدل)) فيما سلف 6: 51، وفهارس اللغة (عدل) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 15250- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السدي: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، قال: قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْدِ. (1) 15251- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، قال: بلغني أن بني إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءَهم، كفروا. وكانوا اثني عشر سبطًا، تبرّأ سبطٌ منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله أن يفرِّق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نَفَقًا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجُوا من وراء الصين، فهم هنالك،   (1) (1) الأثر:: 15250 - ((صدقة أبي الهذيل)) ، ترجم له البخاري في الكبير 2/2/295، ولم يزد على أن قال: ((عن السدي، روى عنه ابن عيينة)) ، ولم يذكر فيه جرحاً. وذكره في التهذيب وقال: ((صدقة أبو الهذيل، تقدم ذكره في ترجمة: صدقة بن أبي عمران)) ، ولكن سقط من نسخة التهذيب ترجمة ((صدقة بن أبي عمران)) ، فلم يرد له ذكر في الكتاب. وأما ابن أبي حاتم، فلم يذكره في كتابه، لا في ترجمة خاصة، ولا في ترجمة ((صدقة بن أبي عمران)) ، ولكن كلام ابن حجر في التهذيب قد يوهم أنهما شخص واحد، ولكن الراجح أنهما رجلان، لأن البخاري ترجم له، ففرق بينهما. وقوله ((نهر من شهد)) يعنى: نهراً من عسل من أنهار الجنة التي قال الله تعالى في سورة محمد: 15 {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} وبهذا اللفظ (شهد) ، ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 573. وفي الدر المنثور 1: 136: ((وبينهم نهر من سهل - يعني من رمل - يجري)) ، ثم جاء الألوسى في تفسير الآية (9: 75) فنقل ذلك هكذا: ((وبينهم نهر من رمل يجري)) ثم قال: ((وضعف هذه الحكاية ابن الخازن، وأنا لا أراها شيئا، ولا أظنك تجد لها سنداً يعول عليه ولو ابتغيت نفقاً في الأرض أو سلماً إلى السماء)) . ونقل الألوسى نقل من المعنى الذي ذكره السيوطي ((سهل)) - يعني من رمل)) ، وهو فاسد جداً والصواب أن ((سهل)) ، محرف عن ((شهد)) ، وهو الصواب إن شاء الله. هذا تحرير نص الخبر وتأويله، وأما صحته أو ضعفه فهما بمعزل من تصحيح نصه، ومثل هذا الخبر والذي يليه، لا يؤخذ به إلا بحجة قاطعة يجب التسليم لها. ولا حجة في رواية موقوفة على السدي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 حُنَفاء مسلمُون يستقبلون قبلتنا= قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) [سورة الإسراء: 104] . و"وعد الآخرة"، عيسى ابن مريم، يخرجون معه= قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السَّرَب سنة ونصفًا. (1) * * *   (1) (1) الأثر: 15251 - هذا الخبر، لم يروه أبو جعفر في تفسير آية سورة الإسراء، وهذا ضرب من اختصاره لتفسيره، وربما دل ذلك على ضعف الخبر عنده، لأنه لو صح عنه لذكره في تفسير قوله تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَة)) ، أنه عيسى ابن مريم عليه السلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 القول في تأويل قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرقناهم= يعني قوم موسى من بني إسرائيل، فرقهم الله فجعلهم قبائل شتى، اثنتي عشرة قبيلة. * * * وقد بينا معنى "الأسباط"، فيما مضى، ومن هم. (1) * * * واختلف أهل العربية في وجه تأنيث "الاثنتي عشرة"، و"الأسباط" جمع مذكر. فقال بعض نحويي البصرة: أراد اثنتي عشرة فرقة، ثم أخبر أن الفرق "أسباط"، ولم يجعل العدد على "أسباط". * * * وكان بعضهم يستخِلُّ هذا التأويل ويقول (2) لا يخرج العدد على غير   (1) (2) انظر تفسير ((الأسباط)) فيما سلف 2: 121، الخبر رقم 1047 / 3: 109 - 113، 122 / 6: 569. (2) (3) في المخطوطة: ((يستحكى هذا التأويل)) ، وفي المطبوعة: ((يستحكى على هذا التأويل)) ، زاد ((على)) ، لأن وجد الكلام لا معنى له. والصواب عندي ما أثبت ((يستخل)) من ((الخلل)) وهو الوهن والفساد، وقالوا: ((أمر مختل)) أي فاسد واهن. فاستخرج أبو جعفر أو غيره قياساً من ((الخلل)) ((استخل الشيء)) ، أي استوهنه واستضعفه، ووجد فيه خللاً. وهو قياس جيد في العربية. وهو صواب المعنى فيه إن شاء الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 التالي، (1) ولكن "الفرق" قبل "الاثنتي عشرة"، حتى تكون "الاثنتا عشرة" مؤنثة على ما قبلها، ويكون الكلام: وقطعناهم فرقًا اثنتي عشرة أسباطًا= فيصحّ التأنيث لما تقدَّم. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: إنما قال "الاثنتي عشرة" بالتأنيث، و"السبط" مذكر، لأن الكلام ذهب إلى "الأمم"، فغُلّب التأنيث، وإن كان "السبط" ذكرًا، وهو مثل قول الشاعر: (2) وَإِنَّ كِلابًا هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ (3) ذهب ب"البطن" إلى القبيلة والفصيلة، فلذلك جمع "البطن" بالتأنيث. * * * وكان آخرون من نحويي الكوفة يقولون: إنما أنّثت "الاثنتا عشرة"، و "السبط" ذكر، لذكر "الأمم". (4) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنّ "الاثنتي عشرة" أنثت لتأنيث "القطعة"، ومعنى الكلام: وقطعناهم قِطَعًا اثنتي عشرة ثم ترجم عن "القِطَع" ب"الأسباط"، وغير جائز أن تكون "الأسباط" مفسرة   (1) (1) في المخطوطة: ((على غير الثاني)) ، وغيرها في المطبوعة إلى: ((على عين الثاني)) ، وكلتاهما فاسدة المعنى، والصواب ما أثبت. يعنى: ما يتلو العدد، وهو ((أسباط)) ، وهو الظاهر في الكلام، وتقديره: ((اثنى عشرة فرقة أسباطاً)) ثم حذف ((فرقة)) وإضمارها، يوجب أن يجرى العدد على ما يتلوه، فصح بهذا ما أثبت من قراءة النص. (2) (2) النواح الكلابي، رجل من بنى كلاب. (3) (3) سيبويه 2: 174، معاني القرآن للفراء 1: 126، الإنصاف: 323، العينى (هامش الخزانة) 4: 484، واللسان (بطن) ، وغيرها. ولم أجد تتمة الشعر. (4) (4) هو الفراء في معاني القرآن 1: 397. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 عن "الاثنتي عشرة" وهي جمع، لأن التفسير فيما فوق "العشر" إلى "العشرين" بالتوحيد لا بالجمع، (1) و"الأسباط" جمع لا واحد، وذلك كقولهم: "عندي اثنتا عشرة امرأة". ولا يقال: "عندي اثنتا عشرة نسوة"، فبيَّن ذلك أن "الأسباط" ليست بتفسير للاثنتي عشرة، (2) وأن القول في ذلك على ما قلنا. * * * وأما "الأمم"، فالجماعات= و"السبط" في بني إسرائيل نحو "القَرْن". (3) * * * وقيل: إنما فرّقوا أسباطًا لاختلافهم في دينهم. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وأوحينا إلى موسى"، إذ فرّقنا بني إسرائيل قومه اثنتي عشرة فرقة، وتيَّهناهم في التيه، فاستسقوا موسى من العَطش وغَوْر الماء= "أن اضرب بعصَاك الحجر". * * *   (1) (1) ((التفسير)) ، هو ((التمييز)) ، فقوله: ((مفسرة)) أي تمييزاً في الإعراب. (2) (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((ففي ذلك أن الأسباط)) ، وهو تركيب واه ضعيف، ورجحت أن ما أثبت أشبه بالصواب. (3) (3) انظر تفسير ((الأمة) فيما سلف ص: 172، تعليق: 1 والمراجع هناك وتفسير السبط فيما سلف ص 174 تعليق 2 والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 وقد بينا السبب الذي كان قومه استسقوه وبينا معنى الوحي بشواهده. (1) * * * = "فانبجست"، فانصّبت وانفجرت من الحجر اثنتَا عشرة عينًا من الماء، "قد علم كل أناس"، يعني: كل أناس من الأسباط الاثنتي عشرة "مشربهم"، لا يدخل سبط على غيره في شربه= "وظللنا عليهم الغمام"، يكنُّهم من حرّ الشمس وأذاها. * * * وقد بينا معنى "الغمام" فيما مضى قبل، وكذلك: "المن والسلوى". (2) * * * = "وأنزلنا عليهم المن والسلوى"، طعامًا لهم= "كلوا من طيبات ما رزقناكم"، يقول: وقلنا لهم: كلوا من حَلال ما رَزقْناكم، أيها الناس، وطيّبناه لكم= "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، وفي الكلام محذوف، ترك ذكره استغناءً بما ظهَر عما ترك، وهو: "فأجِمُوا ذلك، (3) وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير"= "وما ظلمونا"، يقول: وما أدخلوا علينا نقصًا في ملكنا وسلطاننا بمسألتهم ما سألوا، وفعلهم ما فعلوا= "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، أي: ينقصونها حظوظَها باستبدالهم الأدنى بالخير، والأرذل بالأفضل. * * *   (1) (1) انظر ما سلف 2: 119 - 122. = وتفسير ((الوحي)) فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) . (2) (2) انظر تفسير ((تظليل الغمام)) فيما سلف 2: 90، 91. = وتفسير ((المن)) و ((والسلوى)) فيما سلف 2: 91 - 101. = وتفسير سائر الآية، وهي نظيرتها فيما سلف 2: 101، 102. (3) (3) في المطبوعة: ((فأجمعوا ذلك)) ، ظن ما في المخطوطة خطأ، فأصلحه، يعنى فأفسده! ! يقال: ((أجم الطعام يأجمه أجما)) ، إذا كرهه ومله من طول المداومة عليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا، يا محمد، من خطأ فعل هؤلاء القوم، وخلافهِم على ربهم، وعصيانهم نبيَّهم موسى عليه السلام، وتبديلهم القولَ الذي أمروا أن يقولوه حين قال الله لهم: "اسكنوا هذه القرية"، وهي قرية بيت المقدس (1) = "فكلوا منها"، يقول: من ثمارها وحبوبها ونباتها= "حيث شئتم"، منها، يقول: أنّى شئتم منها= "وقولوا حطة"، يقول: وقولوا: هذه الفعلة "حِطّةٌ"، تحطُّ ذنوبنا (2) = "نغفر لكم"، يتغمد لكم ربكم= "ذنوبكم"، التي سلفت منكم، فيعفو لكم عنها، فلا يؤاخذكم بها. (3) = "سنزيد المحسنين"، منكم، وهم المطيعون لله، (4) على ما وعدتكم من غفران الخطايا. * * * وقد ذكرنا الروايات في كل ذلك باختلاف المختلفين، والصحيح من القول لدينا فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (5) * * *   (1) (1) انظر تفسير ((القرية)) فيما سلف 2: 102، 103. (2) (2) انظر تفسير ((الحطة)) فيما سلف 2: 105 - 109. (3) (3) انظر تفسير ((المغفرة)) فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) . (4) (4) انظر تفسير ((الإحسان)) فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) . (5) (5) انظر ما سلف في تفسير نظيرة هذه الآية 2: 102 - 112. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 القول في تأويل قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول، فقالوا= وقد قيل لهم: قولوا: هذه حطة=: "حنطة في شعيرة". وقولهم ذلك كذلك، هو غير القول الذي قيل لهم قولوه. يقول الله تعالى: "فأرسلنا عليهم رجزًا من السماءِ"، بَعثنا عليهم عذابًا، أهلكناهم بما كانوا يغيِّرون ما يؤمرون به، فيفعلون خلاف ما أمرهم الله بفعله، ويقولون غير الذي أمرهم الله بفعله. (1) * * * وقد بينا معنى الرجز فيما مضى. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واسأل، يا محمد، هؤلاء اليهود، وهم مجاوروك، عن أمر "القرية التي كانت حاضرة البحر"، يقول: كانت بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه. * * * واختلف أهل التأويل فيها.   (1) (1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 2: 112 - 119. (2) (2) انظر تفسير ((الرجز)) فيما سلف 2: 117، 118 / 12: 521 / 13: 72. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 فقال بعضهم: هي "أيلة". * ذكر من قال ذلك: 15252- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: هي قرية يقال لها "أيلة"، بين مَدْين والطور. 15253- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" قال: سمعنا أنها أيلة. 15254- حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال، حدثنا ابن جريج، عن عكرمة قال: دخلتُ على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداك؟ فقال: ويلك، وتعرِف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة! (1) 15255- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: هي أيلة. 15256- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هي قرية على شاطئ البحر، بين مصر والمدينة، يقال لها: "أيلة".   (1) (1) الأثر: 15254 - ((سلام بن سالم الخزاعى)) ، شيخ الطبري، مضى برقم: 252، 6529. و ((يحيى بن سليم الطائفي)) ، مضى برقم: 4894، 7831. وانظر هذا الخبر وتمامه فيما سيأتي رقم 15271. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 15257- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هم أهل أيلة، القرية التي كانت حاضرة البحر. 15258- حدثني الحارث قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: أيلة. * * * وقال آخرون: معناه: ساحلُ مدين. 15259- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" الآية، ذكر لنا أنها كانت قرية على ساحل البحر، يقال لها أيلة. * * * وقال آخرون: هي مَقْنا. * ذكر من قال ذلك: 15260- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: هي قرية يقال لها "مقنا"، بين مدين وعَيْنُوني. (1) * * *   (1) (1) ((عينونى)) ، وتكتب أيضاً (عينونا)) ، و ((عينون)) ، ذكرها ياقوت في معجمه في الباب، وذكرها البكرى في معجم ما استعجم في ((حبرى)) ، ولم يفرد لها باباً. قال ياقوت: ((من قرى باب المقدس. وقيل: قرية من وراء البثنية من دون القلزم، في طرف الشام، ذكرها كثير: إِذْ هُنَّ فِي غَلَسِ الظَّلامِ قوارِبٌ ... أَعْدَادَ عَيْنٍ من عُيُونِ أُثَالِ يَجْتَزْنَ أَوْدِيَةَ البُضَيْعِ جَوَازِعًا ... أجْوَازَ عَيْنُونَا، فَنَعْفَ قِبَالِ وقال يعقوب: سمعت من يقول: عين أنا ... وقال البكرى: هي قرية يطؤها طريق المصريين إذا حجوا. وأنا، واد)) . وفي الخبر (ابن سعد 1/2/21، 22) : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب لنعيم ابن أوس، أخي تميم الدارى، أن له ((حيرى)) ، و ((عينون)) بالشام، قريتها كلها، سهلها وجبلها وماءها وأنباطها وبقرها، ولعقبة من بعده، لا يحاقه فيها أحد، ولا يلجه عليهم بظلم، ومن ظلمهم وأخذ منهم شيئاً فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكتب على)) . قال البكرى في معجم ما استعجم (420) : ((وكان سليمان بن عبد الملك إذا مر بها لم يعرج ويقول: أخاف أن تمسنى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 وقال آخرون: هي مدين. * ذكر من قال ذلك: 15261- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هي قرية بين أيلة والطور، يقال لها "مَدْين". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هي قرية حاضرة البحر= وجائز أن تكون أيلة= وجائز أن تكون مدين= وجائز أن تكون مقنا= لأن كل ذلك حاضرة البحر، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع العذر بأيِّ ذلك من أيٍّ، (1) والاختلاف فيه على ما وصفت. ولا يوصل إلى علم ما قد كان فمضى مما لم نعاينه، إلا بخبر يوجب العلم. ولا خبر كذلك في ذلك. * * * وقوله: "إذ يعدون في السبت"، يعني به أهله، إذ يعتدون في السبت أمرَ الله، ويتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم. * * * يقال منه: "عدا فلان أمري" و"اعتدى"، إذا تجاوزه. (2) * * *   (1) (1) في المطبوعة: ((بأن ذلك من أي)) ، ظن أنه يصحح ما في المخطوطة، فخلط خلطاً لا مخرج منه. وهذا تعبير مضى مرارًا، وأشرت إليه 1: 520 س: 16 / 2: 517 س: 15 / 3: 64 س: 7 / 6: 291 س: 6 / 8: 85، 86 تعليق: 1، فراجعه هناك ٍ، فقد غيره الناشر في كل هذه المواضع. (2) (2) انظر تفسير: ((عدا)) و ((اعتدى)) فيما سلف 12: 36، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 وكان اعتداؤهم في السبت: أن الله كان حرَّم عليهم السبت، فكانوا يصطادون فيه السمك. (1) * * * = "إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرَّعًا"، يقول: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم الذي نهوا فيه العمل= "شرَّعًا"، يقول: شارعة ظاهرةً على الماء من كل طريق وناحية، كشوارع الطرق، كالذي: - 15262- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا"، يقول: ظاهرة على الماء. (2) 15263- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "شرعًا"، يقول: من كلّ مكان. * * * وقوله: "ويوم لا يسبتون"، يقول: ويوم لا يعظمونه تعظيمهم السَّبت، وذلك سائر الأيام غير يوم السبت= "لا تأتيهم"، الحيتان= "كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون"، يقول: كما وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء الذي ذكرنا، بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم المحلل صيده (3) = "كذلك نبلوهم"، ونختبرهم (4) = "بما كانوا يفسقون"،   (1) (1) انظر معنى ((السبت)) واعتداؤهم فيه فيما سلف 2: 166 - 182 / 9: 361، 362. (2) (2) الأثر: 15262 - ((عثمان بن سعيد الزيات الأحول)) ، لا بأس به، مضى برقم: 137. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((عثمان بن سعد)) ، وهو خطأ محض. و ((بشر بن عمارة الخثعمي)) ، ضعيف، مضى أيضاً برقم: 137. وهذا الخبر جزء من خبر طويل مضى قديماً برقم: 1138 (2: 168) . (3) (3) في المطبوعة والمخطوطة: ((وإخفائها)) ، والسياق يقتضى ما أثبت. (4) (4) انظر تفسير ((الابتلاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (بلا) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها. (1) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: "ويوم لا يسبتون". فقرئ بفتح "الياء" من (يَسْبِتُونَ) =من قول القائل: "سبت فلان يسبت سَبْتًا وسُبُوتًا"، إذا عظَّم "السبت". * * * وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (وَيَوْمَ لا يُسْبَتُونَ) بضم الياء. =من "أسبت القوم يسبتون"، إذا دخلوا في "السبت"، كما يقال: "أجمعنا"، مرّت بنا جمعة، و"أشهرنا" مرّ بنا شهر، و"أسبتنا"، مرّ بنا سبت. * * * ونصب "يوم" من قوله: "ويوم لا يسبتون"، بقوله: "لا تأتيهم"، لأن معنى الكلام: لا تأتيهم يوم لا يسبتون. * * *   (1) (1) انظر تفسير ((الفسق) فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) } (1) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا، يا محمد= "إذ قالت أمة منهم"، جماعة منهم لجماعة كانت تعظ المعتدين في السبت، وتنهاهم عن معصية الله فيه = (2) "لم تعظون قومًا الله   (1) (2) ضبطت الآية ((معذرة)) بالنصب على قراءتنا في مصحفنا، وتفسير أبي جعفر واختياره في القراءة، رفع ((معذرة)) ، فتنبه إليه. (2) (3) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف ص 176، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 مهلكهم"، في الدنيا بمعصيتهم إياه، وخلافهم أمره، واستحلالهم ما حرم عليهم= "أو معذبهم عذابًا شديدًا"، في الآخرة، قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن قولهم: عظتنا إياهم معذرةٌ إلى ربكم، نؤدِّي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر= "ولعلهم يتقون"، يقول: ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه، فينيبوا إلى طاعته، ويتوبوا من معصيتهم إياه، وتعدِّيهم على ما حرّم عليهم من اعتدائهم في السبت، كما: - 15264- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "قالوا معذرة إلى ربكم"، لسخطنا أعمالهم. (1) * * * = "ولعلهم يتقون"،: أي ينزعون عما هم عليه. (2) * * * 15265- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "ولعلهم يتقون" قال: يتركون هذا العمل الذي هم عليه. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: "قالوا معذرة". (3) فقرأ دلك عامة قرأة الحجاز والكوفة والبصرة: (مَعْذِرَةٌ) بالرفع، على ما وصفتُ من معناها. * * * وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة: (مَعْذِرَةً) نصبًا، بمعنى: إعذارًا وعظناهم وفعلنا ذلك. * * *   (1) الأثر: 15264 مضى مطولا برقم: 1139 (2: 170) . (2) (2) انظر تفسير ((اتقى) فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (3) (3) انظر ذكر هذه الآية وإعرابها فيما سلف 2: 107، 108. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت: "لم تعظون قوما الله مهلكهم"، هل كانت من الناجية، أم من الهالكة! فقال بعضهم: كانت من الناجية، لأنها كانت هي الناهيةَ الفرقةَ الهالكةَ عن الاعتداء في السبت. (1) * ذكر من قال ذلك: 15266- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا"، هي قرية على شاطئ البحر بين مكة والمدينة، يقال لها: "أيلة"، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر. فإذا مضى يوم السبت، لم يقدروا عليها. فمكثوا بذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة، وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم! فلم يزدادوا إلا غيًّا وعتوًّا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم. فلما طال ذلك عليهم، قالت طائفة من النهاة: تعلَّموا أنّ هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، (2) لم تعظون قومًا الله مهلكهم، وكانوا أشد غضَبًا لله من الطائفة الأخرى، فقالوا: "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون"، وكلّ قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله، نجت الطائفتان اللتان قالوا: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم"، والذين قالوا: "معذرة إلى ربكم"، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة وخنازير. 15267- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "واسألهم عن القرية التي كانت   (1) (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((لأنها كانت من الناهية)) ، ولا معنى لقوله: ((من)) ، هنا، والصواب ما أثبت. (2) (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((تعلمون) ، والصواب ما أثبت: ((تعلموا)) فعل أمر، بتشديد اللام، بمعنى: اعلموا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 حاضرة البحر، إلى قوله: "ويوم لا يسبتون لا تأتيهم"، وذلك أن أهل قرية كانت حاضرة البحر، كانت تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم. يقول: إذا كانوا يوم يسبتون تأتيهم شرعًا= يعني: من كل مكان= ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، وأنهم قالوا: لو أنا أخذنا من هذه الحيتان يوم تجيء ما يكفينا فيما سوى ذلك من الأيام! فوعظهم قوم مؤمنون ونهوهم. وقالت طائفة من المؤمنين: إن هؤلاء قوم قد هموا بأمر ليسوا بمنتهين دونه، والله مخزيهم ومعذبهم عذابًا شديدًا. قال المؤمنون بعضهم لبعض: "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون"، إن كان هلاك، فلعلنا ننجو، وإما أن ينتهوا فيكون لنا أجرًا. وقد كان الله جعل على بني إسرائيل يومًا يعبدونه ويتفرغون له فيه، وهو يوم الاثنين. فتعدى الخبثاء من الاثنين إلى السبت، وقالوا: هو يوم السبت! فنهاهم موسى، فاختلفوا فيه، فجعل عليهم السبت، ونهاهم أن يعملوا فيه وأن يعتدوا فيه، وأنّ رجلا منهم ذهب ليحتطب، فأخذه موسى عليه السلام فسأله: هل أمرك بهذا أحد؟ فلم يجد أحدًا أمره، فرجمه أصحابه. 15268- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال بعض الذين نهوهم لبعض: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا"، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون". 15269- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا معاذ بن هانئ قال، حدثنا حماد، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا"، قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: "لم تعظون قوما الله مهلكهم" أم لا! قال: فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة. (1)   (1) الأثر: 15269 - ((معاذ بن هانئ القيسى)) ، ثقة، روى عن همام بن يحيى، ومحمد بن مسلم الطائفي، وحماد بن سلمة، وغيرهم 0 0مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/367، وابن أبي حاتم 4/1/250. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 15270- حدثني المثني قال، حدثنا حماد، عن داود، عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية، فذكر نحوه= إلا أنه قال في حديثه: فما زلت أبصِّره حتى عرَف أنهم قد نجوا. 15271- حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال، حدثنا ابن جريج، عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداءك؟ قال: فقرأ: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، إلى قوله: (بما كانوا يفسقون".) قال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم! فقلت: أما تسمع الله يقول: "فلما عتوا عمّا نهوا عنه"؟ فسُرِّي عنه، وكساني حُلّة. (1) 15272- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني رجل، عن عكرمة قال: جئت ابن عباس يومًا وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدَّمت فجلستُ، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس، جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات! قال: وإذا هو في "سورة الأعراف"، قال: تعرف أيلة! قلت: نعم! قال: فإنه كان حيّ من يهود، سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغُوصوا، بعد كدٍّ ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شرعًا بيضًا سمانًا كأنها الماخض، (2) تنبطحُ ظهورُها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم. (3) فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال:   (1) (1) الأثر: 15271 - مضى صدر هذا الخبر، وجزء آخر منه فيما سلف برقم: 15254. (2) (2) ((الماخض)) ، التي قد دنا ولادها من الشاء وغيرها. وفي حديث الزكاة: ((فاعمد إلى شاة قد امتلأت مخاضاً، وشحماً)) ، أي نتاجاً، يعنى بذلك سمنها وبضاضتها. (3) (3) في المطبوعة وابن كثير 3: 577: ((تنتطح)) ولامعنى لها هنا، وفي المخطوطة ((تلتطح)) ، كانها من قولهم ((لطح الرجل به الأرض)) ، و ((لطحه بالأرض)) ، إاذا ضربه بالأرض. وقاس منه ((التطح)) أي تتقلب ضاربة بظهورها وبطونها الأرض. وصوابها ما أثبت ((تنبطح)) أو ((تتبطح)) (بتشديد الطاء) ، أي تتمرغ في البطحاء. وانظر ما سيأتي في ص: 190، تعليق: 02 وقد حذف هذه الكلمة السيوطي في روايته للخبر في الدر المنثور 3: 137، كعادته إذا أشكل عليه الكلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام! فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة منهم: بل نُهيتم عن أكلها وأخذِها وصيدها في يوم السبت. وكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحَّت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون: ويلكم! اللهَ، اللهَ، ننهاكم أن تعترّضوا لعقوبة الله! (1) وقال الأيسرون: "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا"؟ قال الأيمنون: "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون"! أي: ينتهون، فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، فقال الأيمنون: قد فعلتم، يا أعداء الله! والله لا نُبَايتكم الليلة في مدينتكم، (2) والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده بالعذاب! (3) فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلّمًا، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال: أي عبادَ الله، قردةٌ والله تعاوَى لها أذناب! قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القردةُ أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس فتشمّ ثيابه وتبكي، فتقولُ لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: نعم! ثم قرأ ابن عباس: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) . قال: فأرى اليهود الذين نَهَوْا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذُكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها! قال قلت: إنَّ جعلني الله فداك، (4) ألا ترى أنهم قد كَرِهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم"؟ قال: فأمرَ بي فكسيِت بُرْدَين غليظين. 15273- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، ذُكر لنا أنه إذا كان يوم السبت أقبلت الحيتان، حتى تتبطَّح على سواحلهم وأفنيتهم، (5) لما بلغها من أمر الله في الماء، فإذا كان في غير يوم السبت، بعدت في الماء حتى يطلبها طالبهم. فأتاهم الشيطان فقال: إنما حرم عليكم أكلها يوم السبت، فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما بعد! ..... (6) قوله: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون"، صار القوم ثلاثة أصناف، (7) أما صنف فأمسكوا عن حرمة الله ونهوا عن معصية الله، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله هيبةً لله، وأما صنف فانتهك الحرمة ووقع في الخطيئة.   (1) (1) هذه الجملة: ((وقال الأيمنون .... )) ساقطة من المخطوطة، ثابتة في المطبوعة. وفي المطبوعة: ((الله ينهاكم عن أن تعترضوا لعقوبة الله)) ، ولا أدرى من أين جاء بها. وأثبت نص ابن كثير في تفسيره 3: 557، وفي الدر المنثور 3: 137: ((ويلكم، لا تتعرضوا لعقوبة الله)) . (2) (2) في المطبوعة: ((والله لا نبايتنكم)) وفي ابن كثير: 3: 577: ((لنأتينكم)) ، وفي الدر المنثور 3: 137: ((لنسبايتنكم)) ، ومثله في المخطوطة، وأرجح أن الصواب ما أثبت، يعنون أنهم لن يبيتوا معهم في مدينتهم. فهذا ظاهر السياق. (3) (3) في المخطوطة والمطبوعة، والدر المنثور: ((ما أراكم)) ، والصواب من ابن كثير. (4) (1) في المطبوعة، والدر المنثور: ((أي جعلني الله فداك)) ، ولا معنى لها، وحذفها ابن كثير في روايته الخبر. وأثبت ما في المخطوطة، وقوله: ((إن)) (مكسورة الألف مشددة النون) بمعنى: نعم، يعنى: إنه قد كان، وإنهم قد نجوا. قال أبو عبيد في مثله: ((وهذا اختصار من كلام العرب، يكتفي منه بالضمير، لأنه قد علم معناه)) . وقد قال مسعود بن عبد الله الأسدي: قَالُوا:غَدَرْتَ! فَقُلْتُ: إنّ! وَرُبّمَا ... نَالَ العُلَى وشَفَى الغَلِيلَ الغادِرُ (5) في المطبوعة: ((تنتطح)) ، وهي في المخطوطة واضحة كما أثبتها، وانظر التعليق السالف ص: 188، رقم: 3. (6) وضعت هذه النقط، لدلالة على خرم في الخبر لاشك فيه، فإنه غير متصل. ولكن كهذا هو في المخطوطة. وفي المخطوطة لم يسق الآية هكذا بل كتب: (قوله: ((وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً)) ، فقرأ حتى بلغ ((ولعلهم يتقون)) ) ، فكان هذا دليلاً أيضاً على الخرم الذي وقع في نسخة التفسير. ولكن انظر بعض هذا الخبر بهذا الإسناد فيما سلف: 1140. (7) في المطبوعة: ((فصار)) ، وأثبت ما في المخطوطة بغير فاء، لأنى لا أعلم ما قبله من السقط الذي حدث، ما هو. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 15274- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله: "حاضرة البحر"، قال: حرمت عليهم الحيتان يوم السبت، وكانت تأتيهم يوم السبت شُرّعًا، بلاء ابتلوا به، ولا تأتيهم في غيره إلا أن يطلبوها، بلاء أيضًا، بما كانوا يفسقون. فأخذوها يوم السبت استحلالا ومعصية، فقال الله لهم: "كونوا قردة خاسئين"، إلا طائفة منهم لم يعتدوا ونهوهم، فقال بعضهم لبعض: "لم تعظون قومًا". 15275- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم" حتى بلغ "ولعلهم يتقون"، لعلّهم يتركون ما هم عليه. قال: كانوا قد بُلوا بكفّ الحيتان عنهم، وكانوا يسبتون في يوم السبت ولا يعملون فيه شيئًا، فإذا كان يوم السبت أتتهم الحيتانُ شُرّعًا، وإذا كان غير يوم السبت لم يأت حوتٌ واحد. قال: وكانوا قومًا قد قَرِموا بحب الحيتان ولقوا منه بلاءً، (1) فأخذ رجل منهم حوتًا فربط في ذنبه خيطًا، ثم ربطه إلى خَشَفَةٍ، (2) ثم تركه في الماء، حتى إذا غربت الشمس من يوم الأحد، اجتره بالخيط ثم شواه. فوجد جارٌ له ريح حوت، فقال: يا فلان، إني أجد في بيتك ريح نًونٍ! (3) فقال: لا! قال: فتطلع في تنُّوره فإذا هو فيه، فأخبره حينئذ الخبرَ، فقال: إني أرى الله سيعذِّبك. قال: فلما لم يره عجَّل عذابًا، فلما أتى السبت الآخر أخذ اثنين فربَطَهما، ثم اطلع جارٌ له عليه، فلما رآه لم يعجِّل عذابًا، جعلوا يصيدونه، (4) فاطلع أهل القرية عليهم، فنهاهم الذين ينهون عن   (1) ((قرم إلى اللحم)) (بكسر الراء) ((قرماً)) بفتحتين: اشتدت شهوته إليه. وقوله: ((لقوامنه)) ، الضمير في ((منة)) عائد إلى مصدر ((قرموا)) ، أي: القرم. (2) (2) في المطبوعة: ((خسفة)) ، ولا معنى لها، وهي في المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت. و ((الخشفة)) بالخاء المعجمة و ((الحشفة)) بالحاء المهلة (وبفتح الخاء والشين) : هي حجارة تنبت في الأرض نباتاً، أو صخرة رخوة في سهل من الأرض. (3) (3) ((النون)) : الحوت والسمك. (4) (4) قوله: ((جعلوا يصيدونه)) ، فخالف السياق المفرد السابق، فأخشى أن يكون سقط من الكلام ما معناه أن بعض جيرانه اتبعوه وفشا فيهم، فجعلوا يصيدونه ... الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 المنكر، فكانوا فرقتين: فرقة تنهاهم وتكفّ، وفرقة تنهاهم ولا تكف. فقال الذين نهوا وكفوا، للذين ينهون ولا يكفون: "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا"؟ فقال الآخرون: "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون". فقال الله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) . إلى قوله: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) قَالَ اللَّهُ (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . وقال لهم أهل تلك القرية: عملتم بعمل سَوْء، من كان يريد يعتزل ويتطهَّر فليعتزل هؤلاء! قال: فاعتزل هؤلاء وهؤلاء في مدينتهم، وضربوا بينهم سورًا، فجعلوا في ذلك السور أبوابًا يخرج بعضُهم إلى بعض. قال: فلما كان الليل طرقهم الله بعذابٍ، (1) فأصبح أولئك المؤمنون لا يرون منهم أحدًا، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، الرجل وأزواجه وأولاده، فجعلوا يدخلون على الرجل يعرفونه فيقولون: يا فلان، ألم نحذرك سطوات الله؟ ألم نحذرك نقمات الله؟ ونحذرك ونحذرك؟ قال: فليس إلا بكاء! (2) قال: وأنما عذب الله الذين ظلموا، الذين أقاموا على ذلك. قال: وأما الذين نَهَوْا، فكلهم قد نهى، ولكن بعضهم أفضل من بعض. فقرأ: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) . 15276- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن داود، عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا"، قال: لا أدري أنجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصِّره حتى عرف أنهم نجوا، وكساني حُلَّة.   (1) (1) في المطبوعة: ((بعذابه)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) (2) في المخطوطة: ((فليس إلا تكاكا)) ، ولا أدرى ما وجهها، وقد سلف في الخبر رقم 15272، في آخره: ((فتشم ثيابه فتبكي)) ، فتركت ما في المطبوعة على حاله، حتى يتبين لما في المخطوطة وجه مرضى من الصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 15277- حدثني يونس قال، أخبرني أشهب بن عبد العزيز، عن مالك قال: زعم ابن رُومان أن قوله: "تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرَّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم"، قال: كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبتْ، فلا يرى منها شيء إلى السبت. فاتخذ لذلك رجل منهم خيطًا ووتدًا، فربط حوتًا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: فإنه جلد حوتٍ وجدناه! فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك= ولا أدري لعله قال: ربط حوتين= فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا ريحه، فجاءوا فسألوه، فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع! فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها رَبض، (1) فغلَّقوها، فأصابهم من المسْخ ما أصابهم. فغدا إليهم جيرانهم ممن كان يكون حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوَّروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسَّح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسَّح به. * * * وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم"، كانت من الفرقة الهالكة. * ذكر من قال ذلك: 15278- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" إلى قوله: "شرعًا"، قال: قال ابن عباس: ابتدعوا السبت فابتلُوا فيه، فحرِّمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم   (1) (1) ((الربض)) (بفتحتين) : هو الفضاء حول المدينة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 السبت شَرَعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبتُ، ذهبتْ فلم تُرَ حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرَّعًا. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إنّ رجلا منهم أخذ حوتًا فخزمه بأنفه، (1) ثم ضرب له وَتِدًا في الساحل، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله. ففعل ذلك وهم ينظرُون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نَهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق وفُعِل علانيةً. قال: فقالت طائفة للذين يَنهون: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم"، في سخطنا أعمالهم، "ولعلهم يتقون* فلما نسوا ما ذُكِّروا به"، إلى قوله: "قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"، قال ابن عباس: كانوا أثلاثًا: ثلث نَهوا، وثلث قالوا: "لم تعظون قوما الله مهلكهم"، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقَّدون الناس لا يرونهم، فَعَلوْا على دورهم، (2) فجعلوا يقولون: إنّ للناس لشأنًا، فانظروا ما شأنهم! فاطلعوا في دورهم، فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قردة، يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة، قال الله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: 66] . 15279- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنجينا الذين ينهون عن السوء" الآية، قال ابن عباس: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين!   (1) (1) في المطبوعة: ((فخرم أنفه)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهذا صواب قراءته ونقطه. ((خزم الدابة)) ثقب في أنفها ثقباً، وجعل فيه خزامة من شعر أو غيره، و ((الخزامة)) (بكسر الخاء) الحلقة المعقودة. (2) (2) في المطبوعة: ((فعلقوا عليهم دورهم)) ، أراد أن يجتهد فأخطأ أشنع الخطأ، والصواب البين ما في المخطوطة، كما أثبته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 15280- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم"، قال: هم ثلاث فرق: الفرقة التي وَعَظت، والموعوظة التي وُعِظت، والله أعلم ما فعلت الفرقة الثالثة، وهم الذين قالوا: "لم تعظون قوما الله مهلكهم". =وقال الكلبي: هما فرقتان: الفرقة التي وَعَظت، والتي قالت: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم" قال: هي الموعوظة. 15281- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لأن أكون علمتُ من هؤلاء الذين قالوا: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا"، أحبُّ إليّ مما عُدِل به! 15282- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء قال، قال ابن عباس: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم"، قال: أسمع، الله يقول: "أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس"، فليت شعري ما فُعِل بهؤلاء الذين قالوا: "لم تعظون قومًا الله مهلكهم"؟ 15283- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن ماهان الحنفي أبي صالح في قوله: "تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرَّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم"، قال: كانوا في المدينة التي على ساحل البحر، وكانت الأيام ستةٌ، الأحد إلى الجمعة. فوضعت اليهود يوم السبْت، وسبّتوه على أنفسهم، فسبَّته الله عليهم، ولم يكن السبت قبل ذلك، فوكّده الله عليهم، وابتلاهم فيه بالحيتَانِ، فجعلت تشرع يوم السبت، فيتقون أن يصيبُوا منها، حتى قال رجل منهم: والله ما السَّبت بيوم وَكّده الله علينا، ونحن وكّدناه على أنفسنا، فلو تناولت من هذا السمك! فتناول حوتًا من الحيتان، فسمع بذلك جارُه، فخاف العقوبة، فهرب من منزله. فلما مكث ما شاء الله ولم تصبه عقوبة، تناول غيرُه أيضًا في يوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 السبت. فلما لم تصبهم العقوبة، كثر مَنْ تناول في يوم السبت، واتخذوا يوم السبت، وليلةَ السبت عيدًا يشربون فيه الخمورَ، ويلعبون فيه بالمعازف. فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم: ويحكم، انتهوا عما تفعلون، إن الله مهلككم أو معذِّبكم عذابًا شديدًا، أفلا تعقلون؟ ولا تعدوا في السبت! فأبوا، فقال خِيارهم: نضرب بيننا وبينهم حائطًا. ففعلوا، وكان إذا كان ليلة السبت تأذَّوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف، حتى إذا كانت الليلة التي مُسِخوا فيها، سكنت أصواتهم أوّل الليل، فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة؟ فقال بعضهم: لعل الخمر غلبَتهم فناموا! فلما أصبحوا، لم يسمعوا لهم حسًّا، فقال بعضهم لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حسًّا؟ فقالوا لرجل: اصعد الحائط وانظر ما شأنهم. فصعد الحائط، فرآهم يموجُ بعضهم في بعض، قد مُسخوا قردةً، فقال لقومه: تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لَقُوا! فصعدوا، فجعلوا ينظرون إلى الرجل فيتوسَّمُون فيه، فيقولون: أي فلان، أنت فلان؟ فيومئ بيده إلى صدره أن نعم، (1) بما كسبت يداي. (2) 15284- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، تلا الحسن ذات يوم: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرَّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون"، فقال: حوتٌ حرمه الله عليهم في يوم، (3) وأحله لهم فيما سوى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرَّمه الله عليهم كأنه المخاض، (4)   (1) (1) في المخطوطة والمطبوعة: ((أي نعم)) ، والصواب الجيد ما أثبت. (2) (2) الأثر: 15283 - (ما هان أبو صالح الحنفي)) ، قال البخاري ((ما هان، أبو سالم الحنفي، ... وقال بعضهم: ما هان، أبو صالح، ولا يصح)) وقد مضى ذلك برقم 3226، 13291، وهو مترجم في التهذيب والكبير 4 / 2 / 67،، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 434. (3) (3) في المطبوعة: ((كان حوتاً حرمه الله)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (4) (4) في المخطوطة: ((كأنه المحاصر)) غير منقوطة، وكأن ما في المطبوعة هو الصواب، وقد سلف في ص: 188، وتعليق: 2،: ((كانت تأتيهم ... بيضاً سماناً كأنها بالمخاض)) ، وفسرته هناك بأنه أراد بالمخاض، الشاة أو الناقة التي دنا ولادها، وأنه عنى بذلك سمنها وترارتها. و ((الماخض)) : الإبل الحوامل، يريد التي امتلأت حملا وسمناً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 لا يمتنع من أحد. وقلَّما رأيت أحدًا يكثر الاهتمامَ بالذنب إلا واقعه، (1) فجعلوا يَهتمُّون ويمْسِكون، حتى أخذوه، فأكلوا أوْخَم أكلة أكلها قوم قطُّ، (2) أبقاه خزيًا في الدنيا، وأشدُّه عقوبة في الآخرة! (3) وايم الله، [ما حوتُ أخذه قوم فأكلوه، أعظم عند الله من قتل رجل مؤمن] ! (4) وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت، ولكن الله جعل موعدَ قومٍ الساعة (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) ، [سورة القمر: 46] . 15285- حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن أبي موسى، عن الحسن قال: جاءتهم الحيتان تشرع في حياضهم كأنها المخاض، (5) فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم قط، (6) أسوأه عقوبة في الدنيا، وأشدُّه عذابًا في الآخرة! وقال   (1) (1) ((الاهتمام)) ، يريد: الهم به، لا من ((الاهتمام)) بمعنى الاغتمام والحزن. وهو صريح القياس: ((اهتم بالأمر)) ، بمعنى ((هم به)) ، ولم تذكرها معاجم اللغة. (2) (2) استعمال ((قط)) مع غير النفي، أعنى في المثبت، مما أنكروه، وقد جاء في الكلام كثيراً، ونبه إليه ابن مالك في مشكلات الجامع الصحيح: 193، قال: ((وفي قوله: ونحن أكثر ما كنا قط، استعمال قط غير مسبوقة بنفي، وهو مما خفي على كثير من النحويين. لأن المعهود استعمالها لاستغراق الزمان الماضي بعد نفي، نحو: ما فعلت ذلك قط وقد جاءت في هذا الحديث دون نفي. وله نظائر)) . وانظر الخبر الآتي رقم 15285. (3) (3) قوله: ((أبقاه خزياً)) ، أعاد الضمير مع ((أفعل)) التفضيل بالإفراد والتذكير، وهي عائدة إلى ((أكلة)) ، وهي مؤنثة، وذلك صريح العربية، وقد مضت الإشارة إلى ذلك فيما سلف 5: 488، تعليق: 1: 5: 557، تعليق 1 / 6: 395، 396، تعليق: 2 / 7: 87، تعليق: 4 والأثر رقم: 14813. وكان في المطبوعة: ((أثقله خزياً)) ، والصواب من الدر المنثور 3: 138، وفي المخطوطة: ((أبقى خزياً في الدنيا، وأشد عقوبة في الآخرة)) . (4) (4) هذه الجملة التي بين القوسين في المطبوعة، ولم ترد في المخطوطة، ولا في الدر المنثور 3: 138، ونصها في المخطوطة: ((وايم الله، للمؤمن أعظم حرمة)) ، فلا أدرى، أهي زيادة من ناسخ لنسخة أخرى، أم سقطت من ناسخ نسختنا. (5) (5) في المخطوطة: ((كأنها المحاصر)) ، كما سلف في الخبر السالف، انظر ص 196، تعليق: 4 (6) (6) انظر التعليق السالف رقم: 3. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 الحسن: وقتل المؤمن والله أعظم من أكل الحيتان! 15286- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء قال: كنت جالسًا في المسجد، فإذا شيخ قد جاء وجلس الناسُ إليه، فقالوا: هذا من أصحاب عبد الله بن مسعود! قال: قال ابن مسعود: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" الآية، قال: لما حرم عليهم السبت، كانت الحيتان تأتي يوم السبت، وتأمن فتجيء، (1) فلا يستطيعون أن يمسوها. وكان إذا ذهب السبت ذهبت، فكانوا يتصيّدون كما يتصيد الناس. فلما أرادوا أن يعدوا في السبت، اصطادوا، فنهاهم قوم من صالحيهم، فأبوا، وكَثَرَهم الفجَّار، (2) فأراد الفجار قتالهم، فكان فيهم من لا يشتهون قتاله، أبو أحدهم وأخوه أو قريبه. فلما نهوهم وأبوا، قال الصالحون: إذًا نُتَّهم! وإنا نجعل بيننا وبينهم حائطًا! (3) ففعلوا، فلما فقدوا أصواتهم قالوا: لو نظرتم إلى إخوانكم ما فعلوا! فنظروا، فإذا هم قد مُسخوا قردةً، يعرفون الكبير بكبره، والصغير بصغره، فجعلوا يبكون إليهم. وكان هذا بعد موسى صلى الله عليه وسلم. * * *   (1) (1) في المطبوعة: ((وتجئ)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) (2) ((كثرهم الفجار)) ، أي: غلبوهم بكثرتهم. (3) (3) في المخطوطة: ((أدانهم، وأنا نجعل بيننا وبينكم حائطاً)) ، هكذا، فرأيت قراءتها كما أثبتها. أما في المطبوعة، فقد غير الجملة وغير ضمائرها فكتب: ((إذًا نباينهم، وأنا نجعل بيننا وبينهم حائطاً)) . وقوله ((إذا نتهم)) ، يعنى: إذا نتهم بما فعلتم من العدوان في السبت، ويأخذنا الله بالعقاب، ونحن براء مما فعلتم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما تركت الطائفة التي اعتدت في السبت ما أمرها الله به من ترك الاعتداء فيه، وضيَّعت ما وَعظتْها الطائفة الواعظة وذكَّرتها به، (1) من تحذيرها عقوبةَ الله على معصيتها، فتقدّمت على استحلال ما حرم الله عليها (2) أنجى الله الذين ينهون منهم عن "السوء"= يعني عن معصية الله، واسْتحلال حِرْمه (3) = "وأخذنا الذين ظلموا"، يقول: وأخذ الله الذين اعتدوا في السبت، فاستحلوا فيه ما حرَّم الله من صيد السمك وأكله، فأحلَّ بهم بأسَه، وأهلكهم بعذاب شديدٍ بئيس بما كانوا يخالفون أمر الله، (4) فيخرجون من طاعته إلى معصيته، وذلك هو "الفسق". (5) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15287- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج في قوله: "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء"، قال: فلما نسُوا موعظة المؤمنين إياهم، الذين قالوا: "لم تعظون قومًا".   (1) (1) في المطبوعة: ((وذكرتها ما ذكرتها به)) زاد في الكلام ما لا حاجة إليه به، وخالف المخطوطة. (2) (2) انظر تفسير ((النسيان)) فيما سلف من فهارس اللغة (نسى) . (3) (3) ((الحرم)) (بكسر فسكون) ، ((هو الحرام)) . (4) (4) في المطبوعة: ((بما كانوا يفسقون يخالفون)) ، وقوله ((يفسقون)) كانت في المخطوطة، ولكنه ضرب عليها، فكان حقاً على الناشر أن يحذفها كما فعلت. (5) (5) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 15288- حدثني محمد بن المثني قال، حدثنا حرمي قال، حدثني شعبة قال، أخبرني عمارة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنجينا الذين ينهون عن السوء" قال: يا ليت شعري، ما السُّوء الذي نهوا عنه؟ * * * وأما قوله: "بعذاب بَئيس"، فإنّ القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: (بِعَذَابٍ بِيسٍ) بكسر الباء وتخفيف الياء، بغير همز، على مثال "فِعْل". * * * وقرأ ذلك بعضُ قرأة الكوفة والبصرة: (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) على مثل "فعيل"، من "البؤس"، بنصب الباء وكسر الهمزة ومدِّها. * * * وقرأ ذلك كذلك بعض المكيين، غير أنه كسر باء: (بِئِيسٍ) على مثال "فِعِيل". * * * وقرأه بعض الكوفيين: (بَيْئِسٍ) بفتح الباء وتسكين الياء، وهمزة بعدها مكسورة، على مثال "فَيْعِل". * * * = وذلك شاذ عند أهل العربية، لأن "فَيْعِل" إذا لم يكن من ذوات الياء والواو، فالفتح في عينه الفصيحُ في كلام العرب، وذلك مثل قولهم في نظيره من السالم: "صَيْقَل، ونَيْرَب"، وإنما تُكْسر العين من ذلك في ذوات الياء والواو كقولهم: "سَيِّد" و"ميِّت"، وقد أنشد بعضهم قول امرئ القيس بن عابسٍ الكنديّ: كِلاهُمَا كَانَ رَئيسًا بَيْئِسَا يَضْرِبُ فِي يَوْمِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا (1)   (1) (1) تفسير أبي حيان 4: 413. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 بكسر العين من "فيعِل"، وهي الهمزة من "بيئس"، فلعلَّ الذي قرأ ذلك كذلك قرأه على هذه. * * * وذكر عن آخر من الكوفيين أيضًا أنه قرأه: (بَيْئَسٍ) ، نحو القراءة التي ذكرناها قبل هذه، وذلك بفتح الباء وتسكين الياء وفتح الهمزة بعد الياء، على مثال "فَيْعَل" مثل "صَيْقَل". * * * وروي عن بعض البصريين أنه قرأه: (بَئِسٍ) بفتح الباء وكسر الهمزة، على مثال "فَعِل"، كما قال ابن قيس الرقيَّات: لَيْتَنِي أَلْقَي رُقَيَّةَ فِي خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ (1) * * * وروي عن آخر منهم أنه قرأ: (بِئْسَ) بكسر الباء وفتح السين، على معنى: بِئْسَ العذاب. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات عندي بالصواب، قراءةُ من قرأه: (بَئِيسٍ) بفتح الباء، وكسر الهمزة ومدّها، على مثال "فَعِيل"، كما قال ذو الإصبع العَدْوانيّ: حَنَقًا عَلَيَّ، وَمَا تَرَى لِي فِيهِمُ أَثَرًا بَئيسَا (2)   (1) (1) ديوانه: 386، والخزانة 3: 587، والعينى (بهامش الخزانة) 4: 379، ورواية صاحب الخزانة ((من غير ما أنس)) ، وشرحها فقال: ((الأنس، بفتحتين، بمعنى الإنس، بكسر الهمزة وسكون النون، وما زائدة، وفيه مضاف محذوف، تقديره: في غير حضور إنس)) ، وهذا في ظني، اجتهاد من صاحب الخزانة، وأن البيت مصحف صوابه ما في الطبري. وأما العينى، فكتب ((من غير ما يبس)) (بالياء ثم الباء) ، وهو تصحيف لا شك فيه، ومثله في الديوان منقولاً عنه. والصواب ما شرحه أبو جعفر. (2) (2) الأغاني 3: 102، 103، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 231 من شعر جيد في ابن عم له كان يعاديه، فكان يتدسس إلى مكارهه، ويؤلب عليه، ويسعى بينه وبين عمه، ويبغيه شراً، فقال فيه:وَليَ ابْنُ عَمٍّ لا يَزَا ... لُ إِلَىَّ مُنْكَرُه دَسِيسَا دَبَّتْ لَهُ، فأحَسَّ بَعْ ... دَ البُرْءِ مِنْ سَقَمٍ رَسِيسَا إِمَّا عَلانِيَةً، وَإِمَّا ... مُخْمِرًا أَكْلا وَهِيسًا إِنِّي رَأَيتُ بَني أَبِيـ ... ـــكَ يحمِّجُون إِليَّ شُوسَا حَنَقًا عَليَّ، ............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: ((دبت له)) ، يعني العداوة. و ((الرسيس)) : أول الحمى، وقوله: ((مخمرا)) أي يستر ما يريد، ((أخمر الشيء)) : ستره. ((الأكل الوهيس)) : الشديد، يعنى ما يغتابه به ويأكل به لحمه. و ((التحميج)) ، إدامة النظر، والقلب كاره أو محنق. و ((الشوس)) جمع ((أشوس)) ، وهو الذي ينظر بمؤخر عينه مغيظاً يتحرق. وكان في المطبوعة: ((ولن ترى)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وإنما جاء بها من الأغاني. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 = لأن أهل التأويل أجمعوا على أن معناه: شديد، فدلّ ذلك على صحة ما اخترنا. (1) * ذكر من قال ذلك: 15289- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني رجل عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: "وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس"،: أليم وجيع. 15290- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "بعذاب بئيس"، قال: شديد. 15291- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "بعذاب بئيس"، أليم شديد. 15292- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "بعذاب بئيس" قال: موجع. 15293- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "بعذاب بئيس"، قال: بعذاب شديد.   (1) انظر تفسير "البائس" فيما سلف 12: 304، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما تمرَّدوا، فيما نهوا عنه من اعتدائهم في السبت، واستحلالهم ما حرَّم الله عليهم من صيد السمك وأكله، وتمادوا فيه (1) "قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"، أي: بُعَداء من الخير. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15294- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فلما عتوا عما نهوا عنه"، يقول: لما مَرَد القوم على المعصية= "قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"، فصارُوا قردةً لها أذناب، تعاوى، بعدما كانوا رجالا ونساءً. 15295- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: "فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"، فجعل الله منهم القردة والخنازير. فزعم أن شباب القوم صارُوا قردةً، وأن المشيخة صاروا خنازيرَ. 15296- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن السدي، عن أبي مالك أو سعيد بن جبير قال: رأى موسى عليه السلام رجلا يحمل قصَبًا يوم السبت، فضرب عنقه. * * *   (1) (1) انظر تفسير ((عتا)) فيما سلف 12: 543. (2) (2) انظر تفسير ((خسأ)) فيما سلف 2: 174، 175. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "وإذ تأذن"، واذكر، يا محمد، إذ آذن ربك، وأعلم. (1) * * * =وهو "تفعل" من "الإيذان"، كما قال الأعشى، ميمون بن قيس: أَذِنَ اليَوْمَ جِيرَتِي بِخُفُوفِ صَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ (2) يعني بقوله: "أذِن"، أعلم. وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15297- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "وإذ تأذن ربك"، قال: أمرَ ربك. 15298- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: "وإذ تأذن ربك"، قال: أمر ربك. * * * وقوله: "ليبعثن عليهم"، يعني: أعلم ربك ليبعثن على اليهود من يسومهم سوء   (1) (1) كان في المطبوعة: ((إذ أذن ربك فأعلم)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) (2) ديوانه: 211، مطلع قصيدة له طويلة. وفي الديوان المطبوع ((بحفوفي)) ، وهو خطأ صرف، صوابه في مصورة ديوانه. و ((الخفوف)) مصدر قولهم: ((خف القوم عن منزلهم خفوفاً)) ، ارتحلوا، أو أسرعوا في الارتحال، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم في مرضه: ((أيها الناس، إنه قد دنا منى خفوف من بين أظهركم)) ، أي قرب ارتحال، منذراً صلى الله عليه وسلم بموته. (3) (3) انظر تفسير ((الإذن)) فيما سلف 11: 215، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 العذاب. (1) قيل: إن ذلك، العربُ، بعثهم الله على اليهود، يقاتلون من لم يسلم منهم ولم يعط الجزية، ومن أعطى منهم الجزية كان ذلك له صغارًا وذلة. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15299- حدثني المثني بن إبراهيم وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: هي الجزية، والذين يسومونهم: محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته، إلى يوم القيامة. 15300- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، فهي المسكنة، وأخذ الجزية منهم. 15301- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: يهود، وما ضُرب عليهم من الذلة والمسكنة. 15302- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: فبعث الله   (1) (1) انظر تفسير ((البعث)) فيما سلف من فهارس اللغة (بعث) ، وأخشى أن يكون الصواب: ((يعنى: أعلم ربك ليرسلن على اليهود)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 عليهم هذا الحيَّ من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة. 15303- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم"، قال: بعث عليهم هذا الحي من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة. = وقال عبد الكريم الجزريّ: يُستحبُّ أن تُبعث الأنباط في الجزية. (1) 15304- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم"، قال: العرب= "سوء العذاب"، قال: الخراج. وأوّلُ من وضع الخراج موسى عليه السلام، فجبى الخراجَ سبعَ سنين. 15305- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم"، قال: العرب= "سوء العذاب"؟ قال: الخراج. قال: وأول من وضع الخراج موسى، فجبى الخراج سبعَ سنين. 15306- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: هم أهل الكتاب، بعث الله عليهم العرب يجبُونهم الخراجَ إلى يوم القيامة، فهو سوء العذاب. ولم يجب نبيٌّ الخراجَ قطُّ إلا مُوسى صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً، ثم أمسك، وإلا النبي صلى الله عليه وسلم. 15307- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: يبعث عليهم هذا الحي من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة. 15308- ..... قال أخبرنا معمر قال، أخبرني عبد الكريم، عن   (1) (1) القائل: ((قال عبد الكريم الجزرى ... )) ، إلى آخر الكلام، هو ((معمر)) ، وسيأتي بيان ذلك ومصداقه في ا"لأثر رقم: 15308، رواية معمر، عن عبد الكريم، عن ابن المسيب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 ابن المسيب قال: يستحبُّ أن تبعث الأنباط في الجزية. (1) 15309- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، يقول: إن ربك يبعث على بني إسرائيل العرب، فيسومونهم سوء العذاب، يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم. 15310- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة"، ليبعثن على يَهُود. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد، لسريعٌ عقابه إلى من استوجَب منه العقوبة على كفره به ومعصيته= "وإنه لغفور رحيم"، يقول: وإنه لذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه، فأناب وراجع طاعته، يستر عليها بعفوه عنها= "رحيم"، له، أن يعاقبه على جرمه بعد توبته منها، لأنه يقبل التوبة ويُقِيل العَثْرة. (2) * * *   (1) (1) الأثر: 15308 - انظر ختام الأثر السالف رقم: 15303. (2) (2) انظر تفسير ((سريع العقاب)) ، و ((غفور)) ،و ((رحيم)) فيما سلف من فهارس اللغة (سرع) و (غفر) و (رحم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 القول في تأويل قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وفرّقنا بني إسرائيل في الأرض (1) = "أممًا يعني: جماعات شتى متفرِّقين، (2) كما: - 15311- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وقطعناهم في الأرض أممًا"، قال: في كل أرض يدخلها قومٌ من اليهود. (3) 15312- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وقطعناهم في الأرض أممًا"، قال: يهود. * * * وقوله: "منهم الصالحون"، يقول: من هؤلاء القوم الذين وصفهم الله من بني إسرائيل= "الصالحون"، يعني: من يؤمن بالله ورسله= "ومنهم دون ذلك"، يعني: دون الصالح. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم كانوا كذلك قبل ارتدادِهم عن دينهم، وقبل كفرهم بربهم، وذلك قبل أن يبعث فيهم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. * * * وقوله: "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون"، يقول: واختبرناهم بالرخاء في العيش، (4) والخفض في الدنيا والدعة، والسعة في الرزق، وهي   (1) (1) انظر تفسير ((قطع)) فيما سلف ص: 164. (2) (2) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف ص: 184، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) (3) الأثر: 15311 - ((إسحق بن إسماعيل)) ، هو ((أبو يزيد)) ((حبويه)) ، انظر ما سلف رقم: 15221، والتعليق عليه هناك. (4) (4) انظر تفسير ((الابتلاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (بلا) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 "الحسنات" التي ذكرها جل ثناؤه (1) ويعني ب"السيئات"، الشدة في العيش، والشظف فيه، والمصائب والرزايا في الأموال (2) = "لعلهم يرجعون"، يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليها، ويتوبوا من معاصيه. * * * القول في تأويل قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم (3) = "خلف" يعني: خَلف سوء. يقول: حدث بعدهم وخلافَهم، وتبدل منهم، بَدَلُ سَوْءٍ. * * * يقال منه: "هو خَلَف صِدْقٍ"، "وخَلْفُ سَوْءٍ"، وأكثر ما جاء في المدح بفتح "اللام"، وفي الذم بتسكينها، وقد تحرَّك في الذم، وتسكّن في المدح، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان: لَنَا القَدَمُ الأُولَى إلَيْكَ، وَخَلْفُنَا لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ (4)   (1) (1) انظر تفسير ((الحسنات)) فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) . (2) (2) انظر تفسير ((السيئات)) فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) . (3) (3) انظر تفسير ((خلف)) فيما سلف ص: 122، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) (4) ديوانه: 254، وسيرة ابن هشام 3: 283 واللسان (خلف) ، وسيأتي في التفسير 11: 59 بولاق، من قصيدة بكى فيها سعد بن معاذ، في يوم بنى قريظة ورجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهداء. وقوله: ((القدم الأولى)) ، يعنى سابقة الأنصار في الإسلام.وروى السيرة: ((في ملة الله تابع)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 وأحسب أنّه إذا وُجّه إلى الفساد، مأخوذ من قولهم: "خَلَف اللبن"، إذا حمض من طُول تَركه في السقاء حتى يفسد، فكأنَّ الرجل الفاسد مشبَّهٌ به. وقد يجوز أن يكون منه قولهم (1) "خَلَف فم الصائم"، إذا تغيرت ريحه. وأما في تسكين "اللام" في الذمّ، فقول لبيد: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ (2) * * * وقيل: إن الخلف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خَلَفوا من قبلهم، هم النصارى. * ذكر من قال ذلك: 15313- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "فخلف من بعدهم خلف"، قال: النصارى. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى   (1) (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((منه قولهم)) ، وهو خطأ. (2) (2) ديوانه، القصيدة: 8، واللسان (خلف) ، وغيرها كثير. يرثي بها أربد، صاحبه وابن عمه، قال:قَضِّ اللُّبَانَةَ لا أَبَالَكَ وَاذْهبِ ... وَالْحَقْ بأُسْرَتِكَ الكِرام الغُيَّبِ ذَهَبَ الَّذِين ................. ... ذَهَبَ الَّذِين .................. يَتَأَكَّلُونَ مَغَالَةً وَخِيَانَةً ... وَيُعَابُ قَائلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ يَا أرْبَدَ الخَيْرِ الكريمُ جُدُودُهُ ... خَلَّيْتَني أَمْشِي بِقَرْنٍ أعْضَبِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ الرَّزِيَّةَ، لا رَزِيَّةَ مِثْلُهَا ... فِقْدَانُ كُلَّ أَخٍ كَضَوْءِ الكَوْكَبِ ((المغالة)) الفحش في العداوة والوشاية عن تعاديه، و ((القرن الأعْضب)) ، المكسور، يعنى أنه قد فتر حده بموت أربد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 ذكره، إنما وصف أنه خَلَف القومَ الذين قصّ قصصهم في الآيات التي مضت، خَلْف سوءِ رديء، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعدُ، فإن ما قبل ذلك خبرٌ عن بني إسرائيل، وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم أشبه، إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به. * * * فتأويل الكلام إذًا: فتبدَّل من بعدهم بَدَل سوء، ورثوا كتاب الله فَعُلِّموه، (1) وضيعوا العمل به، فخالفوا حكمه، يُرْشَون في حكم الله، فيأخذون الرشوة فيه من عَرَض هذا العاجل "الأدنى"، (2) يعني ب"الأدنى": الأقرب من الآجل الأبعد. (3) ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا، تمنِّيًا على الله الأباطيل، كما قال جل ثناؤه فيهم: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) ، [سورة البقرة: 79] = "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، يقول: وإن شرع لهم ذنبٌ حرامٌ مثله من الرشوة بعد ذلك، (4) أخذوه واستحلوه ولم يرتدعوا عنه. يخبر جل ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنُوبهم، وليسوا بأهل إنابة ولا تَوْبة. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم.   (1) (1) في المطبوعة: ((تعلموه)) وصواب قراءة ما في المخطوطة، هو ما أثبت (2) (2) انظر تفسير ((عرض الدنيا)) فيما سلف 9: 71. (3) (3) انظر تفسير ((الأدنى)) فيما سلف 2: 131. (4) (4) في المخطوطة: ((وإن شرع لهم ذنباً)) ، سيئة الكتابة، والذي في المطبوعة ليس يبعد عن الصواب، وإن كنت غير راض عنه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 * ذكر من قال ذلك: 15314- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن سعيد بن جبير في قوله: "يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عَرَض مثله يأخذوه"، قال: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه. 15315- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، قال: من الذنوب. 153116- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: "يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا"، قال: يعملون بالذنوب = "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"،: قال: ذنبٌ آخر، يعملون به. 15317- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: الذنوب= "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، قال: الذنوب. 15318- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يأخذون عرض هذا الأدنى) قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلالٌ أو حرام يشتهونه أخذوه، ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثلَه يأخذوه. 15319- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه= إلا أنه قال: يتمنَّون المغفرة. 15320- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حرامًا، ويتمنون المغفرة، ويقولون: "سيغفر لنا"، وإن يجدوا عرضًا مثله يأخذوه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 15321- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فخلف من بعدهم خلف"، إي والله، لَخَلْفُ سَوْء ورِثوا الكتابَ بعد أنبيائهم ورسلهم، ورَّثهم الله وَعهِد إليهم، وقال الله في آية أخرى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) ، [سورة مريم: 59] ، قال: "يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا"، تمنوا على الله أمانيّ، وغِرّةٌ يغتَرُّون بها. = "وإن يأتهم عرض مثله"، لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك، (1) كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه، لا يبالون حلالا كان أو حرامًا. 15322- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: يأخذونه إن كان حلالا وإن كان حرامًا= "وإن يأتهم عرض مثله"، قال: إن جاءهم حلال أو حرامٌ أخذوه. 15323- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "فخلف من بعدهم خلف" إلى قوله: "ودرسوا ما فيه"، قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيًا إلا ارتشى في الحكم، وإن خيارهم اجتمعُوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا، (2) فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى، فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول: سيغفر لي! فيطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع. فإذا مات، أو نزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي. يقول: وإن يأت الآخرين عرضُ الدنيا يأخذوه. وأما "عرض الأدنى"، فعرض الدنيا من المال. 15324- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) (1) في المخطوطة: ((لا يسلعهم شيء ... )) سيئة الكتابة، وكأن ما في المطبوعة صواب. (2) (2) في المخطوطة: ((ولا يرتشى)) ، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا"، يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام، ويقولون: "سيغفر لنا". 15325- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: الكتاب الذي كتبوه= "ويقولون سيغفر لنا"، لا نشرك بالله شيئًا= "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، يأتهم المحقّ برشوة فيخرجوا له كتاب الله، ثم يحكموا له بالرشوة. وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له "المثنّاة"، وهو الكتاب الذي كتبوه، فحكموا له بما في "المثنّاة"، بالرشوة، فهو فيها محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) . 15326- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: يعملون بالذنوب= "ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، قال: الذنوب. * * * القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) } وقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ألم يؤخذ"، على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، القائلين: "سيغفر الله لنا فعلنا هذا"، إذا عوتبوا على ذلك= "ميثاقُ الكتاب"، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل، بإقامة التوراة، والعمل بما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 فيها. فقال جل ثناؤه لهؤلاء الذين قص قصتهم في هذه الآية، موبخًا على خلافهم أمرَه، ونقضهم عهده وميثاقه: ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه، (1) ألا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يُضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأن لا يكذبوا عليه؟ كما: - 15327- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق"، قال: فيما يوجبون على الله من غُفران ذنوبهم التي لا يَزَالون يعودون فيها ولا يَتُوبون منها. * * * وأما قوله: "ودرسوا ما فيه"، فإنه معطوف على قوله: "ورثوا الكتاب"، ومعناه: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب"، "ودرسوا ما فيه"= ويعني بقوله: "ودرسوا ما فيه"، قرأوا ما فيه، (2) يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه، فضيعوه وتركوا العمل به، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك، كما: - 15328- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ودرسوا ما فيه"، قال: علّموه، علّموا ما في الكتاب الذي ذكر الله، وقرأ: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) ، [سورة آل عمران: 79] . * * * قال أبو جعفر: "والدار الآخرة خير للذين يتقون"، يقول جل ثناؤه: وما في الدار الآخرة، وهو ما في المعادِ عند الله، (3) مما أعدّ لأوليائه، والعاملين بما أنزل في كتابه، المحافظين على حدوده= "خير للذين يتقون الله"، (4) ويخافون   (1) (1) انظر تفسير ((الميثاق)) فيما سلف 10: 110، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) (2) انظر تفسير ((درس)) فيما سلف 6: 546 / 12: 25 - 31 / 12: 241. (3) (3) انظر تفسير ((الدار الآخرة)) فيما سلف من فهارس اللغة (أخر) . (4) (4) انظر تفسير ((التقوى)) فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 عقابه، فيراقبونه في أمره ونهيه، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم= "أفلا يعقلون"، (1) يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم، ويقولون: "سيغفر لنا"، أنَّ ما عند الله في الدار الآخرة للمتقين العادِلين بين الناس في أحكامهم، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلافِ أمر الله، والقضاء بين الناس بالجور؟ * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) } قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ بعضهم: (يُمْسِكُونَ) بتخفيف الميم وتسكينها، من "أمْسك يمسك". * * * وقرأه آخرون: (يُمَسِّكُونَ) ، بفتح الميم وتشديد السين، من "مَسَّك يُمَسِّك". * * * قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والذين يعملون بما في كتاب الله= "وأقاموا الصلاة"، بحدودها، ولم يضيعوا أوقاتها (2) = "إنا لا نضيع أجر المصلحين". يقول تعالى ذكره: فمن فعل ذلك من خلقي، فإني لا أضيع أجر عمله الصالح، كما: - 15329- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "والذين يمسكون بالكتاب"، قال: كتاب الله الذي جاء به موسى عليه السلام.   (1) (1) قراءة أبي جعفر كما هو بين {أَفَلا يَعْقِلُونَ} بإلياء، وتفسيره جرى عليها، فلذلك تركتها هنا كما فسرها، وإن كنت قد وضعت الآية فيما سلف برسم مصحفنا وقراءتنا. ولم يشر أبو جعفر إلى هذه القراءة. (2) (2) انظر تفسير ((إقامة الصلاة)) في فهارس اللغة (قوم)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 15330- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: "والذين يمسكون بالكتاب"، من يهود أو نصارى= "إنا لا نضيع أجر المصلحين". * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد، إذ اقتلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل، كأنه ظلة غمام من الظلال= وقلنا لهم: "خذوا ما آتيناكم بقوة"، من فرائضنا، وألزمناكم من أحكام كتابنا، فاقبلوه، اعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توانٍ (1) = "واذكروا ما فيه"، يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه = "لعلكم تتقون"، يقول: كي تتقوا ربكم، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المَواثيق. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15331- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة"، فقال لهم موسى: خذوا ما آتيناكم بقوة"، يقول: من العمل بالكتاب، وإلا خَرَّ عليكم   (1) (1) انظر تفسير ((بقوة)) فيما سلف 1: 160، 161، 356، 357، وسائر فهارس اللغة (قوى) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 الجبل فأهلككم! فقالوا: بل نأخذ ما آتانا الله بقوّة! ثم نكثُوا بعد ذلك. 15332- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة"، فهو قوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ) ، [سورة النساء: 154] ، فقال: "خذوا ما آتيناكم بقوة"، وإلا أرسلته عليكم. 15333- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: إنّي لأعلم خَلْقِ الله لأيِّ شيء سجدت اليهود على حَرْفِ وُجوههم: لما رفع الجبل فوقهم سَجَدُوا، وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافةَ أن يقع عليهم. قال: فكانت سجدةً رضيها الله، فاتخذوها سُنَّة. (1) 15334- حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس، مثله. 15335- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة"، أي: بجدّ= "واذكروا ما فيه لعلكم تتقون"، جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري، أو لأرمينَّكم به! 15336- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: "وإذ نتقنا الجبل"، قال: كما تنتق الزُّبْدَة (2)   (1) (1) الأثر: 15333 - ((إسحق بن شاهين الواسطي)) ، شيخ أبي جعفر، لم أجد له ترجمة، ومضى برقم: 7211، 9788. و ((خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن المزني الواسطى)) ، مضى برقم: 7211. و ((داود)) هو ((داود بن أبي هند)) . و ((عامر)) هو الشعبى. (2) (2) في المطبوعة: ((كما تنتق الربذة)) ، وهي في المخطوطة غير منقوطة، فأساء إعجامها غاية الإساءة. ونتق الزبدة)) ، هو أن تنفض السقاء لكي تقتلع منه زبدته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 = قال ابن جريج: كانوا أبوا التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها= "خذوا ما آتيناكم بقوّة"، قال: يقول: لتؤمنن بالتوراة ولتقبلُنَّها، أو ليقعَنَّ عليكم. 15337- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب الله، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيانُ ما أحلَّ لكم وما حرَّم عليكم، وما أمركم وما نهاكم! قالوا: انشُرْ علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرةً وحدودها خفيفةً، قبلناها! قال: اقبلوها بما فيها! قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها! فراجعوا موسى مرارًا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربِّي؟ "لئن لم تقبلوا التوراةَ بما فيها لأرمينَّكم بهذا الجبل". قال: فحدثني الحسن البصريّ، قال: لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ، فَرَقًا من أن يسقط عليه، فلذلك ليس في الأرض يهوديُّ يسجدُ إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رُفِعت عنا بها العقوبة= قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتَبَه بيده، لم يبقَ على وجه الأرض جبلٌ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا اهتزّ، فليس اليوم يهوديّ على وجه الأرضِ صغيرٌ ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتزّ، ونَفضَ لها رأسَه. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله: "نتقنا". فقال بعض البصريين (1) معنى "نتقنا"، رفعنا، واستشهد بقول العجاج: يَنْتُقُ أَقْتَادَ الشَّلِيلِ نَتْقَا (2)   (1) (1) هو أبو عبيدة، كما يظهر لك من التخريج الآتي. (2) (2) ديوانه: 40، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 232، من آبيات يذكر فيها بعيره وسرعته وشدة سيره. و ((الشليل)) ، الحلس، أو مسح من شعر أو صوف يجعل على عجز البعير وراء الرحل. و ((الأقتاد)) جمع ((قتد)) (بفتحتين) . خشب الرحل. وكان في المطبوعة: ((السليل)) ، تابع المخطوطة، وهي غير منقوطة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 وقال: يعني بقوله: "ينتق"، يرفعها عن ظهره، وبقول الآخر: (1) *وَنَتَقُوا أحْلامَنَا الأثَاقِلا* (2) وقد حكي عن قائل هذه المقالة قول آخر: (3) وهو أن أصل "النتق" و"النُّتُوق"، كل شيء قلعته من موضعه فرميت به، يقال منه: "نَتَقْتُ نَتْقًا". قال: ولهذا قيل للمرأة الكثيرة [الولد] : "ناتق"، (4) لأنها ترمي بأولادها رَمْيًا، واستشهد ببيت النابغة: لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم دحقت عليك بناتق مذكار (5) * * *   (1) (1) هو رؤبه بن العجاج. (2) (2) ديوانه: 122، ومجاز القرآن 1: 232، واللسان (نتق) ، من أرجوزة تمدح فيها بقومه، ثم مدح سليمان بن علي، قال في ذكر قومه: فالنَّاسُ إنْ فَصَّلْتَهُمْ فَصَائِلا ... كُلُّ إلَيْنَا يَبْتَغِي الوَسَائِلا قَدْ جَرِّبُوا أَخْلاقَنَا الجَلائِلا ... وَنَتَقُوا أَحْلامَنَا الأثاقِلا فَلَمْ يَرَ النَّاسُ لَنَا مُعَادِلا ... أَكْثَرَ عِزًّا وَأَعَزَّ جَاهِلا و ((الأثاقل)) جمع ((الأثقل)) ، يعنى أثقل من سائر أحلام الناس، كما يقال ((الأكابر)) ، و ((الأصاغر)) ، و ((الأماثل)) (3) (3) يعني أبا عبيدة أيضا، ولم أجده في موضع آخر فيما طبع من مجاز القرآن. (4) (4) في المطبوعة والمخطوطة: ((للمرأة الكبيرة)) وهو لا يصح، وإنما أسقط الناسخ ما أثبته بين القوسين، والصواب ما أثبت. (5) (5) ديوانه: 50، واللسان (دحق) و (نتق) ، من قصيدتة التي قالها في زرعة بن عمرو بن خويلد، حين لقى النابغة بعكاظ، فأشار عليه أن يشير علي قومه بني ذبيان بترك حلف بني أسد، فأبي النابغة الغدر، فتهدده زرعة وتوعده، فلما بلغه تهدده، ذمه وهجاه، ومجد بني أسد، فقال في أول شعره: نُبِّئتُ زُرْعَةَ، وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... يُهْدِي إلَيَّ غَرَائِبَ الأَشْعَارِ ثم يقول في ذكر الغاضريين من بني أسد حلفاء بني ذبيان:وَالغَاضِرِيًّونَ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... بِلِوَائِهِمْ سَيْرًا لِدَارِ قَرار تَمْشِي بِهِمْ أُدْمٌ كَأنَّ رِحَالِهَا ... عَلَقُ هُرِيقَ عَلَى مُتُونِ صُوَارِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جَمْعًا يَظَلُّ بِهِ الفَضَاءُ مُعَضِّلا ... يَدَعُ الإِكامَ كأنَّهنَّ صَحَارِي لَمْ يُحْرَمُوا .................. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يصفهم في البيت الأخير بالنعمة، ولين العيش، وأن أمهاتهم عشن بخير معيشة، فكثر ولدهن. وقوله: ((دحقت)) ، وذلك أن المرأة إذا ولدت ولدها بعضهم في إثر بعض قيل: ((دحقت)) ، ((مذكار)) تلد الذكور. ورواية الديوان وغيره: ((طفحت عليك)) ، أي: أتسعت بولدها وغلبت، كما يطفح الماء فيغطي ما حوله ويغرقه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 وقال آخر: معناه في هذا الموضع: رفعناه. وقال: قالوا: "نَتَقَني السَّيرُ": حرَّكني. وقال: قالوا: "ما نَتَق برجْلِه لا يركُض"، و"النتق": نتق الدابة صاحبها حين تعدُو به وتتعبه حتى يربو، فذلك "النَّتق" و"النتوق"، و"نتقتني الدَّابة"، و"نتقت المرأة تنْتُق نُتوقًا": كثر ولدها. * * * وقال بعض الكوفيين: "نتقنا الجبل"، عَلَّقنا الجبل فوقهم فرفعناه، ننتقه نتقًا، و"امرأة مِنْتاق"، كثيرة الولد: قال: وسمعت "أخذ الجراب، فنتق ما فيه"، (1) إذا نثر ما فيه. (2) * * *   (1) في المطبوعة: ((ونتق)) بالواو، وأثبت. في المخطوطة. (2) لم يفسر أبو جعفر ((الظل)) ، فانظر تفسيرها فيما سلف 4: 261، 262. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد ربَّك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقرَّرهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادَتَهم بذلك، وإقرارَهم به. (1) كما:- 15338 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنَعْمَان =يعني عرفة= فأخرج من صلبه كل ذرّية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذرِّ، ثم كلمهم قَبَلا (2) فقال: "ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا ... " الآية، إلى (ما فعل المبطلون) ، ". (3)   (1) مضى أثر في تفسير هذه الآية، برقم: 10855: لم يذكر هنا. وهو في اختصار أبي جعفر، مضى في الصفحة السابقة. (2) في المطبوعة: ((فتلا، فقال)) ، لم يحسن قراءة المخطوطة، فظنه من التلاوة، والصواب ما أثبته. يقال: ((كلمه الله قبلا)) أي عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب، وقد مضى تفسير هذا الحرف فيما سلف من الأخبار 1: 514، تعليق: 1 / 4: 266، تعليق: 3 / 9: 231، تعليق: 3. (3) الأثر: 15338 - خبر ابن عباس هذا، من حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رواه أبو جعفر بخمسة أسانيد: هذا، ورقم: 15339 - 15341، ثم رقم 15350. وهذا الأول هو المرفوع وحده، وسائرها موقوف على ابن عباس. ورواه أبو جعفر بإسناده هذا مرفوعا في التاريخ 1: 67. ورواه مرفوعا أحمد في مسنده رقم: 2455، من طريق حسين بن محمد، وهو طريق أبي جعفر. ورواه مرفوعا أيضا، الحاكم في المستدرك 1: 27، من طريق إبراهيم بن مرزوق البصري، عن وهب بن جرير بن حازم، عن جرير بن حازم، بمثله، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد احتج مسلم، بكلثوم بن جبر)) ، ووافقه الذهبي، ثم رواه في المستدرك 2: 544 من طريق الحسين بن محمد المروروذى، عن جرير بن حازم، وصححه، ووافقه الذهبي. وذكره مرفوعا"، الهيثمى في مجمع الزوائد 7: 5 2 / 7: 188، 189، وقال: ((رواه احمد، ورجاله رجال الصحيح)) . وأما من رواه موقوفا" فابن جرير بالأسانيد التالية: 15339 - 15341، 15350، وابن سعد في الطبقات 1 / 1 / 8، من طريق ابن علية عن كلثوم، ومن طريق حماد بن زيد، عن كلثوم. وذكره ابن كثير في تفسيره 3 / 584، 585، وفي تاريخه 1: 90، وأطال الكلام في تعليله، وجعل كثرة رواة وقفه علة في رد رواية من رفعه، وقال في ص: 9 8 5، انه قد بين انه موقوف لا مرفوع، فقال أخي السيد احمد في شرح المسند: ((وكأن ابن كثير يريد تعليل المرفوع بالموقوف، وما هذه بعلة، والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة صحيحة)) . وقال أيضاً: ((إسناده صحيح)) . ثم انظر تخريج الآثار التالية ورواة الخبر هم: ((احمد بن محمد الطوسى)) ، هو ((احمد بن محمد بن قيزك بن حبيب الطوسي)) ، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 3883، 5493، 8870. و ((حسين بن محمد بن بهرام التميمى)) ، ويقال له: ((حسين المعلم)) و ((حسين المؤدب)) . روى له الجماعة. مضى برقم: 2340. و ((كلثوم بن جبر بن مؤمل الديلي)) ، ثقه من صغار التابعين، مضى برقم: 2861، 2866، 6240. و ((نعمان)) ، هو واد لهذيل، من وراء عرفة، على ليلتين من عرفة، وهو ((نعمان الأراك)) ، يكثر وروده في شعرهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 15339 - حدثنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا كلثوم بن جبر قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: سألت عنها ابن عباس، فقال: مسح ربُّك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنَعْمَان هذه =وأشار بيده= فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم (ألست بربكم قالوا بلى) (1)   (1) الأثر: 15339 - ((عمران بن موسى بن حيان الليثي القزاز، الصفار)) ، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم 2154، 6589، 6591، 8683. و ((عبد الوراث)) ، هو: ((عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان)) ، أحد الأئمة الأعلام. مضى برقم: 2154، 6589، 6591، 6819، وغيرها. رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 67، موقوقاً أيضا، وإسناده صحيح. وأشار إليه ابن كثير في تفسيره 3: 585. وكان في المطبوعة هنا: ((بنعمان هذا)) ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو صواب محضن. وانظر التعليق على رقم: 15338. * * * تنبيه: قوله تعالى ((ذريتهم)) ، هي إحدى القراءتين، وهي قراءتنا، وفي القراءة الأخرى: ((ذرياتهم)) بالجمع، ولم يذكر أبو جعفر هذه القراءة، وجاء في المخطوطة: ((ذريتهم)) كثيرا، وفي بعض الأخبار ((ذرياتهم)) بالجمع. ولكن الناشر، وضع في جميع الأخبار ((ذرياتهم)) فغيرت ذلك، وتبعت المخطوطة، فحيث كتب ((ذريتهم)) بالافراد، أتثبتها كذلك. وحيث كتب ((ذرياتهم)) بالجمع، أثبتها كذلك ولم أغيرها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 15340 - حدثنا ابن وكيع ويعقوب قالا حدثنا ابن علية قال: حدثنا كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) قال: مسح ربُّك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنَعْمَان هذا الذي وراء عَرَفة، وأخذ ميثاقهم (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) ، اللفظ لحديث يعقوب. (1) 15341 - وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال ربيعة بن كلثوم، عن أبيه في هذا الحديث: (قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (2) 15342 - حدثنا عمرو قال: حدثنا عمران بن عيينة قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أول ما أهبط الله آدم،   (1) الأثر: 15340 - ((ابن علية)) ، هو: ((إسماعيل بن إبراهيم الأسدى)) ، الإمام المشهور، سلف مرارًا كثيرة. وهذا هو ثاني الآثار الموقوفة على ابن عباس، ورواه بهذا الإسناد أبو جعفر في تاريخه 1: 67، ورواه من هذه الطريق نفسها، ابن سعد في الطبقات 1/ 1 / 8، بلفظه هذا. إسناد صحيح، وانظر التعليق علي رقم: 15338. (2) الأثر: 15341 - رواه ابن سعد في الطبقات 1 / 1 / 8، واقتصر فيه إلى قوله تعالى: ((يوم القيامة)) . انظر التعليقات السالفة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 أهبطه بدَهْنَا، أرض بالهند، (1) فمسح الله ظهره، فأخرج منه كل نَسَمة هو بارئها إلى أن تقوم الساعة، ثم أخذ عليهم الميثاق: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) . (2) 15343 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء،   (1) في المطبوعة: ((بد جنى، أرض بالهند)) بالجيم. وأثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع، وفي تاريخ الطبري 1: 60، وفي هذا الخبر نفسه: ((بدهناء أرض الهند)) ، بآخره همزة، كأنه من ((الدهناء)) ، وهي الفلاة كلها ومل. وليس صوابا كما سترى. وهذا الحرف سيأتي في الخبر رقم: 15347 في المطبوعة: ((بدجني)) أيضا، بالجيم، وهو تغيير من الناشر. أما المخطوطة، ففيها ((بدحنا)) . وقد روى ابن سعد هذا الخبر في الطبقات 1 /1 / 5، وفيه: ((خلق آدم من أرض يقال لها دحناء)) بالحاء، وبالهمز، ثم مثله في 1 /1 -8 وفيه: ((خلق اله آدم بدحناء)) . وقد وقع خلط شديد في اسم هذا الموضع ومكانه، يحسن تفصيله في هذا الموضع. 1- جاء في سيرة ابن هشام، عن ابن إسحق: ((ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف عن الطائف على دحنا، حتي نزل الجعرانة، فيمن كان معه من الناس، ومعه من هوازن سبى كثير)) . ومثله في تاريخ الطبري 3: 134، عن ابن إسحق. فهذا موضع لا شك أنه في جزيرة العرب، ذكره البكري في معجم ما استعجم: 545، 546، ولم يخلطه بغيره، وضبطه بفتح الدال، وسكون الحاء المهملة، وفتح النون، علي وزن ((فعلى)) . وأما ياقوت في معجمه، فضبطها مثله ثم قال: ((ويروى فيها القصر والمد)) . وقال البكري في تحديدها: ((موضع بسيف البحر)) ، ثم عاد فذكر خبر ابن أسحق في سيرته. ثم قال: ((هكذا وقع في كتاب السير، بالنون، وكذلك ذكره الطبري وليس هناك سيف. وأنا أراه أراد: ((سلك علي دحي)) ، المتقدم ذكره ولولا أنه غير محدد عندنا، لارتفع الارتباب (بفتح الدال وسكون الحاء بعدها ياء) هكذا ذكره البكري في معجمه: 347 وقال: ((موضع، ذكره أبو بكر)) ، ولم يبين. وأما ياقوت فقال في ((دحنا)) : ((هي من مخاليف الطائف)) ، ولم يذكر ترجمة (دحى) التي ذكرها البكرى. وظني أن البكرى نقل قوله: ((موضع بسيف البحر)) ، من بعض شراح الشعر، فأنه أنشد شعر ربيعة بن جحدر الهذلى اللحيانى: َلَوْ رَجُلا خَادَعْتُه لَخَدَعْتُه ... ولكنَّما حوتًا بدحنا أقامس أقول له، كيما أخالف روغه: ... وراءك ملْ أروى شياه كوانس فكأن شارح الشعر جعله موضعاً لسيف البحر، لقوله: ((حوتا بد حنا أقامس)) ، وليس ذلك لزاماً، إلا أن تكون ((دحنا)) موضع آخر غير المذكور في السيرة. وأنشد أيضا عن الأصمعى: وصاحب لى بدحنى، أيما رجل ... أنى قتلت وأنت الفارس البطل! ومهما يكن من شيء، فهو موضع ببلاد العرب لاشك فيه، وهو بمعزل عن ((دحنا)) الأخرى كما سترى بعد. 2- وأما ((دحنا)) الأخرى، المذكورة في هذا الخبر، فهي موصوفة فيه أنها ((بأرض الهند)) وذكرها البكرى في مادة (واشم) : 1364، قال: ((قال ابن إسحق: يذكر أهل العلم أن مهبط آدم وحواء، علي جبل يقال له وأشم، من أرض الهند، وهو اليوم وسط بين قراها، بين الدهنج والمندل)) ، وذكره الطبري في تاريخه 1: 60، وفيه: ((وأما أهل التوراة فانهم قالوا: أهبط آدم بالهند، على جبل يقال له: واسم، عند واد يقال له: بهيل، بين الدهنج والمندل، بلدين بأرض الهند)) . وهو نص ابن إسحق كما رواه بإسناده فالأخبار التي ورد فيها ذكر هبوط آدم، أو خلقه، وفيها ((دحنا)) ، ولم يبين موضعها، تبينها هذه الأخبار التي ذكرت ذلك، وبينت أنه بأرض الهند. و ((دحنا)) بالحاء المهلة، هي ((دهنج)) في الأخبار التي ذكرتها قبل، معربة. وهكذا جاءت في المراجع ((دحنا)) بالحاء المهملة، ولكن رواة كتب اللغة رووا لنا في خبر ابن عباس: ((إن الله مسح ظهر آدم بدجناء، وهو اسم موضع، ويروى بالحاء المهملة)) ، هكذا ذكر صاحب لسان العرب في (دجن) ثم في " دحن "، وقال: ((وهو بين الطائف ومكة)) فهذا أول الخلط وإنما هو موضع بالهند في هذا الخبر أما الذي "بين الطائف ومكة"، فهو ((دحنا)) العربية التي ذكرناها أولا. وقال صاحب القاموس: ((ودجني، بالضم أو بالكسر، وقد يمد، أرض خلق منها آدم عليه السلام، أو هي بالحاء المهملة)) ثم ذكرها في (دحن) وقال: ((ودحنى في د ج ن)) ، يعنى أنه هو هو، وبضم الدال. وعلق الزبيدى في تاج العروس وقال: ((وقد جاء ذكرها في سيرة ابن إسحاق، في انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف على دجناء. وجاء في حديث ابن عباس: إن الله خلق آدم من دجناء، فمسح ظهره بنعمان الأراك. وكان مسح ظهره بعد خروجه من الجنة، بالأتفاق من الروايات)) ، كل ذلك ذكره بالجيم. فخلط أيضا بين الموضعين، الموضع الذي في السيرة، وموضع خلق آدم أو مهبطة. وإنما خلط اتباعاً للسهيلي في الروض الأنف 2: 305. وسبب هذا الخلط بلا ريب، هو ذكر ((نعمان الأراك)) في خبر خلق آدم، و ((نعمان الأراك)) بأرض العرب، فقال من لم يجمع أخبار الخلق أن ((دحنا)) بأرض العرب، ولم ينظر فيما جاء في رواية الخبر الأخرى أنها بأرض الهند. هذا، وظني أن ((دحنا)) ، و ((دجنا)) بالقصر والمد، هو تعريب في ((دهنج)) التي مضى ذكرها، وهي الأرض التي بالهند، أما التي ببلاد العرب، فهي ((دحنا)) بالحاء، لاغير. وهذا كافي إن شاء الله في تحقيق هذه الكلمة. (2) الأثر: 15342 - ((عمرو)) ، هو: ((عمرو بن على الفلاس)) ، مضى مرارًا كثيرة. و ((عمران بن عيينة)) ، هو أخو: ((سفيان بن عيينة)) الإمام المشهور. قال ابن معين وأبو زرعة: ((صالح الحديث)) . وأما ابن أبي حاتم، فقال: ((لا يحتج بحديثه، لأنه يأتي بالمناكير)) . وقال لعقيلى: ((في حديثه وهم)) . وقد مضى برقم: 4189، 10580. وهذا الخبر، رواه أبو جعفر مختصراً في تاريخه 1: 60، وابن سعد مختصراً 1 / 1 / 5، وسيأتي برقم: 15343، من رواية وكيع، عن عمران، عن عطاء، وليس فيه ذكر ((دحنا)) . بأسانيد أخر رقم: 15346، 15347، عن غير عمران، عن عطاء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أهبط آدم حين أهبط، فمسح الله ظهره، فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال (ألست بربكم قالوا بلى) ،، ثم تلا (وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) ، فجفَّ القلمُ من يومئذ بما هو كائن إلى يوم القيامة. (1) 15344 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: لما خلق الله آدم، أخذ ذريّته من ظهره مثل الذرِّ، فقبض قبضَتين، فقال لأصحاب اليمين: " ادخلوا الجنة بسلام "، وقال للآخرين: " ادخلوا النارَ ولا أبالي ". (2) 15345 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن حبيب،   (1) الأثر: 15343 - هو طريق أخرى للأثر السالف، ومن هذه الطريق، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 67، وانظر التعليق السالف. (2) الأثر: 15344 - هذا الخبر والذي يليه، رواه من طريقين. رواه أولهما أبو جعفر في تاريخه 1: 67. ((يحيى بن عيسي بن عبد الرحمن التميمي النهشلي)) ، وثقه أحمد وغيره، وضعفه ابن معين وغيره. مضى برقم: 300، 6317، 9035، 14201. و ((حبيب بن أبي ثابت)) ، هو ((حبيب بن قيس بن نيار)) ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 9012، 9035، 10423، وغيرها. ومعنى هذا الخبر، مخرج في مسانيد جماعة من الصحابة، ولكني لم أجده بنصه عن ابن عباس في غير هذا الموضع، وفي تاريخ الطبري. وانظر التعليق التالي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 عن ابن عباس قال: مسح الله ظهر آدم، فأخرج كلَّ طيبٍ في يمينه، وأخرج كل خبيثٍ في الأخرى. (1) 15246 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن علية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مسح الله ظهر آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. (2) 15347 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام قال: حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: لما خلق الله آدم مسح ظهره بدَحنا، (3) وأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: (ألست بربكم قالوا بلى) قال: فيُرَوْن يومئذٍ جفَّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. (4) 15348 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن المسعودي، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم عليه السلام أخذ ميثاقه، فمسح ظهره، فأخذ ذرّيته كهيئة الذرِّ، فكتب آجالهم   (1) الأثر: 15345 - هذه طريق أخرى للخبر السالف، بغير لفظه، أخرجه الآجري في كتاب الشريعة: 211، 212، من طريق على بن مسهر عن الأعمش، بغير هذا اللفظ وفي المخطوطة: ((كل خبيث في الآخرة)) . (2) الأثر: 15346 - انظر ما سلف رقم 15342، 15343، حديث عطاء، عن سعيد بغير هذا اللفظ. وهذا خبر صحيح الإسناد، وسيأتي من طريق أخرى في الذي يليه. (3) في المطبوعة ((بد جنى)) بالجيم، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر تحقيق ذلك في ص: 225، تعليق: 1. (4) الأثر: 15347 - طريق أخرى للخبر السالف. ((عمرو بن أبي قيس الرازي)) ، الأزرق، ثقة، وكان يهم في الحديث قليلا، مضى برقم: 6887، 9346، وغيرها. وهذا الخبر رواه أبو جعفر في التاريخ 1 / 68، ورواه ابن سعد في الطبقات 1 /1/ 8، من طريق منصور بن أبي الأسود، عن عطاء بن السائب، بنحو هذا اللفظ، وفي آخره: ((قال سعيد: فيرون أن الميثاق أخذ يومئذ)) . ونسبه في الدر المنثور 1: 141 لأبن المنذر وحده. وقوله: ((يرون)) (بضم إلياء وفتح الراء) بالبناء للمجهول، بمعنى: يظنون ذلك ويقدرونه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 وأرزاقهم ومصائبهم، = (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) . (1) 15349 - .... قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: لما خلق الله آدم، أخذ ميثاقه أنه ربُّه، وكتب أجله ومصائبَه، واستخرج ذريّته كالذرِّ، وأخذ ميثاقهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبَهم. (2) 15350 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) قال: مسح الله ظهر آدم عليه السلام وهو ببطن نعمان، =واد إلى جنب عرفة=، وأخرج ذريته من ظهره كهيئة الذرّ، ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا. (3) 15351 - .... قال: حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي جَمْرَة الضُّبَعي، عن ابن عباس قال: أخرج الله ذريّة آدم عليه السلام من ظهره كهيئة الذر، وهو في آذيٍّ من الماء. (4)   (1) الأثر: 15348 - هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريقين، هذا والذي يليه. ((المسعودى)) هو ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود)) مضى برقم: 2156، 2729، 2937، 5563، وغيرها، وهو ثقة، اختلط بآخرة، وتغير حفظه، وما روى عنه الشيوخ القدماء، فهو مستقيم. وسماع وكيع من المسعودى قديم. ((على بن بذيمة الجزرى)) ، ثقة، متكلم فيه بما لا يفدح، مضى برقم: 629، وغيرها وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 141، ونسبه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) الأثر: 15349 - ((يزيد بن هارون السلمي)) ، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، مضى مرارًا كثيرة. وقد روى ((يزيد بن هارون)) عن المسعودى أحاديث مختلطة، بعد ما تغير حفظه، كما ذكرت في التعليق السالف. (3) الأثر: 15350 - هذه طريق أخرى للأخبار السالفة 15338 - 15341، ومضى تخريجها هناك. (4) الأثر: 15351 - ((أبو هلال)) ، هو ((محمد بن سليم الراسبي)) ، ثقة متكلم فيه، قال ابن أبي عدى، بعد أن ذكر له أحاديث كلها أو عامتها غير محفوظة: ((وله غير ما ذكرت، وفي بعض رواياته مالا يوافقه عليه الثقات، وهو ممن يكتب حديثه)) . مضى برقم: 2996، 4681، 13967. و ((أبو جمزة الضبعى)) هو: ((نصر بن عمران بن عصام الضبعى)) ، ثقة مأمون. مضى برقم 5995، 6228. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((عن أبي حمزة)) وهو خطأ صرف. ((آذى الماء)) ، الأطباق التي تراها ترفعها من متنه الريح، دون الموج. ويأتي أيضا بمعنى: الموج الشديد، وهو الأكثر. والمراد في هذا الخبر، هو المعنى الأول. وكان في المطبوعة: ((أذى)) بغير مد، وليس صواباً وفي المخطوطة ((أدنى)) وهو خطآ صرف. وهذا الخبر، نقله ابن كثير في تفسيره 3: 585، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 141، ونسبه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن منده في كتاب الرد على الجهمية، وأبي الشيخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 15352 - حدثني علي بن سهل قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة قال: حدثنا أبو مسعود، عن جويبر قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم، ابنَ ستة أيام قال: فقال: يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده، فأبرزْ وجهه، وحُلّ عنه عقده، فإن ابني مُجْلَسٌ ومسئول! ففعلت به الذي أمرني، فلما فرغت، قلت: يرحمك الله، عمّ يُسألُ ابنك؟ مَنْ يسأله إيّاه؟ (1) قال: يُسْأَل عن الميثاق الذي أقرّ به في صلب آدم عليه السلام. قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم؟ قال: ثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وتكفّل لهم بالأرزاق، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، (2) فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفَى به نفعه الميثاق الأوّل، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يفِ به لم ينفعه الميثاق الأوّل، ومن مات   (1) في المطبوعة والدر المنثور، أسقط قوله: ((من يسأله إياه)) ، وهي ثابتة في المخطوطة، وفي ابن كثير، الناقل من هذا الموضع من التفسير. (2) في المخطوطة، أسقط من أول قوله ((ثم تكفل لهم)) إلى قوله: ((تقوم الساعة)) ، وهي ثابتة في تفسير ابن كثير، والدر المنثور. وأما المطبوعة، فأسقطت من ((وتكفل)) إلى قوله: ((تقوم الساعة)) ، وهي ثابتة في تفسير ابن كثير والدر المنثور. وأما المطبوعة، فأسقطت من ((وتكفل)) إلى قوله: ((في صلبه)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة. (1) 15353 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني السريّ بن يحيى، أن الحسن بن أبي الحسن، حدّثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعَ غزوات قال: فتناول القوم الذرّيّة بعد ما قَتَلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتدّ عليه، ثم قال: "ما بال أقوام يتناولون الذرية؟ " فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناءَ المشركين؟ فقال: "إن خيارَكم أولادُ المشركين! ألا إنها ليست نسمة تُولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لِسَانها، فأبواها يهوِّدانها أو ينصرانها" =قال الحسن: والله لقد قال الله ذلك في كتابه، (2) قال: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) (3) .   (1) الأثر: 15352 - ((على بن سهل الرملى)) ، شيخ الطبري، مضى مرارًا. و ((ضمرة بن ربيعة الفلسطينى)) . ثقة، مضى برقم: 7134، 12868، 13650. و ((أبو مسعود)) الروى عن ((جويبر)) ، أخشى أن يكون هو ((سعيد بن إياس الجريرى)) ، ولست أحققه. و ((جويبر)) ، لقب، ويقال اسمه ((جابر بن سعيد)) . مضى كثيراً، وجاء في هذا الخبر، التصريح باسمه ((جابر)) ، فإلا يكن ((جويبر)) لقباً، فهو تصغير ((جابر)) . وهذا الخبر، نقله ابن كثير في تفسيره 3: 585، والسيوطي في الدر المنثور 1: 143. (2) في المطبوعة: ((والله لقد قال الله)) ، لا أدرى من أين زاد ذلك (3) الأثر: 15353 - ((السرى بن يحيى بن إياس الشيباني)) ، ((أبو الهيثم)) ، ثقة. ثبت، روى عن الحسن البصري مترجم في التهذيب، والكبير 2 /2 176، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 283 و ((الأسود بن سريع بن حميرى بن عبادة التميمي)) ، صحابي، كان شاعراًً مشهوراً، وكان أول من قص في مسجد البصرة، وهو القائل في قصصه في الميت، (البيان والتبين 1: 467 / طبقات فحول الشعراء 151، تعليق: 6) : فإن تنج منها، تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا مترجم في الإصابة، وأسد الغابة، وابن سعد 7 / 1 / 28، والاستيعاب: 44، والمعارف لابن قتيبة: 276، والكبير للبخاري 1 / 1 / 445، وابن أبي حاتم 1/1/129، وغيرها. وهذا الخبر، رواه من هذه الطريق، أحمد في مسنده 4: 24، مع خلاف يسير في لفظه، وابن سعد مختصرا" في الطبقات 7/1/28، والبخاري مختصرا" في التاريخ 1 / 1 / 445. وابن عبد البر في الاستيعاب بنحوه مطولا: 44، وذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمته وقال: (وأخرجه ابن حبان وابن السكن، من طريق السرى)) . ورواه أحمد في مسنده 3: 435، من طريق يونس بن محمد المؤدب، عن أبان بن يزيد، عن قتادة، عن الحسن مختصراً، ثم رواه بعده من طريق يونس بن عبيد عن الحسن، بنحوه. ثم رواه في 4: 24 من طريق سعيد، عن قتادة، عن الحسن، وبين الخبر أن ذلك كان في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 123 من طريق يونس بن محمد المؤدب، ثم من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، بنحو ما رواه أحمد، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 77، من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن. ثم رواه أيضا في السنن 9: 130، من طريق يونس بن محمد المؤدب، عن أبان بن يزيد، عن قتادة. وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد 5: 316، ثم قال: ((رواه أحمد بأسانيد، والطبراني في الكبير والأوسط كذلك 0 0 0 وبعض أسانيد أحمد، رجاله رجال الصحيح)) . وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 584 وقال: ((وأخرجه النسائى في سننه، من حديث هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال حدثني الأسود بن سريع، فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري، واستخصاره الآية عند ذلك)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 15354 - حدثنا عبد الرحمن بن الوليد قال: حدثنا أحمد بن أبي طَيبة، عن سفيان بن سعيد بن الأجلح، عن الضحاك =وعن منصور، عن مجاهد=، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: "أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم (ألست بربكم قالوا بلى) قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين". (1)   (1) الأثر: 15354 - رواه أبو جعفر من طرق ثلاث، أولاهما مرفوعة، والأخريان موقوفتان على عبد الله بن عمرو. ولهذا الخبر، إسنادان: ((سفيان الثورى، عن الأجلح)) ، و ((سفيان، عن منصور)) . ((عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني)) ، شيخ أبي جعفر، لم أجد له ترجمة، ولكنه روى عنه في التاريخ 3: 207، عن ((أحمد بن أبي طبية)) أيضا، ثم في المنتخب من ذيل المذيل (التاريخ: 13) ص: 48، 60. و ((أحمد بن أبي طبية)) هو: ((أحمد بن عيسى بن سليمان الجرجاني)) ، قاضى قومس. قال أبو حاتم: ((يكتب حديثه)) ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدى: ((حدث بأحاديث أكثرها غرائب)) . مترجم في التهذيب، والخلاصة: 7، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 64. وضبط ((طيبة)) في الخلاصة بالظاء المعجمة، ولكنه في غيره بالطاء المهملة. ((وسفيان بن سعيد)) هو الثوري، وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((سفيان عن سعيد)) ، وهو خطا محض، وإنما يروى عن الأجلح ((سفيان بن سعيد الثورى)) بغير واسطة الكبير 1 / 2 / 68. و ((الأجلح)) هو ((الأجلح بن عبد الله بن حجية الكندي)) ، مضى برقم: 5384، 10857، وهو متكلم فيه، ووثقه ابن عدى. وهذا الخبر، خرجه السيوطي مرفوعاً في الدر المنثور 1: 142 وزاد نسبته لابن منده في كتاب الرد على الجهمية. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 586، 589 وضعف رفعه، وبين أن وقفه أصح. وسيأتي قول الطبري فيه ص: 250: ((ولا أعلمه صحيحاً، لأن الثقات الذين يعتمد على حفظهم وإتقانهم حدثوا بهذا الحديث عن الثورى، فوقفوه على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه، ولم يذكروا في الحديث هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طبية عنه)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 15355 - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس. (1) 15356 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: أخذهم كما يأخذ المشط عن الرأس. قال ابن حميد: كما يؤخذ بالمشط. (2) 15357 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: حدثنا روح بن عبادة، وسعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أبي أنيسة،   (1) الأثر: 15355 - هذا الأثر والذي يليه، هما الأثران الموقوفان الصحيحان. راجع التعليق السالف. (2) (2) الأثر: 15356 - هو موقوف على عبد الله بن عمرو، صحيح الإسناد كالسالف. وكان في المخطوطة: ((كما يؤخذ المشط)) مرة أخرى، بغير باء، وكأن الصواب ما في المطبوعة، وبذلك ورد في الدر المنثور. وانظر التعليق السالف. وهذه الأخبار الثلاثة، ذكرها ابن كثير في تفسيره 3: 586، 589، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 141 موقوفاً، ونسبة إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، واللالكائي في السنة، وقصر في نسبته إلى ابن جرير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار الجهني: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) ، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه، (1) فاستخرج منه ذرية، فقال: "خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون". ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: "خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال: "إن الله إذا خلق العبدَ للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة، فيدخله الجنة; وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من عمل أهل النار، فيدخله النار. (2) 15358 - حدثنا إبراهيم قال: حدثنا محمد بن المصفي، عن بقية، عن عمر بن جُعْثم القرشي قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (3)   (1) في المطبوعة: ((مسح ظهره)) ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (2) الأثر: 15357 - ((إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري)) ، شيخ الطبري، مضى مرارًا. و ((سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري)) ، ثقة، وضعفوه، مضى برقم: 3959، 9225، ولكن ضعفه لا يضر في هذا الإسناد، فإن ((روح بن عبادة)) ، ثقة بلا شك وهو العمدة في رواية الخبر في سائر الكتب. و ((زيد بن أبي أنيسة الجزري)) ، ثقة، مضى برقم: 4964، 8396. و ((عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب)) ، ثقة مأمون، روى له الجماعة، مضى برقم: 14685. و ((مسلم بن يسار الجهني)) ، تابعي ثقة، قيل: لم يسمع من عمر، وبينه وبينه ((نعيم بن ربيعة الأزدي)) ، كما سيأتي في الأثر التالي. مترجم في التهذيب، والكبير 4 /1 / 276، ولا أدري لم أغفله ابن أبي حاتم في كتابة، أو هو سقط من تراجمه. وهذا الخبر رواه أبو جعفر بإسناده هذا في تاريخه 1: 67، مع خلاف يسير في لفظه. ورواه مالك في الموطأ: 898، ورواه أحمد في المسند رقم: 311، وأبو داود في سننه 4: 312 رقم: 4703، والحاكم في المستدرك 1: 27 وقال: ((هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه)) ، وتعقبه الذهبي فقال: ((فيه إرسال)) ، ثم عاد الحاكم فرواه في المستدرك 2: 324، 544 وقال: ((هذا حديث على شرط مسلم، ولم يخرجاه)) ، فخالف ما قاله أولا، ولكن أعجب منه أن الذهبي في هذين الموضعين وافقه، ولم يتعقبه بأنه فيه إرسال!! وهذا عجب! ورواه الآجري في كتاب الشريعة: 170، وابن عبد البر في التقصي: 54، وقال: ((في إسناد هذا الحديث علتان قد بينتهما في كتاب التمهيد)) . ورواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: ((هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار، لم يسمع من عمر. وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر، رجلا)) . وبعد كتابة ما تقدم، وجدت الإمام بن القيم قد ذكر الخبر في شفاء العليل: 1029، ما قاله ابن عبد البر في التمهيد وقال: ((قال الحاكم: هذا الحديث على شرط مسلم، وليس كما قاله، بل هو حديث منقطع.قال أبو عمر (ابن عبد البر) : هو حديث منقطع، فإن مسلم بن يسار هذا، لم يلق عمر بن الخطاب، بينهما نعيم بن ربيعة. هذا إن صح أن الذي رواه عن زيد بن أبي أنيسة فذكر فيه نعيم بن ربيعة، إذ ليس هو بأحفظ من مالك، ولا ممن يحتج به إذا خالفه مالك. ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة، ومسلم بن يسار جميعا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث. وليس هو مسلم بن يسار العابد البصري، وإنما هو رجل مدنى مجهول. ثم ذكر من تاريخ ابن أبي خيثمة قال: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا، فكتب بيده على مسلم بن يسار لا يعرف. قال أبو عمر: هذا الحدبث وإن كان عليل الإسناد فإن معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى من وجوه كثيرة)) ثم ساق أسماء من روى عنهم من الصحابة. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 586 وفي تاريخه 1: 89، 90، وقال بعد نقل كلام الترمذي: ((كذا قاله أبو حاتم، وأبو زرعة، زاد أبو حاتم بينهما نعيم بن ربيعة. وهذا الذي قاله أبو حاتم ثم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفي، عن بقية، عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار الجهني، عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر، ... وقال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمر بن جعثم، يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك. قال ابن كثير: الظاهر أن مالكاً إنما أسقط نعيم بن ربيعة عمداً، لما جهل حال نعيم ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث. وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيراً من الرفوعات، ويقطع كثيراً من الموصولات)) . وانظر التعليق على الخبر التالي. (3) 15358 - ((محمد بن المصفي بن بهلول القرشي)) ، حافظ صدوق، متكلم فيه، قيل إنه كان ممن يدلس تدليس التسوية. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/246، وابن أبي حاتم 4/1/104. و ((بقية)) هو ((بقية بن الوليد)) ، مضى مرارًا. و ((عمر بن جعثم القرشي)) ، ذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/101، وكان في المخطوطة: ((عمر بن جعفر القرشي)) ، وهو خطأ، وكان في المطبوعة: ((عمر بن جعثم)) ، وهو خطأ أيضاً. و ((نعيم بن ربيعة الأزدي) ، لم يذكر البخاري فيه جرحاً، ولا ابن أبي حاتم. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 96، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 460. وهذا الخبر رواه البخاري في الكبير 4 / 2 / 96، 97 عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يزيد، سمع أباه، سمع زيداً، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار الجهنى، عن نعيم بن ربيعة الأزدي)) ، بنحوه مختصراً. ورواه أبو داود في السنن 4: 313 رقم: 4704، من طريق محمد بن المصفي، عن بقية، ولم يذكر لفظه، وقال: ((وحديث مالك أتم)) . وانظر ذكر هذه الرواية الموصولة، في التعليق على الخبر السالف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 15359 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عمارة، عن أبي محمد رجل من المدينة، (1) قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما سألتني، فقال: "خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمنى، فأخرج ذَرْءًا، فقال: "ذَرْءٌ ذرأتهم للجنة"، ثم مسح ظهره بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين، فقال: "ذَرْءٌ ذرأتهم للنار، يعملون فيما شئت من عمل، ثم أختم لهم بأسوإ أعمالهم فأدخلهم النار". (2) 15360 - حدثني المثني قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم أخرج ذريّته من صلبه مثل الذرِّ، فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربُّنا، ثم أعادهم في صلبه، حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة. (3)   (1) في المطبوعة: ((رجل من المدينة)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 15359 - ((عمارة)) ، هو ((عملرة بن عمير التيمى)) ، روى له أصحاب الكتب الستة، مضى برقم: 3294، 5789. و ((أبو محمد، رجل من أهل المدينة)) ، لم أجد بياناً عنه في شيء من الكتب. وهذا الخبر، رواه ابن عبد البر في التمهيد (ملحق بكتاب التقصى) : 302، بهذا الإسناد نفسه، بلفظه، إلا أن فيه: ((ثم أختم لهم بشر أعمالهم)) . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 142، ولم ينسبه لغير ابن جرير. (3) الأثر: 15360 - هذا إسناد دائر في التفسير، مضى بيانه في الخبر رقم 186، 187. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 141 ونسبه إلى ابن أبي حاتم، واللالكائى في السنة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 15361 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) ،.. إلى قوله: (قالوا بلى شهدنا) قال ابن عباس: إن الله لما خلق آدم مسح ظهره، وأخرج ذريته كلّهم كهيئة الذر، فأنطقهم فتكلموا، وأشهدهم على أنفسهم، وجعل مع بعضهم النّور، وإنه قال لآدم: هؤلاء ذرّيتك آخذ عليهم الميثاق: أنا ربهم، لئلا يشركوا بي شيئًا، وعليَّ رزقهم. قال آدم: فمن هذا الذي معه النُّور؟ قال: هو داود. قال: يا رب كم كتبت له من الأجل؟ قال: ستين سنة. قال: كم كتبت لي؟ قال: ألف سنة، وقد كتبت لكل إنسان منهم كم يعمَّر وكم يلبث. قال: يا رب زده. قال: هذا الكتاب موضوعٌ فأعطه إن شئت من عمرك! قال: نعم. وقد جفَّ القلم عن أجل سائر بني آدم، فكتب له من أجل آدم أربعين سنة، فصار أجله مائة سنة. فلما عمر تسع مائة سنة وستين سنة جاءه ملك الموت; فلما رآه آدم قال: ما لك؟ قال له: قد استوفيت أجلك. قال له آدم: إنما عمرت تسعمئة وستين سنة، وبقي أربعون سنة. قال: فلما قال ذلك للملك، قال الملك: قد أخبرني بها ربي. قال: فارجع إلى ربك فاسأله! فرجع الملك إلى ربه، فقال: ما لك؟ قال: يا رب رجعت إليك لما كنت أعلم من تكرمتك إياه. قال الله: ارجع فأخبره أنه قد أعطى ابنه داود أربعين سنة. (1) 15362 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن الله تبارك وتعالى ضرب منكبه الأيمن، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاءَ   (1) الأثر: 15361 - هذا إسناد دائر في التفسير، مضى بيان ضعفه في التعليق على رقم: 305. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب منكبه الأيسر، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداءَ، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهودهم على الإيمان والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره، بني آدم كلهم، فأشهدهم على أنفسهم، فأمنوا وصدَّقوا وعرَفوا وأقرُّوا. وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل =قال ابن جريج عن مجاهد قال: إن الله لما أخرجهم قال: يا عباد الله أجيبوا الله - "والإجابة": الطاعة - فقالوا: أطعنا، اللهم أطعنا، (1) اللهم لبيك! قال: فأعطاها إبراهيم عليه السلام في المناسك: "لبَّيك اللهم لبَّيك". قال: ضرب مَتْنَ آدم حين خلقه. قال: وقال ابن عباس: خلق آدم، ثم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر، فكلمهم، ثم أعادهم في صلبه، فليس أحدٌ إلا وقد تكلم فقال: "ربي الله". فقال: وكل خَلْق خَلَق فهو كائن إلى يوم القيامة، وهي الفِطْرة التي فَطَر الناس عليها. =قال ابن جريج: قال سعيد بن حبير: أخذ الميثاق عليهم بنَعْمَان -ونعمان من وراء عرفة- "أن يقولوا يوم القيامة (إنا كنا عن هذا غافلين) ، عن الميثاق الذي أخذ عليهم. (2) 15363 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: جمعهم يومئذٍ جميعًا، ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) ، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرَضين السبع،   (1) في المطبوعة، كرر هنا ((اللهم أطعنا)) مرة أخرى، فحذفتها مطابقاً للمخطوطة. (2) الأثر: 15362 - ((الزبير بن موسى بن ميناء المكي)) ثقة، مضى برقم: 8649. وهذا الخبر، رواه الآجري في كتاب الشريعة، مختصراً: 212، من طريق على ابن الحسن ابن شقيق، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن الزبير موسى. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 144، ولم ينسبه إلى غير ابن جرير وأبي الشيخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 وأشهد عليكم أباكم آدم: أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا! اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئًا، وأني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي، (1) وسأنزل عليكم كتبي! (2) قالوا: شهدنا أنك ربُّنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقرُّوا له يومئذٍ بالطاعة، ورفع عليهم أباهم آدم، فنظر إليهم، فرأى منهم الغنيّ والفقير، وحسن الصورة، ودون ذلك، فقال: رب لولا ساويت بينهم! قال: فإني أحب أن أشكر. قال: وفيهم الأنبياء عليهم السلام يومئذٍ مثلُ السُّرُج. وخص الأنبياء بميثاق آخر قال الله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) ، [سورة الأحزاب: 7] وهو الذي يقول تعالى ذكره: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، [سورة الروم: 30] وفي ذلك قال: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى) ، [سورة النجم: 56] يقول: أخذنا ميثاقه مع النذر الأولى، ومن ذلك قوله: (وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) ، [سورة الأعراف: 102] ، [وهو قوله تعالى] (3) (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ، [سورة يونس: 74] قال: كان في علمه يوم أقروا به، من يصدِّق ومن يكذِّب. (4) 15364 - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهَدَهم على أنفسهم ألست بربكم) قال: أخرجهم من ظهر آدم، وجعل لآدم عمر ألف سنة. قال: فعرضوا على آدم، فرأى رجلا من ذرّيته له نور فأعجبه، فسأل عنه، فقال: هو داود، قد جُعِل عمره ستين سنة! فجعل له من عمره أربعين سنة; فلما احتُضِرَ آدمُ، جعل يخاصمهم في الأربعين سنة، فقيل له: إنك أعطيتها داود! قال: فجعل يخاصمهم. 15365 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: أخرج ذريته من ظهره كهيئة الذرِّ، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم! قال: فعرض عليه روح داود في نورٍ ساطع، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذرّيتك، نبيٌّ خليفة. قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة قال: زيدوه من عمري أربعين سنة. قال: والأقلام رطبة تجري. فأثبت لداود الأربعون، وكان عمر آدم عليه السلام ألف سنة; فلما استكملها إلا الأربعين سنة، بُعث إليه ملك الموت، فقال: يا آدم أمرت أن أقبضك قال: ألم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع   (1) في المطبوعة: ((وسأرسل)) ، وفي المخطوطة: ((وأنا سأرسل)) والصواب من مراجع الحديث المذكورة بعد. (2) ليس في المخطوطة: ((كتبي)) ، سقطت من الناسخ. (3) هذه الزيادة بين القوسين، من سائر المراجع، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة. (4) الأثر: 15363 - إسناد صحيح، مضى مثله مرارًا. وهذا الخبر رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل، في زياداته على مسند أبيه، (5: 135) عن شيخه محمد بن يعقوب الربالى، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، مختصراً. ونقله الهيثمى في مجمع لزوائد 7: 25 وقال: ((رواه عبد الله بن أحمد، عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي، وهو مستور، وبقية رجاله رجال الصحيح)) . ورواه الحاكم في المستدرك مطولاً 2: 323 من طريق عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عيسى بن عبد الله بن ماهان، عن الربيع بن أنس، وقال ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي. ورواه الاجري في كتاب الشريعة: 207، من طريق حكام بن مسلم الرازي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس. ورواه ابن عبد البر في التمهيد (ملحف كتاب التقصى) : 307، من طريق أحمد بن عبد الله بن صالح، عن عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، وهو طريق الحاكم في المستدرك. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 588 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه في تفسيريهما. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 142، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ، وابن منده في كتاب الرد على الجهمية، واللالكائي، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عساكر في تاريخه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 ملك الموت إلى ربه، فقال: إن آدم يدَّعي من عمره أربعين سنة! قال: أخبر آدم أنه جعلها لابنه داودَ والأقلام رطبة! فأُثبتت لداود. 15366 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، بنحوه. 15367 - .... قال: حدثنا ابن فضيل وابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق، ثم ردّهم في صلبه. 15368 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا ابن نمير، عن نضر بن عربي: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق، ثم ردَّهم في صلبه. 15369 - .... قال: حدثنا محمد بن عبيد، عن أبي بسطام، عن الضحاك قال: حيث ذرأ الله خلقه لآدم عليه السلام (1) قال: خلقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. (2) 15370 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: قال ابن عباس: خلق الله آدم، ثم أخرج ذريته من ظهره، فكلمهم الله وأنطقهم، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم أعادهم في صلبه، فليس أحدٌ من الخلق إلا قد تكلم فقال: "ربي الله"، وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه. 15371 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمر بن طلحة، عن أسباط،   (1) (1) هذه عبارة غريبة، ولكن هكذا هي في المخطوطة والمطبوعة. (2) الأثر: 15369 - ((محمد بن عبيد)) ، هو فيما أرجح ((محمد بن عبيد بن أبي أمية الطنافسى)) ، مضى برقم: 405، 9155، 11418. و ((أبو بسطام)) ، هو ((مقاتل بن حيان البلخى)) ، مضى برقم: 3842. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 عن السدي: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) ، وذلك حين يقول تعالى ذكره: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ، [سورة آل عمران: 83] وذلك حين يقول: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينََ.) ، [سورة الأنعام: 149] يعني: يوم أخذ منهم الميثاق، ثم عرضهم على آدم عليه السلام. (1) 15372 - قال: حدثنا عمر، عن أسباط، عن السدي قال: أخرج الله آدم من الجنة، ولم يهبط من السماء، ثم مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذريته كهيئة الذرِّ، أبيض، مثل اللؤلؤ، (2) فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي! ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه كهيئة الذر سودًا، (3) فقال: ادخلوا النار ولا أبالي! فذلك حين يقول: "أصحاب اليمين وأصحاب الشمال"، ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: (ألست بربكم قالوا بلى) ،، فأطاعه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على وجه التقية. (4)   (1) (1) الأثر: 15371 - ((عمرو بن طلحة)) ، هو ((عمرو بن حماد بن طلحة القناد)) ، من أكثر الرجال دوراناً في التفسير، مضى برقم: 168، وكان في المطبوعة هنا وفي الذي يليه ((عمر بن طلحة)) ، وهو خطأ صرف. وهذا الخبر، جزء من خبر طويل رواه ابن عبد البر في التمهيد (ملحق بكتاب التقصى) : 303، 304، بإسناده عن محمد بن عبد الله بن سنجر، عن عمرو بن حماد، عن نصر بن نصر الهمذانى، عن السدي، عن أصحابه = قال عمرو: وأصحابه: أبو مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمذانى، عن ابن مسعود، وعن نا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)) . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 141، مطولاً، ولم ينسبه إلى غير ابن عبد البر في التمهيد. وانظر الأثر التالي رقم 13573. (2) في المطبوعة: ((فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، كهيئة الذر)) ، وهو موافق لما رواه ابن أبي عبد البر، ولكنى أثبت ما في المخطوطة. وأما ما رواه أبو جعفر في التاريخ فهو: ((فأخرج منه ذرية كهيئة الذر بيضاً مثل اللؤلؤ)) ، بالجمع ((بيضاً)) . (3) في المطبوعة: ((فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر)) ، وهو مطابق لما في التمهيد لابن عبد البر، ولكنى أثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما رواه أبو جعفر في التاريخ. (4) الأثر: 15372 هذا الخبر السالف لدى ابن عبد البر في التمهيد (ملحق بكتاب التقصي: 303، 304، مطولا ورواه ابن جعفر في تاريخه مختصرا بلفظ هذا 1:68. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 15373 - حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي بنحوه =وزاد فيه بعد قوله: "وطائفة على وجه التقية"= فقال هو والملائكة: "شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم". فلذلك ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله، ولا مشرك إلا وهو يقول لابنه: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) ، والأمة: الدين (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) ، [سورة الزخرف: 23] وذلك حين يقول الله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) ، وذلك حين يقول: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) ، [سورة آل عمران: 83] وذلك حين يقول: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) ، [سورة الأنعام: 149] يعني يوم أخذ منهم الميثاق. (1) 15374 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (من ظهورهم ذرياتهم) قال: مسح الله على صلب آدم، فأخرج من صلبه من ذريته ما يكون إلى يوم القيامة، وأخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحدًا كافرًا ولا غيره (2) من ربك؟ إلا قال: "الله". وقال الحسن مثل ذلك أيضًا. (3) 15375 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا حفص بن غياث، عن جعفر،   (1) الأثر: 13573 هذا الخبر جزء من الخبرين السالفين فيما أرجح 15371، 15372، وانظر تخريجهما فيما سلف ولكن صدر الخبر لم يرد في شيء من المراجع. (2) في المطبوعة: ((ولا يسأل أحد كافر ولا غيره)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 15374 - هذا الخبر حرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 141 من حديث ابن عباس، ونسبه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر. وظاهر أنه من تفسير الكلبى، بإسناده عن ابن عباس. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 عن أبيه، عن علي بن حسين أنه كان يَعْزِلُ، (1) ويتأول هذه الآية: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم) . (2) 15376 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: أقرَّت الأرواح قبلَ أن تُخْلق أجسادها. (3) 15377 - حدثنا أحمد بن الفرج الحمصي قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثني الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري، عن أبيه، عن هشام بن حكيم: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، أتبْدَأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، (5) ثم قال: "هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار"، فأهل الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار. (6)   (1) في المطبوعة: ((كان يقول ويتأول)) ، وهو كلام لا معنى له، صوابه ما كان في المخطوطة. و ((العزل)) هو أن يعزل الرجل ماءه عن المرأة، أي ينحيه عن رحمها إذا جامعها، لئلا تحمل. (2) الأثر: 15375 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 144، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة. (3) الأثر: 15376- رواه ابن عبد البر في التمهيد (ملحق بكتاب التقصي: 301 من طريق قاسم بن أصبغ عن محمد بن الجهم، عن روح بن عبادة عن موسى بن عبيدة، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 140 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة. (4) في رواية أخرى ((أم قد مضى القضاء)) . (5) قوله: ((أفاض بهم في كفه)) : بسطهم متفرقين منبثين. وأصله، من: ((أفاض الضارب بالقداح)) ، إذا أجالها وضرب بها، فوقعت منبثة متفرقة. وقد جاء هذا اللفظ في خبر عباس: ((اخرج الله ذرية آدم من ظهره، فأفاضهم إفاضة القدح)) ، وهي الضرب به وإجالته عند القمار. وقد جاء في رواية الطبراني لهذا الخبر (مجمع الزوائد 7: 186) : ((ثم نثرهم في كفيه، أو كفه)) . (6) الأثر: 15377 - رواه أبو جعفر بأربعة أسانيد، هذا، والذي يليه إلى رقم، 15380. وهو خبر قد نصوا قديماً على أنه مضطرب الإسناد. واضطرابه من وجوه سأبينها بعد: إن شاء الله، في هذا الموضع. ((أحمد بن الفرج بن سليمان الكندي الحمصي)) ، ((أبو عتبة)) يعرف بالحجازي. ورد بغداد غير مرة، وحدث بها عن بقية بن الوليد، وغيره. روى عنه عبد الله بن أحمد ابن حنبل، وابن جرير، والحسين بن إسماعيل المحاملي، وغيرهم، وكتب عنه ابن أبي حاتم، وقال: ((محله عندنا الصدق)) . قال ابن عدي: ((كان محمد بن عوف الطائي، يضعفه، ومع ضعفه يكتب حديثه)) . قال محمد بن عوف الطائي: ((الحجازى كذاب ... وليس عنده في حديث بقية بن الوليد عن الزبيدي، أصل. هو فيها أكذب خلق الله. إنما هي أحاديث وقعت إليه في ظهر قرطاس كتاب صاحب حديث، في أولها مكتوب: حدثنا يزيد بن عبد ربه، قال حدثنا بقية)) ، ثم رماه بأشياء. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ((يخطئ وهو مشهور بكنيته)) . ومع ذلك، فهذا الخبر الذي رواه عنه أبو جعفر، رواه بعده عن محمد بن عوف الطائي وغيره، فما قيل فيه لا يضر. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 67، وتاريخ بغداد 4: 339 - 341، وقد مضى برقم: 6899، بروايته عن بقية بن الوليد، ولم يترجم هناك. و ((بقية بن الوليد الحمصي)) ، ثقة، تكلموا فيه من أجل تدليسه، فإذا صرح بالسماع كانت روايته صحيحة، وقد صرح بها في هذا الأثر، ولم يصرح في الذي يليه. وقد مضى برقم: 153، 5563، 6521، 6899، 9224، وغيرها. و ((الزبيدي)) هو ((محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الحمصي)) ، ثقة، روى له الشيخان. مضى برقم: 6656، 6899. و ((راشد بن سعد المقرئي الحبراني الحمصي)) ، وثقه ابن سعد، وابن معين وغيرهما. وقال أحمد: ((لا بأس به)) ، وقال الدارقطني: ((يعتبر به إذا لم يحدث عن متروك)) . وشذ ابن حزم فضعفه. وذهبت عين راشد بن سعد في يوم صفين، وتوفي سنة 108. مترجم في التهذيب، وابن سعد7/2/162، والكبير 2/1/266، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 483، وميزان الاعتدال 1: 331، ومختصر تاريخ ابن عساكر 5: 289. ومن عند رواية راشد بن سعد يبدأ الاضطراب في إسناد الخبر، وفي نسبة بعض رجاله، والاختلاف في لفظه. وهذه هي أسانيده التي وقعت لي، جمعتها مع ذكر موضع كل إسناد: 1 - الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النصري، عن أبيه، عن هشام بن حكيم = الطبري: 15377 - 15379 / الكبير للبخاري 4/2/191، 192 / إسحق بن راهويه، في ((شفاء العليل)) لابن القيم: 10 / ابن كثير 3: 588. 2 - الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النصري، عن هشام بن حكيم = الآجري في الشريعة: 172. 3 - معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم = الطبري: 15380 4 - معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم = ابن سعد 1 / 1 / 9 ثم 7/2/135 = المسند 4: 186 / المستدرك 1: 31 / أسد الغابة 3: 319 / الإصابة 4: 179، في ترجمة عبد الرحمن بن قتادة. 5 - الزبيدي، ... عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، وهشام بن حكيم = الإصابة 4: 179، غير مبين تمام إسناده، ولكنه عن راشد بن سعد بلا شك. فالأسانيد الثلاثة الأولى، والإسناد الخامس، رواية الخبر فيها عن هشام بن حكيم، أو عن قتادة النصري. واختلف الزبيدي على راشد بن سعد، فقال مرة: ((عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، عن هشام)) وقال مرة أخرى: ((عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام)) ، وأسقط ذكر ((عن أبيه)) . وأما معاوية بن صالح، فاختلف على راشد بن سعد، فقال مرة: ((عبد الرحمن بن قتادة عن هشام بن حكيم)) ، كإسناد الزبيدي الثاني، وقال مرة أخرى: ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله) . قال ابن حجر: ((وأعل البخاري الحديث: بأن عبد الرحمن إنما رواه عن هشام بن حكيم. هكذا رواه معاوية بن صالح وغيره عن راشد بن سعد. وقال معاوية مرة أن عبد الرحمن قال: سمعت، وهو خطأ. ورواه الزبيدي، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، وهشام بن حكيم. وقيل عن الزبيدي: عبد الرحمن، عن أبيه، عن هشام)) (الإصابة 4: 179) . أما الاختلاف الثاني في نسبة بعض رجاله، فإن الذي جاء في الإسناد الأول والثاني: ((عبد الرحمن بن قتادة النصري)) . ثم جاء في الإسناد الرابع ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي)) ، ولم يذكر في ترجمة ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي)) الصحابي أنه يقال له: ((النصري)) ، وسيتبين ذلك في الكلام بعد عن رجال الإسناد. أما الاختلاف الثالث، ففي لفظة. فهذا اللفظ الذي رواه أبو جعفر الطبري هنا برقم 15377، رواه بنحوه البخاري في الكبير 4/2/191، 192، والآجري في كتاب الشريعة: 172، وإسحق ابن راهويه (شفاء العليل:10) ، ومجمع الزوائد 7: 186، والدر المنثور 1: 143، وزاد نسبته إلى البزار والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وكل ذلك عن هشام بن حكيم. وقال الهيثمى في مجمع الزوائد، وذكر هذا الخبر بلفظه، عن هشام بن حكيم، ثم قال: ((رواه البزار، والطبراني. وفيه بقيه بن الوليد، وهو ضعيف، ويحسن حديثه بكثرة الشواهد. وإسناد الطبراني حسن)) . وأما اللفظ الثاني: فهو عبد الرحمن بن قتادة السلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أن الله عز وجل خلق آدم، ثم اخذ الخلق من ظهره. وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي.فقال قائل: يا رسول الله، فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر)) وبهذا اللفظ ونحوه عن عبد الرحمن بن قتاده السلمي الصحابي، رواه احمد في المسند 4: 186، وابن سعد في الطبقات 1 / 1/ 9 ثم 7 / 2 / 135 = ثم ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2 /2 / 276 = ثم الحاكم في المستدرك 1: 31 / مجمع الزوائد 7: 186 / الإصابة 4: 179 / تعجيل المنفعة: 255، 256 / الدر المنشور 1: 144، 145، ونسبه إلى ابن سعد وأحمد. قال الحاكم في المستدرك: ((هذا حديث صحيح، قد اتفقا على الاحتجاج برواته عن آخرهم إلى الصحابة. وعبد الرحمن بن قتادة من بنى سلمة، من الصحابة. وقد احتجا جميعاً بزهير بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس له راو غير أبي عثمان النهدى، وكذلك احتج البخاري بحديث أبي سعيد بن المعلى، وليس له راو غير حفص بن عاصم)) . ووافقه الذهبي. وأما الهيثمى في مجمع الزوائد فقال: ((رواه أحمد، ورجاله ثقات)) ، يعنى الإسناد الرابع الذي ذكرناه، باللفظ الثاني. * * * ثم نقضي إلى القول في ((عبد الرحمن بن قتادة)) . فهو في الإسناد الأول والثاني ((عبد الرحمن بن قتادة النصري)) ، يروى عن أبيه، عن هشام، الحديث باللفظ الأول، ولا يظهر من إسناده أنه صحابي، فإن كان صحابياً، فهو صحابي، يروى عن صحابي، عن صحابي، وهو غريب نادر. فإذا صح ما قاله البخاري أن الراوي هو عبد الرحمن عن هشام، وان قوله: ((عن أبيه)) زيادة، فهو رواية صحابي عن صحابي. ويحتمل أن يكون ((عبد الرحمن بن قتادة النصري)) ، تابعياً. ولكن لم يبين أحد أن ((عبد الرحمن بن قتادة النصري)) ، غير ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي)) ، و ((السلمي)) ، صحابي، كما جاء في نص الإسناد الرابع. وترجم للصحابي ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي)) : ابن سعد 7 / 2 / 135 ثم ابن أبي حاتم 2 / 2 / 276 وقال بعد: ((روى عن هشام بن حكيم، روى عنه راشد بن سعد = ثم الاستيعاب: 398 / وأسد الغابة 3: 319 / وتعجيل المنفعة: 255 / والإصابة 45: 179. ولم يذكر أحد منهم أن هذا ((السلمي)) يقال له ((النصري)) . وهذا غريب أيضا. ثم إنهم ترجموا لأبيه ((قتادة النصري)) في الكبير 4 / 1 / 185، وقال: ((سمع هشام بن حكيم، روى عنه ابنه عبد الرحمن)) ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 135، وقال مثله. أما ((قتادة السلمي)) ، فلم يذكر الموضعين، بل جاء ذكره في ترجمة ((هشام بن حكيم)) في التهذيب، والإصابة. وهذا غريب أيضاً. ((ونسبة السلمي)) ، مضبوطة بالقلم في ابن سعد وغيره بضم السين وفتح اللام، نسبة إلى ((سليم ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان)) وأما الحاكم في المستدرك، فقد بين أنه من ((بني سلمة)) (بفتح السين وكسر اللام) والنسبة إليها ((السلمي)) (بفتحتين) ، وهم من الأنصار. وسواء أكان هذا أو ذاك، فلا أدري كيف يكون ((نصرياً)) من كان من هذه أو تلك. و ((النصري)) فيما أرجح، إنما هو نسبة إلى ((نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة)) ، وهم من أبناء عمومة ((سليم بن منصور)) فجائز أن يكون ((عبد الرحمن بن قتادة)) من بني ((سليم ابن منصور)) ، دخل في بني عمومته ((نصر بن معاوية)) فنسب إليهم أيضاً. ولا حجة لى في ذلك، كما لم أجد حجة لما قاله الحاكم في المستدرك. وقد أطلت في بيان هذا الاضطراب، لأضبطه بعض الضبط. وبعد ذلك كله، فمعنى الحديث صحيح، مروى عن جماعة من الصحابة بأسانيد ليس فيها هذا الاضطراب. وهو اضطراب قديم، كما نصوا على ذلك فيما نقلت آنفاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 15378 - حدثني محمد بن عوف الطائي قال: حدثنا حيوة ويزيد قالا حدثنا بقية، عن الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النصْري، عن أبيه، عن هشام بن حكيم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (1) 15379 - حدثني [عبد الله بن] أحمد بن شبويه قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عمرو بن الحرث قال: حدثنا عبد الله بن مسلم، عن الزبيدي قال: حدثنا راشد بن سعد: أن عبد الرحمن بن قتادة حدّثه: أن أباه حدّثه: أن هشام بن حكيم حدثه: أنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) الأثر: 15378: "محمد بن عوف بن سفيان الطائي" شيخ أبي جعفر، حافظ ثقة من الرواة عن أحمد، مضى برقم: 5445. و"حيوة" هو "حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي فقيه عالم ثقة مضى برقم: 2891، 3179، و"يزيد" هو "يزيد بن هارون" أحد الحفاظ مضى مرارا كثيرة وهذا إسنادا في الخبر السالف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 رجلٌ، فذكر مثله. (1) 15380 - حدثنا محمد بن عوف قال: حدثني أبو صالح قال: حدثنا معاوية، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (2) * * * قال أبو جعفر: واختلف في قوله: (شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) ، فقال السدي: هو خبرٌ من الله عن نفسه وملائكته، أنه جل ثناؤه قال هو وملائكته إذ أقرَّ بنو آدم بربوبيته حين قال لهم (3) ألست بربكم؟ فقالوا: (4) "بلى".   (1) الأثر: 15379 ((عبد الله بن أحمد بن شبوبه)) ، هو ((عبد الله بن أحمد بن محمد بن ثابت المروزى)) ، شيخ أبي جعفر، من أئمة الحديث، مضى مرارًا، منها: 1909، 4612، 4923. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((حدثني أحمد بن شبوبه)) وهو خطأ لا شك فيه، فلذلك زدت] عبد الله بن [بين القوسين، أولاً لأن ((عبد الله)) هو شيخ أبي جعفر الذي يروى عنه، وثانياً، لأن أباه ((أحمد بن شبوبه)) ، مات سنة 230، لم يدرك أبو جعفر لأن يروى عنه. و ((إسحق بن إبراهيم)) هو: ((إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي الزبيدي)) ، ويقال له: ((إسحق بن زبريق)) أو ((ابن زبريق)) ، ثقة، متكلم فيه حسداً. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/380، وابن أبي حاتم 1/1/209. و ((عمرو بن الحارث بن الضحاك الزبيدي الحمصي)) ، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: ((لا تعرف عدالته)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/226، وميزان الاعتدال 2: 284. و ((عبد الله بن سالم الأشعري الوحاظي)) ، وثقه ابن حبان والدارقطني. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 76. وكان في المخطوطة والمطبوعة: ((عبد الله بن مسلم)) . وهو خطأ لا شك فيه. (2) الأثر: 15380 - ((أبو صالح)) هو ((عبد الله بن صالح المصري)) كاتب الليث ابن سعد. ثقة، تكلموا فيه. مضى مرارًا. انظر رقم 186. ((ومعاوية بن صالح الحمصي)) . ثقة، مضى مرارًا. انظر رقم 186 وانظر بعد هذا كله، التعليق على رقم: 15377. (3) في المخطوطة ((حين قيل لهم)) . (4) في المطبوعة ((قالوا بلى)) . ساقها مساق الآية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 فتأويل الكلام على هذا التأويل: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى". فقال الله وملائكته: شهدنا عليكم بإقراركم بأن الله ربكم، كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. وقد ذكرت الرواية عنه بذلك فيما مضى، والخبرَ الآخرَ الذي روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك. (1) * * * وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قيل بعض بني آدم لبعض، حين أشهد الله بعضهم على بعض. وقالوا: معنى قوله: (وأشهدهم على أنفسهم) ، وأشهد بعضهم على بعضٍ بإقرارهم بذلك، وقد ذكرت الرواية بذلك أيضًا عمن قاله قبلُ. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان صحيحًا، ولا أعلمه صحيحًا; لأن الثقات الذين يعتمد على حفظهم وإتقانهم حدَّثوا بهذا الحديث عن الثوري، فوقفوه على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه، ولم يذكروا في الحديث هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طَيبة عنه. (2) وإن لم يكن ذلك عنه صحيحًا، فالظاهر يدلُّ على أنه خبر من الله عن قِيل بني آدم بعضهم لبعض، لأنه جل ثناؤه قال: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) ، فكأنه قيل: فقال الذين شهدوا على المقرِّين حين أقروا، فقالوا: "بلى"=: شهدنا عليكم بما أقررتم به على أنفسكم، كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. * * *   (1) انظر خبر السدي رقم: 15373، وخبر عبد الله بن عمرو: 15354. (2) انظر ما سلف في التعليق على رقم: 15354. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 القول في تأويل قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم أيها المقرُّون بأن الله ربكم، كيلا تقولوا يوم القيامة: "إنا كنا عن هذا غافلين"، إنا كنا لا نعلم ذلك، وكنا في غفلة منه = أو تقولوا: (إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) ، اتبعنا منهاجهم = (أفتهلكنا) ، بإشراك من أشرك من أبائنا، واتباعنا منهاجَهم على جهل منا بالحق؟ ويعني بقوله: (بما فعل المبطلون) ، بما فعل الذين أبطلوا في دَعواهم إلهًا غير الله. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ بعض المكيين والبصريين: "أَنْ يَقُولُوا" بالياء، بمعنى: شهدنا لئلا يقولوا، على وجه الخبر عن الغَيَب. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (أَنْ تَقُولُوا) ، بالتاء على وجه الخطابِ من الشهود للمشهود عليهم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، متَّفقتَا التأويل، وإن اختلفت ألفاظهما، لأن العرب تفعل ذلك في الحكاية، كما قال الله: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) و (لَيُبَيِّنُنَّهُ) [سورة آل عمران: 187] ، وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (1)   (1) انظر ما سلف في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 القول في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما فصلنا يا محمد لقومك آيات هذه السورة، وبيّنا فيها ما فعلنا بالأمم السالفة قبلَ قومك، (1) وأحللنا بهم من المَثُلات بكفرهم وإشراكهم في عبادتي غيري، كذلك نفصل الآيات غيرِها ونبيّنها لقومك، لينزجروا ويرتدعوا، فينيبوا إلى طاعتي ويتوبوا من شركهم وكفرهم، فيرجعوا إلى الإيمان والإقرار بتوحيدي وإفراد الطاعة لي وترك عبادة ما سواي. القول في تأويل قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "واتل"، يا محمد، على قومك = "نبأ الذي آتيناه آياتنا"، يعني خبره وقصته. (2) * * * وكانت آيات الله للذي آتاه الله إياها فيما يقال: اسم الله الأعظم = وقيل: النبوّة. * * * واختلف أهل التأويل فيه. فقال بعضهم: هو رجل من بني إسرائيل. (3)   (1) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف ص: 106، تعليق: 5، والمراجع هناك = وتفسير ((الآية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) . (2) انظر تفسير ((تلا)) فيما سلف: 12: 215، تعليق: 2، والمراجع هناك = وتفسير ((النبأ)) فيما سلف ص: 7 تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر خبر ((بلعم بن باعور)) في تاريخ الطبري 1: 226 - 228. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 * ذكر من قال ذلك: 15381 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في هذه الآية: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو بَلْعَم. 15382 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، مثله. 15383 - .... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: هو بلعم بن أَبَر. 15384 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، في قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بَلْعَم بن أَبَر. 15385 - حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر وابن مهدي وابن أبي عدي، قالوا: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية، فذكر مثله =ولم يقل: "بن أبر". 15386 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أَبَر. 15387 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعر. 15388 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، في قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) إلى (فكان من الغاوين) ، هو بلعم بن أبَر. 15389 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 الثوري، عن الأعمش، عن منصور عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، مثله =إلا أنه قال ابن أَبُر، بضم "الباء". 15390 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم. 15391 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فانسلخ منها) قال: بلعام بن باعر، من بني إسرائيل. 15392 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول، فذكر مثله. 15393 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول، فذكر مثله. 15394 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن وابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن عكرمة قال في الذي (آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو بلعام. 15395 - وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن حصين، عن عكرمة قال: هو بلعم. 15396 - .... قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عكرمة قال: هو بلعم. 15397 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر قال: حدثنا شعبة، عن حصين قال: سمعت عكرمة يقول: هو بلعام. 15398 - حدثنا الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل، عن حصين، عن مجاهد قال: هو بلعم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 15399 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: هو بلعم. = وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت. (1) * * * وقال آخرون: كان بلعم هذا من أهل اليمن. * ذكر من قال ذلك: 15400 - حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو رجل يدعى بلعم، من أهل اليمن. * * * وقال آخرون: كان من الكنعانيين. * ذكر من قال ذلك: 15401 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم. * * * وقال آخرون: هو أمية بن أبي الصلت. * ذكر من قال ذلك: 15402 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سعيد بن السائب، عن غطيف بن أبي سفيان، عن يعقوب ونافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو قال في هذه الآية: (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو أمية بن أبي الصلت. (2)   (1) هذه الجملة، ((وقالت ثقيف ... )) ، حذفت من المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة، ولا أدري أهي من كلام أبي جعفر، أم كلام ابن عباس، أو من كلام بعض رواة خبر ابن عباس. والأرجح أنها من قول بعض رواة الخبر. (2) (2) الأثر:: 15402 - ((سعيد بن السائب بن يسار الثقفي الطائفي)) ، ((سعيد بن أبي حفص)) ثقة، كان بعضهم يعده من الأبدال، وكانت لا تجف له دمعة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 439، وابن أبي حاتم 2/1/30. و ((غطيف بن أبي سفيان الطائفي)) أو ((غضيف)) ، تابعى ثقة. مترجم في التهذيب 0 (غضيف) ، والكبير 4/1/106 (غطيف) ، وابن أبي حاتم 3/2/55، (غضيف) . وكان في المطبوعة: ((غضيف)) ، وأثبت ما في المخطوطة. و ((نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي)) ، تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 84، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 454. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 15403 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي قال: أنبأنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم قال: قال عبد الله بن عمرو: هو صاحبُكم أمية بن أبي الصلت. (1) 15404 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن ووهب بن جرير قالا حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو، بمثله. 15405 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) قال: هو أمية بن أبي الصلت. 15406 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعت نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال: سمعت عبد الله بن عمرو قال في هذه الآية: (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو صاحبكم = يعني أمية بن أبي الصلت. 15407 - .... قال: حدثنا أبي، عن سفيان عن حبيب، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو قال: هو أمية بن أبي الصلت.   (1) الأثر: 15403 - ((يعلى بن عطاء العامري الطائفي)) ، مضى برقم: 2858، 11527، 11529. ((نافع بن عاصم الثقفي)) ، مضى في الأثر السالف، ولذلك قال له عبد الله بن عمرو: ((هو صاحبكم)) ، لأنه ثقفي مثله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 15408 - .... قال: حدثنا يزيد، عن شريك، عن عبد الملك، عن فضالة =أو ابن فضالة= عن عبد الله بن عمرو قال: هو أمية. 15409 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الملك بن عمير قال: تذاكروا في جامع دمشق هذه الآية: (فانسلخ منها) ، فقال بعضهم: نزلت في بلعم بن باعوراء، وقال بعضهم: نزلت في الراهب. (1) = فخرج عليهم عبد الله بن عمرو بن العاص، فقالوا: فيمن نزلت هذه؟ قال: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي. 15410 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو أمية بن أبي الصلت، وقال قتادةُ: يشكّ فيه، يقول بعضهم: بلعم، ويقول بعضهم: أمية بن أبي الصلت. * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في الآيات التي كان أوتيها، التي قال جل ثناؤه: (آتيناه آياتنا) . فقال بعضهم: كانت اسمَ الله الأعظم. * ذكر من قال ذلك: 15411 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: إن الله لما انقضت الأربعون سنة = يعني التي قال الله فيها: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ، [سورة المائدة: 26] بعث يوشع بن نون نبيًّا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبيٌّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبَّارين، فبايعوه وصدَّقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: "بلعم" وكان عالمًا يعلم الاسم   (1) ((الراهب)) ، هو ((أبو عامر الراهب، عبد عمرو بن صيفي من مالك بن النعمان)) ، كان يسمى في الجاهلية ((الراهب)) ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أبا عامر الفاسق)) ، وخبره مشهور في السير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 الأعظم المكتوم، فكفر، وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوةً فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساءَ من عِظَمهنّ، (1) فكان ينكح أتانًا له، (2) وهو الذي يقول الله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) ،: أي تبصَّر، (3) فانسلخ منها، إلى قوله: (ولكنه أخلد إلى الأرض) . (4) 15412 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) قال: هو رجل يقال له: "بلعم"، وكان يعلم اسم الله الأعظم. 15413 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: كان لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه. * * * وقال آخرون: بل الآيات التي كان أوتيها كتابٌ من كتب الله. * ذكر من قال ذلك: 15414 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد، وعكرمة، عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابًا. (5)   (1) في المطبوعة: ((النساء يعظمهن)) ، غير ما في المخطوطة، فأفسد. وإنما عنى عظم نساء الجبارين، وقد وصفوا بأجسام لا يعرف قدرها إلا الله. (2) ((الأتان)) أنثى الحمار. (3) في المطبوعة: ((أي تنصل)) ، وأثبت ما في المخطوطة. أما في التاريخ: ((فبصر)) ، والصواب ما في المخطوطة. (4) الأثر: 15411 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 227، 228، وسيأتي بتمامه برقم: 15423. (5) الأثر: 15414 - سيأتي مطولا برقم: 15432. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 وقال آخرون: بل كان أوتي النبوّة. * ذكر من قال ذلك: 15415 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد، عن غيره = قال: الحارث: قال عبد العزيز: يعني: عن غير نفسه=، عن مجاهد قال: هو نبي في بني إسرائيل، يعني بلعم، أوتي النبوّة، فرشاه قومه على أن يسكت، ففعل وتركهم على ما هُمْ عليه. 15416 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه سُئل عن الآية: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) ، فحدّث عن سَيَّار أنه كان رجلا يقال له "بلعام"، وكان قد أوتي النبوّة، وكان مجابَ الدعوة. (1) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبرَ رجلٍ كان الله آتاه حُجَجه وأدلته، وهي "الآيات". وقد دللنا على أن معنى "الآيات": الأدلة والأعلام، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (2) = وجائز أن يكونَ الذي كان الله آتاه ذلك "بلعم" =وجائز أن يكون أمية. وكذلك "الآيات" إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية، وعناه بها; فجائز أن يكون الذي كان أوتيها "بلعم" =وجائز أن يكون "أمية"، لأن "أمية" كان، فيما يقال، قد قرأ من كتب أهل الكتاب.   (1) الأثر: 15416 - سيأتي بطوله برقم 15420. (2) انظر تفسير ((الآية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على مَنْ أمر نبيَّ الله عليه الصلاة والسلام أن يتلوَ على قومه نبأه =أو بمعنى اسم الله الأعظم= أو بمعنى النبوّة =، فغير جائز أن يكون معنيًّا به "أمية"; لأن "أمية" لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئًا من ذلك، ولا خبرَ بأيِّ ذلك المراد، وأيّ الرجلين المعنيّ، يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أيِّ ذلك المعنيُّ به من أيٍّ. (1) فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ونُقِرّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله. * * * وأما قوله: (فانسلخ منها) ، فإنه يعني: خرج من الآيات التي كان الله آتاها إياه، فتبرَّأ منها. وبنحو ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15417 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: لما نزل موسى عليه السلام .... (2) =يعني بالجبارين= ومن معه، أتاه =يعني بلعم= أتاه بنُو عمّه وقومُه، (3) فقالوا: إن موسى رجلٌ حديد، ومعه جنودٌ كثيرة، وإنه إنْ يظهر علينا يهلكنا. فادع الله أن يردَّ عنَّا موسى ومن معه. قال: إني إنْ دعوت الله أن يردَّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي! فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله: (فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) .   (1) (1) السياق: ((ولا خبر بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعنى ... ولا في العقل دلالة على أي ذلك المعنى به من أي)) . وانظر تفسير ((أي ذلك من أي)) فيما سلف ص: 182، تعليق: 1، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((على أن ذلك المعنى به من أي)) ، والصواب ما أثبت. (2) في المخطوطة، بياض بعد ((عليه السلام)) ، وبالهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ. (3) في المطبوعة، حذف ((أتاه)) الثانية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 15418 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الله آتاه آياته فتركها. 15419 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس: (فانسلخ منها) قال: نزع منه العلم. * * * وقوله: (فأتبعه الشيطان) ، يقول: فصيَّره لنفسه تابعًا ينتهي إلى أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربِّه في معصية الشيطان وطاعةِ الرحمن. * * * وقوله: (فكان من الغاوين) ، يقول: فكان من الهالكين، لضلاله وخلافه أمر ربه، وطاعة الشيطان. (1) القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه = (ولكنه أخلد إلى الآرض) ، يقول: سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض، ومال إليها، وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة= "واتبع هواه"، ورفض طاعة الله وخالَف أمرَه. * * * وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبرَه في هذه الآية، على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره، ما:- 15420 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه:   (1) انظر تفسير ((غوى)) فيما سلف 5: 416 / 12: 333 / 13: 114. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 أنه سئل عن الآية: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) ، فحدّث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوّة، وكان مجاب الدعوة (1) قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام =أو قال الشأم= قال: فرُعب الناس منه رعْبًا شديدًا. قال: فأتوا بلعام، (2) فقالوا: ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال: حتى أُوَامر ربّي =أو حتى أؤامر (3) = قال: فوامر في الدعاء عليهم، (4) فقيل له: لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم! قال: فقال لقومه: إني قد وَامَرْتُ ربي في الدعاء عليهم، (5) وإني قد نهيت. قال: فأهدوا إليه هدية فقبلها. ثم راجعوه، فقالوا: ادع عليهم! فقال: حتى أوامر! فوامر، فلم يَحُر إليه شيء. (6) قال: فقال: قد وامرت فلم يَحُرْ إليَّ شيء! (7) فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم، لنهاك كما نهاك المرةَ الأولى. (8) قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم جَرَى على لسانه الدُّعاء على قومه; وإذا أراد أن يدعو أن يُفْتَح لقومه، دعا أن يفتَح لموسى وجيشه =أو نحوا من ذلك إن شاء الله. فقال: فقالوا ما نراك تدعو إلا علينا! قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه ما استجيب لي، ولكن سأدلّكم على أمرٍ عَسَى أن يكون فيه هلاكهم: إن الله يُبْغِض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء فليستقبلنهم، (9) وإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنُوا فيهلكوا. قال: ففعلوا، وأخرجوا النساء يستقبلنهم. (10) قال: وكان للملك ابنة، فذكر من عِظَمها ما الله أعلم به! قال: فقال أبوها، أو بلعام: لا تُمْكِني نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل، فأرادها على نفسه قال: فقالت: ما أنا بممكنةِ نفسِي إلا من موسى! قال: فقال: إنّ من منزلتي كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا! قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال: فقال لها: فأمكنيه. (11) قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما قال: وأيَّده الله بقوة فانتظمهما جميعًا، ورفعهما على رمحه. (12) قال: فرآهما الناس =أو كما حدَّث. قال: وسلط الله عليهم الطاعون. قال: فمات منهم سبعون ألفا. قال: فقال أبو المعتمر: فحدثني سَيّار أن بلعامًا ركب حمارةً له، حتى إذا أتى الفُلول =أو قال: طريقًا بين الفُلول (13) = جعل يضربها ولا تُقْدِم. (14) قال: وقامت عليه، فقالت: علامَ تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك! قال: فإذا الشيطان بين يديه. قال: فنزل فسجد له، قال الله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) إلى قوله: (لعلهم يتفكرون) = قال: فحدثني بهذا سيّار، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره. (15) 15421 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه قال: وبلغني حديث رجلٍ من أهل الكتاب يحدّث: (16) أن موسى سأل الله أن يطبَعه، وأن يجعله من أهل النار. قال: ففعل الله. قال: أنبئت أن موسى قَتَله بعدُ. 15422 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضر، أنه حدَّث: أن موسى لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشأم = [وكان بلعم ببالعة، قرية من قرى البلقاء. فلمَّا نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل] (17) أتى قومَ بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، إن هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويُحِلُّها بني إسرائيل ويُسْكنها، وإنّا قومك، وليس لنا منزلٌ، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادعُ الله عليهم! (18) فقال: ويلكم! نبيُّ الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذْهبُ أدعو عليهم، وأنا أعلم من لله ما أعلم!! قالوا: ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرقِّقُونه، ويتضَرَّعون إليه، (19) حتى فتنوه فافتُتِن. فركب حمارةً له متوجِّهًا إلى الجبل الذي يطلعه على   (1) انظر الأثر السالف رقم: 15416. (2) في المطبوعة: ((بلعاماً)) بصرف الاسم الأعجمى. (3) الثانية ((أؤامر)) بالهمز، وهي اللغة الفصحى. والأولى: ((أوامر)) بالواو، بطرح الهمز، وليست بفصيحة، ولكن جرى بها هذا الخبر. وانظر التعليق التالي. (4) في المطبوعة: ((فآمر عليهم)) ، وأثبت ما في المخطوطة. ((وامر)) ، مثل ((آمر)) ، ولكنها لغة غير مستجادة. وانظر التعليق السالف. (5) في المطبوعة: ((إني آمرت)) ، حذف ((قد)) ، وجعل ((وامرت)) ((آمرت)) ، وتابعت المخطوطة، كما أسلفت في التعليقات السالفة وفي الآتية أيضاً. (6) عبث الناشر بهذه الجملة بالزيادة والتحريف والحذف، فجعلها هكذا: ((فقال: حتى أوامر ربى، فآمر، فلم يأمره بشيء)) . وأثبت الصواب من المخطوطة ((أوامر)) و ((وامر)) كل ذلك كما جرى عليه ما سلف، بالواو. وأما قوله: ((فلم يحر إليه شيء)) ، أي: لم يرجع إليه شيء. ((حار إليه يحور حوراً)) ، رجع إليه، ومنه حاوره محاورة حواراً)) في الكلام. وقولهم ((أحار عليه جوابه)) ، و ((أحرت له جواباً)) ، و ((ما أحار بكلمة)) . (7) جعلها في المطبوعة أيضاً: ((قد وامرت فلم يأمرني بشيء)) ، وانظر التعليق السالف. (8) في المطبوعة: ((في المرة الأولى)) ، زاد ((في)) ، والذي في المخطوطة أعلى. (9) في المطبوعة: ((لتستقبلهم)) ، حذف الفاء والنون. (10) في المطبوعة ((تستقبلهم)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (11) في المطبوعة: ((مكنيه)) ، غير ما في المخطوطة. (12) في المخطوطة، أسقط ((ورفعهما)) ، والصواب ما في المطبوعة، وابن كثير. (13) في المطبوعة، وتفسير ابن كثير: (( ... أتى المعلولى = أو قال: طريقاً من المعلولى)) ، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: ((العلول)) و ((بين العلول)) ، وصححت قراءتها كما أثبتها، لأن جيش موسى لما نزل به العذاب، فهلك منه سبعون ألفاً، صار من بقى منه فلولا. هذا ما رجحته. (14) في المطبوعة: ((ولا تتقدم)) ، كما في ابن كثير، وأثبت ما في المخطوطة. (15) الأثر: 15420 - ((المعتمر)) هو ((المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي)) ، الإمام المشهور، مضى مرارًا. وأبوه، هو ((سليمان بن طرخان التيمي)) ، ويعرف بالتيمي، وكنيته ((أبو المعتمر)) ، مضى مرارًا. و ((سيار)) الذي روى عنه هو: ((سيار بن سلامة)) ، أبو المنهال الرياحي، الثقة المعروف، مضى برقم: 5478. وهذا الخبر، رواه ابن كثير في تفسيره 3: 595، 596، والسيوطي في الدر المنثور 3: 147، مختصراً. (16) في المطبوعة: ((فبلغنى)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (17) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري. (18) في المطبوعة: ((وادع)) بالواو، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (19) في المطبوعة: ((يرفعونه)) ، وفي التاريخ: ((يرفقونه)) ، والصواب ما أثبت، من ((الرقة)) ، وهي الرحمة والشفقة، يعنى ما زالوا به لكى يرق لهم قلبه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 عسكر بني إسرائيل. وهو جبل حُسْبَان. (1) فلما سار عليها غير كثير ربضت به، (2) فنزل عنها، فضربها، حتى إذا أذْلَقها قامت فركبها (3) فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به. ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به. فضربها حتى إذا أذلقها، أذن الله لها، فكلمته حُجَّةً عليه، فقالت: ويحك يا بلعم! أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردُّني عن وجهي هذا؟ (4) أتذهب إلى نبيّ الله والمؤمنين تدعو عليهم! فلم ينزع عنها يضربها، (5) فخلَّى الله سبيلها حين فعل بها ذلك. قال: فانطلقت حتى أشرفت به على رأس جبل حُسْبان (6) على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيءٍ إلا صرف به لسانه إلى قومه، (7) ولا يدعو لقومه بخير إلا صُرِف لسانه إلى بني إسرائيل. قال: فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا! قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيءٌ قد غلب الله عليه. قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، (8) فقال لهم: قد ذهبت الآنَ منّي الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتالُ، جمِّلوا النساء وأعطوهنّ السِّلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنَها فيه، ومُرُوهنَّ فلا تمنع امرأة نفسَها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى منهم واحدٌ كُفِيتُمُوهم! ففعلوا; فلما دخل النساءُ العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها "كسبَى ابنة صور"، رأس أمته، برجل من عظماء بني إسرائيل، (9) وهو زمري بن شلوم، رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقولُ هذه حرام عليك؟ فقال: أجل هي حرام عليك لا تقربْها! قال: فوالله لا نُطِيعك في هذا، (10) فدخل بها قُبَّته فوقع عليها. وأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحبَ أمر موسى، وكان رجلا قد أعطي بَسطَةً في الخلق وقوة في البطش، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع. فجاء والطَّاعون يحوس في بني إسرائيل، (11) فأخبر الخبرَ، فأخذ حَرْبته. وكانت من حديد كلها، ثم دخل عليه القبة وهما متضاجعان، (12) فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصِرته، وأسند الحرية إلى لَحْيَيه، (13) =وكان بكر العيزار=، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك! ورُفع الطاعون، فحُسِب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون، فيما بين أنْ أصاب زِمري المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوُجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا، =والمقلّل يقول: عشرون ألفاً= في ساعة من النهار. فمن هنالك تُعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كلِّ ذبيحةٍ ذبحُوها القِبَةَ والذراع واللَّحْي، (14) لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إيّاها إلى لحييه (15) =والبكرَ من كل أموالهم وأنفسُهم، لأنه كان بكر العيزار. ففي بلعم بن باعور، أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) ، يعني بلعم، (فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) ،.. إلى قوله: (لعلهم يتفكرون) (16) 15423 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: انطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم، فأتى الجبارين فقال: لا ترهبوا من بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم فيهلكون (17) فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس. وخرج بلعم مع الجبّارين على أتانه وهو يريد أن يلعَنَ بني إسرائيل، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل، دعا على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنّما تدعو علينا! فيقول: إنما أردت بني إسرائيل. فلما بلغ باب المدينة، أخذ ملك بذنب الأتان، فأمسكها، فجعل يحرِّكها فلا تتحرك، فلما أكثر ضَرْبها، تكلمت فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار؟ ويلي منك! ولو أنِّي أطقتُ الخروج لخرجتُ، ولكن هذا المَلَك يحبسني. وفي بلعم يقول الله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) (18) .. الآية. 15424 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثني رجل   (1) في المطبوعة: ((جبل حسان)) ، وفي المخطوطة: ((حسان)) غير منقوطة، وأثبت ما وافق رسمها في التاريخ، يضبطه هناك، ولم أجد له ذكراً في معاجم البلدان. (2) في التاريخ: ((فما سار عليها غير قليل حتى ربضت به)) . (3) ((الإذلاق)) : أن يبلغ منه الجهد، حتى يقلق ويتضور، وفي حديث ماعز: ((أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجمه، فلما أذلقته الحجارة جمز وفر)) ، أي بلغت منه الجهد حتى قلق. (4) في ى المطبوعة: ((أما ترى الملائكة تردني)) ، وفي المخطوطة: ((ألا ترى الملائكة ألا تردني عن وجهي)) ، وأثبت ما في التاريخ. (5) في المطبوعة ((فضربها)) ، والصواب من المخطوطة والتاريخ. (6) في المطبوعة: ((فأنطلقت به حتى إذا أشرفت على رأس ... )) ، وفي المخطوطة أسقط (به)) من الجملة كلها وأثبت ما في التاريخ، وإن كان هناك ((على جبل حسبان)) ، بغير ((رأس)) . وانظر ((حسبان)) في التعليق: 1، فقد كان في المطبوعة هنا، كمثله هناك. (7) في المطبوعة: ((ولا يدعو ... بشر)) ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (8) ((اندلع لسانه)) : خرج من الفم، واسترخى، وسقط على العنفقة كلسان الكلب. وفي أثر آخر عن بلعم: ((إن الله لعنه، فأدلع لسانه، فسقطت أسلته على صدره، فبقيت كذلك)) . (9) في التاريخ: ((رأس أمته وبنى أبيه، من كان منهم في مدين، هو كان كبيرهم، برجل ... )) . (10) في المطبوعة: ((لا أطيعك)) ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. (11) في المخطوطة، والتاريخ: ((يحوس)) بالحاء المهملة. من قولهم: ((تركت فلاناً يحوس بنى فلان ويجوسهم)) (بالجيم أيضاً) يتخللهم، ويطلب فيهم، ويدوسهم. و ((الذئب يحوس الغنم)) ، يتخللها ويفرقها. وفي المطبوعة: ((يجوس)) بالجيم. (12) في التاريخ: ((عليهما القبة) 9. (13) في التاريخ والمخطوطة: (0 لحيته)) ، والصواب ما في المطبوعة، كما سيأتي دليل ذلك من إعطاء بنى إسرائيل ((اللحى)) بنى فنخاص. (14) في المطبوعة: ((الفشة)) ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ و ((القبة)) (بكسر القاف وفتح الباء مخففة) وهي من الكرش، ((الحفث)) (بفتح فكسر) ذات الطرائق من الكرش، و ((القبة)) الأخرى إلى جنبه، وليس فيها طرائق. (15) قوله: ((والبكر)) معطوف على قوله: ((تعطى بنى إسرائيل ... القبة ... )) . (16) الأثر: 15422 - رواه ابن جرير في تاريخه 1: 226، 227. (17) ((فيهلكون)) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وهي ثابتة في الأثر السالف 15411، وفي التاريخ. (18) الأثر: 15423 - مضى برقم: 15411، وهو في التاريخ 1: 227، 228. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 سمع عكرمة، يقول: قالت امرأة منهم: أروني موسى، فأنا أفتنه! قال: فتطيَّبت، فمرت على رجلٍ يشبه موسى، فواقعها، فأُتي ابنُ هارون فأُخبر، فأخذ سيفا، فطعن به في إحليله حتى أخرجه وأخرجه من قُبُلها (1) ثم رفعهما حتى رآهما الناس، فعلم أنه ليس موسى، ففضل آلُ هارون في الْقُرْبان على آل موسى بالكتد والعضُد والفَخِذ (2) قال: فهو الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، يعني بلعم. * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ولو شئنا لرفعناه بها) . فقال بعضهم: معناه: لرفعناه بعلمه بها. *ذكر من قال ذلك. 15425 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (ولو شئنا لرفعنا بها) ، لرفعه الله تعالى بعلمه. * * * وقال آخرون: معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا. * ذكر من قال ذلك: 15426 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ولو شئنا لرفعنا بها) ،: لدفعناه عنه. (3) 15427 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولو شئنا لرفعناه بها) ،: لدفعناه عنه. (4) * * *   (1) في المطبوعة، أسقط ((وأخرجه)) من الكلام، وهي في المخطوطة.ومع ذلك فأنا في شك من العبارة كلها. ولو قال: ((من دبرها)) ، لاستقام الكلام بعض الشيء، ولظهرت الصورة بعض الظهور. (2) في المطبوعة ((باكتف والعضد)) ، وفي المخطوطة: ((بالكتاب)) ، ولعل صوابها ما قرأت ((الكتد)) ، هو مجتمع الكتفين. والله أعلم أي ذلك هو الصواب. (3) في المطبوعة: ((لرفعنا عنه بها)) ، لا أدرى من أين جاء بذلك، وأثبت ما في المخطوطة. و ((لدفعنا)) بالدال. (4) في المطبوعة: ((لرفعنا عنه)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عمّ الخبر بقوله: (ولو شئنا لرفعناه بها) ، أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها. والرفع يَعمُّ معاني كثيرة، منها الرفع في المنزلة عنده، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها. ومنها الرفع في الذكر الجميلِ والثّناء الرفيع. وجائزٌ أن يكون الله عنى كلَّ ذلك: أنه لو شاء لرفعه، فأعطاه كل ذلك، بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه. وإذ كان ذلك جائزًا، فالصواب من القول فيه أن لا يخصَّ منه شيء، إذ كان لا دلالة على خصوصه من خبرٍ ولا عقلٍ. وأما قوله: (بها) ، فإن ابن زيد قال في ذلك كالذي قلنا. 15428 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (ولو شئنا لرفعناه بها) ، بتلك الآيات. وأما قوله: (ولكنه أخلد إلى الأرض) ، فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا فيه. * ذكر من قال ذلك: 15429 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ولكنه أخلد إلى الأرض) ، يعني: ركن إلى الأرض. 15430 - .... قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (ولكنه أخلد إلى الأرض) قال: نزع إلى الأرض. 15431 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أخلد": سكن. 15432 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة، عن ابن عباس قال: كان في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابا، فأخلد إلى شهوات الأرض ولذتِها وأموالها، لم ينتفع بما جاء به الكتاب. (1) 15433 - حدثنا موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) ، أما (أخلد إلى الأرض) : فاتبع الدنيا، وركن إليها. قال أبو جعفر: وأصل "الإخلاد" في كلام العرب: الإبطاء والإقامة، يقال منه: "أخلد فلان بالمكان"، إذا أقام به وأخلد نفسه إلى المكان" إذا أتاه من مكان آخر، (2) ومنه قول زهير: لِمَنْ الدِّيَارُ غَشِيتُهَا بِالْفَدْفَدِ كَالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ المُخْلِدِ (3) يعني المقيم، ومنه قول مالك بن نويرة: بِأَبْنَاء حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مَالِكٍ وَعْمْرِو بن يَرْبُوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا (4)   (1) الأثر: 15432 - مضى مختصراً برقم: 15414. (2) هذا التفسير الأخير، لا تجده في شيء من معاجم اللغة، فقيده. (3) ديوانه: 268، واللسان (خلد) ، مطلع قصيدته في سنان بن أبي حارثة المرى، وكان في المطبوعة: ((غشيتها بالغرقد)) ، والصواب ما في المخطوطة والديوان، وإنما تابع ناشر المطبوعة، ما كان في اللسان، فأخطأ بخطئه. و ((الفدفد)) الموضع فيه غلظ وارتفاع، أو هي الأرض المستويه.، و ((الوحى)) الكتابة. وقوله: ((حجر المسيل)) ، لأنه أصلب الحجارة، فالكتابة فيه أبقى، ويضربه السيل لخلوده فيأخذ منه، فتخفي الكتابة. فشبه آثار الديار، بباقى الكتابة على صخرة ينتابها السيل، فيمحو جدة ما كتب فيها. (4) الأصمعيات: 323، من قصيدته قالها في يوم مخطط، وقبله، وهو أول الشعر: إلا أكُنْ لاقَيْتُ يومَ مخطط ... فقد خبر الرُّكْبَانُ ما أتَوَدَّدُ أتاني بنفر الخير ما قد لقيته ... رزين، وركب حوله متعضدُ يهلون عمارًا، إذا ما تغوروا ... ولاقوا قريشًا خبروها فأنجدُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 وكان بعض البصريين يقول معنى قوله: "أخلد": لزم وتقاعسَ وأبطأ، و"المخلد" أيضًا: هو الذي يبطئ شيبُه من الرجال =وهو من الدواب، الذي تبقى ثناياه حتى تخرج رَباعيتاه. (1) * * * وأما قوله: (واتبع هواه) ، فإن ابن زيد قال في تأويله، (2) ما: 15434- حدثني به يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (واتبع هواه) قال: كان هَواهُ مع القوم. * * * القول في تأويل قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فمثل هذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، مثلُ الكلب الذي يلهث، طردْته أو تركته. * * * ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله جَعَل الله مثَله كمثل الكلب. فقال بعضهم: مثَّله به في اللهث، لتركه العمل بكتابِ الله وآياته التي آتاها إياه، وإعراضِه عن مواعظ الله التي فيها إعراض من لم يؤته الله شيئًا من ذلك. فقال جل ثناؤه فيه: إذْ كان سواء أمرُه، وُعِظَ بآيات الله التي آتاها إياه، أو لم يوعظ، في أنه لا يتَّعظ بها، ولا يترك الكفر به، فمثله مثل الكلب الذي سواءٌ أمره في لهثه، طرد أو لم يطرد، إذ كان لا يتركُ اللهث بحال.   (1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 233 / ثم معاني القرآن للفراء 1: 399. (2) في المطبوعة ((كان أبن زيد قال ... )) ، وهو سيء جداً، لم يحسن قراءة المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 * ذكر من قال ذلك: 15435 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث) قال: تطرده، هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعملُ به. 15436 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج قال: قال ابن جريج قال مجاهد: (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث) قال: تطرده بدابتك ورجلك = "يلهث"، قال: مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه = قال ابن جريج: الكلب منقطِع الفؤاد، (1) لا فؤاد له، إن حملت عليه يلهث، أو تتركه يلهث. قال: مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطع. 15437 - حدثني ابن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن بعضهم: (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) ، فذلك هو الكافر، هو ضالٌّ إن وعظته وإن لم تعظه. (2) 15438 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (فمثله كمثل الكلب) إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضًا لهث وإن طرد لَهَث. 15439 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: آتاه الله آياته فتركها،   (1) سقطت ((منقطع)) من المخطوطة، وهي في سائر المراجع كما في المطبوعة. (2) الأثر: 15437 - ((ابن عبد الأعلى)) ، هو ((محمد بن عبد الأعلى)) . و ((ابن ثور)) ، هو ((محمد بن ثور)) وكان في المطبوعة والمخطوطة ((ابن توبة)) ، وهو خطأ لا شك فيه، بل هذا، اختصار الإسناد الذي سلف مرارًا، وآخره رقم: 15410، وكأنه يعنى بقوله: ((عن بعضهم)) : الكلبى، ولذلك فكره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 فجعل الله مثله كمثل الكلب: "إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث". 15440 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان) ، الآية، هذا مثلٌ ضربه الله لمن عُرِض عليه الهدى، فأبى أن يقبله وتركه = قال: وكان الحسن يقول: هو المنافق = "ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" قال: هذا مثل الكافر ميتُ الفؤاد. * * * وقال آخرون: إنما مثّله جل ثناؤه بالكلب، لأنه كان يلهث كما يلهثُ الكلب. * ذكر من قال ذلك: 15441 - حدثنا موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) ، وكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب. وأما "تحمل عليه": فتشدُّ عليه. * * * قال: أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: إنما هو مثلٌ لتركه العمل بآيات الله التي آتاها إياه، وأنّ معناه: سواء وعظ أو لم يوعظ، في أنه لا يترك ما هو عليه من خلافه أمر ربّه، كما سواءٌ حمل على الكلب وطُرِد أو ترك فلم يطرد، في أنه لا يدَع اللهث في كلتا حالتيه. وإنما قلنا: ذلك أولى القولين بالصواب، لدلالة قوله تعالى: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) ، فجعل ذلك مثلَ المكذِّبين بآياته. وقد علمنا أن اللُّهَاث ليس في خِلقة كل مكذّب كُتب عليه ترك الإنابة من تكذيبه بآيات الله، (1) وأن ذلك إنما هو مثل ضربه الله لهم، فكان معلوما بذلك أنه للذي وصف الله صفته في هذه الآية، كما هو لسائر المكذبين بآيات الله، مثلٌ. (2)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((من تكذيب)) ، والذي أثبت أرجح عندي في سياقه. (2) السياق "أنه للذي وصف الله صفته ... مثل: خبر "أن". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذا المثل الذي ضربتُه لهذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، مثلُ القوم الذين كذبوا بحُججنا وأعلامنا وأدلَّتنا، فسلكوا في ذلك سبيل هذا المنسلِخ من آياتنا الذي آتيناها إياه، في تركه العمل بما آتيناه من ذلك. * * * وأما قوله: (فاقصص القصص) ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاقصص، يا محمد، هذا القصص، الذي اقتصصته عليك (1) = من نبأ الذي آتيناه آياتنا، وأخبارَ الأمم التي أخبرتك أخبارهم في هذه السورة، واقتصَصْت عليك نبأهم ونبأ أشباههم، (2) وما حلّ بهم من عقوبتنا، ونزل بهم حين كذبوا رسلَنا من نقمتنا= (3) على قومك من قريش، ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل، ليتفكروا في ذلك، فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا، لئلا يحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النّقم والمثلات، ويتدبَّره اليهود من بني إسرائيل، فيعلموا حقيقةَ أمرك وصحَّة نبوّتك، إذ كان نبأ "الذي آتيناه آياتنا" من خفيّ علومهم، ومكنون أخبارهم، لا يعلمه إلا أحبارُهم، ومن قرأ الكُتب ودرسها منهم. وفي علمك بذلك =وأنت أميٌّ لا تكتب، ولا تقرأ، ولا تدرس الكتب، ولم تجالس أهل العلم= الحُجَّة البينة لك عليهم بأنك لله رسول، وأنك لم تعلم ما علِمت من ذلك، وحالُك الحال التي أنت بها، إلا بوحي من السماء. (4) * * *   (1) في المطبوعة: ((الذي قصصته) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: ((وقصصت نبأئهم)) ، غير ما في المخطوطة، كالتعليق السالف. (3) السياق: ((فاقصص يا محمد هذا القصص الذي اقتصصته عليك ... )) على قومك من قريش)) . (4) انظر تفسير ((القصص)) فيما سلف ص: 7، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 وبنحو ذلك كان أبو النضر يقول. 15442 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد، عن سالم أبي النضر: (فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون) ، يعني: بني إسرائيل، إذ قد جئتهم بخبر ما كان فيهم ممّا يخفُون عليك ="لعلهم يتفكرون"، فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عمّا مضى فيهم إلا نبيٌّ يأتيه خبرُ السماء. * * * القول في تأويل قوله: {سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ساءَ مثلا القوم الذين كذبوا بحجج الله وأدلته فجحدوها، وأنفسَهم كانوا ينقصُون حظوظَها، ويبخسونها منافعها، بتكذيبهم بها لا غيرَها. * * * وقيل: "ساء مثلا" من السوء"، (1) بمعنى: بئس مثلا (2) = [مَثَل القوم] (3) = وأقيم "القوم" مقام "المثل"، وحذف "المثل"، إذ كان الكلام مفهومًا معناه، كما قال جل ثناؤه: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) ، [سورة البقرة: 177] فإن معناه: ولكن البرَّ، برُّ من آمن بالله =وقد بينا نظائر ذلك في مواضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته. (4) * * *   (1) في المطبوعة: ((من الشر)) ، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت. (2) الكلام. انظر تفسير ((ساء)) فيما سلف 8: 138، 358 / 9: 101، 205 / 10: 465 = والنحاة يعدون ((ساء)) فعلا جامدا يجرى مجرى ((نعم)) و ((بئس)) . (3) ما بين القوسين زيادة لا يتم الكلام إلا بها، ولكن الناسخ خلط في هذه الجملة خلطاً شديداً، فحذف من قوله بعد: ((ولكن البر بر من آمن)) ، كلمة ((بر)) ، ففسد الكلام. (4) انظر التعليق السالف رقم: 2، ثم 3: 338، 339 / 10: 313، وما سلف من فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها، في باب الحذوف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 القول في تأويل قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الهداية والإضلال بيد الله، و"المهتدي" =وهو السالك سبيل الحق، الراكبُ قصدَ المحجّة= في دينه، مَن هداه الله لذلك، فوفَّقه لإصابته. والضالُّ من خذله الله فلم يوفقه لطاعته، ومن فعل الله ذلك به فهو "الخاسر": يعني الهالك. * * * وقد بيّنا معنى "الخسارة" و"الهداية"، و"الضلالة" في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * *   (1) انظر تفسير هذه الألفاظ في فهارس اللغة (هدى) ، (خسر) ، (ضلل) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا لجهنّم كثيرًا من الجن والإنس. * * * يقال منه: ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذَرْءًا. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير ((ذرأ)) فيما سلف 12: 130، 131، وهناك زيادة في مصادره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 15443 - حدثني علي بن الحسين الأزدي قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس) قال: مما خلقنا. (1) 15444 - .... حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن مبارك، عن الحسن، في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم) قال: خلقنا. 15445 - .... قال: حدثنا زكريا، عن عتاب بن بشير، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير قال: أولاد الزنا ممّا ذرأ الله لجهنم. 15446 - قال: حدثنا زكريا بن عدي، وعثمان الأحول، عن مروان بن معاوية، عن الحسن بن عمرو، عن معاوية بن إسحاق، عن جليس له بالطائف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لما ذرأ لجهنم ما ذرأ، كان ولدُ الزنا ممن ذرأ لجهنم". (2) 15447 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال:   (1) (1) الأثر: 15443 - ((على بن الحسن الأزدي)) ، وفي المطبوعة والمخطوطة: ((على بن الحسين)) ، وتبعت ما مضى برقم 10258، لموافقته لما في تاريخ الطبري. وقد ذكرت هناك أنى لم أجد له ترجمة، وبينت مواضع روايته عنه في التاريخ. ووقع هناك خطأ، فإن الذي في الإسناد ((على بن الحسن)) ، وكتبت أنا في الهامش والتعليق: ((على بن الحسين)) ، وكذلك فعلت في الفهارس، فليصحح ذلك. ووقع خطأ آخر في الفهارس، كتبت رقم: (10285) ، وصوابه (10258) . (2) الأثر: 15446 - ((زكريا بن عدى بن زريق التيمى)) ، شيخ أبي كريب، وهو راوى الخبر، ثقة جليل، مضى برقم: 1566. ((عثمان الأحول)) ، شيخ أبي كريب، هو ((عثمان بن سعيد القرشي)) ، الزيات الأحول الطيب الصائغ. مضى برقم: 137، 11547. و ((مروان بن معاوية الفزارى)) ، الحافظ الثقة، مضى برقم: 1222، 3322، 3842، 7685. و ((الحسن بن عمرو الفقيمى التميمى)) ، ثقة أخرج له البخاري في صحيحه، مضى برقم: 3765. و ((معاوية بن إسحق بن طلحة التيمى)) ، تابعى ثقة، مضى برقم: 3226. وهذا إسناد ضعيف، لجهالة من روى عنه ((معاوية بن إسحق)) ، وهو ((جليس له بالطائف)) . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 147، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ وابن مردويه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد ذرأنا لجهنم) ، يقول: خلقنا. 15448 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم) قال: لقد خلقنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس. 15449 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (ولقد ذرأنا لجهنم) ، خلقنا. * * * قال أبو جعفر: وقال جل ثناؤه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس) ، لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربِّهم. * * * وأما قوله: (لهم قلوبٌ لا يفقهون بها) ، فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته، ولا يعتبرون بها حُجَجه لرسله، (1) فيعلموا توحيد ربِّهم، ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم. فوصفهم ربُّنا جل ثناؤه بأنهم: "لا يفقهون بها"، لإعراضهم عن الحق وتركهم تدبُّر صحة [نبوّة] الرسل، (2) وبُطُول الكفر. وكذلك قوله: (ولهم أعين لا يبصرون بها) ، معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، فيتأملوها ويتفكروا فيها، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم، وفسادِ ما هم عليه مقيمون، من الشرك بالله، وتكذيب رسله; فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحقّ، بأنهم لا يبصرون بها. (3) وكذلك قوله: (ولهم آذان لا يسمعون بها) ، آيات كتاب الله، فيعتبروها ويتفكروا فيها، ولكنهم يعرضون عنها، ويقولون: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا   (1) انظر تفسير ((الفقه)) فيما سلف 11: 572، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة والمخطوطة: ((صحة الرشد)) ، ولا معنى لها، واستظهرت الصواب من سياق تفسيره، وزدت] نبوة [بين القوسين، لتطلب الكلام لها. (3) في المطبوعة: ((بأنهم لا يبصرون)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ، [سورة فصلت: 26] . وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، [سورة البقرة: 171] .والعرب تقول ذلك للتارك استعمالَ بعض جوارحه فيما يصلح له، ومنه قول مسكين الدارمي: أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي السِّتْرُ (1) وَأَصَمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا ... سَمْعِي وَمَا بِالسَّمْعِ مِنْ وَقْرِ فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم. ومنه قول الآخر: (2) وَعَوْرَاءُ اللِّئَامِ صَمَمْتُ عَنْهَا ... وَإِنِّي لَوْ أَشَاءُ بِهَا سَمِيعُ (3) وَبَادِرَةٍ وَزَعْتُ النَّفْسَ عَنْهَا ... وَقَدْ تَثِقَتْ مِنَ الْغَضَبِ الضُّلُوعُ (4)   (1) أمالي المرتضى 1: 43: 44 ثم 474، من قصيدة رواها وشرحها، وخزانة الأدب 1: 468، وصواب رواية البيت الأول: ((جارتى الخدر)) ، لأن قبله: ما ضر جارى إذ أجاوره ... أن لا يكون لبيته ستر ورواية الشطر الثاني: ((سمعى، وما بى غيره وقر)) ، بغير إقواء. (2) هو عبد الله بن مرة العجلي. (3) حماسة البحترى: 172، وأنسيت أين قراتها في غير الحماسة. والذي في حماسة البحترى: ((وعوراء الكلام)) ، وكانت في المخطوطة: و ((عوراء اللام)) ، وكأن الصواب ما في الحماسة. و ((العوراء)) ، الكلمة القبيحة، أو التي تهوى جهلا في غير عقل ولا رشد. ومن أجود ما قيل في ذلك، قول حاتم الطائي، أو الأعور الشني:وعَوْرَاءُ جَاءَتْ مِنْ أخٍ فَرَدَدْتُها ... بسَالِمَةِ العَيْنين طَالِبة عُذْرَا ولو أنَّنى إذ قَالها قلتُ مثلَها ... ولم أعْفُ عنها، أوْرَثتْ بيْنَنَا غَمْرَا فأعْرَضْتُ عَنْهُ وانتظرتُ به غَدا ... لعلَّ غدًا يُبْدِي لمنتظرٍ أمْرَا وقلتُ له: عد بالأخوة بينَنا! ... ولم أتَّخِذ ما كان من جَهْلِه قمرَا لأنزع ضبًّا كامنًا في فؤادِه ... وأُقَلِّمُ أظفارًا أطَالَ بها الحفرَا (4) في المطبوعة: ((ولو بنيت من العصب)) ، وهو كلام فاسد، غير ما في المخطوطة، وكان فيها ((وقد نتقت من العصب)) ، غير منقوطة، فلم يفهمها، فأتى بما لا يعقل. وفي حماسة البحترى: ((إذا تيقت)) ، ووضع كسرة تحت التاء، وفتح القاف. ولا معنى له. و ((البادرة)) ، الخطأ والسقطات التي تسبق من المرء إذا ما غضب واحتد، من فعل أو قول. و (وزع النفس عن الشيء)) ، كفها وحبسها. و ((تئق الرجل)) ، امتلأ غضباً وغيظاً. و ((التأق)) ، شدة الامتلاء حتى لا موضع لمزيد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 وذلك كثير في كلام العرب وأشعارها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * * * * ذكر من قال ذلك: 15450 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (لهم قلوب لا يفقهون بها) قال: لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة = (ولهم أعين لا يبصرون بها) ، الهدى= (ولهم آذان لا يسمعون بها) الحقَّ، ثم جعلهم كالأنعام سواءً، ثم جعلهم شرًّا من الأنعام، (1) فقال: (بل هم أضل) ، ثم أخبر أنهم هم الغافلون. * * * القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) } قال أ [وجعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أولئك كالأنعام) ، هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم، هم كالأنعام، وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها، (2) ولا تفهم ما أبصرته لما يصلح وما لا يَصْلُح، (3) ولا تعقل بقلوبها الخيرَ من الشر، فتميز   (1) في المخطوطة: ((ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم سواء شراً من الأنعام)) ، فحذف ناشر المطبوعة كلمة ((سواء)) ، ولكنى أثبتها في حاق مكانها. (2) انظر تفسير ((الأنعام)) فيما سلف 12: 139، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((مما يصلح، ومما لا يصلح)) ، أثبت ما في المخطوطة وهو جيد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 بينهما. فشبههم الله بها، إذ كانوا لا يتذكَّرون ما يرون بأبصارهم من حُججه، ولا يتفكرون فيما يسمعون من آي كتابه. ثم قال: (بل هم أضل) ، يقول: هؤلاء الكفرة الذين ذَرَأهم لجهنم، أشدُّ ذهابًا عن الحق، وألزم لطريق الباطل من البهائم، (1) لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز، فتختار وتميز، وإنما هي مسَخَّرة، ومع ذلك تهرب من المضارِّ، وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والذين وصفَ الله صفتهم في هذه الآية، مع ما أعطوا من الأفهام والعقول المميِّزة بين المصالح والمضارّ، تترك ما فيه صلاحُ دنياها وآخرتها، وتطلب ما فيه مضارّها، فالبهائم منها أسدُّ، وهي منها أضل، كما وصفها به ربُّنا جل ثناؤه. وقوله: (أولئك هم الغافلون) ، يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم، القومُ الذين غفلوا =يعني: سهوًا (2) عن آياتي وحُججي، وتركوا تدبُّرها والاعتبارَ بها والاستدلالَ على ما دلّت عليه من توحيد ربّها، لا البهائم التي قد عرّفها ربُّها ما سخَّرها له. * * * القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره (ولله الأسماء الحسنى) ،، وهي كما قال ابن عباس: - 15451 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) ، ومن أسمائه: "العزيز الجبار"، وكل أسمائه حسن.   (1) انظر تفسير ((الضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) . (2) انظر تفسير ((غفل)) فيما سلف ص: 115، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 281 15452 - حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن هشام بن حسّان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها كُلَّها دخل الجنة". (1) * * * وأما قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) ، فإنه يعني به المشركين. (2) * * * وكان إلحادهم في أسماء الله، أنهم عدَلوا بها عمّا هي عليه، فسموا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فسموا بعضها "اللات" اشتقاقًا منهم لها من اسم الله الذي هو "الله"، وسموا بعضها "العُزَّى" اشتقاقًا لها من اسم الله الذي هو "العزيز". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15453 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) ، قال: إلحاد الملحدين: أن دعوا "اللات" في أسماء الله.   (1) الأثر: 15452 - ((هشام بن حسان القردوسي)) ، ثقة. روى له الجماعة، مضى برقم: 2827، 7287، 9837، 10258. وهذا إسناد صحيح. رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة (الفتح 5: 262 / 11: 180 - 194) ، شرحه ابن حجر مستقصى غاية الاستقصاء. ورواه مسلم في صحيحه، من مثل طريق البخاري، ثم من طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة (مسلم 17: 4، 5) . ورواه أحمد في مسنده من طرق، رقم: 7493، 7612، 8131، 9509، 10486، 10539، 10696. وانظر تخريجه هناك. وفي بعض طرقه زيادة: ((وإن الله وتر يحب الوتر)) أو ((إنه وتر يحب الوتر)) . (2) انظر تفسير ((ذر)) فيما سلف من فهارس اللغة (وذر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 15454 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) قال: اشتقوا "العزى" من "العزيز"، واشتقوا "اللات" من "الله". * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله (يلحدون) . فقال بعضهم: يكذّبون. * ذكر من قال ذلك: 15455 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية، عن ابن عباس، قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) قال: الإلحاد: التكذيب. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: يشركون. * ذكر من قال ذلك. 15456- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا أبو ثور، عن معمر، عن قتادة: (يلحدون) قال: يشركون. (1) * * * وأصل "الإلحاد" في كلام العرب: العدول عن القصد، والجورُ عنه، والإعراض. ثم يستعمل في كل معوَجّ غير مستقيم، ولذلك قيل للحْد القبر: "لحد"، لأنه في ناحية منه، وليس في وسطه. يقال منه: "ألحد فلانٌ يُلْحِد إلحادًا"، و"لَحد يلْحَد لَحْدًا ولُحُودًا". (2) وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرّق بين "الإلحاد" و"اللحٍْد"، فيقول   (1) الأثر: 10456 - ((ابن ثور)) هو ((محمد بن ثور الصنعانى)) ، مضى في الإسناد مرارًا، آخره رقم: 15437، حيث صححت خطأ آخر هناك. ثم ما سيأتي: 15459. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا ((حدثنا أبو ثور)) ، وهو خطأ محض. (2) (2) المصدر الثاني ((اللحود)) ، قلما نجده في معاجم اللغة، فقيده. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 في "الإلحاد": إنه العدول عن القصد، وفي "اللحد" إنه الركون إلى الشيء. وكان يقرأ جميع ما في القرآن: (يُلْحِدُونَ) بضم الياء وكسر الحاء، إلا التي في النحل، فإنه كان يقرؤها: "يَلْحَدُون" بفتح الياء والحاء، (1) ويزعم أنه بمعنى الركون. وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب، فيرون أن معناهما واحدٌ، وأنهما لغتان جاءتا في حرفٍ واحدٍ بمعنى واحد. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: (يُلْحِدُون) ، بضم الياء وكسر الحاء من "ألحد يُلْحِد" في جميع القرآن. * * * وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: "يَلْحَدُونَ" بفتح الياء والحاء من "لَحَد يَلْحَدُ". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. غير أنِّي أختار القراءة بضمِّ الياء على لغة من قال: "ألحد"، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما. * * * وكان ابن زيد يقول في قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) ، إ نه منسوخٌ. 15457 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (وذَرُوا الذين يلحدون في أسمائه) قال: هؤلاء أهل الكفر، وقد نُسِخ، نَسَخه القتال. * * *   (1) آية سورة النحل: 103 على قراءة الكسائى: "لِسَانُ الَّذِي يَلْحَدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ". وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة / كما قال بن جرير بعد في تفسيره 14: 120 (بولاق) ، ولم يفرد الكسائي بالذكر هناك، لأنه خالفهم في قراءة الحرف في غير هذا الموضع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 284 = ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ، لأن قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) ، ليس بأمر من الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم بترك المشركين أن يقولوا ذلك، حتى يأذن له في قِتالهم، وإنما هو تهديدٌ من الله للملحدين في أسمائه، ووعيدٌ منه لهم، كما قال في موضع آخر: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، [سورة الحجر: 3] الآية، وكقوله: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، [سورة العنكبوت: 66] وهو كلام خرج مخرج الأمر بمعنى الوعيد والتهديد، ومعناه: أنْ مَهِّل الذين يلحدون، يا محمد، في أسماء الله إلى أجل هم بالغوه، (1) فسوف يجزون، إذا جاءهم أجل الله الذي أجلهم إليه، (2) جزاءَ أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر بالله، والإلحاد في أسمائه، وتكذيب رسوله. * * * القول في تأويل قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الخلق الذين خلقنا "أمة"، يعني جماعة (3) = "يهدون"، يقول: يهتدون بالحق (4) = (وبه يعدلون) ، يقول: وبالحق يقضُون ويُنصفون الناس، (5) كما قال ابن جريج: - 15458 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن   (1) في المطبوعة: ((أن تمهل)) لم يحسن قراءة المخطوطة. (2) في المطبوعة: ((الذي أجله إليهم)) ، غير الضمائر، فأفسد الكلام إفساداً (3) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف ص: 208. تعليق: 2. والمراجع هناك (4) انظر تفسير ((هدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (5) انظر تفسير ((عدل)) فيما سلف ص: 172، تعليق. 3، والمراجع هناك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 285 ابن جريج، قوله: (أمة يهتدون بالحق وبه يعدلون) قال ابن جريج: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه أمتي! قال: بالحق يأخُذون ويعطون ويَقْضُون. 15459 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) ... (1) 15460 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) ، بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلَها: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ، [سورة الأعراف: 159] . * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بأدلتنا وأعلامِنا، فجحدوها ولم يتذكروا بها، سنمهله بغِرَّته ونزين له سوء عمله، (2) حتى يحسب أنه فيما هو عليه من تكذيبه بآيات الله إلى نفسه محسن، وحتى يبلغ الغايةَ التي كُتِبَتْ له من   (1) وضعت هذه النقط، لأن الخبر لم يتم، فإما أن يكون سقط من الناسخ، وإما أن يكون إسناداً آخر للخبر الذي يليه. (2) فاجأنا أبو جعفر بطرح ضمير الجمع منصرفاً إلى ضمير المفرد، وهو غريب جداً. ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة. وتركته على حاله، لأني أظن أن أبا جعفر كان أحياناً يستغرقه ما يريد أن يكتب، فربما مال به الفكر من شق الكلام إلى شق غيره. وقد مضى مثل ذلك في بعض المواضع، حيث أشرت إليها. وهذا مفيد في معرفة تأليف المؤلفين، وما الذي يعتريهم وهم يكتبون. ولذلك لم أغيره، احتفاظاً بخصائص ما كتب أبو جعفر. وأنا أستبعد أن يكون ذلك من الناسخ، لأن الجملة أطول من يسهو الناسخ في نفلها كل هذا السهو، ويدخل في جميع ضمائرها كل هذا التغيير. ثم انظر ما سيأتي ص: 338، تعليق: 2. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 286 المَهَل، ثم يأخذه بأعماله السيئة، فيجازيه بها من العقوبة ما قد أعدَّ له. وذلك استدراج الله إياه. * * * وأصل "الاستدراج" اغترارُ المستدرَج بلطف من [استدرجه] ، (1) حيث يرى المستدرَج أن المستدرِج إليه محسنٌ، حتى يورِّطه مكروهًا. * * * وقد بينا وجه فعل الله ذلك بأهل الكفر به فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأُؤخر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا. [وأصل "الإملاء" من قولهم: "مضى عليه مليٌّ، ومِلاوَة ومُلاوَة] ، ومَلاوة" = بالكسر والضم والفتح = "من الدهر"، (3) وهي الحين، ومنه قيل: انتظرتُك مليًّا. (4) * * *   (1) ما بين القوسين، ساقط من المخطوطة والمطبوعة، والسياق يقتضيها كما ترى. (2) غاب عني موضعه فلم أجده. (3) لا شك أنه قد سقط من كلام أبي جعفر شيء، أتممته استظهاراً، من مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 234، وضعته بين قوسين. وسيتبين لك بعد أن الكلام في هذه الفقرات مقطع غير متصل، فلا أدري أهو من الناسخ أم من أبي جعفر، ولذلك فصلت بعضه عن بعض. فتنبه إلى هذا الفصل بين المتتابعين، بكلام مفسر، كما ترى. وكان في المطبوعة: ((ملاءة)) . وأثبت ما في المخطوطة. (4) انظر تفسير ((الإملاء)) فيما سلف 7: 421، 422. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 287 = (1) ليبلغوا بمعصيتهم ربهم، المقدارَ الذي قد كتبه لهم من العقاب والعذاب ثم يقبضهم إليه. * * * (إن كيدي) . * * * والكيد: هو المكر. (2) * * * وقوله: (متين) ، يعني: قويٌّ شديدٌ، ومنه قول الشاعر: (3) [عدلن عدول الناس وأقبح] يَبْتَلِي أَفَانِينَ مِنْ أُلْهُوبِ شَدٍّ مُمَاتِنِ (4) يعني: سيرًا شديدًا باقيًا لا ينقطع. (5) * * *   (1) سياق الكلام: (وأواخر هؤلاء ... ليبلغوا ... )) (2) انظر تفسير ((الكيد)) فيما سلف 7: 156 / 8: 547. (3) لم أعرف قائله. (4) جاء البيت في المطبوعة:عَدَلْنَ عُدُولَ الناسِ وأقبح يبتلى ... أقاس من الهراب شد مُمَاتِن وفي المخطوطة:عدلن عدول الناس دامح سلى ... اماسن من الهرب سد مماتن غير منقوط إلا ما نقطته. وصدر البيت لم أعرف له وجهاً، وأما قراءة عجز البيت، فصوابه قراءته ما أثبته بلا ريب، وإنما يصف نوقاً أو خيلا. و ((الأفانين)) جمع ((أفنون)) ، وهو الجرى المختلط من جرى الفرس والناقة. يقال: ((جرى الفرس أفانين من الجرى)) ، و ((أفتن الفرس في جريه)) ، و ((الألهوب)) : أن يجتهد الفرس في عدوه ويضطرم، حتى يثير الغبار. يقال: ((شد ألهوب)) . ويقال: ((ألهب الفرس)) ، اضطرم جريه. و ((الشد)) ، العدو. يقال: ((شد الفرس وغيره في العدو، شداً واشتد)) ، أي: أسرع وعدا عدواً شديداً. وتركت صدر البيت بحاله، حتى أجد له مرجعاً يصححه. (5) في المخطوطة: ((يعنى سبباً شديداً)) ، وما في المطبوعة قريب من الصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 288 القول في تأويل قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، فيتدبروا بعقولهم، ويعلموا أن رسولَنا الذي أرسلناه إليهم، لا جنَّة به ولا خَبَل، وأن الذي دعاهم إليه هو [الرأي] الصحيح، والدين القويم، والحق المبين؟ (1) وإنما نزلت هذه الآية فيما قيل، (2) كما: - 15461 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصَّفا، (3) فدعا قريشًا، فجعل يفخِّذُهم فخذًا فخذًا: "يا بني فلان، يا بني فلان! " (4) فحذّرهم بأس الله، ووَقَائع الله، فقال قائلهم: "إن صاحبكم هذا لمجنون! باتَ يصوّت إلى الصباح =أو: حتى أصبح! " فأنزل الله تبارك وتعالى: (أوَ لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين) . * * *   (1) في المطبوعة: ((هو الدين الصحيح القويم)) ، غير ما في المخطوطة، وزدت ما بين القوسين استظهاراً من السياق. (2) في المطبوعة: ((ولذا نزلت هذه الآية)) ، وفي المخطوطة: ((وإذا أنزلت)) ، ورأيت أن الصواب ما أثبت، على شك منى أن يكون الكلام خرم. (3) هكذا في المطبوعة والمخطوطة وابن كثير: "كان على الصفا" وأرجح أن صوابها " قام على الصفا" كما جاء في سائر الأخبار في تفسير آية سورة الشعراء: 214، (تفسير الطبري) : 19: 73- 76 بولاق. (4) ((فخذ الرجل بنى فلان تفخيداً)) ، دعاهم فخذاً فخذاً. و ((الفخذ)) فرقة من فرق الجماعات والعشائر. يقال: ((الشعب)) ، ثم ((القبيلة)) ، ثم ((الفصيلة)) ، ثم ((العمارة)) ثم ((البطن)) ، ثم ((الفخذ)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 289 ويعني بقوله: (إن هو إلا نذير مبين) ،: ما هو إلا نذيرٌ ينذركم عقاب الله على كفركم به، (1) إن لم تنيبوا إلى الإيمان به. (2) * * * ويعني بقوله: (مبين) ، قد أبان لكم، أيها الناس، إنذارُه ما أنذركم به من بأس الله على كفركم به. (3) * * * القول في تأويل قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله، في ملك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض، (4) وفيما خلق جل ثناؤه من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك، ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمنْ لا نظير له ولا شبيه، (5) ومِنْ فِعْلِ من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له، فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذرُوا أن تكون آجالهم قد اقتربت، (6) فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. * * * وقوله: (فبأي حديث بعده يؤمنون) ، يقول: فبأيّ تخويفٍ وتحذير ترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبِه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه،   (1) في المطبوعة: ((منذركم)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير ((النذير)) فيما سلف 11: 369، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((مبين)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (4) انظر تفسير ((الملكوت)) فيما سلف 11: 470. (5) في المطبوعة: ((ممن لا نظير له)) ، غير ما في المخطوطة، بلا علة. (6) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف ص: 73، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 290 يصدِّقون، إن لم يصدقوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؟ (1) * * * القول في تأويل قوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن إعراض هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، التاركي النظر في حجج الله والفكر فيها، لإضلال الله إياهم، ولو هداهم الله لاعتبرُوا وتدبَّروا فأبصروا رُشْدهم; ولكن الله أضلَّهم، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلا ومن أضلَّه عن الرشاد فلا هادي له إليه، ولكن الله يدعهم في تَمَاديهم في كفرهم، وتمرُّدهم في شركهم، يترددون، ليستوجبوا الغايةَ التي كتبها الله لهم من عُقوبته وأليم نَكاله. (2) * * * القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (يسألونك عن الساعة) . فقال بعضهم: عني بذلك قومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش،   (1) انظر تفسير ((الحديث)) فيما سلف 8: 592، 593. (2) انظر تفسير ((الضلال)) و ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) ، (هدى) = تفسير ((يذر)) فيما سلف ص: 36، تعليق: 2، والمراجع هناك. = تفسير ((الطغيان)) فيما سلف ص 12: 46، تعليق: 2، والمراجع هناك. = تفسير ((العمه)) فيما سلف 1: 309 - 311 / 12: 46. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 291 وكانوا سألوا عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 15462 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنّ بيننا وبينك قرابة، فأسِرَّ إلينا متى الساعة! فقال الله: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) . (1) * * * وقال آخرون: بل عُني به قوم من اليهود. * ذكر من قال ذلك: 15463 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال جَبَل بن أبي قشير، وشمول بن زيد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم (2) يا محمد، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيًّا كما تقول، فإنا نعلم متى هي؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي) ، إلى قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . (3) 15464 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن طارق بن شهاب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكُر من شأن الساعة حتى نزلت: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) . (4) * * *   (1) الأثر: 15462 - سيأتي برقم: 15481. (2) في المطبوعة: ((حمل بن أبي قشير)) ، وهي في المخطوطة كما أثبتها غير منقوطة. والصواب أيضاً في سيرة ابن هشام 2: 162، 218، وكتب هناك: ((شمويل)) ، وهما سواء، وفي المطبوعة هنا ((سمول)) غير منقوطة كما في المخطوطة. (3) الأثر: 15463 - سيرة ابن هشام 2: 218، وهو تابع الأثر السالف رقم: 12216. (4) الأثر: 15464 - ((إسماعيل بن أبي خالد الأحمسى)) ثقة ثبت، مضى برقم: 5694، 5777، 12280. و ((طارق بن شهاب الأحمسى)) ، رأي النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، مضى مرارًا، رقم: 9744، 11682، 12073، 12075، 12085. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((مخارق بن شهاب)) ، وهو خطأ صرف، صوابه من ابن كثير. وهذا الخبر ساقه ابن كثير في تفسيره 3: 609، وقال: ((ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، به. وهذا إسناد جيد قوي)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 292 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قومًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فأنزل الله هذه الآية = وجائز أن يكون كانوا من قريش = وجائز أن يكونوا كانوا (1) من اليهود; ولا خبر بذلك عندنا يجوِّز قَطْعَ القول على أيّ ذلك كان. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذاً: يسألك القومُ الذين يسألونك عن الساعة (أيان مرساها) ؟ يقول: متى قيامها؟ * * * ومعنى "أيان": متى، في كلام العرب، ومنه قول الراجز: (2) أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي أَيَّانَا أَمَا تَرَى لِنُجْحِهَا إِبَّانَا (3) * * * ومعنى قوله: (مرساها) ، قيامها، من قول القائل: "أرساها الله فهي مُرْسَاة"، و"أرساها القوم"، إذا حبسوها، و"رسَت هي، ترسُو رُسُوًّا". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15465 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال:   (1) في المطبوعة: ((أن يكون كانوا)) مرة أخرى، ولكنى أثبت ما في المخطوطة. (2) لم أعرف قائله. (3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 234، اللسان (أبن) . و ((إبان الشيء)) ، زمنه ووقته الذي يصلح فيه، أو يكون فيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 293 حدثنا أسباط، عن السدي: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) ،: يقول متى قيامها. * * * 15466- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) ،: متى قيامها؟ * * * وقال آخرون: معنى ذلك: مُنتهاها =وذلك قريب المعنى من معنى مَن قال: معناه: "قيامها"، لأن انتهاءها، بلوغها وقتها. وقد بينا أن أصل ذلك: الحبس والوقوف. * ذكر من قال ذلك: 15467 - حدثنا المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) ، يعني: منتهاها. * * * وأما قوله: (قل إنما علمها عند ربي لا يجلِّيها لوقتها إلا هو) ، فإنه أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يجيب سائليه عن الساعة بأنه لا يعلم وقت قيامها إلا الله الذي يعلم الغيب، وأنه لا يظهرها لوقتها ولا يعلمها غيرُه جل ذكره، كما: - 15468 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) ، يقول: علمها عند الله، هو يجليها لوقتها، لا يعلم ذلك إلا الله. 15469 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يجليها) ،: يأتي بها. 15470 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: (لا يجليها) ، قال: لا يأتي بها إلا هو. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 294 15471 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (لا يجليها لوقتها إلا هو) ، يقول: لا يرسلها لوقتها إلا هو. * * * القول في تأويل قوله: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ثقلت الساعة على أهل السموات والأرض أن يعرفوا وقتها ومجيئها، لخفائها عنهم، واستئثار الله بعلمها. * ذكر من قال ذلك: 15472 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (ثقلت في السموات والأرض) ، يقول: خفيت في السموات والأرض، فلم يعلم قيامها متى تقوم مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل. 15473 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور= وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق = جميعًا، عن معمر، عن بعض أهل التأويل: (ثقلت في السموات والأرض) ، قال: ثقل علمها على أهل السموات وأهل الأرض، إنهم لا يعلمون. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أنها كَبُرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 295 * ذكر من قال ذلك: 15474 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور= وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق = جميعًا، عن معمر قال: قال الحسن، في قوله: (ثقلت في السموات والأرض) ، يعني: إذا جاءت ثقلت على أهل السماء وأهل الأرض. يقول: كبرت عليهم. 15475 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: (ثقلت في السموات والأرض) قال: إذا جاءت انشقت السماء، وانتثرت النجوم، وكوِّرت الشمس، وسُيِّرت الجبال، وكان ما قال الله; فذلك ثقلها. 15476 - حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال بعض الناس في "ثقلت": عظمت. * * * وقال آخرون: معنى قوله: (في السموات والأرض) ،: على السموات والأرض. * ذكر من قال ذلك: 15477 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ثقلت في السموات والأرض) ، أي: على السموات والأرض. * * * قال أبو جعفر: وأولى ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السموات والأرض على أهلها، أن يعرفوا وقتها وقيامها; لأن الله أخفى ذلك عن خلقه، فلم يطلع عليه منهم أحدًا. وذلك أن الله أخبرَ بذلك بعد قوله: (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) ، وأخبر بعده أنها لا تأتي إلا بغتة، فالذي هو أولى: أن يكون ما بين ذلك أيضًا خبرًا عن خفاء علمها عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 296 الخلق، إذ كان ما قبله وما بعده كذلك. * * * وأما قوله: (لا تأتيكم إلا بغتة) ، فإنه يقول: لا تجيء الساعة إلا فجأة، لا تشعرون بمجيئها، (1) كما: - 15478 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (لا تأتيكم إلا بغتة) ، يقول: يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة. 15479 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (لا تأتيكم إلا بغتة) ، قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الساعة تهيج بالناس والرجل يُصْلِح حوضه، والرجلُ يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه. * * * القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يسألك هؤلاء القوم عن الساعة، كأنك حَفِيٌّ عنها. * * * [واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (حفي عنها) ] . (2) فقال بعضهم: يسألونك عنها كأنك حفي بهم. وقالوا: معنى قوله: "عنها" التقديم، وإن كان مؤخرًا.   (1) انظر تفسير ((البغتة)) فيما سلف 11: 325، 360، 368 / 12: 576. (2) الزيادة بين القوسين، يقتضيها نهج أبي جعفر في تفسيره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 297 * ذكر من قال ذلك: 15480 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يسألونك كأنك حفيّ عنها) ، يقول: كأن بينك وبينهم مودة، كأنك صديق لهم. قال ابن عباس: لما سأل الناسُ محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدًا حفي بهم، فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده، استأثر بعلمها، فلم يطلع عليها ملكًا ولا رسولا. 15481 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة، فأسِرَّ إلينا متى الساعة! فقال الله: (يسألونك كأنك حفي عنها) . (1) 15482 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (يسألونك كأنك حفي عنها) ،: أي حفي بهم. قال: قالت قريش: يا محمد، أسرّ إلينا علم الساعة، لما بيننا وبينك من القرابة = لقرابتنا منك. 15483 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، وهانئ بن سعيد، عن حجاج، عن خصيف، عن مجاهد وعكرمة: (يسألونك كأنك حفي عنها) قال: حفي بهم حين يسألونك. 15484 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: (يسألونك كأنك حفي عنها) قال: قريب منهم، وتحفَّى عليهم = قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم. قال: قريب منهم، وتحفَّى عليهم = قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم، فتحدثهم. (2) 15485 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال:   (1) الأثر: 15481 - مضى برقم: 15462. (2) الأثر: 15484 - ((أبو مالك)) ، في هذا الخبر، لم أعرف من يكون؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 298 حدثنا أسباط، عن السدي: (يسألونك كأنك حفي عنها) ، كأنك صديق لهم. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنك قد استحفيت المسألة عنها فعلمتها. * ذكر من قال ذلك: 15486 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كأنك حفي عنها) ، استحفيت عنها السؤال حتى علمتَها. 15487 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: (كأنك حفي عنها) قال: استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها. 15488 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (يسألونك كأنك حفي عنها) قال: كأنك عالم بها. 15489 - ... قال: حدثنا حامد بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك: (يسألونك كأنك حفيّ عنها) قال: كأنك تعلمها. (1) 15490 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: ثني عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: (يسألونك كأنك حفي عنها) ، يقول: يسألونك عن الساعة، كأنك عندك علمًا منها = (قل إنما علمها عند ربي) . 15491 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن بعضهم: (كأنك حفي عنها) ،: كأنك عالم بها. 15492 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (كأنك حفي عنها) قال: كأنك عالم بها. وقال: أخفى علمها على   (1) الأثر: 15489 - ((جابر بن نوح)) ، مضى برقم: 5694، 9863، وفي المطبوعة ((حامد بن نوح)) ، وفي المخطوطة، سيئ الكتابة، وهذا صوابه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 299 خلقه. وقرأ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، [سورة لقمان: 34] حتى ختم السورة. 15493 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (يسألونك كأنك حفي عنها) ، يقول: كأنك يعجبك سؤالهم إياك = (قل إنما علمها عند الله) . * * * وقوله: (كأنك حفي عنها) ، يقول: لطيف بها. (1) * * * فوجَّه هؤلاء تأويل قوله: (كأنك حفي عنها) ، إلى حفيّ بها، وقالوا: تقول العرب: "تحفّيت له في المسألة"، و"تحفيت عنه". قالوا: ولذلك قيل: "أتينا فلانًا نسأل به"، بمعنى نسأل عنه. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: كأنك حفي بالمسئلة عنها فتعلمها. فإن قال قائل: وكيف قيل: (حفي عنها) ، ولم يُقَل: "حفي بها"، إن كان ذلك تأويل الكلام؟ قيل: إن ذلك قيل كذلك، لأن الحفاوة إنما تكون في المسألة، وهي البشاشة للمسئول عند المسألة، والإكثار من السؤال عنه، والسؤال يوصل ب "عن" مرة، وب "الباء" مرة. فيقال: "سألت عنه"، و"سألت به". فلما وضع قوله: "حفي" موضع السؤال، وصل بأغلب الحرفين اللذين يوصل بهما "السؤال"، وهو "عن"، كما قال الشاعر:   (1) هذه الجملة التي أفردتها، لا شك أنها ليست من كلام ابن عباس في الأثر السالف، ولذلك فصلت بينهما. بقى بعد أنى أخشى أن يكون سقط من الناسخ شيء قبل هذه الجملة، فإن الذي ذكره أبو جعفر قولان فقط، لا ثلاثة أقوال، وهذه الجملة الأخيرة. متعلقة بالقول الأول، وكأنها تفسير له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 300 (1) سُؤَالَ حَفِيٍّ عَنْ أَخِيهِ كَأَنَّهُ بِذِكْرَتِهِ وَسْنَانُ أَوْ مُتَوَاسِنُ (2) * * * وأما قوله: (قل إنما علمها عند الله) ، فإن معناه: قل، يا محمد، لسائليك عن وقت الساعة وحين مجيئها: لا علم لي بذلك، ولا علم به إلا [عند] الله الذي يعلم غيب السموات والأرض (3) = (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ، يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلا الله، بل يحسبون أن علم ذلك يوجد عند بعض خلقه. * * *   (1) هو المعطل الهذلي. (2) ديوان الهذليين 3: 45 من قصيدة له طويلة. وبهذه الرواية التي رواها أبو جعفر ((سؤال حفي)) ، يختل سياق الشعر. وروايته في ديوانه: فإن ترني قصدًا قريبًا، فإنه ... بعيد علي المرء الحجازي أين بعيد على ذى حاجة، ولو أننى ... إذا نفجت يوماً بها الدار آمن يقول الذي أمسى إلى الحرز أهله: ... بأي الحشاء أمسى الخليط المباين سؤال الغني عن أخيه، كأنه ... بذكرته وسنان أو متواسن و ((الذي أمسى إلى الحرز أهله)) هو الذي صار في مكان حصين آمناً مطمئناً، فهو يسأل عنه ويقول: ((بأي الحشا)) ، بأي النواحي أمسي فلان؟ وهو صاحبه المفارق. ثم يقول: إنه يسأل سؤال غير حفي - لا سؤال حفي - ((سؤال غني عن أخيه)) وأنما يذكره كالنائم أو المتناوم، لقلة حفاوة به. فهذا نقيض رواية أبي جعفر. وكان في المطبوعة: ((يذكره وسنان)) ، والصواب من المخطوطة والديوان. (3) في المطبوعة: ((ولا يعلم به إلا الله)) وليس بجيد، وأثبت ما في المخطوطة وزدت ما يقتضيه السياق بين قوسين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 301 القول في تأويل قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لسائليك عن الساعة: "أيان مرساها؟ " = (لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا) ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 301 يقول: لا أقدر على اجتلاب نفع إلى نفسي، ولا دفع ضر يحلّ بها عنها إلا ما شاء الله أن أملكه من ذلك، بأن يقوّيني عليه ويعينني (1) = (ولو كنت أعلم الغيب) ، يقول: لو كنت أعلم ما هو كائن مما لم يكن بعد (2) = (لاستكثرت من الخير) ، يقول: لأعددت الكثير من الخير. (3) * * * ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الخير" الذي عناه الله بقوله: (لاستكثرت من الخير) . (4) فقال بعضهم: معنى ذلك: لاستكثرت من العمل الصالح. * ذكر من قال ذلك: 15494 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قوله: (قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا) قال: الهدى والضلالة = (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) قال: "أعلم الغيب"، متى أموت = لاستكثرت من العمل الصالح. 15495 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، مثله. 15496 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) ،: قال: لاجتنبت ما يكون من الشرّ واتَّقيته. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: "ولو كنت أعلم الغيب" لأعددت للسَّنة المجدبة من المخصبة، ولعرفت الغلاء من الرُّخْص، واستعددت له في الرُّخْص. * * *   (1) انظر تفسير ((ملك)) فيما سلف 10: 147، 187، 317. (2) انظر تفسير ((الغيب)) فيما سلف 11: 464، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((استكثر)) فيما سلف 12: 115. (4) انظر تفسير ((الخير)) فيما سلف 2: 505 / 7: 91. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 302 وقوله: (وما مسني السوء) ، يقول: وما مسني الضر (1) = (إن أنا إلا نذير وبشير) ، يقول: ما أنا إلا رسولٌ لله أرسلني إليكم، أنذر عقابه مَن عصاه منكم وخالف أمره، وأبشّرَ بثوابه وكرامته من آمن به وأطاعه منكم. (2) * * * وقوله: (لقوم يؤمنون) ، يقول: يصدقون بأني لله رسول، ويقرون بحقية ما جئتهم به من عنده. (3) * * * القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) ، يعني بالنفس الواحدة: آدم، (4) كما: - 15497 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (خلقكم من نفس واحدة) قال: آدم عليه السلام. (5)   (1) انظر تفسير ((المس)) فيما سلف 12: 573، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((نذير)) فيما سلف ص: 290، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير ((بشير)) فيما سلف 11: 369، تعليق 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((بحقية ما جئتهم به)) ، والصواب من المخطوطة، وقد غيرها في مئات من المواضع، انظر ما سلف ص: 113، تعليق: 1 والمراجع هناك. و ((الحقيقة)) ، مصدر، بمعني الصدق والحق، كما أسلفت. (4) انظر تفسير ((نفس واحدة)) فيما سلف 7: 513، 514. (5) الأثر: 15497 - مضى برقم: 8402 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 303 15498 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) ، من آدم. (1) * * * ويعني بقوله: (وجعل منها زوجها) ،: وجعل من النفس الواحدة، وهو آدم، زوجها حواء، (2) كما: - 15499 - حدثني بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة. (وحمل منها زوجها) ،: حواء، فجعلت من ضلع من أضلاعه، ليسكن إليها. (3) * * * ويعني بقوله: (ليسكن إليها) ،: ليأوي إليها لقضاء حاجتة ولذته. (4) * * * ويعني بقوله: (فلما تغشاها) ، فلما تدثَّرها لقضاء حاجته منها، فقضى حاجته منها = (حملت حملا خفيفًا) ، وفي الكلام محذوف، ترك ذكرُه استغناءً بما ظهر عما حذف، وذلك قوله: (فلما تغشاها حملت) ، وإنما الكلام: فلما تغشاها =فقضى حاجته منها= حملت. * * * وقوله: (حملت حملا خفيفًا) ، يعني ب "خفة الحمل": الماء الذي حملته حواء في رَحِمها من آدم، أنه كان حملا خفيفًا، وكذلك هو حملُ المرأة ماءَ الرجل خفيفٌ عليها. * * * وأما قوله: (فمرت به) ، فإنه يعني: استمرَّت بالماء: قامت به وقعدت، وأتمت الحمل، كما: - 15500 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عمير، عن أيوب قال: سألت الحسن عن قوله: (حملت حملا خفيفًا فمرت به) قال:   (1) الأثر: 15498 - مضى برقم: 8401. (2) انظر تفسير ((جعل)) فيما سلف من فهارس اللغة (جعل) . (3) الأثر: 15499 - مضى برقم: 8405. (4) في المطبوعة والمخطوطة: ((لقضاء الحاجة ولذته)) ، والسياق يقتضى ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 304 لو كنت امرءًا عربيًّا لعرفت ما هي؟ إنما هي: فاستمرَّت به. (1) 15501 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما تغشاها حملت حملا خفيفًا فمرت به) ، استبان حملها. 15502 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فمرت به) قال: استمرّ حملها. 15503 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (حملت حملا خفيفًا) قال: هي النطفة = وقوله: (فمرّت به) ، يقول: استمرّت به. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فشكَّت فيه. * ذكر من قال ذلك: 15504 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (فمرت به) قال: فشكت، أحملت أم لا؟ * * * ويعني بقوله: (فلما أثقلت) ، فلما صار ما في بطنها من الحمل الذي كان خفيفًا، ثقيلا ودنت ولادتها. * * * يقال منه: "أثقلت فلانة" إذا صارت ذات ثقل بحملها، كما يقال: "أَتْمَرَ فلان": إذا صار ذا تَمْر. كما: - 15505 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فلما أثقلت) ،: كبر الولد في بطنها. * * *   (1) الأثر: 15500 ((أبو عمير)) ، هو (الحارث بن عمير البصري) . ثقة متكلم فيه، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 83. و ((أيوب)) هو السختياني، ((أيوب بن أبي تميمه، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 409، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 255. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 305 قال أبو جعفر: (دعوا الله ربهما) ، يقول: نادى آدم وحواء ربهما وقالا يا ربنا، "لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين". * * * واختلف أهل التأويل في معنى "الصلاح" الذي أقسم آدم وحواء عليهما السلام أنه إن آتاهما صالحًا في حمل حواء: لنكونن من الشاكرين. فقال بعضهم: ذلك هو أن يكون الحمل غلامًا. * ذكر من قال ذلك: 15506 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن، في قوله: (لئن آتيتنا صالحًا) قال: غلامًا. * * * وقال آخرون: بل هو أن يكون المولود بشرًا سويًّا مثلهما، ولا يكون بهيمة. * ذكر من قال ذلك: 15507 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن زيد بن جبير الجُشَمي، عن أبي البختري، في قوله: (لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين) قال: أشفقا أن يكون شيئًا دون الإنسان. (1) 15508 - ... قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن زيد بن جبير، عن أبي البختري قال: أشفقا أن لا يكون إنسانًا. 15509 - ... قال: حدثنا محمد بن عبيد، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: لما حملت امرأة آدم فأثقلت، كانا يشفقان أن يكون بهيمة، فدعوا ربهما: (لئن آتيتنا صالحًا) ، الآية. 15510 - ... قال: حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أشفقا أن يكون بهيمة.   (1) الأثر: 15507 - ((زيد بن جبير الحشمي الطائى)) ، ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 356، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 558. وكان في المطبوعة: ((الحسمي)) ، غير منقوطة كما في المخطوطة، والصواب ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 306 15511 - حدثني القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال سعيد بن جبير: لما هبط آدم وحواء، ألقيت الشهوة في نفسه فأصابها، فليس إلا أن أصابها حملت، فليس إلا أن حملت تحرك في بطنها ولدها، (1) قالت: ما هذا؟ فجاءها إبليس، فقال [لها: إنك حملت فتلدين! قالت: ما ألد؟ قال] : (2) أترين في الأرض إلا ناقةً أو بقرة أو ضائنة أو ماعزة، أو بعض ذلك! (3) [ويخرج من أنفك، أو من أذنك، أو من عينك] . (4) قالت: والله ما مني شيء إلا وهو يضيق عن ذلك! قال: فأطيعيني وسميه "عبد الحارث" = [وكان اسمه في الملائكة الحارث] = (5) تلدي شبهكما مثلكما! قال: فذكرت ذلك لآدم عليه السلام، فقال: هو صاحبنا الذي قد علمت! (6) فمات، ثم حملت بآخر، فجاءها فقال: أطيعيني وسميه عبد الحارث -وكان اسمه في الملائكة الحارث= وإلا ولدت ناقة أو بقرة أو ضائنة أو ماعزة، أو قتلته، فإني أنا قتلت الأول! قال: فذكرت ذلك لآدم، فكأنه لم يكرهه، فسمته "عبد الحارث"، فذلك قوله: (لئن آتيتنا صالحًا) ، يقول: شبهنا مثلنا = (فلما آتاهما صالحًا) قال: شبههما مثلهما. (7) 15512 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فلما أثقلت) ، كبر الولد في بطنها، جاءها إبليس، فخوَّفها وقال لها:   (1) هذا تعبير جيد، يصور سرعة حدوث ذلك، ولو شاء أن يقوله قائل، لقال: ((فليس إلا أن أصابها حتي حملت. . .)) ، فتهوى العبارة من قوة إلى ضعف. (2) الزيادة بين القوسين من الدر المنثور3: 152، وهي زيادة لا بد منها. والمخطوطة مضطربة في الوضع. (3) في المطبوعة والدر المنثور: ((هو بعض ذلك)) . (4) الزيادة بين القوسين من الدر المنثور، ولا يستقيم الكلام إلا بها. (5) هذه الزيادة أيضا من الدر المنثور. (6) في المطبوعة: ((هو صاحبنا الذي قد أخرجنا من الجنة)) ، وفي المخطوطة: ((الذي قد فمات)) وبين ((قد)) و ((فمات)) حرف ((ط)) وبالهامش و ((كذا)) . وأثبت نص العبارة من الدر المنثور. (7) الأثر: 15511 - هذه أخبار باطلة كما أشرنا إليه مرارًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 307 ما يدريك ما في بطنك؟ لعله كلب، أو خنزير، أو حمار! وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك، أو من قُبُلك، أو ينشق بطنك فيقتلك؟ فذلك حين (دعوا الله ربهما لئن آتينا صالحًا) ، يقول: مثلنا = (لنكونن من الشاكرين) . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحواء أنهما دعَوا الله ربهما بحمل حواء، وأقسما لئن أعطاهما ما في بطن حواء، صالحًا ليكونان لله من الشاكرين. و"الصلاح" قد يشمل معاني كثيرة: منها "الصلاح" في استواء الخلق، ومنها "الصلاح" في الدين، و"الصلاح" في العقل والتدبير. وإذ كان ذلك كذلك، ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني "الصلاح" دون بعض، ولا فيه من العقل دليل، وجب أن يُعَمَّ كما عمَّه الله، فيقال: إنهما قالا (لئن آتيتنا صالحًا) بجميع معاني "الصلاح". (1) * * * وأما معنى قوله: (لنكونن من الشاكرين) ، فإنه: لنكونن ممن يشكرك على ما وهبت له من الولد صالحًا. * * * القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما رزقهما الله ولدًا صالحًا كما سألا =جعلا له شركاء فيما آتاهما ورزقهما. * * * ثم اختلف أهل التأويل في "الشركاء" التي جعلاها فيما أوتيا من المولود. فقال بعضهم: جعلا له شركاء في الاسم. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير ((الصلاح)) فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 308 15513 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت حوّاء لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسمينه "عبد الحارث"، فعاش لها ولد، فسمته "عبد الحارث"، (1) وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان. (2)   (1) في المطبوعة: ((من وحي الشيطان)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لما في المراجع. (2) الأثر: 15513 - ((عبد الصمد)) هو ((عبد الصمد بن عبد الوارث)) . مضى مرارًا. و ((عمر بن إبراهيم العبدى)) ، وثقه أحمد وغيره، ولكنه قال: ((يروى عن قتادة أحاديث مناكير، يخالف)) . وقال أبو حاتم: ((يكتب حديثه ولا يحتج به)) ، وقال ابن عدى: يروى عن قتادة أشياء لا يوافق عليها، وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب)) . وذكره ابن حبان في الثقاب وقال: ((يخطئ، ويخالف)) . ثم ذكره في الضعفاء فقال: ((كان ممن ينفرد عن قتادة بما لا يشبه حديثه. فلا يعجبنى الاحتجاج به إذا انفرد. فأما فيما روى الثقات، فإن اعتبر به معتبر لم أر بذلك بأساً)) ، وقال الدارقطني: (لين، يترك)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 98، وميزان الاعتدال 2: 248. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 11، بغير هذا اللفظ، ورواه بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك 2: 545، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي في تفسير الآية وقال: ((هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، عن قتادة. وقد رواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه)) . وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 611، 612، وأعله من ثلاثة وجوه: الأول: أن عمر بن إبراهيم لا يحتج به = الثاني: أنه قد روى من قول سمرة نفسه غير مرفوع = الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، وذكر بعض أخبار أبي جعفر بأسانيدها رقم 15526 - 15528، ثم قال: ((وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية. ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره، ولاسيما مع تقواه وورعه. فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم، مثل كعب أو وهب بن منيه وغيرهما، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع، والله أعلم)) . قلت: وسترى أن أبا جعفر قد رجح أن المعني بذلك آدم وحواء، قال: ((لإجماع الحجة من أهل التأويل علي ذلك)) . وإجماع أهل التأويل في مثل هذا، مما لا يقوم الأول: لأن الآية مشكلة، ففيها نسبة الشرك إلى آدم الذي اصطفاه ربه، بنص كتاب الله، وقد أراد أبو جعفر أن يخرج من ذلك، فزعم (ص: 315) أن القول عن آدم وحواء انقضى عند قوله: ((جعلا له شركاء فيما آتاهما، ثم استأنف قوله: ((فتعالى الله عما يشركون)) ، يعنى عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان.وهذا مخرج ضعيف جداً. الثاني أن مثل هذا المشكل في أمر آدم وحواء، ونسبة الشرك إليهما، مما لا يقضى به، إلا بحجة يجب التسليم لها من نص كتاب، أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا خبر بذلك، إلا هذا الخبر الضعيف الذي بينا ضعفه، وأنه من رواية عمر بن إبراهيم، عن قتادة. وروايته عن قتادة مضطربة، خالف فيها ما روى عن الحسن، أنه عنى بالآية بعض أهل الملل والمشركون. هذا، وقد رد هذا القول، جماعة من المفسرين، كابن كثير في تفسيره، والفخر الرازي (3: 243 - 345) ، وحاول الزمخشرى في تفسيره أن يرده فلم يحسن، وتعقبه أحمد بن محمد بن المنير في الإنصاف. وغير هؤلاء كثير. ولكن بعد هذا كله، نجد إن تفسير ألفاظ الآية، ومطابقته للمعنى الصحيح الذي ذهب العلماء إليه في نفي الشرك عن أبينا آدم عليه السلام، وفي أن الآية لا تعنى أبانا آدم وأمنا حواء = بقى مبهماً، لم يتناوله أحد ببيان صحيح. وكنت أحب أن يتيسر لى بيانه في هذا الموضع، ولكنى وجدت الأمر أعسر من أن أتكلم فيه في مثل هذا التعليق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 309 15514 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا معتمر، عن أبيه قال: حدثنا أبو العلاء، عن سمرة بن جندب: أنه حدث أن آدم عليه السلام سمى ابنه "عبد الحارث". 15515 - .... قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه قال: حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخّير، عن سمرة بن جندب قال: سمى آدمُ ابنه: "عبد الحارث". (1) 15515 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت حوّاء تلد لآدم، فتعبِّدهم لله، وتسميه "عبيد الله" و"عبد الله" ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليسُ وآدمَ، فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش! فولدت له رجلا فسماه "عبد الحارث"، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) ، إلى قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) ، إلى آخر الآية. 15517 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي   (1) الأثر: 15514، 15515 - ((أبو العلاء بن الشخير)) ، منسوب إلى جده، وهو: ((يزيد بن عبد الله بن الشخير العامرى)) ، تابعى عابد ثقة، كان يقرأ في المصحف حتى يغشى عليه، فكان أخوه مطرف يقول له: ((أغن عنا مصحفك سائر اليوم)) . مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/1/113، والكبير 4/2/345، وابن أبي حاتم 4/2/274. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 310 قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله في آدم: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) ، إلى قوله: (فمرت به) ، فشكّت: أحبلت أم لا = (فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا) الآية، فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون؟ أبهيمة يكون أم لا؟ وزيَّن لهما الباطل، إنه غويٌّ مبين. وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي، لم يخرج سويًّا، ومات كما مات الأولان! فسميا ولدهما "عبد الحارث"; فذلك قوله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما) ، الآية. 15518 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما ولد له أول ولد، أتاه إبليس فقال: إني سأنصح لك في شأن ولدك هذا، تسميه "عبد الحارث"! فقال آدم: أعوذ بالله من طاعتك! =قال ابن عباس: وكان اسمه في السماء "الحارث"= قال آدم: أعوذ بالله من طاعتك، إني أطعتك في أكل الشجرة، فأخرجتني من الجنة، فلن أطيعك. فمات ولده، ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر، فقال: أطعني وإلا مات كما مات الأول! فعصاه، فمات، فقال: لا أزال أقتلهم حتى تسميه "عبد الحارث". فلم يزل به حتى سماه "عبد الحارث"، فذلك قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) ، أشركه في طاعته في غير عبادة، ولم يشرك بالله، ولكن أطاعه. 15519 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سَلَمَة، عن هارون قال: أخبرنا الزبير بن الخِرِّيت، عن عكرمة قال: ما أشرك آدم ولا حواء، وكان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان فقال: إن سرَّكما أن يعيش لكما ولد فسمياه "عبد الحارث"! فهو قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) . (1)   (1) الأثر: 15519 - كان الإسناد في المطبوعة: "حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن هارون، لا أدري من أين جاء بقوله "سلمة"!! فإن المخطوطة فيها بياض في هذا الموضع هكذا: "حدثنا ابن حميد قال: حدثنا ...... ، عن هارون، فوضعت مكان البياض نقطا، وفيها بعد "عكرمة" وقبل "قال" خط معقوف، وفي الهامش أمام البياض وعند هذه العلامة حرف (ط) ثم إلى جوارها حرف (ا) عليه ثلاث نقط، كل ذلك دال على الشك والخطأ. و"هارون" هو النحوي الأعور "هارون بن موسى الأزدي" صاحب القراءات ثقة مضى برقم 4985، 11693. و"الزبير بن الخريت" ثقة، مضى أيضا برقم 4985، 11693. وإسناد أبي جعفر في الموضعين في رواية "الزبير بن الخريت" عن عكرمة هو "حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال حدثنا هارون النحوي، قال حدثني الزبير بن الخريت، عن عكرمة" فأخشى أن يكون سقط من التفسير هنا إسناد ابن حميد وخبره ثم صدر إسناد بعده، هو إسناد أبي جعفر السالف: "حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن هارون. . . " إلى آخر الإسناد، والله أعلم". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 311 15520 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فلما تغشاها حملت حملا خفيفًا) قال: كان آدم عليه السلام لا يولد له ولد إلا مات، فجاءه الشيطان، فقال: إن سرَّك أن يعيش ولدك هذا، فسمِّه "عبد الحارث"! ففعل قال: فأشركا في الاسم، ولم يشركا في العبادة. 15521 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) ، ذكر لنا أنه كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان، فقال لهما: سمياه "عبد الحارث"! وكان من وحي الشيطان وأمره، وكان شركًا في طاعةٍ، ولم يكن شركًا في عبادةٍ. 15522 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) قال: كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد. فقال لهما الشيطان: إذا ولد لكما ولد، فسمياه "عبد الحارث"! ففعلا وأطاعاه، فذلك قول الله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء) ، الآية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 312 15523 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن سعيد بن جبير، قوله: (أثقلت دعوا الله ربهما) ،.. إلى قوله تعالى: (فتعالى الله عما يشركون) قال: لما حملت حوّاء في أوّل ولد ولدته حين أثقلت، أتاها إبليس قبل أن تلد، فقال: يا حوّاء، ما هذا الذي في بطنك؟ فقالت: ما أدري. فقال: من أين يخرج؟ من أنفك، أو من عينك، أو من أذنك؟ قالت: لا أدري. قال: أرأيت إن خرج سليمًا أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ (1) قالت: نعم. قال: سميه "عبد الحارث"! =وقد كان يسمى إبليس الحارث= فقالت: نعم. ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال لي كذا وكذا، فقال: إن ذلك الشيطان فاحذريه، فإنه عدوُّنا الذي أخرجنا من الجنة! ثم أتاها إبليس، فأعاد عليها، فقالت: نعم. فلما وضعته أخرجه الله سليمًا، فسمته "عبد الحارث" فهو قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) . 15524 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك، ولكن حواء لما أثقلت، أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا، من أنفك، أو من عينك، أو من فيك؟ فقنَّطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سويًّا = زاد ابن فضيل: لم يضرك ولم يقتلك = أتطيعيني؟ قالت: نعم. قال: فسميه "عبد الحارث"! ففعلت = زاد جرير: فإنما كان شركه في الاسم. (2) 15525 - حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: فولدت غلامًا =يعني حوّاء= فأتاهما إبليس فقال: سموه عبدي وإلا قتلته! قال له آدم عليه السلام: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة! فأبى أن   (1) في المطبوعة: ((أتطيعينى أنت)) ، والصواب الجيد من المخطوطة. (2) في المطبوعة: ((شركة)) بالتاء في آخره، والصواب ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 313 يطيعه، فسماه "عبد الرحمن"، فسلط الله عليه إبليس فقتله. فحملت بآخر; فلما ولدته قال لها: سميه عبدي وإلا قتلته! قال له آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة! فأبى، فسماه "صالحًا" فقتله. فلما أن كان الثالث قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه "عبد الحارث"، (1) وكان اسم إبليس; وإنما سمي "إبليس" حين أبلس =فَعَنَوَا، (2) فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) ، يعني في التسمية. * * * وقال آخرون: بل المعنيّ بذلك رجل وامرأة من أهل الكفر من بني آدم، جعلا لله شركاء من الآلهة والأوثان حين رزقهما ما رزقهما من الولد. وقالوا: معنى الكلام: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها) : أي هذا الرجل الكافر، (حملت حملا خفيفًا، فلما أثقلت) دعوتما الله ربكما. قالوا: وهذا مما ابتدئ به الكلام على وجه الخطاب، ثم رُدَّ إلى الخبر عن الغائب، كما قيل: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) ، [سورة يونس: 22] وقد بينا نظائر ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (3) * ذكر من قال ذلك: 15526 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم. 15527 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن   (1) في المطبوعة: ((فإذا غلبتم فسموه)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: ((ففعلوا)) ، وهو خطأ لا شك فيها، لو كان لقال: ((ففعلا)) ، ورسم المخطوطة غير منقوطة هو ما أثبت، وصواب قراءته ما قرأت. = يقال: ((عنا له يعنو)) : إذا خضع له وأطاعه. (3) انظر ما سلف 1: 154 / 3: 304، 305 / 6: 238، 464 / 8: 447 / 11: 264. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 314 معمر قال. قال الحسن: عني بهذا ذرية آدم، من أشرك منهم بعده =يعني بقوله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما) . 15528 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا فهوَّدوا ونصَّروا. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب، قول من قال: عنى بقوله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء) في الاسم لا في العبادة =وأن المعنيَّ بذلك آدم وحواء، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك. * * * فإن قال قائل: فما أنت قائل =إذ كان الأمر على ما وصفت في تأويل هذه الآية، وأن المعنيّ بها آدم وحواء= في قوله: (فتعالى الله عما يشركون) ؟ أهو استنكاف من الله أن يكون له في الأسماء شريك، أو في العبادة؟ فإن قلت: "في الأسماء" دلّ على فساده قوله: (أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون) ؟ فإن قلت: "في العبادة"، قيل لك: أفكان آدم أشرك في عباد الله غيره؟ قيل له: إن القول في تأويل قوله: (فتعالى عما يشركون) ، ليس بالذي طننت، وإنما القول فيه: فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان. فأما الخبر عن آدم وحواء، فقد انقضى عند قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) ، ثم استؤنف قوله: (فتعالى الله عما يشركون) ، (2) كما:- 15529 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (فتعالى الله عما يشركون) ، يقول: هذه فصْلٌ من آية آدم، خاصة في آلهة العرب. * * *   (1) الآثار: 15526-15528-انظر التعليق على الأثر السالف رقم 10013. (2) انظر التعليق عن الأثر رقم 155130. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 315 واختلفت القرأة في قراءة قوله: (شركاء) ، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: "جَعَلا لَهُ شِرْكًا" بكسر الشين، بمعنى الشَّرِكَة. (1) * * * وقرأه بعض المكيين وعامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: (جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ) ، بضم الشين، بمعنى جمع "شريك". * * * قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين بالصواب، لأن القراءة لو صحت بكسر الشين، لوجب أن يكون الكلام: فلما أتاهما صالحًا جعلا لغيره فيه شركًا =لأن آدم وحواء لم يدينا بأن ولدهما من عطية إبليس، ثم يجعلا لله فيه شركًا لتسميتهما إياه ب "عبد الله"، وإنما كانا يدينان لا شك بأن ولدهما من رزق الله وعطيته، ثم سمياه "عبد الحارث"، فجعلا لإبليس فيه شركًا بالاسم. فلو كانت قراءة من قرأ: "شِرْكًا"، صحيحة، وجب ما قلنا، أن يكون الكلام: جعلا لغيره فيه شركًا. وفي نزول وحي الله بقوله: (جعلا له) ، ما يوضح عن أن الصحيح من القراءة: (شُرَكَاء) ، بضم الشين على ما بينت قبل. * * * فإن قال قائل: فإن آدم وحواء إنما سميا ابنهما "عبد الحارث"، و"الحارث" واحد، وقوله: (شركاء) ، جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما "جعلا له شركاء"، وإنما أشركا واحدًا! قيل: قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، إذا لم تقصد واحدًا بعينه ولم تسمِّه، كقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) ، [سورة آل عمران: 173] وإنما كان القائل ذلك واحدًا،   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 400. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 316 فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة، إذ لم يقصد قصده، وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها. (1) * * * وأما قوله: (فتعالى الله عما يشركون) ، فتنزيه من الله تبارك وتعالى نفسَه، وتعظيم لها عما يقول فيه المبطلون، ويدَّعون معه من الآلهة والأوثان، (2) كما: - 15530 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: (فتعالى الله عما يشركون) قال: هو الإنكاف، أنكف نفسه جل وعز = يقول: عظَّم نفسه = وأنكفته الملائكة وما سبَّح له. 15531 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة قال: سمعت صدقة يحدِّث عن السدي قال: هذا من الموصول والمفصول، قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) ، في شأن آدم وحواء، ثم قال الله تبارك وتعالى: (فتعالى الله عما يشركون) قال: عما يشرك المشركون، ولم يعنهما. (3) * * *   (1) انظر ما سلف 1: 292، 293 / 2: 485 - 487، 500 /4: 191 / 6: 364 / 7: 404 - 413 / 12: 213. (2) انظر تفسير ((تعالى)) فيما سلف 12: 10، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) عند هذا الموضع، انتهي الجزء العاشر من مخطوطتنا، وفي آخرها ما نصه: ((نجز الجز العاشر من كتاب البيان، بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه ويمنه. وصلى الله على محمد. يتلوه في الحادي عشر إن شاء الله تعالى القول في تأويل قوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وكان الفراغ من نسخه في شهر جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمئة. غفر الله لكاتبه ومؤلفه، ولمن كتب لأجله ولجميع المسلمين. الحمد لله رب العالمين)) ثم يتلوه في أول الجزء الحادي عشر من المخطوطة "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 317 القول في تأويل قوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيشركون في عبادة الله، فيعبدون معه = "ما لا يخلق شيئًا"، والله يخلقها وينشئها؟ وإنما العبادة الخالصة للخالق لا للمخلوق. * * * وكان ابن زيد يقول في ذلك بما: - 15532 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد قال: ولد لآدم وحواء ولد، فسمياه "عبد الله"، فأتاهما إبليس فقال: ما سميتما يا آدم ويا حواء ابنكما؟ قال: وكان وُلد لهما قبل ذلك ولد، فسمياه "عبد الله"، فمات. فقالا سميناه "عبد الله". فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما؟ لا والله، ليذهبن به كما ذهبَ بالآخر! ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فسمياه "عبد شمس"! قال: فذلك قول الله تبارك وتعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون) ، آلشمس تخلق شيئًا حتى يكون لها عبد؟ إنما هي مخلوقة! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خدعهما مرتين، خدعهما في الجنة، وخدعهما في الأرض. (1) * * * وقيل: (وهم يخلقون) ،، فأخرج مكنيَّهم مخرج مكنيّ بني آدم، (2)   (1) الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجده. وفي الدر المنثور 3: 152 ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خدعهما مرتين. قال زيد: خدعهما في الجنة، وخدعهما في الأرض)) . (2) ((المكنى)) الضمير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 318 (أيشركون ما) ، فأخرج ذكرهم ب "ما" لا ب "من" مخرج الخبر عن غير بني آدم، لأن الذي كانوا يعبدونه إنما كان حجرًا أو خشبًا أو نحاسًا، أو بعض الأشياء التي يخبر عنها ب "ما" لا ب "من"، فقيل لذلك: "ما"، ثم قيل: "وهم"، فأخرجت كنايتهم مُخْرَج كناية بني آدم، لأن الخبر عنها بتعظيم المشركين إياها، نظير الخبر عن تعظيم الناس بعضهم بعضًا. * * * القول في تأويل قوله: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يخلق شيئًا من خلق الله، ولا يستطيع أن ينصرهم إن أراد الله بهم سوءًا، أو أحلّ بهم عقوبة، ولا هو قادر إن أراد به سوءًا نصر نفسه ولا دفع ضر عنها؟ وإنما العابد يعبد ما يعبده لاجتلاب نفع منه أو لدفع ضر منه عن نفسه، وآلهتهم التي يعبدونها ويشركونها في عبادة الله لا تنفعهم ولا تضرهم، بل لا تجتلب إلى نفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضرًّا، فهي من نفع غير أنفسها أو دفع الضر عنها أبعدُ؟ يعجِّب تبارك وتعالى خلقه من عظيم خطأ هؤلاء الذين يشركون في عبادتهم اللهَ غيرَه. * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 319 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره في وصفه وعيبه ما يشرك هؤلاء المشركون في عبادتهم ربَّهم إياه: ومن صفته أنكم، أيها الناس، إن تدعوهم إلى الطريق المستقيم، والأمر الصحيح السديد لا يتبعوكم، لأنها ليست تعقل شيئًا، فتترك من الطرق ما كان عن القصد منعدلا جائرًا، وتركب ما كان مستقيمًا سديدًا. * * * وإنما أراد الله جل ثناؤه بوصف آلهتهم بذلك من صفتها، تنبيهَهم على عظيم خطئهم، وقبح اختيارهم. يقول جل ثناؤه: فكيف يهديكم إلى الرشاد مَنْ إن دُعي إلى الرشاد وعُرِّفه لم يعرفه، ولم يفهم رشادًا من ضلال، وكان سواءً دعاءُ داعيه إلى الرشاد وسكوته، لأنه لا يفهم دعاءه، ولا يسمع صوته، ولا يعقل ما يقال له. يقول: فكيف يُعبد من كانت هذه صفته، أم كيف يُشْكِل عظيمُ جهل من اتخذ ما هذه صفته إلهًا؟ وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضارّ من يعصيه، الناصرُ وليَّه، الخاذل عدوه، الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه. * * * وقيل: (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) ، فعطف بقوله: "صامتون"، وهو اسم على قوله: "أدعوتموهم"، وهو فعل ماض، ولم يقل: أم صمتم، (1) كما قال الشاعر: (2)   (1) انظر سيبويه 1: 435، 456. (2) لم أعرف قائله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 320 سَوَاءٌ عَلَيْكَ النَّفْرُ أَمْ بِتَّ لَيْلَةً بِأَهْلِ الْقِبَابِ مِنْ نُمَيْرِ بنِ عَامِرِ (1) وقد ينشد: "أم أنْتَ بَائِتٌ". * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، موبِّخهم على عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام: (إن الذين تدعون) أيها المشركون، آلهةً = (من دون الله) ، وتعبدونها، شركًا منكم وكفرًا بالله = (عباد أمثالكم) ، يقول: هم أملاك لربكم، كما أنتم له مماليك. فإن كنتم صادقين أنها تضر وتنفع، وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم، فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، (2) فإن لم يستجيبوا لكم، لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضر; لأن الضر والنفع إنما يكونان ممن إذا سُئل سمع مسألة سائله وأعطى وأفضل، ومن إذا شكي إليه من شيء سمع، فضرّ من استحق العقوبة، ونفع من لا يستوجب الضرّ. * * *   (1) معاني القرآن للفراء 1: 401، وكان في المطبوعة والمخطوطة ((عليك الفقر)) ، وهو خطأ محض، صوابه من المعاني. و ((النفر)) بمعنى: النفر من منى في أيام الحج، وهو الثاني من أيام التشريق. (2) انظر تفسير ((الاستجابة)) فيما سلف 3: 483، 484 / 7: 486 - 488 / 11: 341. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 321 القول في تأويل قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه، معرِّفَهم جهل ما هم عليه مقيمون: ألأصنامكم هذه، أيها القوم = (أرجل يمشون بها) ، فيسعون معكم ولكم في حوائجكم، ويتصرفون بها في منافعكم = (أم لهم أيد يبطشون بها) ، فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشرّ ومكروهٍ = (أم لهم أعين يبصرون بها) ، فيعرفونكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه = (أم لهم آذان يسمعون بها) ، فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه؟ يقول جل ثناؤه: فإن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات التي ذكرتُها، والمعظَّم من الأشياء إنما يعظَّم لما يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم، فما وجه عبادتكم أصنامكم التي تعبدونها، وهي خالية من كل هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضر؟ وقوله: (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون) ، [قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان: ادعوا شركاءكم الذين جعلتموهم لله شركاء في العبادة = (ثم كيدون) ، (1) ] أنتم وهي (2) (فلا تنظرون) ، يقول: فلا تؤخرون بالكيد والمكر، (3) ولكن عجِّلوا بذلك. يُعْلِمه جل ثناؤه بذلك أنهم لن يضروه، وأنه قد عصمه منهم، ويُعَرِّف الكفرة به عجز أوثانهم عن نصرة من بغى أولياءهم بسوء. * * *   (1) هذه العبارة التي بين الأقواس، استظهرتها من سياق الآية والتفسير، وظاهر أنها قد سقطت من الناسخ، وأن الكلام بغيرها، أو بغير ما يقوم ما مقامها، لا يستقيم. (2) في المطبوعة: ((أنتم وهن)) ، وأثبت ما في المخطوطة. ثم انظر تفسير ((الكيد)) فيما سلف ص 288، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((الإنظار)) فيما سلف 12: 331، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 322 القول في تأويل قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للمشركين من عبدة الأوثان = "إن وليي"، نصيري ومعيني وظهيري عليكم (1) = (الله الذي نزل الكتاب) عليّ بالحق، وهو الذي يتولى من صلح عمله بطاعته من خلقه. * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) } قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه أن يقوله للمشركين. يقول له تعالى ذكره: (2) قل لهم، إن الله نصيري وظهيري، والذين تدعون أنتم أيها المشركون من دون الله من الآلهة، لا يستطيعون نصركم، ولا هم مع عجزهم عن نصرتكم يقدرون على نصرة أنفسهم، فأي هذين أولى بالعبادة وأحق بالألوهة؟ أمن ينصر وليه ويمنع نفسه ممن أراده، أم من لا يستطيع نصر وليه ويعجز عن منع نفسه ممن أراده وبَغاه بمكروه؟ * * *   (1) انظر تفسير ((الولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . (2) في المطبوعة: ((بقوله تعالى)) ، وفي المخطوطة مثله غير منقوط، والصواب: ((يقول له)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 323 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين: وإن تدعوا، أيها المشركون، آلهتكم إلى الهدى =وهو الاستقامة إلى السداد= (لا يسمعوا) ، يقول: لا يسمعوا دعاءكم = (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) . * * * وهذا خطاب من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم. يقول: وترى، يا محمد، آلهتهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون = ولذلك وحَّد. (1) ولو كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب المشركين، لقال: "وترونهم ينظرون إليكم". (2) * * * وقد روى عن السدي في ذلك ما: - 15533 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك هم لا يبصرون) قال: هؤلاء المشركين. * * * وقد يحتمل قول السدي هذا أن يكون أراد بقوله: "هؤلاء المشركون"، قول الله: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا) . وقد كان مجاهد يقول في ذلك، ما: - 15534 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن   (1) يعني أن الخطاب أولا كان للمشركين جميعا، فقال: "وإن تدعوهم"، ثم قال: "وتراهم" على الإفراد، خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) في المخطوطة: ((وترونهم ينظرون إليك ... )) وبعد ((إليك)) بياض بقدر كلمة. والذي في المطبوعة شبيه بالصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 324 ابن أبي نجيح عن مجاهد: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) ، ما تدعوهم إلى الهدى. وكأنّ مجاهدًا وجّه معنى الكلام إلى أن معناه: وترى المشركين ينظرون إليك وهم لا يبصرون = فهو وجهٌ، ولكن الكلام في سياق الخبر عن الآلهة، فهو بوصفها أشبه. * * * قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما معنى قوله: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) ؟ وهل يجوز أن يكون شيء ينظر إلى شيء ولا يراه؟ قيل: إن العرب تقول للشيء إذا قابل شيئًا أو حاذاه: "هو ينظر إلى كذا"، ويقال: "منزل فلان ينظر إلى منزلي" إذا قابله. وحكي عنها: "إذا أتيتَ موضع كذا وكذا، فنظر إليك الجبل، فخذ يمينًا أو شمالا". وحدثت عن أبي عبيد قال: قال الكسائي: "الحائط ينظر إليك" إذا كان قريبًا منك حيث تراه، ومنه قول الشاعر: (1) إِذَا نَظَرْتَ بِلادَ بَنِي تَمِيمٍ بِعَيْنٍ أَوْ بِلادَ بَنِي صُبَاحِ   (1) لم أعرف قائله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 325 (1) يريد: تقابل نبتُها وعُشْبها وتحاذَى. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الكلام: وترى، يا محمد، آلهة هؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، يقابلونك ويحاذونك، وهم لا يبصرونك، لأنه لا أبصار لهم. وقيل: "وتراهم"، ولم يقل: "وتراها"، لأنها صور مصوَّرة على صور بني آدم عليه السلام. * * * القول في تأويل قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم: تأويله: (خذ العفو) من أخلاق الناس، وهو الفضل وما لا يجهدهم. (2) * ذكر من قال ذلك: 15535 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن مجاهد، في قوله: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس. (3) 15536 - حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (خذ العفو) قال: عفو أخلاق الناس، وعفوَ أمورهم. 15537 - حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدثني ابن أبي الزناد،   (1) نوادر أبي زيد: 131، أساس البلاغة (عين) ، المقاييس 4: 203، ورواية أبي زيد:إذا نظرت بلاد بني حبيب ... بعينٍ أو بلاد بني صباح رميناهم بكل أقب نهدٍ ... وفتيان الغدو مع الرواح ولا أدري ما ((بنو حبيب)) ، وأما ((بنو صباح)) ، فهم في ضبة، والظاهر أن في غيرهم من العرب أيضاً ((بنو صباح)) . انظر الاشتقاق: 122. ورواية الزمخشري وابن فارس ((بلاد بني نمير)) ، فلا أدري ما أصح ذلك، حتى يعرف صاحب الشعر، وفيمن قيل. قال الزمخشري قبل استشهاده بالشعر: ((نظرت الأرض بعين أو بعينين)) ، إذا طلع بأرض ما ترعاه الماشية بغير استكمال. وقال ابن فارس: إذا طلع النبت، وكل هذا محمول، واستعارة وتشبيه. (2) (1) انظر تفسير ((العفو)) فيما سلف 4: 337 - 343. (3) (2) في المخطوطة هنا، وفي الذي يليه رقم: 15539 ((تحسيس)) بالياء، ولا أدرى ما هو. و ((تحسس الشيء)) تبحثه وتطلبه، كأنه يعني الاستقصاء في الطلب، يؤيد هذا ما سيأتي برقم: 15542. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 326 عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله: (خذ العفو) ،.. الآية. قال عروة: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. (1) 15538 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس: (خذ العفو وأمر بالعرف) ، الآية. (2) 15539 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد: (خذ العفو) ، من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس. (3) 15540 - .... قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن ابن الزبير: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس، والله لآخذنَّه منهم ما صحبتم. (4) 15541 - .... قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير (5) قال: إنما أنزل الله: (خذ العفو) ، من أخلاق الناس. 15542 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (خذ العفو) قال: من أخلاق   (1) (1) الأثر: 15537 - رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 229) من طريق عبد الله بن براد، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير. وانظر ما قاله فيه الحافظ ابن حجر. (2) (2) الأثر: 15538 - ((هشام بن عروة بن الزبير)) ، ثقة، معروف، مضي مرارًا.وأبوه ((عروة بن الزبير)) ، يروى عن أخيه ((عبد الله بن الزبير)) . وكان في المطبوعة هنا: ((عن أبي الزبير)) ، وهو خطأ، صوابه ما كان في المخطوطة. وهذا خبر صحيح، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 299) وسيأتي برقم 15541، بإسناد آخر (3) انظر التعليق السالف، ص: 326 رقم: 2. (4) الأثر: 15540 - ((ابن الزبير)) ، وهو ((عبد الله بن الزبير)) ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا ((أبي الزبير)) ، وهو خطأ صححناه آنفاً. (5) في المطبوعة هنا ((عن أبي الزبير)) ، وهو خطأ كما أسلفت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 327 الناس وأعمالهم، من غير تحسس =أو تجسس، شك أبو عاصم. (1) * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: خذ العفو من أموال الناس، وهو الفضل. قالوا: وأمر بذلك قبل نزول الزكاة، فلما نزلت الزكاة نُسِخ. * ذكر من قال ذلك: 15543 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (خذ العفو) ، يعني: خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء فخذه. فكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت الصدقات إليه. 15544 - حدثني محمد بن الحسين. قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (خذ العفو) ، أما "العفو": فالفضل من المال، نسختها الزكاة. 15545 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله: (خذ العفو) ، يقول: خذ ما عفا من أموالهم. وهذا قبل أن تنزل الصدقة المفروضة. * * * وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض قتالهم عليه. * ذكر من قال ذلك: 15546 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (خذ العفو) قال: أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة. قال: ثم أمره بالغلظة عليهم، وأن يقعد لهم كل مَرْصَد، وأن يحصرهم، ثم قال: (فَإِنْ تَابُوا   (1) ((التجسس)) ، مثل ((التحسس)) ، مع خلاف يسير، وانظر ما سلف ص: 326، تعليق رقم: 2. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 328 وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) ، [سورة التوبة: 5، 11] الآية، كلها. وقرأ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ، [سورة التوبة: 73 / سورة التحريم: 9] قال: وأمر المؤمنين بالغلظة عليهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) ، [سورة التوبة: 123] بعدما كان أمرهم بالعفو. وقرأ قول الله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) ، [سورة الجاثية: 14] ثم لم يقبل منهم بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل، فنسخت هذه الآية العفو. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم = وقال: أُمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك تعليمَه نبيَّه صلى الله عليه وسلم محاجَّته المشركين في الكلام، وذلك قوله: (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون) ، وعقَّبه بقوله: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) ، فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيَّه صلى الله عليه وسلم في عشرتهم به، (2) أشبهُ وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين. * * * فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟ قيل: لا دلالة عندنا على أنه منسوخ، إذ كان جائزًا أن يكون = وإن كان الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم في تعريفه عشرةَ من لم يُؤْمَر بقتاله من المشركين = مرادًا به تأديبُ نبيّ الله والمسلمين جميعًا في عشرة الناس، وأمرهم بأخذ عفو   (1) مضي خبر آخر برقم: 4175، فيه ذكر هذه الآية، وتفسيرها بذلك عن ابن عباس. (2) قوله: ((به)) في آخر الجملة، متعلق بقوله في أولها ((من تأديبه)) ، كأنه قال ((من تأديبه به)) ، أي بهذا الذي بين الآيتين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 329 أخلاقهم، فيكون وإن كان من أجلهم نزل تعليمًا من الله خلقه صفةَ عشرة بعضهم بعضًا، [إذا] لم يجب استعمال الغلظة والشدة في بعضهم، (1) فإذا وجب استعمال ذلك فيهم، استعمل الواجب، فيكون قوله: (خذ العفو) ، أمرًا بأخذه ما لم يجب غيرُ العفو، فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك. فلا يحكم على الآية بأنها منسوخة، لما قد بينا ذلك في نظائره في غير موضع من كتبنا. (2) * * * وأما قوله: (وأمر بالعرف) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم بما: - 15547 - حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي قال: حدثني حسين الجعفي، عن سفيان بن عيينة، عن رجل قد سماه قال: لما نزلت هذه الآية: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ما هذا؟ قال: ما أدري حتى أسأل العالِم! قال: ثم قال جبريل: يا محمد، إن الله يأمرك أن تَصِل مَن قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. (3) 15548 - حدثني يونس قال: أخبرنا سفيان، عن أمَيّ قال: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفوَ عمن ظلمك، وتعطيَ من حرمك، وتصل من قطعك. (4) * * *   (1) في المطبوعة ((لم يجب)) ، بغير ((إذا)) ، فوضعتها بين قوسين، فالسياق يتطلبها، وإلا اضطرب الكلام. (2) انظر مقالة أبي جعفر في ((النسخ)) فيما سلف من فهارس الأجزاء الماضية. (3) الأثر: 15547 - ((الحسن بن الزبرقان النخعي)) ، شيخ الطبري، مضى برقم: 2995. والرجل الذي لم يسم في هذا الخبر هو ((أمي بن ربيعة)) ، الذي يأتي في الخبر التالي. (4) الأثر: 15548 - ((سفيان)) هو ابن عيينة. و ((أمي)) هو: ((أمي بن ربيعة المرادى الصيرفي)) ، سمع الشعبي، وعطاء، وطاوس. روى عنه سفيان بن عيينة، وشريك. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 254، والكبير 1/2/ 67، وابن أبي حاتم 1/1/ 347. وكان في المخطوطة فوق ((أمى)) حرف (ط) دلالة على الخطأ، وبالهامش (كذا) ، ولكن الناسخ جهل الاسم فأشكل علية. فجاء في المطبوعة فجعله ((أبى)) ، وكذلك في تفسير ابن كثير 3: 618، والصواب ما اثبت. وهذا الخبر، رواه ((أمى بن ربيعة)) ، عن الشعبي، كما يظهر ذلك من روايات الخبر في ابن كثير، والدر المنثور 3: 153. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 330 وقال آخرون بما:- 15549 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: {وأمر بالعرف} ، يقول: بالمعروف. 15550 - حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: {وأمر بالعرف} قال: أما العرف: فالمعروف. 15551 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وأمر بالعرف} ، أي: بالمعروف. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالعرف =وهو المعروف في كلام العرب، مصدر في معنى: "المعروف". * * * يقال: "أوليته عُرْفًا، وعارفًا، وعارفةً" (1) كل ذلك بمعنى: "المعروف". (2) * * * فإذا كان معنى العرف ذلك، فمن "المعروف" صلة رحم من قطع، وإعطاء من حرم، والعفو عمن ظلم. وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه، فهو من العرف. ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى; فالحق فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله، لا ببعض معانيه دون بعض. * * *   (1) قولة: ((عارفا)) ، لم أجدها في المعاجم، وهي صحيحة فيما أرجح. (2) انظر تفسير ((المعروف)) فيما سلف ص: 165، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 331 وأما قوله: (وأعرض عن الجاهلين) ، فإنه أمر من الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمن جهل. (1) وذلك وإن كان أمرًا من الله نبيَّه، فإنه تأديب منه عز ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم، (2) لا بالإعراض عمن جهل الواجبَ عليه من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حَرْبٌ. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15552 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال: أخلاقٌ أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ودلَّه عليها. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) ، وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدُّك عن الإعراض عن الجاهلين، ويحملك على مجازاتهم. = (فاستعذ بالله) ، يقول: فاستجر بالله من نزغه = (3) (إنه سميع عليم) ،   (1) انظر تفسير ((الإعراض)) فيما سلف 12: 32، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير ((الجهل)) فيما سلف 2: 183 / 8: 89 - 92 / 11: 339، 340، 393، 394. (2) يعني أن "الجهل" هنا بمعنى السفه والتمرد والعدوان، لا بمعنى "الجهل" الذي هو ضد العلم والمعرفة. (3) انظر تفسير ((الاستعاذة)) فيما سلف 1: 111 / 6: 326. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 332 يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزع الشيطان = (سميع) لجهل الجاهل عليك، ولاستعاذتك به من نزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء = (عليم) بما يذهب عنك نزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خلقه، (1) كما: 15553 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف بالغضب يا رب؟ قال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) . 15554 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) قال: علم الله أن هذا العدوَّ مَنِيع ومَريد. * * * وأصل "النزغ": الفساد، يقال: "نزغ الشيطان بين القوم"، إذا أفسد بينهم وحمّل بعضهم على بعض. ويقال منه: "نزغ ينزغ"، و"نغز ينغز". * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن الذين اتقوا) ، اللهَ من خلقه، فخافوا عقابه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه = (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) ، (2) يقول: إذا ألمَّ بهم لَمَمٌ من الشيطان، (3) من غضب أو غيره مما   (1) انظر تفسير ((سميع)) و ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) و (علم) . (2) انظر تفسير ((المس)) فيما سلف ص: 303، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: ((إذا ألم بهم طيف)) ، لم يحسن قراءة المخطوطة، فاستبدل بما كان فيها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 333 يصدّ عن واجب حق الله عليهم، تذكروا عقاب الله وثوابه، ووعده ووعيده، وأبصروا الحق فعملوا به، وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم، وتركوا فيه طاعة الشيطان. واختلفت القرأة في قراءة قوله: "طيف". فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (طَائِفٌ) ، على مثال "فاعل". * * * وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين: "طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ". (1) * * * واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين "الطائف" و"الطيف. فقال بعض البصريين: "الطائف" و"الطيف" سواء، وهو ما كان كالخيال والشيء يلم بك. (2) قال: ويجوز أن يكون "الطيف" مخففًا عن "طَيِّف" مثل "مَيْت" و"مَيِّت". * * * وقال بعض الكوفيين: "الطائف": ما طاف بك من وسوسة الشيطان. وأما "الطيف": فإنما هو من اللّمم والمسِّ. * * * وقال أخر منهم: "الطيف": اللّمم، و"الطائف": كل شيء طاف بالإنسان. * * * وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: "الطيف": الوسوسة. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: (طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) ، لأن أهل التأويل تأولوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به. وإذا كان ذلك معناه، كان معلومًا = إذ كان "الطيف" إنما   (1) انظر معاني القراًن للقراء 1: 402. (2) نسبها أبو جعفر إلى البصريين، وهي في لسان العرب (طوف) ، منسوبة إلى الفراء، وهو كوفي، ولم أجدها في المطبوع من معاني القرآن. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 334 هو مصدر من قول القائل: "طاف يطيف" = أن ذلك خبر من الله عما يمس الذين اتقوا من الشيطان، وإنما يمسهم ما طاف بهم من أسبابه، وذلك كالغضب والوسوسة. وإنما يطوف الشيطان بابن آدم ليستزلَّه عن طاعة ربه، أو ليوسوس له. والوسوسة والاستزلال هو "الطائف من الشيطان". (1) * * * وأما "الطيف" فإنما هو الخيال، وهو مصدر من "طاف يطيف"، ويقول: لم أسمع في ذلك "طاف يطيف" (2) ويتأوله بأنه بمعنى "الميت" وهو من الواو. * * * وحكى البصريون وبعض الكوفيين سماعًا من العرب: (3) "طاف يطيف"، و"طِفْتُ أطِيف"، وأنشدوا في ذلك: (4) أنَّى أَلَمَّ بِكَ الخَيَالُ يَطِيفُ وَمَطَافُهُ لَكَ ذِكْرَةٌ وَشُعُوفُ (5) * * * وأما التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: ذلك "الطائف" هو الغضب. * ذكر من قال ذلك. 15555 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان، عن   (1) من أول قوله: ((وأما الطيف)) ، إلى آخر الفقرة الثانية المختومة بيت من الشعر، لا أشك أنه قد وضع في غير موضعه. فهو يقول بعد: ((ويقول: لم أسمع في ذلك)) ، وهذا القائل غير أبي جعفر بلا شك، ولم استطع تحديد موضعه من الأقوال السالفة. فلذلك تركته مكانه وفصلته. وكان حقه أن يقدم قبل قوله: ((قال أبو جعفر: وأولى القراءتين. . .)) . (2) قوله: ((ولم اسمع في ذلك طاف يطيف)) ، يعنى في ((الطائف)) . (3) هذا نص كلام أبي عبيده في مجاز القرآن 1: 237، إلى آخره. (4) كعب بن زهير. (5) ديوانه: 113، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 237، واللسان (طيف) (شعف) ، من قصيده له طويلة. و ((الشعوف)) مصدر من قولهم ((شعفه حب فلانة)) ، إذا أحرق قلبه، ووجد لذة اللوعة في احتراقه، وفي ذهاب لبه حتى لا يعقل غير الحب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 335 أشعث، عن جعفر، عن سعيد: (إذا مسهم طائف) قال: و"الطيف": الغضب. 15556 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: "إذا مسهم طيف من الشيطان" قال: هو الغضب. (1) 15557 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: الغضب. 15558 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إذا مسهم طَيْف من الشيطان تذكروا) قال: هو الغضب. 15559 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (طائف من الشيطان) قال: الغضب. * * * وقال آخرون: هو اللَّمَّة والزَّلة من الشيطان. * ذكر من قال ذلك: 15560 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) ، و"الطائف": اللَّمَّة من الشيطان = (فإذا هم مبصرون) . 15561 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين اتقوا إذا مسهم   (1) تركت ما في الآثار على ما جاء في المخطوطة: ((طائف)) مرة، و ((طيف)) أخرى، وهما قراءتان في الآية كما سلف قبل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 336 طائف من الشيطان) ، يقول: نزغٌ من الشيطان = (تذكروا) . 15562 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) ، يقول: إذا زلُّوا تابوا. * * * قال أبو جعفر: وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لأن "الغضب" من استزلال الشيطان، و"اللّمة" من الخطيئة أيضًا منه، وكل ذلك من طائف الشيطان. (1) وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لخصوص معنى منه دون معنى، بل الصواب أن يعم كما عمه جل ثناؤه، فيقال: إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان، ما كان ذلك العارض، تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره. * * * وأما قوله: (فإذا هم مبصرون) ، فإنه يعني: فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان. كما: - 15563 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فإذا هم مبصرون) ، يقول: إذا هم منتهون عن المعصية، آخذون بأمر الله، عاصون للشيطان. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي. (2) يعني بقوله: (يمدونهم) ، يزيدونهم، ثم لا ينقصون عما نقص عنه   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((وكان ذلك)) ، والصواب ما أثبت. (2) انظر تفسير ((الغي)) فيما سلف ص: 261، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 337 الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان. (1) وإنما هذا خبرٌ من الله عن فريقي الإيمان والكفر، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه، فكفَّتهم رهبته عن معاصيه، وردّتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم زلَّةً = وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيًّا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله، ولا يحجزهم تقوى الله، ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها، فهو أبدًا في زيادة من ركوب الإثم، والشيطان يزيده أبدًا، لا يقصر الإنسي عن شيء من ركوب الفواحش، ولا الشيطان من مدِّه منه، (2) كما: - 15564 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون) قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تُمْسك عنهم. 15565 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) ، يقول: هم الجن، يوحون إلى أوليائهم من الإنس = (ثم لا يقصرون) ، يقول: لا يسأمون. 15566 - حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وإخوانهم يمدونهم في الغيّ) ، إخوان الشياطين من المشركين، يمدهم الشيطان في الغيّ = (ثم لا يقصرون) ، 15567 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال:   (1) في المطبوعة: ((ثم لا يقصرون عما قصر عنه الذي اتقوا)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وبنحو المعنى ذكره أبو حيان في تفسيره 4: 451، قال: ((ثم لا ينقصون من إمدادهم وغوايتهم)) . فلذلك أبقيت ما في المخطوطة على حاله، وإن كنت في شك من جودته. (2) هكذا فعل الطبري، أتى بالضمائر مفردة بعد الجمع، وقد تكرر ذلك في مواضع كثيرة من تفسيره، أقربها ما أشرت إليه في ص 286،، تعليق: 2. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 338 قال ابن جريج قال عبد الله بن كثير: وإخوانهم من الجن، يمدون إخوانهم من الإنس = (ثم لا يقصرون) ، يقول لا يقصر الإنسان. قال: و"المد" الزيادة، يعني: أهل الشرك، يقول: لا يُقصر أهل الشرك، كما يقصر الذين اتقوا، لا يرعَوُون، لا يحجزهم الإيمان (1) = قال ابن جريج قال مجاهد (وإخوانهم) ، من الشياطين = (يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) ، استجهالا يمدون أهل الشرك = قال ابن جريج: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) ، [سورة الأعراف: 179] . قال: فهؤلاء الإنس. يقول الله: (وإخوانهم يمدونهم في الغي) . 15568 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: ثني محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) قال: إخوان الشياطين، يمدهم الشياطين في الغيّ = (ثمّ لا يقصرون) . 15569 - حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = (وإخوانهم) ، من الشياطين. (يمدونهم في الغي) ، استجهالا. * * * وكان بعضهم يتأول قوله: (ثم لا يقصرون) ، بمعنى: ولا الشياطين يقصرون في مدِّهم إخوانَهم من الغيّ. * ذكر من قال ذلك: 15570 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) ، عنهم، ولا يرحمونهم. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا أولى التأويلين عندنا بالصواب. وإنما اخترنا ما اخترنا   (1) في المطبوعة مكان ((لا يرعوون)) . ((لأنهم لا يحجزهم)) ... )) . لم يحسن قراءتها، لأنها كانت في المخطوطة: ((لا يرعون)) . والصواب ما أثبت ((ارعوى عن القبيح)) . ندم. فانصرف عنه وكف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 339 من القول في ذلك على ما بيناه; لأن الله وصفَ في الآية قبلها أهل الإيمان به، وارتداعَهم عن معصيته وما يكرهه إلى محبته عند تذكرهم عظمته، ثم أتبع ذلك الخبرَ عن إخوان الشياطين وركوبهم معاصيه، فكان الأولى وصفهم بتماديهم فيها، (1) إذ كان عَقِيب الخبر عن تقصير المؤمنين عنها. * * * وأما قوله: (يمدونهم) ، فإنَّ القرأة اختلفت في قراءته. فقرأه بعض المدنيين: "يُمِدُّونَهُمْ" بضم الياء من "أمددت". * * * وقرأته عامة قرأة الكوفيين والبصريين: (يَمُدُّونَهُمْ) ، بفتح الياء من "مددت". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (يَمُدُّونَهُمْ) ، بفتح الياء، لأن الذي يمد الشياطينُ إخوانَهم من المشركين، إنما هو زيادة من جنس الممدود، وإذا كان الذي مد من جنس الممدود، كان كلام العرب "مددت" لا "أمددت". (2) * * * وأما قوله: (يقصرون) ، فإن القرأة على لغة من قال: "أقصَرْت أقْصِر". وللعرب فيه لغتان: "قَصَرت عن الشيء" و"أقصرت عنه". (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا لم تأت، يا محمد، هؤلاء المشركين بآية من الله = (قالوا لولا اجتبَيتَها) ، يقول: قالوا: هلا اخترتها واصطفيتها.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: ((وكان الأولى)) بالواو، والسياق يقتضى الفاء. (2) انظر تفسير ((مد)) و ((أمد)) فيما سلف 1: 306 - 308 / 7: 181. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 402، وصحح الخطأ هناك، فإنه ضبط ((قصر)) بضم الصاد، والصواب فتحها لا صواب غيره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 340 (1) = من قول الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) ، [سورة آل عمران: 179] يعني: يختار ويصطفي. وقد بينا ذلك في مواضعه بشواهده. (2) * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: هلا افتعلتها من قِبَل نفسك واختلقتها؟ بمعنى: هلا اجتبيتها اختلاقًا؟ كما تقول العرب: "لقد اختار فلان هذا الأمر وتخيره اختلاقًا". (3) * ذكر من قال ذلك: 15571 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا أجتبيتها) ، أي: لولا أتيتنا بها من قِبَل نفسك؟ هذا قول كفار قريش. 15572 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قوله: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) قالوا: لولا اقتضبتها! (4) قالوا: تخرجها من نفسك. 15573 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) قالوا: لولا تقوَّلتها، جئتَ بها من عندك؟. 15574 - حدثني المثنى قال: حدثني عبد الله قال: حدثني معاوية، عن   (1) انظر تفسير ((لولا)) فيما سلف 11: 356، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير ((اجتبى)) فيما سلف 7: 437 / 11: 512، 513. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 402، والتعليق عليه هناك. وهذا معنى غريب جداً في ((اختار)) ، أنا في ريب منه، إلا أن يكون أراد أن العرب تقول في مجازها ((اختار الشيء اختلاقاً، كل ذلك بمعنى: اختلقه، لا أن ((اختار)) بمعنى اختلق. وإن كان صاحب اللسان قد اتبع قول الفراء الآتى بعد ص 343 ((وهو في كلام العرب جائز أن يقول: ((لقد اختار لك الشيء واجتباه وارتجله)) . (4) ((اقتضب الكلام اقتضاباً)) ، ارتجله من غير تهيئة أو إعداد له. يقال: ((هذا شعر مقتضب، وكتاب مقتضب)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 341 علي، عن ابن عباس، قوله: (لولا اجتبيتها) ، يقول: لولا تلقَّيتها = وقال مرة أخرى: لولا أحدَثتها فأنشأتها. 15575 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (قالوا لولا اجتبيتها) ، يقول: لولا أحدثتها. 15576 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: (لولا اجتبيتها) قال: لولا جئت بها من نفسك! * * * وقال آخرون: معنى ذلك: هلا أخذتها من ربك وتقبَّلتها منه؟ (1) * ذكر من قال ذلك: 15577 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لولا اجتبيتها) ، يقول: لولا تقبَّلتها من الله! 15578 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لولا اجتبيتها) ، يقول: لولا تلقَّيتَها من ربك! 15579 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لولا اجتبيتها) ، يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويلُ من قال تأويله: هلا أحدثتها من نفسك! لدلالة قول الله: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ، فبيَّن ذلك أن الله إنما أمر نبيه صلى الله عليه   (1) في المطبوعة والمخطوطة، في هذا الموضع، والذي يليه في الأثر: ((تقبلتها)) ، وفي الأثر الذي بعده: ((تلقيتها؛ في المخطوطة والمطبوعة، وأرجو أن يكون هذا الأخير هو الصواب، كما سلفت في رقم: 15574، وإن كان الأول جائزا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 342 وسلم، (1) بأن يجيبهم بالخبر عن نفسه أنه إنما يتبع ما ينزل عليه ربه ويوحيه إليه، لا أنه يحدث من قبل نفسه قولا وينشئه فيدعو الناس إليه. * * * وحكي عن الفراء أنه كان يقول: "اجتبيت الكلام" و"اختلقته"، و"ارتجلته": إذا افتعلته من قِبَل نفسك. (2) 15580 - حدثني بذلك الحارث قال: حدثنا القاسم عنه. * * * قال أبو عبيدة: وكان أبو زيد يقول: إنما تقول العرب ذلك للكلام يبتدئه الرجل، (3) لم يكن أعدَّه قبل ذلك في نفسه. قال أبو عبيد: و"اخترعته" مثل ذلك. (4) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للقائلين لك إذا لم تأتهم بآية: "هلا أحدثتها من قبل نفسك! ": إن ذلك ليس لي، ولا يجوز لي فعله; لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليّ من عنده، فإنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي، لأني عبده، وإلى أمره أنتهي، وإياه أطيع. (5) = (هذا بصائر من ربكم) ، يقول: هذا القرآن والوحي الذي أتلوه عليكم = "بصائر من ربكم"، يقول: حجج عليكم، وبيان لكم من ربكم. * * *   (1) في المخطوطة والمطبوعة: ((يبين ذلك أن الله ... ) والسياق يقتضى ما أثبت. (2) انظر ما سلف ص 341، تعليق رقم: 2. (3) في المطبوعة: ((يبديه الرجل)) ، وفي المخطوطة: ((البديه الرجل)) ، وكأن الصواب ما أثبت. (4) في المطبوعة: ((واخترعه)) ، وأثبت ما في المخطوطة. (5) انظر تفسير ((الاتباع)) ، و ((الوحي)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) و (وحي) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 343 = واحدتها "بصيرة"، كما قال جل ثناؤه: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، [سورة الجاثية: 20] . (1) . * * * وإنما ذكر "هذا" ووحّد في قوله: (هذا بصائر من ربكم) ، لما وصفت من أنه مرادٌ به القرآن والوحي. * * * وقوله: (وهدى) ، يقول: وبيان يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم = (ورحمة) ، رحم الله به عباده المؤمنين، فأنقذهم به من الضلالة والهلكة = (لقوم يؤمنون) ، يقول: هو بصائر من الله وهدى ورحمة لمن آمن، يقول: لمن صدَّق بالقرآن أنه تنزيل الله ووحيه، وعمل بما فيه، دون من كذب به وجحده وكفر به، (2) بل هو على الذين لا يؤمنون به عمًى وخزي. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به، المصدقين بكتابه، الذين القرآنُ لهم هدى ورحمة: (إذا قرئ) ، عليكم، أيها المؤمنون، (القرآن فاستمعوا له) ، يقول: أصغوا له سمعكم، لتتفهموا آياته، وتعتبروا بمواعظه (4) = (وأنصتوا) ،   (1) انظر تفسير ((بصيرة)) فيما سلف 12: 23، 24. (2) انظر تفسير ((الهدى)) و ((الرحمة)) و ((الإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) ، (رحم) ، (أمن) . (3) في المطبوعة "غم" وفي المخطوطة "عم" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها لقوله تعالى في سورة فصلت: 44، في صفة القرآن " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى". (4) انظر تفسير ((استمع)) فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 344 إليه لتعقلوه وتتدبروه، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه = (لعلكم ترحمون) ، يقول: ليرحمكم ربكم باتعاظكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم ما بينه لكم ربكم من فرائضه في آيه. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي أمر الله بالاستماع لقارئ القرآن إذا قرأ والإنصات له. فقال بعضهم: ذلك حال كون المصلي في الصلاة خلف إمام يأتمّ به، وهو يسمع قراءة الإمام، عليه أن يسمع لقراءته. وقالوا: في ذلك أنزلت هذه الآية. * ذكر من قال ذلك: 15581 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع قال: كان عبد الله يقول: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة: "سلام على فلان، وسلام على فلان". قال: فجاء القرآن: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) . (1) 15582 - .... قال: حدثنا حفص بن غياث، عن إبراهيم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: (وإذا قرئ القرآن) ، والآية الأخرى، أمروا بالإنصات. (2)   (1) الأثر: 15581 - ((أبو بكر بن عياش)) ، ثقة معروف، مضى مرارًا. و ((عاصم)) ، هو ((عاصم بن أبي النجود)) ، ((عاصم ابن بهدلة)) ، ثقة مضى مرارًا. و ((المسيب بن رافع الأسدى)) ، تابعى ثقة، لم يلق ابن مسعود، مضى برقم 128، 6175. و ((عبد الله)) ، هو ابن مسعود. فهذا الخبر منقطع الإسناد. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 623. (2) الأثر: 15582 - سيأتي بإسناد آخر، بلفظ آخر رقم: 15601. ((حفص بن غياث)) ثقة مأمون، أخرج له الجماعة، مضى مرارًا. ((إبراهيم الهجرى)) ، هو ((إبراهيم بن مسلم الهجرى)) ، وهو ضعيف، مضى برقم: 11، 4173. و ((أبو عياض)) ، هو ((عمر بن الأسود العنسى)) ، ثقة من عباد أهل الشام، مضى برقم 1382، 11255، 12804. وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف إبراهيم الهجرى. ورواه البيهقي في السنن 2: 155، بنحوه، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 156، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 345 15583 - حدثني أبو السائب قال: حدثنا حفص، عن أشعث، عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئًا قرأه، فنزلت: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) . 15584 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناسًا يقرأون مع الإمام، فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا! أما آن لكم أن تعقلوا؟ (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) ، كما أمركم الله. (1) 15585 - حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاصّ يقص، فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت، فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت الثالثة قال: فنظرا إلي فقالا إنما ذلك في الصلاة: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) . (2) 15586 - حدثني العباس بن الوليد قال: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي   (1) الأثر: 15584 - ((بشير بن جابر)) هكذا في المطبوعة وابن كثير 3: 623. وفي المخطوطة: ((بسير)) غير منقوط، وقد أعيانى أن أجد لها وجهاً، أو أن أجد ((بشير بن جابر)) في شيء من المراجع. (2) الأثر: 15585 - ((طلحة بن عبيد بن كريز الخزاعى)) ، أبو المطرف المصرى. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/1/166، والكبير 2/2/348. وابن أبي حاتم 2 / 1 / 474. و ((كريز)) (بفتح الكاف، وكسر الراء)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 346 قال: حدثنا عبد الله بن عامر قال: ثني زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن هذه الآية: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الصلاة. (1) 15587 - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة. 15588 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رجل، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة. 15589 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس قال: حدثنا ليث، عن مجاهد: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة. 15590 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة قال: سمعت حميدًا الأعرج قال: سمعت مجاهدًا يقول في هذه الآية: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة. 15591 - .... قال: حدثني عبد الصمد قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا حميد، عن مجاهد، بمثله. 15592 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير وابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة المكتوبة.   (1) الأثر: 15586 - ((عبد الله بن عامر الأسلمى)) ، روى عنه الأوزعى، وابن أبي ذئب، وسليمان بن بلال وغيرهم. ضعفه أحمد وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/123، وميزان الاعتدال 2: 50. وهذا خبر ضعيف لضعف ((عبد الله بن عامر)) . ورواه الواحدى في أسباب النزول: 171، 172 من طريق أبي منصور المنصورى، عن عبد الله بن عامر، بمثله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 347 15593 - .... قال: حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد، وعن حجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد = وعن ابن أبي ليلى، عن الحكم = عن سعيد بن جبير: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة المكتوبة. 15594 - .... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد: في الصلاة المكتوبة. 15595 - .... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. 15596 - .... قال: حدثنا المحاربي وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: في الصلاة المكتوبة. 15597 - .... قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: في الصلاة المكتوبة. 15598 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: كانوا يتكلمون في صلاتهم بحوائجهم أوَّلَ ما فرضت عليهم، فأنزل الله ما تسمعون: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) . 15599 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم: كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) ، وقال غيره: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، فأنزل الله: (وإذا قرئ القرآن) . 15600 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن أشعث، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ورجل يقرأ، فنزلت: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 348 (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) . 15601 - .... قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: هذا في الصلاة. (1) 15602 - .... قال: حدثنا أبي، عن حريث، عن عامر قال: في الصلاة المكتوبة. 15603 - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: إذا قرئ في الصلاة. 15604 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) ، يعني: في الصلاة المفروضة. 15605 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: هذا في الصلاة في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) = قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: أنه كره إذا مرّ الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد ممن خلفَه شيئًا. قال: السكوت = قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم. 15606 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) قال: هذا إذا قام الإمام للصلاة (فاستمعوا له وأنصتوا) .   (1) الأثر: 15601 - ((الهجرى)) ، هو ((إبراهيم بن مسلم الهجرى)) ، ومضى هذا الخبر برقم: 15582، بنحوه، وبينا ضعف إسناده هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 349 15607 - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري قال: لا يقرأ مَن وراء الإمام فيما يجهر به من القراءة، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يُسْمِعهم صوته، ولكنهم يقرءون فيما لم يجهر به سرًّا في أنفسهم. ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرًّا ولا علانية. قال الله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) . 15608 - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة) ، هذا في المكتوبة. وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك، فإنما هي نافلة. إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة مكتوبة، وقرأ وراءه أصحابه، فخلَّطوا عليه قال: فنزل القرآن: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ، فهذا في المكتوبة. * * * وقال آخرون: بل عُني بهذه الآية الأمر بالإنصات للإمام في الخطبة إذا قرئ القرآن في خطبة. (1) * ذكر من قال ذلك: 15609 - حدثنا تميم بن المنتصر قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن سعيد بن مسروق، عن مجاهد، في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: الإنصات للإمام يوم الجمعة. 15610 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد وابن أبي عتبة، عن العوام، عن مجاهد قال: في خطبة يوم الجمعة. * * * وقال آخرون: عني بذلك: الإنصات في الصلاة، وفي الخطبة. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: ((إذا قرئ القرآن في خطبة)) ، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 350 15611 - حدثني ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن منصور قال: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة، يحدث أنه سمع مجاهدًا يقول في هذه الآية: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة، والخطبة يوم الجمعة. 15612 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عطاء قال: وجب الصُّمُوت في اثنتين، عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي، وعند الإمام وهو يخطب. 15613 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (وإذا قرئ القرآن) ، وجب الإنصات في اثنتين، (1) في الصلاة والإمام يقرأ، والجمعة والإمام يخطب. 15614 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال حدثنا هشيم، أخبرنا من سمع الحسن يقول: في الصلاة المكتوبة، وعند الذكر. 15615 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن جابر، عن مجاهد قال: وجب الإنصات في اثنتين: في الصلاة، ويوم الجمعة. 15616 - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن بقية بن الوليد قال: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: الإنصات: يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة. (2)   (1) في المطبوعة: ((وإذا قرئ القرآن، وجب الإنصات قال: وجب في اثنتين. وهو مضطرب صوابه من المخطوطة، بحذف ما زاده، وتقديم ما أخره. (2) الأثر: 15616 - ((ثابت بن عجلان الأنصارى السلمي)) ، متكلم فيه، وثقه بعضهم، ومرضه آخرون. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/166، ولم يذكر فيه جرحاً، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 455. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 351 15617 - حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن [عون] قال: أخبرنا هشيم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن قال: في الصلاة، وعند الذكر. (1) 15618 - حدثنا ابن البرقي قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: ثني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح قال: أوجب الإنصات يوم الجمعة، قول الله تعالى ذكره: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ، وفي الصلاة مثل ذلك. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان من خلفه ممن يأتمّ به يسمعه، وفي الخطبة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا"، (2) وإجماع الجميع على أن [على] من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة، الاستماعَ والإنصاتَ لها، (3) مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسامعه، من قارئه، إلا في هاتين الحالتين، (4) على اختلاف في إحداهما، وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به. وقد صح الخبر عن رسول   (1) الأثر: 15617 - ((عمرو بن عون الواسطى)) ، مضى مرارًا. وكان في المخطوطة: ((قال حدثنا عمرو بن قال أخبرنا هشيم)) ، سقط من الإسناد ما أثبته بين القوسين. وكان في المطبوعة: ((عمرو بن حماد)) ، مكان ((عمرو بن عون)) ، وهو فاسد وسئ جداً. وقد مضى مرارًا مثل إسناد ((المثنى)) هذا إلى ((هشيم)) برقم: 3159، 3879، 10962، وغيرها. فمن هذا استظهرت ما أثبته، وهو الصواب إن شاء الله. (2) انظر تخريج الخبر في السنن الكبرى 2: 155، 156. (3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، والسياق: ((أن على من سمع ... الاستماع والإنصات)) . (4) في المخطوطة حرف (ط) فوق ((لسامعه)) ، دلالة على الخطأ والشك في صحته، ولكنه مستقيم. وهو عطف على ما قبله، كأنه قال: وأنه لا وقت يجب الإنصات لسامعه، من قارئه)) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 352 الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا من قوله: "إذا قرأ الإمام فانصتوا" فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان به مؤتمًّا سامعًا قراءته، بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم * * * القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (واذكر) أيُّها المستمع المنصت للقرآن، إذا قرئ في صلاة أو خطبة (1) =، (ربك في نفسك) ، يقول: اتعظ بما في آي القرآن، واعتبر به، وتذكر معادك إليه عند سماعكه = (تضرعًا) ، يقول: افعل ذلك تخشعًا لله وتواضعًا له. (2) (وخيفة) ، يقول: وخوفًا من الله أن يعاقبك على تقصير يكون منك في الاتعاظ به والاعتبار، وغفلة عما بين الله فيه من حدوده. (3) = (ودون الجهر من القول) ، يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار. (4) يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار، ولكن في خفاء من القول، كما:-   (1) رد ابن كثير ما ذهب إليه الطبري في تفسير هذه الآية فقال: ((زعم ابن جرير، وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه للذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد، مناف للإنصات المأمور به. ثم إن المراد بذلك في الصلاة كما تقدم، أو في الصلاة والخطبة. ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سراً أو جهراً. وهذا الذي قالاه، لم يتابعا عليه. بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين)) . تفسير ابن كثير 3: 626، 627. وهذا الذي قاله هو الصواب المحض إن شاء الله. (2) انظر تفسير ((التضرع)) فيما سلف 13: 572 تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير ((الخوف)) فيما سلف 9: 123، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير ((الجهر)) فيما سلف 2: 80 / 9: 344، 358 / 11: 368. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 353 15619 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول) ، لا يجهر بذلك. 15620 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول) ، الآية قال: أمروا أن يذكروه في الصدور تضرعًا وخيفة. 15621 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن حيان بن عمير، عن عبيد بن عمير، في قوله: (واذكر ربك في نفسك) قال: "يقول الله إذا ذكرني عبدي في نفسه، ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني عبدي وحده ذكرته وحدي، وإذا ذكرني في ملإ ذكرته في أحسنَ منهم وأكرم". (1) 15622 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة) قال: يؤمر بالتضرع في الدعاء والاستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء. * * * وأما قوله: (بالغدو والآصال) ، فإنه يعني بالبُكَر والعشِيَّات. * * * وأما "الآصال" فجمع، واختلف أهل العربية فيها.   (1) الأثر: 15621 - ((ابن التيمى)) ، هو: ((معتمر بن سليمان بن طرخان التيمى)) وأبوه ((سليمان بن طرخان التيمى)) ، وقد مضيا مرارًا. و ((حيان بن عمر القيسمى الجريرى)) ، ثقة قليل الحديث روى عن عبد الرحمن بن سمرة، وابن عباس، وسمرة بن جندب وغيرهم. روى عنه سليمان التيمى، وسعيد الجريرى، وقتاده. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/1/ 137، 165، والكبير 2/1/ 50، وابن أبي حاتم 1/2/ 244. و ((عبيد بن عمير بن قتادة الجندعى)) ، قاص أهل مكة، تابعى ثقة من كبار التابعين، مضى برقم: 9180، 9181، 9189، وغيرها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 354 فقال بعضهم: هي جمع "أصيل"، كما "الأيمان" جمع "يمين"، و"الأسرار" جمع "سرير". (1) * * * وقال آخرون منهم: هي جمع "أصُل"، و"الأصُل" جمع "أصيل". (2) * * * وقال آخرون منهم: هي جمع "أصل" و"أصيل". قال: وإن شئت جعلت "الأصُل" جمعًا ل "لأصيل"، وإن شئت جعلته واحدًا. قال: والعرب تقول: "قد دنا الأصُل" فيجعلونه واحدًا. * * * قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، وهو أنه جائز أن يكون جمع "أصيل" و"أصُل"، لأنهما قد يجمعان على أفعال. وأما "الآصال"، فهي فيما يقال في كلام العرب: ما بين العصر إلى المغرب. * * * وأما قوله: (ولا تكن من الغافلين) ، فإنه يقول: ولا تكن من اللاهين إذا قرئ القرآن عن عظاته وعبره، وما فيه من عجائبه، ولكن تدبر ذلك وتفهمه، وأشعره قلبك بذكر الله، (3) وخضوعٍ له، وخوفٍ من قدرة الله عليك، إن أنت غفلت عن ذلك. 15623 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (بالغدو والآصال) قال: بالبكر والعشي = (ولا تكن من الغافلين) . 15624 - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا معرّف بن واصل السعدي، قال: سمعت أبا وائل يقول لغلامه عند مغيب الشمس: آصَلْنا بعدُ؟ (4)   (1) ((السرير)) الذي جمعه ((أسرار)) ، هو ((سرير الكمأة)) ، وهو ما يكون عليها من التراب والقشور والطين، وليس للكمأة عروق، ولكن لها أسرار. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 239. (3) في المخطوطة والمطبوعة: ((بذكر الله)) ، والسياق يتطلب ما أثبت. (4) الأثر: 15624 - ((معرف بن واصل السعدي)) ، ((أبو بدل)) أو ((أبو يزيد)) ، ثقة. كان أمام مسجد بنى عمرو بن سعيد بن تميم، أمهم ستين سنة، لم يسه في صلاة قط، لأنها كانت تهمه. روى عن أبي وائل وإبراهيم التيمى، والنخعى، والشعبى. وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 248، والكبير 4/2/30، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 410. و ((أبو وائل)) هو ((شقيق بن سلمة الأسدى)) ، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، حجة في العربية. وقوله: ((آصل)) ، أي: دخل في الأصيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 355 15625 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج قال: قال ابن جريج قال مجاهد، قوله: (بالغدو والآصال) قال: "الغدو"، آخر الفجر، صلاة الصبح = (والآصال) ، آخر العشي، صلاة العصر. قال: وكل ذلك لها وقت، أول الفجر وآخره. وذلك مثل قوله في "سورة آل عمران": (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) ، [سورة آل عمران: 41] . وقيل: "العشي": مَيْل الشمس إلى أن تغيب، و"الإبكار": أول الفجر. (1) 15626 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن شريك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، سئل عن [صلاة الفجر، فقال: إنها لفي كتاب الله، ولا يقوم عليها] ..... ثم قرأ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) ، الآية [سورة النور: 36] . (2)   (1) الأثر: 15625 - آخر هذا الخبر، مضى برقم: 7024، من طريق أخرى. (2) الأثر: 15626 - ((محمد بن شريك المكى)) ، ثقة، مضى برقم: 10260، مترجم في التهذيب، وابن سعد 5: 360، والكبير 1/1/112، وابن أبي حاتم 3/2/284. وهكذا جاء الخبر في المخطوطة، كما هو في المطبوعة، وأنا أكاد أقطع أنه خطأ وتحريف، وفيه سقط، ولكنى لم أجد الخبر بإسناده، فلذلك لم أغيره، ووجدت نص الخبر بغير إسناد في الدر المنثور 5: 52، عن صلاة الضحى، لا صلاة الفجر، وهو الصواب إن شاء الله قال: (وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن؟ ، وما يغوص عليها إلا غواص، في قوله: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ " فهذا صواب العبارة، ولكني وضعت ما كان في المخطوطة والمطبوعة بين قوسين، لأني لم أجد الخبر بإسناده. ووضعت مكان السقط نقطاً. ثم أتممت الآية إلى غايتها أيضاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 356 15627 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة) ، إلى قوله: (بالغدو والآصال) ، أمر الله بذكره، ونهى عن الغفلة. أما "بالغدو": فصلاة الصبح = "والآصال": بالعشي. (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا تستكبر، أيها المستمع المنصت للقرآن، عن عبادة ربك، واذكره إذا قرئ القرآن تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول، فإن الذين عند ربك من ملائكته لا يستكبرون عن التواضع له والتخشع، وذلك هو "العبادة". (2) = (ويسبحونه) ، يقول: ويعظمون ربهم بتواضعهم له وعبادتهم (3) = (وله يسجدون) ، يقول: ولله يصلون = وهو سجودهم = (4) فصلوا أنتم أيضًا له، وعظموه بالعبادة، كما يفعله من عنده من ملائكته. * * * آخر تفسير سورة الأعراف (5) * * *   (1) الأثر: 15627 - كان في المخطوطة والمطبوعة: (( ... حدثنا يزيد قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد ... )) ، زاد في الإسناد ((قال حدثنا سويد)) ، وهو خطأ محض، وإنما كرر الكتابة كتب ((يزيد)) ، ثم كتب ((سويد) ، وزاد في الإسناد. وهذا إسناد دائر في التفسير، آخره رقم: 15598. (2) انظر تفسير ((العبادة)) فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) . (3) انظر تفسير ((التسبيح)) فيما سلف 1: 474 - 476 / 6: 391، ومادة (سبح) في فهارس اللغة. (4) انظر تفسير ((السجود)) فيما سلف من فهارس اللغة (سجد) . (5) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم كثيرا. الحمد لله رب العالمين". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 357 تفسير سورة الأنفال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 358 (القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنفال ) (بسم الله الرحمن الرحيم) (رَبِّ يَسِّر) القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى "الأنفال" التي ذكرها الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: هي الغنائم، وقالوا: معنى الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر، لمن هي؟ فقل: هي لله ولرسوله. * ذكر من قال ذلك: 15628- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن عكرمة، "يسئلونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم. 15629- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم. 15630 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن مجاهد قال: "الأنفال"، المغنم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 360 15631- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: "يسألونك عن الأنفال"، قال: الغنائم. 15632 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "الأنفال"، قال: يعني الغنائم. 15633- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم. 15634 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يسألونك عن الأنفال"، "الأنفال"، الغنائم. 15635- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم. 15636- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "الأنفال"، الغنائم. 15637- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء: "يسألونك عن الأنفال"، قال: الغنائم. * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 362 وقال آخرون: هي أنفال السرايا. * ذكر من قال ذلك: 15638- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا علي بن صالح بن حي قال، بلغني في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: السرايا. * * * وقال آخرون: "الأنفال"، ما شذَّ من المشركين إلى المسلمين، من عَبْد أو دابة، وما أشبه ذلك. * ذكر من قال ذلك: 15639- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، قال: هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، دابَّة أو عبدٌ أو متاعٌ، ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء. 15640 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء: "يسألونك عن الأنفال"، قال: هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو أمة أو متاع أوثَقَل، (1) فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء. 15641- . . . . قال، حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري: أن ابن عباس سئل عن: "الأنفال"، فقال: السَّلَب والفرس. 15642- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ويقال "الأنفال"، ما أخذ مما سقط من المتاع بعد ما تُقَسَّم الغنائم، فهي نفلٌ لله ولرسوله. 15643- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عثمان بن أبي سليمان، عن محمد بن شهاب: أن رجلا قال لابن عباس: ما "الأنفال"؟ قال: الفرَس والدِّرع والرمحُ. (2)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " أو نفل "، والصواب ما أثبت. و " الثقل " (بفتحتين) ، متاع المسافر وحشمه. (2) الأثر: 15643 - " عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم النوفلي "، ثقة، كان قاضيًا على مكة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 5: 357، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 152، وهذا الخبر، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال ص 304 رقم: 757 مطولا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 363 15644- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، قال ابن جريج، قال عطاء: "الأنفال:، الفرس الشاذّ والدرع والثوب. 15645- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن ابن عباس قال: كان ينفِّل الرجل سَلَب الرجل وفرسه. (1) 15646- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا سأل ابن عباس عن "الأنفال"، فقال ابن عباس: الفرس من النَّفَل، والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضًا. ثم قال الرجل: "الأنفال"، التي قال الله في كتابه، ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد يُحْرجه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا، مَثَلُ صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ (2) 15647 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال، قال ابن عباس: كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال: "لا آمرك ولا أنهاك". ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلا زاجرًا آمرًا، محللا محرمًا= قال القاسم: فسلِّط على ابن عباس رجل يسأله عن: "الأنفال"، فقال ابن عباس: كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل، فقال له مثل ذلك، ثم أعاد عليه حتى أغضبه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مَثَل هذا، مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه= أو على رجليه؟ فقال الرجل: أمّا أنت فقد انتقم الله لعمر منك.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " فرس الرجل وسلبه "، ولكن في المخطوطة فوق "فرس" و "سلبه" حرف " م "، دلالة على التقديم والتأخير، ففعلت ذلك. (2) الأثر: 15646 - رواه مالك في الموطأ ص: 455، بلفظه هذا. " صبيغ "، هو " صبيغ بن عسل بن سهل الحنظلي "، ترجم له ابن حجر في الإصابة، في القسم الثالث، وكان صبيغ وفد على عمر المدينة، وجعل يسأل عن متشابه القرآن، فضربه عمر حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي! ونفاه عمر إلى البصرة، وكتب إليهم أن لا يجالسوه، فلم يزل صبيغ وضيعًا في قومه، بعد أن كان سيدًا فيهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 364 15647 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء: "يسألونك عن الأنفال"، قال: يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال، من دابة أو [عبد] ، (1) فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم. * * * وقال آخرون: "النفل"، الخمس الذي جعله الله لأهل الخُمُس. * ذكر من قال ذلك: 15648- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "يسألونك عن الأنفال"، قال: هو الخمس. قال المهاجرون: لِمَ يُرْفع عنا هذا الخمس، (2) لم يُخْرج منا؟ فقال الله: هو لله والرسول. 15649- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس، فنزلت: "يسألونك عن الأنفال". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى: "الأنفال"، قولُ من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم، إما من سَهْمه على حقوقهم من القسمة، (3) وإما مما وصل إليه بالنفل، أو ببعض أسبابه، ترغيبًا   (1) ما بين القوسين، في المطبوعة وحدها، مكانه في المخطوطة بياض. (2) في المخطوطة: " لم يرفع هنا "، والصواب ما في المطبوعة. (3) في المطبوعة: " إما من سلبه على حقوقهم "، وفي المخطوطة: " إما سلمه على حقوقهم "، وصواب قراءة المخطوطة ما أثبت، والذي في المطبوعة لا معنى له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 365 له، وتحريضًا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين، أو صلاح أحد الفريقين. وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك، ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس، لأن ذلك أمره إلى الإمام، إذا لم يكن ما وصلوا إليه بغلبة وقهر، (1) يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقَهر. * * * وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأن "النفل" في كلام العرب، إنما هو الزيادة على الشيء، يقال منه: "نفَّلتك كذا"، و"أنفلتك"، إذا زدتك. و"الأنفال"، جمع "نَفَل"، ومنه قول لبيد بن ربيعة: إِنَّ تَقْوَى رَبِّنا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وَعَجَلْ (2) فإذ كان معناه ما ذكرنا، فكل من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة= إن كان ذلك لبلاء أبلاه، أو لغناء كان منه عن المسلمين= بتنفيل الوالي ذلك إيّاه، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل، فهو منفل ما زيد من ذلك، لأن الزيادة نَفَلٌ، [والنَّفَل] ، وإن كان مستوجِبَهُ في بعض الأحوال لحق، ليس هو من الغنيمة التي تقع فيها القسمة. (3) وكذلك كل ما رُضِخ لمن لا سهم له في الغنيمة، فهو "نفل"، (4) لأنه وإن كان مغلوبًا عليه، فليس مما وقعت عليه القسمة.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " لغلبة "، وصواب قراءتها " بغلبة ". (2) ديوانه 2: 11، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 240، اللسان (نفل) ، وغيرها كثير، فاتحة قصيدة له طويلة. (3) كانت هذه الجملة في المطبوعة هكذا: " لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحق، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة "، غير ما كان في المخطوطة كل التغيير، والجملة في المخطوطة كما أثبتها، إلا أن صدرها كان هكذا: " لأن الزيادة أفضل وإن كان مستوجبة " غير منقوطة، سيئة الكتابة، وظاهر أن صوابها ما أثبت، مع زيادة ما زدت بين القوسين. (4) " رضخ له من المال "، أعطاه عطية مقاربة، أي قليلة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 366 فالفصل= إذ كان الأمر على ما وصفنا= بين "الغنيمة" و"النفل"، أن "الغنيمة" هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر، نفَّل منه منفِّل أو لم ينفل، و"النفل": هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغَنَاء عن الجيش على غير قسمة. (1) * * * وإذْ كان ذلك معنى "النفل"، فتأويل الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر، لمن هو؟ قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله دونكم، يجعله حيث شاء. * * * واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في غنائم بدر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نفَّل أقوامًا على بلاء، فأبلى أقوام، وتخلف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب، فأنزل الله هذه الآية على رسوله، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماضٍ جائزٌ. * ذكر من قال ذلك: 15650- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى مكان كذا وكذا، فله كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، فله كذا وكذا"، فتسارع إليه الشبان، وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا! فأنزل الله عليه الآية "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم". (2)   (1) في المطبوعة: " هو ما أعطيه الرجل "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 15650 - خبر ابن عباس هذا، يرويه أبو جعفر من أربعة طرق، من رقم 15650 - 15653، إلا آخرها فهو غير مرفوع إلى ابن عباس. وهو خبر صحيح الإسناد. فمن هذه الطريق الأول " معتمر بن سليمان عن داود، ... "، رواه الحاكم في المستدرك 2: 326، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 6: 315، وفيهما زيادة بعد " لا تذهبوا به دوننا ": " فقد كنا ردءًا لكم ". وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 6، والسيوطي في الدر المنثور 3: 159. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 367 15651- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى= قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع كذا وكذا، فله كذا وكذا"، قال: فتسارع في ذلك شبان الرجال، وبقيت الشيوخ تحت الرايات. فلما كان الغنائم، (1) جاءوا يطلبون الذي جعُل لهم، فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا رِدْءًا لكم، (2) وكنا تحت الرايات، ولو انكشفتم انكشفتم إلينا! (3) فتنازعوا، فأنزل الله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين". (4) 15652- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فعل كذا فله كذا وكذا من النفل". قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخةُ الراياتِ، فلم يبرحوا. فلما فُتح عليهم، قالت المشيخة: كنا ردءًا لكم، فلو انهزمتم انحزتم إلينا، (5) لا تذهبوا بالمغنم دوننا! فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا! فأنزل الله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال   (1) في المطبوعة: " فلما كانت الغنائم "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) " الردء "، العون، ينصر المرء ويشد ظهره، وهو له قوة وعماد. (3) " انكشف القوم "، انهزموا. وقوله: " انكشفتم إلينا "، أي رجعتم بعد الهزيمة إلينا، وكان في المطبوعة: " لفئتم إلينا "، بمعنى رجعتم، ولكني أثبت ما في المخطوطة. (4) الأثر: 15651 - هذه هي الطريق الثانية لخبر ابن عباس السالف. " عبد الأعلى " هو " عبد الأعلى بن عبد الأعلى القرشي السلمي "، ثقة، أخرج له الجماعة. مضى برقم: 4751، 8282. (5) " انحاز إليه "، انضم إليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 368 لله والرسول". قال: فكان ذلك خيرًا لهم، وكذلك أيضًا أطيعوني فإني أعلم. (1) 15653- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة في هذه الآية: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، قال: لما كان يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صنع كذا فله من النفل كذا"! فخرج شبان من الرجال، فجعلوا يصنعونه، فلما كان عند القسمة، قال الشيوخ: نحن أصحاب الرايات، وقد كنا رِدْءًا لكم! فأنزل الله في ذلك: "قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين". (2) 15654 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب الزهري قال، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن سليمان بن موسى، عن مكحول مولى هذيل، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت قال، أنزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر: "يسألونك عن الأنفال" إلى قوله: "إن كنتم مؤمنين"، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، عن بَوَاء. (3)   (1) الأثر: 15652 - " إسحاق بن شاهين الواسطي "، شيخ الطبري، مضى مرارًا آخرها رقم: 11504. " خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان "، مضى مرارًا آخرها رقم: 11504. وهذا الخبر بهذا الإسناد رواه أبو داود في سننه 3: 102 رقم: 2737 مع خلاف يسير في لفظه. وآخره هناك: " فكذلك أيضًا فأطيعوني، فإني أعلم بعاقبة هذا منكم ". ورواه البيهقي في السنن 6: 291، 292. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 131، 132 وقال: " هذا حديث صحيح، فقد احتج البخاري بعكرمة، وقد احتج مسلم بداود بن أبي هند، ولم يخرجاه "، وقال الذهبي: " صحيح، قلت هو على شرط البخاري "، والزيادة فيها كما في سنن أبي داود. خرجه ابن كثير في تفسيره 4: 6. وزاد نسبته إلى النسائي، وابن مردويه (واللفظ هناك له) ، وابن حبان. (2) الأثر: 15653 - انظر التعليق على الآثار السالفة. (3) الأثر: 15654 - خبر عبادة بن الصامت، مروي هنا من طريقين، هذه أولاهما. إسحاق "، هو " إسحاق بن الحجاج الطاحوني "، مضى برقم: 230، 1614، 10314. و"يعقوب الزهري "، هو " يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري "، مختلف فيه، وهو ثقة إن شاء الله، مضى برقم: 2867، 8012. كان في المطبوعة هنا " الزبيري "، وهو في المخطوطة غير منقوط، وأقرب قراءته ما أثبت، وهو الصواب بلا ريب، فإن يعقوب بن محمد الزهري، هو الذي يروي عن المغيرة. و" المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي "، مختلف فيه، ذكره ابن حبان في الثقات ووثقه ابن معين، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 321، ابن أبي حاتم 4 / 1 / 225، لم يذكرا فيه جرحًا. وأبوه: " عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي "، ثقة، مترجم في التهذيب، ابن أبي حاتم 2 / 2 / 224. روى عنه ابن إسحاق في سيرته في مواضع. انظر 1: 367. و"سليمان بن موسى الأموي " الأشدق، أبو هشام، ثقة، مضى برقم: 11382. و" مكحول، مولى هذيل "، هو " مكحول الشامي، أبو عبد الله "، الفقيه التابعي، وكان من سبى كابل، وكانت في لسانه لكنة، جاء في حديثه: " ما فعلت في تلك الهاجة "، يريد " الحاجة "، قلب الحاء هاء. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7 / 2 / 160، والكبير 4 / 2 / 21، وابن أبي حاتم 4 / 2 /407. و" أبو سلام "، هو الأسود الحبشي الأعرج، واسمه " ممطور "، في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 57، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 431. و" أبو أمامة الباهلي " واسمه: " صدي بن عجلان " صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن رسول الله، وعن جماعة من الصحابة،. وهذا الخبر، رواه مكحول مرة من طريق أبي سلام عن أبي أمامة، ورواه في الذي يليه عن أبي أمامة بلا واسطة. فمن هذه الطريق الأولى رواه أحمد في المسند 5: 323، 324، مطولا، وبغير هذا اللفظ من طريق معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن عياش بن أبي ربيعة عن سليمان ابن موسى، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، لا ذكر فيها لمكحول. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6: 292، من طريق عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان الأشدق، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، مطولا، كرواية أحمد. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 135،بمثله. وقوله " عن بَوَاء "، كان في المطبوعة " عن بسواء "، هنا، وفي الخبر التالي، وهو خطأ محض، وسيأتي تفسيره في سياق الخبر التالي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 369 15655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا، عن سليمان بن موسى الأشدق، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن "الأنفال"، فقال: فينا معشرَ أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النَّفَل، وساءت فيه أخلاقنا، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 370 فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بَوَاء = يقول: على السواء= فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصلاحُ ذاتِ البين. (1) * * * وقال آخرون: بل إنما أنزلت هذه الآية، (2) لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئًا قبل قسمتها، فلم يعطه إياه، إذ كان شِرْكًا بين الجيش، فجعل الله جميعَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 15655 - " سليمان بن موسى الأشدق "، مر في التعليق السالف. وكان في المطبوعة " الأسدي "، لم يحسن قراءة المخطوطة لأنها غير منقوطة. وهذا الخبر من رواية " محمد بن إسحاق "، مذكور في سيرة ابن هشام 2: 295، 296، بإسناده هذا، ثم في 2: 322، بغير إسناد. ورواه الطبري بإسناده هذا في التاريخ 2: 285، 286. ورواه أحمد في مسنده /5:322 من طريقين عن محمد بن إسحاق. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 136، بالإحالة على لفظه الذي قبله. ثم رواه الحاكم في المستدرك 2: 326، من طريق وهب بن جرير بن حازم، عن محمد ابن اسحاق، يقول حدثني الحارث بن عبد الرحمن، عن مكحول، عن أبي أمامة، وقال: " صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "، وقال الذهبي: على شرط مسلم. ولا أدري كيف هذا، فإن الثابت في سيرة ابن إسحاق، من رواية ابن هشام أنه من روايته عن " عبد الرحمن بن الحارث "، لا عن " الحارث بن عبد الرحمن " وهو خطأ. هذا فضلا عن أنه مروى بغير هذا اللفظ في سيرة ابن هشام، وفي سائر من رواه عن ابن إسحاق، إلا يونس بن بكير. فإن البيهقي في السنن الكبرى 6: 292 رواه من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن " عبد الرحمن بن الحارث "، بنحو لفظ الحاكم في المستدرك ثم قال: " ورواه جرير بن حازم، عن محمد بن إسحاق، مع تقصير في إسناده ". و " جرير بن حازم " الذي روى الحاكم الخبر من طريقه، ثقة ثبت حافظ، روى له الجماعة. ولكن قال ابن حبان وغيره: " كان يخطئ، لأن أكثر ما كان يحدث من حفظه "، فكأن هذا مما أوجب الحكم عليه بأنه يقصر أحيانًا ويخطيء، والصواب المحض، هو ما أجمعت عليه الرواية عن ابن إسحاق " عبد الرحمن بن الحارث ".وذكره بلفظه هنا، الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 26، هو والخبر الذي قبله، من الطريق المطولة، ثم قال: " ورجال الطريقين ثقات "، وخرجه ابن كثير في تفسيره 6: 5، والسيوطي في الدر المنثور 3: 159. (2) في المطبوعة، حذف " بل " من صدر الكلام. (3) في المطبوعة: " لرسول الله "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 371 15656- حدثني إسماعيل بن موسى السدي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم، عن مصعب بن سعد، عن سعد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف فقلت: يا رسول الله، هذا السيف قد شَفَى الله به من المشركين! فسألته إياه، فقال: ليس هذا لي ولا لك! قال: فلما وليت، قلت: أخاف أن يعطيه من لم يُبْلِ بلائي! فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي، قال فقلت: أخاف أن يكون نزل في شيء! قال: إن السيف قد صارَ لي! قال: فأعطانيه، ونزلت: "يسئلونك عن الأنفال". (1) 15657- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عاصم، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن مالك قال: لما كان يوم بدر جئت بسيف. قال: فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفي صَدري من المشركين = أو نحو هذا= فهبْ لي هذا السيف! فقال لي: هذا ليس لي ولا لك! فرجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا من لم يُبْلِ بلائي! فجاءني الرسول، فقلت: حدث فِيَّ حدثٌ! فلما انتهيت قال: يا سعد إنك، سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي، فهو لك! ونزلت: "يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول". (2)   (1) الأثر: 15656 - خبر " سعد بن مالك "، وهو " سعد بن أبي وقاص "، رواه أبو جعفر من سبع طرق، بألفاظ مختلفة، إلا رقم: 15659، فهو منقطع الإسناد. وهي من رقم 15656 - 15659 ثم من 15662 - 15664. رواه من طريق عاصم، عن مصعب بن سعد برقم 15656، 15657. ومن طريق سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد برقم 15658، 15662، 15663. ومن طريق محمد بن عبيد الله، أبي عون الثقفي، عن مصعب بن سعد رقم: 15659، منقطعًا. ومن طريق مجاهد، عن سعد ابن أبي وقاص: 15664. وهذا تفسير إسناد الخبر الأول: " إسماعيل بن موسى السدي الفزاري شيخ الطبري "، مضى برقم: 849، 9682. و" أبو الأحوص "، هو " سلام بن سليم الحنفي "، الثقة الحافظ، مضى مرارًا كثيرة. و" عاصم "، هو " عاصم بن أبي النجود "، مضى مرارًا. و" مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري "، تابعي ثقة، مضى برقم: 8941، 11450. وهو إسناد صحيح، ولم أجده في موضع آخر من طريق أبي الأحوص عن مصعب. (2) الأثر: 15657 - إسناد صحيح. ورواه من هذه الطريق أحمد في المسند رقم: 1538، بنحوه، مطولا. ورواه أبو داود في سننه 3: 103 رقم 2740، بنحوه مطولا. رواه الحاكم في المستدرك 2: 132، بنحوه مطولا، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن 6: 291، وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 4، وقال: " رواه أبو داود " والترمذي، والنسائي من طرق، عن أبي بكر بن عياش، وقال الترمذي: حسن صحيح ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 372 15658 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: أصبت سيفًا يوم بدر فأعجبني، فقلت: يا رسول الله، هبه لي! فأنزل الله: "يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول". (1) 15659- حدثنا ابن المثنى وابن وكيع= قال ابن المثنى: حدثني أبو معاوية= وقال ابن وكيع: حدثنا أبو معاوية= قال: حدثنا الشيباني، عن محمد بن عبيد الله، عن سعد بن أبي وقاص قال: فلما كان يوم بدر، (2) قتل أخي عُمَيْر، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى "ذا الكتيفة"، (3) فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب فاطرحه في القبض! (4) فطرحته ورجعتُ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخذ سَلَبي! قال: فما جاوزت إلا قريبًا، حتى نزلت عليه "سورة الأنفال"، فقال: اذهب فخذ سيفك! = ولفظ الحديث لابن المثنى. (5)   (1) الأثر: 15658 - هو مختصر الحديث رقم: 15662، وهو إسناد صحيح، وسأخرجه هناك. (2) في المطبوعة: " لما كان "، حذف الفاء، وأثبت ما في المخطوطة. (3) " ذو الكتيفة " على وزن " عظيمة "، و " الكتيفة ": حديدة عريضة طويلة، وربما كانت كأنها صحيفة، وربما سموا السيف " كتيفًا ". (4) " القبض " (بفتحتين) قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " القبض، الذي تجمع عنده الغنائم ". وقال غيره: بمعنى المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. (5) الأثر: 15659 - " أبو معاوية "، هو الضرير، " محمد بن خازم التميمي السعدي " ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة. وكان في المطبوعة هنا: " قال ابن المثنى حدثني معاوية "، حذف " أبو "، كأنه ظن أن ابن المثنى قال: " معاوية "، وأن ابن وكيع قال " أبو معاوية "، وأن هذا هو وجه الاختلاف! والصواب أن الاختلاف في أن ابن المثنى قال: " حدثني "، وأن ابن وكيع قال: " حدثنا ". فهذا مبلغ الإساءة في التصرف!! . و" الشيباني "، هو " أبو إسحاق الشيباني ": " سليمان بن أبي سليمان " الثقة الحجة، مضى مرارًا كثيرة و" محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي "، " أبو عون الثقفي "، تابعي ثقة ولكنه لم يدرك سعد ابن أبي وقاص، وروايته عن سعد مرسلة. (انظر شرح الإسناد في مسند أحمد) . مضى برقم: 7595، 13965. وهذا الخبر ضعيف الإسناد، لانقطاعه. رواه أحمد في مسنده برقم: 1556، ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: 303، بمثله. وقال في خلال الخبر " ... قتلت سعيد بن العاص = وقال غيره: العاص بن سعيد. قال أبو عبيد: هذا عندنا هو المحفوظ ". ثم قال تعقيبًا عليه " قال أبو عبيد: وقال أهل العلم بالمغازي: قاتل العاص، علي بن أبي طالب ". والذي قاله أبو عبيد هو الصواب. فالذي جاء في الخبر هنا " سعيد بن العاص " وهم، فإن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ابن أمية الأموي، متأخر، قبض رسول الله عليه وله تسع سنين، وهو لم يشرك قط وقتل أبوه " العاص بن سعيد " يوم بدر كافرًا، أما جده " سعيد بن العاص بن أمية "، فمات قبل بدر مشركًا. ويكون الصواب كما قال ابن حجر في الإصابة في ترجمة " عمير بن أبي وقاص ": " العاص بن سعيد بن العاص "، ويكون الاختلاف إذن في الذي قتله: أهو علي بن أبي طالب، أم سعد بن أبي وقاص؟ وإن كنت لم أجد هذا الاختلاف. وهذا موضع يحتاج إلى فضل تحقيق. وانظر التعليق على رقم: 15664. هذا، وقد رأيت بعد في الروض الأنف 2: 76، هذا الخبر عن أبي عبيد وفيه " العاصي ابن سعيد بن العاصي " في صلب الخبر، ورأيت ذكر هذا الاختلاف في الروض الأنف 2: 102، 103. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 373 15660- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة جميعًا، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن قيس بن ساعدة قال: سمعت أبا أسَيْد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان السيف يدعى "المرْزُبان"، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردُّوا ما في أيديهم من النفل، أقبلت به فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئًا يُسْأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه إياه. (1)   (1) الأثر: 15660 - " عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري "، ثقة روى له الجماعة، مضى برقم: 4808. وأما قوله: " بعض بني ساعدة "، فقد جعلها في المطبوعة " قيس بن ساعدة " لا أدري لم غير ما في المخطوطة. وأما " أبو أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري "، من بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، فهو الصحابي المشهور، فجعله في المطبوعة: " أبا أسيد بن مالك بن ربيعة "، زاد " بن " بلا مراجعة. وأما " سيف بني عائذ " فجعلها " سيف بن عائذ "، كما في الخبر التالي، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة. والصواب من سيرة ابن هشام، وفيها: " سيف بني عائذ المخزوميين ". و" عائذ " في المخطوطة غير منقوطة، وفي المطبوعة: " عائد " بالدال المهملة. والصواب ما في سيرة ابن هشام.وفي بني مخزوم: " بنو عائذ بن عمران بن مخزوم " (بالذال المعجمة) رهط آل المسيب، وفي بني مخزوم أيضًا: " بنو عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم " (بالباء والدال المهملة) ، وهم رهط آل السائب. انظر الروض الأنف 2: 76، ونسب قريش 333 ثم: 343، ولم أجد ما أرجح به أحدهما على الآخر. وهذا الخبر رواه ابن إسحاق في سيرته، ابن هشام 2: 296، بلفظه، وانظر التعليق على الخبر التالي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 374 -15661- حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا أحمد بن أبي بكر، عن يحيى بن عمران، عن جده عثمان بن الأرقم= وعن عمه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ردُّوا ما كان من الأنفال! فوضع أبو أسيد الساعديّ سيف ابن عائذ "المرزبان"، فعرفه الأرقم فقال: هبه لي، يا رسول الله! قال: فأعطاه إياه. (1)   (1) الأثر: 15661 - هذا مختصر الأثر السالف من طريق أخرى. و" يحيى بن جعفر "، هو " يحيى بن أبي طالب "، و" يحيى بن جعفر بن الزبير قال "، شيخ الطبري. محدث مشهور ثقة. مضى برقم: 284. و" أحمد بن أبي بكر " هو " أحمد بن القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري "، كنيته " أبو مصعب الزهري "، ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 6، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 43. و" يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم المخزومي "، روى عن أبيه، وعمه " عبد الله ابن عثمان ". روى عنه عطاف بن خالد، وأبو مصعب الزهري " أحمد بن أبي بكر "، وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في تعجيل المنفعة: 446، والكبير 4 \ 2 \ 297، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 177، 178، وقال ابن أبي حاتم: " سألت أبي عنه فقال: شيخ مدني مجهول " وأما قوله: " وعن عمه، عن جده "، فكان في المطبوعة والمخطوطة " عن عمه، عن جده " بغير واو العطف، وهو لا يستقيم، بل هو خطأ محض. بل الصواب أن " يحيى بن عمران "، رواه عن جده مباشرة، ورواه مرة أخرى عن عمه " عبد الله بن عثمان "، عن جده أيضًا. و" عبد الله بن عثمان بن الأرقم "في المطبوعة ابن الأرقم مكررة" المخزومي "، مترجم في تعجيل المنفعة: 228، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 113، لم يذكروا فيه جرحًا. وهذا الخبر، مختصر الذي قبله، ولم أجده في مكان آخر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 375 15662- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: أصبت سيفا= قال: فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نفلنيه! فقال: ضعه! ثم قام فقال: يا رسول الله، نفلنيه! قال: ضعه! قال: ثم قام فقال: يا رسول، الله نفلنيه! أجعل كمن لا غَنَاء له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته! فنزلت هذه الآية: يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول. (1) 15663- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن سعد قال: أخذت سيفًا من المغنم فقلت: يا رسول الله، هب لي هذا! فنزلت: "يسئلونك عن الأنفال". (2) 15664- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد في قوله: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: قال سعد: كنت أخذت سيفَ سعيد بن العاص بن أمية، فأتيت رسول الله   (1) الأثر: 15662 - طريق أخرى لخبر سعد بن أبي وقاص، كما بينه في رقم: 15656. وهو خبر صحيح الإسناد، من طريق سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد. وبهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: 1567، 1614 في خبر طويل، مضى بعضه في شأن تحريم الخمر برقم: 12518، من تفسير الطبري. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: 28 رقم: 208. ورواه مسلم في صحيحه 12: 53، 54، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6: 291، وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 5. ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 150، من طريق زهير بن معاوية عن سماك بن حرب، بغير هذا اللفظ. (2) الأثر: 15663 - مختصر الذي قبله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 376 صلى الله عليه وسلم، فقلت: أعطني هذا السيف يا رسول الله! فسكت، فنزلت: "يسئلونك عن الأنفال"، إلى قوله: "إن كنتم مؤمنين"، قال: فأعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) * * * وقال آخرون: بل نزلت: لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر، فأعلمهم الله أنّ ذلك لله ولرسوله دونهم، ليس لهم فيه شيء. وقالوا: معنى "عن" في هذا الموضع "من"، (2) وإنما معنى الكلام: يسألونك من الأنفال. وقالوا: قد كان ابن مسعود يقرؤه: "يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ" على هذا التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 15664 - " إسرائيل "، هو " إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي " مضى مرارًا كثيرة. و" إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي "، ثقة، متكلم فيه، مضى برقم: 1291 في نحو هذا الإسناد. و" مجاهد " هو " مجاهد بن جبر المكي المخزومي "، الإمام الثقة، روى عن سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة. فهذا خبر صحيح الإسناد من إسرائيل، إلى مجاهد. أما " الحارث "، فهو " الحارث بن أبي أسامة "، وهو ثقة، مضى برقم: 10295، وغيره. وأما " عبد العزيز "، فهو " عبد العزيز بن أبان الأموي "، من ولد " سعيد بن العاص ابن أمية "، وهو كذاب خبيث يضع الأحاديث. مضى برقم: 10295، وغيره، راجع فهارس الرجال. فمن هذا ضعف إسناده، حتى أجد له رواية عن غير الكذاب، كما قاله أهل الجرح والتعديل. هذا، وقد جاء في هذا الخبر ذكر " سعيد بن العاص بن أمية "، مبينًا، وكنت قلت في التعليق على رقم: 15659 أن " سعيد بن العاص بن أمية " مات مشركًا قبل يوم بدر، فلذلك لم يصح عندنا قوله في ذلك الخبر " قتلت سعيد بن العاص ". أما في هذا الخبر، فإنه مستقيم، لأنه قال: " أخذت سيف سعيد بن العاص "، فسيفه بلا ريب كان مشهورًا معروفًا عند سعد بن أبي وقاص، وكان عند ولده المقتول ببدر " العاص بن سعيد بن العاص "، وظاهر أنه كان معه يقاتل به يوم بدر فقتل وهو معه، فأخذه سعد بن أبي وقاص. ومع ذلك يظل أمر الاختلاف في قتل " العاص ابن سعيد بن العاص " قائمًا كما هو، أقتله على بن أبي طالب، كما قال أصحاب السير والمغازي، أم قتله سعد بن أبي وقاص، كما دل عليه الخبر الصحيح عنه. راجع التعليق على رقم: 15659. وانظر الروض الأنف 2: 102، 103 وذكر هذا الاختلاف. (2) انظر " عن " بمعنى " من " فيما سلف 1: 446، تعليق: 6. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 377 15665- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها: "يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ". 15666- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: هي في قراءة ابن مسعود "يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ". * * * * ذكر من قال ذلك: 15667- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، قال: "الأنفال"، المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، ليس لأحد منها شيء، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سِلْكًا فهو غُلول. (1) فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها، قال الله: يسألونك عن الأنفال، قل: الأنفال لي جعلتها لرسولي، ليس لكم فيها شيء= "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"، ثم أنزل الله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) [سورة الأنفال: 41] . ثم قسم ذلك الخُمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن سمي في الآية. (2) 15668- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "يسألونك عن الأنفال"، قال: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرًا. قال: واختلفوا، فكانوا أثلاثًا. قال: فنزلت: "يسألونك   (1) في المخطوطة: " في حبسه منه "، والصواب ما في المطبوعة، وهو مطابق لما في البيهقي. و " الغلول "، هي الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة. (2) الأثر: 15667 - هذا الإسناد، سلف بيانه برقم: 1833، 8472، وأنه إسناد منقطع، لأن " على بن طلحة " لم يسمع من ابن عباس التفسير. وهذا الخبر، رواه البيهقي من هذه الطريق نفسها، في السنن الكبرى 6: 293، مطولا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 378 عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، وملَّكه الله رَسوله، يقسمه كما أراه الله. (1) 15669- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر، فنزلت: "يسألونك عن الأنفال". (2) 15670- . . . . قال: حدثنا عباد بن العوّام، عن جويبر، عن الضحاك: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: يسألونك أن تنفِّلهم. 15671- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: يسألونك الأنفال. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبرَ في هذه الآية عن قوم سألوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يُعطيهموها، فأخبرهم الله أنها لله، وأنه جعلها لرسوله. وإذا كان ذلك معناه، جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها= وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله   (1) في المطبوعة: " فقسمه "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 15669 - " عباد بن العوام الواسطي "، ثقة، من شيوخ أحمد. مضى برقم: 5433. و" الحجاج " هو " الحجاج بن أرطاة النخعي "، مضى برقم: 3299، 3960، 4246، 9631، 10138، وهو ثقة، إلا أنه كان يدلس عن " عمرو بن شعيب "، وقال محمد بن نصر: " الغالب على حديثه الإرسال والتدليس وتغيير الألفاظ "، واشترطوا في حديثه التصريح بالسماع، وهذا مما لم يصرح فيه السماع. فهذا خبر ضعيف، لهذه العلة. و" عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص "، أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، قال أبو زرعة: " إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها "، وهو ثقة في نفسه، وأحاديثه " عن أبيه عن جده "، محتملة، ولكنهم لم يدخلوها في صحاح ما خرجوا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 379 السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه= وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش. * * * واختلفوا فيها: أمنسوخة هي أم غير منسوخة؟ فقال بعضهم: هي منسوخة. وقالوا: نسخها قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية [سورة الأنفال: 41] ،. * ذكر من قال ذلك: 15672- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قالا كانت الأنفال لله وللرسول، فنسختها: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) 15673- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفًا، فاختصم فيه وناسٌ معه، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فقال الله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، الآية، فكانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فنسخها الله بالخُمس. 15674- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني سليم مولى أم محمد، عن مجاهد في قوله: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: نسختها: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) . (1)   (1) الأثر: 15674 - " سليم مولى أم محمد "، لم أجده، والذي يروي عن مجاهد، ويروي عنه ابن جربج، فهو " سليم، أبو عبيد الله مولى أم علي "، مضى برقم: 4305، وهو مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 2 \ 127، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 213، وهو من كبار أصحاب مجاهد، ذكره ابن حبان في الثقات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 380 15675 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة= أو: عكرمة وعامر= قالا نسخت الأنفال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) . * * * وقال آخرون: هي محكمة، وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك: "قل الأنفال لله"، وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة= وللرسول، يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه. * ذكر من قال ذلك: 15676- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، فقرأ حتى بلغ: "إن كنتم مؤمنين"، فسلَّموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا، ويضعانها حيث أرادا، فقالوا: نعم! ثم جاء بعد الأربعين: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية [سورة الأنفال: 41] ، ولكم أربعة أخماس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: "وهذا الخمس مردود على فقرائكم"، يصنع الله ورسوله في ذلك الخمس ما أحبَّا، ويضعانه حيث أحبَّا، ثم أخبرنا الله بالذي يجب من ذلك. ثم قرأ الآية: (وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [سورة الحشر: 7] . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم، يُنفِّل من شاء، فنفّل القاتل السَّلَب، وجعل للجيش في البَدْأة الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. (1) ونفَّل   (1) " البدأة "، ابتداء سفر الغزو، " الرجعة " القفول منه. وكان إذا نهضت سرية من جملة العسكر المقبل على العدو، فأوقعت بطانته من العدو، فما غنموا كان لهم الربع، ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباع ما غنموا. وإذا فعلت ذلك عند عود العسكر، كان لهم من جميع ما غنموا الثلث، لأن الكرة الثانية أشق عليهم، والخطر فيها أعظم. وذلك لقوة الظهر عند دخولهم، وضعفه عند خروجهم. وهم في الأول أنشط وأشهي للسير والإمعان في بلاد العدو، وهم عند القفول أضعف وأفتر وأشهي للرجوع إلى أوطانهم، فزادهم لذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 381 قومًا بعد سُهْمَانهم بعيرًا بعيرًا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ينفِّل على ما يرى مما فيه صلاحُ المسلمين، وعلى من بعده من الأئمة أن يستَنّوا بسُنته في ذلك. وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ، لاحتمالها ما ذكرتُ من المعنى الذي وصفت. وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلا ما أبطل حكمه حادثُ حكمٍ بخلافه، ينفيه من كل معانيه، أو يأتي خبرٌ يوجب الحجةَ أن أحدهما ناسخٌ الآخرَ. (1) * * * وقد ذكر عن سعيد بن المسيب: أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأويلا منه لقول الله تعالى: "قل الأنفال لله والرسول". 15677- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو قال: أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء، فقال: إنكم أرسلتم إلي تسألوني عن الأنفال، فلا نَفَل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وقد بينا أن للأئمة أن يتأسَّوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم بفعله، فينفِّلوا على نحو ما كان ينفل، إذا كان التنفيل صلاحًا للمسلمين. * * *   (1) انظر مقالة أبي جعفر في " النسخ " فيما سلف في فهارس الموضوعات، وفهارس النحو والعربية وغيرهما. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 382 القول في تأويل قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه، وأصلحوا الحال بينكم. * * * واختلف أهل التأويل في الذي عنى بقوله: "وأصلحوا ذات بينكم". فقال بعضهم: هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر، وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اختلفوا في الغنيمة: أن يردَّ ما أصابوا منها بعضُهم على بعض. (1) * ذكر من قال ذلك: 15678- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، قال: كان نبي الله ينفِّل الرجل من المؤمنين سَلَب الرجل من الكفار إذا قتله، ثم أنزل الله: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، أمرهم أن يردَّ بعضهم على بعض. 15679- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفّل الرجل على قدر جِدّه وغَنَائه على ما رأى، حتى إذا كان يوم بدر، وملأ الناسُ أيديهم غنائم، قال أهل الضعف من الناس: ذهب أهل القوة بالغنائم! فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: "قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، ليردَّ أهل القوة على أهل الضعف. * * *   (1) في المطبوعة: " أن يردوا " بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 383 وقال آخرون: هذا تحريج من الله على القوم، ونهيٌ لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره. * ذكر من قال ذلك: 15680- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا خالد بن يزيد= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد= قالا حدثنا أبو إسرائيل، عن فضيل، عن مجاهد، في قول الله: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، قال: حَرَّج عليهم. 15681- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن مجاهد، عن ابن عباس: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، قال هذا تحريجٌ من الله على المؤمنين، أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم= قال عباد، قال سفيان: هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر. 15682- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، أي لا تَسْتَبُّوا. * * * واختلف أهل العربية في وجه تأنيث "البين". فقال بعض نحويي البصرة: أضاف "ذات" إلى "البين" وجعله "ذاتًا"، لأن بعضَ الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث، وبعضًا يذكر نحو "الدار" و"الحائط"، أنث "الدار" وذكر "الحائط". * * * وقال بعضهم: إنما أراد بقوله: "ذات بينكم"، الحال التي للبين، فقال: وكذلك "ذات العشاء"، يريد الساعة التي فيها العشاء، قال: ولم يضعوا مذكرًا لمؤنث، ولا مؤنثًا لمذكر، إلا لمعنى. * * * قال أبو جعفر: هذا القول أولى القولين بالصواب، للعلة التي ذكرتها له. * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 384 وأما قوله: "وأطيعوا الله ورسوله"، فإن معناه: وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال، إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم، فقد بين لكم وجوهه وسبله= "إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم مصدقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم، كما:- 15683- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"، فسلموا لله ولرسوله، يحكمان فيها بما شاءا، ويضعانها حيث أرادا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك اتباعَ ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها، (1) وأيقن أنها من عند الله، فازداد بتصديقه بذلك، إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك، تصديقًا. وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إيَّاهم إيمانًا (2) = "وعلى ربهم يتوكلون"، يقول: وبالله يوقنون، في أن قضاءه فيهم ماضٍ، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه. (3) * * *   (1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف ص: 252، تعليق 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " زيادة الإيمان " فيما سلف 7: 405. (3) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف 12: 563، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 385 وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15684- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: المنافقون، لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلّون إذا غابوا، ولا يؤدُّون زكاة أموالهم. فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، فأدوا فرائضه= "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا"، يقول: تصديقًا= "وعلى ربهم يتوكلون"، يقول: لا يرجون غيره. 15685- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: فَرِقت. 15686- . . . . قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي: "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: إذا ذكر الله عند الشيء وجِلَ قلبه. 15687 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، يقول: إذا ذكر الله وَجِل قلبه. 15688 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "وجلت قلوبهم"، قال: فرقت. 15689 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 386 ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وجلت قلوبهم"، فرقت. 15690- . . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان قال: سمعت السدي يقول في قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: هو الرجل يريد أن يظلم = أو قال: يهمّ بمعصية = أحسبه قال: فينزع عنه. 15691- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أبي الدرداء في قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: الوجل في القلب كإحراق السَّعَفة، (1) أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى! قال: إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله، فإن الدعاء يذهب بذلك. 15692- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: فرقًا من الله تبارك وتعالى، ووَجلا من الله، وخوفًا من الله تبارك وتعالى. * * * وأما قوله: "زادتهم إيمانًا"، فقد ذكرت قول ابن عباس فيه. (2) * * * وقال غيره فيه، ما:- 15693- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا"، قال: خشية. 15694- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون"، قال: هذا نعت أهل الإيمان، فأثبت نَعْتهم، ووصفهم فأثبت صِفَتهم. * * *   (1) " السعفة " (بفتحتين) ورق جريد النخل إذا يبس. (2) يعني رقم: 15684. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 387 القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين يؤدون الصلاة المفروضة بحدودها، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه، من زكاة وجهاد وحج وعمرة ونفقةٍ على من تجب عليهم نفقته، فيؤدُّون حقوقهم= "أولئك"، يقول: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال (1) = "هم المؤمنون"، لا الذين يقولون بألسنتهم: "قد آمنا" وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقًا، لا يقيمون صلاة ولا يؤدُّون زكاة. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15695- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: "الذين يقيمون الصلاة"، يقول: الصلوات الخمس= "ومما رزقناهم ينفقون"، يقول: زكاة أموالهم (2) = "أولئك هم المؤمنون حقًّا"، يقول: برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ) : إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) [سورة النساء: 150-151] فجعل الله المؤمن مؤمنًا حقًّا، وجعل الكافر كافرًا حقًّا، وهو قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [سورة التغابن: 2] .   (1) انظر تفسير: " إقامة الصلاة "، و " الرزق "، و " النفقة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) ، (رزق) ، (نفق) . (2) انظر تفسير " حقا " فيما سلف من فهارس اللغة (حقق) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 388 15696- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "أولئك هم المؤمنون حقًّا"، قال: استحقُّوا الإيمان بحق، فأحقه الله لهم. * * * القول في تأويل قوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "لهم درجات"، لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم= "درجات"، وهي مراتب رفيعة. (1) * * * ثم اختلف أهل التأويل في هذه "الدرجات" التي ذكر الله أنها لهم عنده، ما هي؟ فقال بعضهم: هي أعمال رفيعة، وفضائل قدّموها في أيام حياتهم. * ذكر من قال ذلك: 15697- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد: "لهم درجات عند ربهم"، قال: أعمال رفيعة. (2) * * * وقال آخرون: بل ذلك مراتب في الجنة. * ذكر من قال ذلك: 15698- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا   (1) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف 12: 289، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) الأثر: 15697 - " أبو يحيى القتات "، ضعيف، مضى برقم: 12139. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 389 سفيان، عن هشام عن جبلة، عن عطية، عن ابن محيريز: "لهم درجات عند ربهم"، قال: الدرجات سبعون درجة، كل درجة حُضْر الفرس الجواد المضمَّر سبعين سنة. (1) * * * وقوله: "ومغفرة"، يقول: وعفو عن ذنوبهم، وتغطية عليها (2) = "ورزق كريم"، قيل: الجنة= وهو عندي: ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش. (3) 15699- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، عن هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: "ومغفرة"، قال: لذنوبهم= "ورزق كريم"، قال: الجنة. * * *   (1) الأثر: 15698 - " سفيان " هو، الثوري. و" هشام " هو: " هشام بن حسان القردوسي "، مضى برقم: 2827، 7287، 9837، 10258. و" جبلة " هو " جبلة بن سحيم التيمي "، مضى برقم: 3003، 10258، زكان في المطبوعة والمخطوطة: " هشام بن جبلة "، وهو خطأ صرف. وأما " عطية "، فلا أعرف من يكون، وأنا في شك منه. و" ابن محيريز "، هو: " عبد الله بن محيريز الجمحي "، مضى برقم: 8720، 10258. وهذا الخبر، روى مثله في تفسير غير هذه الآية، فيما سلف برقم: 10258 قال: " حدثنا علي بن الحسين الأزدي، قال حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة ابن سحيم، عن ابن محيريز "، ليس فيه " ابن عطية " هذا الذي هنا. و" الحضر " (بضم فسكون) ، ارتفاع الفرس في عدوه. و" المضمر "، هو الذي أعد للسباق والركض. (2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) . (3) انظر تفسير " كريم " فيما سلف 8: 259. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 390 القول في تأويل قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الجالب لهذه "الكاف" التي في قوله: "كما أخرجك"، وما الذي شُبِّه بإخراج الله نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق. فقال بعضهم: شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين، اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك: يقول الله: وأصلحوا ذات بينكم، فإن ذلك خير لكم، كما أخرج الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من بيته بالحقّ، فكان خيرًا له. (1) * ذكر من قال ذلك: 15700- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. كما أخرجك ربك من بيتك بالحق"، الآية، أي: إن هذا خيرٌ لكم، كما كان إخراجك من بيتك بالحق خيرًا لك. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك، يا محمد، من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم يكرهون القتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم. * ذكر من قال ذلك: 15701- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) في المطبوعة، والمخطوطة: " كان خيرًا له "، بغير فاء، والصواب ما أثبت، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 391 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق"، قال: كذلك يجادلونك في الحق. 15702 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق"، كذلك يجادلونك في الحقِّ، القتالِ. 15703- . . . . قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق"، قال: كذلك أخرجك ربك. (1) 15704- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أنزل الله في خروجه = يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم= إلى بدر، ومجادلتهم إياه فقال: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون"، لطلب المشركين، "يجادلونك في الحق بعد ما تبين". * * * واختلف أهل العربية في ذلك. فقال بعض نحويي الكوفيين: ذلك أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضي لأمره في الغنائم، على كره من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير وهم كارهون. (2) * * * وقال آخرون منهم: معنى ذلك: يسألونك عن الأنفال مجادلةً، كما جادلوك يوم بدر فقالوا: "أخرجتنا للعِير، ولم تعلمنا قتالا فنستعدَّ له".   (1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولعل الصواب: " قال: كذلك يجادلونك "، وهو ما تدل عليه الآثار السالفة عن مجاهد. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 403 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 392 وقال بعض نحويي البصرة، يجوز أن يكون هذا "الكاف" في (كما أخرجك) ، على قوله: (أولئك هم المؤمنون حقًّا) ، (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) . وقال: "الكاف" بمعنى "على". (1) * * * وقال آخرون منهم (2) هي بمعنى القسم. قال: ومعنى الكلام: والذي أخرجك ربّك. (3) * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال في ذلك بقول مجاهد، وقال: معناه: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين، كذلك يجادلونك في الحق بعد ما تبين= لأن كلا الأمرين قد كان، أعني خروج بعض من خرج من المدينة كارهًا، وجدالهم في لقاء العدو وعند دنوِّ القوم بعضهم من بعض، فتشبيه بعض ذلك ببعض، مع قرب أحدهما من الآخر، أولى من تشبيهه بما بَعُد عنه. * * * وقال مجاهد في "الحق" الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما تبينوه: هو القتال. 15705- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يجادلونك في الحق) ، قال: القتال. 15706 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.   (1) في المطبوعة: " وقيل: الكاف ... "، كأنه قول آخر، والصواب ما في المخطوطة. ولعل قائل هذا هو الأخفش، لأنه الذي قال: " الكاف بمعنى: على "، وزعم أن من كلام العرب إذا قيل لأحدهم: " كيف أصبحت "، أن يقول: " كخير "، والمعنى: على خير. وانظر تفسير " كما " فيما سلف 3: 209، في قوله تعالى: " كما أرسلنا فيكم رسولا " [سورة البقرة: 151] . (2) في المطبوعة: " وقال آخرون "، جمعًا، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، وقائل ذلك هو أبو عبيدة معمر بن المثنى. (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 240، 241. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 393 15707 - حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وأما قوله: (من بيتك) ، فإن بعضهم قال: معناه: من المدينة. * ذكر من قال ذلك: 15708- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي بزة: (كما أخرجك ربك من بيتك) ، المدينة، إلى بدر. 15709- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر في قوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) ، قال: من المدينة إلى بدر. * * * وأما قوله: (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون) ، فإن كراهتهم كانت، كما:- 15710- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، قالوا: لما سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم، ندب إليهم المسلمين، (1) وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، (2) فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس، فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. (3) 15711- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون) ، لطلب المشركين. * * *   (1) " ندب الناس إلى حرب أو معونة، فانتدبوا "، أي: دعاهم فاستجابوا وأسرعوا إليه. (2) " العير "، (بكسر العين) : القافلة، وكل ما امتاروا عليه من أبل وحمير وبغال. وهي قافلة تجارة قريش إلى الشام. (3) الأثر: 15710 - سيرة ابن هشام 2:257، 258. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 394 ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) . فقال بعضهم: عُني بذلك: أهلُ الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا معه حين توجَّه إلى بدر للقاء المشركين. * ذكر من قال ذلك: 15712- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء القوم، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمرَ الناس، فتعبَّوْا للقتال، (1) وأمرهم بالشوكة، وكره ذلك أهل الإيمان، فأنزل الله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) . 15713- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر القومَ= يعني أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم = ومسيرَهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين عرف القوم أن قريشًا قد سارت إليهم، وأنهم إنما خرجوا يريدون العيرَ طمعًا في الغنيمة، فقال: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) ، إلى قوله: (لكارهون) ، أي كراهيةً للقاء القوم، وإنكارًا لمسير قريش حين ذُكِروا لهم. (2) * * * وقال آخرون: عُني بذلك المشركون. * ذكر من قال ذلك: 15714- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في   (1) " عبى الجيش " و " عبأة " بالهمز، واحد. و " تعبوا للقتال " و " تعبأوا "، تهيأوا له. (2) الأثر: 15713- سيرة ابن هشام 2: 322، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15655. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 395 قوله: (يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، قال: هؤلاء المشركون، جادلوه في الحق (1) = "كأنما يساقون إلى الموت"، حين يدعون إلى الإسلام= (وهم ينظرون) ، قال: وليس هذا من صفة الآخرين، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر. 15715- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثني عبد العزيز بن محمد، عن ابن أخي الزهري، عن عمه قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، خروجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العِير. (2) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق، من أن ذلك خبرٌ من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدو، وكان جدالهم نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا: "لم يُعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، وإنما خرجنا للعير". ومما يدلّ على صحته قولُه (3) (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ، ففي ذلك الدليلُ الواضح لمن فهم عن الله، أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم كان في القتال، كما قال مجاهد، كراهيةً منهم له= وأنْ لا معنى لما قال ابن زيد، لأن الذي قبل قوله: (يجادلونك في الحق) ، خبرٌ عن أهل الإيمان، والذي يتلوه   (1) في المطبوعة: " جادلوك "، وأثبت الصواب الجيد من المخطوطة. (2) الأثر: 15715 - " يعقوب بن محمد الزهري "، مضى قريبًا برقم 15654، وهو يروي عن ابن أخي الزهري مباشرة، ولكنه روى عنه هنا بالواسطة. و" عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي " ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 10676. و" ابن أخي الزهري "، هو " محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري "، ثقة، متكلم فيه، روى له الجماعة. يروي عن عمه " ابن شهاب الزهري ". (3) في المطبوعة والمخطوطة: " على صحة قوله "، والصواب ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 396 خبرٌ عنهم، فأن يكون خبرًا عنهم، أولى منه بأن يكون خبرًا عمن لم يجرِ له ذكرٌ. * * * وأما قوله: (بعد ما تبين) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله. * ذكر من قال ذلك: 15816- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: بعد ما تبين أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به. * * * وقال آخرون: معناه: يجادلونك في القتال بعدما أمرت به. * ذكر من قال ذلك: 15717- رواه الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (1) * * * وأما قوله: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، فإن معناه: كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدوّ، من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال، "يساقون إلى الموت". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15718- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ، أي كراهةً للقاء القوم، وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم. (2) * * *   (1) الأثر: 15717 - هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، لم يذكر نصًا، وكأن صواب العبارة: " رواه الكلبي ... ". (2) الأثر: 15718 - سيرة بن هشام 2: 322، وهو جزء من الخبر السالف رقم: 15713. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 397 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكروا، أيها القوم= (إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) ، يعني إحدى الفرقتين، (1) فرقة أبي سفيان بن حرب والعير، وفرقة المشركين الذين نَفَروا من مكة لمنع عيرهم. * * * وقوله: (أنها لكم) ، يقول: إن ما معهم غنيمة لكم= (وتودون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم) ، يقول: وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة= يقول: ليس لها حدٌّ، (2) ولا فيها قتال= أن تكون لكم. يقول: تودُّون أن تكون لكم العيرُ التي ليس فيها قتال لكم، دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم، الذين في لقائهم القتالُ والحربُ. * * * وأصل "الشوكة" من "الشوك". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15719- حدثنا علي بن نصر، وعبد الوارث بن عبد الصمد قالا حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أن أبا سفيان أقبل ومن معه من رُكبان قريش مقبلين من الشأم، (3) فسلكوا طريق الساحل. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ندب أصحابه، وحدّثهم بما معهم من الأموال، وبقلة عددهم. فخرجوا   (1) انظر تفسير " الطائفة " فيما سلف 12: 560، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) " الحد " (بفتح الحاء) هو: الحدة (بكسر الحاء) ، والبأس الشديد، والنكاية. (3) " الركبان " و " الركب "، أصحاب الإبل في السفر، وهو اسم جمع لا واحد له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 398 لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه، لا يرونها إلا غنيمة لهم، لا يظنون أن يكون كبيرُ قتالٍ إذا رأوهم. وهي التي أنزل الله فيها (1) (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) . (2) 15720- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، (3) عن عبد الله بن عباس، كُلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سُقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم، ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. وكان أبو سفيان يستيقن حين دنا من الحجاز ويتحسس الأخبار، (4) ويسأل من لقي من الركبان، تخوفًا على   (1) في المطبوعة: " وهي ما أنزل الله "، وفي المخطوطة: " وهي أنزل الله "، وأثبت ما في تاريخ الطبري. (2) الأثر: 15719 - " علي بن نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضي "، الثقة الحافظ، شيخ الطبري، روى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري، في غير الجامع الصحيح. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 207. و" عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري "، شيخ الطبري. ثقة، مضى برقم: 2340. وأبوه: " عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة. و" أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد العطار "، ثقة، مضى برقم: 3832، 9656. وهذا الخبر رواه أبو جعفر، بإسناده هذا في التاريخ 2: 267، مطولا مفصلا، وهو كتاب من عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان. وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان كتاب طويل رواه الطبري مفرقًا في التاريخ، وسأخرجه مجموعًا في تعليقي على الأثر 16083. (3) القائل " من علمائنا ... " إلى آخر السياق، هو محمد بن إسحاق. (4) في المطبوعة، وفي تاريخ الطبري، وفي سيرة ابن هشام: " وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس "، ليس فيها " يستقين "، وليس فيها واو العطف في " يتحسس "، ولكن المخطوطة واضحة، فأثبتها. وكان في المطبوعة: " يتجسس " بالجيم، وإنما هي بالحاء المهملة، و " تحسس الخبر "، تسمعه بنفسه وتبحثه وتطلبه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 399 أموال الناس، (1) حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان: "أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعِيرك"! (2) فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغِفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة. (3) وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديًا يقال له "ذَفِرَان"، فخرج منه، (4) حتى إذا كان ببعضه، نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ، وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر رضوان الله عليه، فقال فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه، فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض إلى حيث أمرك الله، فنحن معك، والله، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ، [سورة المائدة: 24] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فوالذي بعثك بالحق، لئن سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد = يعني: مدينة الحبشة (5) = لجالدنا معك مَن دونه حتى تبلغه! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ثم دعا له بخيرٍ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا عليّ أيها الناس! = وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عَدَدَ الناس، وذلك أنهم حين بايعوه على العقبة قالوا: "يا رسول الله، إنا برآء من ذِمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، (6) نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا"، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نُصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، (7) وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم= قال: فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضته لخُضناه معك، (8) ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، (9) إنا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، (10) لعلّ الله أن يريك منا ما تَقرُّ به عينك، فسر بنا على بركة الله! فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، (11) والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم غدًا". (12) 15721- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن أبا سفيان أقبل في عير من الشأم فيها تجارة قريش، وهي اللَّطيمة، (13) فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد أقبلت، فاستنفر الناس، فخرجوا معه ثلثمائة وبضعة عشر رجلا. فبعث عينًا له من جُهَينة، حليفًا للأنصار، يدعى "ابن أريقط"، (14) فأتاه بخبر القوم. وبلغ أبا سفيان خروج محمد صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى أهل مكة يستعينهم، فبعث رجلا من بني غِفار يدعى ضمضم بن عمرو، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشعر بخروج قريش، فأخبره الله بخروجهم، فتخوف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا: "إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا"! فأقبل على أصحابه فاستشارهم في طلب العِير، فقال له أبو بكر رحمة الله عليه: إنّي قد سلكت هذا الطريق، فأنا أعلم به، وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فشاورهم، فجعلوا يشيرون عليه بالعير. فلما أكثر المشورة، تكلم سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك، وتعود فتشاورهم، فكأنك لا ترضى ما يشيرون عليك، وكأنك تتخوف أن تتخلف عنك الأنصار! أنت رسول الله، وعليك أنزل الكتاب، وقد أمرك الله بالقتال، ووعدك النصر، والله لا يخلف الميعاد، امض لما أمرت به، فوالذي بعثك بالحق لا يتخلف عنك رجل من الأنصار! ثم قام المقداد بن الأسود الكندي فقال: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ   (1) في المطبوعة: " تخوفًا من الناس "، وفي سيرة ابن هشام: " تخوفًا على أمر الناس "، وأثبت ما في تاريخ الطبري. (2) " استنفر الناس "، استنجدهم واستنصرهم، وحثهم على الخروج للقتال. (3) عند هذا الموضع انتهي ما في سيرة ابن هشام 2: 257، 258، وسيصله بالآتي في السيرة بعد 2: 266، وعنده انتهي الخبر في تاريخ الطبري 2: 270، وسيصله بالآتي في التاريخ أيضًا 2: 273. وانظر التخريج في آخر هذا الخبر. (4) في السيرة وحدها " فجزع فيه "، وهي أحق بهذا الموضع، ولكني أثبت ما في لمطبوعة والمخطوطة والتاريخ. و " جزع الوادي "، قطعه عرضًا. (5) " برك الغماد "، " برك " (بفتح الباء وكسرها) ، و " الغماد "، (بكسر الغين وضمها ". قال الهمداني: " برك الغماد "، في أقاصي اليمن (معجم ما استعجم: 244) . (6) " الذمام " و " الذمة "، العهد والكفالة والحرمة. (7) في المطبوعة " خاف أن لا تكون الأنصار "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري. و " يتخوف " ساقطة من المخطوطة. و" دهمه " (بفتح الهاء وكسرها) : إذا فاجأه على غير استعداد. (8) " استعرض البحر، أو الخطر ": أقبل عليه لا يبالي خطره. وهذا تفسير للكلمة، استخرجته، لا تجده في المعاجم. (9) في المطبوعة: " أن يلقانا عدونا غدًا "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهذا هو الموافق لما في سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري. (10) " صدق " (بضمتين) جمع " صدوق "، مجازه: أن يصدق في قتاله أو عمله، أي يجد فيه جدًا، كالصدق في القول الذي لا يخالطه كذب، أي ضعف. (11) قوله في آخر الجملة الآتية " غدًا "، ليست في سيرة ابن هشام ولا في التاريخ، ولكنها ثابتة في المخطوطة. (12) الأثر: 15720 - هذا الخبر، روى صدر منه فيما سلف: 15710. وهو في سيرة ابن هشام مفرق 2: 257، 258، ثم 2: 266، 267. وفي تاريخ الطبري 2: 270 ثم 2: 273، ثم تمامه أيضًا في: 273. (13) " اللطيمة "، هو الطيب، و " لطيمة المسك "، وعاؤه ثم سموا العير التي تحمل الطيب والعسجد، ونفيس بز التجار: " اللطيمة ". (14) في المطبوعة: " ابن الأريقط "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 400 فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ، [سورة المائدة: 24] ، ولكنا نقول: أقدم فقاتل، إنا معك مقاتلون! ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: إن ربي وعدني القوم، وقد خرجوا، فسيروا إليهم! فساروا. 15722- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال: الطائفتان إحداهما أبو سفيان بن حرب إذ أقبل بالعير من الشأم، والطائفة الأخرى أبو جهل معه نفر من قريش. فكره المسلمون الشوكة والقتال، وأحبوا أن يلقوا العير، وأراد الله ما أراد. 15723- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) ، قال: أقبلت عير أهل مكة = يريد: من الشأم (1) = فبلغ أهل المدينة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة، فسارعوا السير إليها، لا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، فكانوا أن يلقوا العير أحبَّ إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنمًا. فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكةٍ في القوم. 15724- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال: أرادوا العير. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول، فأغار   (1) في المخطوطة: " يريد الشأم "، وما في المطبوعة هو الصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 403 كُرْز بن جابر الفهري يريد سَرْح المدينة حتى بلغ الصفراء، (1) فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فركب في أثره، فسبقه كرز بن جابر. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فأقام سنَتَه. ثم إن أبا سفيان أقبل من الشأم في عير لقريش، حتى إذا كان قريبًا من بدر، نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، فنفر النبي صلى الله عليه وسلم بجميع المسلمين، وهم يومئذ ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا منهم سبعون ومئتان من الأنصار، وسائرهم من المهاجرين. وبلغ أبا سفيان الخبر وهو بالبطم، (2) فبعث إلى جميع قريش وهم بمكة، فنفرت قريش وغضبت. 15725- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال: كان جبريل عليه السلام قد نزل فأخبره بمسير قريش وهي تريد عيرها، ووعده إما العيرَ، وإما قريشًا وذلك كان ببدر، وأخذوا السُّقاة وسألوهم، فأخبروهم، فذلك قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، هم أهل مكة.   (1) " السرح "، المال يسام في المرعى، من الأنعام والماشية ترعى. و " الصفراء " قرية فويق ينبع، كثيرة المزارع والنخل، وهي من المدينة على ست مراحل، وكان يسكنها جهينة والأنصار ونهد. (2) هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، ولم أجد مكانًا ولا شيئا يقال له " البطم "، وأكاد أقطع أنه تحريف محض، وأن صوابه (بِإضَمٍ) . و " إضم " واد بجبال تهامة، وهو الوادي الذي فيه المدينة. يسمى عند المدينة " قناة "، ومن أعلى منها عند السد يسمى " الشظاة "، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمى " إضما ". وقال ابن السكيت: " إضم "، واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، وأعلى إضم " القناة " التي تمر دوين المدينة. و " إضم " من بلاد جهينة. والمعروف في السير أن أبا سفيان في تلك الأيام، نزل على ماء كان عليه مجدى بن عمير الجهني، فلما أحس بخبر المسلمين، ضرب وجه عيره، فساحل بها، وترك بدرًا بيسار. فهو إذن قد نزل بأرض جهينة، و " إضم " من أرضهم، وهو يفرغ إلى البحر، فكأن هذا هو الطريق الذي سلكه. ولم أجد الخبر في مكان حتى أحقق ذلك تحقيقًا شافيًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 404 15726- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، إلى آخر الآية، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهم يريدون يعترضون عِيرًا لقريش. قال: وخرج الشيطان في صورة سُرَاقة بن جعشم، حتى أتى أهل مكة فاستغواهم، وقال: إنّ محمدًا وأصحابه قد عرضوا لعيركم! وقال: لا غالبَ لكم اليوم من الناس من مثلكم، وإنّي جار لكم أن تكونوا على ما يكره الله! فخرجوا ونادوا أن لا يتخلف منا أحد إلا هدمنا داره واستبحناه! وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالروحاء عينًا للقوم، فأخبره بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدكم العير أو القوم! فكانت العير أحبّ إلى القوم من القوم، كان القتال في الشوكة، والعير ليس فيها قتال، وذلك قول الله عز وجل: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قال: "الشوكة"، القتال، و"غير الشوكة"، العير. 15727- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن ابن أبي حبيب، عن أبي عمران، عن أبي أيوب قال: أنزل الله جل وعز: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) ، فلما وعدنا إحدى الطائفتين أنها لنا، طابت أنفسنا: و"الطائفتان"، عِير أبي سفيان، أو قريش. (1)   (1) الأثر: 15727 - " يعقوب بن محمد الزهري "، سلف قريبًا رقم: 15715. و" عبد الله بن وهب المصري "، الثقة، مضى برقم 6613، 10330. و" ابن لهيعة "، مضى الكلام في توثيقه مرارًا. و" ابن أبي حبيب "، هو " يزيد بن أبي حبيب المصري "، ثقة مضى مرارًا كثيرة. و" أبو عمران " هو: " أسلم أبو عمران "، " أسلم بن يزيد التجيبي "، روى عن أبي أيوب، تابعي ثقة، وكان وجيهًا بمصر. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 25، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 307. وسيأتي في هذا الخبر بإسناد آخر، في الذي يليه. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 73، 74 مطولا، وقال: " رواه الطبراني، وإسناده حسن ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 405 15728 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران الأنصاري، أحسبه قال: قال أبو أيوب=: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، قالوا: "الشوكة" القوم و"غير الشوكة" العير، فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين، إما العير وإما القوم، طابت أنفسنا. (1) 15729- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يعقوب بن محمد قال، حدثني غير واحد في قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، إن "الشوكة"، قريش. 15730- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، هي عير أبي سفيان، ودّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم، وأن القتال صُرِف عنهم. 15731- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، أي الغنيمة دون الحرب. (2) * * * وأما قوله: (أنها لكم) ، ففتحت على تكرير "يعد"، وذلك أن قوله: (يعدكم الله) ، قد عمل في "إحدى الطائفتين". فتأويل الكلام: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) ، يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم، كما قال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) . [سورة محمد: 18] . (3) * * *   (1) الأثر: 15728 - " أسلم، أبو عمران الأنصاري "، هو الذي سلف في الإسناد السابق، وسلف تخريجه. (2) الأثر: 15731 - سيرة ابن هشام 2: 322، وهو تابع الأثريين السالفين، رقم: 15713، 15718. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 404، وزاد " فأن، في موضع نصب كما نصب الساعة ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 406 قال: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) ، فأنث "ذات"، لأنه مراد بها الطائفة. (1) ومعنى الكلام: وتودون أن الطائفة التي هي غير ذات الشوكة تكون لكم، دون الطائفة ذات الشوكة. القول في تأويل قوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) } * * * قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يحق الإسلام ويعليه (2) = "بكلماته"، يقول: بأمره إياكم، أيها المؤمنون، بقتال الكفار، وأنتم تريدون الغنيمة، والمال (3) وقوله: (ويقطع دابر الكافرين) ، يقول: يريد أن يَجُبَّ أصل الجاحدين توحيدَ الله. * * * وقد بينا فيما مضى معنى "دابر"، وأنه المتأخر، وأن معنى: "قطعه"، الإتيان على الجميع منهم. (4) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15731- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قول الله: (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) ، أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم، هذا خيرٌ لكم من العير.   (1) انظر ما قاله آنفًا في " ذات بينكم " ص: 384. (2) انظر تفسير " حق " فيما سلف من فهارس اللغة (حقق) . (3) انظر تفسير " كلمات الله " فيما سلف 11: 335، وفهارس اللغة (كلم) . (4) انظر تفسير " قطع الدابر " 11: 363، 364 \ 12: 523، 524. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 407 15732- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) ، أي: الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر. (1) * * * القول في تأويل قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، كيما يحق الحق، كيما يُعبد الله وحده دون الآلهة والأصنام، ويعزّ الإسلام، وذلك هو "تحقيق الحق"= (ويبطل الباطل) ، يقول ويبطل عبادة الآلهة والأوثان والكفر، ولو كره ذلك الذين أجرموا فاكتسبوا المآثم والأوزار من الكفار. (2) 15733- حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ، هم المشركون. * * * وقيل: إن "الحق" في هذا الموضع، الله عز وجل. * * *   (1) الأثر: 15731 - سيرة ابن هشام 2: 322، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15730. (2) انظر تفسير " المجرم " فيما سلف ص: 70، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 408 القول في تأويل قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ويبطل الباطل"، حين تستغيثون ربكم= ف "إذْ" من صلة "يبطل". * * * الجزء: 13 ¦ الصفحة: 408 ومعنى قوله: (تستغيثون ربكم) ، تستجيرون به من عدوكم، وتدعونه للنصر عليهم= "فاستجاب لكم" فأجاب دعاءكم، (1) بأني ممدكم بألف من الملائكة يُرْدِف بعضهم بعضًا، ويتلو بعضهم بعضًا. (2) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر الأخبار بذلك: 15734- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عكرمة بن عمار قال، حدثني سماك الحنفي قال، سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، ونظرَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعِدّتهم، ونظر إلى أصحابه نَيِّفا على ثلاثمئة، فاستقبل القبلة، فجعل يدعو يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض! "، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوضع رداءه عليه، ثم التزمه من ورائه، (3) ثم قال: كفاك يا نبي الله، بأبي وأمي، مناشدتَك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك! فأنزل الله: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) . (4)   (1) انظر تفسير " استجاب " فيما سلف ص: 321، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الإمداد " فيما سلف 1: 307، 308 \ 7: 181. (3) " التزمه "، احتضنه أو اعتنقه. (4) الأثر: 15734 - " عكرمة بن عمار اليمامي العجلي "، ثقة، مضى برقم: 849، 2185، 8224، 13832. و" سماك الحنفي "، هو " سماك بن الوليد الحنفي "، " أبو زميل "، ثقة. مضى برقم: 13832. وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه 12: 84 - 87، مطولا من طريق هناد بن السري، عن عبد الله بن المبارك، عن عكرمة. رواه أحمد في مسنده رقم: 208، 221، من طريق أبي نوح قراد، عن عكرمة ابن عمار. مطولا. وروى بعضه أبو داود في سننه 3: 82. ورواه الترمذي في كتاب التفسير، مختصرًا، من طريق محمد بن بشار، عن عمر بن يونس اليمامي، عن عكرمة، وقال " هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث عمر، إلا من حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زميل ". ورواه أبو جعفر الطبري في تاريخه، من الطريق نفسها 2: 280. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 409 15735- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: لما اصطفَّ القوم، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره! ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا! 15736- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ربنا أنزلت علي الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني بالنصر، ولا تخلف الميعاد! فأتاه جبريلُ عليه السلام، فأنزل الله: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) ، (1) [سورة ال عمران: 124-125] . 15737- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيْع قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: اللهم انصر هذه العصابة، فإنك إن لم تفعل لن تعبد في الأرض! قال: فقال أبو بكر: بعضَ مناشدتك مُنْجِزَك ما وعدك. (2)   (1) الأثر: 15736 - هذا الخبر لم يذكره أبو جعفر في تفسير آية سورة آل عمران 7: 173 - 190. (2) الأثر: 15737 - " أبو إسحاق "، هو الهمداني السبيعي، وكان في المطبوعة " ابن إسحاق " غير ما في المخطوطة، فأساء. و" زيد بن يثيع الهمداني "، ويقال: " ... أثيع " و " أثيل ". آخره لام. روى عن أبي بكر الصديق، وعلي، وحذيفة، وأبي ذر، وعنه أبو إسحاق السبيعي فقط. ذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب، وابن سعد: 155، والكبير 2 \ 1 \ 373، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 573 في " زيد بن نفيع الهمداني "، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، ولكن العجب أنه كان هناك في المطبوعة والمخطوطة، " زيد بن نفيع " أيضًا. و" يثيع " بالياء والثاء، مصغرًا، هكذا ضبط. وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: 249: "يثيع" "يفعل" من "ثاع، يثيع"، إذا اتسع وانبسط. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 410 15738- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره، فأنزل الله عليه الملائكة. 15739- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (إذ تستغيثون ربكم) ، قال: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. 15740- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إذ تستغيثون ربكم) ، أي: بدعائكم، حين نظروا إلى كثرة عدوهم وقلة عددهم= "فاستجاب لكم"، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم معه. (1) 15741- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح قال: لما كان يوم بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو، (2) فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، بعض نِشْدَتك، فوالله ليفيَنَّ الله لك بما وعدك! * * * وأما قوله: (أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ، فقد بينا معناه. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 15740 - سيرة ابن هشام 2: 322، 323، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15731، وليس في سيرة ابن هشام " معه "، في آخر الخبر. (2) " النشدة " (بكسر فسكون) مصدر: " نشدتك الله "، أي سألتك به واستحلفتك. (3) انظر ما سلف ص: 409. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 411 15742- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ، يقول: المزيد، كما تقول: "ائت الرجل فزده كذا وكذا". 15743- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن عنترة [عن أبيه] ، عن أبيه، عن ابن عباس: (مردفين) ، قال: متتابعين. (1) 15744- . . . . قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، [عن أبيه] ، عن ابن عباس، مثله. (2) 15745- حدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ، قال: وراء كل ملك ملك. (3) 15746 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (مردفين) ، قال: متتابعين. (4) 15747- . . . . قال، حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج بن أرطأة،   (1) الأثر: 15743 - " أحمد بن بشير الكوفي "، مضى برقم 7819، 11084. و" هارون بن عنترة بن عبد الرحمن "، مضى مرارًا كثيرة آخرها: 11084. وأبوه " عنترة بن عبد الرحمن "، مضى أيضًا، انظر رقم 11084. (2) الأثر: 15744. زيادة " عن أبيه " بين قوسين، هو ما أرجح أنه الصواب، وأن إسقاطها من الناسخ. انظر الإسناد السالف. (3) الأثر: 15745 - " سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط "، شيخ الطبري، مضى برقم: 5994، 9745. و" محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي "، مضى برقم: 3002، 5994، 9745. و" أبو كدينة "، " يحيى بن المهلب البجلي "، مضى برقم: 4193، 5994، 9745. و" قابوس بن أبي ظبيان الجنبي "، مضى برقم: 9745، 10683. وأبوه " أبو ظبيان "، هو: " حصين بن جندب الجنبي "، مضى برقم: 9745، 10683. (4) الأثر: 15746 - انظر رجال الأثر السالف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 412 عن قابوس قال: سمعت أبا ظبيان يقول: (مردفين) ، قال: الملائكة، بعضهم على إثر بعض. (1) 15748- . . . . قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: (مردفين) ، قال: بعضهم على إثر بعض. 15749- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 15750- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (مردفين) ، قال: ممدِّين= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: (مردفين) ، "الإرداف"، الإمداد بهم. 15751- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (بألف من الملائكة مردفين) ، أي متتابعين. 15752- حدثنا [محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور] قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بألف من الملائكة مردفين) ، يتبع بعضهم بعضًا. (2)   (1) الأثر: 15747 - " هانئ بن سعيد النخعي "، شيخ ابن وكيع، سلف برقم: 13159، 13965، 14836. (2) الأثر: 15752 - صدر هذا الإسناد خطأ لا شك فيه. وهو كما وضعته بين القوسين، جاء في المطبوعة. أما المخطوطة، فهو فيها هكذا: " حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا محمد ابن ثور قال، حدثنا بن عبد الأعلى قال حدثنا أحمد بن المفضل ... "، وهو خلط لا ريب، وهما إسنادان. فالإسناد الأول، هو: " حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد ثور، عن معمر ... "، وهو إسناد دائر في التفسير. والإسناد الثاني، وهو هذا كما يجب أن يكون: " حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل ... "، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 15738. وظاهر أنه قد سقط تمام إسناد " محمد بن عبد الأعلى ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 413 15753- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (مردفين) ، قال: "المردفين"، بعضهم على إثر بعض، يتبع بعضهم بعضًا. 15754- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (بألف من الملائكة مردفين) ، يقول: متتابعين، يوم بدر. * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: "مُرْدَفِينَ"، بنصب الدال. * * * وقرأه بعض المكيين وعامة قرأة الكوفيين والبصريين: (مُرْدِفِينَ) . * * * وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك، ويقول فيما ذكر عنه: هو من "أردف بعضهم بعضًا". * * * وأنكر هذا القول من قول أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب وقال: إنما "الإرداف"، أن يحمل الرجل صاحبه خلفه. قال: ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر. * * * واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرئ بفتح الدال أو بكسرها. فقال بعض البصريين والكوفيين: معنى ذلك إذا قرئ بالكسر: أن الملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضًا، على لغة من قال: "أردفته". وقالوا: العرب تقول: "أردفته". و"رَدِفته"، بمعنى "تبعته" و"أتبعته"، واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر: (1)   (1) هو: حزيمة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، من قدماء الشعراء في الجاهلية. و " حزيمة " بالحاء المهملة المفتوحة، وكسر الزاي، هكذا ضبطه في تاج العروس، وقال: " وحزيمة بن نهد " في قضاعة. وهو في كتب كثيرة " خزيمة بن نهد "، أو " خزيمة بن مالك بن نهد " (اللسان: ردف) . وقد قرأت في جمهرة الأنساب لابن حزم: 418، أن " نهد بن زيد "، ولد " خزيمة " و " حزيمة "، فهذا يقتضي التوقف والنظر في ضبطه، وأيهما كان صاحب القصة والشعر. وإن كان الأرجح هو الأول. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 414 إِذَا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا (1) قالوا: فقال الشاعر: "أردفت"، وإنما أراد "ردفت"، جاءت بعدها، لأن الجوزاء تجئ بعد الثريا. وقالوا معناه إذا قرئ (مردَفين) ، أنه مفعول بهم، كأن معناه: بألف من الملائكة يُرْدِف الله بعضهم بعضًا. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك، إذا كسرت الدال: أردفت الملائكة بعضها بعضًا= وإذا قرئ بفتحها: أردف الله المسلمين بهم. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) ، بكسر الدال، لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم، أن معناه: يتبع بعضهم بعضًا، ومتتابعين= ففي إجماعهم على ذلك من التأويل، الدليلُ الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال، بمعنى: أردف بعض الملائكة بعضًا، ومسموع من العرب: "جئت مُرْدِفًا لفلان"، أي: جئت بعده. وأما قول من قال: معنى ذلك إذا قرئ "مردَفين" بفتح الدال: أن الله أردفَ المسلمين بهم= فقولٌ لا معنى له، إذ الذكر الذي في "مردفين" من الملائكة دون المؤمنين. وإنما معنى الكلام: أن يمدكم بألف من الملائكة يُرْدَف بعضهم ببعض. ثم حذف ذكر الفاعل، وأخرج الخبر غير مسمَّى فاعلُه، فقيل: (مردَفين) ، بمعنى: مردَفٌ بعض الملائكة ببعض. ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله، وجب أن يكون في "المردفين" ذكر المسلمين، لا ذكر الملائكة. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن.   (1) الأغاني 13: 78، معجم ما استعجم: 19، سمط اللآلئ: 100، شرح ديوان أبي ذؤيب: 145. المعارف لا بن قتيبة: 302، الأزمنة والأمكنة 2: 130، جمهرة الأمثال: 31، الأمثال للميداني 1: 65، اللسان (ردف) ، (قرظ) . وسبب هذا الشعر: أن حزيمة بن نهد كان مشئومًا فاسدًا متعرضًا للنساء، فعلق فاطمة بنت يذكر ابن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، (وهو أحد القارظين المضروب بهما المثل) ، فاجتمع قومه وقومها في مربع، فلما انقضى الربيع، ارتحلت إلى منازلها فقيل له: يا حزيمة: لقد ارتحلت فاطمة! قال: أما إذا كانت حية ففيها أطمع! ثم قال في ذلك: إِذَا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا ظَنَنْتُ بِهَا، وَظَنُّ المرء حُوبٌ ... وَإنْ أَوْفَى، وَإِنْ سَكَنَ الحَجُونا وَحَالَتْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هُمُومِي ... هُمُومٌ تُخْرِيُج الشَّجَنَ الدَّفينَا أَرَى ابْنَةَ يَذْكُرٍ ظَعَنَتْ فَحَلَّتْ ... جَنُوبَ الْحَزْنِ، يا شَحَطًا مُبِينَا! فبلغ ذلك ربيعة، فرصدوه، حتى أخذوه فضربوه. فمكث زمانًا، ثم أن حزيمة قال ليذكر ابن عنزة: أحب أن تخرج حتى نأتي بقرظ. فمرا بقليب فاستقيا، فسقطت الدلو، فنزل يذكر ليخرجها. فلما صار إلى البئر، منعه حزيمة الرشاء، وقال: زوجني فاطمة! فقال: على هذه الحال، اقتسارًا! أخرجني أفعل! قال: لا أخرجك! فتركه حتى مات فيها. فلما رجع وليس هو معه، سأله عنه أهله، فقال: فارقني، فلست أدري أين سلك! فاتهمته ربيعة، وكان بينهم وبين قومه قضاعة في ذلك شر، ولم يتحقق أمر فيؤخذ به، حتى قال حزيمة: فَتَاةٌ كَأَنَّ رُضَابَ العَبِيرِ ... بِفِيهَا، يُعَلُّ بِهِ الزَّنْجَبِيلُ قَتَلْتُ أَبَاهَا عَلَى حُبِّهَا، ... فَتَبْخَلُ إنْ بَخِلَتْ أوْ تُنِيلُ عندئذ، ثارت الحرب بين قضاعة وربيعة. قال أبو بكر بن السراج في معنى بيت الشاهد: " إن الجوزاء تردف الثريا في اشتداد الحر، فتتكبد السماء في آخر الليل، وعند ذلك تنقطع المياه وتجف، فيتفرق الناس في طلب المياه، فتغيب عنه محبوبته، فلا يدري أين مضت، ولا أين نزلت ". وانظر أيضًا شرحه في الأزمنة والأمكنة 2: 130، 131. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 404، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 241. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 415 وقد ذكر في ذلك قراءة أخرى، وهي ما:- 15755- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال عبد الله بن يزيد: "مُرَدِّفِينَ" و"مُرِدِّفِينَ" و "مُرُدِّفِينَ"، مثقَّل (1) على معنى: "مُرْتَدِفين". 15756- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير، عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر رضي الله عنه، ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا فيها. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يجعل الله إردافَ الملائكة بعضها بعضًا وتتابعها بالمصير إليكم، أيها المؤمنون، مددًا لكم= "إلا بشرى" لكم، أي: بشارة   (1) ضبطها القرطبي في تفسيره 7: 371. (2) الطبري: 15756 - " عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري "، الأعرج، يعرف " بابن أبي ثابت "، كان صاحب نسب وشعر، ولم يكن صاحب حديث، وكان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم. قال البخاري " منكر الحديث، لا يكتب حديثه "، وقال ابن أبي حاتم: " منكر الحديث جدًا ". مضى برقم: 8012. و" الزمعي "، هو " موسى بن يعقوب الزمعي القرشي "، ثقة، متكلم فيه مضى برقم: 9923، زكان في المطبوعة هناك " الربعي "، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صوابه، وهو الذي يروى عن أبي الحويرث. و" أبو الحويرث " هو: " عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الأنصاري الزرقي "، ثقة، متكلم فيه حتى قالوا: " لا يحتج بحديثه، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/284، و"محمد بن جبير بن مطعم"، ثقة تابعي مضى برقم: 9269. وهو إسناد ضعيف جداً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 417 لكم، تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم (1) = "ولتطمئن به قلوبكم"، يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم، وتوقن بنصرة الله لكم (2) = "وما النصر إلا من عند الله"، يقول: وما تنصرون على عدوكم، أيها المؤمنون، إلا أن ينصركم الله عليهم، لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بنصر الله لكم، لأن ذلك بيده وإليه، ينصر من يشاء من خلقه= "إن الله عزيز حكيم" يقول: إن الله الذي ينصركم، وبيده نصرُ من يشاء من خلقه= "عزيز"، لا يقهره شيء، ولا يغلبه غالب، بل يقهر كل شيء ويغلبه، لأنه خلقه= "حكيم"، يقول: حكيم في تدبيره ونصره من نصر، وخذلانه من خذل من خلقه، لا يدخل تدبيره وهن ولا خَلل. (3) * * * وروي عن عبد الله بن كثير عن مجاهد في ذلك، ما:- 15757- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير: انه سمع مجاهدًا يقول: ما مدّ النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكر الله غيرُ ألف من الملائكة مردفين، وذكر "الثلاثة" و"الخمسة" بشرى، ما مدُّوا بأكثر من هذه الألف الذي ذكر الله عز وجل في "الأنفال"، وأما "الثلاثة" و"الخمسة"، فكانت بشرَى. * * * وقد أتينا على ذلك في "سورة آل عمران"، بما فيه الكفاية. (4)   (1) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف ص: 303، تعليق: 2، المراجع هناك. (2) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 5: 492 \ 9: 165 \ 11: 224. (3) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) . (4) انظر ما سلف 7: 173 - 192. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 418 القول في تأويل قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ولتطمئن به قلوبكم"، "إذ يغشيكم النعاس"، ويعني بقوله: (يغشيكم النعاس) ، يلقي عليكم النعاس (1) = (أمنة) يقول: أمانًا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل. * * * 15758- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله قال: النعاس في القتال، أمنةٌ من الله عز وجل، وفي الصلاة من الشيطان. (2) 15759 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري في قوله: "يغشاكم النعاس أمنة منه"، (3) عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله، بنحوه، قال: قال عبد الله، فذكر مثله. 15760 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بنحوه. * * *   (1) انظر تفسير " يغشى " فيما سلف 1: 265، 266 \ 12: 436: 483. = وتفسير " النعاس " فيما سلف 7: 316. (2) الأثر: 15758 - انظر هذا الخبر بإسناد آخر فيما سلف رقم: 8083. (3) قوله: " يغشاكم النعاس " قراءة أخرى في الآية، وسأثبتها كما جاءت في المخطوطة بعد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 419 و"الأمنة" مصدر من قول القائل: "أمنت من كذا أمَنَة، وأمانًا، وأمْنًا" وكل ذلك بمعنى واحد. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15761- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أمنة منه) ، أمانًا من الله عز وجل. 15762 - . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أمنة) ، قال: أمنًا من الله. 15763- حدثني يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) ، قال: أنزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أحد. فقرأ: (ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا) [سورة ال عمران: 154] . * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إذ يغشيكم النعاس أمنة منه"، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: " يُغْشِيكُمُ النُّعَاسَ " بضم الياء وتخفيف الشين، ونصب "النعاس"، من: "أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم". * * * وقرأته عامة قرأة الكوفيين: (يُغَشِّيكُمُ) ، بضم الياء وتشديد الشين، من: "غشّاهم الله النعاس فهو يغشِّيهم". * * * وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: "يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ"، بفتح الياء ورفع "النعاس"، بمعنى: "غشيهم النعاس فهو يغشاهم".   (1) انظر تفسير " أمنة " فيما سلف 7: 315، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 420 واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في "آل عمران": (يَغْشَى طَائِفَةً) [سورة ال عمران: 154] . * * * قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب: (إِذْ يُغَشِّيكُمْ) ، على ما ذكرت من قراءة الكوفيين، لإجماع جميع القراء على قراءة قوله: (وينزل عليكم من السماء ماء) ، بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عز وجل، فكذلك الواجب أن يكون كذلك (يغشيكم) ، إذ كان قوله: (وينزل) ، عطفًا على "يغشي"، ليكون الكلام متسقًا على نحو واحد. * * * وأما قوله عز وجل: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) ، فإن ذلك مطرٌ أنزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مُجْنبِين على غير ماء. فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر. فذلك ربطه على قلوبهم، وتقويته أسبابهم، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم، لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثثاء، (1) فلبَّدها المطر، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها، توطئةً من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه، أسبابَ التمكن من عدوهم والظفر بهم. * * * وبمثل الذي قلنا تتابعت الأخبار عن [أصحاب] رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلم. (2)   (1) في المطبوعة: " على رملة هشاء "، ولا أصل لذلك في اللغة، كلام لا يقال. وهو في المخطوطة سيء الكتابة قليلا، صواب قراءته ما أثبت. و " الرملة الميثاء "، اللينة السهلة. قد تسوخ فيها الرجل قليلاً. (2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، والأخبار الآتية تدل عل صحة ذلك. وكان في المخطوطة أمام هذا السطر حرف (ط) دلالة على الخطأ والشك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 421 * ذكر الأخبار الواردة بذلك: 15764- حدثنا هارون بن إسحاق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طَشّ من المطر (1) = يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر = فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر، (2) وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض! " فلما أن طلع الفجر، نادى: "الصلاة عبادَ الله! "، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرض على القتال. (3) 15765- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد، عن داود، عن سعيد بن المسيب: (ماء ليطهركم به) ، قال: طش يوم بدر. 15766 - حدثني الحسن بن يزيد قال، حدثنا حفص، عن داود، عن سعيد، بنحوه. (4)   (1) " الطش "، المطر القليل، وهو فوق " الرذاذ ". (2) في المطبوعة: " تحت الشجر "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب جيد. = و " الحجف " (بفتحتين) جمع " جحفة ". وهي الترس، يكون من الجلود ليس فيه خشب ولا عقب، وهو مثل " الدرقة ". (3) الأثر: 15764 - " هارون بن إسحاق الهمداني "، شيخ الطبري، مضى برقم: 3001، 10873. و" مصعب بن المقدام الخثمي "، ثقة مضى برقم: 1291، 3001، 10873، وغيرها. و" إسرائيل " هو " إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي " ثقة حافظ، مضى مرارًا كثيرة. و" حارثة " هو " حارثة بن مضرب العبدي "، من ثقات التابعين، مضى برقم: 2057، 8597. وهو خبر صحيح الإسناد، خرجه السيوطي مختصرًا بغير هذا اللفظ، ونسبة إلى ابن جرير، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الدر المنثور 3: 171. (4) الأثر: 15766 - " الحسن بن يزيد "، لم أجد في شيوخ أبي جعفر، وفيمن روى عن حفص بن غياث، من يقال له " الحسن بن يزيد "، وأرجح أنه: " الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي "، شيخ أبي جعفر، نسبه إلى جده، وقد مضى برقم: 9373، 12581. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 422 15767- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن أبي عدي وعبد الأعلى، عن داود، عن الشعبي وسعيد بن المسيب، قالا طش يوم بدر. 15768- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الآية: (ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان) ، قالا طشٌّ كان يوم بدر، فثبَّت الله به الأقدام. 15769- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إذ يغشاكم النعاس أمنة منه" الآية، ذكر لنا أنهم مُطِروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً، واقتتلوا على كثيب أعفر، (1) فلبَّده الله بالماء، وشرب المسلمون وتوضأوا وسقوْا، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان. 15770- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال، نزل النبي صلى الله عليه وسلم = يعني: حين سار إلى بدر= والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دَعْصَة، (2) فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلُّون مُجْنِبين! فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت   (1) " الأعفر "، الرمل الأحمر. (2) " رملة دعصة "، هكذا جاء في التفسير، في المخطوطة والمطبوعة، وفي ابن كثير، وضبطته بفتح الدال، لأني رجوت أن يكون صفة، كقولهم: " الدعصاء "، وهي أرض سهلة فيها رملة تحمي عليها الشمس، فتكون رمضاؤها أشد من غيرها، قال: وَالمُسْتَجِيرُ بِعَمْرٍو عِنْدَ كُرْبَتِهِ ... كَالمُسْتَجِيرِ مِنَ الدَّعْصَاءِ بِالنَّارِ ولكن كتب اللغة لم تذكر " دعصة "، هذه. وفي بعض الأخبار الأخرى " رملة دهسة ". و " الدهس "، و " الدهاس "، أرض سهلة لينة يثقل فيها المشي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 423 الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدوابّ، فساروا إلى القوم، وأمدّ الله نبيه بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنِّبةً، وميكائيل في خمسمائة مجنبةً. (1) 15771 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "إذ يغشاكم النعاس أمنة منه" إلى قوله: (ويثبت به الأقدام) ، وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ، فجعلوا يصلون مجنبين مُحْدِثين، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشرب المسلمون، وملئوا الأسقية، وسقوا الرِّكاب، واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهورًا، وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رَملة، فبعث الله عليها المطر، فضربها حتى اشتدَّت، وثبتت عليها الأقدام. 15772 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تِلْقاء البحر، فانطلقوا. قال: فنزلوا على أعلى الوادي، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله. فكان الرجل من أصحاب محمد عليه السلام يُجْنِب فلا يقدر على الماء، فصلي جُنُبًا، فألقى الشيطان في قلوبهم فقال: كيف ترجون أن تظهروا عليهم، وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبًا على غير وضوء!، قال: فأرسل الله عليهم المطر، فاغتسلوا وتوضأوا وشربوا، واشتدّت لهم الأرض، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم، (2) فاشتدت لهم من المطر، واشتدُّوا عليها.   (1) " المجنبة " (بتشديد النون مكسورة) ، هي الكتيبة التي تأخذ إحدى ناحيتي الجيش، " المجنبة اليمنى "، و " المجنبة اليسرى " وهي: " الميمنة " و " الميسرة ". (2) " البطحاء "، تراب لين جرته السيول، وهو " الأبطح "، يكون في مسيل الوادي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 424 15773- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، وكانت بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن، فقال: تزعمون أن فيكم نبيًّا، وأنكم أولياء الله، وقد غلبتم على الماء، وتصلون مُجْنبين محدثين! قال: فأنزل الله عز وجل ماء من السماء، فسال كل وادٍ، فشرب المسلمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسة الشيطان. 15774- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ماء ليطهركم به) ، قال: المطر، أنزله عليهم قبل النعاس= (رجز الشيطان) ، قال: وسوسته. قال: فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به الأرض، (1) وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم. 15775 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ماء ليطهركم به) ، أنزله عليهم قبل النعاس، طبَّق بالمطر الغبار، ولبّد به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به الأقدام. 15776 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ماء ليطهركم به) ، قال: القطر= (ويذهب عنكم رجز الشيطان) ، وساوسه. أطفأ بالمطر الغبار، ولبد به الأرض، (2) وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم. 15777- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن   (1) في المخطوطة: " واصـ به " غير منقوطة، كأنها " وأثبتت به "، بالبناء للمجهول، والذي في المطبوعة جيد، وقريب أن يكون قد حرفه الناسخ. (2) في المخطوطة: " تطفي بالمطر الغبار، وبدت به الأرض "، وهو محرف، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 425 ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "رجز الشيطان"، وسوسته. 15778- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) ، قال: هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر= (وليذهب عنكم رجز الشيطان) ، الذي ألقى في قلوبكم: ليس لكم بهؤلاء طاقة! = (وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) . 15779- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إذ يغشاكم النعاس أمنة منه) ، إلى قوله: (ويثبت به الأقدام) ، إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر، وغلبوا المسلمين عليه، فأصاب المسلمين الظمأ، وصلوا محدثين مجنبين، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزَن، ووسوس فيها: إنكم تزعمون أنكم أولياء الله، وأن محمدًا نبي الله، وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين! فأمطر الله السماء حتى سال كل واد، فشرب المسلمون وملأوا أسقيتهم، (1) وسقوا دوابهم، واغتسلوا من الجنابة، وثبت الله به الأقدام. وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب، ولا يمشي فيها الماشي إلا بجَهد، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت، وثبتت فيها الأقدام. 15780- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ يغشاكم النعاس أمنة منه"، أي: أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون،= "وينزل عليكم من السماء ماء"، للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، (2) فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء، وخلَّي سبيل المؤمنين إليه= (ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) ، ليذهب عنهم شك   (1) في المخطوطة: " وبلوا أسقيتهم ". كأنها تقرأ " وبلوا "، والذي في المطبوعة جيد، قد مضى مثله في الأخبار. (2) في المطبوعة: " ونزل عليكم من السماء المطر الذي أصابهم ... "، وفي المخطوطة: ونزلت عليكم من السماء المطر الذي أصابهم ... "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام وهو الجيد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 426 الشيطان، بتخويفه إياهم عدوهم، واستجلاد الأرض لهم، (1) حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوهم. (2) 15781- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة، وقيامهم يصلون بغير وضوء، فقال: "إذ يغشيكم النعاسَ أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام"، حتى تشتدون على الرمل، وهو كهيئة الأرض. 15782- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب= وقال مرة: قرأ= (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهِّركم به) ، (3) فقال سعيد: إنما هي: " وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ". قال: وقال الشعبي: كان ذلك طشًا يوم بدر. * * * وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة، أن مجاز قوله: (ويثبت به الأقدام) ، ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم، فيثبتون لعدوهم. (4)   (1) " استجلاد الأرض ": من " الجلد " (بفتحتين) ، وهي الأرض الصلبة، يعني أنها صارت أرضًا صلبة غليظة، بعد أن كانت رملة ميثاء لينة. و" استجلدت الأرض "، مما لم تذكره معاجم اللغة، وهو عريق فصيح. (2) الأثر: 15780 - سيرة ابن هشام 2: 323، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15740. وكان في المطبوعة: " الذي سبق "، غير ما كان في المخطوطة، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام، وهو الصواب. (3) في المطبوعة كتب " ليطهركم بها "، غير ما في المخطوطة، ولا أدري من أين جاء بها، ولم أجد قراءة كهذه القراءة، بل المعروف أن قراءة عامة القرأة " ليطهركم به " بتشديد الهاء مكسورة، من " طهر " مضعفًا، وأن سعيد بن المسيب، قد انفرد بقراءة " ليطهركم "، كما ضبطتها، بضم الياء، وسكون الطاء وكسر الهاء. من " أطهر "، وهي قراءة شاذة. انظر شواذ القراءات لابن خالويه: 49، وتفسير أبي حيان 4: 468 (4) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 242. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 427 وذلك قولٌ خِلافٌ لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وحَسْبُ قولٍ خطًأ أن يكون خلافًا لقول من ذكرنا، وقد بينا أقوالهم فيه، وأن معناه: ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابِّهم. (1) * * * وأما قوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) ، أنصركم (2) = (فثبتوا الذين آمنوا) ، يقول: قوُّوا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين. (3) * * * وقد قيل: إن تثبيت الملائكة المؤمنين، كان حضورهم حربهم معهم. * * * وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم. * * * وقيل: كان ذلك بأن الملك يأتي الرجلَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم= يعني المشركين= يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! (4) فيحدِّث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك، فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته. * * * وأما ابن إسحاق، فإنه قال بما:- 15783- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فثبتوا الذين آمنوا) ، أي: فآزروا الذين آمنوا. (5) * * *   (1) انظر تفسير " تثبيت الأقدام " فيما سلف 5: 354 \ 7: 272، 273. * * * هذا، وقد أغفل أبو جعفر هنا إفراد تفسير " يذهب عنكم رجز الشيطان " و " وليربط على قلوبكم " وانظر تفسير " الرجز " فيما سلف: ص: 179، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " مع " فيما سلف 3: 214 \ 5: 353. (3) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5: 354 \ 7 \ 272، 273، ومادة (ثبت) في فهارس اللغة. (4) " الانكشاف "، الانهزام. (5) الأثر: 15783 - سيرة ابن هشام 2: 323، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15780. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 428 القول في تأويل قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سَأرْعِبُ قلوب الذين كفروا بي، أيها المؤمنون، منكم، وأملأها فرقًا حتى ينهزموا عنكم (1) = "فاضربوا فوق الأعناق". * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فوق الأعناق) . فقال بعضهم: معناه: فاضربوا الأعناق. * ذكر من قال ذلك: 15784- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (فاضربوا فوق الأعناق) ، قال: اضربوا الأعناق. 15785- . . . . قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الأعناق وشدِّ الوَثَاق. 15786- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فاضربوا فوق الأعناق) ، يقول: اضربوا الرقاب. * * * واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول: "رأيت نفس فلان"، بمعنى: رأيته. قالوا: فكذلك قوله: (فاضربوا فوق الأعناق) ، إنما معناه: فاضربوا الأعناق. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك، فاضربوا الرؤوس.   (1) انظر تفسير " إلقاء الرعب " فيما سلف 7: 279. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 429 * ذكر من قال ذلك: 15787- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: (فاضربوا فوق الأعناق) ، قال: الرؤوس. * * * واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي "فوق الأعناق"، الرؤوس. قالوا: وغير جائز أن تقول: "فوق الأعناق"، فيكون معناه: "الأعناق". قالوا: ولو جاز ذلك، جاز أن يقال (1) "تحت الأعناق"، فيكون معناه: "الأعناق". قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب، وقلبٌ لمعاني الكلام. (2) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق، وقالوا: "على" و"فوق" معناهما متقاربان، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر. (3) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: أن الله أمر المؤمنين، مُعَلِّمَهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف: أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل. وقوله: (فوق الأعناق) ، محتمل أن يكون مرادًا به الرؤوس، ومحتمل أن يكون مرادًا له: من فوق جلدة الأعناق، (4) فيكون معناه: على الأعناق. وإذا احتمل ذلك، صح قول من قال، معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا من التأويل، لم يكن لنا أن نوجِّهه إلى بعض معانيه دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة تدلّ على خصوصه، فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم، أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرًا. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " ولو جاز ذلك كان أن يقال "، وهو فاسد، صوابه ما أثبت. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " وقلب معاني الكلام "، صواب السياق ما أثبت. (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 242. (4) في المطبوعة حذف " من "، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 430 وأما قوله: (واضربوا منهم كل بنان) ، فإن معناه: واضربوا، أيها المؤمنون، من عدوكم كل طَرَف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم. * * * و"البنان": جمع "بنانة"، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين، ومن ذلك قول الشاعر: (1) أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنِّي بَنَانَةً وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حاذِرَا (2)   (1) هو العباس بن مرداس السلمي. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 242، اللسان (بنن) ، ولم أجده في مكان آخر. وقال أبو عبيدة بعد البيت: " يعني أبا ضب، رجلاً من هذيل، قتل هريم بن مرداس وهو نائم، وكان جاورهم بالربيع ". وقد روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني 13: 66 (ساسى) ، عن أبي عبيدة أن هريم بن مرداس كان مجاورًا في خزاعة، في جوار رجل منهم يقال له عامر، فقتله رجل من خزاعة يقال له خويلد. فالذي قاله أبو عبيدة هنا مضطرب، وهو زيادة بين قوسين في النسخة المطبوعة، فأخشى أن لا تكون من قول أبي عبيدة. وأما " أبو ضب " الرجل من هذيل، فهو شاعر معروف من بني لحيان، من هذيل، له شعر في بقية أشعار الهذليين وأخبار، انظر رقم: 13، 14 من الشعر. وجاء أيضًا في البقية من شعر هذيل 43، ما نصه: " وقال عباس بن مرداس، وأخواله بنو لحيان ": لا تَأْمَنَنْ بالعَادِ والخِلْفِ بَعْدَهَا ... جِوَارَ أُناسٍ يَبِتَنُونَ الحَصَائِرَاِ ذكر " جوارًا " كان في بني لحيان، فأجابه رجل من بني لحيان، يذكر عقوقه أخواله، ويتهدده بالقتل. جَزَى الله عَبَّاسًا عَلَى نَأْي دَارِهِ ... عُقُوقًا كَحَرِّ النَّارِ يأتِي المَعَاشِرَا فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ يُقال: ابْنُ أخْتِهِ! ... لَفَقَّرْتُهُ، إنِّي أُصِيبُ المَفاقِرَا فِدًي لأَبِي ضَبٍّ تِلادِي، فإنَّنَا ... تَكَلْنَا عَلَيْهِ دَاخِلا ومُجَاهِرَا وَمَطْعَنَهُ بالسَّيْفِ أحْشَاءَ مالِكٍ ... بِما كانَ مَنَّي أوْرَدُوهُ الجَرَائِرَا فقد ذكر في هذا الشعر " أبا ضب "، ومقتله " مالكا ". لم أقف بعد على " مالك " هذا، ولكني أظن أن شعر عباس هذا، يدخل في خبر مقتل " مالك " الذي قتله " أبو ضب "، لا في خبر مقتل أخيه " هريم بن مرداس "، فذاك خبر معروف رجاله. وقوله " حاذرا "، أي: مستعدًا حذرًا متيقظًا. وقال شمر: " الحاذر "، المؤدي الشاك السلاح، وفي شعر العباس بن مرداس ما يشعر بذلك: وَإنِّي حاذِرٌ أَنْمِى سِلاحِي ... إلى أَوْصالِ ذَيَّالٍ مَنِيع وكان في المطبوعة: " قطعت منه بنانة "، فأفسد الشعر إفسادًا، إذ غير الصواب المحض الذي في المخطوطة، متابًعًا خطأ الرواية المحرفة في لسان العرب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 431 يعني ب"البنانة" واحدة "البنان". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15788- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: كل مفصِل. 15789 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: المفاصل. 15790- . . . . قال: حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: كل مفصل. 15791- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: الأطراف. ويقال: كل مفصل. 15792- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واضربوا منهم كل بنان) ، يعني: بالبنان، الأطراف. 15793- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: الأطراف. 15794- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (واضربوا منهم كل بنان) ، يعني: الأطراف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 432 القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ذلك بأنهم) ، هذا الفعل من ضرب هؤلاء الكفرة فوق الأعناق وضرب كل بنان منهم، جزاءٌ لهم بشقاقهم الله ورسوله، وعقاب لهم عليه. * * * ومعنى قوله: (شاقوا الله ورسوله) ، فارقوا أمرَ الله ورسوله وعصوهما، وأطاعوا أمرَ الشيطان. (1) * * * ومعنى قوله: (ومن يشاقق الله ورسوله) ، ومن يخالف أمرَ الله وأمر رسوله ففارق طاعتهما (2) = (فإن الله شديد العقاب) ، له. وشدة عقابه له: في الدنيا، إحلالُه به ما كان يحلّ بأعدائه من النقم، وفي الآخرة، الخلودُ في نار جهنم= وحذف "له" من الكلام، لدلالة الكلام عليها. * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذا العقابُ الذي عجلته لكم، أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله، في الدنيا، من الضرب فوق الأعناق منكم، وضرب   (1) انظر تفسير " الشقاق " فيما سلف 3: 115، 116، 336 \ 8: 319 \ 9: 204. (2) في المخطوطة والمطبوعة: " وفارق "، والسياق يقتضي ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 433 كل بنان، بأيدي أوليائي المؤمنين، فذوقوه عاجلا واعلموا أن لكم في الآجل والمعاد عذابَ النار. (1) * * * ولفتح "أن" من قوله: (وأن للكافرين) ، من الإعراب وجهان: أحدهما الرفع، والآخر: النصبُ. فأما الرفع، فبمعنى: ذلكم فذوقوه، ذلكم وأن للكافرين عذاب النار= بنية تكرير "ذلكم"، كأنه قيل: ذلكم الأمر، وهذا. وأما النصب: فمن وجهين: أحدهما: ذلكم فذوقوه، واعلموا، أو: وأيقنوا أن للكافرين= فيكون نصبه بنية فعل مضمر، قال الشاعر: وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2) بمعنى: وحاملا رمحًا. والآخر: بمعنى: ذلكم فذوقوه، وبأن للكافرين عذاب النار= ثم حذفت "الباء"، فنصبت. (3) * * *   (1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف 12: 420، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) مضى البيت مرارًا وتخريجه، انظر آخرها ما سلف 11: 577، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 405، 406. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 434 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (إذا لقيتم الذين كفروا) في القتال= (زحفًا) ، يقول: متزاحفًا بعضكم إلى بعض= و"التزاحف"، التداني والتقارب (1) = "فلا تولوهم الأدبار"، يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم، ولكن اثبتوا لهم، فإن الله معكم عليهم (2) = "ومن يولهم يومئذ دبره"، يقول: ومن يولهم منكم ظهره = (إلا متحرفًا لقتال) ، يقول: إلا مستطردًا لقتال عدوه، يطلب عورةً له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه = (أو متحيزًا إلى فئة) أو: إلا أن يوليهم ظهره متحيزًا إلى فئة، يقول: صائرًا إلى حَيِّز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم، (3) ويرجعون به معهم إليهم. (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15795- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: (إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) ، قال: "المتحرف"، المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها. قال، و"المتحيز"، الفارّ إلى   (1) هذا الشرح لقوله: " التزاحف "، لا تجده في معاجم اللغة، فيقيد. (2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . = وتفسير " الدبر " فيما سلف 7: 109، 110 \ 10: 170. (3) انظر تفسير " فئة " فيما سلف 9: 7، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) في المطبوعة: " يرجعون به معهم إليهم "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 435 النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. قال الضحاك: وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن لا يفروا. وإنما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه فئتَهم. (1) 15796- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) ، أما "المتحرف"، يقول: إلا مستطردًا، يريد العودة= (أو متحيزًا إلى فئة) ، قال: "المتحيز"، إلى الإمام وجنده إن هو كرّ فلم يكن له بهم طاقة، ولا يُعذَر الناس وإن كثروا أن يُوَلُّوا عن الإمام. * * * واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم) ، هل هو خاص في أهل بدر، أم هو في المؤمنين جميعًا؟ فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه، فأما اليومَ فلهم الانهزام. * ذكر من قال ذلك: 15797- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة في قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: ذاك يوم بدر، ولم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحاز أحدٌ لم ينحز إلا إلي (2) = قال أبو موسى: يعني: إلى المشركين.   (1) في المطبوعة: حذف " وأصحابه "، تحكمًا. (2) وقف على قوله: " إلى "، كأنه يشير بيده إلى الفئة الأخرى، والتي فسرها أبو موسى، وهو ابن المثنى، بقوله: يعني: إلى المشركين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 436 15798- حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قوله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، ثم ذكر نحوه= إلا أنه قال: ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض غيرهم. 15799- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن مفضل قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: نزلت في يوم بدر: (ومن يولهم يومئذ دبره) . 15800 - حدثني ابن المثنى، وعلي بن مسلم الطوسي= قال ابن المثنى: حدثني عبد الصمد= وقال علي: حدثنا عبد الصمد= قال، حدثنا شعبة، عن داود، يعني ابن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: يوم بدر= قال أبو موسى: حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث: عن داود، عن الشعبي، عن أبي سعيد. 15801 - حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كان ذلك يوم بدر، لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك، فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض. (1) 15802 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: هذه نزلت في أهل بدر. 15803- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال:   (1) الآثار: 15797 - 15801 - " داود " هو " ابن أبي هند " مضى مرارًا. و" أبو نضرة " هو " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي "، ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: 14664. و" أبو سعيد "، هو أبو سعيد الخدري، صاحب رسول الله. وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 327، من طريق شعبة، عن داود بن أبي هند، بمثله، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 437 كتبت إلى نافع أسأله عن قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، أكان ذلك اليوم، أم هو بعد؟ قال: وكتب إليّ: "إنما كان ذلك يوم بدر". 15804- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك قال: إنما كان الفرار يوم بدر، ولم يكن لهم ملجأ يلجأون إليه. فأما اليوم، فليس فرارً. 15805 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة، ليس الفرار من الزحف من الكبائر. 15806- . . . . قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة. 15807- . . . . قال، حدثنا روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: نزلت في أهل بدر. 15808- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: ذلكم يوم بدر. 15809 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك. عن المبارك بن فضالة، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: ذلك يوم بدر. فأما اليوم، فإن انحاز إلى فئة أو مصر = أحسبه قال: فلا بأس به. 15810 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: إنما هذا يوم بدر. 15811- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النارَ. قال: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 438 فئة فقد باء بغضب من الله) ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) [سورة ال عمران: 155] . ثم كان حنين، بعد ذلك بسبع سنين فقال: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [سورة التوبة: 25] : (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) [سورة التوبة: 27] . 15812- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، أن عمر رحمة الله عليه بلغه قتل أبي عبيدٍ فقال: لو تحيز إليّ! إنْ كنتُ لَفِئَةً! (1) 15813- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن جرير بن حازم قال، حدثني قيس بن سعد قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، [سورة الأنفال: 66] . قال: وليس لقوم أن يفرُّوا من مثلَيْهم. قال: ونسخت تلك إلا هذه العِدّة. (2) 15814 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن   (1) الأثر: 15812 - " أبو عبيدة بن مسعود الثقفي "، صحابي وهو صاحب يوم الجسر المعروف بجسر أبي عبيد. وكان عمر ولى الخلافة، عزل خالد بن الوليد عن العراق والأعنة، وولى أبا عبيد بن مسعود الثقفي سنة 13. ولما وجه يزدجر جموعه إلى جيش أبي عبيد، عبر أبو عبيد الجسر في المضيق، فاقتتلوا قتالا شديدًا، وأنكى أبو عبيد في الفرس: وضرب أبو عبيد مشفر الفيل، فبرك عليه الفيل فقتله. واستشهد من المسلمين يومئذ ألف وثمانمائة، ويقال أربعة آلاف، ما بين قتيل وغريق. انظر الاستيعاب: 671، وتاريخ الطبري 4: 67 - 70. وانظر الأثر رقم: 15814، 15815. وفي كثير من الكتب " أبو عبيدة " في هذا الخبر، وهو خطأ. وكان في المطبوعة هنا: " لو تحيز إلى لكنت له فئة "، غير ما في المخطوطة بلا أمانة ولا معرفة. (2) الأثر: 15813 - " قيس بن سعد المكي "، ثقة، مضى برقم: 2943، 9413، وكان في المخطوطة والمطبوعة: " قيس بن سعيد "، وهو خطأ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 439 سليمان التيمي، عن أبي عثمان قال: لما قتل أبو عبيد، جاء الخبر إلى عمر فقال: يا أيها الناس، أنا فئتكم. (1) 15815- . . . . قال: ابن المبارك، عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مسلم. * * * وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزمًا. * ذكر من قال ذلك: 15816- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: (ومن يولهم يومئذ دبره ... فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) . * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب عندي قولُ من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرفٍ القتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتالٍ منهزمًا بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه. وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا   (1) الأثر: 15814 - " أبو عثمان "، مجهول، روى عن أنس بن مالك، ومعقل بن يسار. روى عنه " سليمان التيمي "، قال ابن المديني: " لم يرو عنه غيره، وهو مجهول " مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 408. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 440 وغيره: (1) أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) . * * * وأما قوله: (فقد باء بغضب من الله) ، يقول: فقد رجع بغضب من الله (2) = (ومأواه جهنم) ، يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم (3) = "وبئس المصير"، يقول: وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير. (4) * * *   (1) انظر ما قاله في " النسخ "، في فهارس الموضوعات، وفي فهارس اللغة والنحو وغيرها. (2) انظر تفسير " باء " فيما سلف 10: 216، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " مأوى " فيما سلف 10: 481، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 9: 205، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 441 القول في تأويل قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش: فلم تقتلوا المشركين، أيها المؤمنون، أنتم، ولكن الله قتلهم. * * * وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين، إذ كان جل ثناؤه هو مسبِّب قتلهم، وعن أمره كان قتالُ المؤمنين إياهم. ففي ذلك أدلُّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صُنْعٌ به وَصَلوا إليها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 441 وكذلك قوله لنبيه عليه السلام: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، فأضاف الرميَّ إلى نبي الله، ثم نفاه عنه، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي، إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرميَّ به إلى الذين رُمُوا به من المشركين، والمسبِّب الرمية لرسوله. فيقال للمنكرين ما ذكرنا (1) قد علمتم إضافة الله رَمْيِ نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه، بعد وصفه نبيَّه به، وإضافته إليه، وذلك فعلٌ واحد، (2) كان من الله تسبيبه وتسديده، (3) ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذفُ والإرسال، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتسابُ بالقُوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15817- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (فلم تقتلوهم) ، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال هذا: "قتلت"، وهذا: "قتلت"= (وما رميت إذ رميت) ، قال لمحمد حين حَصَب الكفار. 15818 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 15819- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر عن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " للمسلمين ما ذكرنا "، وهو خطأ صرف، وظاهر أن كاتب النسخة التي نقل عنها ناسخ المخطوطة، قد وصل " راء " المنكرين بالياء والنون، ولم يضع شرطة الكاف كعادتهم، فقرأها خطأ، ونقلها خطأ. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " ذلك " بغير واو، والكلام لا يستقيم بغيرها. (3) في المطبوعة والمخطوطة: " بتسبيبه " وهو خطأ من الناسخ، صوابه ما أثبت بغير باء في أوله، كما يدل عليه السياق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 442 قتادة: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، قال: رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر. 15820- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما وقع منها شيء إلا في عين رجل. 15821 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة قال: لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا قال: هذه مصارعهم! ووَجد المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل عليه، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه قريش قد جاءت بجَلَبتها وفخرها، تحادُّك وتكذب رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني! ". فلما أقبلوا استقبلهم، فحثا في وجوههم، فهزمهم الله عز وجل. (1) 15822- حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر، سمعنا صوتًا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طَسْت، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. (2)   (1) الأثر: 15821 - " أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد العطار "، ثقة، مضى: 3832، 9656، 13518، 15719. وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 2: 268 في أثناء خبر طويل، قد مضى بعضه برقم: 15719، وهو من كتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان، رواه أبو جعفر مفرقًا في التاريخ، سأخرجه مجموعًا في تخريج الأثر رقم: 16083. وكان في المطبوعة هنا: " قد جاءت بخيلائها وفخرها "، وهو تصرف قبيح. وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ. و" الجلبة "، هو اختلاط الناس إذ تجمعوا، وصاح بعضهم ببعض يذمره ويستحثه، كالذي يكون في اجتماع الجيوش. (2) الأثر: 15822 - " أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي "، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 10260، 10521. و" يعقوب بن محمد الزهري "، مختلف فيه، وهو صدوق، لكن لا يبالي عمن حدث. مضى برقم: 2867، 8012، 15654، 15714. و" عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز الزهري "، الأعرج، يعرف بابن أبي ثابت. ضعيف، كان صاحب نسب، لم يكن من أصحاب الحديث. مضى برقم: 8012، 15756. و" موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهيب بن زمعة الأسدي القرشي "، ثقة، متكلم فيه، وقال أحمد: " لا يعجبني حديثه "، وقال أبو داود: " له مشايخ مجهولون ". مضى برقم: 9923، 15756. و" يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي القرشي "، روى عنه ابن أخيه " موسى بن يعقوب ". مترجم في الكبير 4 \ 2 \ 346، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 276، ولم يذكرا فيه جرحًا. و" أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة العدوي "، كان من علماء قريش. ثقة. مترجم في التهذيب، والكني البخاري: 13، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 341. وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف " عبد العزيز بن عمران الزهري "، وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 32، وقال: " غريب من هذا الوجه "، فقصر في بيان إسناده. بيد أن الهيثمي ذكره في مجمع الزائد 6: 84، وقال: " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناده حسن "، فلعله إسناد غير هذا، فإنه قد ضعف عبد العزيز بن عمران في هذا الباب مرارًا كثيرة. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 174، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 443 15823- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس، ومحمد بن كعب القرظي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه! "، فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، الآية، إلى: (إن الله سميع عليم) . 15824- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما رميت إذ رميت) ، الآية، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 444 15825- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعلي: "أعطني حصًا من الأرض"، فناوله حصى عليه تراب، فرمى به وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم رَدِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، (1) فذكر رميةَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) . 15826- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، قال: هذا يوم بدر، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، وقال: "شاهت الوجوه! "، وانهزموا، فذلك قول الله عز وجل: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) . 15827- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر فقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا! فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب! فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصابَ عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولُّوا مدبرين. 15728- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: قال الله عز وجل في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، أي: لم يكن ذلك برميتك، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك، وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله. (2) * * *   (1) " ردفه " (بفتح فكسر) : اتبعه ودهمه. (2) الأثر: 15828 - سيرة ابن هشام 2: 323، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15783. وكان في المطبوعة والمخطوطة، أغفل ذكر " وما رميت إذ رميت "، وأتى ببقية الآية. وكان في المخطوطة " حين هزمهم "، بغير ذكر لفظ الجلالة، فغيرها في المطبوعة فقال: " فهزمتهم ". وأثبت ما في سيرة ابن هشام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 445 وروي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال، وهو ما:- 15829- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: (وما رميت إذ رميت) ، قال: جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، فقال: "آلله محيي هذا، يا محمد، وهو رميم؟ "، وهو يفتُّ العظم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يحييه الله، ثم يميتك، ثم يدخلك النار! قال: فلما كان يوما أحد قال: والله لأقتلن محمدًا إذا رأيته! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 446 (1) * * *   (1) أخشى أن يكون في هذا الموضع من التفسير نقص، فإني وجدت ابن كثير (4: 32) قد ذكر في تفسير هذه الآية ما نسبه إلى ابن جرير، وهذا نصه بترتيبه وتعليقه: وههنا قولان آخران غريبان جدًّا: أحدهما: قال ابن جرير: حدثني محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثنا عبد الرحمن بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر، دعَا بقوس، فأتِىَ بقوسٍ طويلة، وقال: جيئوني بقوس غيرها. فجاؤوه بقوسٍ كَبْداء، فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق، وهو في فراشه، فأنزل الله " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ". وهذا غريب، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير، ولعله اشتبه عليه، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدرٍ لا مَحالة، وهذا مما لا يخفي على أئمة العلم، والله أعلم. والثاني: روى ابن جرير أيضًا، والحاكم في مستدركه، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيّب والزهري أنهما قالا: أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أُبَيَّ بن خلفٍ بالحربة في لأْمَته، فخدشه في تَرْقُوَته، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارًا. حتى كانت وفاتُه بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليمَ، موصولا بعذابِ البرزخ، المتصل بعذاب الآخرة. وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضًا جدًّا، ولعلهما أرادَا أن الآية تتناوله بعمومها، لا أنها نزلت فيه خاصة، كما تقدم، والله أعلم ". قلت: والخبر الأول منهما، رواه الواحدي في أسباب النزول: 174 من طريق " صفوان بن عمرو، عن عبد العزيز بن جبير "، وقوله: " عبد العزيز "، خطأ، صوابه ما في تفسير ابن كثير. ثم إن السيوطي في الدر المنثور 3: 175، خرج هذين الخبرين منسوبين إلى ابن جرير أيضًا، وزاد نسبته الأول منهما إلى ابن أبي حاتم. وذكر الثاني وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. ثم زاد السيوطي في الدر المنثور، وهذان الخبران أنقلهما أيضًا بنصهما منه: الأول: " أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيّب قال: لما كان يوم أُحُد، أخذ أبيُّ بن خلفٍ يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترض رجالٌ من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأخروا! استأخرُوا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبيّ بن خلف، وكسر ضِلْعًا من أضلاعه، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلا، فاحتملوه حين وَلَّوا قافلين، فطفقوا يقولون: لا بأس! فقال أبيّ حين قالوا ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم! ألم يقلْ: إنِّي أقتلك إن شاء الله؟ فانطلق به أصحابه يَنْعَشونه حتى مات ببعض الطريق، فدفنوه. قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله تعالى: " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى الآية". الثاني: " وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن الزهري في قوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى. قال: حيث رمَى أبيَّ بنَ خلف يوم أُحُدٍ بحربته، فهذا كله، يوشك أن يرجح سقوط شيء من أخبار أبي جعفر في هذا الموضع. إلا أن تكون هذه الأخبار ستأتي فيما بعد في غير هذا الموضع. أما فيما سلف، فإن خبر " أبي بن خلف " قد مضى في حديث السدى رقم: 7943 (ج 7: 255) والخبر الأول رواه الحاكم في المستدرك 2: 327، من طريق محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 447 وأما قوله: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا) ، فإنّ معناه: وكي ينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم، (1) ويغنّمهم ما معهم، ويكتبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) * * * وذلك "البلاء الحسن"، رمي الله هؤلاء المشركين، ويعني ب"البلاء الحسن"، النعمة الحسنة الجميلة، وهي ما وصفت وما في معناه. (3) 15830- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال في قوله: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا) ، أي ليعرِّف المؤمنين من نعمه عليهم، في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه، وليشكروا بذلك نعمته. (4) * * * وقوله: (إن الله سميع عليم) ، يعني: إن الله سميع، أيها المؤمنون، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومناشدته ربه، ومسألته إياه إهلاكَ عدوه وعدوكم، فقيل له: إنْ يَكُ إلا جّحْش! قال: أليسَ قال: أنا أقتلك؟ والله لو قالها لجميع الخلق لماتوا! "   (1) في المطبوعة: " ولينعم "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: " ويثبت لهم أجور أعمالهم "، وهو لا معنى له، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لخطأ في نقطها. (3) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف ص: 85، تعليق: 5، والمراجع هناك. (4) الأثر: 15830 - سيرة ابن هشام 2: 323، 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15828. وفي السيرة سقط من السياق قوله: " مع كثرة عددهم "، فيصحح هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 448 ولقِيلكم وقيل جميع خلقه= "عليم"، بذلك كله، وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده، وغير ذلك من الأشياء، محيط به، فاتقوه وأطيعوا أمرَه وأمر رسوله. (1) القول في تأويل قوله: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ذلكم) ، هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم، وإمكانهم من قتلهم وأسرهم= فعلنا الذي فعلنا= (وأنّ الله موهن كيد الكافرين) ، يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مُضْعِف (2) = "كيد الكافرين"، يعنى: مكرهم، (3) حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق، أو يُهْلَكوا. (4) * * * وفى فتح "أن" من الوجوه ما في قوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) ، [سورة الأنفال: 14] ، وقد بينته هنالك. (5) * * * وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (موهن) . فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين: "مُوَهِّنُ" بالتشديد، من: "وهَّنت الشيء"، ضعَّفته. * * *   (1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) . (2) انظر تفسير " الوهن " فيما سلف 7: 234، 269 \ 9: 170. (3) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص: 322، تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) في المخطوطة: " ويهلكوا "، وصواب السياق ما أثبت. (5) انظر ما سلف ص: 434. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 449 وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (مُوهِنُ) ، من أوهنته فأنا موهنه"، بمعنى: أضعفته. * * * قال أبو جعفر: والتشديد في ذلك أعجبُ إليّ، لأن الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عقدًا بعد عَقْدٍ، وشيئًا بعد شيء، وإن كان الآخرُ وجهًا صحيحًا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم، وأظلم الفئتين، وتستنصروه عليه، فقد جاءكم حكم الله، ونصرُه المظلوم على الظالم، والمحق على المبطل. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15831- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.   (1) انظر تفسير " الاستفتاح " و " الفتح " فيما سلف 2: 254 \ 10: 405، 406 \ 12: 563. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 450 15832- . . . . قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. 15833- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يعني بذلك المشركين: إن تستنصروا فقد جاءكم المدد. 15834- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا) ، قال: إن تستقضوا القضاء= وإنه كان يقول: (وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا) ، قلت: للمشركين؟ قال: لا نعلمه إلا ذلك (1) 15835- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: كفار قريش في قولهم: "ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه"! ففُتح بينهم يوم بدر. 15836 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 15837- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: استفتح أبو جهل فقال: اللهم = يعني محمدًا ونفسه = "أيُّنا كان أفجرَ لك، اللهم وأقطعَ للرحم، فأحِنْه اليوم"! (2) قال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) . 15838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: استفتح   (1) في المطبوعة والمخطوطة، " لا نعلم "، والجيد ما أثبت. (2) يقال: " أحانه الله "، أهلكه. و " الحين " (بفتح فسكون) : الهلاك، أو هو أجل الهلاك على التحقيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 451 أبو جهل بن هشام فقال: "اللهم أيُّنا كان أفجر لك وأقطعَ للرحم، فأحنه اليوم! " يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام ونفسه. قال الله عز وجل: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، فضربه ابنا عفراء: عوف ومعوِّذ، وأجهزَ عليه ابن مسعود. 15839- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنى عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العدوي، حليف بني زهرة، أن المستفتح يومئذ أبو جهل، وأنه قال حين التقى القوم: "أينا أقطعُ للرحم، وآتانا بما لا يُعرف، فأحِنْه الغداة"! فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك: (إن إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية. (1) 15840- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية، يقول: قد كانت بدرٌ قضاءً وعِبْرةً لمن اعتبر.   (1) الأثر: 15839 - " عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدوي "، مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ورأسه زمن الفتح، ودعا له. وقال أبو حاتم: " رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير "، وقال البخاري في التاريخ: " عبد الله بن ثعلية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل، إلا أن يكون عن أبيه، وهو أشبه ". مترجم في الإصابة، والتهذيب، وأسد الغابة، والاستيعاب: 341، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 19. وهذا الخبر سيأتي من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، برقم: 15846، 15848، ومن طريق صالح بن كيسان، عن الزهري، رقم: 15847. ورواه أحمد في مسنده 5: 431، 4 من طريق يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق، عن الزهري، وص: 431، 432، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن الزهري. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 328 من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري = ثم من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وهذا الإسناد الثاني الذي ذكره الحاكم، لم أجده في المسند، و " إبراهيم بن سعد " يروي عن " صالح بن كيسان "، وعن " الزهري "، عن " ابن إسحاق ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 452 15841- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، أخذوا بأستار الكعبة واستنصروا الله وقالوا: "اللهم انصر أعز الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين"! فقال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يقول: نصرت ما قلتم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. 15842- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين) ، وذلك حين خرج المشركون ينظرون عِيرَهم، وإن أهلَ العير، أبا سفيان وأصحابه، أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم، فقال أبو جهل: "أينا كان خيرًا عندك فانصره"! وهو قوله: (إن تستفتحوا) ، يقول: تستنصروا. 15843- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: إن تستفتحوا العذاب، فعُذِّبوا يوم بدر. قال: وكان استفتاحهم بمكة، قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، [سورة الأنفال: 32] . قال: فجاءهم العذاب يوم بدر. وأخبر عن يوم أحد: (وإن تعودوا نعد ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) . 15844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: "اللهم انصر أهدى الفئتين، وخير الفئتين وأفضل" فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) . 15845 - . . . . قال، حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري: أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال: "اللهم أينا كان أفجر وأقطع لرحمه، فأحِنْه اليوم"! فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) . 15846 - . . . . قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 453 عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن أبا جهل، قال يوم بدر: اللهمّ أقطعنا لرحمه، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! ". وكان ذلك استفتاحًا منه، فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية. (1) 15847 - . . . . قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل، قال: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! "، فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) . (2) 15848 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، حليف بني زهرة قال: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! "، فكان هو المستفتح على نفسه= (3) قال ابن إسحاق: فقال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، لقول أبي جهل: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه للغداة! " قال: "الاستفتاح"، الإنصاف في الدعاء. (4) 15849- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان وغيره: قال أبو جهل يوم بدر: "اللهم انصر أحب الدينين إليك، دينَنا العتيق، أم دينهم الحديث"! فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين) . * * *   (1) الأثر: 15846 - انظر تخريج الأثر رقم: 15839، والخبرين التاليين. (2) الأثر: 15847 - انظر تخريج الآثار السالفة، والذي سيليه. (3) قول: " على نفسه "، ليست في سيرة ابن هشام 2: 280. وانظر تخريج الخبر، بعد. (4) الأثر: 15848 - هما خبران، أولهما إلى قوله: " المستفتح على نفسه "، رواه ابن هشام في سيرته 2: 280، وسائر الخبر، رواه في سيرته 2: 324، وهو تابع الأثر: 15830. وانظر تخريج الأثر رقم: 15839. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 454 وأما قوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم) ، فإنه يقول: "وإن تنتهوا"، يا معشر قريش، وجماعة الكفار، عن الكفر بالله ورسوله، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به= "فهو خير لكم"، في دنياكم وآخرتكم (1) = (وإن تعودوا نعد) ، يقول: وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال اتباعه المؤمنين= "نعد"، أي: بمثل الواقعة التي أوقعت بكم يوم بدر. * * * وقوله: (ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت) ، يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسَبْيكم وهزمكم (2) " فئتكم شيئًا ولو كثرت"، يعني: جندهم وجماعتهم من المشركين، (3) كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئًا= (وأن الله مع المؤمنين) ، يقول جل ذكره: وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم، ينصرهم عليهم، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين. (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15850- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم) ، قال: يقول لقريش= "وإن تعودوا نعد"، لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر= (ولئن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) ، أي: وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئًا. وإني مع المؤمنين، أنصرهم على من خالفهم. (5) * * *   (1) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف 20: 566، تعليق: 1 والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 7: 133. (3) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص: 435، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص: 428، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) الأثر: 15850 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15848، في القسم الثاني منه. وكان في المطبوعة و " إن الله مع المؤمنين ينصرهم "، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها " أنصرهم "، وأثبت نص ما في سيرة ابن هشام، والذي في المخطوطة بعضه سهو من الناسخ وعجلة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 455 وقد قيل: إن معنى قوله: (وإن تعودوا نعد) ، وإن تعودوا للاستفتاح، نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول لا معنى له، لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه السلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهارَ دينه وإعلاءَ كلمته، من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه، فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك: "إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد"، لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ، [سورة الحج: 39] ، استفتح المشركون أو لم يستفتحوا. * ذكر من قال ذلك: 15851- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن تعودوا نعد) ، إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم = (ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين) ، محمد وأصحابه. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وإن الله مع المؤمنين) . ففتحها عامة قرأة أهل المدينة بمعنى: ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله لمع المؤمنين= (1) فعطف ب"أن" على موضع "ولو كثرت"، كأنه قال: لكثرتها، ولأن الله مع المؤمنين. ويكون موضع "أن" حينئذ نصبًا على هذا القول. (2) * * * وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت، على: (وأنّ الله موهن كيد الكافرين) ، (وأن الله مع المؤمنين) ، عطفًا بالأخرى على الأولى. * * *   (1) في المطبوعة: " مع المؤمنين " بغير لام، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك منه. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 407. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 456 وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: "وَإِنَّ اللهَ"، بكسر الألف على الابتداء، واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله: "وإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ". * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من كسر "إن" للابتداء، لتقضِّي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله: (وأن الله مع المؤمنين) . (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (أطيعوا الله ورسوله) ، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه= (ولا تولوا عنه) ، يقول: ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفين أمره ونهيه (2) = "وأنتم تسمعون" أمرَه إياكم ونهيه، وأنتم به مؤمنون، كما:- 15852- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا وأنتم تسمعون) ، أي: لا تخالفوا أمره، وأنتم تسمعون لقوله، وتزعمون أنكم منه. (3) * * *   (1) في المطبوعة: " عما يقضي قوله "، والصواب ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فارس اللغة (ولي) . (3) الأثر: 15852 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15850. وكان في المطبوعة هنا " وتزعمون أنكم مؤمنون "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 457 القول في تأويل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا، أيها المؤمنون، في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا: "قد سمعنا"، بآذاننا= "وهم لا يسمعون"، يقول: وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم ولا ينتفعون به، لإعراضهم عنه، وتركهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبروه. فجعلهم الله، إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بأذانهم، (1) بمنزلة من لم يسمعها. يقول جل ثناؤه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا أنتم في الإعراض عن أمر رسول الله، وترك الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم، كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله بآذانهم، ويقولون: "قد سمعنا"، وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون كمن لا يسمَعُها. (2) * * * وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:- 15853- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ، أي: كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة، ويُسِرُّون المعصية. (3) 15854- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: " فجعلهم الله لما لم ينتفعوا "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: " وهم لاستعمالها والاتعاظ بها "، والصواب ما في المطبوعة، وإنما هو إسقاط من الناسخ في كتابته. وكان في المطبوعة: " كمن لم يسمعها "، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 15853 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15852. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 458 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وهم لا يسمعون) ، قال: عاصون. 15855- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * قال أبو جعفر: وللذي قال ابن إسحاق وجه، ولكن قوله: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ، في سياق قَصَص المشركين، ويتلوه الخبر عنهم بذمّهم، وهو قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ، فلأن يكون ما بينهما خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله، (1) الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه، (2) فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكُصون عنه إن نطقوا به، (3) الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، فيستعملوا بهما أبدانهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير " دابة " فيما سلف 3: 275 \ 11: 344. (2) انظر تفسير " الصمم " 1: 328 - 331 \ 3: 315 \ 10: 478 \ 11: 350. (3) انظر تفسير " البكم " فيما سلف 1: 328 - 331 \3: 315 \ 11: 350. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 459 15856- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن شر الدواب عند الله) ، قال: "الدواب"، الخلق. 15857- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عكرمة قال: وكانوا يقولون: "إنا صم بكم عما يدعو إليه محمد، لا نسمعه منه، ولا نجيبه به بتصديق! " فقتلوا جميعًا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء. 15858- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الصم البكم الذين لا يعقلون"، قال: الذين لا يتّبعون الحق. 15859- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) ، وليس بالأصم في الدنيا ولا بالأبكم، ولكن صمّ القلوب وبُكمها وعُميها! وقرأ: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: 46] . * * * واختلف فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: عُني بها نفرٌ من المشركين. * ذكر من قال ذلك: 15860- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس: "الصم البكم الذين لا يعقلون"، نفرٌ من بني عبد الدار، لا يتبعون الحق. 15861 - . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الصم البكم الذين لا ينقلون) ، قال: لا يتبعون الحق= قال، قال ابن عباس: هم نَفرٌ من بني عبد الدار. 15861 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 460 ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. * * * وقال آخرون: عُني بها المنافقون. * ذكر من قال ذلك: 15862- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) ، [أي المنافقون الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم، بُكمٌ عن الخير، صم عن الحق، لا يعقلون] ، لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتِّباعة. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال بقول ابن عباس: وأنه عُني بهذه الآية مشركو قريش، لأنها في سياق الخبر عنهم. * * *   (1) الأثر: 15862 -سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15853. والذي بين القوسين سقط من ناسخ المخطوطة بلا شك، لأن إسقاطه يجعل الخبر غير مطابق للترجمة، لأنه عندئذ لا ذكر فيه للمنافقين. هذا فضلا عن أن أبا جعفر ينقل تفسير ابن إسحاق في سيرته بنصه في كل ما مضى، فلا معنى لاختصاره هنا اختصارًا مخلا، فثبت أن ذلك من الناسخ فزدته من السيرة. أما الجملة التي أثبتها الناسخ، وهي الخارجة عن القوسين. فكانت في المخطوطة: " ... من النعمة والساعة "، الأولى خطأ، وصوابها ما أثبت. فجاء الناشر، ولم يفهم معنى الكلام، فجعله هكذا: " ... من النعمة والسعة "، فصار خلطًا لا خير فيه، ولا معنى له. ورددته إلى الصواب والحمد لله. و" التباعة "، (بكسر التاء) ، مثل " التبعة " (بفتح التاء وكسر الباء) : ما فيه إثم يتبع به صاحبه. يقال: " ما عليه من الله في هذا تبعة ولا تباعة "، أي: مطالبة يطلب بإثمها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 461 القول في تأويل قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفي معناها. فقال بعضهم: عني بها المشركون. وقال: معناه: أنهم لو رزقهم الله الفهم لما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يؤمنوا به، لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون. * ذكر من قال ذلك: 15863- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو اسمعهم) ، لقالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) ، [سورة يونس: 15] ، ولقالوا: (لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) [سورة الأعراف: 203] ، ولو جاءهم بقرآن غيره= (لتولوا وهم معرضون) . 15864- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) ، قال: لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما انتفعوا بذلك، ولتولوا وهم معرضون. 15865 - وحدثني به مرة أخرى فقال: "لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم"، بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به. * * * وقال آخرون: بل عني بها المنافقون. قالوا: ومعناه ما:- 15866- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم) ، لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم، (1) ولكن   (1) في المطبوعة: " الذي قالوه "، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا لما في السيرة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 462 القلوب خالفت ذلك منهم، ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون، (1) ما وفَوا لكم بشيء مما خرجوا عليه. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد، لما قد ذكرنا قبل من العلة، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين. (3) * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا، لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره، حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا، لتولوا عن الله وعن رسوله، (4) وهم معرضون عن الإيمان بما دلَّهم على صحته مواعظُ الله وعبره وحججه، (5) معاندون للحق بعد العلم به. (6) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) . فقال بعضهم: معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان.   (1) كانت هذه الجملة الآتية في المخطوطة والمطبوعة هكذا: " فأوفوا لكم بشر مما خرجوا عليه "، وهو لا معنى له. وصوابها ما أثبت من سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 15866 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15862. (3) انظر ص: 461. (4) انظر تفسير " التولي " فيما سلف 12: 571، تعليق: 1، والمراجع هناك. (5) في المطبوعة: " ... دلهم على حقيقة "، وفي المخطوطة: " ... دلهم على حجته "، وهذا صواب قراءتها. (6) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص: 332 تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 463 * ذكر من قال ذلك: 15867- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: أمّا "ما يحييكم"، (1) فهو الإسلام، أحياهم بعد موتهم، بعد كفرهم. * * * وقال آخرون: للحق. * ذكر من قال ذلك: 15868- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد في قول الله: (لما يحييكم) ، قال: الحق. 15869 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 15870 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: الحق. 15871 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: للحق. * * * وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن. * ذكر من قال ذلك: 15872- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " أما يحييكم "، بإسقاط "ما " والجيد إثباتها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 464 قوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. (1) * * * وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو. * ذكر من قال ذلك: 15873- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، أي: للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلا فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا، فبقاء الذكر الجميل، (3) وذلك له فيه حياة. وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها. (4) * * * وأما قول من قال: معناه الإسلام، فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، فلا وجه لأن يقال للمؤمن: استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان. (5) * * *   (1) في المطبوعة: " الحياة والعفة "، وهي في المخطوطة كما أثبتها غير منقوطة " الثاء "، ثم زاد ناشرها أيضًا فأسقط من الكلام " والنجاة "، وهذا من أسوأ العبث وأقبحه. (2) الأثر: 15873 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15866. (3) في المطبوعة والمخطوطة: " فيقال الذكر الجميل "، وهو لا معنى له. صوابه ما أثبت. (4) انظر تفسير " الاستجابة " فيما سلف ص: 409، تعليق 1، والمراجع هناك. (5) في المطبوعة: " إذا دعاك "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 465 وبَعْدُ، ففيما:- 15874- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيٍّ وهو يصلي، فدعاه: أيْ أُبَيّّ! فالتفت إليه أبيّ ولم يجبه. ثم إن أبيًّا خفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك، أي رسول الله! قال: وعليك، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي! قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"؟ قال: بلى، يا رسول الله! لا أعود. (1)   (1) الأثر:: 15874 - سيأتي من طريق أخرى في الذي يليه. " أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 12861. و" يزيد بن زريع العيشي "، ثقة حافظ مضى مرارًا. برقم: 1769، 2533، 5429، 5438، غيرها. و" روح بن القاسم التميمي الطبري "، ثقة، مضى برقم 6613. و" العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة "، تابعي ثقة، مضى برقم: 221، 14210. وأبوه: " عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة "، تابعي ثقة. مضى برقم: 14210. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 2: 412، 413، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم، عن العلاء بن عبد الرحمن. عن أبيه، بنحوه، مطولا. ورواه الترمذي في " فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل الفاتحة "، من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن العلاء، بنحوه مطولا، وقال: " هذا حديث حسن صحيح". وفي الباب عن أنس بن مالك ". وخرجه ابن كثير في تفسيره 1: 22، 23. ثم انظر حديث البخاري (الفتح 8: 119، 231) ، وهو حديث أبي سعيد بن المعلى، بنحو هذه القصة عن أبي بن كعب. وقد فصل الحافظ ابن حجر هناك الكلام فيه، وخرج حديث أبي بن كعب. وانظر أيضًا الموطأ: 83، خبر مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز، أخبره: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ... " بغير هذا السياق، وما قاله فيه الحافظ ابن حجر، وابن كثير في تفسيره، حيث أشرنا إلى موضعه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 466 15875 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو قائم يصلي، فصرخ به [فلم يجبه، ثم جاء] ، (1) فقال: يا أبيّ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ؟ قال أبيّ: لا جَرَم يا رسول الله، لا تدعوني إلا أجبتُ وإن كنت أصلي! (2) * * * =ما يُبِين عن أن المعنيَّ بالآية، هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم، لأن أبَيًّا لا شك أنه كان مسلمًا في الوقت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين. * * * القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكفر. * ذكر من قال ذلك:   (1) هذا الذي بين القوسين، ليس في المخطوطة، زاده ناشر المطبوعة، لا أدري من أين؟ وفي الخبر سقط لا شك فيه، ولكني لم أجد الخبر بنصه هذا. (2) الأثر: 15875 - إسناد آخر للخبر السالف. وقد خرجته هناك. " خالد بن مخلد القطواني "، ثقة من شيوخ البخاري، وأخرج له مسلم " مضى مرارًا، برقم: 2206، 4577، 8166، 8397، وغيرها. و" محمد بن جعفر بن أبي كثير الزرقي "، ثقة معروف، مضى برقم: 2206، 8397. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 467 15876- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: بين الكافر أن يؤمن، وبين المؤمن أن يكفر. (1) 15877 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد= قالا حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، بنحوه. 15878 - حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، مثله. 15879 - حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن المنهال، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان. 15880- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه) ، يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله. 15881 - . . . . قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان. 15882- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك في قوله: (يحول بين المرء   (1) الأثر: 15876 - " عبد الله بن عبد الله الرازي "، " أبو جعفر الرازي "، قاضي الري، ثقة، لا بأس. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 92. وهو غير " أبي جعفر الرازي التميمي "، " عيسى بن ماهان ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 468 وقلبه) ، قال: يحول بين الكافر وطاعته، وبين المؤمن ومعصيته. 15883 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبى روق، عن الضحاك بن مزاحم، بنحوه. 15884 - . . . . قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: يحول بين المرء وبين أن يكفر، (1) وبين الكافر وبين أن يؤمن. 15885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك بن مزاحم: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين الكافر وبين طاعة الله، وبين المؤمن ومعصية الله. 15886 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا بن أبي رواد، عن الضحاك، نحوه. 15887 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر نحوه. 15888 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن ومعصيته. 15889 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر، ويحول بين الكافر وبين الإيمان. 15890 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، ويحول بين المؤمن وبين معصيته.   (1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " يحول بين المرء "، ولو ظننت أنها: " يحول بين المؤمن "، لكان في الذي سلف ما يرجحه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 469 15891- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان. 15892 - . . . . قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي رواد، عن الضحاك: (يحول بين المرء وقلبه) ، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته. 15893 - . . . . قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه) ، يحول بين المؤمن والمعاصي، وبين الكافر والإيمان. 15894- . . . . قال، حدثنا عبيدة، عن إسماعيل، عن أبي صالح: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بينه وبين المعاصي. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يَعمل. * ذكر من قال ذلك: 15895- حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المرء وعقله. 15896 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، حتى تركه لا يعقل. 15897 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 15898 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 470 هو كقوله "حال"، حتى تركه لا يعقل. (1) 15899 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن حميد، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: إذا حال بينك وبين قلبك، كيف تعمل. 15900 - قال: حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين قلب الكافر، وأن يعمل خيرًا. * * * وقال آخرون: معناه: يحول بين المرء وقلبه، أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه. * ذكر من قال ذلك: 15901- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. * ذكر من قال ذلك: 15902- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: هي كقوله: (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، [سورة ق: 16] . * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك   (1) في المطبوعة: " قال: هي يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل "، غير ما في المخطوطة كل التغيير، لأنه لم يفهمه، وهذا من أسوأ التصرف وأقبحه وأبعده من الأمانة. وإنما أراد أن " يحول " مضارعًا، بمعنى " حال " ماضيًا، ولذلك قال " حتى تركه لا يعقل ". فانظر أي فساد أدخله الناشر بلا ورع! . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 471 خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يَعِي به شيئًا، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن "الحول بين الشيء والشيء"، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، (1) لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ. وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك قول من قال: "يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان"، وقول من قال: "يحول بينه وبين عقله"، وقول من قال: "يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه"، لأن الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما مُنِع إدراكه به على ما بيَّنتُ. غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله: (ولعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، الخبرَ عن أنه يحول بين العبد وقلبه، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئًا دون شيء، والكلام محتمل كل هذه المعاني، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له. * * * وأما قوله: (وأنه إليه تحشرون) ، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون، أيضًا، مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه: أنّ الله الذي يقدر على قلوبكم، وهو أملك بها منكم، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة، (2) فيوفّيكم جزاء أعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم، فيوجب ذلك سَخَطَه، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه. * * *   (1) انظر تفسير " المرء " فيما سلف 2: 446 \ 9: 430. (2) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص 23، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 472 القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: "اتقوا"، أيها المؤمنون= "فتنة"، يقول: اختبارًا من الله يختبركم، وبلاء يبتليكم (1) = "لا تصيبن"، هذه الفتنة التي حذرتكموها (2) "الذين ظلموا"، وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله، إما إجْرام أصابوها، وذنوب بينهم وبين الله ركبوها. يحذرهم جل ثناؤه أن يركبوا له معصية، أو يأتوا مأثمًا يستحقون بذلك منه عقوبة. (3) * * * وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين عُنوا بها. * ذكر من قال ذلك: 15903- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن الحسن في قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال: نزلت في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، رحمة الله عليهم. 15904- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال قتادة: قال الزبير بن العوام: لقد نزلت وما نرى أحدًا منا يقع بها. ثم خُلِّفْنا في إصابتنا خاصة. (4)   (1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 151، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف 2: 96، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الخصوص " فيما سلف 2: 471 \ 6: 517. (4) في المطبوعة: " ثم خصتنا في إصابتنا خاصة "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو فيها غير منقوط، وظننت أن صواب نقطها ما أثبت. يعني: أنهم بقوا بعد الذين مضوا، فإذا هي في إصابتهم خاصة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 473 15905 - حدثني المثنى قال، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة قال، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن: أن الزبير بن العوام قال: نزلت هذه الآية: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، وما نظننا أهلها، ونحن عُنِينا بها. (1) 15906 - . . . . قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن الصلت بن دينار، عن ابن صبهان قال: سمعت الزبير بن العوام يقول: قرأت هذه الآية زمانًا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) . (2) 15907- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصه) ، قال: هذه نزلت في أهل بدر خاصة، وأصابتهم يوم الجمل، فاقتتلوا. 15908- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) ، قال: أصحاب الجمل. 15909- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة) ، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمَّهم الله بالعذاب.   (1) الأثر: 15905 - " زيد بن عوف القطعي "، " أبو ربيعة ". ولقبه " فهد "، متكلم فيه، ضعيف، مضى برقم: 5623، 14215، 14218. (2) الأثر: 15906 - " الصلت بن دينار الأزدي " " أبو شعيب "، " المجنون ". متروك لا يحتج بحديثه. مترجم في التهذيب. والكبير 2 / 2 / 305، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 437. وميزان الاعتدال 1: 468. وابن صهبان" هو "عقبة بن صهبان الحداني الأزدي " تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 113/ 312، ولم أجدهم ذكروا له رواية عن الزبير بن العوام، ولكنه روى عن عثمان، وعياض بن حمار، وعبد الله بن مغفل، وأبي بكرة الثقفي وعائشة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 474 15910- . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال: هى أيضًا لكم. 15911- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة) ، قال: "الفتنة"، الضلالة. 15912- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم قال: قال عبد الله: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، إن الله يقول: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة الأنفال: 28] ، فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (1) 15913- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قال الزبير: لقد خُوِّفنا بها= يعني قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) . * * * واختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي البصرة: (اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا) ، قوله: "لا تصيبن"، ليس بجواب، ولكنه نهي بعد أمر، ولو كان جوابًا ما دخلت "النون". * * * وقال بعض نحويي الكوفة قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا) ، أمرهم ثم نهاهم. وفيه طرَفٌ من الجزاء، (2) وإن كان نهيًا. قال: ومثله قوله:   (1) الأثر: 15912 - انظر الأثر التالي رقم: 15934، ونصه: " فمن استعاذ منكم، فليستعذ ... "، وكأنه الصواب. (2) في المطبوعة: " ومنكم ظرف من الجزاء "، فجاء الناشر بكلام غث لا معنى له وفي المخطوطة: " ومنه طرف "، وصواب قراءته ما أثبت، مطابقًا لما في معاني القرآن للفراء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 475 (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ) ، [سورة النمل: 18] ، أمرهم ثم نهاهم، وفيه تأويل الجزاء. (1) وكأن معنى الكلام عنده: اتقوا فتنة، إن لم تتقوها أصابتكم. * * * وأما قوله: (واعلموا أن الله شديد العقاب) ، فإنه تحذير من الله، ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله: (واتقوا فتنة) ، يقول: اعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم شديد عقابه لمن افتُتن بظلم نفسه، وخالف أمره، فأثم به. (2) * * *   (1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 407. (2) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة (شدد) ، (عقب) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 476 القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) } قال أبو جعفر: وهذا تذكيرٌ من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناصحة. يقول: أطيعوا الله ورسوله، أيها المؤمنون، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم، ولا تخالفوا أمرَه وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدة، فإن الله يهوِّنه عليكم بطاعتكم إياه، ويعجِّل لكم منه ما تحبون، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليلٌ يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم، (1) وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم، (2) تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا   (1) انظر تفسير " القليل " فيما سلف 1: 329 \ 8: 439، 577 \ 9: 331. (2) انظر تفسير " المستضعف " فيما سلف 12: 542 \ 13: 76، 131. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 476 جميعكم (1) = (فآواكم) ، يقول: فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم (2) = (وأيدكم بنصره) ، يقول: وقواكم بنصره عليهم حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر (3) = (ورزقكم من الطيبات) ، يقول: وأطعمكم غنيمتهم حلالا طيبًا (4) = (لعلكم تشكرون) ، يقول: لكي تشكروه على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم. (5) * * * واختلف أهل التأويل في "الناس" الذين عنوا بقوله: (أن يتخطفكم الناس) . فقال بعضهم: كفار قريش. * ذكر من قال ذلك. 15914- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس) ، قال: يعني بمكة، مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة. 15915- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي= أو قتادة أو كلاهما (6) = (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون) أنها نزلت في يوم بدر، كانوا يومئذ يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم الله وأيدهم بنصره.   (1) انظر تفسير " الخطف " فيما سلف 1: 357. (2) وانظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص: 441، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 2: 319، 320 \ 5: 379 \ 6: 242 \ 11: 213، 214. (4) انظر تفسير " الرزق " فيما سلف من فهارس اللغة (رزق) . = و " الطيبات " فيما سلف منها (طيب) . (5) في المطبوعة: " لكي تشكروا "، وفي المخطوطة: " لكي تشكرون "، ورجحت ما أثبت. (6) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " أو كلاهما "، وهو جائز. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 477 15916- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، بنحوه. * * * وقال آخرون: بل عُني به غيرُ قريش. * ذكر من قال ذلك. 15917- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرني أبي قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله عز وجل: (تخافون أن يتخطفكم الناس) ، قال: فارس. 15918- . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول، وقرأ: (واذكروا إن أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس) ، و"الناس" إذ ذاك، فارس والروم. 15919- . . . . قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) ، قال: كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناس ذلا وأشقاهُ عيشًا، وأجوعَه بطونًا، (1) وأعراه جلودًا، وأبينَه ضلالا [مكعومين، على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه] . (2) من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يوكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرَّ منهم منزلا (3) حتى جاء الله بالإسلام،   (1) في المطبوعة: " بطونًا " وأثبت ما في المخطوطة. (2) هذه الجملة بين القوسين لا بد منها، فإن الترجمة أن فارس والروم هما المعنيان بهذا. وقد أثبتها من رواية الطبري قبل، كما سيأتي في التخريج. وإغفال ذكرها في الخبر، يوقع في اللبس والغموض. (3) قوله: " أشر منهم منزلا " لم ترد في الخبر الماضي، وكان مكانها: " والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا أصغر حظًا، وأدق فيها شأنًا، منهم ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 478 فمكن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس. فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعمٌ يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله تبارك وتعالى. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: "عُني بذلك مشركو قريش"، لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم، لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم، وأشدَّهم عليهم يومئذ، مع كثرة عددهم، وقلة عدد المسلمين. * * * وأما قوله: (فآواكم) ، فإنه يعني: آواكم المدينة، وكذلك قوله: (وأيدكم بنصره) ، بالأنصار. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15920- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فآواكم) ، قال: إلى الأنصار بالمدينة= (وأيدكم بنصره) ، وهؤلاء أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، أيدهم بنصره يوم بدر. 15921- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: (فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات) ، يعني بالمدينة.   (1) الأثر: 15919 - مضى هذا الخبر بإسناده مطولا فيما سلف رقم: 7591، ومنه اجتلبت الزيادة والتصحيح. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 479 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (لا تخونوا الله) ، وخيانتهم الله ورسوله، كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمانَ في الظاهر والنصيحةَ، وهو يستسرُّ الكفر والغش لهم في الباطن، يدلُّون المشركين على عورتهم، ويخبرونهم بما خفى عنهم من خبرهم. (1) * * * وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية، وفي السبب الذي نزلت فيه. فقال بعضهم: نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرِّ المسلمين. * ذكر من قال ذلك. 15922- حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا محمد بن المُحْرِم قال، لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال، حدثني جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا! " قال: فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: "إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذركم"! فأنزل الله عز وحل: (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) . (2)   (1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 9: 190. (2) الأثر: 15922 - " القاسم بن بشر بن معروف "، شيخ الطبري، مضى برقم 10509، 10531. و" شبابة بن سوار الفزاري "، ثقة، مضى مرارًا: 37، 6701، 10051، وغيرها. و" محمد المحرم "، هو: " محمد بن عمر المحرم "، وقد ترجم صاحب لسان الميزان لثلاثة: " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير المكي " (ج 5: 216) ، و " محمد بن عمر المحرم " ج (5: 320،) و " محمد المحرم " (ج 5: 439) ، وقال هم واحد، وأن " محمد بن عمر " صوابه: " محمد ابن عمير " منسوبًا إلى جده. و " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، مضى برقم: 7484. وترجم البخاري في الكبير 1 \ 1 \ 142 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي "، عن عطاء، وليس بذاك الثقة. ولم يذكر أنه " محمد المحرم ". ثم ترجم أيضًا في الكبير 1 \ 1 \ 248 " محمد المحرم "، عن عطاء والحسن، منكر الحديث. فكأنهما عنده رجلان. وترجم ابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 300 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، وضعفه، ولم يذكر أنه " محمد المحرم ". ثم ترجم " محمد بن عمر المحرم "، روى عن عطاء، روى عنه شبابة، وقال: " ضعيف الحديث، واهي الحديث "، ولم يذكر أنه الذي قبله. وترجم الذهبي في ميزان الاعتدال 3: 77 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، ويقال له: " محمد المحرم ". ثم ترجم في الميزان 3: 113 " محمد بن عمر المحرم " عن عطاء، وعنه شبابة، وضعفه، ولم يذكر أنه الذي قبله. وترجم عبد الغني بن سعيد في والمؤتلف والمختلف: 117، " محمد بن عبيد بن عمير المحرم "، عن: " عطاء بن أبي رباح ". والظاهر أن الذي قاله الحافظ في لسان الميزان، من أن هؤلاء جميعًا واحد، هو الصواب إن شاء الله، من أنهم جميعًا رجل واحد. وكان في المطبوعة: " محمد بن المحرم "، غير ما كان في المخطوطة بزيادة " بن " بينهما. وهذا خبر ضعيف جدًا، لضعف " محمد المحرم "، وهو متروك الحديث. وقد ذكر الخبر ابن كثير في تفسيره 4: 43، 44، ثم قال: " هذا الحديث غريب جدًا، وفي سنده وسياقه نظر ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 480 وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة، في الذي كان من أمره وأمر بنى قريظة. (1) * ذكر من قال ذلك. 15923 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، قوله: "لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، قال: نزلت في أبي لبابة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى حلقه: إنه الذَّبح= قال الزهري: فقال، أبو لبابة: لا والله، لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " في أبي لبابة، الذي كان من أمره "، والسياق يقتضي زيادة " في " كما أثبتها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 481 أو يتوب الله عليَّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًّا عليه، ثم تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة، قد تِيبَ عليك! قال: والله لا أحُلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلّني. فجاءه فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب، وأن أنخلع من مالي! قال: "يجزيك الثلث أن تصدَّق به. (1) 15924 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة يقول: نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" في أبي لبابة. (2) * * * وقال آخرون: بل نزلت في شأن عثمان رحمة الله عليه. * ذكر من قال ذلك. 15925 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي (3) قال، حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان رحمة الله عليه: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" الآية. * * *   (1) الأثر: 15923 - خبر أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، حين فعل ذلك يوم بنى قريظة، وعرف أنه خان الله ورسوله، في سيرة ابن هشام 3: 247، 248، وفي غيره. ثم إنه لما عرف ذلك ارتبط في سارية المسجد، وقال: " لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت ". ورواه الواحدي في أسباب النزول: 175، وروى بعضه مالك في الموطأ: 481. (2) الأثر: 15924 - " عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري ". تابعي ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب. (3) الأثر: 15925 - " يونس بن الحارث الطائفي الثقفي "، ضعيف، إلا أنه لا يتهم بالكذب، وقال ابن معين: " كنا نضعفه ضعفًا شديدًا ". وقال أحمد: " أحاديثه مضطربة ". مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 409، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 237، وضعفه. و" محمد بن عبيد الله بن سعيد "، " أبو عون الثقفي " ثقة، مضى برقم: 7595، 13965، 15659. وكان في المطبوعة: " محمد بن عبد الله بن عون الثقفي "، ومثله في المخطوطة. إلا أنه قد يقرأ " محمد بن عبيد الله "، والصواب ما أثبت، لأن يونس بن الحارث الطائفي، يروي عن أبي عون الثقفي، و " أبو عون " اسم جده " سعيد " لا " عون ". و" أبو عون الثقفي "، لا أظنه روى عن المغيرة بن شعبة، فالمغيرة مات سنة خمسين، ويقال قبلها. والمذكور في ترجمته أنه يروي عن " عفان بن المغيرة بن شعبة "، فهذا إسناد منقطع على الأرجح عندي. وقوله: " نزلت في قتل عثمان "، يعني أن حكمها يشمل فعل عثمان رضي الله عنه، فإنه قتل خيانة لله ولرسوله، وخيانة للأمانة، إذ نقض القتلة بيعة له في أعناقهم، رحم الله عثمان وغفر له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 482 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله، وخيانة أمانته= وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة= وجائز أن تكون نزلت في غيره، ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته. فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15926 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون. 15927 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط. عن السدي: "لا تخونوا الله والرسول" الآية، قال: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. * * * واختلفوا في تأويل قوله: "وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون". فقال بعضهم: لا تخونوا الله والرسول، فإن ذلك خيانة لأمانتكم وهلاك لها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 483 * ذكر من قال ذلك. 15928 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم. 15929 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون "، أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السرِّ إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم. (1) * * * قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل قوله: "وتخونوا أماناتكم"، في موضع نصب على الصرف (2) كما قال الشاعر: (3) لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (4) ويروى: "وتأتي مثله". (5) * * * وقال آخرون: معناه: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون. * ذكر من قال ذلك. 15930 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،   (1) الأثر: 15929 - سيرة ابن هشام 2: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15873. (2) في المطبوعة: " على الظرف "، وفي المخطوطة: " على الطرف "، والصواب ما أثبت. وانظر معنى " الصرف " فيما سلف من فهارس المصطلحات. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 408. (3) هو المتوكل الليثي، وينسب لغيره. (4) سلف البيت، وتخريجه 1: 569 \ 3: 552. (5) يعني على غير النصب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 484 عن علي، عن ابن عباس قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، يقول: "لا تخونوا": يعني لا تنقصُوها. * * * قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويلُ: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم. واختلف أهل التأويل في معنى: الأمانة، التي ذكرها الله في قوله: "وتخونوا أماناتكم". فقال بعضهم: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله. * ذكر من قال ذلك. 15931- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وتخونوا أماناتكم"، و"الأمانة": الأعمال التي أمِن الله عليها العباد= يعني: الفريضة. يقول: "لا تخونوا"، يعني: لا تنقصوها. 15932 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله"، يقول: بترك فرائضه= "والرسول"، يقول: بترك سننه، وارتكاب معصيته= قال: وقال مرة أخرى: "لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، والأمانة: الأعمال، ثم ذكر نحو حديث المثنى. * * * وقال آخرون: معنى "الأمانات"، ههنا، الدِّين. * ذكر من قال ذلك. 15933 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وتخونوا أماناتكم" دينكم= "وأنتم تعلمون"، قال: قد فعل ذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 485 المنافقون، وهم يعلمون أنهم كفار، يظهرون الإيمان. وقرأ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [سورة النساء: 142] . قال: هؤلاء المنافقون، أمنهم الله ورسوله على دينه، فخانوا، أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه، ولا رسوله من واجب طاعته عليكم، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه، لا تنقصوهما= "وتخونوا أماناتكم"، وتنقصوا أديانكم، وواجب أعمالكم، ولازمَها لكم= "وأنتم تعلمون"، أنها لازمة عليكم، وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم. * * * القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واعلموا، أيها المؤمنون، أنما أموالكم التي خوَّلكموها الله، وأولادكم التي وهبها الله لكم، اختبارٌ وبلاء، أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها، والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. (1) = "وأن الله عنده أجر عظيم"، يقول: واعلموا أن الله عنده خيرٌ وثواب عظيم، على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، في أمولكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا. وأطيعوا الله فيما كلفكم فيها، تنالوا به الجزيل من ثوابه في معادكم. (2) 15934 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المسعودي،   (1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 486، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 486 عن القاسم، عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، في قوله: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، قال: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (1) 15935 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، قال: "فتنة"، الاختبار، اختبارُهم. وقرأ: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [سورة الأنبياء: 35] . * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن تتقوا الله بطاعته وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسوله وخيانة أماناتكم= يجعل لكم فرقانًا"، يقول: يجعل لكم فصلا وفرْقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين، بنصره إياكم عليهم، وإعطائكم الظفر بهم = (2) "ويكفر عنكم سيئاتكم"، يقول: ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه = (3) "ويغفر لكم"، يقول: ويغطيها فيسترها عليكم، فلا يؤاخذكم بها= (4) "والله ذو الفضل العظيم"، يقول: والله الذي يفعل ذلك بكم، له   (1) الأثر: 15934 - انظر الأثر السالف رقم: 15912، والتعليق عليه. (2) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف 1: 98، 99 \ 3: 448 \ 6: 162، 163. (3) انظر تفسير " التكفير " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) . = وتفسير " السيئات " فيما سلف من فهارس (سوأ) . (4) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 487 الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله. وإنّ فعله جزاءٌ منه لعبده على طاعته إياه، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها، حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعدَه عليها. (1) * * * وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله: "يجعل لكم فرقانا". فقال بعضهم: مخرجًا. * * * وقال بعضهم: نجاة. * * * وقال بعضهم: فصلا. * * * = وكل ذلك متقارب المعنى، وإن اختلف العبارات عنها، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (2) * * * ذكر من قال: معناه: المخرج. 15936 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا" قال: مخرجًا. 15937- ......... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: مخرجًا. 15938- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد: "فرقانا"، مخرجًا. 15939- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "فرقانا"، قال: مخرجًا في الدنيا والآخرة.   (1) انظر تفسير " الفضل "، فيما سلف فهارس اللغة (فصل) . (2) يعني ما سلف 1: 98، 99. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 488 15940- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 15941- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فرقانًا"، قال: "الفرقان" المخرج. 15942 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "فرقانا"، يقول: مخرجًا. 15943- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد: "فرقانا"، مخرجًا. 15944- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا زائدة، عن منصور، عن مجاهد، مثله. 15945 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: "فرقانا"، قال: مخرجًا. 15946- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيدا يقول، سمعت الضحاك يقول: "فرقانًا"، مخرجًا. 15947- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. 15948 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد، عن زهير، عن جابر، عن عكرمة، قال: "الفرقان"، المخرج. * * * * ذكر من قال: معناه النجاة. 15949 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن جابر، عن عكرمة: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: نجاة. 15950 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 489 عن رجل، عن عكرمة ومجاهد، في قوله: "يجعل لكم فرقانًا"، قال عكرمة: المخرج= وقال مجاهد: النجاة. 15951- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يجعل لكم فرقانًا"، قال: نجاة. 15952 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يجعل لكم فرقانًا"، يقول: يجعل لكم نجاة. 15953 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "يجعل لكم فرقانًا"، أي: نجاة. * * * * ذكر من قال فصلا. 15954 - ...................................... "يا أيها الذين آمنوا إذ تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان. (1) 15955 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، أي: فصلا بين الحق والباطل، ليظهر به حقكم، ويخفي به باطل من خالفكم. (2)   (1) الأثر: 15954 - إسناد هذا الخبر ساقط في المخطوطة، جعل مكانه بياضًا نحوًا من سطر ونصف، فجاء ناشر المطبوعة ووصل الكلام دون أن يشير إلى ذلك البياض. وظاهر أنه خبر قائم برأسه، كما وضعته. (2) الأثر: 15955 - سيرة ابن هشام 2: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15929. وكان في المطبوعة: " يظهر " بغير لام، وهي في المخطوطة تقرأ هكذا وهكذا، وأثبت نص ما في السيرة، باللام في أولها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 490 و"الفرقان" في كلام العرب، مصدرٌ من قولهم: "فرقت بين الشيء والشيء أفرُق بينهما فَرْقًا وفُرْقانًا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مذكِّرَه نعمه عليه: واذكر، يا محمد، إذ يمكر بك الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك. (2) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ليثبتوك". فقال بعضهم: معناه ليقيِّدوك. * ذكر من قال ذلك: 15956- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، يعني: ليوثقوك. 15957 - ............ قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك"، ليوثِقوك. 15958 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، الآية، يقول: ليشدُّوك   (1) انظر ما سلف 1: 98، 99 \ 3: 448 \ 6: 162، 163. (2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12: 95، 97، 579 \ 13: 33 الجزء: 13 ¦ الصفحة: 491 وَثاقًا. وأرادوا بذلك نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بمكة. 15959 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ومقسم قالا قالوا: "أوثقوه بالوثاق". 15960 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ليثبتوك"، قال: الإثبات، هو الحبس والوَثَاق. * * * وقال آخرون: بل معناه الحبس. * ذكر من قال ذلك. 15961 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله: "ليثبتوك"، قال: يسجنوك= وقالها عبد الله بن كثير. 15962 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قالوا: "اسجنوه". * * * وقال آخرون: بل معناه: ليسحروك. * ذكر من قال ذلك. 15963 - حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي قال، حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن المطلب بن أبي وَداعة: أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي! قال: نعم الرب ربك، فاستوص به خيرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أستوصي به! بل هو يستوصي بي خيرًا"! فنزلت: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"، الآية. (1)   (1) الأثر: 15963 - " محمد بن إسماعيل البصري "، المعروف ب " الوساوسي " شيخ الطبري، لم أجد النص على أنه "الوساوسي "، والذي يروى عنه أبو جعفر في تاريخه، في مواضع " محمد بن إسماعيل الضراري "، وهو " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي "، صدوق. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 190، وذكر في التهذيب أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري، روى عنه، ولم يذكر أنه يعرف بالوساوسي. وترجم ابن أبي حاتم لأخيه: " أحمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي "، 1 \ 1 \ 41، فوجدت في لباب الأنساب 2: 273: " الوساوسي، عرف بها " أحمد بن إسماعيل الوساوسي البصري "، فدل هذا على ترجيح أن يكون " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار " يقال له " الوساوسي " أيضًا. و" عبد المجيد بن أبي رواد "، هو " عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي "، روى عن ابن جريح وغيره. وثقه أحمد وابن معين. وغيرهما. وضعفه أبو حاتم وابن سعد. ومنهم من قال هو ثبت في حديثه عن ابن جريج، ومنهم من قال: روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 64. " وعبيد بن عمير بن قتادة الليثي " ثقة، مضى برقم: 9180، 9181، 9189، 15621. وكان في المخطوطة والمطبوعة: " عبيد بن عمير بن المطلب بن أبي وداعة "، وهو خطأ لا شك فيه. و" المطلب بن أبي وداعة السهمي القرشي "، له صحبة - مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 7، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 385، ولم يذكر لعبيد بن عمير رواية عنه. وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره 4: 46، 47، وقال: " وذكر أبي طالب في هذا، غريب جدًا، بل منكر لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين، لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه ". فلو صح ما قاله ابن كثير، كان هذا الخبر من الأخبار التي دعتهم إلى أن يقولوا في " عبد المجيد ابن أبي رواد " أنه روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها. ومع ذلك فإن حجاجًا قد روى عنه مثل رواية عبد المجيد. انظر التعليق على الأثر التالي، فإني اذهب مذهبًا غير مذهب ابن كثير في الخبر. وانظر أيضًا رقم: 15976، فإن ابن جريج سيقول: إن هذه الآية مكية، لا مدنية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 492 15964 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: نعم! قال: فأخبره، قال: من أخبرك؟ قال: ربي! قال: نعم الرب ربك، استوص به خيرًا! قال: "أنا أستوصي به، أو هو يستوصي بي؟ (1)   (1) الأثر: 15964 - انظر التعليق على الأثر السالف. سلف ما قاله ابن كثير في نقد هذا الخبر. والذي دفعه أن يقول ما قال، من انه كان ليلة الهجرة، ما رواه ابن جرير في الأثر الذي يليه، والذي ترجم له بقوله: " وكأن معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه، كما حدثني ... " وساق خبر ائتمارهم به ليلة الهجرة. ولكن جائز أن يكون الخبران الأولان، في شأن آخر، وليلة أخرى، بل أكاد أقطع أن الخبر الذي رواه ابن جريج، لا علاقة له بأمر الهجرة، وأن ابن كثير تابع للطبري فيما ظنه ظنًا وذلك أن ابن إسحاق وغيره، رووا أن أشراف قريش اجتمعوا يوما في الحجر، فذكروا رسول الله، وزعموا أنهم صبروا منه على أمر عظيم. فبينا هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فغمزوه ببعض القول. فعرف الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم. فلما مر بهم الثانية، غمزوه بمثلها، ثم مر الثالثة، ففعلوا فعلتهم، فوقف ثم قال: " أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح ". فاستكانوا ورفأوه بأحسن القول رهبة ورغبة. فلما كان الغد، اجتمعوا في الحجر فقال بعضهم لبعض: " ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ". فبينا هم كذلك، طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: " أنت الذي تقول كذا وكذا؟ "، لما كان من عيب آلهتهم، فيقول: " نعم، أنا الذي أقول ذلك "، فأخذ بعضهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله "! (سيرة ابن هشام 1: 309، 310) ، وانظر الخبر التالي رقم: 15974، والتعليق عليه. وكان هذا قبل الهجرة بزمان طويل، في حياة أبي طالب. فكأن هذا الخبر، هو الذي قال عبيد بن عمير في روايته عن المطلب بن أبي وداعة أنه ائتمار قومه به. فإذا صح ذلك، لم يكن لما قال ابن كثير وجه، ولصح هذا الخبر لصحة إسناده. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 493 وكأنّ معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه، كما:- 15965 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس= قال وحدثني الكلبي، عن زاذان مولى أم هانئ، عن ابن عباس: أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، (1) فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأيٌ ونصحٌ. (2) قالوا: أجل، ادخل! فدخل معهم، فقال: انظروا إلى شأن هذا الرجل، (3) والله   (1) في المخطوطة: " في صورة جليل "، وفوق " جليل " حرف (ط) دليلا على الخطأ، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا لما في سيرة ابن هشام. (2) " لن يعدمكم "، أي: لا يعدوكم ويخطئكم مني رأي ونصح. (3) في المطبوعة: " في شأن "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 494 ليوشكن أن يُواثبكم في أموركم بأمره. (1) قال: فقال قائل: احبسوه في وَثاق، ثم تربصوا به ريبَ المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم! قال: فصرخ عدوُّ الله الشيخ النجدي فقال: والله، ما هذا لكم برأي! (2) والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم! قالوا: فانظروا في غير هذا. قال: فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذَ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم، ثم استعرَض العرب، لتجتمعن عليكم، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم! قالوا: صدق والله! فانظروا رأيًا غير هذا! قال: فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلامًا وَسيطا شابًّا نَهْدًا، (3) ثم يعطى كل غلام منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، (4) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القولُ ما قال الفتى، لا أرى غيره! قال: فتفرقوا على ذلك وهم مُجْمعون له، قال: فأتى جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة، وأذِن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال"، يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، وأنزل في قولهم: "تربصوا به ريبَ المنون" حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء": أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، [سورة الطور: 30] . وكان يسمى ذلك اليوم: "يوم الزحمة" للذي اجتمعوا عليه من الرأي. (5) 15966 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى (6) قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ومقسم، في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك" قالا تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبع فأوثقوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل اخرجوه. فلما أصبحوا رأوا عليًّا رحمة الله عليه، فردَّ الله مكرهم. 15967 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عيد الرزاق قال، أخبرني أبي، عن عكرمة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار، أمر عليَّ بن أبي طالب، فنام في مضجعه، فبات المشركون يحرسونه، فإذا رأوه نائمًا حسبوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم فتركوه. فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هم بعليّ، فقالوا: أين صاحبك؟ قال:   (1) في المطبوعة: " أن يواتيكم في أموركم "، وهو لا معنى له، وأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) في المطبوعة: " رأي " بغير باء، والصواب من المخطوطة. (3) " الوسيط ": حسيبًا في قومه، من أكرمهم حسبًا ونسبًا ومجدًا. وكان في المطبوعة " وسطا ً "، والصواب ما في المخطوطة. و " غلام نهد ": كريم، ينهض إلى معالي الأمور. واصل " النهد ": المرتفع. (4) " العقل "، الدية. (5) الأثر: 15965 - سيرة ابن هشام 2: 124 - 128، وإسناد هناك " قال ابن إسحاق، فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج، وغيره ممن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "، ثم ساق الخبر بغير هذا اللفظ. ومما اعترض به على هذا الخبر أن آية " سورة الطور "، آية مكية، نزلت قبل الهجرة بزمان، وسياق ابن إسحاق للآية بعد الخبر، يوهم أنها نزلت ليلة الهجرة، أو بعد الهجرة، وهذا لا يكاد يصح. (6) سقط من المطبوعة: " محمد " وكتب " بن عبد الأعلى "، وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 495 لا أدري! قال: فركبوا الصعب والذَّلول في طلبه. (1) 15968 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر قال، أخبرني عثمان الجزريّ: أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره، عن ابن عباس في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق= يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات على رحمه الله على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، (2) وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا رحمة الله عليه، ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! فاقتصُّوا أثره، فلما بلغوا الجبل ومرُّوا بالغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على بابه! فمكث فيه ثلاثا. (3)   (1) " الصعب " من الإبل، هو الذي لم يركب قط، لأنه لا ينقاد لراكبه، ونقيضه " الذلول "، وهو السهل المنقاد. مثل لركوب كل مركب في طلب ما يريده المرء، سهل المركب أو صعب. (2) في المخطوطة، سقط من الناسخ " الليلة "، وزادتها المطبوعة. (3) الأثر: 15968 - " عثمان الجزري "، يقال له: " عثمان المشاهد ". روى عن مقسم، روى عنه معمر، والنعمان بن راشد. قال أبو حاتم: " لا أعلم روى عنه غير معمر، والنعمان ". وسئل عنه أحمد فقال: " روى أحاديث مناكير، زعموا أنه ذهب كتابه ". مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 174. وكان في المطبوعة: " عثمان الجريري "، والمخطوطة، كما أثبتها، غير أنه غير منقوط. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: 3251، وقال أخي: " في إسناده نظر، من أجل عثمان الجزري، كالإسناد 2562 "، وقد استظهر هناك أن " عثمان الجزري " هو " عثمان بن ساج "، ولكن ما قاله ابن أبي حاتم، يرجح أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن ساج ". وقد وجدت بعد في مجمع الزوائد 7: 27، هذا الخبر، بنحوه ثم قال: " رواه أحمد والطبراني، وفيه " عثمان بن عمرو الجزري "، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح ". ولا أزال أشك في أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن عمرو بن ساج " الجزء: 13 ¦ الصفحة: 497 15969 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، قال: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلمت الأنصار، وفَرِقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأ لجأ إليه. (1) فجاء إبليس في صورة رجل من أهل نجد، فدخل معهم في دار الندوة، فلما أنكروه قالوا: من أنت؟ فوالله ما كل قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا! قال: أنا رجل من أهل نجد، أسمع من حديثكم وأشير عليكم! فاستحيَوْا، فخلَّوا عنه. فقال بعضهم: خذوا محمدًا إذا اضطجع على فراشه، (2) فاجعلوه في بيت نتربص به ريبَ المنون = و"الريب"، هو الموت، و"المنون"، هو الدهر = قال إبليس: بئسما قلت! تجعلونه في بيت، فيأتي أصحابه فيخرجونه، فيكون بينكم قتال! قالوا: صدق الشيخ! قال: أخرجوه من قريتكم! قال إبليس: بئسما قلت! تخرجونه من قريتكم، وقد أفسد سفهاءكم، فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءهم، فيأتيكم بالخيل والرجال! قالوا: صدق الشيخ! قال أبو جهل= وكان أولاهم بطاعة إبليس=: بل نعمد إلى كل بطن من بطون قريش، فنخرج منهم رجلا فنعطيهم السلاح، فيشدُّون على محمد جميعًا فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشًا، فليس لهم إلا الدية! قال إبليس: صدق، وهذا الفتى هو أجودكم رأيًا! فقاموا على ذلك. وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فنام على الفراش، وجعلوا عليه العيون. فلما كان في بعض الليل، انطلق هو وأبو بكر إلى الغار، ونام علي بن أبي طالب على الفراش، فذلك حين يقول الله: "ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"= و"الإثبات"،: هو الحبس والوثاق= وهو قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ   (1) " فرقوا "، خافوا وفزعوا. (2) في المطبوعة: " إذا اصطبح على فراشه "، لا أدري من أين جاء بها! . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 498 مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا [سورة الإسراء: 76] ، يقول: يهلكهم. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لقيه عمر فقال له: ما فعل القوم؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وكذلك كان يُصنع بالأمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخِّروا بالقتال". 15970 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك أو يقتلوك"، قال: كفار قريش، أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة. 15971 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. 15972- حدثني ابن وكيع قال: حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه; إلا أنه قال: فعلوا ذلك بمحمد. 15973 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك"، الآية، هو النبي صلى الله عليه وسلم، مكروا به وهو بمكة. 15974 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، إلى آخر الآية، قال: اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: اقتلوا هذا الرجل. فقال بعضهم: لا يقتله رجل إلا قُتل به! قالوا: خذوه فاسجنوه، واجعلوا عليه حديدًا. قالوا: فلا يدعكم أهل بيته! قالوا: أخرجوه. قالوا: إذًا يستغوي الناس عليكم. (1)   (1) " يستغوي الناس "، أي: يدعوهم إلى التجمع. يقال: " تغاووا عليه حتى قتلوه "، إذا تجمعوا وتعاونوا في الشر. والأجود عندي: " يستعوى " (بالعين المهملة) . يقال: " استعوى فلان جماعة "، إذا نعق بهم على الفتنة. ويقال: " تعاوى بنو فلان على فلان " و " تغاووا " (بالغين المعجمة) ، إذا تجمعوا عليه. و " استعوى القوم "، استغاث بهم. وأصله من " العواء "، عواء الكلب، فتجاوبه كلاب الحي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 499 قال: وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد، واجتمع رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستلم، أن يجتمعوا عليه فيغمُّوه ويقتلوه، (1) فإنه لا يدري أهله من قتله، فيرضون بالعقل، فنقتله ونستريح ونعقِله! فلما أن جاء يطوف بالبيت، اجتمعوا عليه فغمُّوه، فأتى أبو بكر فقيل له ذاك، فأتى فلم يجد مدخلا. فلما أن لم يجد مدخلا قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ، [سورة غافر: 28] . قال: ثم فرَّجها الله عنه. فلما أن حطّ الليل، (2) أتاه جبريل عليه السلام فقال، من أصحابك؟ فقال: فلان وفلان وفلان. فقال: لا نحن أعلم بهم منك، (3) يا محمد، هو ناموس ليل! (4) قال: وأخِذ أولئك من مضاجعهم وهم نيام، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقدِّم أحدهم إلى جبريل، فكحَله ثم أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كُفِيتَه يا نبي الله!   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " فيعموه " بالعين المهملة، ولها وجه ضعيف عندي، وصوابها بالغين المعجمة. يقال: " غم الشيء يغمه "، إذا علاه وغطاه وستره حتى لا فرجة فيه، ومنه قول النمر بن تولب، يصف اجتماع المقاتلة العرب في الحرب: زَبَنَتْكَ أَرْكَانُ العَدُوِّ فأَصْبَحتْ ... أَجَأ وَحَيَّة مِنْ قَرَارِ ديارها وَكأَنَّهَا دَقَرَى، تَخَايَلَ نَبْتُها ... أُنُفٌ يَغُمُّ الضَّالَ نَبْتُ بِحَارِهَا ومنه قيل للغمة " غمة "، وقيل: " سحاب أغم "، لا فرجة فيه. وانظر بعد ذلك صفة اجتماعهم عليه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وأن أبا بكر لم يجد مدخلا، وقوله أيضًا: " ثم فرجها الله عنه ". فكل هذا يدل على صواب قراءتها كما أثبتها. وهذه الصفحة من المخطوطة، يكاد أكثرها يكون غير منقوط. (2) في المطبوعة: " فلما أن كان الليل "، غير ما في المخطوطة، وكان فيها " فلما أن حبط " وصواب قراءتها إن شاء الله ما أثبت. و " حط الليل "، نزل وأطبق. (3) في المخطوطة: " فقال: فلان وفلان وفلان، فقال لا. فقال جبريل عليه السلام: نحن أعلم بهم منك ... "، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء، والذي في المطبوعة اجتهاد من الناشر، تركه على حاله. (4) في المطبوعة والمخطوطة: " هو ناموس ليل "، والسياق يقتضي ما أثبت. و" الناموس " دويبة أغبر، كهنة الذرة، تلكع الناس وتلسعهم. وقولهم: " هم ناموس ليل "، يعني حقارتهم وقلة شأنهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 500 ثم قدِّم آخر، فنقر فوق رأسه. بعصًا نقرة ثم أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ فقال: كُفِيته يا نبي الله! ثم أتي بآخر فنقر في ركبته، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته! ثم أتي بآخر فسقاه مَذْقة، (1) فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته يا نبي الله! وأتي بالخامس، (2) فلما غدا من بيته، مرّ بنبّال فتعلق مِشْقَص بردائه، (3) فالتوى، فقطع الأكحل من رجله. (4) وأما الذي كحلت عيناه، فأصبح وقد عمي. وأما الذي سقي مَذْقةً، فأصبح وقد استسقى بطنه. وأما الذي نقر فوق رأسه، فأخذته النقبة = و"النقبة"، قرحة عظيمة (5) = أخذته في رأسه. وأما الذي طعن في ركبته، فأصبح وقد أقعد. فذلك قول الله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين". 15975 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، أي: فمكرت لهم بكيدي المتين، حتى خلّصك منهم. (6)   (1) " المذقة "، الطائفة من اللبن الممزوج بالماء. (2) لم يذكر ما فعل جبريل عليه السلام بالخامس، وإن كان ذكر ما آل إليه أمره، فأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. (3) في المطبوعة " مر " حذف الفاء، وهو صواب، فأثبتها من المخطوطة. و " المشقص "، نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض. (4) " الأكحل "، عرق الحياة، ويقال له: " نهر البدن "، وهو عرق في اليد ووسط الذراع، وفي كل عضو منه شعبة، لها اسم على حدة، إذا قطع لم يرقأ الدم. (5) في المطبوعة: " النقدة "، في الموضعين. وأما المخطوطة، فالأولى، يوشك أن يكتبها " النقبة " إلا أنه يزيد في رأس الباء، ثم كتب بعد " النقدة " ولم أجد في القروح ما يقال له: " نقدة ". و" النقبة " (بضم فسكون) أول بدء الجرب، ترى الرقعة مثل الكف بجنب البعير أو وركه أو بمشفرة، ثم تتمشى فيه تشريه كله، أي تملؤه كله. فلعل هذه هي المرادة هنا. (6) الأثر: 15975 - سيرة ابن هشام 1: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15955. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " فمكرت لهم "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام، وهي أجود. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 501 15976 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا"، قال: هذه مكية= قال: ابن جريج، قال مجاهد: هذه مكية. (1) قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: واذكر، يا محمد، نعمتي عندك، بمكري بمن حاول المكرَ بك من مشركي قومك، بإثباتك أو قتلك أو إخراجك من وطنك، حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم، فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين، وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم، ولا يَرْعَبَنَّك كثرة عددهم، فإن ربّك خيرُ الماكرين بمن كفر به، وعبد غيره، وخالف أمره ونهيه. * * * وقد بينا معنى "المكر" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) القول في تأويل قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آياتِ كتاب الله الواضحةَ لمن شرح الله صدره لفهمه (3) =، قالوا جهلا منهم، وعنادًا للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم= "لو نشاء لقلنا مثل هذا"،   (1) الأثر: 15976 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 15964. كأنه يعني أن هذه الآية، معنى بها أمر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. والقطع بأن هذه الآية أو اللواتي تليها آيات نزلت بمكة، أمر صعب، لا يكاد المرء يطمئن إلى صوابه، والاعتراض على ذلك له وجوه كثيرة لا محل لذكرها هنا. (2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12: 95، 97، 579 \ 13: 33، 491. (3) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف ص: 385، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 502 الذي تُلِي علينا= "إن هذا إلا أساطير الأولين"، يعني: أنهم يقولون: ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلا أساطير الأولين. و"الأساطير" جمع "أسطر"، وهو جمع الجمع، لأن واحد "الأسطر" "سطر"، ثم يجمع "السطر"، "أسطر" و"سطور"، ثم يجمع "الأسطر" "أساطير" و"أساطر". (1) وقد كان بعضُ أهل العربية يقول: واحد "الأساطير"، "أسطورة". * * * وإنما عنى المشركون بقولهم: "إن هذا إلا أساطير الآولين"، إنْ هذا القرآن الذي تتلوه علينا، يا محمد، إلا ما سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم! كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم، وأنه لم يوحِه الله إليه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 15977 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا"، قال: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس، فيمرّ بالعِباد وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون. (2) فجاء مكة، فوجد محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد، فقال النضر: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا! "، للذي سَمِع من العباد. فنزلت: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد   (1) انظر تفسير " الأساطير " فيما سلف 11: 308 - 310. (2) " العباد "، قوم من قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية قبل الإسلام، فأنفوا أن يسموا بالعبيد، فقالوا: " نحن العباد "، ونزلوا بالحيرة. فنسب إلى " العباد "، ومنهم عدى بن يزيد العبادي الشاعر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 503 سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا"، قال: فقص ربُّنا ما كانوا قالوا بمكة، وقص قولهم: إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، الآية. 15978 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان النضر بن الحارث بن علقمة، أخو بني عبد الدار، يختلف إلى الحيرة، فيسمع سَجْع أهلها وكلامهم. فلما قدم مكة، سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، فقال: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين"، يقول: أساجيع أهل الحيرة. (1) 15979 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النبيُّ من يوم بدر صبرًا: عقبةَ بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واللهم اغْنِ المقداد من فضلك! " فقال المقداد: هذا الذي أردت! وفيه نزلت هذه الآية: "وإذا تتلى عليهم آياتنا"، الآية. 15980- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل يوم بدر ثلاثة رهط من قريش صبرًا: المطعم بن عديّ، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط. قال: فلما أمر بقتل النضر، قال المقداد بن الأسود: أسيري، يا رسول الله! قال: إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما كان يقول! قال: فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغْن المقداد من فضلك! وكان المقداد أسر النضر. (2)   (1) " الأساجيع " جمع " أسجوعة "، ما سجع به الكاهن وغيره. وانظر ما سلف رقم: 13157. (2) الأثر: 15980 - هكذا جاء في رواية هذا الخبر " المطعم بن عدي "، مكان " طعيمة بن عدى "، وكأنه ليس خطأ من الناسخ، لأن ابن كثير في تفسيره 4: 51، قال: " وهكذا رواه هشيم، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير أنه قال: المطعم بن عدي، بدل طعيمة. وهو غلط، لأن المطعم بن عدي لم يكن حيًا يوم بدر، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان المطعم بن عدي حيًا، ثم سألني في هؤلاء النتنى، لوهبتهم له! يعني الأسارى، لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف ". وانظر التعليق على رقم: 15981. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 504 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا محمد، أيضًا ما حلّ بمن قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، إذ مكرت بهم، فأتيتهم بعذاب أليم= (1) وكان ذلك العذاب، قتلُهم بالسيف يوم بدر. * * * وهذه الآية أيضًا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحارث. * ذكر من قال ذلك. 15981 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، قال: نزلت في النضر بن الحارث. (2) 15982 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " مكرت لهم "، وليست بشيء. (2) الأثر: 15981 - " أبو بشر "، هو " جعفر بن إياس "، " جعفر بن أبي وحشية "، مضى مرارًا كثيرة. وكان في تعليق ابن كثير، الذي نقلته في التعليق على الخبر السالف " جعفر بن أبي دحية "، وهو خطأ محض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 505 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك"، قال: قول النضر بن الحارث= (1) أو: ابن الحارث بن كَلَدة. 15983- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، من بني عبد الدار. 15984- ...... قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك"، قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة. 15985 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: قال رجل من بني عبد الدار، يقال له النضر بن كلدة: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، فقال الله: ((وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)) [سورة ص: 16] ، وقال: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [سورة الأنعام: 94] ، وقال: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) [سورة المعارج: 1-2] . قال عطاء: لقد نزل فيه بضعَ عشرة آية من كتاب الله. 15986 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: فقال= يعني النضر بن الحارث =: اللهم إن كان ما يقول محمد هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو   (1) الأثر: 15982 - في المطبوعة: " النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ". والصواب ما في المخطوطة، لأن الاختلاف في نسبة هكذا: " النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار " أو: " النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار " انظر سيرة ابن هشام 2: 320، 321. وقد غير ما في المخطوطة بلا حرج ولا ورع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 506 ائتنا بعذاب أليم! قال الله: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) . 15987 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية، قال: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) . 15988 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، الآية قال: قال ذلك سُفَّهُ هذه الأمة وجهلتها، (1) فعاد الله بعائدته ورحمته على سَفَهة هذه الأمة وجهلتها. (2) 15989 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر غِرَّة قريش واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، أي: ما جاء به محمد= "فأمطر علينا حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم لوط = "أو ائتنا بعذاب أليم"، أي: ببعض ما عذبت به الأمم قبلنا. (3) * * * واختلف أهل العربية في وجه دخول "هو" في الكلام. فقال بعض البصريين: نصب "الحق"، لأن "هو" والله أعلم، حُوِّلت   (1) في المطبوعة: " سفهة هذه الأمة "، غير ما في المخطوطة، طرح الصواب المحض يقال: " سفيه "، والجمع " سفهاء " " وسفاه " (بكسر السين) و " سفه "، بضم السين وتشديد الفاء المفتوحة. والذي في كتب اللغة أن " سفاه " و " سفه "، و " سفائه " جمع " سفيهة ". وسيأتي في المخطوطة بعد قليل " سفهه "، وكأنها جائزة أيضًا. (2) هكذا في المخطوطة أيضًا " سفهة "، فتركتها على حالها. انظر التعليق السالف. وكأنه إتباع لقوله " جهلة "، وهذا من خصائص العربية. (3) الأثر: 15989 - سيرة ابن هشام 2: 325، وهو تبع الأثر السالف رقم: 15975. وكان في المطبوعة: " ثم ذكر غيرة قريش "، وهو لا معنى له، صوابه من المخطوطة وابن هشام. يعني: اغترارهم بأمرهم، وغفلتهم عن الحق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 507 زائدة في الكلام صلةَ توكيدٍ، كزيادة "ما"، ولا تزاد إلا في كل فعل لا يستغني عن خبر، وليس هو بصفة، ل "هذا"، لأنك لو قلت: "رأيت هذا هو"، لم يكن كلامًا. ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة، ولكنها تكون من صفة المضمرة، نحو قوله: ((وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)) [سورة الزخرف: 76] و ((خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)) [سورة المزمل: 20] . لأنك تقول: "وجدته هو وإياي"، فتكون "هو" صفة. (1) وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة، ولكنها تكون زائدة، كما كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم، فيرفع ما بعدها، إن كان بعدها ظاهرًا أو مضمرًا في لغة بني تميم، يقولون في قوله:"إن كان هذا هو الحق من عندك"، "ولكن كانوا هم الظالمون"، (2) و "تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظم أجرًا" (3) كما تقول: "كانوا آباؤهم الظالمون"، جعلوا هذا المضمر نحو "هو" و "هما" و "أنت" زائدًا في هذا المكان، ولم تجعل مواضع الصفة، لأنه فصْلٌ أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفةً لما قبله، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر. * * * وكان بعض الكوفيين يقول: لم تدخل "هو" التي هى عماد في الكلام، (4) إلا لمعنى صحيح. وقال: كأنه قال: "زيد قائم"، فقلت أنت: "بل عمرو هو القائم" ف "هو" لمعهود الاسم، و"الألف واللام" لمعهود الفعل، (5) [" والألف واللام"] التي هي صلة في الكلام، (6) مخالفة لمعنى "هو"، لأن دخولها وخروجها واحد   (1) " الصفة "، هو " ضمير الفصل "، وانظر التعليق التالي رقم: 4. (2) في المطبوعة: " هم الظالمين "، خالف المخطوطة وأساء. (3) في المطبوعة والمخطوطة: " هو خيرًا "، ولا شاهد فيه، وصوابه ما أثبت. (4) " العماد "، اصطلاح الكوفيين، والبصريون يقولون: " ضمير الفصل "، ويقال له أيضًا: " دعامة " و " صفة ". انظر ما سلف 2: 312، تعليق 2، ثم ص 313، 374 \ ثم 7: 429، تعليق: 2. (5) " الفعل "، يعني الخبر. (6) ما بين القوسين، مكانه بياض في المخطوطة، ولكن ناشر المطبوعة ضم الكلام بعضه إلى بعض. وأثبت ما بين القوسين استظهارًا، وكأنه الصواب إن شاء الله. وقوله: " صلة "، أي: زيادة، انظر تفسير ذلك فيما سلف 1: 190، 405، 406، 548 \ 4: 282 \ 5: 460، 462 \ 7: 340، 341. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 508 في الكلام. وليست كذلك "هو". وأما التي تدخل صلة في الكلام، فتوكيدٌ شبيه بقولهم: "وجدته نفسَه"، تقول ذلك، وليست بصفة "كالظريف" و"العاقل". (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }   (1) انظر مبحث ضمير " العماد " في معاني القرآن للفراء 1: 50 - 52، 104، 248، 249، 409، 410. وما سلف من التفسير 2: 312، 313 \ 7: 429، 430، وغيرها في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 509 القول في تأويل قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، أي: وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرجَ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه، حين استغفر أولئك بها: "وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون". قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم، فعذّب الكفار. * ذكر من قال ذلك. 15990 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله عليه: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 509 "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل الله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". قال: فكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون= يعني بمكة= فلما خرجوا أنزل الله عليه: "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياء". قال: فأذن الله له في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم. 15991 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: من بها من المسلمين= "وما لهم ألا يعذبهم الله"، يعني مكة، وفيهم الكفار. (1) 15992- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قول الله: "وما كان الله ليعذبهم"، يعني: أهل مكة= "وما كان الله معذبهم"، وفيهم المؤمنون، يستغفرون، يُغفر لمن فيهم من المسلمين. 15993- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي، وأبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: بقية من بقي من المسلمين منهم. فلما خرجوا قال: "وما لهم ألا يعذبهم الله". (2) 15994 - ....... قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: أهل مكة.   (1) في المطبوعة: " وفيها الكفار "، أما المخطوطة فتقرأ: " بغير مكة، وفيهم الكفار "، ولعل ما في المطبوعة أولى بالإثبات. (2) الأثر: 15993 - " إسحاق بن إسماعيل الرازي " هو: " حبويه، أبو يزيد " سلف مرارًا، آخرها رقم: 15311. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 510 15995 - ...... وأخبرنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: المؤمنون من أهل مكة= "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، قال: المشركون من أهل مكة. 15996- ...... قال: حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" قال: المؤمنون يستغفرون بين ظهرانَيْهم. 15997 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة، حتى أخرجك والذين آمنوا معك. 15998 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال: ابن عباس: لم يعذب قريةً حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا معه، ويلحقه بحيث أُمِر= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني المؤمنين. ثم أعاد إلى المشركين فقال: "وما لهم ألا يعذبهم الله". 15999- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: يعني أهل مكة. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم، يا محمد، حتى أخرجك من بينهم= "وما كان الله معذبهم"، وهؤلاء المشركون، يقولون: "يا رب غفرانك! "، وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله"، في الآخرة. * ذكر من قال ذلك. 16000 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة، عن أبي زميل، عن ابن عباس: إن المشركين كانوا يطوفون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 511 بالبيت يقولون: "لبيك، لبَّيك، لا شريك لك"، (1) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَدْ! " (2) فيقولون: "إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"، (3) ويقولون: "غفرانك، غفرانك! "، فأنزل الله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله، والاستغفار. قال: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار= "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، قال: فهذا عذاب الآخرة. قال: وذاك عذاب الدنيا. (4) 16001 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان، ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا" الآية. فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: "غفرانك اللهم! "، فأنزل الله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" إلى قوله: "لا يعلمون". 16002 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانوا يقولون = يعني المشركين =: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر، ولا يعذِّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها! وذلك من قولهم، ورسولُ لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، يذكر له جَهالتهم وغِرَّتهم واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم لوط. وقال حين نَعى   (1) في المطبوعة: " لبيك، لا شريك لك لبيك "، غير ما في المخطوطة. (2) " قد، قد "، أي حسبكم، لا تزيدوا. يقال: " قدك "، أي حسبك، يراد بها الردع والزجر. (3) في المطبوعة، زاد زيادة بلا طائل، كتب: " فيقولون: لا شريك لك، إلا شريك هو لك ". (4) الأثر: 16000 - " أبو زميل " هو: " سماك بن الوليد الحنفي اليمامي "، مضى برقم: 13832، 15734. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 512 عليهم سوء أعمالهم: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، أي: لقولهم: ["إنا نستغفر ومحمد بين أظهرنا"="وما لهم ألا يعذبهم الله"، وإن كنت بين أظهرهم] ، وإن كانوا يستغفرون كما يقولون (1) = "وهم يصدون عن المسجد الحرام"، أي: من آمن بالله وعبده، أي: أنت ومن تبعك. (2) 16003 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار ..................... قال، حدثنا أبو بردة، عن أبي موسى قال: إنه كان قبلُ أمانان، قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" قال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة. (3) 16004 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس   (1) كانت هذه الجملة هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " أي بقولهم، وإن كانوا يستغفرون كما قال وهم يصدون ... "، أسقط من الكلام ما لا بد منه وحرف. فأثبت الصواب بين الأقواس، وفي سائر العبارة، من سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 16003 - سيرة بن هشام 2: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15989. (3) الأثر: 16004 - " الحسن بن الصباح البزار "، شيخ الطبري، مضى برقم: 4442، 9857. وهذا الإسناد قد سقط منه رواة كثيرون، وكان في المخطوطة " بردة " فجعلها الناشر " أبو بردة "، وأصاب وهو لا يدري. وهذا الخبر روى مثله مرفوعًا الترمذي في سننه في تفسير هذه السورة، وهذا إسناده: " حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: أنزل الله علي أمانين لأمتي: " وما كان ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون "، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة. ثم قال الترمذي: " هذا حديث غريب، وإسماعيل بن إبراهيم يضعف في الحديث ". أما خبر الطبري، فلا شك أنه خبر موقوف على أبي موسى الأشعري. وكان في المطبوعة: " إنه كان فيكم أمانان "، غير ما في المخطوطة، وصواب قراءته ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 513 بن أبي إسحاق، عن عامر أبي الخطاب الثوري قال: سمعت أبا العلاء يقول: كان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمَنَتَان: فذهبت إحداهما وبقيت الأخرى: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، الآية. (1) * * * وقال آخرون: معنى ذلك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا محمد، وما كان الله معذب المشركين وهم يستغفرون أي: لو استغفروا. (2) قالوا: ولم يكونوا يستغفرون، فقال جل ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام". * ذكر من قال ذلك. 16005 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: إن القوم لم يكونوا يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون ما عُذِّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان أنزلهما الله: فأما أحدهما فمضى، نبيُّ الله. وأما الآخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم، الاستغفارُ والتوبةُ. 16006 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله لرسوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون، ولو استغفروا وأقرُّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون؟ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن محمد وعن المسجد الحرام؟ 16007 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال يقول: لو استغفروا لم أعذبهم.   (1) الأثر: 16005 - " عامر، أبي الخطاب الثوري "، لم أجد له ذكر، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف. (2) في المخطوطة والمطبوعة: " أن لو استغفروا "، وكأن الصواب ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 514 وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله ليعذبهم وهم يُسلمون. قالوا: و"استغفارهم"، كان في هذا الموضع، إسلامَهم. * ذكر من قال ذلك. 16008 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير، عن عكرمة، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: سألوا العذاب، فقال: لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم، ولم يكن ليعذبهم وهم يدخلون في الإسلام. 16009 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وأنت فيهم"، قال: بين أظهرهم= وقوله: "وهم يستغفرون"، قال: يُسلمون. 16010- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم يسلمون (1) = "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون"، قريش، "عن المسجد الحرام". (2) 16011- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا محمد بن عبيد الله، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: دخولهم في الإسلام. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإسلام.   (1) في المخطوطة: " وهم مسلمون "، والصواب ما في المطبوعة. (2) (2) كان في المطبوعة: سياق الآية بلا فصل، وهو قوله: " قريش "، التي أثبتها من المخطوطة. وكان في المخطوطة: " وهم مسلمون يعذبهم الله "، بياض بين الكلامين وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 515 * ذكر من قال ذلك. 16012 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يقول: ما كان الله سبحانه يعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار. ثم قال: "ومالهم ألا يعذبهم الله"، فعذبهم يوم بدر بالسيف. * * * وقال آخرون: بل معناه: وما كان الله معذبهم وهم يصلُّون. * ذكر من قال ذلك. 16013 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: يصلُّون، يعني بهذا أهل مكة. 16014 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد في قول الله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: يصلون. 16015 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني: أهل مكة. يقول: لم أكن لأعذبكم وفيكم محمد. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: يؤمنون ويصلون. 16016 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم يصلون. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب المشركين وهم يستغفرون. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 516 قالوا: ثم نسخ ذلك بقوله: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام". * ذكر من قال ذلك. 16017 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في "الأنفال": "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، فنسختها الآية التي تليها: "وما لهم ألا يعذبهم الله"، إلى قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فقوتلوا بمكة، وأصابهم فيها الجوع والحَصْر. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قولُ من قال: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا محمد، وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنّي لا أهلك قرية وفيها نبيها= وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرُّون عليه، فهم للعذاب مستحقون= كما يقال: "ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ"، يراد بذلك: لا أحسن إليك، إذا أسأت إليّ، ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ. وكذلك ذلك= ثم قيل: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، بمعنى: وما شأنهم، وما يمنعهم أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به، (1) وهم يصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام؟ وإنما قلنا: "هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب"، لأن القوم = أعني مشركي مكة = كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: "اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" فقال الله لنبيه: "ما كنت لأعذبهم وأنت فيهم، وما كنت لأعذبهم لو استغفروا،   (1) انظر تفسير " مالك " فيما سلف 5: 301، 302 \ 9: 7. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 517 وكيف لا أعذبهم بعد إخراجك منهم، وهم يصدون عن المسجد الحرام؟ ". فأعلمه جل ثناؤه أن الذي استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل، (1) وأعلمهم حال نزوله بهم، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذابَ في الآخرة، وهم مستعجلوه في العاجل، ولا شك أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون. بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر، الدليلُ الواضحُ على أن القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول من وجَّه قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، إلى أنه عُنى به المؤمنين، وهو في سياق الخبر عنهم، وعما الله فاعل بهم. ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضَّى، وعلى ذلك [كُنِي] به عنهم، (2) وأن لا خلاف في تأويله من أهله موجودٌ. وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، الآية، لأن قوله جل ثناؤه: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" خبرٌ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي. * * *   (1) في المطبوعة: " أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم "، وفي المخطوطة كما أثبته إلا أنه كتب مكان " حائق " " حاق "، وهو سهو. (2) في المطبوعة: " وعلى أن ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله "، وفي المخطوطة، كما أثبته، إلا أنه سقط منه [كني] كما أثبته بين القوسين. وإن كنت أظن في الكلام سقطًا. هذا وقد ذكر أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 154، هذا الرأي، ثم قال: " جعل الضميرين مختلفين، وهو قول حسن، وإن كان محمد بن جرير قد أنكره، لأنه زعم أنه لم يتقدم للمؤمنين ذكر، فيكنى عنهم. وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكر المؤمنين في غير موضع من السورة. فإن قيل: لم يتقدم ذكرهم في هذا الموضع. فالجواب: أن في المعنى دليلا على ذكرهم في هذا الموضع. وذلك أن من قال من الكفار: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء "، إنما قال ذلك مستهزئًا ومتعنتًا. ولو قصد الحق لقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له = ولكنه كفر وأنكر أن يكون الله يبعث رسولا بوحي من الله، أي: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأهلك الجماعة من الكفار والمسلمين. فهذا معنى ذكر المسلمين، فيكون المعنى: كيف يهلك الله المسلمين؟ فهذا المعنى: " ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني المؤمنين = " وما لهم ألا يعذبهم الله "، يعني الكافرين ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 518 واختلف أهل العربية في وجه دخول "أن" في قوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله". فقال بعض نحويي البصرة: هي زائدة ههنا، وقد عملت كما عملت "لا" وهي زائدة، وجاء في الشعر: (1) لَوْ لَمْ تَكنْ غَطَفَانُ لا ذُنُوبَ لَهَا إلَيَّ، لامَ ذَوُو أحْسَابِهَا عُمَرَا (2) وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: لم تدخل "أن" إلا لمعنى صحيح، لأن معنى: "وما لهم"، ما يمنعهم من أن يعذبوا. قال: فدخلت "أن" لهذا المعنى، وأخرج ب "لا"، ليعلم أنه بمعنى الجحد، لأن المنع جحد. قال: و"لا" في البيت صحيح معناها، لأن الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرًا. (3) وقال: ألا ترى إلى قولك: "ما زيد ليس قائما"، فقد أوجبت القيام؟ قال: وكذلك "لا" في هذا البيت. (4) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء الله= "إن أولياؤه"، (5) يقول: ما   (1) هو الفرزدق. (2) سلف البيت وتخريجه 5: 302، 303، وروايته هناك: " إذن للام ذود أحسابها "، وقد فسرته هناك، وزعمت أن " الذنوب " بفتح الذال بمعنى: الحظ والنصيب عن الشرف والحسب والمروءة. أمَّا رواية البيت كما جاءت هنا، وفي الديوان، توجب أن تكون " الذنوب " جمع " ذنب ".فهذا فرق ما بين الروايتين والمعنيين. (3) يعني بقوله: " خبرًا "، أي: إثباتًا. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 163 - 166، وما سلف من التفسير 5: 300 - 305. (5) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 519 أولياء الله= "إلا المتقون"، يعني: الذين يتقون الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. (1) = "ولكن أكثرهم لا يعلمون" يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله. * * * وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16018 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 16019 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "إن أولياؤه إلا المتقون"، مَن كانوا، وحيث كانوا. 16020- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 16021 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، الذين يحرمون حرمته، (2) ويقيمون الصلاة عنده، أي: أنت= يعني النبي صلى الله عليه وسلم= ومن آمن بك= يقول: "ولكن أكثرهم لا يعلمون". (3) * * *   (1) وتفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (2) في المطبوعة والمخطوطة مكان: " يحرمون حرمنه "، " يخرجون منه "، وهذا من عجائب التحريف من طريق الاختصار!! ، والصواب من سيرة ابن هشام. (3) الأثر: 16021 - سيرة ابن هشام 2: 325، 326، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16003. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 520 القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله، وهم يصدون عن المسجد الحرام الذي يصلون لله فيه ويعبدونه، ولم يكونوا لله أولياء، بل أولياؤه الذين يصدونهم عن المسجد الحرام، وهم لا يصلون في المسجد الحرام= "وما كان صلاتهم عند البيت"، يعني: بيت الله العتيق= "إلا مُكاء"، وهو الصفير. يقال منه: "مكا يمكو مَكوًا ومُكاءً" وقد قيل: إن "المكو": أن يجمع الرجل يديه، ثم يدخلهما في فيه، ثم يصيح. ويقال منه: "مَكت است الدابة مُكاء"، إذا نفخت بالريح. ويقال: "إنه لا يمكو إلا استٌ مكشوفة"، ولذلك قيل للاست "المَكْوة"، سميت بذلك، (1) ومن ذلك قول عنترة: وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلا تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلَمِ (2) وقول الطِّرِمَّاح:   (1) وتمام سياقه أن يقول: " سميت بذلك لصفيرها ". (2) من معلقته المشهورة الغالية. سيرة بن هشام 2: 326، والمعاني الكبير: 981، واللسان (مكا) وبعد البيت. سَبَقَتْ يَدَايَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ ... وَرَشَاشِ نَافِذَةٍ كَلَونِ العَنْدَمِ " الحليل "، الزوج، و " الغانية ": البارعة الحسن والجمال، استغنت بجمالها عن التجمل. " مجدلا "، صريعًا على الجدالة، وهي الأرض. و " الفريصة "، لحمة عند نغض الكتف، في وسط الجنب، عند منبض القلب، وهما فريصتان، وهي التي ترعد عند الفزع، فيقال للفزع: " أرعدت فرائصه "، وإصابة الفريصة مقتل. و " الأعلم "، الجمل المشقوق الشفة العليا. خرج إليه هذا القتيل، مدلا بقوته وشبابه، يحفزه أن ينال إعجاب صاحبته الغانية الجميلة به إذا قتل عنترة، فلم يكد حتى عاجله بالطعنة التي وصف ما وصف من اتساعها كشدق البعير الأعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 521 فَنَحَا لأُِولاَها بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ تَمْكُو جَوَانِبُهَا مِنَ الإنْهَارِ (1) بمعنى: تصوِّت. وأما "التصدية"، فإنها التصفيق، يقال منه: "صدَّى يصدِّي تصديةً"، و"صفَّق"، و"صفّح"، بمعنى واحد. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16022 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى، عن موسى بن قيس، عن حجر بن عنبس: "إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير= و"التصدية"، التصفيق. (2) 16023 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، "المكاء"، التصفير= و"التصدية"، التصفيق. 16024 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) ديوانه 149، والمعاني الكبير: 983، وهو بيت من قصيدة مدح بها خالد بن عبد الله القسري، ولكن هذا البيت، مفرد وحده لا صلة له بما قبله، وهي قصيدة ناقصة بلا شك. وشرحه ابن قتيبة فقال: " نحا " انحرف، و " المحفظ "، المغضب. و " تمكو "، تصفر، وذلك عند سيلانها. و " الإنهار "، سعة الطعنة، ومنه قول قيس بن الخطيم، يصف طعنة: طَعَنْتُ ابنَ عَبْدِ الْقَيْسِ طَعْنَةَ ثَائِرٍ ... لَهَا نَفَذٌ لَوْلا الشُّعَاعُ أَضَاءَهَا ... مَلَكْتُ بها كَفِّى فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا (2) الأثر: 16022 - " موسى بن قيس الحضرمي "، " عصفور الجنة "، مضى برقم: 16022. و" حجر بن عنبس الحضرمي "، " أبو العنبس "، ويقال: " أبو السكن "، قال ابن معين: " شيخ كوفي ثقة مشهور "، تابعي، وكان شرب الدم في الجاهلية، شهد مع علي الجمل وصفين مترجم في التهذيب، والكبير 12 \ 68، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 266. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 522 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، يقول: كانت صلاة المشركين عند البيت "مكاء"= يعني الصفير= و"تصدية"، يقول: التصفيق. 16025 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: التصفيق والصفير. 16026- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن عمر قال: "المكاء"، التصفيق، و"التصدية"، الصفير. قال: وأمال ابن عمر خدّه إلى جانب. 16027 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء" و"التصدية"، الصفير والتصفيق. 16028- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، سمعت محمد بن الحسين يحدث، عن قرة بن خالد، عن عطية العوفي، عن ابن عمر قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية": التصفيق. 16029 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية، عن ابن عمر في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال، "المكاء" الصفير، و"التصدية"، التصفيق= وقال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر، فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه. 16030 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" قال بكر: فجمع لي جعفر كفيه، ثم نفخ فيهما صفيرًا، كما قال له أبو سلمة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 523 16031 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية"، التصفيق. 16032- ... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: تصفير وتصفيق. (1) 16033- ... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر، مثله. 16034- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفّرون ويصفقون، فأنزل الله: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)) [سورة الأعراف: 32] ، فأمروا بالثياب. 16035 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به، يصفرون به ويصفقون، فنزلت: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية". 16036 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "إلا مكاء"، قال: كانوا ينفخون في أيديهم، و"التصدية"، التصفيق.   (1) الأثر: 16032 - " سلمة بن سابور "، روى عن عطية العوفي، وعبد الوارث مولى. روى عنه أبو نعيم، والفضل بن موسى، وغيرهما. ضعفه ابن معين، وثقه ابن حبان وقال: " كان يحيى القطان يتكلم فيه، ومن المحال أن يلحق بسلمة ما جنت يدا عطية ". أما البخاري فاقتصر على قوله: " كان يحيى يتكلم في عطية "، كأنه لا يريد استضعافه. مترجم في لسان الميزان 3: 68، والكبير 2 \ 2 \ 84، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 163، وضعفه، وميزان الاعتدال 1: 406، واقتصر فقال: " جرحوه ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 524 16037- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، إدخال أصابعهم في أفواههم، و"التصدية" التصفيق، يخلِطون بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم صلاتَه. 16038 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله= إلا أنه لم يقل: "صلاته". 16039- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "المكاء"، إدخال أصابعهم في أفواههم، و"التصدية"، التصفيق. قال نفرٌ من بني عبد الدار، كانوا يخلطون بذلك كله على محمد صلاتَه. 16040 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: من بين الأصابع= قال أحمد: سقط عليَّ حرف، وما أراه إلا الخَذْف (1) = والنفخ والصفير منها، وأراني سعيد بن جبير حيث كانوا يَمْكون من ناحية أبي قُبَيس. (2) 16041- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، كانوا يشبِّكون بين أصابعهم ويصفرون بها، فذلك "المكاء". قال: وأراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قُبَيس. 16042- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب   (1) " الخذف " رميك بحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " الخذف " وقال: " إنه يفقأ عينًا، ولا ينكي العدو، ولا يحرز صيدًا ". (2) " أبو قبيس "، اسم الجبل المشرف على بطن مكة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 525 قال، حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن في قوله: "مكاء وتصدية"، قال: "المكاء" النفخ= وأشار بكفه قِبَل فيه= و"التصدية"، التصفيق. 16043 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية"، التصفيق. 16044 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. 16045 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: كنا نُحَدَّث أن "المكاء"، التصفيق بالأيدي، و"التصدية"، صياح كانوا يعارضون به القرآن. 16046 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير، و"التصدية"، التصفيق. 16047 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، و"المكاء"، الصفير، على نحو طير أبيض يقال له "المكَّاء"، يكون بأرض الحجاز، (1) و"التصدية"، التصفيق. 16048 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، صفير كان أهل الجاهلية يُعلنون به. قال: وقال في "المكاء"، أيضًا: صفير في أيديهم ولعب. * * *   (1) " المكاء " (بضم الميم وتشديد الكاف) ، وجمعه " مكاكي " طائر نحو القنبرة، إلا أن في جناحيه بلقًا. سمى بذلك، لأنه يجمع يديه، ثم يصفر فيهما صفيرًا حسنًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 526 وقد قيل في "التصدية": إنها "الصد عن بيت الله الحرام". وذلك قول لا وجه له، لأن "التصدية"، مصدر من قول القائل: "صدّيت تصدية". وأما "الصدّ" فلا يقال منه: "صدَّيت"، إنما يقال منه "صدَدْت"، فإن شدَّدت منها الدال على معنى تكرير الفعل قيل: "صدَّدْتَ تصديدًا". (1) إلا أن يكون صاحب هذا القول وجَّه "التصدية" إلى أنه من "صَدَّدت"، ثم قلبت إحدى داليه ياء، كما يقال: "تظنَّيْتُ" من "ظننت"، وكما قال الراجز: (2) تَقَضِّيَ البَازِي إذَا البَازِي كَسَرْ (3) يعني: تقضُّض البازي، فقلب إحدى ضاديه ياء، فيكون ذلك وجهًا يوجَّه إليه. * ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل "التصدية". 16049 - حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، صدهم عن بيت الله الحرام. 16050 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وتصدية" قال: "التصدية"، صدّهم الناس عن البيت الحرام. 16051 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وتصدية"، قال: التصديد، عن سبيل الله، (4) وصدّهم عن الصلاة وعن دين الله.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " صددت تصدية "، وهو خطأ ظاهر، صوابه ما أثبت. (2) هو العجاج. (3) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2: 157، وسيأتي في التفسير 30: 135 (بولاق) . (4) في المطبوعة: " التصدية "، وفي المخطوطة توشك أن تقرأ هكذا وهكذا، ورأيت الأرجح أن تكون " التصديد "، فأثبتها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 527 16052 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يُدْرَأ بها عنهم= "إلا مكاء وتصدية"، وذلك ما لا يرضى الله ولا يحبّ، ولا ما افترض عليهم، ولا ما أمرهم به. (1) * * * وأما قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فإنه يعني العذابَ الذي وعدهم به بالسيف يوم بدر. يقول للمشركين الذين قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" الآية، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب= "ذوقوا"، أي اطعموا، وليس بذوق بفم، ولكنه ذوق بالحسِّ، ووجود طعم ألمه بالقلوب. (2) يقول لهم: فذوقوا العذابَ بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم به على جحودكم توحيدَ ربكم، ورسالةَ نبيكم صلى الله عليه وسلم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16053 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، أي: ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل. (3) 16054 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، قال: هؤلاء أهل بدر، يوم عذبهم الله. 16055 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، يعني أهل بدر، عذبهم الله يوم بدر بالقتل والأسر. * * *   (1) الأثر: 16052 - سيرة ابن هشام 2: 326، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16021 (2) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص 434، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) الأثر: 16053 - سيرة ابن هشام 2: 326، وهو تابع الأثر السالف رقم: 1605. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 528 القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم، (1) فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوَّوا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، ليصدّوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله، (2) فسينفقون أموالهم في ذلك، ثم تكون نفقتهم تلك عليهم= "حسرة"، يقول: تصير ندامة عليهم، (3) لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله مُعْلي كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم، فيعذبون فيها، (4) فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك! أما الحيّ، فحُرِب ماله وذهبَ باطلا في غير دَرَك نفع، ورجع مغلوبًا مقهورًا محروبًا مسلوبًا. (5) وأما الهالك، فقتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلُد فيها، نعوذ بالله من غضبه. وكان الذي تولَّى النفقةَ التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذُكر، أبا سفيان. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير " الإنفاق " فيما سلف من فهارس اللغة (نفق) . (2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 12: 559 تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الحسرة " فيما سلف 3: 295 \ 7: 335 \ 11: 325. (4) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص: 472 تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) في المطبوعة: " محزونًا مسلوبًا "، والسياق يتقضى ما أثبت. " محروب "، مسلوب المال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 529 16056- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم" الآية، "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون"، قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب. استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة، (1) فقاتل بهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يقول فيهم كعب بن مالك: وَجِئْنَا إلَى مَوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَه أَحَابِيشُ، مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ (2) ثَلاثَةُ آلافٍ، ونَحْنُ نَصِيَّةٌ ثَلاثُ مِئِينَ إن كَثُرْنَ، فَأرْبَعُ (3) 16057- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن ابن أبزى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، قال: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، سوى من استجاش من العرب. (4)   (1) " الأحابيش "، هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش، من بني الهون بن خزيمة، والمطلق، والحيا، من خزاعة. وسميت " الأحابش "، لاجتماعها وانضمامها محالفة قريش، في قتال بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. (انظر المحبر: 246، 267) و (نسب قريش: 9) . (2) سيرة ابن هشام 3: 141، طبقات فحول الشعراء: 183، نسب قريش: 9 وغيرها. ويعني بقوله: " فجئنا إلى موج "، جيش الكفار يوم أحد، يموج موجه. وكان عدة المشركين بأحد ثلاثة آلاف. و " الحاسر "، الذي لا درع له، ولا بيضة على رأسه. و " المقنع "، الدارع الذي ليس لبس سلاحه، ووضع البيضة على رأسه. (3) " نصية "، أي: خيار أشراف، أهل جلد وقتال. يقال: " انتصى الشيء "، اختار ناصيته، أي أكرم ما فيه. وكان في المطبوعة: " ونحن نظنه "، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة، كما كتبتها غير منقوطة. وهكذا جاء الرواية في المخطوطة: " إن كثرن فأربع "، كأنه يعني أنهم كانوا ثلاثمئة، فإن كثروا فأربعمئة. وهو لا يصح، لأن عدة المسلمين يوم أحد كانت سبعمئة. فصواب الرواية ما أنشده ابن إسحاق وابن سلام. " إنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ " (4) " استجاش "، طلب منه الجيش وجمعه على عدوه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 530 16058- ...... قال، أخبرنا أبي عن خطاب بن عثمان العصفري، عن الحكم بن عتيبة: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، قال: نزلت في أبي سفيان. أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا. (1) 16059 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، الآية، قال: لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة أشَّبَ الناس ودعاهم إلى القتال، (2) حتى غزا نبيَّ الله من العام المقبل. وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام الرابع. 16060 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله فيما كان المشركون، ومنهم أبو سفيان، يستأجرون الرجال يقاتلون محمدًا بهم: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم= "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة"، يقول: ندامة يوم القيامة وويلٌ (3) = "ثم يغلبون". 16061 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "ينفقون أموالهم ليصدوا   (1) الأثر: 16058 - " خطاب بن عثمان العصفري "، لم أجد له ترجمة في غير ابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286، وقال: " خطاب العصفري " روى عن الشعبي، روى عنه وكيع، ومحمد بن ربيعة، وأبو نعيم. سمعت أبي يقول ذلك. وسألته عنه فقال: " شيخ ". ولم يذكر أن اسم أبيه " عثمان ". (2) في المطبوعة: " أنشد الناس "، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: " أنسب "، غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. و " التأشيب "، التحريش بين القوم، و " التأشيب "، التجميع، يقال: " تأشب به أصحابه "، أي: اجتمعوا إليه وطافوا به. أراد أنه جمعهم وحرضهم على القتال. (3) في المطبوعة: " وويلا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 531 عن سبيل الله"، الآية حتى قوله: "أولئك هم الخاسرون"، قال: في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد. 16062- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 16063 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، (1) [وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد. وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: أو من قاله منهم: لما أصيب] يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، (2) ورجع فَلُّهم إلى مكة، (3) ورجع أبو سفيان بعِيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، (4) وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وَتَرَكم وقتل خيارَكم، (5) فأعينونا   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " الحصين بن عبد الرحمن وعمرو بن سعد بن معاذ "، وهو خطأ، فقد مضى مرارًا مثله. وصوابه من سيرة ابن هشام. (2) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام، وإنما فعلت ذلك، لأن المطبوعة خالفت المخطوطة لخطأ فيها، فكتب في لمطبوعة: " قالوا: أما أصابت المسلمين يوم بدر ... "، وكان في المخطوطة: " قالوا: لما أصيبت قريش، أو من قاله منهم، يوم بدر "، وهو غير مستقيم، فرجح قوله: " أو من قال منهم "، أن الناسخ قد عجل في نقل بقية الإسناد، وخلط الكلام فاضطرب. فلذلك أثبته بنصه من السيرة. (3) " الفل " (بفتح الفاء) : المنهزمون، الراجعون من جيش قد هزم. (4) في المطبوعة: " عبد الله بن ربيعة "، خطأ محض. (5) " وتر القوم "، أدرك فيهم مكروهًا بقتل أو غيره. و " الموتور " الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 532 بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا. قال: ففيهم، كما ذكر عن ابن عباس، (1) أنزل الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم" إلى قوله: "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون". (2) 16064 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، إلى قوله: "يحشرون"، يعني النفرَ الذين مشوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة، فسألوهم أن يُقَوُّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) ففعلوا. (4) 16065 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عطاء بن دينار في قول الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم"، الآية، نزلت في أبي سفيان بن حرب. (5) * * * وقال بعضهم: عني بذلك المشركون من أهل بدر. * ذكر من قال ذلك: 16066 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" الآية، قال: هم أهل بدر. * * *   (1) الذي في سيرة ابن هشام: " قال ابن إسحاق، ففيهم، كما ذكر لي بعض أهل العلم "، ولم يسند الكلام إلى ابن عباس. (2) الأثر: 16063 - سيرة ابن هشام 3: 64. (3) في المطبوعة: " أن يعينوهم "، وفي سيرة ابن هشام: " يقووهم بها "، بزيادة. (4) الأثر: 16064 سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16053. (5) الأثر: 16065 - " سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري "، مضى مرارًا آخرها رقم: 13178. وكان في المخطوطة: " سعيد بن أيوب "، وصححه ناشر المطبوعة. و" عطاء بن دينار الهذلي المصري "، مضى أيضًا برقم: 160، 13178، بمثل هذا الإسناد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 533 قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قلنا، وهو أن يقال: إن الله أخبرَ عن الذين كفروا به من مشركي قريش، أنهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن سبيل الله. لم يخبرنا بأيّ أولئك عَنى، غير أنه عم بالخبر "الذين كفروا". وجائز أن يكون عَنَى المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد= وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر= وجائز أن يكون عنى الفريقين. وإذا كان ذلك كذلك، فالصواب في ذلك أن يعمّ كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من قريش. * * * القول في تأويل قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله، إلى جهنم، ليفرق بينهم= وهم أهل الخبث، كما قال وسماهم "الخبيث" = وبين المؤمنين بالله وبرسوله، وهم "الطيبون"، كما سماهم جل ثناؤه. فميَّز جل ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته، وأنزل أهل الكفر نارَه. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16067 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،   (1) انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف ص: 165، تعليق: 3، 4، والمراجع هناك. = وتفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 534 عن علي، عن ابن عباس قوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب" فميَّز أهل السعادة من أهل الشقاوة. 16068 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر المشركين، وما يصنع بهم يوم القيامة، فقال: "ليميز الله الخبيث من الطيب"، يقول: يميز المؤمن من الكاف، فيجعل الخبيث بعضه على بعض. * * * ويعني جل ثناؤه بقوله: "فيجعل الخبيث بعضه على بعض"، فيحمل الكفار بعضهم فوق بعض = "فيركمه جميعا"، يقول: فيجعلهم ركامًا، وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا، كما قال جل ثناؤه في صفة السحاب: ((ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)) [سورة النور: 43] ، أي مجتمعًا كثيفًا، وكما:- 16069 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "فيركمه جميعًا"، قال: فيجمعه جميعًا بعضه على بعض. * * * وقوله: "فيجعله في جهنم" يقول: فيجعل الخبيث جميعًا في جهنم= فوحَّد الخبر عنهم لتوحيد قوله: "ليميز الله الخبيث"، ثم قال: "أولئك هم الخاسرون"، فجمع، ولم يقل: "ذلك هو الخاسر"، فردَّه إلى أول الخبر. ويعني ب "أولئك"، الذين كفروا، وتأويله: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله "هم الخاسرون"، ويعني بقوله: "الخاسرون" الذين غُبنت صفقتهم، وخسرت تجارتهم. (1) وذلك أنهم شَرَوْا بأموالهم عذابَ الله في الآخرة، وتعجَّلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به، الخزيَ والذلَّ. * * *   (1) انظر تفسير " خسر " فيما سلف 12: 579، تعليق: 2،المراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 535 القول في تأويل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (38) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل"، يا محمد، "للذين كفروا"، من مشركي قومك= "إن ينتهوا"، عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله، وقتالك وقتال المؤمنين، فينيبوا إلى الإيمان (1) = يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم (2) = "وإن يعودوا"، يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر= فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون الخالية، (3) إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال عاجل النِّقَم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك، مثل الذي أحللت بهم. (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16070- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "فقد مضت سنة الأولين"، في قريش يوم بدر، وغيرها من الأمم قبل ذلك. 16071 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.   (1) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف: 455، تعليق: 1 والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " سلف " فيما سلف 6: 14 \ 8: 138، 150 \ 11: 48. (3) انظر تفسير " سنة " فيما سلف 7: 228 \ 8: 209. (4) في المطبوعة: " اللذين أحلت بهم "، وفي المخطوطة سيئة الكتابة، صوابها ما أثبت. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 536 16072 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 16073 - حدثني ابن وكيع قال، (1) حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فقد مضت سنة الأولين"، قال: في قريش وغيرها من الأمم قبل ذلك. 16074 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال في قوله: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا" لحربك= "فقد مضت سنة الأولين"، أي: من قُتل منهم يوم بدر. (2) 16075 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإن يعودوا"، لقتالك= "فقد مضت سنة الأولين"، من أهل بدر. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: وإن يعد هؤلاء لحربك، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض= وهو "الفتنة" (3) = "ويكون الدين   (1) في المطبوعة: " حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن وكيع ... "، وهو خطأ ظاهر، وصوابه من المخطوطة. (2) الأثر: 16074 - سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16064. (3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف: 486، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 537 كله لله"، يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصةً دون غيره. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16076 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يعني: حتى لا يكون شرك. 16077 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: "الفتنة"، الشرك. 16078 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يقول: قاتلوهم حتى لا يكون شرك= "ويكون الدين كله لله"، حتى يقال: "لا إله إلا الله"، عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإليها دَعا. 16079 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون شرك. 16080 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون بلاء.   (1) وتفسير " الدين " فيما سلف 1: 155، 156 \ 6:273 - 275، وغيرها في فهارس اللغة (دين) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 538 16081 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله"، أي: لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويُخلع ما دونه من الأنداد. (1) 16082 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون كفر= "ويكون الدين كله لله"، لا يكون مع دينكم كفر. 16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: "سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، أن الله أعطاه النبوة، فنعم النبيُّ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة، وأحيانَا على ملته، وأماتنا عليها، وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم إليه، (2) وكادوا   (1) الأثر: 16081 - هذا نص ابن هشام في سيرته، من روايته عن ابن إسحاق، فأنا أكاد أقطع أن هذا الخبر ملفق من خبرين: أولهما هذا الإسناد الأول، سقط نص خبره. والآخر إسناد أبي جعفر إلى ابن إسحاق، وهو هذا، حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:.. "، ثم هذا السياق الذي هنا، وهو نص ما في ابن هشام. انظر سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف رقم: 12074. (2) في المطبوعة: " لم ينفروا منه " غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 539 يسمعون له، (1) حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش، لهم أموال، أنكر ذلك ناسٌ، واشتدّوا عليه، (2) وكرهوا ما قال، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس فتركوه، (3) إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدّر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنةً شديدة الزلزال (4) ، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم. فلما فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له "النجاشي"، لا يُظلم أحد بأرضه، (5) وكان يُثْنَى عليه مع ذلك [صلاح] ، (6) وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يَتْجَرون فيها، ومساكن لتِجَارهم (7) يجدون فيها رَفاغًا من الرزق وأمنًا ومَتْجَرًا حسنًا، (8) فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قُهِروا بمكة، وخاف عليهم الفتن. (9) ومكث هو فلم يبرح. فمكث ذلك سنوات يشتدُّون على من أسلم منهم. (10) ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومَنَعتهم. (11) فلما رأوا ذلك، استرخوْا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. (12) وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الحبشة، مخافتَها، وفرارًا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال. فلما استُرْخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم، تُحُدِّث باسترخائهم عنهم. (13) فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قد استُرْخِيَ عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون. فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها، (14) وجعلوا يزدادون، ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة الإسلام، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فلما رأت ذلك قريش ذلك، تذامرَتْ على أن يفتنوهم ويشتدّوا عليهم، (15) فأخذوهم، وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جَهْدٌ شديد. وكانت الفتنة الآخرة. فكانت ثنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها= وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا، (16) رؤوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج، فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم على أنّا منك وأنت منا، (17) وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو، وهي التي أنزل الله فيها: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله". (18) 16084 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير: أنه كتب إلى الوليد: "أما بعد، فإنك كتبتَ إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وعندي،   (1) في المطبوعة: " وكانوا يسمعون "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق للتاريخ. (2) في المطبوعة: " أنكر ذلك عليه ناس "، زاد " عليه "، وفي التاريخ: " أنكروا ذلك عليه "، ليس فيه " ناس ". (3) في المطبوعة: " فانعطف عنه "، غير ما في المخطوطة عبثًا، وهو مطابق لما في التاريخ و " انصفق عنه الناس "، رجعوا وانصرفوا. و " انصفقوا عليه ": أطبقوا واجتمعوا، أصله من " الصفقة "، وهو الاجتماع على الشيء. وإنما غير المعنى استعمال الحرف، في الأول " عنه "، وفي الأخرى " عليه ". وهذا من محاسن العربية. (4) في المخطوطة: " شدودة الزلزال "، وهو سهو من الناسخ. (5) في المخطوطة: " لا يظلم بأرضه "، وصححها لناشر وتصحيحه مطابق لما في التاريخ. (6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري. (7) قوله: " ومساكن لتجارهم "، ليست في التاريخ، وفي المطبوعة: " لتجارتهم "، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وابن كثير. (8) في المطبوعة: " رتاعًا من الرزق "، خالف المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وهي مطابقة لما في التاريخ. و " الرفاغ " مصدر " رفغ " (بفتح فضم) ، وهو قياس العربية، والذي في المعاجم " رفاغة ". يقال: " إنه لفي رفاغة من العيش "، و " رفاغية " (على وزن: ثمانية) : سعة من العيش وطيب وخصب. و " عيش رافغ ". (9) في المطبوعة والمخطوطة: " وخافوا عليهم الفتن "، والجيد ما أثبته من التاريخ. (10) في التاريخ: " فمكث بذلك سنوات "، وهي أجود. (11) إلى هذا الموضع، انتهي ما رواه أبو جعفر في تاريخه 2: 220، 221، إلا أنه لم يذكر في ختام الجملة " ومنعتهم ". وقوله: " ومنعتهم " (بفتحات) ، جمع " مانع "، مثل " كافر " و " كفرة "، وهم الذين يمنعون من يرديهم بسوء. وانظر تخريج الخبر في آخر هذا الأثر. (12) " الاسترخاء "، السعة والسهولة. " استرخوا عنهم "، أرخوا عنهم شدة العذاب والفتنة. (13) في المطبوعة: " تحدث بهذا الاسترخاء عنهم "، وفي المخطوطة هكذا: " تحددوا استرخائهم عنهم "، وأثبت الصواب من تفسير ابن كثير. (14) من أول قوله: " فلما رأوا ذلك استرخوا ... "، إلى هذا الموضع، لم يذكره أبو جعفر في تاريخه، ثم يروي ما بعده، كما سأبينه بعد في التعليق. (15) في المطبوعة والمخطوطة: " توامرت على أن يفتنوهم "، وأثبت ما في التاريخ. أما ابن كثير في تفسيره فنقل: " توامروا على أن يفتنوهم ". وفي المطبوعة وحدها: " ويشدوا عليهم "، وأثبت ما في التاريخ وابن كثير. و" تذامر القوم "، حرض بعضهم بعضًا وحثه على قتال أو غيره. و " ذمر حزبه تذميرًا "، شجعه وحثه، مع لوم واستبطاء. (16) في المطبوعة: " سبعون نفسًا "، وفي المخطوطة؛ " سبعين نفسًا "، غير منقوطة، والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري، وتفسير ابن كثير. (17) في المطبوعة والمخطوطة: " وأعطوه على أنا منك.. "، سقط من الكلام " عهودهم "، أثبتها من التاريخ، وفي تفسير ابن كثير " وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ". (18) الأثر: 16083 - " أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد العطار "، وقد سلف شرح هذا الإسناد: 15719، 15821، وغيرهما إسناد صحيح. وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان قد رواه أبو جعفر مفرقًا في تفسيره، وفي تاريخه، فما رواه في تفسيره آنفًا رقم: 15719، 15821 أما في تاريخه، فقد رواه مفرقًا في مواضع، هذه هي 2: 220، 221، 240، 241، 245، 267 - 269 \ ثم 3: 117، 125، 132، وعسى أن أستطيع أن ألم شتات هذا الكتاب من التفسير والتاريخ، حتى أخرج منه كتاب عروة إلى عبد الملك كاملا، فهو من أوائل الكتب التي كتبت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الخبر نفسه، مفرق في موضعين من التاريخ 2: 220، 221 كما أشرت إليه في ص: 443 تعليق: 1 \ ثم 2: 240، 241. ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من التفسير في تفسيره 4: 61، 62. ثم انظر التعليق على الأثر التالي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 540 بحمد الله، من ذلك علم بكل ما كتبتَ تسألني عنه، وسأخبرك إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم ذكر نحوه. (1) 16085- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن مجاهد: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: "يَسَاف" و"نائلة"، صنمان كانا يعبدان. (2) * * * وأما قوله: "فإن انتهوا"، فإن معناه: فإن انتهوا عن الفتنة، وهي الشرك بالله، وصارُوا إلى الدين الحق معكم (3) = "فإن الله بما يعملون بصير"، يقول: فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام، (4) لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم، (5) والأشياء كلها متجلية له، لا تغيب عنه، ولا   (1) الأثر: 16084 - " عبد الرحمن بن أبي الزناد "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله ابن ذكوان "، مضى برقم: 1695، 9225، وقال أخي السيد أحمد أنه ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة. ثم قال: وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في السنن 3: 59: " هو ثقة حافظ ". وممن ضعف " عبد الرحمن بن أبي الزناد " ابن معين قال: " ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث،ليس بشيء ". وقال أحمد: " مضطرب الحديث "، وقال ابن المديني " كان عند أصحابنا ضعيفًا "، وقال ابن المديني: " ما حدث به بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون ". وقال ابن سعد: " كان كثير الحديث، وكان يضعف لروايته عن أبيه ". وأبوه " عبد الله بن ذكوان "، أبو الزناد، ثقة، روى له الجماعة. وقد روى " عبد الرحمن بن أبي الزناد "، أن الذي كتب إليه عروة، هو " الوليد بن عبد الملك ابن مروان "، والإسناد السالف أصح واوثق، أنه كتب إلى " عبد الملك بن مروان "، فأنا أخشى أن يكون هذا الخبر مما اضطربت فيه رواية " ابن أبي الزناد "، عن أبيه. (2) " إساف " (بكسر اللف وفتحها) و " يساف " (بكسر الياء وفتحها) ، واحد. وقد مضى ذلك في الخبر: 10433، والتعليق عليه 9: 208، تعليق: 1. وكان في المخطوطة هنا: " ساف ونافلة "، وهو خطأ محض. (3) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف ص: 536، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) . (5) في المطبوعة: " يبصركم "، والصواب من المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 543 يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. * * * وقد قال بعضهم: معنى ذلك، فإن انتهوا عن القتال. * * * قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب، لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال، فإنه كان فرضًا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا. القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن أدبر هؤلاء المشركون عما دعوتموهم إليه، أيها المؤمنون من الإيمان بالله ورسوله، وترك قتالكم على كفرهم، فأبوا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم، فقاتلوهم، وأيقنوا أنّ الله معينكم عليهم وناصركم (1) = "نعم المولى"، هو لكم، يقول: نعم المعين لكم ولأوليائه (2) = "ونعم النصير"، وهو الناصر. (3) * * * 16086 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وإن تولوا"، عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم، فإن الله هو مولاكم الذي أعزكم   (1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف (9: 141) تعليق: ... ، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " المولى " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (3) انظر تفسير " النصير " فيما سلف 10: 481، تعليق: 5، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 544 ونصركم عليهم يوم بدر، في كثرة عددهم وقلة عددكم= "نعم المولى ونعم النصير". (1) * * *   (1) الأثر: 18086 - سيرة ابن هشام 2: 327، مع اختلاف يسير في سياقه، وهو تابع الأثريين السالفين: 16074، 16081، وانظر التعليق على هذا الأثر الأخير، وما استظهرته هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 545 القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل المؤمنين قَسْمَ غنائمهم إذا غنموها. يقول تعالى ذكره: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ما غنمتم من غنيمة. * * * واختلف أهل العلم في معنى "الغنيمة" و"الفيء". فقال بعضهم: فيهما معنيان، كل واحد منهما غير صاحبه. * ذكر من قال ذلك: 16087 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح قال: سألت عطاء بن السائب عن هذه الآية: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، وهذه الآية: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)) [سورة الحشر: 7] ، قال قلت: ما "الفيء"، وما "الغنيمة"؟ قال: إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم، وأخذوهم عنوةً، فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو "غنيمة"، وأما الأرض فهو في سوادنا هذا "فيء". (1) * * * وقال آخرون: "الغنيمة"، ما أخذ عنوة، و"الفيء"، ما كان عن صلح. * ذكر من قال ذلك: 16088 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان الثوري قال:   (1) في المطبوعة: " فهي في سوادنا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مستقيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 545 "الغنيمة"، ما أصاب المسلمون عنوة بقتال، فيه الخمس، وأربعة أخماسه لمن شهدها. و"الفيء"، ما صولحوا عليه بغير قتال، وليس فيه خمس، هو لمن سمَّى الله. * * * وقال آخرون: "الغنيمة" و"الفيء"، بمعنى واحد. وقالوا: هذه الآية التي في "الأنفال"، ناسخة قوله: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) الآية، [سورة الحشر: 7] . * ذكر من قال ذلك: 16089 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ، قال: كان الفيء في هؤلاء، ثم نسخ ذلك في "سورة الأنفال"، فقال: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فنسخت هذه ما كان قبلها في "سورة الأنفال"، (1) وجعل الخمس لمن كان له الفيء في "سورة الحشر"، وسائر ذلك لمن قاتل عليه. (2) * * * وقد بينا فيما مضى "الغنيمة"، وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله مالَه أهلَ دينه، بغلبة عليه وقهرٍ بقتال. (3) * * * فأما "الفيء"، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك، وهو   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " ما كان قبلها في سورة الحشر "، وسيأتي على الصواب كما أثبته في تفسير " سورة الحشر " 28: 25 (بولاق) ، ويعني بذلك أنها نسخت قوله في أول سورة الأنفال: " يسألونك عن الأنفال ". (2) الأثر: 16089 - سيأتي هذا الخبر مطولا في تفسير " سورة الحشر " 28: 25، 26 (بولاق) . (3) انظر تفسير " الغنيمة " فيما سلف في تفسير " النفل " ص: 361 - 385. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 546 ما ردّه عليهم منها بصلح، من غير إيجاف خيل ولا ركاب. وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم "فيئًا"، لأن "الفيء"، إنما هو مصدر من قول القائل: "فاء الشيء يفيء فيئًا"، إذا رجع= و"أفاءه الله"، إذا ردّه. (1) غير أن الذي ردّ حكم الله فيه من الفيء بحكمه في "سورة الحشر"، (2) إنما هو ما وصفت صفته من الفيء، دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب، لعلل قد بينتها في كتاب: (كتاب لطيف القول، في أحكام شرائع الدين) ، وسنبينه أيضًا في تفسير "سورة الحشر"، إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. (3) * * * وأما قول من قال: الآية التي في "سورة الأنفال"، ناسخةٌ الآيةَ التي في "سورة الحشر"، فلا معنى له، إذ كان لا معنى في إحدى الآيتين ينفي حكم الأخرى. وقد بينا معنى "النسخ"، وهو نفي حكم قد ثبت بحكمٍ خلافه، في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) * * * وأما قوله: "من شيء"، فإنه مرادٌ به: كل ما وقع عليه اسم "شيء"، مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين، مما وقع فيه القَسْم، حتى الخيط والمِخْيط، (5) كما:- 16090 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا   (1) انظر تفسير " فاء " فيما سلف 4: 465، 466. (2) في المطبوعة: " ... الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر "، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام إفسادًا تامًا. (3) انظر ما سيأتي 28: 24 - 27 (بولاق) . (4) انظر مقالته في " النسخ " في فهارس النحو والعربية وغيرهما، وفي مواضع فيها مراجع ذلك كله في كتابه هذا. (5) " المخيط "، الإبرة، وهو ما خيط به. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 547 سفيان، عن ليث، عن مجاهد قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء"، قال: المخيط من "الشيء". 16091- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد بمثله. 16092- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. * * * القول في تأويل قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم قوله: "فأن لله خمسه"، مفتاحُ كلامٍ، (1) ولله الدنيا والآخرة وما فيهما، وإنما معنى الكلام: فإن للرسول خمسه. * ذكر من قال ذلك: 16093 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. 16094- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد عن قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. (2)   (1) يعني أنه افتتاح بذكر الله تعالى ذكره، وانظر ما سلف 6: 272، تعليق: 5. (2) الأثران: 16093، 16094 - " الحسن بن محمد "، هو " الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب "، وهو " الحسن بن محمد بن الحنيفة "، وهو الذي يروي عنه " قيس بن مسلم "، لا يعني " الحسن البصري ". وهذا الخبر رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: 14، 326، 330، رقم: 39، 836، 846 وسيأتي مطولا برقم: 16121. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 548 16095- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا أبو شهاب، عن ورقاء، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا، خمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة. ثم قرأ: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول". قال: وقوله: "فأن لله خمسه"، مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل الله سهم الله وسهم الرسول واحدًا. (1) 16096- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: "فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء. 16097 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء، وخُمس لله ورسوله، ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم. 16098 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماس لمن قاتل   (1) الأثر: 16095 - " أحمد بن يونس "، هو " أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي "، مضى برقم: 2144، 2362، 5080. و" أبو شهاب "، هو " عبد ربه بن نافع الكناني "، الحناط، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 42. و" ورقاء "، هو " ورقاء بن عمرو اليشكري "، مضى برقم: 6534. و" نهشل "، هو " نهشل بن سعيد بن وردان النيسابوري "، ليس بثقة، وقال أبو حاتم: " ليس بقوي، متروك الحديث، ضعيف الحديث "، وقال ابن حبان: " يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب ". وقال البخاري: " أحاديثه مناكير، قال إسحاق بن إبراهيم: ككان نهشل كذابًا ". مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 115، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 496، وميزان الاعتدال 3: 243. وانظر الخبر رقم: 16120. وكان في المطبوعة: " فجعل سهم الله "، غير ما في المخطوطة وحذف، فأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 549 عليها، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس، فخمس لله والرسول. 16099 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا أبان، عن الحسن قال: أوصى أبو بكر رحمه الله بالخمس من ماله، وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه. 16100 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول"، قال: خمس الله وخمس رسوله واحد. كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضع فيه ما شاء. (1) 16101- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: كل شيء لله، الخمس للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول. * ذكر من قال ذلك: 16102 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع بن الجراح، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤتَى بالغنيمة، فيقسمها على خمسة، تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة، وهو سهم الله. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم   (1) في المطبوعة: " ويصنع فيه "، وأثبت ما في المخطوطة. وقد قرأت في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، في خبر آخر: " يحمل منه ويعطي، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء " ص 14، 326، رقم: 40، 837. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 550 للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. 16103- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، إلى آخر الآية، قال: فكان يُجَاء بالغنيمة فتوضع، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم، فيجعل أربعة بين الناس، ويأخذ سهمًا، ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم، فما قَبَضَ عليه من شيء جعله للكعبة، فهو الذي سُمِّي لله، ويقول: "لا تجعلوا لله نصيبًا، فإن لله الدنيا والآخرة، ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. (1) * * * وقال آخرون: ما سُمِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فإنما هو مرادٌ به قرابته، وليس لله ولا لرسوله منه شيء. * ذكر من قال ذلك: 16104 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس، فأربعة منها لمن قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: فربع لله والرسول ولذي القربى = يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم = فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل. (2) * * *   (1) الأثران: 16102، 16013 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال، من طريق حجاج، عن أبي جعفر الرازي، بمثل لفظ الأول. كتاب الأموال: 14، 325، رقم 400، 835. (2) الأثر: 16104 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، بهذا الإسناد نفسه، وبلفظه، في كتاب الأموال ص: 13، 325، رقم: 37، 834، وفي آخره تفسير " ابن السبيل "، قال: " وهو الضعيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين ". وانظر ما سيأتي رقم: 16124، 16129. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 551 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: قوله: "فأن لله خمسه"، "افتتاح كلام"، وذلك لإجماع الحجة على أنّ الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم، ولو كان لله فيه سهم، كما قال أبو العالية، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسومًا على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها، فأما على أكثر من ذلك، فما لا نعلم قائلا قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية. وفي إجماع من ذكرت، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما اخترنا. * * * فأما من قال: "سهم الرسول لذوي القربى"، فقد أوجب للرسول سهمًا، وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم، وقد:- 16105 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، الآية، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسًا، فكان خمس لله ولرسوله، ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جُعل لله ولرسوله، لرسوله ولذوي القربى واليتامى وللمساكين وابن السبيل (1) فكان هذا الخمس خمسة أخماس: خمس لله ورسوله، وخمس لذوي القربى. وخمس لليتامى، وخمس للمساكين. وخمس لابن السبيل.   (1) في المخطوطة خطأ، أسقط " لرسوله " الثانية، والكلام يقتضيها كما في المطبوعة، وعلى هامش المخطوطة حرف " أ " عليها ثلاث نقط، دلالة على موضع السقط. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 552 16106 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هو خُمْس الخمس. (1) 16107- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، وجرير عن موسى بن أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله. 16108 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله. 16109 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فأن لله خمسه"، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس، والخمس الباقي لله والرسول، خمسه يضعه حيث رأى، وخمسه لذوي القربى، وخمسه لليتامى، وخمسة للمساكين، ولابن السبيل خمسه. * * * وأما قوله: "ولذي القربى"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم. فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم. * ذكر من قال ذلك: 16110 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد قال: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس. 16111- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهلُ   (1) الأثر: 16106 - " موسى بن أبي عائشة المخزومي "، روى له الجماعة، مضى برقم: 11408. و" يحيى بن الجزار العرفي "، ثقة، مضى برقم: 5425. وكان في المخطوطة: " يحيى الجزار "، والصواب ما في المطبوعة، ولكنه يأتي في الذي يليه في المخطوطة على الصواب. ورواه أبو عبيد في الأموال ص: 13، رقم: 34، 35، وص: 324، رقم: 831، 832. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 553 بيته لا يأكلون الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس. 16112 - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن خصيف، عن مجاهد قال: قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء، فجعل لهم الخمس مكانَ الصدقة. 16113 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا إسماعيل بن أبان قال، حدثنا الصباح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم قال، قال علي بن الحسين، رحمة الله عليه، لرجل من أهل الشأم: أما قرأت في "الأنفال": "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول" الآية؟ قال: نعم! قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم! (1) 16114 - حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد قال: هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة. 16115 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن نَجْدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى، فكتب إليه كتابًا: "نزعم أنا نحن هم، فأبى ذلك علينا قومنا". (2)   (1) الأثر: 16113 - " إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي "، ثقة، صدوق في الرواية، قال البزار: " إنما كان عيبه شدة تشيعه، لا أنه غير عليه في السماع "، وإما "إسماعيل بن أبان الغنوي "، فهو كذاب، ومضى إسماعيل الوراق برقم: 14550. وأمَّا " صباح بن يحيى المزني "، فهو شيعي أيضُا، متروك، بل متهم، هكذا قال الحافظ ابن حجر والذهبي. وذكره البخاري، فقال: " فيه نظر "، وقال أبو حاتم: " شيخ ". مترجم في لسان الميزان 3: 160، والكبير 2 \ 2 \ 315، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 442، وميزان الاعتدال 1: 462. وأمَّا " أبو الديلم "، فلم أعرف من يكون، وهكذا أثبته من المخطوطة، وهو في لمطبوعة: " عن ابن الديلمي "، يعني " عبد الله بن فيروز الديلمي "، التابعي الثقة، ولا أظن أنه يروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهذا إسناد هالك كما ترى. (2) الأثر: 16115 - " نجدة ابن عويمر الحروري "، من رؤوس الخوارج. وكتاب ابن عباس إلى نجدة، رواه أبو عبيدة في كتاب الأموال من طرق ص: 332 - 335، رقم: 850 - 852، وانظر ما سيأتي رقم: 16117. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 554 16116- ... قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فأن لله خمسه"، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس، والخمس الباقي لله، وللرسول، خمسه يضعه حيث رأى، وخمسٌ لذوي القربى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، ولابن السبيل خمسه. * * * وقال آخرون: بل هم قريش كلها. * ذكر من قال ذلك: 16117 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني عبد الله بن نافع، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري قال: كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى قال: فكتب إليه ابن عباس: "قد كنا نقول: إنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى". (1) * * * وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده. * ذكر من قال ذلك: 16118- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا، (2) فلما توفي جُعل لوليّ الأمر من بعده. * * * وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم وبني المطلب خاصةً.   (1) الأثر: 11617 - انظر التعليق السالف، من طريق أبي معشر، رواه أبو عبيد رقم: 850، مطولا، بنحوه. (2) " الطعمة " (بضم الطاء) : الرزق والمأكلة، يعني به الفيء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 555 وممن قال ذلك الشافعي، وكانت علته في ذلك ما: 16119 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم قال: لما قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان رحمة الله عليه، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد! ثم شبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: "سهم ذي القربى، كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب"، لأنّ حليف القوم منهم، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين= أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم ذي القربى= بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: يُصرفان في معونة الإسلام وأهله. * ذكر من قال ذلك: 16120 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا أبو شهاب، عن ورقاء، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: جُعل   (1) الأثر: 16119 - رواه الشافعي في الأم من طرق، منها طريق محمد بن إسحاق، انظر الأم: 4: 71، ورواه أبو داود في سننه 3: 201، رقم: 2980، وأبو عبيد القاسم ابن سلام في الأموال: 331، رقم: 842. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 556 سهم الله وسهم الرسول واحدًا، ولذي القربى، فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح. وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، لا يُعْطَى غيرَهم. (1) 16121- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال قائلون: سهم النبي صلى الله عليه وسلم، لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم = وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة= واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. 16122 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد، فذكر نحوه. (2) 16123 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكُرَاع والسلاح. (3) فقلت لإبراهيم: ما كان علي رضي الله عنه يقول فيه؟ قال: كان عليٌّ أشدَّهم فيه. 16124 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين" الآية، قال ابن عباس: فكانت   (1) الأثر: 16120 - هذا مطول الأثر السالف ومختصره رقم: 16095، وقد شرحت إسناده هناك. (2) الأثران: 16121، 16122 - " الحسن بن محمد بن الحنفية "، وقد سلف شرح إسناد هذا الخبر، كما سلف مختصرًا برقم: 16093، 16094. (3) " الكراع " (بضم الكاف) . اسم يجمع الخيل والسلاح. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 557 الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: أربعة بين من قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: لله وللرسول ولذي القربى= يعني: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم = فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيبَ القرابة في المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقا. (1) 16125- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تُوُفي، حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله، صدقةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) * * * وقال آخرون: سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ولي أمر المسلمين. * ذكر من قال ذلك: 16126 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عمرو بن ثابت، عن عمران بن ظبيان، عن حُكَيم بن سعد، عن علي رضي الله عنه قال: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس، ويلي الإمام سهم الله ورسوله. (3)   (1) الأثر: 16124 - مضى قبل صدره برقم: 16104، ومضى تخريجه هناك، وانظر أيضًا من تمامه رقم: 16129. (2) الأثر: 16125 - انظر ما سلف رقم: 16118، وما سيأتي 16127. (3) الأثر: 16126 - " عمران بن ظبيان الحنفي "، فيه نظر، كان يميل إلى التشيع، وضعفه العقيلي، وابن عدي، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 300، مضى برقم: 12100. و" حكيم بن سعد الحنفي "، " أبو تحيى "، محله الصدق. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 87، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286. و" حكيم "، بضم الحاء، مصغرًا. و " تحيي " بكسر التاء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 558 16127 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذوي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا، فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده. (1) * * * وقال آخرون: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وذلك قول جماعة من أهل العراق. وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 16128 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الغفار قال، حدثنا المنهال بن عمرو قال: سألت عبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعلي: إن الله يقول: "واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فقالا يتامانَا ومساكيننا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردودٌ في الخمس، والخمس مقسوم على أربعة أسهم، على ما روي عن ابن عباس: للقرابة سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، لأن الله أوجبَ الخمس لأقوام موصوفين بصفات، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين. وقد أجمعوا أنّ حق الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم. فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه، إلى غير أهل السهمان الأخَر. * * *   (1) الأثر: 16127 - مضى بلفظه، برقم: 16118، وانظر ما سلف: 16125. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 559 وأما "اليتامى"، فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم. (1) و"المساكين"، هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. (2) و"ابن السبيل"، المجتاز سفرًا قد انقُطِع به، (3) كما:- 16129 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الخمس الرابع لابن السبيل، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. (4) * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون، أنما غنمتم من شيء فمقسوم القسم الذي بينته، وصدِّقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فَرَق بين الحق والباطل ببدر، (5) فأبان فَلَج المؤمنين وظهورَهم على عدوهم، وذلك "يوم التقى الجمعان"، جمعُ المؤمنين وجمعُ المشركين، والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين، وعلى غير ذلك مما يشاء = "قدير"، لا يمتنع عليه شيء أراده. (6) * * *   (1) انظر تفسير " اليتامى " فيما سلف 7: 541، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " المساكين " فيما سلف 10: 544، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " ابن السبيل " فيما سلف 8: 346، 347، تعليق: 1، والمراجع هناك. وقوله: " انقطع به " بالبناء للمجهول، وهو إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت، أو عطبت راحلته، أو فنى زاده. (4) الأثر: 16129 - انظر ما سلف رقم: 16104، 16124، والتعليق عليهما. (5) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف ص: 487، تعليق: 2، والمراجع هناك. (6) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 560 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16130 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان"، يعني: ب"الفرقان"، يوم بدر، فرَق الله فيه بين الحق والباطل. 16131 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (1) 16132 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير= وإسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير= يزيد أحدهما على صاحبه= في قوله: "يوم الفرقان"، يوم فرق الله بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رأسَ المشركين عُتبةُ بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمئة. فهزم الله يومئذ المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك. 16132م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن مقسم: "يوم الفرقان"، قال: يوم بدر، فرق الله بين الحق والباطل. 16133- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عثمان الجزري، عن مقسم في قوله: "يوم الفرقان"، قال: يوم   (1) الأثر: 16131 - انظر هذا الخبر بنصه فيما سلف رقم: 125. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 561 بدر، فرق الله بين الحق والباطل. (1) 16134 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" يوم بدر، و"بدر"، بين المدينة ومكة. 16135 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثني يحيى بن يعقوب أبو طالب، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عبد الله بن حبيب قال: قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت ليلة "الفرقان يوم التقى الجمعان"، لسبع عشرة من شهر رمضان. (2) 16136 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "يوم التقى الجمعان"، قال ابن جريج، قال ابن كثير: يوم بدر. 16137 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان"، أي: يوم فرقت بين الحق والباطل بقدرتي، (3) يوم التقى الجمعان منكم ومنهم. (4)   (1) (1) الأثر: 16133 " عثمان الجزري "، مضى برقم: 15968، وأنه غير " عثمان ابن عمرو بن ساج ". وأحاديثه مناكير. (2) الأثر: 16135 - " يحيى بن يعقوب بن مدرك الأنصاري "، أبو طالب القاص، مترجم في الكبير 4 \ 2 \ 312، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 198، ولسان الميزان 6: 282، وميزان الاعتدال 3: 306، قال البخاري: " منكر الحديث "، وقال أبو حاتم: " محله الصدق، لم يرو شيئا منكرًا، وهو ثقة في الحديث، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء "، قال ابن أبي حاتم: " فسمعت أبي يقول: يحول من هناك ". و" أبو عون "، " محمد بن عبيد الله الثقفي "، مضى مرارًا آخرها رقم: 15925، وكان في المطبوعة: " عن ابن عون، عن محمد بن عبد الله الثقفي "، فأفسد الإسناد كل الإفساد، وكان في المخطوطة: " عن ابن عون، محمد بن عبيد الله الثقفي "، وهو خطأ هين، صوابه ما أثبت. (3) في المطبوعة: " أي: يوم فرق بين الحق والباطل ببدر، أي: يوم التقى الجمعان "، لعب بما في المخطوطة لعبًا، فأساء وجانب الأمانة. ولم يكن في المخطوطة من خطأ إلا أنه كتب " فرق " مكان " فرقت ". والذي أثبته نص المخطوطة، وسيرة ابن هشام. (4) الأثر: 16137 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16086. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 562 16138 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان"، وذاكم يوم بدر، يوم فرق الله بين الحق والباطل. * * * القول في تأويل قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا، أيها المؤمنون، واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بيَّنه لكم ربكم، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر، إذ فرق بين الحق والباطل من نصر رسوله= "إذ أنتم"، حينئذ، "بالعدوة الدنيا"، يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة (1) = "وهم بالعدوة القصوى"، يقول: وعدوكم من المشركين نزولٌ بشَفير الوادي الأقصى إلى مكة= "والركب أسفل منكم"، يقول: والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16139 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا"، قال: شفير الوادي الأدنى، وهم بشفير الوادي الأقصى= "والركب أسفل منكم"، قال: أبو سفيان وأصحابه، أسفلَ منهم.   (1) " شفير الوادي ": ناحية من أعلاه، وهو حده وحرفه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 563 16140- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، وهما شفير الوادي. كان نبيُّ الله بأعلى الوادي، والمشركون أسفلَه = "والركب أسفل منكم"، يعني: أبا سفيان، [انحدر بالعير على حوزته] ، (1) حتى قدم بها مكة. 16141 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، من الوادي إلى مكة= "والركب أسفل منكم"، أي: عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها، عن غير ميعاد منكم ولا منهم. (2) 16142 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "والركب أسفل منكم"، قال: أبو سفيان وأصحابه، مقبلون من الشأم تجارًا، لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه، حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم كلهم. (3) فاقتتلوا، (4) فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم. 16143- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 16144- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.   (1) هكذا كتب هذه الجملة بين القوسين ناشر المطبوعة، ولا أدري ما هو. والذي في المخطوطة: " انخدم بالعير على حورمة " هكذا، ولم أستطع أن أجد لقراءتها وجهًا اطمئن غليه، ولم أجد الخبر في مكان آخر. (2) الأثر: 16141 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16137. (3) (3) في المطبوعة: " حتى التقيا "، وأثبت ما في المخطوطة. (4) " فاقتتلوا "، مكررة في المخطوطة مرتين، وأنا في ريب من هذه الجملة كلها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 564 16145 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر منازل القوم والعير فقال: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، والركب: هو أبو سفيان (1) = "أسفل منكم"، على شاطئ البحر. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إذ أنتم بالعدوة". فقرأ ذلك عامة قرأة المدنيين والكوفيين: (بِالعُدْوَةِ) ، بضم العين. * * * وقرأه بعض المكيين والبصريين: (بِالعِدْوَةِ) ، بكسر العين. * * * قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ، يُنْشَد بيت الراعي: وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا كَمَا نَظَرَ العِدْوَةَ الجُؤْذَرُ (2) بكسر العين من "العدوة"، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر: وَفَارِس لَوْ تَحُلُّ الخَيْلُ عِدْوَتَهُ وَلَّوْا سِرَاعًا، وَمَا هَمُّوا بِإقْبَالِ (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه، أنتم أيها المؤمنون وعدوكم من المشركين، عن ميعاد منكم ومنهم، = "لاختلفتم في الميعاد"، لكثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم، ولكن الله جمعكم   (1) في المطبوعة: " أبو سفيان وعيره "، زاد ما ليس في المخطوطة. (2) لم أجد البيت في مكان آخر، وللراعي أبيات كثيرة مفرقة على هذا الوزن، كأنه منها. (3) من قصيدته في رثاء فضالة بن كلدة الأسدي، والبيت في منتهى الطلب، وليس في ديوانه، يقول قبله: أمْ مَلِعَادِيَةٍ تردِي مُلَمْلَمَةٍ ... كأنَّهَا عَارِضٌ في هَضْبِ أوْعالِ لَهَا لَمَّا رأوك عَلَى نَهْدٍ مَرَاكِلُهُ ... يَسْعَى بِبزِّ كَمِيٍّ غَيْرِ مِعْزَالِ وَفَارِسٍ لا يَحُلُّ القَوْمُ عُدْوَتَهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذه أجود من روايته " لو تحل "، فالنفي هنا حق الكلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 565 على غير ميعاد بينكم وبينهم (1) = "ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، وذلك القضاء من الله، (2) كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر، كما:- 16146 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد"، ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم، ما لقيتموهم= "ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، عن غير مَلأ منكم، (3) ففعل ما أراد من ذلك بلطفه. (4) 16147 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:،أخبرني يونس بن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيَر قريش،   (1) انظر تفسير " الميعاد " فيما سلف 6: 222 (2) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف 11: 267، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: " عن غير بلاء "، وفي سيرة ابن هشام، في أصل المطبوعة مثله، وهو كلام فاسد جدًا. وفي مخطوطة الطبري، ومخطوطات ابن هشام ومطبوعة أوربا،: " عن غير ملأ "، كما أثبتها. يقال: " ما كان هذا الأمر عن ملأ منا "، أي: عن تشاور واجتماع. وفي حديث عمر حين طعن: " أكان هذا عن ملأ منكم؟ "، أي: عن مشاورة من أشرافكم وجماعتكم. ثم غير ناشر المطبوعة الكلمة التي بعدها، كتب " فعل "، مكان " ففعل ". وكل هذا عبث وذهاب ورع. (4) الأثر: 16146 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16141. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 566 حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. (1) 16148 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقت السُّقَاة. قال: ونَهَدَ الناسُ بعضهم لبعض. (2) * * *   (1) الأثر: 16147 - " " عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري "، ثقة، روى عن أبيه. وروى عنه الزهري. كان أعلم قومه وأوعاهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 249. و" عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري "، ثقة، كان قائد أبيه حين عمى، روى عن أبيه. روى. روى عنه ابنه عبد الرحمن، وروى عنه الزهري. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 142. وكان في المخطوطة: " إنما يخرج رسول الله "، وهو جيد عربي. ولكنه في المراجع " إنما خرج "، فأثبته كما في المطبوعة. وهذا الخبر جزء من خبر كعب بن مالك، الطويل في امر غزوة تبوك، وما كان من تخلفه حتى تاب الله عليه. ورواه أحمد في مسنده 3: 456، 457، 459 \ 6: 387. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 86) . ورواه مسلم في صحيحه من هذه الطريق 17: 87. (2) الأثر: 16148 - " ابن عون "، هو " عبد الله بن عون المزني "، مضى مرارًا. و" عمير بن إسحاق القرشي "، لم يرو عنه غير ابن عون، متكلم فيه. مضى برقم: 7776. وكان في المطبوعة: " عمر بن إسحاق "، لم يحسن قراءة المخطوطة. وقوله: " نهد الناس بعضهم لبعض "، نهضوا إلى القتال. يقال: " نهد القوم إلى عدوهم، ولعدوهم "، أي: صمدوا له وشرعوا في قتاله. و " نهدوا يسألونه "، أي: شرعوا ونهضوا. وكأن ناشر المطبوعة لم يفهمها أو لم يحسن قراءتها، فكتب مكان " نهد ": " نظر الناس ... "، وهذا من طول عبثه بهذا النص الجليل، حتى ألف العبث واستمر عليه واستمرأه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 567 القول في تأويل قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك، ليقضي أمرًا كان مفعولا= "ليهلك من هلك عن بينة". * * * وهذه اللام في قوله: "ليهلك" مكررة على "اللام" في قوله: "ليقضي"، كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة، جَمَعكم. * * * ويعني بقوله: "ليهلك من هلك عن بينة"، ليموت من مات من خلقه، (1) عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها (2) = "ويحيا من حي عن بينة"، يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أُثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك. * * * وقال ابن إسحاق في ذلك بما:- 16149 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليهلك من هلك عن بينة"، [أي ليكفر من كفر بعد الحجة] ، (3) لما رأى من الآية والعبرة، (4) ويؤمن من آمن على مثل ذلك. (5) * * *   (1) انظر تفسير " هلك " فيما سلف ص: 149، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " بينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) . (3) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، أضفتها من سيرة ابن هشام. (4) في المطبوعة: " من الآيات والعبر "، وفي المخطوطة: " من الآيات والعبرة "، وأثبت الصواب من سيرة ابن هشام. (5) الأثر: 16149 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16146. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 568 وأما قوله: "وإن الله لسميع عليم"، فإن معناه: "وإن الله"، أيها المؤمنون، = "لسميع"، لقولكم وقول غيركم، حين يُري الله نبيه في منامه ويريكم، عدوكم في أعينكم قليلا وهم كثير، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلا= "عليم"، بما تضمره نفوسكم، وتنطوي عليه قلوبكم، حينئذ وفي كل حال. (1) يقول جل ثناؤه لهم ولعباده: فاتقوا ربكم، (2) أيها الناس، في منطقكم: أن تنطقوا بغير حق، وفي قلوبكم: أن تعتقدوا فيها غيرَ الرُّشد، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن. * * * القول في تأويل قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن الله، يا محمد، سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدوك وعدوهم "في منامك قليلا"، يقول: يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك، حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم= ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا، لفشل أصحابك، فجبنوا وخاموا، (3) ولم يقدروا على حرب القوم، (4) ولتنازعوا في ذلك، (5) ولكن الله   (1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) . (2) في المطبوعة والمخطوطة: " واتقوا " بالواو، و " والفاء "، هنا حق الكلام. (3) في المطبوعة: " فجبنوا وخافوا "، غير ما في المخطوطة. يقال: " خام في القتال "، إذا جبن، فنكل ونكص وتراجع. (4) انظر تفسير " فشل " فيما سلف 7: 168، 289. (5) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف 7: 289 \ 8: 504. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 569 سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا، إنه عليم بما تُجنُّه الصدور، (1) لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب. (2) * * * وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، أي: في عينك التي تنام بها= فصيّر "المنام"، هو العين، كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلا. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16150 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، قال: أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فكان تثبيتًا لهم. 16151- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 16152- .... وقال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 16153 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، الآية، فكان أول ما أراه من ذلك نعمةً من نعمه عليهم، شجعهم بها على عدوهم، وكفَّ بها ما تُخُوِّف عليهم من   (1) في المطبوعة: " بما تخفيه الصدور "، غير ما في المخطوطة بلا طائل، وهما بمعنى. (2) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 7: 155، 325 \ 10: 94. (3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 247. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 570 ضعفهم، (1) لعلمه بما فيهم. (2) * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ولكن الله سلم". فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم، حتى أظهرهم على عدوهم. * ذكر من قال ذلك: 16154 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ولكن الله سلم"، يقول: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم. * ذكر من قال ذلك: 16155 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: "ولكن الله سلم"، قال: سلم أمره فيهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس، وهو أن الله سلم القومَ = بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه = من الفشل   (1) في المطبوعة: و " كفاهم بها ما تخوف ... "، وفي المخطوطة: " وكعها عنهم ما تخوف "، وصل الكلام، وأثبت نص ابن هشام. وضبطه الخشني بالبناء للمجهول. وفي السيرة، بعد تمام الكلام،: " قال ابن هشام: (تخوف) ، مبدلة من كلمة ذكرها ابن إسحاق، ولم أذكرها ". فجاء أبو ذر الخشني في تعليقه على السيرة فقال: " يقال الكلمة: (تخوف) ، بفتح التاء والخاء والواو، وقيل: كانت (تخوفت) وأصلح ذلك ابن هشام، لشناعة اللفظ في حق الله عز وجل ". وهذا لا يقال، لأن ابن هشام يصرح بأنه نسيها ولم يذكرها، فأبدل منها غيرها، فهو لم يغير ذلك إلا علة النسيان. (2) الأثر: 16153 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16149. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 571 والتنازع، حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم. وذلك أن قوله: "ولكن الله سلم" عَقِيب قوله: "ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر"، فالذي هو أولى بالخبر عنه، أنه سلمهم منه جل ثناؤه، ما كان مخوفًا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وإن الله لسميع عليم" = إذ يري الله نبيه في منامه المشركين قليلا وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلا وهم كثير عددهم، ويقلل المؤمنين في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم، كما:- 16156 - حدثني ابن بزيع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم هم؟ قال: ألفًا. (1) 16157- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بنحوه.   (1) الأثر: 16156 - " ابن بزيع البغدادي "، هو " محمد بن عبد الله بن بزيع البغدادي "، من شيوخ مسلم، مضى برقم: 2451، 3130، 10239. وكان في المطبوعة: " كنا ألفًا "، زاد " كنا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 572 16158 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا"، قال ابن مسعود: قللوا في أعيننا، حتى قلت لرجل: أتُرَاهم يكونون مئة؟ 16159 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال ناس من المشركين: إن العيرَ قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه! فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم. وقال: يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح، ولكن خذوهم أخذًا، فاربطوهم بالحبال! = يقوله من القدرة في نفسه. * * * وقوله: "ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، يقول جل ثناؤه: قلّلتكم أيها المؤمنون، في أعين المشركين، وأريتكموهم في أعينكم قليلا حتى يقضي الله بينكم ما قضى من قتال بعضكم بعضًا، وإظهاركم، أيها المؤمنون، على أعدائكم من المشركين والظفر بهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. وذلك أمرٌ كان الله فاعلَه وبالغًا فيه أمرَه، كما:- 16160 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليقضي الله أمرا كان مفعولا"، أي: ليؤلف بينهم على الحرب، للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته. (1) * * * = "وإلى الله ترجع الأمور"، يقول جل ثناؤه: مصير الأمور كلها إليه في الآخرة، فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. * * *   (1) الأثر: 16160 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16153. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 573 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) } قال أبو جعفر: وهذا تعريفٌ من الله جل ثناؤه أهل الإيمان به، السيرةَ في حرب أعدائه من أهل الكفر به، والأفعالَ التي يُرْجَى لهم باستعمالها عند لقائهم النصرة عليهم والظفر بهم. ثم يقول لهم جل ثناؤه: "يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا الله ورسوله = إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر بالله للحرب والقتال، (1) فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين، إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة منكم= "واذكروا الله كثيرًا"، يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم، وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره= "لعلكم تفلحون"، يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم، ويرزقكم الله النصرَ والظفر عليهم، (2) كما:- 16161 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"، افترضَ الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضِّراب بالسيوف. 16162 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة"، يقاتلونكم في سبيل الله= "فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا"، اذكروا الله الذي بذلتم له أنفسكم والوفاء بما أعطيتموه من بيعتكم= "لعلكم تفلحون". (3) * * *   (1) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص: 455، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: 169، تعليق 2، والمراجع هناك. (3) الأثر: 16162 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 1616. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 574 القول في تأويل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا، أيها المؤمنون، ربَّكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء = "ولا تنازعوا فتفشلوا"، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم (1) = "فتفشلوا"، يقول: فتضعفوا وتجبنوا، (2) = "وتذهب ريحكم". * * * وهذا مثلٌ. يقال للرجل إذا كان مقبلا ما يحبه ويُسَرّ به (3) "الريح مقبلةٌ عليه"، يعني بذلك: ما يحبه، ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص: كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَبٍ وَالفَضْلُ لِلقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ (4)   (1) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف ص: 569، تعليق: 5، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الفشل " ص: 569، تعليق: 4، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: " مقبلا عليه ما يحبه "، زاد " عليه "، وليست في المخطوطة. (4) ديوانه: 49، من أبيات قبله، يقول: دَعَا مَعَاشِرَ فَاسْتَكَّتْ مَسَامِعُهُمْ ... يَا لَهْفَ نَفْسِي لَوْ تَدْعُو بَني أَسَدٍ لا يَدَّعُونَ إذَا خَامَ الكُمَاةُ ولا ... إذَا السُّيُوفُ بِأَيْدِي القَوْمِ كالْوَقْدِ لَوْ هُمْ حُمَاتُكَ بالمحْمَى حَمَوْكَ وَلَمْ ... تُتْرَكْ لِيَوْمٍ أقَامَ النَّاسَ في كَبَدِ كَمَا حَمَيْنَاكَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . والبيت الثاني من هذه الأبيات جاء في مخطوطة الديوان: " لا يدَّعوا إذا حام الكماة ولا إذا.. "، فصححه الناشر المستشرق " تدعوا إذن حامي الكماة لا كسلا "، فجاء بالغثاثة كلها في شطر واحد. فيصحح كما أثبته. ويعني بقوله: " لا يدعون إذا خام الكماة "، أي: لا يتنادون بترك الفرار، و " خام " نكص، كما قال الآخر: تَنَادَوْا: يَا آلَ عَمْروٍ لا تَفِرُّوا! ... فَقُلْنَا: لا فِرَارَ ولا صُدُودَا و" النعف "، ما انحدر من حزونة الجبل. و " شطب " جبل في ديار بني أسد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 575 يعني: من البأس والكثرة. (1) * * * وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل. * * * ="واصبروا"، يقول: اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوكم، ولا تنهزموا عنه وتتركوه = "إن الله مع الصابرين"، يقول: اصبروا فإني معكم. (2) وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16163- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وتذهب ريحكم"، قال: نصركم. قال: وذهبت ريحُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، (3) حين نازعوه يوم أحد. 16164- حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وتذهب ريحكم"، فذكر نحوه. 16165- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه= إلا أنه قال: ريح أصحاب محمد حين تركوه يوم أحد. 16166 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، قال:   (1) في المخطوطة: " من الناس "، والصواب ما في المطبوعة. (2) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص: 455، تعليق: 4، المراجع هناك. (3) في المطبوعة: " أصحاب رسول الله "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 576 حَدُّكم وجِدُّكم. (1) 16167 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وتذهب ريحكم"، قال: ريح الحرب. 16168 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وتذهب ريحكم"، قال: "الريح"، النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَام. 16169 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، أي: لا تختلفوا فيتفرق أمركم= "وتذهب ريحكم"، فيذهب حَدُّكم (2) = "واصبروا إن الله مع الصابرين"، أي: إني معكم إذا فعلتم ذلك. (3) 16170 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، قال: الفشل، الضعف عن جهاد عدوه والانكسار لهم، فذلك "الفشل".   (1) في المطبوعة: " حربكم وجدكم "، وهي في المخطوطة توشك أن تقرأ كما قرأها، ولكن الكتابة تدل على أنه أراد " حدكم "، و " الحد " بأس الرجل ونفاذه في نجدته. يقال: " فلان ذو حد "، أي بأس ونجدة. ولو قرئت: " وحدتكم "، كان صوابًا، " الحد "، و " الحدة " (بكسر الحاء) ، واحد. وانظر التعليق التالي. (2) في المطبوعة: " جدكم "، بالجيم، والصواب ما في سيرة ابن هشام، وفيها " حدتكم "، وفي مخطوطاتها " حدكم "، وهما بمعنى، كما أسلفت في التعليق قبله. (3) الأثر: 16169 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16162. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 577 * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) } قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله جل ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله، أن لا يعملوا عملا إلا لله خاصة، وطلب ما عنده، لا رئاء الناس، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ رئاء الناس. وذلك أنهم أخبروا بفَوْت العِير رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (1) وقيل لهم: "انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها! "، فأبوا وقالوا: "نأتي بدرًا فنشرب بها الخمر، وتعزف علينا القِيان، وتتحدث بنا العرب فيها"، (2) فَسُقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، كما- 16171 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: كانت قريش قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: إنا قد أجزنا القوم، وأن ارجعوا. (3) فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشًا بالرجعة بالجُحفة، فقالوا: "والله لا نرجع حتى ننزل بدرًا، فنقيم فيه ثلاث ليالٍ، ويرانا من غَشِينا من أهل الحجاز، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا". وهم الذين قال الله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم، ففتح الله على رسوله، وأخزى أئمة الكفر،   (1) في المخطوطة: " بقرب العير "، والصواب ما في المطبوعة. (2) في المطبوعة: " وتتحدث بنا العرب لمكاننا فيها "، زاد ما ليس في المخطوطة. (3) في المطبوعة: " فارجعوا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 578 وشفى صدور المؤمنين منهم. (1) 16172 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق = في حديث ذكره = قال، حدثني محمد بن مسلم، وعاصم بن عمر، (2) وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، عن ابن عباس قال: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عِيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا! فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا = وكان "بدر" موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم بها سوق كل عام = فنقيم عليه ثلاثًا، وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا. (3) 16173 - قال ابن حميد حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، أي: لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا: "لا نرجع حتى نأتي بدرًا، وننحر الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا"، أي: لا يكونن أمركم رياءً ولا سمعة، ولا التماس ما عند الناسَ، وأخلصوا لله النية والحِسْبة في نصر دينكم، وموازرة نبيكم، أي: لا تعملوا إلا لله، ولا تطلبوا غيره. (4) 16174 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال،   (1) الأثر: 16171 - هذا من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، الذي خرجته آنفًا من تاريخ الطبري مجموعًا برقم: 16083. وهذا القسم في تاريخ الطبري 2: 269. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " عاصم بن عمرو "، وهو خطأ، إنما هو " عاصم بن عمر بن قتادة) ، سلف مرارًا، وانظر سيرة ابن هشام 2: 257. (3) الأثر: 16172 - سيرة ابن هشام 2: 270، وتاريخ الطبري 2: 276، من أثر طويل. (4) الأثر: 16173 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16169. وفي لفظه اختلاف يسير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 579 حدثنا إسرائيل= عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، قال: أصحاب بدر. 16175- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "بطرًا ورئاء الناس"، قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر. 16176- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله= قال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هم مشركو قريش، وذلك خروجهم إلى بدر. 16177 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، يعني: المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. 16178 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، قال: هم قريش وأبو جهل وأصحابه، الذين خرجوا يوم بدر. 16179 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط"، قال: كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله يوم بدر، خرجوا ولهم بَغْي وفخر. وقد قيل لهم يومئذ: "ارجعوا، فقد انطلقت عيركم، وقد ظفرتم". قالوا: "لا والله، حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا! ". قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "اللهم إنّ قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك"! 16180 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 580 حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر المشركين وما يُطعِمُون على المياه فقال: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله". 16181 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا"، قال: هم المشركون، خرجوا إلى بدر أشرًا وبطرًا. 16182 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط". * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ولا تكونوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، في العمل بالرياء والسمعة، وترك إخلاص العمل لله، واحتساب الأجر فيه، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرًا ومراءاة الناس بزّيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم (1) = "ويصدون عن سبيل الله"، يقول: ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام، بقتالهم إياهم، وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله (2) = "والله بما يعملون"، من الرياء والصدِّ عن سبيل الله، وغير ذلك من أفعالهم= "محيط"، يقول: عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه منه شيء، وذلك أن الأشياء كلها له متجلّية، لا يعزب عنه منها شيء، فهو لهم بها معاقب، وعليها معذِّب. (3)   (1) انظر تفسير " الرئاء " فيما سلف 5: 521، 522 8: 356 / 9: 331. (2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ص: 529، تعليق 2، والمراجع هناك. وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (3) انظر تفسير " محيط " فيما سلف 9: 252، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 581 القول في تأويل قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) } قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) ، وحين زين لهم الشيطان أعمالهم، وكان تزيينه ذلك لهم، (1) كما:- 16183- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: جاء إبليس يوم بدر في جُنْد من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مُدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، (2) فقال الشيطان للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) . فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولَّوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع. إبليس يده فولَّى مدبرًا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) ، وذلك حين رأى الملائكة.   (1) انظر تفسير " زين " فيما سلف 12: 136، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة، حذف قوله: " والشيطان "، وساق الكلام سياقًا واحدًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 16184- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا، أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ الشاعر، ثم المدلجي، فجاء على فرس، فقال للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس) ! فقالوا: ومن أنت؟ قال: أنا جاركم سراقة، وهؤلاء كنانة قد أتوكم! 16185- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر =يعني من الحرب= فكاد ذلك أن يثنيهم، (1) فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة [بن مالك] بن جعشم المدلجيّ، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: "أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة [من خلفكم بشيء] تكرهونه"! فخرجوا سراعا. (2) 16186- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق في قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) ، فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم، (3) حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم، (4) يقول الله: (فلما تراءت الفئتان) ، ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيَّد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم = (نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، وصدق عدوّ الله، إنه رأى ما لا يرون= وقال: (إني أخاف الله والله شديد العقاب) ، فأوردهم ثم أسلمهم.   (1) في المطبوعة: " أن يثبطهم "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في السيرة. (2) الأثر: 16185 - سيرة ابن هشام 2: 263، والزيادة بين الأقواس منها. (3) في المطبوعة، حذف " لهم "، وهي ثابتة في المخطوطة وسيرة ابن هشام. (4) في المطبوعة: " من الحرب "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. والناشر كما تعلم وترى، كثير العبث بكلام أهل العلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 قال: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه. حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان، كان الذي رآه حين نكص: "الحارث بن هشام" أو: "عمير بن وهب الجمحي"، فذُكر أحدهما، فقال: أينَ، أيْ سُرَاقَ! "، (1) ومثَل عدوُّ الله فذهب. (2) 16187- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) ، إلى قوله: (شديد العقاب) ، قال: ذُكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فزعم عدو الله أنه لا يَدَيْ له بالملائكة، وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) ، وكذب والله عدو الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، (3) حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مُسْلَم، (4) وتبرأ منهم عند ذلك. 16188- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية، قال: لما كان يوم بدر، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أنّ أحدًا لن يغلبكم، وإني جار لكم! فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة، نكص على عقبيه =قال: رجع مدبرًا= وقال: (إني أرى ما لا ترون) ، الآية. 16189- حدثنا أحمد بن الفرج قال، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز   (1) هذه الجملة والتي تليها غيرها الناشر كل التغير، فكتب: " فقال: أين سراقة! أسلمنا عدو الله وذهب ". والذي في المخطوطة مطابق لما في سيرة ابن هشام ". وقوله: " مثل "، أي: انتصب ونهض. (2) الأثر: 16186 - سيرة ابن هشام 2: 318، 319، وأخر صدر الخبر فجعله في آخره. وهذا الخبر لم يروه ابن هشام في سياق تفسير هذه الآيات في سيرته 2: 329، تابعًا للأثر السالف رقم: 16173، بل ذكر الآية ثم قال: " وقد مضى تفسير هذه الآية ". (3) في المطبوعة: " واستعاذ به "، غير ما في المخطوطة بسوء أمانته ورأيه. و " استقاد له "، انقاد له وأطاعه. (4) " مسلم " (بضم فسكون ففتح) مصدر ميمي، بمعنى " الإسلام ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 بن الماجشون قال، حدثنا مالك، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رؤي إبليس يومًا هو فيه أصغرُ، ولا أحقرُ، ولا أدحرُ، ولا أغيظُ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: "أما إنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة. (1) 16190- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن الحسن في قوله: (إني أرى ما لا ترون) قال: رأى جبريل معتجرًا ببُرْدٍ، (2) يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده اللجام، ما رَكبَ. 16191- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: قال الحسن، وتلا هذه الآية: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية، قال: سار إبليس مع المشركين ببدر برايته وجنوده، وألقى في قلوب المشركين أن أحدًا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين   (1) الأثر: 16189 - رواه مالك في الموطأ: 422، بنحو هذا اللفظ، وانظر التقصي لابن عبد البر: 12، 13. " أحمد بن الفرج بن سليمان الحمصي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 6899، 15377. و " عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون التيمي "، فقيه المدينة ومفتيها في زمانه، وهو فقيه ابن فقيه، وهو ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 358. و" إبراهيم بن أبي عبلة الرملي "، مضى برقم: 11014. و" طلحة بن عبيد الله بن كريز بن جابر الكعبي "، كان قليل الحديث، مضى برقم: 15585. هذا خبر مرسل. وقوله: " يزع الملائكة "، أي: يرتبهم ويسويهم، ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار، و " الوازع "، هو المقدم على الجيش، الموكل بالصفوف وتدبير أمرهم، وترتيبهم في قتال العدو. من قولهم: " وزعه "، أي: كفه وحبسه عن فعل أو غيره. (2) " الاعتجار "، هو لف العمامة على استدارة الرأس، من غير إدارة تحت الحنك. وإدارتها تحت الحنك هو " التلحي " (بتشديد الحاء) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 آبائكم، (1) ولن تغلبوا كثرةً! فلما التقوا نكص على عقبيه =يقول: رجع مدبرًا= وقال: (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، يعني الملائكة. 16192- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: لما أجمعت قريش على السير قالوا: إنما نتخوف من بني بكر! فقال لهم إبليس، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم: أنا جار لكم من بني بكر، ولا غالب لكم اليوم من الناس. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: (وإن الله لسميع عليم) ، في هذه الأحوال =وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم، أيها المؤمنون، لحربكم وقتالكم وحسَّن ذلك لهم وحثهم عليكم، وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم، فاطمئنوا وأبشروا = (وإني جار لكم) ، من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فمعيذكم، (2) أجيركم وأمنعكم منهم، فلا تخافوهم، واجعلوا حدَّكم وبأسكم على محمد وأصحابه (3) = (فلما تراءت الفئتان) ، يقول: فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين، ونظر بعضهم إلى بعض= (نكص على عقبيه) ، يقول: رجع القهقري على قفاه هاربًا. (4) * * * يقال منه: "نكص ينكُص وينكِص نكوصًا"، ومنه قول زهير: هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ البَيْضِ إِذْ لَحِقُوا لا يَنْكُصُون، إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا (5)   (1) في المطبوعة: " لن يغلبكم "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: " فيغيركم "، ومثلها في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها بعد إصلاح فسادها. (3) في المطبوعة: " جدكم " بالجيم، وانظر ما سلف ج 13 ص: 577، تعليق: 1. (4) انظر تفسير " العقب " فيما سلف 3: 163 \ 11: 450. (5) ديوانه: 159، من قصيدته في هرم بن سنان، وهي من جياد شعره. و " حبيك البيض "، طرائق حديده. و " البيض " جمع " بيضة "، هي الخوذة من سلاح المحارب، على شكل بيضة النعام، يلبسها الفارس على رأسه لتقيه ضرب السيوف والرماح. و " استلحم الرجل " (بالبناء للمجهول) : إذا نشب في ملحمة القتال، فلم يجد مخلصًا. وقوله: " وحموا "، من قولهم: " حمى من الشيء حمية ومحمية "، إذا فارت نفسه وغلت، وأنف أن يقبل ما يراد به من ضيم، ومنه: " أنف حمى ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 وقال للمشركين: (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، يعني أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددًا للمؤمنين، والمشركون لا يرونهم (1) = إني أخاف عقاب الله، وكذب عدوُّ الله= (والله شديد العقاب) . (2) القول في تأويل قوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإن الله لسميع عليم) ، في هذه الأحوال = (وإذ يقول المنافقون) ، وكرّ بقوله: (إذ يقول المنافقون) ، على قوله: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) = (والذين في قلوبهم مرض) ، يعني: شك في الإسلام، لم يصحَّ يقينهم، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم (3) = (غر هؤلاء دينهم) ، يقول: غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم، دينُهم (4) = وذلك الإسلام. * * * وذُكر أن الذين قالوا هذا القول، كانوا نفرًا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش، ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم.   (1) انظر تفسير " بريء " فيما سلف من فهارس اللغة (برأ) . (2) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة (عقب) . (3) انظر تفسير " مرض " فيما سلف 1: 278 - 281 \ 10: 404. (4) انظر تفسير " الغرور " فيما سلف 12: 475، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 * ذكر من قال ذلك: 16193- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال: كان ناسٌ من أهل مكة تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: (غر هؤلاء دينهم) . 16194- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر، مثله. (1) 16195- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم) ، قال: فئة من قريش: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة، (2) وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجاج; خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم. فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (غرّ هؤلاء دينهم) ، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فشرَّد بهم من خلفهم. (3) 16196- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن   (1) الأثر: 16194 - " إسحاق بن شاهين الواسطي "، شيخ الطبري مضى برقم: 7211، 9788. وكان في المخطوطة " أبو إسحاق بن شاهين "، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة. وكنيته " أبو بشر ". (2) مكان " أبو قيس بن "، بياض في المخطوطة، وفوق البياض حرف (ط) دلالة على الخطأ، وبعدها " الوليد بن المغيرة "، فكتب ناشر المطبوعة: " قيس بن الوليد بن المغيرة "، وأخطأ، إنما هو " أبو قيس بن الوليد "، وهو الذي شهد بدرًا، وقتله حمزة بن عبد المطلب. فأثبته. والظاهر أن البياض لا يراد به إلا هذا الذي أثبته، لا زيادة عليه. (3) في المطبوعة، حذف " فشرد بهم من خلفهم "، وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 معمر، عن الحسن: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا "منافقين" =قال معمر: وقال بعضهم: قوم كانوا أقرُّوا بالإسلام وهم بمكة، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: (غر هؤلاء دينهم) . 16197- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) إلى قوله: (فإن الله عزيز حكيم) ، قال: رأوا عصابة من المؤمنين تشرّدت لأمر الله. (1) وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: "والله لا يُعبد الله بعد اليوم! "، قسوة وعُتُوًّا. 16198- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ، قال: ناس كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر، وهم يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا. 16199- ... قال حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ، قال: لما دنا القوم بعضهم من بعض، فقلَّل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلَّل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: (غر هؤلاء دينهم) ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: (ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز حكيم) . * * * وأما قوله: (ومن يتوكل على الله) ، فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله،   (1) في المطبوعة: " تشددت "، وفي المخطوطة: " تسردت "، وكأن صواب قراءتها ما أثبت، " تشرد في الأرض " هرب ونفر، وكأنه يعني هجرتهم إلى الله ورسوله. هكذا اجتهدت، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 ويثق به، ويرض بقضائه، فإن الله حافظه وناصره (1) =لأنه "عزيز"، لا يغلبه شيء، ولا يقهره أحد، فجارُه منيع، ومن يتوكل عليه مكفيٌّ. (2) وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم، أن يفوِّضوا أمرهم إليه، ويسلموا لقضائه، كيما يكفيهم أعداءهم، ولا يستذلهم من ناوأهم، لأنه "عزيز" غير مغلوب، فجاره غير مقهور = "حكيم"، يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم، لا يدخل تدبيره خلل. (3) القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو تعاين، يا محمد، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار، فتنزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم. (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 13: 385، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: ". . . عليه يكفه "، غير ما في المخطوطة، وهو محض الصواب. (3) انظر تفسير " عزيز "، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) . (4) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 13: 35، تعليق 5، والمراجع هناك. وتفسير " الأدبار " فيما سلف 13: 435، تعليق 2، والمراجع هناك. وتفسير " الذوق " فيما سلف 13: 528، تعليق 2، والمراجع هناك. وتفسير " الحريق " فيما سلف 7: 446، 447. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 16200- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: يوم بدر. 16201- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير، عن مجاهد: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: وأستاههم، ولكن الله كريم يَكْنِي. (1) 16202- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، في قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: وأستاههم، ولكنه كريم يَكْنِي. (2) 16203- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير في قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: إن الله كنى، ولو شاء لقال: "أستاههم"، وإنما عنى ب "أدبارهم"، أستاههم. 16204- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أستاههم، يوم بدر =قال ابن جريج، قال ابن عباس: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف. وإذا ولّوا، أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم. 16205- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عباد بن راشد، عن الحسن قال: قال رجل: يا رسول الله، إني رأيت بظهر   (1) الأثر: 16201 - " يحيى بن سليم الطائفي "، ثقة، مضى برقم: 4894، 9788، وكان في المطبوعة: " يحيى بن أسلم "، وهو خطأ محض، والمخطوطة مضطربة الكتابة. و " إسماعيل بن كثير الحجازي "، ثقة، مضى برقم: 8929. (2) في المطبوعة: " ولكن الله "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 أبي جهل مثل الشراك! (1) قال: ما ذاك؟ قال: ضربُ الملائكة. 16206- حدثنا محمد قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه، (2) فنَدرَ رأسُه؟ (3) فقال: سبقك إليه الملك. 16207- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: حدثني حرملة: أنه سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، فإنما يريد: أستاههم. (4) * * * قال أبو جعفر: وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره، وهو قوله: "ويقولون"، (ذوقوا عذاب الحريق) ، حذفت "يقولون"، كما حذفت من قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: 21] ، بمعنى: يقولون: ربنا أبصرنا. (5) * * * القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (51) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الملائكة لهؤلاء المشركين الذين قتلوا ببدر، أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم: "ذوقوا عذاب   (1) " الشراك "، سير النعل الذي يكون على ظهرها. (2) انظر ما أسلفت في تفسير " ذهب يفعل "، فيما سلف 11: 128، تعليق: 1، ثم 11: 250، 251، وص 250 تعليق: 1. (3) " ندر الشيء " سقط. يقال: " ضرب يده بالسيف فأندرها "، أي قطعها فسقطت. (4) الأثر: 16207 - " حرملة بن عمران التجيبي "، ثقة، مضى برقم: 6890، 13240. و " عمر، مولى غفرة "، هو " عمر بن عبد الله المدني "، أبو حفص، ليس به بأس، كان صاحب مرسلات ورقائق. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 119. (5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 413. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 الله الذي يحرقكم"، هذا العذاب لكم = (بما قدمت أيديكم) ، أي: بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار، واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، (1) فذوقوا اليوم العذابَ، وفي معادكم عذابَ الحريق; وذلك لكم بأن الله (ليس بظلام للعبيد) ، لا يعاقب أحدًا من خلقه إلا بجرم اجترمه، ولا يعذبه إلا بمعصيته إياه، لأن الظلم لا يجوز أن يكون منه. وفي فتح "أن" من قوله: (وأن الله) ، وجهان من الإعراب: أحدهما: النصبُ، وهو للعطف على "ما" التي في قوله: (بما قدمت) ، بمعنى: (ذلك بما قدمت أيديكم) ، وبأن الله ليس بظلام للعبيد، في قول بعضهم، والخفض، في قول بعضٍ. والآخر: الرفع، على (ذلك بما قدمت) ، وذلك أن الله. (2) * * * القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فِعْلُ هؤلاء المشركون من قريش الذين قتلوا ببدر، كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم وفعل من كذّب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم، (3) ففعلنا بهم كفعلنا بأولئك.   (1) انظر تفسير " قدمت أيديكم " فيما سلف 2: 368 \ 7: 447 \ 8: 514 \ 10: 497. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 413. (3) انظر تفسير " آل " فيما سلف 2: 37 \ 6: 326. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 وقد بينا فيما مضى أن "الدأب"، هو الشأن والعادة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * 16208- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا شيبان، عن جابر، عن عامر ومجاهد وعطاء: (كدأب آل فرعون) كفعل آل فرعون، كسُنَنِ آل فرعون. * * * وقوله: (فأخذهم الله بذننوبهم) ، يقول: فعاقبهم الله بتكذيبهم حججه ورسله، ومعصيتهم ربهم، كما عاقب أشكالهم والأمم الذين قبلهم = (إن الله قوي) ، لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه رادٌّ، يُنْفِذ أمره، ويُمضي قضاءه في خلقه =شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حُججه. * * *   (1) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف 6: 223 - 225. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، (1) وفعلنا ذلك بهم، بأنهم غيَّروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسولَه منهم وبين أظهرهم، بإخراجهم إياه من بينهم، وتكذيبهم له، وحربهم إياه، فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم، كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا. * * *   (1) انظر تفسير " الأخذ " فيما سلف من فهارس اللغة (أخذ) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16209- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، يقول: "نعمة الله"، محمد صلى الله عليه وسلم، أنعم به على قريش، وكفروا، فنقله إلى الأنصار. * * * وقوله: (وأن الله سميع عليم) ، يقول: لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه، يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرٍّ = (عليم) ، بما تضمره صدورهم، وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: غير هؤلاء المشركون بالله، المقتولون ببدر، نعمةَ ربهم التي أنعم بها عليهم، بابتعاثه محمدًا منهم وبين أظهرهم، داعيًا لهم إلى الهدى، بتكذيبهم إياه، وحربهم له = (كدأب آل فرعون) ، كسنة آل فرعون وعادتهم وفعلهم بموسى نبي الله، (2) في تكذيبهم إياه، وقصدهم لحربه، (3) وعادة   (1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) . (2) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف ص: 19، تعليق: 1، والمراجع هناك. وتفسير " آل " فيما سلف ص: 18، تعليق 3، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: " وتصديهم لحربه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 من قبلهم من الأمم المكذبة رسلَها وصنيعهم = (فأهلكناهم بذنوبهم) ، بعضًا بالرجفة، وبعضًا بالخسف، وبعضا بالريح = (وأغرقنا آل فرعون) ، في اليم = (وكل كانوا ظالمين) ، يقول: كل هؤلاء الأمم التي أهلكناها كانوا فاعلين ما لم يكن لهم فعله، من تكذيبهم رسلَ الله والجحود لآياته، فكذلك أهلكنا هؤلاء الذين أهلكناهم ببدر، إذ غيروا نعمة الله عندهم، بالقتل بالسيف، وأذللنا بعضهم بالإسار والسِّبَاء. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن شر ما دبّ على الأرض عند الله، (1) الذين كفروا بربهم، فجحدوا وحدانيته، وعبدوا غيره = (فهم لا يؤمنون) ، يقول: فهم لا يصدِّقون رسلَ الله، ولا يقرُّون بوحيه وتنزيله. * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) ، (الذين عاهدت منهم) ، يا محمد، يقول: أخذت عهودهم ومواثيقهم أن لا يحاربوك، (2) ولا يظاهروا عليك محاربًا لك، كقريظة ونظرائهم ممن كان بينك وبينهم عهد   (1) انظر تفسير " الداية " فيما سلف 3: 274، 275 \ 11: 344 \ 13: 459. (2) انظر تفسير " العهد " فيما سلف 13: 72، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 وعقد = (ثم ينقضون) ، عهودهم ومواثيقهم كلما عاهدوك وواثقوك، (1) حاربوك وظاهروا عليك، (2) وهم لا يتقون الله، ولا يخافون في فعلهم ذلك أن يوقع بهم وقعة تجتاحهم وتهلكهم، كالذي:- 16210- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم) ، قال: قريظة مالأوا على محمد يوم الخندق أعداءه. 16211- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإما تلقيَنَّ في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة بعد مرة من قريظة، فتأسرهم، (3) = (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: فافعل بهم فعلا يكون مشرِّدًا مَن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عهد وعقد. * * * و"التشريد"، التطريد والتبديد والتفريق. * * * وإنما أمِرَ بذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه   (1) في المطبوعة: " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك "، وفي المخطوطة: " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك "، وكأن الصواب ما أثبت. (2) انظر تفسير " النقض " فيما سلف 9: 363 \ 10: 125. (3) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف 3: 564 \ 7: 110. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 وبينهم إذا قدر عليهم فعلا يكون إخافةً لمن وراءهم، ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد، حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية من نقض العهد. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16212- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يعني: نكّل بهم من بعدهم. 16213- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: نكل بهم من وراءهم. 16214- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: عظْ بهم من سواهم من الناس. 16215- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم من العدوّ، لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فتصنع بهم مثل ذلك. 16216- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (فشرد بهم من خلفهم) ، قال: أنذر بهم من خلفهم. 16217- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم =قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: نكل بهم مَنْ وراءهم. 16218- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) ، أي: نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون. (1) 16219- حُدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: نكل بهم من بعدهم. 16220- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال: أخفهم بما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (2) [الأنفال: 60] * * * وأما قوله: (لعلهم يذكرون) ، فإن معناه: كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم، (3) فيحذروا نقضَ العهد الذي بينك وبينهم خوفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه. * * *   (1) الأثر: 16218 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16173، ثم هو في الحقيقة تابع الأثر السالف رقم: 16186، سيرة ابن هشام 2: 318، 319. (2) الأثر: 16220 - انظر الأثر التالي رقم: 16242، والتعليق عليه. (3) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 القول في تأويل قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإما تخافن) ، يا محمد، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد، أن ينكث عهد. وينقض عقده، ويغدر بك =وذلك هو "الخيانة" والغدر (1) = (فانبذ إليهم على سواء) ، يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، (2) حتى تصير أنتَ وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر = (إن الله لا يحب الخائنين) ، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه، قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد. * * * فإن قال قائل: وكيف يجوز نقضُ العهد بخوف الخيانة، و"الخوف" ظنٌّ = لا يقين؟ (3) قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: إذا ظهرت أمارُ الخيانة من عدوك، (4) وخفت وقوعهم بك، فألق إليهم مقاليد السَّلم وآذنهم بالحرب. (5) وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من   (1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 13: 480، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " النبذ " فيما سلف 2: 401، 402 \ 7: 459. وفي المطبوعة: " آثار الغدر "، وأثبت ما في المخطوطة، و " الأمار " و " الأمارة "، العلامة، ويقال: " أمار " جمع " أمارة ". (3) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف 11: 373، تعليق: 5، والمراجع هناك. (4) في المطبوعة: " آثار الخيانة "، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر التعليق السالف رقم: 2. (5) في المخطوطة: " وأد "، وبعدها بياض، صوابه ما في المطبوعة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معهم، (1) بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة، ولن يقاتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. (2) فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك، موجبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم. فكذلك حكم كل قوم أهل موادعةٍ للمؤمنين، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها، فحقٌّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء، ويؤذنهم بالحرب. * * * ومعنى قوله: (على سواء) ، أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سِلْم. (3) * * * وقيل: نزلت الآية في قريظة. * ذكر من قال ذلك: 16221- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فانبذ إليهم على سواء) ، قال: قريظة. * * * وقد كان بعضهم يقول: "السواء"، في هذا الموضع، المَهَل. (4) * ذكر من قال ذلك: 16222- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: إنه مما تبين لنا أن قوله: (فانبذ إليهم على سواء) ، أنه: على مهل =كما حدثنا بكير، عن مقاتل بن حيان في قول الله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ   (1) في المطبوعة: " ومحاربتهم معه "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المخطوطة: " ولم يقاتلوا "، وما في المطبوعة شبيه بالصواب. (3) انظر تفسير " السواء " فيما سلف 10: 488، تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) في المطبوعة: " وقد قال بعضهم "، غير الجملة كلها بلا شيء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، [التوبة: 1-2] * * * وأما أهل العلم بكلام العرب، فإنهم في معناه مختلفون. فكان بعضهم يقول: معناه: فانبذ إليهم على عدل =يعني: حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة، واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز: (1) وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوكَ إلَى السَّوَاءِ (2) يعني: إلى العدل. * * * وكان آخرون يقولون: معناه: الوسَط، من قول حسان: يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ ورَهْطِهِ بَعْدَ الُمغيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ (3) بمعنى: في وسط اللَّحْد. * * * وكذلك هذه المعاني متقاربة، لأن "العدل"، وسط لا يعلو فوق الحق ولا يقصّر عنه، وكذلك "الوسط" عدل، واستواء علم الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة، (4) عدل من الفعل ووسط. وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه: "المهل"، فما لا أعلم له وجهًا في كلام العرب. * * *   (1) لم أعرف قائله. (2) كان في المطبوعة: " الغدر للأعداء ". وهو خطأ، صوابه من المخطوطة و " الغدر " (بضمتين) ، جمع " غدور "، مثل " صبور "، وهو الغادر المستمرئ للغدر. (3) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما مضى 2: 496، تعليق 2. (4) في المطبوعة: " واستواء الفريقين "، وفي المخطوطة " واستواء على الفريقين ". وصواب قراءتها ما أثبت، وهو حق المعنى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) } قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: " وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ " بكسر الألف من "إنهم"، وبالتاء في "تحسبن" =بمعنى: ولا تحسبن، يا محمد، الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله عليهم فقيل: إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم، بأنفسهم فيفوتوه بها. * * * وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، بالياء في "يحسبن"، وكسر الألف من (إِنَّهُمْ) . * * * وهي قراءة غير حميدة، لمعنيين، (1) أحدهما خروجها من قراءة القرأة وشذوذها عنها =والآخر: بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أن "يحسب" يطلب في كلام العرب منصوبًا وخبره، كقوله: "عبد الله يحسب أخاك قائمًا" و"يقوم" و"قام". فقارئ هذه القراءة أصحب "يحسب" خبرًا لغير مخبر عنه مذكور. وإنما كان مراده، ظنّي: (2) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا =فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسُقمه، واستعمل في قراءته ذلك كذلك، ما ظهر له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك، الاعتبارُ بقراءة عبد الله. وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا   (1) هذه القراءة التي ردها أبو جعفر، هي قراءتنا اليوم. (2) في المطبوعة: " وإنما كان مراد بطي ولا يحسبن "، فأتى بعجب لا معنى له. وقول الطبري: " ظني "، يقول كما نقول اليوم: " فيما أظن ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ "، وهذا فصيح صحيح، إذا أدخلت "أنهم" في الكلام، لأن "يحسبن" عاملة في "أنهم"، وإذا لم يكن في الكلام "أنهم" كانت خالية من اسم تعمل فيه. وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب، وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم: أحدهما: أن يكون أريد به: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، أو: أنهم سبقوا =ثم حذف "أن" و"أنهم"، كما قال جل ثناؤه: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، [الروم: 24] . بمعنى: أن يريكم، وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة: أَظُنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُتَيْبَةُ ذَاهِبًا بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ (1)   (1) ديوانه 473، من قصيدة ذكر فيها " المهاجر بن عبد الله الكلابي " والي اليمامة، وكان للمهاجر عريف من السعاة بالبادية يقال له: " رومي "، فاختلف ذو الرمة، وعتيبة بن طرثوث في بئر عادية، فخاصم ذو الرمة إلى رومي، فقضى رومي لابن طرثوث قبل فصل الخصومة، وكتب له بذلك سجلا، فقال ذو الرمة من قصيدته تلك، برواية ديوانه: أقُولُ لِنَفْسِي، لا أُعَاتِبُ غَيْرَهَا ... وَذُو اللُّبِّ مَهْمَا كَانَ، لِلنَّفْسِ قائِلُهْ لَعَلَّ ابْنَ طُرْثُوثٍ عَتَيْبَةُ ذَاهِبٌ ... بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ بِقَاعٍ، مَنَعْنَاهُ ثَمَانينَ حِجَّةً ... وَبِضْعًا، لَنَا أَحْرَاجُه وَمَسَايِلُهْ ثم ذكر المهاجر بالذكر الجميل، ثم قال: يَعِزُّ، ابْنَ عَبْدِ اللهِ، مَنْ أَنْتَ نَاصِرٌ ... وَلا يَنْصُرُ الرَّحْمَنُ مَنْ أنْتَ خَاذِلُهْ إذَا خَافَ قَلْبِي جَوْرَ سَاعٍ وَظُلْمَهُ ... ذَكَرْتُكَ أُخْرَى فَاطْمَأَنَّتْ بَلابِلُهْ تَرَى اللهَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ سَرِيرَةٌ ... لِعَبْدٍ، ولا أَسْبَابُ أَمْرٍ يُحَاوِلهْ لَقَدْ خَطَّ رُومِيٌّ، وَلا زَعَمَاتِهِ، ... لِعُتْبَةَ خَطًّا لَمْ تُطَبَّقْ مَفَاصِلُهْ بِغَيْرِ كتابٍ وَاضِحٍ مِنْ مُهَاجِرٍ ... وَلا مُقْعَدٍ مِنِّي بخَصْمٍ أُجَادِلهْ هذه قصة حية. وكان في المطبوعة: " عيينة "، والصواب من الديوان، ومما يدل عليه الشعر السالف إذ سماه " عتبة "، ثم صغره. و " العادية "، البئر القديمة، كأنها من زمن " عاد ". و " التكذاب "، مصدر مثل " الكذب ". و " الجعائل "، الرشي، تجعل للعامل المرتشي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 بمعنى: أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابه وجعائله؟ وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء، يوجه "سبقوا" إلى "سابقين" على هذا المعنى. (1) والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب بـ "يحسب"، كأنه قال: ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا =ثم حذف "أنهم" وأضمر. (2) وقد وجه بعضهم معنى قوله: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ، [سورة آل عمران: 175] : إنما ذلكم الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله: "يخوف"، إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه. (3) * * * وقرأ ذلك بعض أهل الشأم: "وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالتاء من "تحسبن" = (سَبَقُوا أَنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) ، بفتح الألف من "أنهم"، بمعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون. * * * قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه القراءة يُعقل، إلا أن يكون أراد القارئ بـ "لا" التي في "يعجزون"، "لا" التي تدخل في الكلام حشوًا وصلة، (4) فيكون معنى الكلام حينئذ: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون =ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل، (5) بغير حجة يجب التسليم لها، وله في الصحة مخرج. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ:   (1) انظر هذا في معاني القرآن للفراء 1: 414 - 416. (2) كان في المطبوعة: " ثم حذف الهمز وأضمر "، وهو كلام لا تفلته الخساسة. وصواب قراءة المخطوطة: " أنهم " كما أثبتها، وهو واضح جدًا. (3) انظر ما سلف 7: 417، تفسير هذه الآية. (4) " الصلة "، الزيادة، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف. (5) " التطويل "، الزيادة أيضًا. انظر ما سلف 1: 118، 224، 405، 406، 440، 441، وهو هناك " التطول ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 (لا تَحْسَبَنَّ) ، بالتاء (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ) ، بكسر الألف من "إنهم"، (لا يُعْجِزُونَ) ، بمعنى: ولا تحسبن أنت، يا محمد، الذين جحدوا حجج الله وكذبوا بها، سبقونا بأنفسهم ففاتونا، إنهم لا يعجزوننا =أي: يفوتوننا بأنفسهم، ولا يقدرون على الهرب منا، (1) كما:- 16223- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) ، يقول: لا يفوتون. * * * القول في تأويل قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (60) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأعدوا) ، لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم، أيها المؤمنون بالله ورسوله = (ما استطعتم من قوة) ، يقول: ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم، (2) من السلاح والخيل= (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدوَّ الله وعدوكم من المشركين. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16224- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل من جهينة، يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، ألا إنَّ الرمي هو القوة، ألا إنّ الرمي هو القوة. (3)   (1) انظر تفسير " أعجز " فيما سلف 12: 128. (2) انظر تفسير " الاستطاعة "، فيما سلف 4: 315 \ 9: 284. (3) الأثر: 16224 - " ابن إدريس "، وهو " عبد الله بن إدريس الأودي " الإمام، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " أبو إدريس " وهو خطأ صرف. و" أسامة بن زيد الليثي "، ثقة، مضى برقم: 2867، 3354. و" صالح بن كيسان المدني "، روى له الجماعة، مضى برقم: 1020، 5321. وسيأتي هذا الخبر من طرق أخرى رقم: 16226 - 16228، وسأذكرها عند كل واحد منها، وانظر تخريج الخبر التالي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 16225- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سعيد بن شرحبيل قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبد الكريم بن الحارث، عن أبي علي الهمداني: أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: قال الله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: قال الله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ثلاثا. (1)   (1) الأثر: 16225 - " سعيد بن شرحبيل الكندي "، روى عنه البخاري، وروى له النسائي وابن ماجه بالواسطة. ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 442، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 33. و" ابن لهيعة "، مضى مرارًا، ومضى الكلام في أمر توثيقه. و" يزيد بن أبي حبيب الأزدي المصري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها: 11871. و" عبد الكريم بن الحارث بن يزيد الحضرمي المصري "، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 60. و" أبو علي الهمداني "، هو " ثمامة بن شفي الهمداني " المصري، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 177، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 466. وهذا إسناد فيه ضعف لمن ضعف ابن لهيعة، والطبري نفسه سيقول في ص: 37، تعليق: 2، أنه سند فيه وهاء ". بيد أن هذا الخبر روي من طرق صحيحة جدا: رواه مسلم في صحيحه 13: 64، من طريق هارون بن معروف، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي علي ثمامة بن شفي، بمثله. ورواه أبو داود في سننه 3: 20، رقم: 2514، من طريق سعيد بن منصور، عن ابن وهب، بمثله. ورواه ابن ماجه في سننه: 940 رقم: 2813، من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب بمثله. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 328، من طريق سعيد بن ابي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ولك يخرجه البخاري، لأن صالح بن كيسان أوقفه " ووافقه الذهبي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 16226- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محبوب، وجعفر بن عون، ووكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم=، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ، فقال: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة، الرمي" ثلاث مرات. (1) 16227- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل، عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر، فذكر نحوه. (2) 16228- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (3) 16229- حدثنا أحمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه، محمد بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، "ألا إن القوة الرمي. (4)   (1) الأثر: 16226 - " محبوب "، هو " محبوب بن محرز القواريري "، وثقه ابن حبان، وضعفه الدارقطني. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 388. و" جعفر بن عون المخزومي "، ثقة، أخرج له الجماعة، مضى برقم: 9506. وهذا الخبر رواه الترمذي من طريق وكيع عن أسامة بن زيد، ثم قال: " وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن عقبة بن عامر، وحديث وكيع أصح، وصالح بن كيسان لم يدرك عقبة بن عامر، وأدرك ابن عمر ". وانظر الخبر رقم: 16228. (2) الأثر: 16227 - هو مكرر الأثر السالف، وانظر تخريجه، رواه من هذه الطريق، الترمذي في سننه، كما سلف. (3) الأثر: 16228 - هذا هو الحديث الذي أشار إليه الترمذي، وقال فيه: " صالح بن كيسان، لم يدرك عقبة بن عامر ". انظر ما سلف: 16226. (4) الأثر: 16229 - " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي "، ضعيف بمرة، لا تحل الرواية عنه. سلف مرارًا، آخرها رقم: 11811، 14045، روى عن أخويه " عبد الله " و " محمد " وأخوه " محمد بن عبيدة بن نشيط الربذي "، لم أجد له ترجمة، وهو مذكور في ترجمة أخيه " موسى "، وترجمة أخيه " عبد الله "، وأنه روى عنه. وكان أكبر من أخيه موسى بثمانين سنة. وأخوه " عبد الله بن عبيدة بن نشيط الربذي "، روى عن جماعة من الصحابة، وثقه بعضهم، وضعفه آخرون، وقال أحمد: " موسى بن عبيدة وأخوه، لا يشتغل بهما ". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 101. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 16230- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن شعبة بن دينار، عن عكرمة في قوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، قال: الحصون = (ومن رباط الخيل) ، قال: الإناث. (1) 16231- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن رجاء بن أبي سلمة قال: لقي رجل مجاهدًا بمكة، ومع مجاهد جُوَالَق،، (2) قال: فقال مجاهد: هذا من القوة! =ومجاهد يتجهز للغزو. 16232- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، من سلاح. * * * وأما قوله: (ترهبون به عدو الله وعدوكم) = = فقال ابن وكيع: 16233- حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن مجاهد، عن ابن عباس: (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم. 16234- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن عثمان، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله. 16235- حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ترهبون به عدو الله   (1) الأثر: 16230 - " شعبة بن دينار الكوفي "، روى عن مكرمة، وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 2 \ 245، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 368. (2) " الجوالق " (بضم الجيم، وفتح اللام أو كسرها) ، وعاء من الأوعية، هو الذي نسميه اليوم في مصر محرفا " الشوال ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 وعدوكم) ، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم. وكذا كان يقرؤها: (تُخْزُونَ) . (1) 16237- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، وخصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: (ترهبون به) ، تخزون به. (2) 16238- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. * * * يقال منه: "أرهبت العدو، ورهَّبته، فأنا أرهبه وأرهِّبه، إرهابًا وترهيبًا، وهو الرَّهَب والرُّهْب"، ومنه قول طفيل الغنوي: وَيْلُ أُمِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ بَنِي كِلابٍ غَدَاة الرُّعْبِ والرَّهَبِ (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هؤلاء "الآخرين"، من هم، وما هم؟ فقال بعضهم: هم بنو قريظة. *ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " وكذا كان يقرؤها: ترهبون "، والصواب الذي لا شك فيه هنا، هو " تخزون "، كما أثبتها، وقد ذكر قراءة ابن عباس هذه، ابن خالويه في القراءات الشاذة: 50 (وفي المطبوعة خطأ، كتب: يجرون به عدو الله، والصواب ما أثبت) ، وقال أبو حيان في تفسيره 4: 512: " وقرأ ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد: " تخزون به "، مكان: ترهبون به = وذكرها الطبري على وجه التفسير لا على وجه القراءة، وهو الذي ينبغي، لأنه مخالف لسواد المصحف ". قلت: وقد رأيت بعد أن الطبري ذكرها أيضًا على جهة القراءة، ولا يستقيم نصه إلا بما أثبت. (2) سقط من الترقيم: 16236، سهوًا. (3) ديوانه: 56، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 249 يمدح بها بني جعفر بن كلاب، من أبيات ثلاثة، مفردة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 16239- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرين من دونهم) ، يعني: من بني قريظة. 16240- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرين من دونهم) ، قال: قريظة. * * * وقال آخرون: من فارس. * ذكر من قال ذلك: 16241- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، هؤلاء أهل فارس. * * * وقال آخرون: هم كل عدو للمسلمين، غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرِّد بهم من خلفهم. قالوا: وهم المنافقون. * ذكر من قال ذلك: 16242- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال: أخفهم بهم، لما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) . (1) 16243- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، قال: هؤلاء المنافقون، لا تعلمونهم لأنهم معكم، يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم. * * *   (1) الأثر: 16242 - هذا مكرر الأثر السالف رقم 16220، ولا أدري فيم جاء به هنا مفردًا، وأما الأثر الذي عناه، فهو الذي يليه، والظاهر أنه خطأ من الطبري نفسه في النقل. ولفظ هذا الخبر، يخالف لفظ الخبر السالف قليلا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 وقال آخرون: هم قوم من الجنّ. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين، من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط الخيل =ولا وجه لأن يقال: عني بـ "القوة"، معنى دون معنى من معاني "القوة"، وقد عمَّ الله الأمر بها. فإن قال قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: "ألا إن القوة الرمي"؟ (1) قيل له: إن الخبر، وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مرادٌ بها الرمي خاصة، دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة، لأنه إنما قيل في الخبر: "ألا إن القوة الرمي"، ولم يقل: "دون غيرها"، ومن "القوة" أيضًا السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) * * * وأما قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ، فإن قول من قال: عنى به الجن، أقربُ وأشبهُ بالصواب، لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله: (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، الأمرَ بارتباط الخيل لإرهاب كل عدوٍّ لله وللمؤمنين يعلمونهم، ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم، لعلمهم بأنهم مشركون، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال: وهم يعلمونهم لهم   (1) انظر الآثار السالفة رقم: 16224 - 16229. (2) هذه مرة أخرى تختلف فيها كتابة المخطوطة، فههنا: " وهاء "، كما أثبتها، وكان في المطبوعة: " وهي "، وانظر ما كتبته ما سلف 9: 531، تعليق: 2. ثم انظر ما قلته في تخريج الخبر السالف رقم: 16225، وما ذكرته من الطريق الصحيحة في رواية هذا الخبر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 أعداءً: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ، ولكن معنى ذلك إن شاء الله: ترهبون بارتباطكم، أيها المؤمنون، الخيلَ عدوَّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم، لكفرهم بالله ورسوله، وترهبون بذلك جنسًا آخر من غير بني آدم، لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم، الله يعلمهم دونكم، لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل: إن صهيل الخيل يرهب الجن، وأن الجن لا تقرب دارًا فيها فرس. (1) * * * فإن قال قائل: فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون، فما تنكر أن يكون عُنِي بذلك المنافقون؟ قيل: فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم، وإنما كان يَرُوعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرُّون من الكفر، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب العدو، فأما من لم يرهبه ذلك، فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون. وقيل: "لا تعلمونهم"، فاكتفي لـ "العلم"، بمنصوب واحد في هذا الموضع، لأنه أريد: لا تعرفونهم، كما قال الشاعر: (2)   (1) ذكر ابن كثير في تفسيره خبرين، أحدهما رواه ابن أبي حاتم، عن زيد بن عبد الله بن عريب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هم الجن، في هذه الآية ثم قال رواه الطبراني، وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخبل بيت فيه عتيق الخيل "، (انظر الإصابة: ترجمة عريب) ، ثم قال ابن كثير: " هذا الحديث منكر، لا يصح إسناده ولا متنه ". وانظر القرطبي 8: 38. وهذا الذي قاله الطبري، رده العلماء من قوله، وحق لهم. وقد رجح ابن كثير وأبو حبان (4: 513) ، أن المعنى بذلك هم المنافقون، وهو القول الذي رده أبو جعفر فيما يلي، ورد أبي جعفر رد محكم. فإن كان لنا أن نختار، فإني أختار أن يكون عني بذلك، من خفي على المؤمنين أمره من أهل الشرك، كنصارى الشأم وغيرهم، ممن لم ينظر المؤمنون عدواتهم بعد، وهي آتية سوف يرونها عيانًا بعد قليل. وفي الكلام فضل بحث ليس هذا مكانه، والآية عامة لا أدري كيف يخصصها أبو جعفر، بخبر لا حجة فيه. (2) هو النمر بن تولب العكلي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا وَأَنَّا سَوْفَ يَلْقَاهُ كِلانا (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما أنفقتم، أيها المؤمنون، من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كُرَاع أو غير ذلك من النفقات، (2) في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدَّخر لكم أجوركم على ذلك عنده، حتى يوفِّيكموها يوم القيامة (3) (وأنتم لا تظلمون) ، يقول: يفعل ذلك بكم ربكم، فلا يضيع أجوركم عليه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) الاقتضاب: 303، المفصل الزمخشري: 88. وكان النمر بن تولب، نازع رجلا يقال له " وهب "، من قومه، في بئر تدعى " الدحول " (بالحاء المهملة) ، في أرض عكل، نميرة الماء، يقول فيها من هذه الأبيات: ولكنَّ الدَّحُولَ إذَا أتَاهَا ... عِجَافُ المَالِ تتْرُكُهُ سِمَانَا وكان النمر سقاه منها، فلم يشكر له، وخان الأمانة ونازعه فيها فقال: يُريدُ خِيَانَتِي وَهْبٌ، وأَرْجُو ... مِنَ اللهِ البراءَةَ وَالأمَانَا فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا ... وَيَعْلَمُ أَنْ سَيَلقَاهُ كِلانَا وَإنَّ بَنِي رَبِيعَةَ بَعْدَ وَهْبٍ ... كَرَاعِي البَيْتِ يَحْفَظُهُ فخانَا وكان البيت في المطبوعة والمخطوطة: فإن اللهَ يعلمني ... وأَنا سوف يلقاهُ كلانا (2) انظر تفسير " النفقة " فيما سلف من فهارس اللغة (نفق) . (3) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 12: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 16244- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) ، أي لا يضيع لكم عند الله أجرُه في الآخرة، وعاجل خَلَفه في الدنيا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرًا، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب = (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحربَ، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (2) = (فاجنح لها) ، يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه. * * * يقال منه: "جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا"، وهي لتميم وقيس، فيما ذكر عنها، تقول: "يجنُح"، بضم النون، وآخرون: يقولون: "يَجْنِح" بكسر النون، وذلك إذا مال، ومنه قول نابغة بني ذبيان: جَوَانِحَ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ إذَا مَا التَقَى الجمْعانِ أَوَّلُ غَالِبِ (3) جوانح: موائل. * * *   (1) الأثر: 16244 - سيرة ابن هشام 2: 329، 330، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16218. (2) انظر تفسير " السلم " فيما سلف 4: 251 - 255. (3) ديوانه: 43، من شعره المشهور في عمرو بن الحارث الأعرج، حين هرب إلى الشأم، من النعمان بن المنذر في خبر المتجردة، وقبله، ذكر فيها غارة جيشه، والنسور التي تتبع الجيش: إذَا مَا غَزَوْا بِالجَيْشِ، حَلَّقَ فَوْقَهُمْ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ يُصَاحبْنَهُمْ حَتَّى يُغِرْنَ مُغَارَهم ... مِنَ الضَّارِيَاتِ بالدِّمَاءِ الدَّوَارِبِ تَرَاهُنَّ خَلْفَ القومِ خُزْرًا عُيُونهَا ... جُلُوسَ الشُّيُوخِ فِي ثِيَابِ المَرَانِبِ جَوانِحَ قَدْ أيْقَنَّ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا من جيد الشعر وخالصه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16245- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإن جنحوا للسلم) قال: للصلح، ونسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: 5] 16246- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإن جنحوا للسلم) ، إلى الصلح= (فاجنح لها) ، قال: وكانت هذه قبل "براءة"، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم، ثم نسخ ذلك بعد في "براءة" فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وقال: (قاتلوا المشركين كافة) ، [سورة التوبة: 36] ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يقولوا "لا إله إلا الله" ويسلموا، وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك. وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها، وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن "براءة" جاءت بنسخ ذلك، فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: "لا إله إلا الله". 16247- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، نسختها الآية التي في "براءة" قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) ، إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 16248- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده. 16249- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، أي: إن دعوك إلى السلم =إلى الإسلام= فصالحهم عليه. (1) 16250- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد. * * * قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل. وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. (2) وقول الله في براءة: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله. (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، لأن قوله: (وإن جنحوا للسلم) ، إنما عني به بنو قريظة، وكانوا يهودًا أهلَ كتاب، وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم. وأما قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى   (1) الأثر: 16249 - سيرة ابن هشام 2: 330، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16244، وفي السيرة: " إلى السلم على الإسلام ". (2) انظر مقالته في " النسخ " فيما سلف 11: 209، وما بعده وما قبله في فهارس الكتاب، وفي فهارس العربية والنحو وغيرها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه. 16251- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن جنحوا للسلم) ، قال: قريظة. * * * وأما قوله: (وتوكل على الله) ، يقول: فوِّض إلى الله، يا محمد، أمرك، واستكفِه، واثقًا به أنه يكفيك (1) كالذي:- 16252- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وتوكل على الله) ، إن الله كافيك. (2) * * * وقوله: (إنه هو السميع العليم) ، يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه، "سميع"، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه، وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط (3) ="العليم"، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه، ومن المضمر ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه. (4) * * *   (1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 15 تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) الأثر: 16252 - سيرة ابن هشام 2: 330، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16249. (3) في المطبوعة: " ويشرط كل فريق. . . "، وفي المخطوطة: " ويشترط. . . "، والصواب بينهما ما أثبت. (4) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن يرد، يا محمد، هؤلاء الذين أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانة، وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم، خداعَك والمكرَ بك (1) = (فإن حسبك الله) ، يقول: فإن الله كافيكهم وكافيك خداعَهم إياك، (2) لأنه متكفل بإظهار دينك على الأديان، ومتضمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا وكلمة أعدائه السفلى = (هو الذي أيدك بنصره) ، يقول: الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه (3) = (وبالمؤمنين) ، يعني بالأنصار. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16253- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، (وإن يريدوا أن يخدعوك) ، قال: قريظة. 16254- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) ، هو من وراء ذلك. (4) 16255- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (هو الذي أيدك بنصره) ، قال: بالأنصار.   (1) انظر تفسير " الخداع " فيما سلف 1: 273 - 277، 302 \ 9: 329. (2) انظر تفسير " حسبك " فيما سلف 11: 137، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 13: 377، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) الأثر: 16254 - سيرة ابن هشام، 2: 331، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16252. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 القول في تأويل قوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) } قال أبو جعفر: يريد جل ثناؤه بقوله: (وألف بين قلوبهم) ، وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، على دينه الحق، فصيَّرهم به جميعًا بعد أن كانوا أشتاتًا، وإخوانًا بعد أن كانوا أعداء. وقوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت، يا محمد، ما في الأرض جميعا من ذهب ووَرِق وعَرَض، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيْلك، (1) ولكن الله جمعها على الهدى فأتلفت واجتمعت، تقوية من الله لك وتأييدًا منه ومعونة على عدوك. يقول جل ثناؤه: والذي فعل ذلك وسبَّبه لك حتى صاروا لك أعوانًا وأنصارًا ويدًا واحدة على من بغاك سوءًا هو الذي إن رام عدوٌّ منك مرامًا يكفيك كيده وينصرك عليه، فثق به وامض لأمره، وتوكل عليه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16256- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وألف بين قلوبهم) ، قال: هؤلاء الأنصار، ألف بين قلوبهم من بعد حرب، فيما كان بينهم. (2)   (1) " الحيل " (بفتح فسكون) ، القوة، مثل " الحول "، يقال: " إنه لشديد الحيل "، وفي الحديث: " اللهم ذا الحيل الشديد ". وهو لا يزال يستعمل كذلك في عامية مصر. (2) ما بين " من بعد حرب " و " فيما كان بينهم "، بياض في المخطوطة، فيه معقوفة بالحمرة، لا أدري أهو بياض تركه لسقط، أم هو سهو من الناسخ ملأه بالحمرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 16257- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن بشير بن ثابت، رجل من الأنصار: أنه قال في هذه الآية: (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ، يعني: الأنصار (1) 16258- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وألف بين قلوبهم) ، على الهدى الذي بعثك به إليهم = (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) ، بدينه الذي جمعهم عليه =يعني الأوس والخزرج. (2) 16259- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن إبراهيم الخوزيّ، عن الوليد بن أبي مغيث، عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غُفِر لهما. قال قلت لمجاهد: بمصافحةٍ يغفر لهما؟ (3) فقال مجاهد: أما سمعته يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ؟ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني. (4) 16260- حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد، عن أبي عمرو قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد، ولقيته وأخذ بيدي فقال: إذا تراءى المتحابَّان في الله، (5) فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتّت   (1) الأثر: 16257 - " بشير بن ثابت الأنصاري "، مولى النعمان " بن بشير "، ذكره ابن حبان في الثقات. روى عنه شعبة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 97، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 372. (2) الأثر: 16258 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16254. (3) في المخطوطة: " يغفر الله له " والذي في المطبوعة أجود. (4) الأثر: 16259 - " إبراهيم الخوزي "، هو: " إبراهيم بن يزيد الخوزي الأموي "، مولى عمر بن عبد العزيز، ضعيف، مضى برقم: 7484، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " إبراهيم الجزري "، وهو خطأ محض. و" الوليد بن أبي مغيث "، نسب إلى جده، ولم أجده منسوبًا إليه في غير هذا المكان، وإنما هو: " الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، مولى بني عبد الدار، ثقة. روى عن يوسف بن ماهك، ومحمد بن الحنفية. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 146، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 9. (5) " تراءى الرجلان "، رأى أحدهما الآخر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 46 خطاياهما كما يتحاتُّ ورق الشجر. (1) قال عبدة: فقلت له: إنّ هذا ليسير! قال: لا تقل ذلك، فإن الله يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ! قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. (2) 16261- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا فضيل بن غزوان قال، أتيت أبا إسحاق فسلمت عليه فقلت (3) أتعرفني؟ فقال فضيل: نعم! لولا الحياء منك لقبَّلتك = حدثني أبو الأحوص، عن عبد الله، قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) . (4) 16262- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون،   (1) " تحات ورق الشجر "، تساقط من غصنه إذا ذبل، ثم انتثر. (2) الأثر: 16260 - " عبد الكريم بن أبي عمير "، شيخ الطبري، سلف برقم: 7578، 11368، 12867. و" الوليد "، هو " الوليد بن مسلم "، سلف مرارًا. و" أبو عمرو "، هو الأوزاعي الإمام. و" عبدة بن أبي لبابة الأسدي "، مضى برقم: 5859. وانظر الخبر الآتي رقم: 16263. (3) في المستدرك: " لقيت أبا إسحاق بعد ما ذهب بصره ". (4) الأثر: 16261 - " أبو إسحاق " هو: السبيعي. و" أبو الأحوص "، هو " عوف بن مالك بن نضلة "، تابعي ثقة، مضى مرارًا. و" عبد الله "، هو " عبد الله بن مسعود ". وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 329، من طريق يعلي بن عبيد، عن فضيل، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 27، 28، من طريق أخرى، وقال: " رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير جنادة بن مسلم، وهو ثقة ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 199، وزاد نسبته إلى ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، والنسائي، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. وسيأتي من طريق أخرى رقم: 16264. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 47 عن عمير بن إسحاق قال: كنا نُحدَّث أن أوّل ما يرفع من الناس =أو قال: عن الناس= الألفة. (1) 16263- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي قال، حدثني عبدة بن أبى لبابة، عن مجاهد =ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم، عن الوليد. (2) 16264- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، وابن نمير، وحفص بن غياث=، عن فضيل بن غزوان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال: سمعت عبد الله يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ، الآية، قال: هم المتحابون في الله. (3) * * * وقوله: (إنه عزيز حكيم) ، يقول: إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما، وجعلهم لك أنصارًا = (عزيز) ، لا يقهره شيء، ولا يردّ قضاءه رادٌّ، ولكنه ينفذ في خلقه حكمه. يقول: فعليه فتوكل، وبه فثق= (حكيم) ، في تدبير خلقه. (4) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي حسبك الله) ، وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. يقول لهم جل ثناؤه: ناهضوا   (1) الأثر: 16262 - " عمير بن إسحاق "، مضى قريبًا برقم: 16148. (2) الأثر: 16263 - انظر ما سلف رقم: 16260، والتعليق عليه. (3) الأثر: 16264 - طريق أخرى للأثر السالف رقم: 16261. (4) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 48 عدوكم، فإن الله كافيكم أمرهم، ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم، فإن الله مؤيدكم بنصره. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16265- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان، عن شوذب أبي معاذ، عن الشعبي في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. (2) 16266- حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا سفيان، عن شوذب، عن الشعبي في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: حسبك الله، وحسب من معك. 16267- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن شوذب، عن عامر، بنحوه =إلا أنه قال: حسبك الله، وحسب من شهد معك. 16268- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: يا أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، إنّ حسبك أنت وهم، الله. * * * فـ "منْ" قوله: (ومن اتبعك من المؤمنين) ، على هذا التأويل الذي   (1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص: 44، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) الأثر: 16265 - " شوذب، أبو معاذ "، ويقال: " أبو عثمان "، مولى البراء بن عازب. قال سفيان، عن شوذب: " كنت تياسًا، فنهاني البراء بن عازب عن عسب الفحل " روى عنه سفيان الثوري، وشعبة. مترجم في الكبير 2 \ 2 \ 261، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 377، وكان في المطبوعة: "شوذب بن معاذ" وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. وسيأتي في الإسنادين التاليين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 49 ذكرناه عن الشعبي، نصب، عطفا على معنى "الكاف" في قوله: (حسبك الله) لا على لفظه، لأنها في محل خفض في الظاهر، وفي محل نصب في المعنى، لأن معنى الكلام: يكفيك الله، ويكفي من اتبعك من المؤمنين. * * * وقد قال بعض أهل العربية في "من"، أنها في موضع رفع على العطف على اسم "الله"، كأنه قال: حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدو من المؤمنين، دون القاعدين عنك منهم. واستشهد على صحة قوله ذلك بقوله: (حرض المؤمنين على القتال) . (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ، حُثَّ متبعيك ومصدِّقيك على ما جئتهم به من الحق، على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين (2) = (إن يكن منكم عشرون) رجلا= (صابرون) ، عند لقاء العدو، ويحتسبون أنفسهم ويثبتون   (1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 417. (2) انظر تفسير " التحريض " فيما سلف 8: 579. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 50 لعدوهم = (يغلبوا مئتين) ، من عدوهم ويقهروهم = (وإن يكن منكم مئة) ، عند ذلك (يغلبوا) ، منهم (ألفا) = (بأنهم قوم لا يفقهون) ، يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر ولا احتساب، لأنهم لم يفقهوا أن الله مُوجبٌ لمن قاتل احتسابًا، وطلب موعود الله في الميعاد، ما وعد المجاهدين في سبيله، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء، خشية أن يُقتلوا فتذهب دنياهم. (1) ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين، إذ علم ضعفهم فقال لهم: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، يعني: أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوهم ضعفًا = (فإن يكن منكم مئة صابرة) ، عند لقائهم للثبات لهم = (يغلبوا مئتين) منهم = (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) منهم = (بإذن الله) يعني: بتخلية الله إياهم لغلبتهم، ومعونته إياهم (2) = (والله مع الصابرين) ، لعدوهم وعدو الله، احتسابًا في صبره، وطلبًا لجزيل الثواب من ربه، بالعون منه له، والنصر عليه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16269- حدثنا محمد بن بشار قال. حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن عطاء في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين; لا ينبغي له أن يفرَّ منهما. (3) 16270- حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج،   (1) انظر تفسير " فقه " فيما سلف 13: 278، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 11: 215، تعليق: 2. والمراجع هناك. (3) الأثر: 16269 - " محمد بن محبب بن إسحاق القرشي "، ثقة، مضى برقم: 6320. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 51 عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: جعل على المسلمين على الرجل عشر من الكفار، فقال: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، فخفف ذلك عنهم، فجعل على الرجل رجلان. قال ابن عباس: فما أحب أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم. 16271- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية، ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين، ومئة ألفا، فخفف الله عنهم. فنسخها بالآية الأخرى فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم. وإن كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم أن يقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم. (1) 16272- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفرّ منهم. فكانوا كذلك حتى أنزل الله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فنسخ الأمر الأول =وقال مرة أخرى في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار، فشق ذلك على المؤمنين، ورحمهم الله، فقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) ،   (1) الأثر: 16271 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر التالي رقم: 16285، قدم الطبري وأخر في هذا الموضع، فاختلف ترتيب نقله من تفسير ابن إسحاق في سيرته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 52 فأمر الله الرجلَ من المؤمنين أن يقاتل رجلين من الكفار. 16273- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ، إلى قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) ، وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدو يؤشِّبهم =يعني: يغريهم (1) = بذلك، ليوطنوا أنفسهم على الغزو، وأن الله ناصرهم على العدو، ولم يكن أمرًا عزمه الله عليهم ولا أوجبه، ولكن كان تحريضًا ووصية أمر الله بها نبيه، ثم خفف عنهم فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، فجعل على كل رجلٍ رجلين بعد ذلك، تخفيفا، ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم، فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا، ولو كان عليهم واجبًا كفّروا إذنْ كلَّ رجل من المسلمين [نكل] عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم. (2) فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ! فإني قد سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان، وحتى يكون على كل رجلين أربعة، ثم بحساب ذلك، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان، وعلى كل رجلين أربعة، وقد قال الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [سورة البقرة: 207] ، وقال الله: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النساء: 84] ، فهو التحريض الذي أنزل الله   (1) " التأشيب " التحريش بين القوم بالشر، ومثله " التأشيب " بمعنى الإغراء بالعدو، انظر كما سلف في التعليق على رقم: 16059، ج 13: 531، تعليق رقم: 2، وكتب اللغة مقصرة في بيان معنى هذا الحرف من العربية. (2) في المطبوعة: " ولو كان عليهم واجبًا الغزو إذا بعد كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار "، جاء بكلام لا معنى له. وكان في المخطوطة: " ولو كان عليهم واجبًا كفروا إذا كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار "، وصواب الجملة ما أثبت، ولكن الناسخ أسقط، والله أعلم، [نكل] التي وضعها بين القوسين. و " نكل عن عدوه "، نكص. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 53 عليهم في "الأنفال"، فلا تعجزنَّ، قاتلْ، قد سقطت بين ظَهْرَيْ أناس كما شاء الله أن يكونوا. (1) 16274- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحصين، عن زيد، عن عكرمة والحسن قالا قال في "سورة الأنفال" = (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) ، ثم نسخ فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، إلى قوله: (والله مع الصابرين) . 16275- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة، في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون) ، قال: واحد من المسلمين وعشرة من المشركين. ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرَّ رجل من رجلين. 16276- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون) ، إلى قوله: (وإن يكن منكم مئة) ، قال: هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار، (2) فضجوا من ذلك، فجعل على الرجل قتال رجلين، تخفيفا من الله. 16277- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، وأبي معبد عن ابن عباس قال: إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة، والعشرة لمئة إذ المسلمون قليل، فلما كثر   (1) في المطبوعة: " فلا يعجزك قائل قد سقطت "، وهو بلا معنى، صوابه ما في المخطوطة كما أثبته، وهو فيها غير منقوط، وهذا صواب قراءة. وقوله: " فلا تعجزن "، يعني لا تقعد عن القتال عجزًا، ولكن قاتل، فإنك قد وقعت بين عدد من العدو، كما شاء الله أن يكون عددهم، قلوا أو كثروا. (2) في المطبوعة في الموضعين حذف " قتال "، لأنها في المخطوطة: " فقال "، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 54 المسلمون، خفف الله عنهم. فأمر الرجل أن يصبر لرجلين، والعشرة للعشرين، والمئة للمئتين. 16278- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفروا غَلَبوا، ثم خفف الله عنهم وقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، فيقول: لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم. 16279- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، جعل الله على كل رجل رجلين، بعد ما كان على كل رجل عشرة = وهذا الحديث عن ابن عباس. 16280- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الخرِّيت، عن عكرمة، عن ابن عباس: كان فُرِض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين. قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا) ، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله التخفيف، فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين، قوله: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فخفف الله عنهم، ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك. (1) 16281- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، يقول: يقاتلوا مئتين، فكانوا أضعف من ذلك، فنسخها الله عنهم. فخفف   (1) في المطبوعة: " ونقصوا من الصبر "، زاد " واوًا "، وغير " النصر "، فأفسد الكلام. غفر الله له. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 55 فقال: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فجعل أول مرة الرجل لعشرة، ثم جعل الرجل لاثنين. 16282- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفرُّوا غَلَبوا. ثم خفف الله عنهم فقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) ، فيقول: لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم. 16283- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان هذا واجبًا أن لا يفر واحد من عشرة. 16284- وبه قال: أخبرنا الثوري، عن الليث، عن عطاء، مثل ذلك. * * * وأما قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) ، فقد بينّا تأويله. (1) * * * وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:- 16285- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (بأنهم قوم لا يفقهون) ، أي لا يقاتلون على نِيَّةٍ ولا حقٍّ فيه، ولا معرفة بخير ولا شر. (2) * * * قال أبو جعفر: وهذه الآية =أعني قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، = وإن كان مخرجها مخرج الخبر، فإن معناها الأمر. يدلّ على   (1) انظر ما سلف ص: 51. (2) الأثر: 16285 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16257، وقد أخره أبو جعفر عن موضعه إلى هذا الموضع، وقدم عليه الخبر رقم: 16271، وهو تال له في تفسير السورة في سيرة ابن هشام. كان في المطبوعة. " ولا معرفة لخير "، وأثبت ما في المخطوطة والسيرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 56 ذلك قوله: (الآن خفف الله عنكم) ، فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل. ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف، وكان ندبًا، لم يكن للتخفيف وجه، لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوتَ للعشرة من العدو. وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدِّمًا، لم يكن للترخيص وجه، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن حكم قوله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، ناسخ لحكم قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا) . وقد بينا في كتابنا "البيان عن أصول الأحكام"، (1) أن كل خبرٍ من الله وعد فيه عباده على عملٍ ثوابًا وجزاء، وعلى تركه عقابًا وعذابًا، وإن لم يكن خارجًا ظاهرُه مخرج الأمر، ففي معنى الأمر= بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وعلم أن فيكم ضعفًا) . فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا) ، بضم "الضاد" في جميع القرآن، وتنوين "الضعف" على المصدر من: "ضَعُف الرجل ضُعْفًا". * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) ، بفتح "الضاد"، على المصدر أيضًا من "ضَعُف". * * * وقرأه بعض المدنيين: (ضُعَفَاء) ، على تقدير "فعلاء"، جمع "ضعيف" على "ضعفاء"، كما يجمع "الشريك"، "شركاء"، و"الرحيم"، "رحماء". * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه: (وَعَلِمَ   (1) في المطبوعة: " كتاب لطيف البيان "، وأثبت ما في المخطوطة، والكتاب هو هو. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 57 أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) ، و (ضُعْفًا) ، بفتح الضاد أو ضمها، لأنهما القراءتان المعروفتان، وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الصوابَ. * * * فأما قراءة من قرأ ذلك: "ضعفاء"، فإنها عن قراءة القرأة شاذة، وإن كان لها في الصحة مخرج، فلا أحبُّ لقارئٍ القراءةَ بها. * * * القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ. * * * و"الأسر" في كلام العرب: الحبس، يقال منه: "مأسورٌ"، يراد به: محبوس. ومسموع منهم: "أبَاله الله أسْرًا". (1) * * * وإنما قال الله جل ثناؤه [ذلك] لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم. * * *   (1) انظر تفسير " الأسير " فيما سلف 2: 311، 312. وأما قوله: " أباله الله أسرا "، فإن " الأسر " " بضم الألف وسكون السين "، وهو احتباس البول، يقال: " أخذه الأسر ". وهذه الجملة كانت في المخطوطة: " أبي الله أسرًا "، وفي لسان العرب، كما في المطبوعة " أناله بالنون "، وفي أساس البلاغة: " وفي أدعيتهم: أبي لك الله أسرا ". والذي في المخطوطة وأساس البلاغة يرجح صواب ما قرأته بالباء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 58 وقوله: (حتى يثخن في الأرض) ، يقول: حتى يبالغ في قتل المشركين فيها، ويقهرهم غلبة وقسرًا. * * * يقال منه: "أثخن فلان في هذا الأمر"، إذا بالغ فيه. وحكي: "أثخنته معرفةً"، بمعنى: قتلته معرفةً. * * * = (تريدون) ، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تريدون) ، أيها المؤمنون، (عرض الدنيا) ، بأسركم المشركين =وهو ما عَرَض للمرء منها من مال ومتاع. (1) يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها = (والله يريد الآخرة) ، يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض. يقول لهم: فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا، (2) لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها = (والله عزيز) ، يقول: إن أنتم أردتم الآخرة، لم يغلبكم عدوّ لكم، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب = وأنه (حكيم) (3) في تدبيره أمرَ خلقه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16286- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ، [سورة محمد: 4] ، فجعل الله النبيَّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن   (1) انظر تفسير " العرض " فيما سلف 9: 71 \ 13: 211. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " واطلبوا "، والسياق للفاء لا للواو. (3) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 59 شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادَوْهم. 16287- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا) ، الآية، قال: أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداءَ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. (1) ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ! وكان أول قتال قاتله المشركين. 16288- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد قال: "الإثخان"، القتل. (2) 16289- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، قال: إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتلَ. 16290- ... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، الآية، نزلت الرخصة بعدُ، إن شئت فمنّ، وإن شئت ففاد. 16291- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، يعني: الذين أسروا ببدر. 16292- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، من عدوه = (حتى يثخن في الأرض) ، أي:   (1) في المطبوعة حذف " أربعة آلاف "، الثانية، كأنها لم تعجبه، غفر الله له! ! . (2) الأثر: 16288 - " حبيب بن أبي عمرة "، القصاب، أو: اللحام، " أبو عبد الله الحماني "، ثقة قليل الحديث سلف برقم: 10224. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 60 يثخن عدوه حتى ينفيهم من الأرض = (تريدون عرض الدنيا) ، أي: المتاع والفداء بأخذ الرجال = (والله يريد الآخرة) ، بقتلهم، لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه، الذي به تدرك الآخرة. (1) 16293- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستأنهم، (2) لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم! وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا. قال: فقال له العباس: قُطِعتْ رَحِمُك! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عُمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوبَ رجال حتى تكون أشد من الحجارة! وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة إبراهيم: 36] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) ، الآية [سورة المائدة: 118] .   (1) الأثر: 16292 - سيرة ابن هشام 2: 332، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16271. وفي لفظ سيرة ابن هشام بعض الاختلاف، وأشك في قوله هناك: " أي: قتلهم لظهور الدين الذي يريد إظهاره، والذي تدرك به الآخرة ". (2) كان في المطبوعة: " واستأن بهم "، وهو نص الخبر في مسند أحمد وغيره، من " الأناة ". يقال: " استأنى بالشيء "، ترفق به، وأخره وانتظر به، وتربص به. ونقل صاحب أساس البلاغة: " واستأنيت فلانًا ": لم أعجله، وأنشد لابن مقبل: وَقَوْمٌ بأَيدِيهِمْ رِمَاحُ رُدَينَةٍ ... شَوَارِعَ تَسْتأني دَمًا أو تسَلَّفُ قال: " تنظره أو تتعجله ". ورواية " واستأنهم " هذه هي الثابتة في تاريخ أبي جعفر، في رواية هذا الخبر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 61 ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [سورة نوح: 26] ، ومثلك كمثل موسى قال: (1) (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) [سورة يونس: 88] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالة، (2) فلا ينفلتّنَ أحدٌ منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُني في يوم أخوفَ أن تقع عليَّ الحجارة من السماء، مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء. قال: فأنزل الله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى آخر الثلاث الآيات. (3) 16294- حدثنا ابن بشار قال، [حدثنا عمر بن يونس اليمامي] قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا أبو زميل قال، حدثني عبد الله بن عباس قال: لما أسروا الأسارى، يعني يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبو بكر وعمر وعلي؟ قال: ما ترون في الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، يا نبي الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبٍ لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت. (4) قال عمر: فلما كان من الغد، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنتَ وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرَض لأصحابي من أخذهم الفداء، ولقد عُرِض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة! لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى قوله: (حلالا طيبا) ، وأحلّ الله الغنيمة لهم. (5) * * *   (1) في المطبوعة: " ومثلك يا بن أبي رواحة كمثل موسى "، زاد من عنده ما ليس في المخطوطة، وهو اجتراء قبيح بلا علم، فإن الحديث ليس فيه هذه الزيادة، والقول فيه موجه إلى عمر، ولم يذكر فيه عن ابن رواحة مثل، كما في جميع المراجع، بل في بعضها: " وإن مثلك يا عمر كمثل موسى ". فهذه زيادة لا تحل لأحد. وإنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل لعبد الله بن رواحة، والله أعلم، لما في مشورته من النكال الشديد، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار سبحانه وتعالى، وأعاذنا من عذاب جهنم بفضله ورحمته ومنه على كل عاص من عباده. (2) " العالة ": الفقراء ذوي الفاقة، جمع " عائل ". و " عال الرجل "، احتاج وافتقر. (3) الأثر: 16293 - إسناده منقطع، لأن "أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود"، لم يسمع من أبيه. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من هذه الطريق نفسها رقم: 3632 - 3634، ورواه الحاكم في المستدرك 3: 21، 22، من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، وقال الذهبي: " صحيح، سمعه جرير بن عبد الحميد ". ورواه الطبري في تاريخه 2: 259، بلفظه وإسناده. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 86، 87، وفصل الكلام فيه، وقال: " رواه أحمد. . . ورواه الطبراني، وفيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات ". ورواه الواحدي في أسباب النزول: 178. وأما قوله: " إلا سهيل بن بيضاء "، فهو خطأ من بعض الرواة، وإنما هو " سهل بن بيضاء " أخو " سهيل " لأبيه وأمه، قال ابن سعد: " أسلم بمكة وكتم إسلامه، فأخرجته قريش معها في نفير بدر، فشهد بدرًا مع المشركين، فأسر يومئذ. فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة، فخلى عنه. والذي روى القصة في سهيل بن بيضاء قد أخطأ، سهيل بن بيضاء أسلم قبل عبد الله بن مسعود، ولم يستخف بإسلامه، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا، لا شك فيه. فخلط من روى ذلك الحديث ما بينه وبين أخيه، لأن سهيلا أشهر من أخيه سهل، والقصة في سهل "، ابن سعد 4 \ 1 \ 156. (4) هذا الخبر عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه، كما سترى في التخريج. (5) الأثر: 16294 - " أبو زميل "، هو " سماك بن الوليد الحنفي "، سلف أخيرًا برقم: 15734، 1600، وسائر رجال الإسناد قد مضوا جميعًا. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " حدثنا ابن بشار قال حدثنا عكرمة بن عمار "، وهو إسناد مختل، والظاهر أن الناسخ كتب " ابن بشار " في آخر الصفحة، كما هو في مخطوطتنا، ثم لما انتقل إلى أول الصفحة التالية كتب: " حدثنا عكرمة بن عمار "، فأسقط من الإسناد ما أثبته بين القوسين، واستظهرته من رواية صدر هذا الخبر نفسه في الترمذي، في كتاب التفسير، حيث رواه مختصرًا، قال: " حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عمر بن يونس اليمامي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب ". وقد مضى مختصرًا كما في الترمذي، برقم: 15734، وقد بينت تخريج الخبر هناك. وهذا الخبر مطولا رواه أحمد في مسنده رقم: 208، 221، من طريق أبي نوح قراد، عن عكرمة بن عمار. ورواه مسلم في صحيحه مطولا 12: 84 - 87، من طريق هناد بن السري، عن ابن المبارك، عن عكرمة، ثم من طريق زهير بن حرب، عن عمر بن يونس الحنفي (اليمامي) ، عن عكرمة. ورواه أبو جعفر في التاريخ 2: 294، مطولا، من طريق أحمد بن منصور، عن عاصم بن علي، عن عكرمة. ورواه الواحدي في أسباب النزول: 179. وهو حديث صحيح، لا يعرف إلا من طريق عكرمة بن عمار، كما سلف. وخرجه ابن كثير في تفسير 45: 18، 19. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 62 القول في تأويل قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء: (لولا كتاب من الله سبق) ، يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ، بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلّ قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، (1) وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسولا الله صلى الله عليه وسلم ناصرًا دينَ الله = لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم. (2) * * *   (1) انظر تفسير " كتاب" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) . (2) انظر تفسير " المس " فيما سلف 13: 333، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 64 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16295- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، قال: إن الله كان مُطْعِم هذه الأمة الغنيمةَ، وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم، ثم أحله الله. 16296- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل عن عوف، عن الحسن في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، وذلك يوم بدر، وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المغانمَ والأسارى قبل أن يؤمروا به، وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أم الكتاب: "المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته"، ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك، قال الله: (لولا كتاب من الله سبق) ، يعني في الكتاب الأول. أن المغانم والأسارى حلال لكم = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) . 16297- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمم، إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان، وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلا أو كثيرًا. حُرِّم ذلك على كل نبي وعلى أمته، فكانوا لا يأكلون منه، ولا يغلُّون منه، ولا يأخذون منه قليلا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريمًا شديدًا، فلم يحله لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال، فذلك قوله يوم بدر، في أخذ الفداء من الأسارى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) . 16298- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عروة، عن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 65 الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) قال: إن الله كان مُعطِيَ هذه الأمة الغنيمةَ، وفعلوا الذي فعلوا قبل أن تُحَلّ الغنيمة. 16299- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال الأعمش في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة. 16300- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بشير بن ميمون قال: سمعت سعيدًا يحدث، عن أبي هريرة، قال: قرأ هذه الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، قال: يعني: لولا أنه سبق في علمي أني سأحلُّ الغنائم، لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. (1) 16301- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، وأبو معاوية بنحوه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نارٌ من السماء وتأكلها، حتى كان يوم بدر، فوقع الناس في الغنائم، فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم) ، حتى بلغ، (حلالا طيبًا) . 16302- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه = قال: فلما كان يوم بدر أسرَع الناس في الغنائم. (2)   (1) الأثر: 16300 - " بشير بن ميمون الخراساني الواسطي "، أبو صيفي، ضعيف، منكر الحديث، متهم بالوضع. وقال أبو حاتم: " ضعيف الحديث، وعامة روايته مناكير ". وأجمعوا على طرح حديثه، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 105، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 379، وميزان الاعتدال 1: 153، 154. و" سعيد " هو " سعيد بن أبي سعيد المقبري ". (2) الأثران: 16301، 16302 - حديث صحيح الإسناد، إلا ما كان من أمر " جابر بن نوح الحماني "، ليس حديثه بشيء، ضعيف، قال يحيى بن معين: " جابر بن نوح، إمام مسجد بني حمان، ولم يكن بثقة، كان ضعيفًا ". مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 210، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 500، وميزان الاعتدال 1: 176، وأبو كريب رواه عن جابر، وعن أبي معاوية، فحديث أبي معاوية هو الصحيح. وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد بن حميد، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث حسن صحيح ". ورواه البيهقي في السنن 6: 290 من طريق محاضر، عن الأعمش، ومن طريق أبي معاوية، عن الأعمش. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 203، وزاد نسبته إلى النسائي، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 66 16303- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتقوَّوْا به على عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون = أو تقتلوهم! فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، وقُتل منهم سبعون، قال عبيدة، وطلبوا الخيرتين كلتيهما. (1) 16304- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عبيدة قال: كان فداء أسارى بدر مئة أوقية، و"الأوقية" أربعون درهمًا، ومن الدنانير ستة دنانير. (2) 16305- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشْهِد منكم بعِدَّتهم! فقالوا: بلى، (3) نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعِدَّتهم.   (1) " الخيرة " (بكسر الخاء وسكون الياء، أو فتح الياء) ، هو ما يختار ويصطفى من الخير. (2) انظر تقدير " الأوقية " فيما سلف في الأثر رقم: 16058. (3) انظر مجيء " بلى " في غير جحد، فيما سلف في الأثر رقم: 781 ج 1: 554 \ ثم 2: 280، 510 \ 10: 98، تعليق: 4 \ ثم 10: 253، تعليق: 3 \ ثم 12: 174، تعليق: 3. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 67 16306- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا همام بن يحيى قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: أمر عمر رحمه الله عنه بقتل الأسارى، فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذت عذاب عظيم) . (1) 16307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: كان المغنم محرَّمًا على كل نبي وأمته، وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانًا تأكله النار. وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة، يأكلون في بطونهم. 16308- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم) ، قال: كان في علم الله أن تحلّ لهم الغنائم، فقال: (لولا كتاب من الله سبق) ، بأنه أحل لكم الغنائم = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) . * * * وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم، لمسهم عذاب عظيم. * ذكر من قال ذلك: 16309- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: لأهل بدر، من السعادة. 16310- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن   (1) الأثر: 16306 - " همام بن يحيى بن دينار الأزدي "، ثقة، مضى برقم: 10190، 11725. وهذا خبر صحيح إسناده. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 68 أبي نجيح، عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر مَشْهدَهم. 16311- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: سبق من الله خيرٌ لأهل بدر. 16312- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، كان سبق لهم من الله خير، وأحلّ لهم الغنائم. 16313- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: (سبق) ، أن لا يعذب أحدًا من أهل بدر. 16314- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر، ومشهدَهم إياه. 16315- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال: سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم، سبق أنه لا يعذب المؤمنين، لأنه لا يعذب رَسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: (لولا كتاب من الله سبق) ، أن لا يؤاخذ أحدًا بفعل أتاه على جهالة = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) . * ذكر من قال ذلك: 16316- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 69 ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر ومشهدَهم إياه، قال: كتاب سبق لقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [سورة التوبة: 115] ، سبق ذلك، وسبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة = (لمسكم فيما أخذتم) ، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (فيما أخذتم) ، مما أسرتم. ثم قال بعد: (فكلوا مما غنمتم) . 16317- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم، ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنمًا من عدوٍّ له. (1) 16318- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، خمسٌ لم يُؤْتَهُنَّ نبيٌّ كان قبلي = قال محمد (2) فقال: (ما كان لنبي) ، أي: قبلك = (أن يكون له أسرى) إلى قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم) ، أي: من الأسارى والمغانم = (عذاب عظيم) ، أي: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم أكن نهيتكم، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم. (3) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما قد بيناه قبلُ. وذلك أن قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، خبر عامٌّ غير محصور على معنى دون   (1) الأثر: 16317 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو سابق الأثر السالف رقم: 16292 في ترتيب السيرة. (2) قوله: " محمد "، يعني محمد بن إسحاق، لا " محمد بن علي ". (3) الأثر: 16318 - سيرة ابن هشام 2: 332، وصدره تابع الأثر السالف رقم: 16317، وسابق للأثر رقم: 16292، ثم روى صدرًا من الأثر رقم: 16292، وأتبعه بما يليه في السيرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 70 معنى، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة، وذلك: ما عملوا من عمل بجهالة، وإحلال الغنيمة، والمغفرة لأهل بدر، وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى، وقد عم الله الخبر بكل ذلك، بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه. 16319- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نُصِر إلا أحبَّ الغنائم، إلا عمر بن الخطاب، جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك! قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ لكم. 16320- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما نزلت: (لولا كتاب من الله سبق) ، الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال. (1) * * * القول في تأويل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: (فكلوا) ، أيها المؤمنون = (مما غنمتم) ، من أموال المشركين = (حلالا) ، بإحلاله لكم = (طيبا واتقوا الله) ، يقول: وخافوا الله أن تعودوا، أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه   (1) الأثر: 16320 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام، فيما أقدر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 71 من قبل أن يُعْهَد فيه إليكم، كما فعلتم في أخذ الفداء وأكل الغنيمة، وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم = (إن الله غفور رحيم) . (1) * * * وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وتأويل الكلام: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) ، (إن الله غفور رحيم) ، (واتقوا الله) . * * * ويعني بقوله: (إن الله غفور) ، لذنوب أهل الإيمان من عباده = (رحيم) ، بهم، أن يعاقبهم بعد توبتهم منها. * * *   (1) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي، قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) ، يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا = (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) ، من الفداء = (ويغفر لكم) ، يقول: ويصفح لكم عن عقوبة جُرْمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه وكفركم بالله = (والله غفور) ، لذنوب عباده إذا تابوا = (رحيم) ، بهم، أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. (1) * * *   (1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 وذكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول: فيّ نزلت هذه الآية. * ذكر من قال ذلك: 16321- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال العباس: فيّ نزلت: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبدًا، كلهم تاجر، مالي في يديه. (1) * * * وقد:- 16322- حدثنا بهذا الحديث ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيّ والله نزلت، حين ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي = ثم ذكر نحو حديث ابن وكيع. (2) 16323- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مالُ البحرين ثمانون ألفًا، وقد توضأ لصلاة الظهر،   (1) الأثر: 16321 - في المطبوعة: " أبي إسحاق "، والصواب من المخطوطة، وانظر التعليق التالي. (2) الأثر: 16322 - هذا الخبر والذي قبله، ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 8، مطولا، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجال الأوسط رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع ". وظاهر أنه يعني إسنادًا غير هذين الإسنادين، فإن الأول لم يصرح فيه السماع، والثاني فيه " الكلبي ". وذكره الواحدي في أسباب النزول، عن الكلبي، مطولا: 180، 181. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " جابر بن عبد الله بن رباب "، وهو خطأ، صوابه ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 73 فما أعطى يومئذ شاكيًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فأخذ. قال: وكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجو المغفرة. 16324- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، وكان العباس أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين نزلت هذه الآية: لقد أعطاني الله خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية، فآتاني أربعين عبدًا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله. 16325- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) إلى قوله: (والله غفور رحيم) ، يعني بذلك: من أسر يوم بدر. يقول: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي، آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم، وغفرت لكم. 16326- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني. عن ابن عباس: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) ، عباس وأصحابه، قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك لرسول الله، لننصحن لك على قومنا. فنزل: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) ، إيمانًا وتصديقًا، يخلف لكم خيرًا مما أصيب منكم = (ويغفر لكم) ، الشرك الذي كنتم عليه. قال: فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد قال: (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) فقد أعطاني خيرًا مما أخذ مني مئة ضعف، وقال: (ويغفر لكم) ، وأرجو أن يكون قد غُفِر لي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 74 16327- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، يعني العباسَ وأصحابه، أسروا يوم بدر. يقول الله: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لي ولرسولي، أعطيتكم خيرًا مما أخذ منكم وغفرت لكم. وكان العباس بن عبد المطلب يقول: لقد أعطانا الله خصلتين، ما شيء هو أفضل منهما: عشرين عبدًا. وأما الثانية: فنحن في موعود الصادق ننتظر المغفرة من الله سبحانه. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم = (خيانتك) ، أي الغدر بك والمكرَ والخداع، بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم (1) = (فقد خانوا الله من قبل) ، يقول: فقد خالفوا أمر الله من قبل وقعة بدر، وأمكن منهم ببدر المؤمنين (2) = (والله عليم) ، بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم = (حكيم) ، في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16328- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن   (1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف ص: 25، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " أمكن " فيما سلف 11: 263 \ 12: 315. (3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 75 ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (وإن يريدوا خيانتك) ، يعني: العباس وأصحابه في قولهم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومنا"، يقول: إن كان قولهم خيانة = (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ، يقول: قد كفروا وقاتلوك، فأمكنك الله منهم. 16329- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإن يريدوا خيانتك) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمد فنافق، فلحق بالمشركين بمكة، ثم قال: "ما كان محمد يكتب إلا ما شئت! " فلما سمع ذلك رجل من الأنصار، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة، (1) وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح، وكان رضيعه = أو: أخاه من الرضاعة = فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه، فأطاف به، (2) وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم يده فبايعه، فقال: أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! (3) فقال: يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك، فلولا أوْمضت إليّ! (4) فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض. (5) 16330- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) في المطبوعة: " بن ضبابة "، وهو خطأ محض. (2) يقال: " طاف بالقوم، وأطاف بهم "، إذا استدار، وجاء من نواحيهم وهو يحوم حولهم. (3) " تلوم في الأمر " و " تلوم به "، انتظر وتلبث وتأنى، وتعدية مثل هذا الفعل من صريح العربية. (4) " أومض إليه "، أشار إشارة خفية، من " إيماض البرق "، إذا لمع لمعًا خفيًا، ثم يخفى. (5) الأثر: 16329 - انظر مسند أحمد 3: 151، حديث أنس، بغير هذا اللفظ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 76 حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ، يقول: قد كفروا بالله ونقضوا عهده، فأمكن منهم ببدر. * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله = "وهاجروا"، يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم (1) = (وجاهدوا في سبيل الله) ، يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصَابها في حرب أعداء الله من الكفار (2) = (في سبيل الله) ، يقول: في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه (3) = (والذين آووا ونصروا) ، يقول: والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه، يعني: أنهم جعلوا لهم مأوًى يأوون إليه، وهو المثوى والمسكن، يقول: أسكنوهم، وجعلوا لهم من منازلهم مساكنَ إذ أخرجهم قومهم من منازلهم (4) = (ونصروا) ، يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين = (أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يقول: هاتان الفرقتان، يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من   (1) انظر تفسير " المهاجرة " فيما سلف 4: 317، 318 \ 7: 490 \ 9: 100، 122. (2) انظر تفسير " المجاهدة " فيما سلف 4: 318 \ 10: 292، 423. (3) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (4) انظر تفسير " آوى "، و " المأوى " فيما سلف 13: 477، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 77 المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. (1) * * * وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة، دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعدُ بقوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) ، [سورة الأنفال: 75 \ وسورة الأحزاب: 6] . * ذكر من قال ذلك: 16331- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يعني: في الميراث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، قال الله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) ، يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء، وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله هذه الآية: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: 75 \ وسورة الأحزاب: 6] ، في الميراث، فنسخت التي قلبها، وصار الميراث لذوي الأرحام. 16332- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ، يقول: لا هجرة بعد الفتح، إنما هو الشهادة بعد ذلك = (والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، إلى قوله: (حتى يهاجروا) . وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل: منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى   (1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 78 قوم مؤمنين في ديارهم وعَقارهم وأموالهم = و (آووا ونصروا) ، (1) وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا السيوف على من كذّب وجحد، فهذان مؤمنان، جعل الله بعضهم أولياء بعض، فكانوا يتوارثون بينهم، إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاري بالولاية في الدين. وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فبرَّأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال الله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) . وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا، إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر لهم عليهم، إلا على العدوِّ الذين لا ميثاق لهم. ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحقْ كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا والذين آمنوا ولم يهاجروا. فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبًا مفروضًا بقوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الأنفال: 75] ، وبقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 71] . 16333- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الثلاث الآيات خواتيم الأنفال، فيهن ذكر ما كان والىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث. ثم نسخ ذلك آخرها: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . 16334- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا) ، إلى قوله: (بما تعملون بصير) ، قال: بلغنا أنها كانت في الميراث، لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا، والمؤمنون الذين لم يهاجروا. قال: ثم نزل بعد: (وَأُولُو   (1) في المطبوعة: " وفي قوله: آووا ونصروا ". زاد ما ليس في المطبوعة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 79 الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فتوارثوا ولم يهاجروا = قال ابن جريج، قال مجاهد: خواتيم "الأنفال" الثلاث الآيات، فيهن ذكر ما كان واليَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث، ثم نسخ ذلك آخرها: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) . 16335- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، قال: لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئًا، فنسخ ذلك بعد ذلك، فألحق الله (1) (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) ، [سورة الأحزاب: 6] ، أي: من أهل الشرك، فأجيزت الوصية، (2) ولا ميراث لهم، وصارت المواريث بالملل، والمسلمون يرث بعضهم بعضًا من المهاجرين والمؤمنين، ولا يرث أهل ملتين. 16336- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ، إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، كان الأعرابي لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر، فنسخها فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . 16337- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) في المطبوعة: " قول الله "، مكان " فألحق الله "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب. (2) في المخطوطة: " حرت الوصية "، هكذا غير منقوط، وكأن الصواب ما في المطبوعة. ولو قرئت: " خيرت الوصية " (بالبناء للمجهول) ، لكان وجها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 80 حدثنا أسباط، عن السدي: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعهم أولياء بعض) ، في الميراث = (والذين آمنوا ولم يهاجروا) ، وهؤلاء الأعراب = (ما لكم من ولايتهم من شيء) ، في الميراث = (وإن استنصروكم في الدين) يقول: بأنهم مسلمون = (فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، في الميراث = (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) ، ثم نسختها الفرائض والمواريث، = "وأولوا الأرحام". الذين توارثوا على الهجرة = (بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، فتوارث الأعرابُ والمهاجرون. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (والذين آمنوا) . الذين صدقوا بالله ورسوله = (ولم يهاجروا) . قومهم الكفار، ولم يفارقوا دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (ما لكم) ، أيها المؤمنون بالله ورسوله. المهاجرون قومَهم المشركين وأرضَ الحرب (2) = (من ولايتهم) ، يعني: من نصرتهم وميراثهم. * * *   (1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: " فأولئك منكم، والذين توارثوا على الهجرة في كتاب الله، ثم نسختها الفرائض والمواريث، فتوارث الأعراب والمهاجرون " قدم وأخر فيما كان في المخطوطة، وهو: " فأولئك منكم، ثم نسختها الفرائض والمواريث " الذي توارثوا على الهجرة في كتاب الله، فتوارث الأعراب والمهاجرون. واستظهرت الصواب. (2) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص 77، تعليق:، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 81 وقد ذكرت قول بعض من قال: "معنى الولاية، ههنا الميراث"، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعدُ. * * * = (من شيء حتى يهاجروا) ، قومَهم ودورَهم من دار الحرب إلى دار الإسلام = (وإن استنصروكم في الدين) ، يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا = (في الدين) ، يعني: بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، "فعليكم"، أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار، (النصر) = (إلا) أن يستنصروكم = (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) ، يعني: عهد قد وثَّق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه (1) = (والله بما تعملون بصير) ، يقول: والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضًا، أيها المهاجرون والأنصار، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم = (بصير) ، يراه ويبصره، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء. (2) 16338- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة. وكان الرجل يسلم ولا يهاجر، لا يرث أخاه، فنسخ ذلك قوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) [سورة الأحزاب: 6] . 16339- حدثنا محمد قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال:   (1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف 13، 315، تعليق: والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 82 تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت حرب. (1) 16340- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وإن استنصروكم في الدين) ، يعني: إن استنصركم الأعراب المسلمون، أيها المهاجرون والأنصار، على عدوهم، فعليكم أن تنصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق. 16341- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ يوم تُوفي على أربع منازل: مؤمن مهاجر، والأنصار، وأعرابي مؤمن لم يهاجر; إن استنصره النبي صلى الله عليه وسلم نصره، وإن تركه فهو إذْنُه، (2) وإن استنصر النبي صلى الله عليه وسلم في الدين كان حقًّا عليه أن ينصره، فذلك قوله: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) = والرابعة: التابعون بإحسان. 16342- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا) ، إلى آخر السورة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وترك الناس على أربع منازل (3) مؤمن مهاجر. ومسلم أعرابي، والذين آووا ونصروا، والتابعون بإحسان. * * *   (1) يعني بذلك: أن يبعد منزله عن منزل المشرك " حتى لا يرى ناره " نهى منه صلى الله عليه وسلم عن جوار لمشرك. (2) في المطبوعة: " فهو إذن له " ثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: " قال رسول الله " وذلك أن كاتب المخطوطة وصل لام "قال" بألف "إن"، ووصل ألف "إن" بنونها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 83 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين كفروا) ، بالله ورسوله = (بعضهم أولياء بعض) ، يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره، وأحق به من المؤمنين بالله ورسوله. (1) * * * وقد ذكرنا قول من قال: "عنى بذلك أن بعضهم أحق بميراث بعض من قرابتهم من المؤمنين"، (2) وسنذكر بقية من حضرنا ذكره. 16343- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال، قال رجل: نورّث أرحامنا من المشركين! فنزلت: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، الآية. 16344- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، نزلت في مواريث مشركي أهل العهد. 16345- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، إلى قوله: (وفساد كبير) ، قال: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي ليس بمهاجر، لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين. قال: وذلك لأن هذا الدين كان بهذا البلد   (1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) (2) في المطبوعة: " عنى بيان أن بعضهم "، وهو سياق فاسد. وفي المخطوطة: " عنى بيان بعضهم "، غير منقوط، مضطرب أيضا فاسد. والصواب ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 84 قليلا حتى كان يوم الفتح، فلما كان يوم الفتح، وانقطعت الهجرة توارثوا حيثما كانوا بالأرحام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح"، وقرأ: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) . * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إن الكفار بعضهم أنصار بعض = وإنه لا يكون مؤمنًا من كان مقيمًا بدار الحرب لم يهاجر. (1) * ذكر من قال ذلك: 16346- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، قال: كان ينزل الرجل بين المسلمين والمشركين، فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم! فأبى الله عليهم ذلك، وأنزل الله في ذلك، فلا تراءى نار مسلم ونار مشرك، (2) إلا صاحب جزية مُقِرّ بالخراج. 16347- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حض الله المؤمنين على التواصل، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض. (3) * * * وأما قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: إلا تفعلوا، أيها المؤمنون، ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة، والأنصار بالإيمان، دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار = (تكن فتنة) ، يقول: يحدث بلاء في الأرض   (1) في المطبوعة: " ولم " بزيادة الواو. (2) قوله: " لا تراءى نار مسلم ومشرك "، أسند الترائي إلى النار، كناية عن الجوار، وانظر التعليق السالف ص: 83، رقم: 1. (3) الأثر: 16347 - سيرة ابن هشام 2: 332، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16318. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 85 بسبب ذلك (1) = (وفساد كبير) ، يعني: ومعاصٍ لله. (2) * ذكر من قال ذلك: 16348- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، إلا تفعلوا هذا، تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) . قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الإيمان إلا بالهجرة، ولا يجعلونهم منهم إلا بالهجرة. (3) 16349- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، يعني في الميراث = (إلا تفعلوه) ، يقول: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إلا تَناصروا، أيها المؤمنون، في الدين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. * ذكر من قال ذلك: 16350- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: جعل المهاجرين والأنصار أهلَ ولاية في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، إلا يوالِ المؤمن المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا رحم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، أي: شبهة في الحق والباطل، وظهور الفساد في الأرض، بتولّي   (1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف 13: 537، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف 13: 36، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) في المخطوطة: " ولا يجعلونهم مقيم "، والصواب ما في المطبوعة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 86 المؤمن الكافرَ دون المؤمن. (1) ثم رد المواريث إلى الأرحام. (2) 16351- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، قال: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) . * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقامَ في دار الحرب وترك الهجرة، لأن المعروف في كلام العرب من معنى "الوليّ"، أنه النصير والمعين، أو: ابن العم والنسيب. (3) فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه، إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده. وذلك معنى بعيد، وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر، أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن أولى التأويلين بقوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، تأويلُ من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة في الأرض = إذْ كان مبتدأ الآية من قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) . بالحث على الموالاة على الدين والتناصر جاء، فكذلك (4) الواجب أن يكون خاتمتها به. * * *   (1) كان في المطبوعة بعد قوله " فساد كبير " ما نصه: " إن يتول المؤمن الكافر دون المؤمن، ثم رد المواريث إلى الأرحام "، ومثلها في المخطوطة إلا أنه كتب " إن يتولى ". وهو كلام مضطرب، سببه أن " المؤمن " ذكر في الكلام مرات، فأسقط ما بين " المؤمن " في قوله " إلا يوال المؤمن المؤمن "، إلى قوله بعد: " بتولي المؤمن الكافر "، فاضطراب الكلام، وسقته على الصواب من سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 16350 - سيرة ابن هشام 2: 332، 333، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16347، وفيه جزء منه. (3) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (4) في المطبوعة والمخطوطة " وكذلك " بالواو، والفاء حق السياق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 87 القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم، ونصروا دين الله، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًّا، لا من آمن ولم يهاجر دارَ الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغزُ مع المسلمين عدوهم (1) = (لهم مغفرة) ، يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم، بعفوه لهم عنها (2) = (ورزق كريم) ، يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيٌّ كريم، (3) لا يتغير في أجوافهم فيصير نجْوًا، (4) ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك (5) * * * وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلنا: أن معنى قول الله: (بعضهم أولياء بعض) في هذه الآية، وقوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء) ، إنما هو النصرة والمعونة، دون الميراث. لأنه جل ثناؤه عقّب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده، دون من لم يهاجر بقوله: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا   (1) انظر تفسير " هاجر " و " جاهد "، و " آوى " فيما سلف قريبا ص 77، تعليق: 1 - 4، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة " غفر ". (3) انظر تفسير " رزق كريم " فيما سلف وكان في المطبوعة هنا " طعم ومشرب "، والصواب من المخطوطة. (4) " النجو "، ما يخرج من البطن. (5) روى مسلم وأبو داود من حديث جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيهَا ويَشْرَبُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ. قِيلَ: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قال: جُشاء ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْك، يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمُونَ النَّفَس " (صحيح مسلم 17: 173) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 88 في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، الآية، ولو كان مرادًا بالآيات قبل ذلك، الدلالةُ على حكم ميراثهم، لم يكن عَقِيبَ ذلك إلا الحثّ على إمضاء الميراث على ما أمر. (1) وفي صحة ذلك كذلك، الدليلُ الواضح على أن لا ناسخ في هذه الآيات لشيء، ولا منسوخ. * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "والذين آمنوا"، بالله ورسوله، من بعد تبياني ما بيَّنت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا، وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر = (وهاجروا) ، دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (وجاهدوا معكم) ، أيها المؤمنون = (فأولئك منكم) ، في الولاية، يجب عليكم لهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة، مثل الذي يجب لكم عليهم، ولبعضكم على بعض، (2) كما:- 16352- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم ردّ المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين والأنصار دونهم، إلى الأرحام التي بينهم، (3) فقال: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، أي: بالميراث (4) = (إن الله بكل شيء عليم) . (5) * * *   (1) في المطبوعة: " إلا الحث على مضى "، وفي المخطوطة: "على أمضى"، وصواب قراءتها ما أثبت. (2) انظر تفسير " هاجر "، و " جاهد " فيما سلف ص: 88، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة والمخطوطة: " ثم المواريث إلى الأرحام التي بينهم "، أسقط من الكلام تمام الكلام الذي أثبته من سيرة ابن هشام، وسبب ذلك كما فعل في رقم: 16350، هو ذكر " الأرحام " مرتين، فاختلط عليه بصره فنقل ما نقل. (4) في المطبوعة: " أي: في الميراث "، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة والسيرة. (5) الأثر: 16352 - سيرة ابن هشام 2: 333، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16350. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 89 القول في تأويل قوله: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام = (بعضهم أولى ببعض) ، في الميراث، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبًا وحظًّا، من الحليف والولي = (في كتاب الله) ، يقول: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء (1) = (إن الله بكل شيء عليم) ، يقول: إن الله عالم بما يصلح عباده، في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب، دون الحلف بالعقد، وبغير ذلك من الأمور كلها، لا يخفى عليه شيء منها. (2) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16353- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا أبي، قال، حدثنا قتادة أنه قال: كان لا يرث الأعرابيُّ المهاجرَ، حتى أنزل الله: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) . 16354- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون، عن عيسى بن الحارث: أن أخاه شريح بن الحارث كانت له سُرِّيَّة، فولدت منه جارية، فلما شبت الجارية زُوِّجت، فولدت غلامًا، ثم ماتت السرِّية، واختصم شريح بن الحارث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها، فجعل شريح بن الحارث يقول: ليس له ميراث في كتاب الله! قال: فقضى شريح بالميراث للغلام. قال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير، فأخبره بقضاء شريح وقوله، فكتب ابن   (1) انظر تفسير " كتاب " فيما سلف ص: 64، تعليق 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 90 الزبير إلى شريح: "إن ميسرة أخبرني أنك قضيت بكذا وكذا"، وقلت: (وأولوا الأرحام بعضهم أؤلى ببعض في كتاب الله) ، وإنه ليس كذلك، إنما نزلت هذه الآية: أنّ الرجل كان يعاقد الرجل يقول: "ترثني وأرثك"، فنزلت: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) . فجاء بالكتاب إلى شريح، فقال شريح: أعتقها حيتان بطنها! (1) وأبى أن يرجع عن قضائه. (2) 16355- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال، حدثني عيسى بن الحارث قال: كانت لشريح بن الحارث سُرِّية، فذكر نحوه = إلا إنه قال في حديثه: كان الرجل يعاقد الرجل يقول: "ترثني وأرثك"، فلما نزلت تُرِك ذلك. (3) آخر تفسير "سورة الأنفال" والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.   (1) في المطبوعة: " جنين "، غير ما في المخطوطة. وفي أخبار القضاة لوكيع " جنان بطنها "، والذي هنا، وفي أخبار القضاة، مشكل، فأثبته حتى أعرف صوابه، أو يعرفه غيري. (2) الأثر: 16354، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2: 320، 321، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن ابن عون، بنحوه. (3) الأثر: 16354، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2: 320، 321، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن ابن عون، بنحوه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 91 (القول في تفسير السورة التي يذكر فيها التوبة ) * * * القول في تأويل قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) } قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (براءة من الله ورسوله) ، هذه براءة من الله ورسوله. فـ "براءة"، مرفوعة بمحذوف، وهو "هذه"، كما قوله: (سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا) ، [سورة النور: 1] ، مرفوعة بمحذوف هو "هذه". ولو قال قائل: "براءة" مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله: (إلى الذين عاهدتم) ، وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها، إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله: (من الله ورسوله) ، كالمعرفة، وصار معنى الكلام: البراءة من الله ورسوله، إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) = كان مذهبًا غير مدفوعة صحته، وإن كان القول الأول أعجبَ إليّ، لأن من شأن العرب أن يضمروا لكلِّ معاين نكرةً كان أو معرفةً ذلك المعاين، "هذا" و"هذه"، فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسنَ: "حسن والله"، والقبيحَ: "قبيح والله"، يريدون: هذا حسن والله، وهذا قبيح والله، فلذلك اخترت القول الأول.   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " براءة " مكان " البراءة "، والسياق يقتضي ما أثبت إن شاء الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 93 وقال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم) ، والمعنى: إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، لأن العهود بين المسلمين والمشركين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه، وأن عقودَ النبي صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين، ولعقوده عليهم مسلِّمين، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم، فلذلك قال: (إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده. * * * وقد اختلف أهل التأويل فيمن بَرِئَ الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين، فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر. فقال بعضهم: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ من أربعة أشهر، وأمْهِل بالسياحة أربعة أشهر = والآخر منهما: كانت مدة عهده بغير أجل محدود، فقُصِر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيثما أدرك ويؤسَرُ، إلا أن يتوب. * ذكر من قال ذلك: 16356- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضى الله عنه أميرًا على الحاجّ من سنة تسع، ليقيم للناس حجهم، والناسُ من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت "سورة براءة" في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يُصَدَّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يُخَاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدًا عامًّا بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 96 ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائصَ إلى أجل مسمًّى، (1) فنزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سُمِّي لنا، ومنهم من لم يُسَمَّ لنا، فقال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، أي: لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب = (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، إلى قوله: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، أي: بعد هذه الحجة. (2) * * * وقال آخرون: بل كان إمهالُ الله عز وجل بسياحة أربعة أشهر، مَنْ كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأما من لم يكن له من رسول الله عهد، فإنما كان أجله خمسين ليلة، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرم كله. قالوا: وإنما كان ذلك كذلك، لأن أجَل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم، كما قال الله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، الآية [سورة التوبة: 5] . قالوا: والنداء ببراءة، كان يوم الحج الأكبر، وذلك يوم النحر في قول قوم، وفي قول آخرين يوم عرفة، وذلك خمسون يوما. قالوا: وأما تأجيل الأشهر الأربعة، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت "براءة". قالوا: ونزلت في أول شوّال، فكان انقضاء مدة أجلهم، انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول: ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدًا = أعني الذي له العهد، والذي لا عهد له = غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر، والذي لا عهد له انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرم. * ذكر من قال ذلك:   (1) " خصائص " يعني لأنها لهم خاصة دون غيرهم. (2) الأثر: 16356 - سيرة ابن هشام 4: 188. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 97 16357- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال: حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون فيها حيثما شاؤوا، وحدّ أجل من ليس له عهد، انسلاخَ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك خمسون ليلة. فإذا انسلخ الأشهر الحرم، أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد. 16358- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت (براءة من الله) ، إلى: (وأن الله مخزي الكافرين) ، يقول: براءة من المشركين الذين كان لهم عهد يوم نزلت "براءة"، فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل "براءة"، أربعة أشهر، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن تنزل "براءة"، انسلاخ الأشهر الحرم، وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم، وهي خمسون ليلة: عشرون من ذي الحجة، وثلاثون من المحرم = (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) إلى قوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) ، يقول: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت "براءة" وانسلخ الأشهر الحرم، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل "براءة"، أربعة أشهر من يوم أذّن ببراءة، إلى عشر من أول ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر. 16359- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) . قبل أن تنزل "براءة"، عاهد ناسًا من المشركين من أهل مكة وغيرهم، فنزلت: براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين، فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم، فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 98 حيث شاؤوا من الأرض آمنين. وأجَّل من لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخَ الأشهر الحرم، من يوم أذِّن ببراءة، وأذن بها يوم النحر، فكان عشرين من ذي الحجة والمحرم ثلاثين، فذلك خمسون ليلة. فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعةٌ من يوم النحر، أن يضع فيهم السيف أيضًا، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر، ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، أربعة أشهر: من يوم النحر، إلى عشر يخلُون من شهر ربيع الآخر. 16360- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (براءة من الله ورسوله) ، إلى قوله: (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) ، قال: ذكر لنا أن عليًّا نادى بالأذان، وأُمِّر على الحاجّ أبو بكر رحمة الله عليهما. وكان العامَ الذي حج فيه المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد ذلك العام = قوله: (الذين عاهدتم من المشركين) ، إلى قوله: (إلى مدتهم) ، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنَ الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، وأمر الله نبيه أن يوفِّي بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له انسلاخَ المحرّم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولا يقبل منهم إلا ذلك. * * * وقال آخرون: كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر وانقضاء ذلك لجميعهم، وقتًا واحدًا. قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الآخر. * ذكر من قال ذلك: 16361- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 99 قال: لما نزلت هذه الآية. برئ من عهد كل مشرك، ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد، وأجرى لكلّ مدتهم = (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، لمن دخل عهده فيها، من عشر ذي الحجة والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر. 16362- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر قال، حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الموسم سنة تسع، وبعث عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما، بثلاثين أو أربعين آية من "براءة"، فقرأها على الناس، يؤجِّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم "براءة" يوم عرفة، أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشرًا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، وقال: لا يحجنّ بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان. 16363- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر. كان ذلك عهدَهم الذي بينهم. 16364- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (براءة من الله ورسوله) ، إلى أهل العهد: خزاعة، ومُدْلج، ومن كان له عهد منهم أو غيرهم. (1) أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجَّ، ثم قال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عُرَاةً، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون   (1) في المخطوطة: " ومن كان له أو غيرهم "، والذي في المطبوعة: " ومن كان له عهد من غيرهم "، وصححتها كما ترى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 100 من شهر ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا. 16365- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، قال: أهل العهد: مدلج، والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما، فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله، وآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ، ولم يَسِحْ أحد. وقال: حين رجع من الطائف، مضى من فوره ذلك، فغزا تبوك، بعد إذ جاء إلى المدينة. * * * وقال آخرون ممن قال: "ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدًا". كان ابتداؤه يوم نزلت "براءة"، وانقضاء الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرم. * ذكر من قال ذلك: 16366- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال: نزلت في شوال، فهذه الأربعة الأشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. * * * وقال آخرون: إنما كان تأجيلُ الله الأشهرَ الأربعة المشركين في السياحة، لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقل من أربعة أشهر. أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر، فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يُتمّ له عهده إلى مدته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 101 * ذكر من قال ذلك: 16367- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الكلبي: إنما كان الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر، فأتم له الأربعة. ومن كان له عهد أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر أن يتم له عهده، وقال: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) ، [سورة التوبة: 4] . * * * قال أبو جعفر رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: الأجلُ الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، [سورة التوبة: 4] فإن ظنّ ظانٌّ أن قول الله تعالى ذكره: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، [سورة التوبة: 5] ، يدلُّ على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم، (1) قتْلَ كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، (2) وفسادِ ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر   (1) في المطبوعة: " ينبئ عن أن. . . "، وقد سلف مرارا أن استعمل أبو جعفر " على " مع " ينبئ "، فأثبتها كما في المخطوطة، وهي جائزة لتضمنها معنى " يدل ". (2) في المطبوعة: " تنبئ عن صحة "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 102 الحرم كان يبيح قتل كل مشرك، كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يكن له منه عهد، وذلك قوله: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، [سورة التوبة: 7] ، فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. وبعدُ، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليًّا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته"، أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودًا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورًا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب. 16368- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن مغيرة، عن الشعبي قال، حدثني محرّر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: كنت مع علي رحمة الله عليه، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي. فكان إذا صَحِل صوته ناديتُ، (1) قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطُفْ بالكعبة عُريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ   (1) " صحل صوته "، هو البحح. وله معنى آخر شبيه به في حديث أم معبد، في صفة رسول الله، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم قالت: " وفي صوته صحل "، (بفتحتين) ، وهو مثل البحة في الصوت. فلا يكون حادا رفيعا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 103 فعهده إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. (1) 16369- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عفان قال، حدثنا قيس بن الربيع قال، حدثنا الشيباني، عن الشعبي قال: أخبرنا المحرّر بن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي رضي الله عنه، فذكر نحوه = إلا أنه قال: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى أجله. (2) * * * قال أبو جعفر: وقد حدث بهذا الحديث شعبة، فخالف قيسًا في الأجل. 16370- فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى قالا حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن الشعبي، عن المحرّر بن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة، فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي. فقلت: بأي شيء كنت تنادي؟ قال: أمرنا أن ننادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول   (1) الأثر: 16368 - رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد، وسيأتي تخريجه فيما بعد. " قيس "، هو: " قيس بن الربيع الأسدي "، لينه أحمد وغيره، وقد سلف مرارا آخرها رقم: 12802. و"مغيرة" هو: "مغيرة بن مقسم الضبي"، ثقة، روى له الجماعة. سلف مرارا، آخرها رقم: 11340. و " محرر بن أبي هريرة "، تابعي ثقة، قليل الحديث، سلف برقم: 2863. وهذا خبر ضعيف إسناده، لضعف " قيس بن الربيع ". (2) الأثر: 16369 - هذا الإسناد الثاني من حديث المحرر بن أبي هريرة. " عفان "، هو: " عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار "، روى له الجماعة، كان يروي عن قيس بن الربيع، ويقع فيه. مضت ترجمته برقم: 5392. و " الشيباني " هو " أبو إسحاق الشيباني "، " سليمان بن أبي سليمان "، الإمام، مضى مرارا، من آخرها رقم: 12489. وعلة إسناده ضعف " قيس بن الربيع ". ولكن رواه الحاكم في المستدرك 2: 331 من طريق شعبة، عن سليمان الشيباني، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. انظر التعليق التالي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 104 الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا حلّ الأجل فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يطُفْ بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك. (1) * * * قال أبو جعفر: وأخشى أن يكون هذا الخبر وهمًا من ناقله في الأجل، لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه، مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته. 16371- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي رحمة الله عليه قال: أمرت بأربع: أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطف رجل بالبيت عريانًا، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده. (2)   (1) الأثر: 16370 - هذا هو الإسناد الثالث: " عثمان بن عمر بن فارس العبدي "، ثقة روى له الجماعة، مضى مرارا. منها رقم: 5458، وغيره. وهذا الخبر من طريق شعبة، عن المغيرة، رواه أحمد في مسنده رقم: 7964، ورواه النسائي في سننه 5: 234. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 331 من طريق أخرى، عن النضر بن شميل، عن شعبة، عن سليمان الشيباني وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. انظر التعليق السالف. واستوفى الكلام فيه ابن كثير في تفسيره 4: 111، وفي التاريخ 5: 38، وقال في التاريخ: " وهذا إسناد جيد، ولكن فيه نكارة من جهة قول الراوي: إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر. وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصحيح: أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ، ولو زاد على أربعة أشهر. ومن ليس له أمد بالكلية، فله تأجيل أربعة أشهر. بقى قسم ثالث، وهو: من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول، فيكون أجله إلى مدته وإن قل. ويحتمل أن يقال إنه يؤجل إلى أربعة أشهر، لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية ". وانظر شرح الخبر في مسند أحمد. (2) الأثر: 16371 - " الحارث الأعور "، هو " الحارث بن عبد الله الهمداني "، ضعيف جدا، سلف مرارا، انظر رقم: 174. فإسناده ضعيف. وسيأتي بإسناد آخر رقم: 16374. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 105 16372- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع قال: نزلت "براءة"، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، ثم أرسل عليًّا فأخذها منه. فلما رجع أبو بكر قال: هل نزل فيَّ شيء؟ قال: لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. فانطلق إلى مكة، (1) فقام فيهم بأربع: أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا، ولا يطف بالكعبة عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله عهدٌ فعهده إلى مدته. (2) 16373- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: "براءة" بأربع: أن لا يطف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. (3) 16374- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر،   (1) قوله: " فانطلق "، يعني عليا رحمه الله. (2) الأثران: 16372، 16373 - حديث زيد بن يثيع، سيرويه من ثلاث طرق، هذا، والذي يليه، ثم رقم: 16379. و " زيد بن يثيع "، أو " أثيع " بالتصغير فيهما، تابعي ثقة قليل الحديث، مضى برقم: 15737. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 594، من طريق سفيان، عن أبي إسحاق السبيعي، وإسناده صحيح. ورواه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا، وقال: " وفي الباب عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: حديث على حسن ". ويعني بحديث أبي هريرة ما سلف رقم: 16368 - 16370. ثم رواه أيضا في كتاب التفسير وقال: " هذا حديث حسن صحيح ". وروى أحمد في مسند أبي بكر رقم: 4، نحو هذا الحديث مطولا، من حديث زيد بن يثيع، عن أبي بكر. (3) الأثران: 16372، 16373 - حديث زيد بن يثيع، سيرويه من ثلاث طرق، هذا، والذي يليه، ثم رقم: 16379. و " زيد بن يثيع "، أو " أثيع " بالتصغير فيهما، تابعي ثقة قليل الحديث، مضى برقم: 15737. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 594، من طريق سفيان، عن أبي إسحاق السبيعي، وإسناده صحيح. ورواه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا، وقال: " وفي الباب عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: حديث على حسن ". ويعني بحديث أبي هريرة ما سلف رقم: 16368 - 16370. ثم رواه أيضا في كتاب التفسير وقال: " هذا حديث حسن صحيح ". وروى أحمد في مسند أبي بكر رقم: 4، نحو هذا الحديث مطولا، من حديث زيد بن يثيع، عن أبي بكر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 106 عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رحمة الله عليه، قال: بعثت إلى أهل مكة بأربع، ثم ذكر الحديث. (1) 16375- حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا حسين بن محمد قال، حدثنا سليمان بن قرم، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة، ثم أتبعه عليًّا، فأخذها منه، فقال أبو بكر: يا رسول الله حدث فيّ شيء؟ قال: "لا أنت صاحبي في الغار وعلى الحوض، ولا يؤدِّي عني إلا أنا أو عليّ! وكان الذي بعث به عليًّا أربعا: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مُدَّته. (2) 16376- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن عامر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رحمة الله عليه، فنادى: ألا لا يحجنَّ بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله. 16377- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين   (1) الأثر: 16374 - انظر التعليق على الأثر رقم: 16371. (2) الأثر: 16375 - " حسين بن محمد المروزي "، روى له الجماعة، مضى مرارا، آخرها رقم: 15338. و"سليمان بن قرم بن معاذ التيمي"، ثقة، غمزوه بالغلو في التشيع. مضى برقم: 9163. و " الحكم " هو " الحكم بن عتيبة "، مضى مرارا. وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق أخرى، من طريق عباد بن العوام، عن سفيان بن الحسين، عن الحكم بن عتيبة، بنحوه، وقال: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث ابن عباس ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 107 بن علي قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رحمة الله عليه ليقيم الحج للناس; قيل له: يا رسول الله، لو بعثت إلى أبي بكر! فقال: لا يؤدِّي عني إلا رجل من أهل بيتي! ثم دعا علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، فقال: اخرج بهذه القصة من صدر "براءة"، وأذِّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنًى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته. فخرج علي بن أبي طالب رحمة الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق. فلما رآه أبو بكر قال: أميرٌ أو مأمور؟ قال: مأمور، ثم مضيا رحمة الله عليهما، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس، لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته. فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان هذا من "براءة"، فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى. (1) 16378- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما نزلت هذه الآيات إلى رأس أربعين آية، بعث بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمَّره على الحج. فلما سار فبلغ   (1) الأثر: 16377 - سيرة ابن هشام 4: 190، 191. " حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري "، ثقة، تكلموا فيه، حتى قال ابن سعد: " كان قليل الحديث، ولا يحتجون بحديثه "، مضى برقم: 11741. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 108 الشجرة من ذي الحليفة، أتبعه بعليّ فأخذها منه. فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أنزل في شأني شيء؟ قال: لا ولكن لا يبلِّغ عني غيري، أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض؟ قال: بلى، يا رسول الله! فسار أبو بكر على الحاجّ، وعلي يؤذن ببراءة، فقام يوم الأضحى فقال: لا يقربنَّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفنّ بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته، وإن هذه أيام أكل وشرب، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب! فرجع المشركون، فلام بعضهم بعضًا وقالوا: ما تصنعون، وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا. 16379- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي قال: أمرت بأربع: أن لا يقربَ البيتَ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده = قال معمر: وقاله قتادة. (1) * * * قال أبو جعفر: فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا. فأما من كان عهده إلى مدة معلومة، فلم يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لنَقْضِه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَفَى له بعهده إلى مدته، عن أمر الله إياه بذلك. وعلى ذلك دلّ ظاهرُ التنزيل، وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما الأشهر الأربعة، فإنها كانت أجلَ من ذكرنا. وكان ابتداؤها يوم   (1) الأثر: 16379 - انظر التعليق على الأثرين رقم: 16372، 16373. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 109 الحج الأكبر، وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر متتابعة، جُعِل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم، فيها، السياحةُ في الأرض، يذهبون حيث شاؤوا، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحدٌ بحرب ولا قتل ولا سلب. * * * فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت، فما وجه قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، [سورة التوبة: 5] . وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرّم، وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر، وإنما بين يوم الحجّ الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يومًا أكثرُه، فأين الخمسون يومًا من الأشهر الأربعة؟ قيل: إن انسلاخَ الأشهر الحرم، إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود، وإما إلى أجل محدود قد نقضه، فصار بنقضه إياه بمعنى من خِيف خيانته، فاستحقّ النبذ إليه على سواء، غير أنه جُعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر. ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة، ويصفهم بأنهم أهل عهد: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله) ، ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرم أجلا بأنهم أهل شرك لا أهل عهد فقال: (وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) الآية = (إلا الذين عاهدتم من المشركين) الآية؟ ثم قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وبإتمام عهد الذين لهم عهد. إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين، وإدخال النقص فيه عليهم. فإن قال قائل: وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحج الأكبر، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 110 دون أن يكون كان من شوال على ما قاله قائلو ذلك؟ قيل له: إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول "براءة"، وذلك غير جائز أن يكون صحيحًا، لأن المجعول له أجلُ السياحة إلى وقت محدود. إذا لم يعلم ما جُعل له، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه، فكمن لم يجعل له ذلك، لأنه إذا لم يعلم ما له في الأجل الذي جُعل له وما عليه بعد انقضائه، فهو كهيئته قبل الذي جُعل له من الأجل. ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جُعل لهم من ذلك، إلا حين نودي فيهم بالموسم. وإذا كان ذلك كذلك. صحَّ أن ابتداءه ما قلنا، وانقضاءه كان ما وصفنا. وأما قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، فإنه يعني: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه. * * * يقال منه: "ساح فلان في الأرض يسيح، سياحة. وسُيُوحًا. وسَيَحانًا. * * * وأما قوله: (واعلموا أنكم غير معجزي الله) ، فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ قبل نزول هذه الآية: اعلموا، أيها المشركون، أنكم إن سحتم في الأرض، واخترتم ذلك مع كفركم بالله. على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله = (غير معجزي الله) ، يقول: غير مُفِيتيه بأنفسكم، لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض، ففي قبضته وسلطانه، لا يمنعكم منه وزيرٌ، ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقلٌ ولا موئل. (1) إلا الإيمان به وبرسوله. والتوبة من معصيته. يقول: فبادروا عقوبته بتوبة، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.   (1) انظر تفسير " الإعجاز" فيما سلف 12: 128 / 13: 31. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 111 وأما قوله: (وأن الله مخزي الكافرين) ، يقول: واعلموا أن الله مُذلُّ الكافرين، ومُورثهم العارَ في الدنيا، والنارَ في الآخرة. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإعلامٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر. * * * وقد بينا معنى "الأذان"، فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده. (2) * * * وكان سليمان بن موسى يقول في ذلك ما:- 16380- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: زعم سليمان بن موسى الشاميّ أن قوله: (وأذان من الله ورسوله) ، قال: "الأذان"، القصص، فاتحة "براءة" حتى تختم: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، [سورة التوبة: 28] فذلك ثمان وعشرون آية. (3) 16381- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وأذان من الله ورسوله) ، قال: إعلام من الله ورسوله. * * * ورفع قوله: (وأذان من الله) ، عطفًا على قوله: (براءة من الله) ، كأنه قال: هذه براءة من الله ورسوله، وأذانٌ من الله. * * *   (1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 10: 318، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الأذان " فيما سلف. . . تعليق:. . . والمراجع هناك. (3) الأثر: 16380 - " سليمان بن موسى الأموي الدمشقي "، الأشدق، فقيه أهل الشأم في زمانه. مضى برقم: 15654، 15655. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 112 وأما قوله: (يوم الحج الأكبر) ، فإنه فيه اختلافًا بين أهل العلم. فقال بعضهم: هو يوم عرفة. * ذكر من قال ذلك: 16382- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجليّ من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن "يوم الحج الأكبر" فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إليّ، فقال: قم، يا علي وأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من "براءة"، ثم صدرنا، (1) حتى أتينا مِنًى، فرميت الجمرة ونحرتُ البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم. (2) فمن ثَمَّ إخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة. (3)   (1) " صدر عن الماء والبلاد "، رجع. و " الصدر "، (بفتحتين) ليلة رجوع الناس من عرفة إلى منى. و " صدار البيت " (بضم الصاد وتشديد الدال) : الحجاج الراجعون من حجهم. (2) " الفساطيط " جمع " فسطاط "، مثل السرادق، وهو أصغر منه، يتخذه المسافرون. (3) الأثر: 16382 - سبق شرح هذا الإسناد برقم: 5386. " أبو زرعة "، " وهب الله بن راشد المصري "، مضى مرارا، آخرها برقم: 11510، ومراجعه هناك. وكان في المطبوعة هنا: " أبو زرعة وهبة الله بن راشد قالا "، جعله رجلين! ومثله في المخطوطة مثله، إلا أنه كتب " قال " بالإفراد، قدم الكنية على الاسم. والصواب ما أثبت. و " حيوة بن شريح "، مضى مرارا، آخرها: 11510. و " أبو صخر "، هو " حميد بن زياد الخراط "، قال أحمد: " ليس به بأس "، أخرج له مسلم. مضى برقم 4325، وغيرها كثير. و " أبو معاوية البجلي "، هو " عمار بن معاوية الدهني "، كما صرح به الطبري في رقم: 4325، وهو ثقة. مضى في مواضع. و" أبو الصهباء البكري "، سلف بيانه برقم: 5386. وهو إسناد صحيح. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 113 16383- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق قال: سألت أبا جُحَيفة عن "يوم الحج الأكبر" فقال: يوم عرفة. فقلت: أمن عندك، أو من أصحاب محمد؟ قال: كلُّ ذلك. (1) 16384- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: الحج الأكبر، يوم عرفة. 16385- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمر بن الوليد الشنّيّ، عن شهاب بن عبّاد العَصَريّ، عن أبيه قال: قال عمر رحمه الله: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة = فذكرته لسعيد بن المسيب فقال: أخبرك عن ابن عمر: أن عمر قال: الحج الأكبر يومُ عرفة. 16386- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عمر بن الوليد الشني قال، حدثنا شهاب بن عباد العصري، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه يقول: هذا يوم عرفة، يوم الحج الأكبر فلا يصومَنَّه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا: سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا: سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة؟ فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني مئة ضعف، (2) عمر، أو: ابن عمر، كان ينهى عن صومه ويقول: هو يوم الحج الأكبر. (3)   (1) الأثر: 16383 - " أبو جحيفة السوائي "، هو " وهب بن عبد الله " ويقال له " وهب الخير "، مات رسول الله قبل أن يبلغ الحلم. ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/162، وابن أبي حاتم 4/2/22. (2) في المخطوطة: " أفضل مني أضعافا "، وفي المخطوطة " أفضل مني ضعف "، والصواب من تفسير ابن كثير 4: 113. (3) الأثران: 16385، 16386 - " عمر بن الوليد الشني "، " أبو سلمة العبدي "، ثقة، مضى برقم 435، 11185. " شهاب بن عباد العصري العبدي "، روى عن أبيه، وهو غير " شهاب بن عباد العبدي "، شيخ البخاري ومسلم. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 235، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 361، ولم يذكر فيه جرحا. وذكر في التهذيب في ترجمته: " قال الدارقطني: صدوق زائغ "، وظني أنه أخطأ، ذاك " شهاب بن عباد " آخر، ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 1: 451. وأبوه " عباد العصري "، روى عن عمر، مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 88. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 114 16387- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الصمد بن حبيب، عن معقل بن داود قال: سمعت ابن الزبير يقول: يوم عرفة هذا، يوم الحج الأكبر، فلا يصمه أحد. (1) 16388- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا غالب بن عبيد الله قال: سألت عطاء عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم عرفة، فأفِضْ منها قبل طلوع الفجر. (2) 16389- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ثم قال: "أما بعد" = "وكان لا يخطب إلا قال: أما بعد = "فإن هذا يوم الحج الأكبر". (3) 16390- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الوهاب، عن مجاهد قال: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة.   (1) الأثر: 16387 - " عبد الصمد بن حبيب الأزدي العوذي "، ضعفه البخاري وأحمد. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 51. و " معقل بن داود "، لم أجد له ترجمة، وفي ترجمة " عبد الصمد بن حبيب " أنه روى عن " معقل القسملي "، ولكني لم أجد لهذا " القسملي "، " الأزدي "، ذكرا في شيء من مراجعي. (2) الأثر: 16388 - " غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري "، منكر الحديث، مضى برقم: 12214. (3) الأثر: 16389 - " محمد بن بكر العثماني البرساني "، ثقة، مضى مرارا. و " محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف "، تابعي ثقة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، مضى برقم: 10520. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 115 16391- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن سلمة بن بُخْت، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة. (1) 16392- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني طاوس، عن أبيه قال: قلنا: ما الحج الأكبر؟ قال: يوم عرفة. 16393- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال: أخبرنا ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال: هذا يوم الحج الأكبر. * * * وقال آخرون: هو يوم النحر. * ذكر من قال ذلك: 16394- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16395- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام، عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن الحارث قال: سمعت عليًّا يقول: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16396- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق، عن الحارث قال: سألت عليًّا عن الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر. 16397- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان   (1) الأثر: 16391 - " إسحاق بن سليمان الرازي "، سلف مرارا. و " سلمة بن بخت " مدني، مولى قريش، قال أحمد: " لا بأس به "، ووثقه ابن معين. مترجم في الكبير 2 / 2 / 83، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 156. وكان في المطبوعة: " سلمة بن محب "، وهو خطأ محض، وهي في المخطوطة، غير منقوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 116 الشيباني قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الحج الأكبر، قال: فقال: يوم النحر. (1) 16398- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عيّاش العامري، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. (2) 16399- ...... قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16400- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك قال: دخلت أنا وأبو سلمة على عبد الله بن أبي أوفى، قال: فسألته عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم النحر، يوم يُهَرَاقُ فيه الدم. 16401- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16402- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني قال: سألت ابن أبي أوفى عن يوم الحج الأكبر قال: هو يوم النحر. 16403- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16404- ...... قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير قال، سَمعت عبد الله بن أبي أوفى، وسُئل عن قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: هو اليوم الذي يُرَاق فيه الدم، ويُحلق فيه الشعر.   (1) الأثر: 16396 - " الحارث "، في هذا الإسناد وما قبله، هو " الحارث الأعور " وقد مضى بيان ضعفه مرارا. (2) الأثر: 16398 - " عياش العامري "، هو " عياش بن عمرو العامري "، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 48، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 6. و " عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي "، صحابي شهد بيعة الرضوان. مضى برقم: 7758. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 117 16405- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدّث، عن علي: أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة، فجاءه رجل فأخذ بلجام بغلته، فسأله عن الحج الأكبر، فقال: هو يومك هذا، خَلِّ سبيلها. (1) 16406- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، حدثنا إسحاق، عن مالك بن مغول، وشُتَير، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16407- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: سئل عن يوم الحج الأكبر قال: هو يوم النحر. 16408- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي: أنه لقيه رجل يوم النحر فأخذ بلجامه، فسأله عن يوم الحج الأكبر، قال: هو هذا اليوم. (2) 16409- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن عبد الملك بن عمير، وعياش العامري، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: هو اليوم الذي تُهَراق فيه الدماء. (3) 16410- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي أوفى قال: الحج الأكبر، يوم تُهَرَاق فيه الدماء، ويحلق فيه الشعر، ويَحِلّ فيه الحرام. 16411- حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثنا يحيى بن   (1) الأثر: 16405 - " يحيى بن الجزار "، ثقة، كان، كان يغلو في التشيع، لم يسمع من علي إلا ثلاثة أحاديث، هذا أحدها، والحديث الآخر، مضى برقم: 5425، 16106. وانظر الأثر التالي رقم: 16408. (2) الأثر: 16408 - هو مكرر الأثر. رقم: 16405، مختصرا. (3) الأثر: 16409 - انظر التعليق على رقم: 16398. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 118 عيسى، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى علي بعير فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر. 16412- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير وقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر. 16413- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة، فذكر نحوه. (1) 16414- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحج الأكبر، يوم النحر. 16415- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: الحج الأكبر، يوم النحر. 16416- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة قال: الحج الأكبر، يوم النحر. (2) 16417- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في "يوم الحج الأكبر"، قال علي: هو يوم النحر. وقال الذي من آل شيبة:   (1) الآثار: 16411 - 16413 " عبد الله بن سنان الأسدي "، " أبو سنان "، روى عن علي، وابن مسعود، وضرار بن الأزور، والمغيرة بن شعبة. روى عنه الأعمش، وأبو حصين. وهو ثقة له أحاديث. توفي أيام الحجاج، قبل يوم الجماجم. مترجم في ابن سعد 6: 123، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 68، وتعجيل المنفعة ص: 224. وكان في المطبوعة: " عبد الله بن يسار "، في المواضع كلها، خطأ محض، وهو في المخطوطة " سنان " غير منقوط كله. (2) الأثر: 16416 - " أبو جحيفة "، " وهب بن عبد الله "، سلف برقم: 16383. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 119 هو يوم عرفة. فأرسل إلى سعيد بن جبير فسألوه، فقال: هو يوم النحر، ألا ترى أن من فاته يوم عرفة لم يفته الحج، فإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج؟ 16418- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يونس، عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج الأكبر، يوم النحر. قال فقلت له: إن عبد الله بن شيبة، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس اختلفا في ذلك، فقال محمد بن علي: هو يوم النحر. وقال عبد الله: هو يوم عرفة. فقال سعيد بن جبير: أرأيت لو أن رجلا فاته يوم عرفة، أكان يفوته الحج؟ وإذا فاته يوم النحر فاته الحج! 16419- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: الحج الأكبر، يوم النحر. 16420- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، حدثني رجل، عن أبيه، عن قيس بن عبادة قال: ذو الحجة العاشر النحرُ، وهو يوم الحج الأكبر. 16421- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن شداد قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. والحج الأصغر، العمرة. 16422- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: الحج الأكبر، يوم النحر. 16423- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن مسلم الحجبي قال: سألت نافع بن جبير بن مطعم عن يوم الحج الأكبر، قال: يوم النحر. 16424- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: الحج الأكبر، يوم النحر. 16425- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: يوم الحج الأكبر، يوم يُهَراق فيه الدم، ويحلّ فيه الحرام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 120 16426- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، الذي يحلّ فيه كل حرام. 16427- ...... قال حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن علي، قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16428- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون قال: سألت محمدًا عن يوم الحجّ الأكبر فقال: كان يومًا وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج أهل الوَبر. 16429- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمر بن ذر قال: سألت مجاهدًا عن يوم الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر. 16430- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن مجاهد: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16431- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16432- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: يوم الحجّ الأكبر، يوم النحر = وقال عكرمة: يوم الحج الأكبر: يوم النحر، يوم تهراق فيه الدماء، ويحلّ فيه الحرام = قال وقال مجاهد: يوم يجمع فيه الحج كله، وهو يوم الحج الأكبر. 16433- ...... قال حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمد بن علي: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16434- ...... قال، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. 16435- ...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حماد بن سلمة، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 121 عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. 16436- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق قال، قال علي: الحج الأكبر، يوم النحر = قال: وقال الزهري: يوم النحر، يوم الحج الأكبر. 16437- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني يونس، وعمرو، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة التي أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع، في رَهْط يؤذِّنون في الناس يوم النحر: ألا لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان = قال الزهري: فكان حميد يقول: يوم النحر، يوم الحح الأكبر. (1) 16438- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي، عن أبي إسحاق قال: سألت عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر، والحج الأصغر، فقال: الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر العمرة. 16439- ...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق قال، سألت عبد الله بن شداد، فذكر نحوه. 16440- ...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: يوم الحج الأكبر، يوم يوضع فيه الشعر، ويُهَراق فيه الدم، ويحلّ فيه الحرام. (2)   (1) الأثر: 16437 - " يونس "، هو " يونس بن يزيد الأيلي " ثقة، سلف مرارا. و " عمرو "، هو " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري "، ثقة مضى مرارا. و " حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري "، الثقة، مضى مرارا. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 387 / 8: 238 - 241) من طرق، واستوفى الكلام عليه الحافظ بن حجر هناك. وبمثله في السنن لأبي داود 2: 264، رقم: 1946. (2) الأثر: 16440 - انظر ما سلف رقم: 16399. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 122 16441- ...... قال، حدثنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن علي قال: الحج الأكبر، يوم النحر. 16442- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن عياش العامري، عن عبد الله بن أبي أوفى: أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال: سبحان الله، هو يوم تهراق فيه الدماء، ويحل فيه الحرام، ويوضع فيه الشعر، وهو يوم النحر. (1) 16443- ...... قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن عبد الله بن سنان، قال: خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له فقال: هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر. (2) 16444- ...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح، عن مغيرة، عن إبراهيم قال، يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16445- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن إبراهيم بن طهمان، عن مغيرة، عن إبراهيم: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، يحلّ فيه الحرام. 16446- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم، قعد على بعير له، (3) وأخذ إنسان بخطامه = أو: زمامه = فقال: أي يوم هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسمِّيه غير اسمه فقال: أليس يوم الحج؟. (4)   (1) الأثر: 16442 - انظر ما سلف رقم: 16398. (2) الأثر: 16443 - انظر ما سلف رقم: 16411 - 16413.، وكان في المطبوعة هنا أيضا: " عبد الله بن يسار"، والصواب " ابن سنان "، كما في المخطوطة أيضا. (3) زاد في المطبوعة هنا فكتب: " قعد على بعير له النبي ". (4) الأثر: 16446 - رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 459) من طريق أبي عامر العقدي، عن قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، مطولا وفيه: " أليس يوم النحر ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 123 16447- حدثنا سهل بن محمد السجستاني قال، حدثنا أبو جابر الحرمي قال، حدثنا هشام بن الغاز الجرشي، عن نافع، عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر. (1)   (1) الأثر: 16447 - " سهل بن محمد بن عثمان السجستاني "، هو " أبو حاتم "، النحوي، المقرئ، البصري المشهور. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 204. وكان في المطبوعة والمخطوطة، وتفسير ابن كثير " سهل بن محمد الحساني ". وكان الصواب هو ما أثبته لما سترى بعد. و " أبو جابر الحرمي "، هو " محمد بن عبد الملك الأزدي البصري " نزيل مكة، مشهور بكنيته. روى عنه " أبو حاتم السجستاني "، فمن أجل ذلك صححت الاسم السالف " سهل بن محمد السجستاني ". ونسبته " الحرمي "، كانت في المخطوطة " الحربي "، تشبه أن تكون " باءا " أو " تاء " أو " ثاء "، أو " ميما "، فرجحت أنها " ميم " لأنه نزيل مكة، نسبة إلى " الحرم ". وكانت في المطبوعة: " الحرثي "، وفي تفسير ابن كثير " الحربي " ولم يوجد شيء من ذلك في ترجمته. و " أبو جابر "، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: " أدركته، مات قبلنا بيسير، وليس بقوي ". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 165، ولم يذكر فيه جرحا، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 5، وميزان الاعتدال 3: 95. و " هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي "، ثقة صالح الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 199، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 67. وهذا الخبر، خرجه ابن كثير في تفسيره 4: 114، وقال: " هكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه " من حديث أبي جابر - واسمه: محمد بن عبد الملك - به. ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز. ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز، عن نافع، به ". وفاته أن البخاري أخرجه في صحيحه تعليقا (الفتح 3: 459) ، مطولا، وأخرجه أبو داود في سننه 2: 264 رقم: 1945، من طريق مؤمل بن الفضل، عن الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز "، بمثله مطولا. وأخرجه ابن ماجه في سننه: 1016 رقم 3058، من طريق هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن هشام بن الغاز، بمثله مطولا. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 139. وقال الحافظ ابن حجر (الفتح 3: 459، 460) : " وأخرجه الطبراني عن أحمد بن المعلي، والإسماعيلي عن جعفر الفريابي، كلاهما عن هشام بن عمار = وعن جعفر الفريابي، عن دحيم، عن الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز، ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود ". أما الحاكم، فقد أخرجه في المستدرك 2: 331 من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز، ثم قال: " وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة. وأكثر هذا المتن مخرج في الصحيحين إلا قوله: إن يوم الحج الأكبر، يوم النحر سنة. فإن الأقاويل فيه عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم، على خلاف بينهم فيه، فمنهم من قال: يوم عرفة، ومنهم من قال: يوم النحر "، ووافقه الذهبي على صحته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 124 16448- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة، (1) فقال: أتدرون أيَّ يوم يومكم؟ قالوا: يوم النحر! قال: صدقتم، يوم الحج الأكبر. (2) 16449- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمرو بن مرة قال، حدثنا مرة قال، حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. 16450- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن ...... قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا بأربع كلمات حين حج أبو بكر بالناس، فنادى ببراءة: إنه يوم الحج الأكبر، ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يحج بعد العام مشرك، ألا ومن كان بينه وبين محمد عهدٌ فأجله إلى مدته، والله بريء   (1) " المخضرمة "، المقطوع طرف أذنها، وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فلما جاء الإسلام، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم منه أهل الجاهلية، فكانت خضرمة أهل الإسلام بائنة من خضرمة أهل الجاهلية. (2) الأثر: 16448 - " رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ربما كان: " عبد الله بن مسعود "، فقد روى الخبر مطولا ابن ماجه في السنن: 1016، رقم: 3057، من طريق إسماعيل بن توبة، عن زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن مسعود ". وسيأتي برقم: 16454، من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن رجل من أصحاب رسول الله "، كمثل ما في رواية ابن ماجه، ليس فيه " مرة الطيب ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 125 من المشركين ورسوله. (1) 16451- حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم، عن حجاج بن أرطأة، عن عطاء قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. 16452- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: يوم النحر، يوم يحلّ فيه المحرم، وينحر فيه البُدْن. وكان ابن عمر يقول: هو يوم النحر. وكان أبي يقوله. وكان ابن عباس يقول: هو يوم عرفة. ولم أسمع أحدًا يقول إنه يوم عرفة إلا ابن عباس. قال ابن زيد: والحج يفوت بفوت يوم النحر، ولا يفوت بفوت يوم عرفة، إن فاته اليوم لم يفته الليل، يقف ما بينه وبين طلوع الفجر. 16453- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: يوم الأضحى، يوم الحج الأكبر. 16454- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال، حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفتي هذه، حسبته قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على ناقة حمراء مُخَضرَمة فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر. (2) * * * وقال آخرون: معنى قوله: (يوم الحج الأكبر) ، حين الحجّ الأكبر ووقته. قال: وذلك أيام الحج كلها، لا يوم بعينه.   (1) الأثر: 16450 - " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي "، مضى مرارا. و " أبوه ": " أبو خالد الأحمسي البجلي "، مترجم في التهذيب، روى عن أبي هريرة، وجابر بن سمرة. ذكره ابن حبان في الثقات. وقد حذفت المطبوعة ما أثبت، وهو " عن. . . "، وبعدها بياض، سقط من المخطوطة اسم الصحابي الذي روى عنه أبو خالد هذا الخبر. ولم أجد الخبر في مكان آخر. (2) الأثر: 16454 - انظر التعليق على رقم: 16448. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 126 * ذكر من قال ذلك: 16455- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يوم الحج الأكبر) ، حين الحجّ، أيامه كلها. 16456- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الحج الأكبر، أيام منى كلها، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومَجَنَّة، حين نودي فيهم: أن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى مدته. 16457- حدثني الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، كان سفيان يقول: "يوم الحج"، و"يوم الجمل"، و"يوم صفين"، أي: أيامه كلها. 16458- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: حين الحجّ، أي: أيامه كلها. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة، قولُ من قال: "يوم الحج الأكبر، يوم النحر"، لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليًّا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين، وتلا عليهم "براءة"، يوم النحر. هذا، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: أتدرون أيّ يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر. وبعدُ، فإن "اليوم" إنما يضاف إلى المعنى الذي يكون فيه، كقول الناس: "يوم عرفة"، وذلك يوم وقوف الناس بعرفة = و"يوم الأضحى"، وذلك يوم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 127 يضحون فيه = "ويوم الفطر"، وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك "يوم الحج"، يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوفُ بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، (1) وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة، فإنه وإن كان الوقوف بعرفة، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحج كله يوم النحر. * * * وأما ما قال مجاهد: من أن "يوم الحج"، إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزًا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه، بل أغلبُ على معنى "اليوم" عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد. وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتابُ بلسانه. * * * واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم: "يوم الحج الأكبر". فقال بعضهم: سمي بذلك، لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حجّ المسلمين والمشركين. * ذكر من قال ذلك: 16459- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن قال: إنما سمي "الحج الأكبر"، من أجل أنه حج أبو بكر الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، فلذلك سمي "الحج الأكبر"، ووافق أيضًا عيدَ اليهود والنصارى. 16460- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: " الوقوف بعرفة كان إلى طلوع الفجر "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 128 حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: يوم الحج الأكبر، كانت حجة الوداع، اجتمع فيه حج المسلمين والنصارى واليهود، ولم يجتمع قبله ولا بعده. 16461- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن قال: قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: إنما سمي "الحج الأكبر"، لأنه يوم حج فيه أبو بكر، ونُبذت فيه العهود. * * * وقال آخرون: "الحج الأكبر"، القِرآنُ، و"الحج الأصغر"، الإفراد. * ذكر من قال ذلك: 16462- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو بكر النهشلي، عن حماد، عن مجاهد قال: كان يقول: "الحج الأكبر" و"الحج الأصغر"، فالحج الأكبر، القِرآن = و"الحج الأصغر"، إفراد الحج. * * * وقال آخرون: "الحج الأكبر"، الحج = و"الحج الأصغر"، العمرة. * ذكر من قال ذلك: 16463- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: "الحج الأكبر"، الحج، و"الحج الأصغر"، العمرة. 16464- ...... قال، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: قلت له: هذا الحج الأكبر، فما "الحج الأصغر"، قال: العمرة. 16465- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: كان يقال: "الحج الأصغر"، العمرة في رمضان. 16466- ...... قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: كان يقال: "الحج الأصغر"، العمرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 129 16467- ...... قال، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي أسماء، عن عبد الله بن شداد قال: "يوم الحج الأكبر"، يوم النحر، و"الحج الأصغر"، العمرة. 16468- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن أهل الجاهلية كانوا يسمون "الحج الأصغر"، العمرة. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال: "الحج الأكبر، الحج"، لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها، فقيل له: "الأكبر"، لذلك. وأما "الأصغر" فالعمرة، لأن عملها أقل من عمل الحج، فلذلك قيل لها: "الأصغر"، لنقصان عملها عن عمله. * * * وأما قوله: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، فإن معناه: أن الله بريء من عهد المشركين ورسوله، بعد هذه الحجة. * * * قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وإعلام من الله ورسوله إلى الناس في يوم الحج الأكبر: أن الله ورسوله من عهد المشركين بريئان، كما:- 16469- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، أي: بعد الحجة. (1) * * *   (1) الأثر: 16469 - سيرة ابن هشام 4: 188، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16356. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 130 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (فإن تبتم) ، من كفركم، أيها المشركون، ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له = دون الآلهة والأنداد (1) = فالرجوع إلى ذلك (خير لكم) ، من الإقامة على الشرك في الدنيا والآخرة = (وإن توليتم) ، يقول: وإن أدبرتم عن الإيمان بالله وأبيتم إلا الإقامة على شرككم = (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) ، يقول: فأيقنوا أنكم لا تُفِيتون الله بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد، على إقامتكم على الكفر، (2) كما فعل بمن قبلكم من أهل الشرك من إنزال نقمه به، (3) وإحلاله العذاب عاجلا بساحته = (وبشر الذين كفروا) ، يقول: واعلم، يا محمد، الذين جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم (4) = (بعذاب) ، موجع يحلُّ بهم. (5) 16470- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: (فإن تبتم) ، قال: آمنتم. * * *   (1) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) . (2) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص 111، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: " كما فعل بذويكم من أهل الشرك "، وفي المخطوطة: " كما فعل برونكم "، ولا أدري ما هو، فآثرت أن أجعلها " بمن قبلكم " لتستقيم الضمائر بعد ذلك. (4) انظر تفسير " بشر " فيما سلف 13: 418، تعليق: 1، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 131 القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) ،، إلا من عَهْدِ الذين عاهدتم من المشركين، أيها المؤمنون (1) = (ثم لم ينقصوكم شيئا) ، من عهدكم الذي عاهدتموهم = (ولم يظاهروا عليكم أحدًا) ، من عدوكم، فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم، ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال (2) = (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ، يقول: فَفُوا لهم بعهدهم الذي عاهدتموهم عليه، (3) ولا تنصبوا لهم حربًا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم = (إن الله يحب المتقين) ، يقول: إن الله يحب من اتقاه بطاعته، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (4) 16471- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ، يقول: إلى أجلهم. 16472- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) ،: أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى = (ثم لم ينقصوكم شيئا) ، الآية. (5)   (1) انظر تفسير " المعاهدة " فيما سلف ص: 21، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "المظاهرة" فيما سلف 2: 304. (3) انظر تفسير " الإتمام " فيما سلف 13: 87، تعليق 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (5) الأثر: 16472 - سيرة ابن هشام 2: 188، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16469. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 132 16473- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا) ، الآية، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر. فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك. 16474- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: مدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل "براءة" أربعة أشهر، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الآخر، وذلك أربعة أشهر. فإن نقضَ المشركون عهدهم، وظاهروا عدوًّا فلا عهد لهم. وإن وفوْا بعهدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يظاهروا عليه عدوًّا، فقد أمر أن يؤدِّي إليهم عهدهم ويفي به. * * * القول في تأويل قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، فإذا انقضى ومضى وخرج. * * * الجزء: 14 ¦ الصفحة: 133 يقال منه: سلخنا شهر كذا نسلَخه سَلْخًا وسُلُوخًا، بمعنى: خرجنا منه. ومنه قولهم: "شاة مسلوخة"، بمعنى: المنزوعة من جلدها، المخرجة منه. (1) * * * ويعني بـ "الأشهر الحرم"، ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. (2) وإنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أجَّلوا الأشهرَ الحرم كلَّها = وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى = ولكنه لما كان متصلا بالشهرين الآخرين قبله الحرامين، وكان هو لهما ثالثًا، وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم"، ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداءَ على رسول الله وعلى أصحابه، أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم. * * * = (فاقتلوا المشركين) ، يقول: فاقتلوهم = (حيث وجدتموهم) ، يقول: حيث لقيتموهم من الأرض، في الحرم، وغير الحرم في الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم = (وخذوهم) يقول: وأسروهم = (واحصروهم) ، يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة = (واقعدوا لهم كل مرصد) ، يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم = "كل مرصد"، يعني: كل طريق ومرقَب. * * * وهو "مفعل"، من قول القائل: "رصدت فلانًا أرصُده رَصْدًا"، بمعنى: رقبته. * * * (فإن تابوا) ، يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبيه محمد   (1) انظر تفسير " الانسلاخ " فيما سلف 13: 260. (2) انظر تفسير " الأشهر الحرم " فيما سلف 3: 575 - 579 / 9: 456، 466 / 11: 91، 94. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 134 صلى الله عليه وسلم، (1) إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم = (وأقاموا الصلاة) ، يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها = وأعطوا الزكاة التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها (2) = (فخلوا سبيلهم) ، يقول: فدعوهم يتصرفون في أمصاركم، ويدخلون البيت الحرام = (إن الله غفور رحيم) ، لمن تاب من عباده = فأناب إلى طاعته، بعد الذي كان عليه من معصيته، ساتر على ذنبه، رحيم به، أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته، بعد التوبة. (3) * * * وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أجِّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم. * * * وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16475- حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا يشرك له شيئًا، فارقها والله عنه راضٍ = قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هَرْج الأحاديث، (4) واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) ، قال: توبتهم، خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ   (1) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (تاب) . (2) انظر تفسير " إقامة الصلاة "، و " إيتاء الزكاة " فيما سلف منم فهارس اللغة (قوم) ، (أتى) . (3) انظر تفسير " غفور " و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) . (4) "هرج الأحاديث"، الإكثار فيها، واختلاف المختلفين، واختلاط أصواتهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 135 وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، [سورة التوبة: 11] . (1) 16476- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة: رَهْط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عُشُور ماله. 16477- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، وهي الأربعة التي عددت لك = يعني: عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر. * * * وقال قائلو هذه المقالة: قيل لهذه: "الأشهر الحرم"، لأن الله عز وجل حرّم على المؤمنين فيها دماءَ المشركين، والعَرْضَ لهم إلا بسبيلِ خيرٍ. (2) * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 16475 - " عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 11125. و" عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي "، روى له الجماعة، سلف مرارا، آخرها: 13177. وسائر رجال السند، ثقات، مضوا جميعا، إلا أبا جعفر الرازي، فقد تكلموا فيه، وهو ثقة إن شاء الله وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه: 27، رقم: 70، من طريقتين: من طريق نصر بن علي الجهضمي، عن أبي أحمد، عن أبي جعفر الرازي، ثم من طريق أبي حاتم، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن أبي جعفر، بمثله. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 331، 332 عن طريق إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي جعفر الرازي، ولم يقل فيه: " قال أنس: وهو دين الله. . .، بل ساقه مدرجا في الحديث، ثم قال: " وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، وافقه الذهبي، إلا أنه استدرك عليه فقال: " صدر الخبر مرفوع، وسائره مدرج فيما أرى "، وصدق الذهبي. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " والعرض لهم "، وهو بمعنى " التعرض ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 136 16478- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي بكر: أنه أخبره عن مجاهد وعمرو بن شعيب في قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، أنها الأربعة التي قال الله: (فسيحوا في الأرض) ، قال: هي "الحُرم"، من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها. (1) 16479- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال: ضُرِب لهم أجلُ أربعة أشهر، وتبرأ من كل مشرك. ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم = (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) ، لا تتركوهم يضربون في البلاد، ولا يخرجوا لتجارة، (2) ضَيِّقوا عليهم بعدها. ثم أمر بالعفو (3) (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) ،. 16480- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، يعني: الأربعة التي ضربَ الله لهم أجلا = لأهل العهد العامّ من المشركين = (فاقتلوهم حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) ، الآية. (4) * * *   (1) الأثر: 16478 - " إبراهيم بن أبي بكر الأخنسي "، ثقة، مضى برقم: 10758. (2) في المطبوعة: " ولا يخرجون للتجارة "، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المخطوطة: " بعد ما أمر بالعفو "، وفي المطبوعة: " بعدها أمر بالعفو "، وصواب السياق يقتضي ما أثبت، وزيادة " ثم ". (4) الأثر: 16480 - سيرة ابن هشام 3: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16472، قوله: " لأهل العهد العام من المشركين "، من كلام أبي جعفر، استظهارا مما سلف قبله في السيرة، وفي رقم: 16356. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 137 القول في تأويل قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك، يا محمد، من المشركين، الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، أحدٌ ليسمع كلام الله منك = وهو القرآن الذي أنزله الله عليه = (فأجره) ، يقول: فأمّنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه = (ثم أبلغه مأمنه) ، يقول: ثم رُدَّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبَي أن يسلم، ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن = "إلى مأمنه"، يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين (1) = (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) ، يقول: تفعل ذلك بهم، من إعطائك إياهم الأمان ليسمعوا القرآن، وردِّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوِزْر والإثم بتركهم الإيمان بالله. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16481- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإن أحد من المشركين استجارك) ، أي: من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم، (فأجره) . (2)   (1) انظر تفسير " الأمن " فيما سلف 13: 420، تعليق 1، والمراجع هناك. (2) الأثر: 16481 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16480. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 138 16482- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فأجره حتى يسمع كلام الله) ، أما "كلام الله"، فالقرآن. 16483- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) ، قال: إنسان يأتيك فيسمع ما تقول، ويسمع ما أنزل عليك، فهو آمنٌ حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاءه. (1) 16484- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. 16485- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: خرج رسوله الله صلى الله عليه وسلم غازيًا، فلقي العدوَّ، وأخرج المسلمون رجلا من المشركين وأشرعوا فيه الأسنّة، فقال الرجل: ارفعوا عني سلاحكم، وأسمعوني كلام الله! فقالوا: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتخلع الأنداد، وتتبرأ من اللات والعزى! فقال: فإنّي أشهدكم أني قد فعلت. 16486- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ثم أبلغه مأمنه) ، قال: إن لم يوافقه ما تتلو عليه وتحدثه، (2) فأبلغه. قال: وليس هذا بمنسوخ. * * * واختلفت في حكم هذه الآية، وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟ فقال بعضهم: هو غير منسوخ. وقد ذكرنا قول من قال ذلك. * * * وقال آخرون: هو منسوخ.   (1) في المطبوعة: " حيث جاء "، والصواب من المخطوطة. (2) في المخطوطة والمطبوعة: " ما تقول عليه وتحدثه "، وفي المخطوطة فوق " تقول " حرف (ط) دلالة على الخطأ، والصواب ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 139 * ذكر من قال ذلك: 16487- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، نسختها: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ،. [سورة محمد: 4] 16488- ...... قال، حدثنا سفيان، عن السدي، مثله. * * * وقال آخرون: بل نسخ قوله: (فاقتلوا المشركين) ، قوله: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) . * ذكر من قال ذلك: 16489- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) ، [سورة محمد: 4] نسخها قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من قال: "ليس ذلك بمنسوخ". وقد دللنا على أن معنى "النسخ"، هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره. (1) ولم تصحّ حجةٌ بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكل حال، ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء، ولا على وجه المنّ عليهم. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الفداء والمنّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، (2) وذلك من يوم بدر = كان معلومًا أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم للقتل أو المنِّ أو الفداء، واحصروهم. وإذا كان ذلك معناه، صحّ ما قلنا في ذلك دون غيره. * * *   (1) انظر ما قاله أبو جعفر في " النسخ " مرارا في فهارس الكتاب. (2) في المطبوعة: "فكان الفداء"، وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 140 القول في تأويل قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أنّى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله، وبأيِّ معنى، يكون للمشركين بربهم عهدٌ وذمة عند الله وعند رسوله، يوفّى لهم به، ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد؟ (1) وإنما معناه: لا عهد لهم، وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم، إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم، فإن الله جل ثناؤه أمرَ المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم، والاستقامة لهم عليه، ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين. * * * واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) . فقال بعضهم: هم قوم من جذيمة بن الدُّئِل. * ذكر من قال ذلك: 16490- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، هم بنو جذيمة بن الدُّئِل. (2)   (1) انظر تفسير "العهد" و"المعاهدة" فيما سلف ص: 132، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) هكذا جاء هنا " بنو جذيمة بن الدئل "، وفي رقم: 16491: " جذيمة بكر كنانة ". ولا أعلم في " الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة "، " جذيمة " فإن " جذيمة كنانة " إنما هم: " بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة "، أبناء عمومة " الدئل "، و " بكر بن عبد مناة ". وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة، هم أهل الغميصاء، الذين أوقع بهم خالد بن الوليد بعد الفتح، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليتلافى خطأ خالد بن الوليد، فودي لهم الدماء وما أصيب من الأموال، حتى إنه إنه ليدي لهم ميلغة الكلب. (انظر سيرة ابن هشام 4: 70 - 73) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 141 16491- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) ، قال: هم جذيمة بكر كنانة. (1) 16492- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (كيف يكون للمشركين) ، الذين كانوا هم وأنتم على العهد العام، (2) بأن لا تخيفوهم ولا يخيفوكم في الحرمة ولا في الشهر الحرام (3) = (عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية، إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نَقَضَها إلا هذا الحيُّ من قريش، وبنو الدُّئِل من بكر. فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته = (فما استقاموا لكم) ، الآية. (4) * * * وقال آخرون: هم قريش.   (1) الأثر: 16491 - راجع التعليق السالف. وكان في المطبوعة: " بكر، من كنانة "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " كانوا وأنتم "، واثبتت ما في سيرة ابن هشام. (3) في المطبوعة: " بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم "، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يحسن قراءتها. والصواب ما في المخطوطة، مطابقا لما في السيرة. وقوله: " في الحرمة "، يعني في مكة البلد الحرام، وسائر مناسك الحج، وهي بضم الحاء وسكون الراء. وهي من " الحرمة "، وهو ما لا يحل انتهاكه. وقد قصرت كتب اللغة في إثبات لفظ " الحرمة " بهذا المعنى الذي فسرته، وهو كثير في أخبارهم بالمعنى الذي ذكرت، فأثبته هناك. ومن أجل هذا ظن الناشر أنه حين كتب " من الحرم "، أن " الحرمة " لا تأتي بمعنى " الحرم ". (4) الأثر: 16492 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16481. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 142 * ذكر من قال ذلك: 16493- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس قوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، هم قريش. 16494- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يعني: أهل مكة. 16495- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يقول: هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة، ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلمَ الجزيةَ. (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، يعني: أهل العهد من المشركين. 16496- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال: هؤلاء قريش. وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم، وغدروا بهم فلم يستقيموا، كما قال الله. فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر، يختارون من أمرهم: إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بأيِّ بلاد شاؤوا. قال: فأسلموا قبل الأربعة الأشهر، وقبل قَتْلٍ. (1) 16497- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال: هو يوم الحديبية، (2) قال: فلم يستقيموا، نقضوا عهدهم،   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " وقبل وقبل "، ولا معنى له، ولكنه في المخطوطة غير منقوط والصواب إن شاء الله ما أثبت. (2) كان في المطبوعة: " هم قوم جذيمة "، وهذا كلام فاسد كل الفساد. وفي المخطوطة: " هم يوم الحديبية "، وصواب قراءته ما أثبت. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية، تواثبت بنو بكر بن عبد مناة فقالت: " نحن في عقد قريش وعهدهم "، وتواثبت خزاعة فقالت: " نحن في عقد محمد وعهده " (سيرة ابن هشام 3: 332) . ثم كان بعد ذلك بمدة أن تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وهم حلف رسول الله، فكان ذلك أحد الأسباب الموجبة المسير إلى مكة وفتحها. وهذا ما دل عليه سائر الخبر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 143 أي أعانوا بني بكرٍ حِلْفِ قريش، على خزاعة حِلْفِ النبي صلى الله عليه وسلم. (1) * * * وقال آخرون: هم قوم من خزاعة. * ذكر من قال ذلك: 16498- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، قال: أهل العهد من خزاعة. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قولُ من قال: هم بعضُ بني بكر من كنانة، ممن كان أقام على عهده، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش، حين نقضوه بمعونتهم حلفاءَهم من بني الدُّئِل، على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة. * * * وإنما قلتُ: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام، ما استقاموا على عهدهم. وقد بينَّا أن هذه الآيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة، وذلك بعد فتح مكة بسنة، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافرٌ يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده، لأنّ من كان منهم من ساكني مكة، كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الآيات. * * *   (1) هو " حلفه "، أي: حليفة، وهو الذي بينه وبينه عهد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 144 وأما قوله: (إن الله يحب المتقين) ، فإن معناه: إن الله يحب من اتقى الله وراقبه في أداء فرائضه، والوفاء بعهده لمن عاهده، واجتناب معاصيه، وترك الغدر بعهوده لمن عاهده. * * * القول في تأويل قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) } قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم، أيها المؤمنون، عهد وذمة، وهم = (إن يظهروا عليكم) ، يغلبوكم = (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) . * * * واكتفى بـ "كيف" دليلا على معنى الكلام، لتقدم ما يراد من المعني بها قبلها. وكذلك تفعل العرب، إذا أعادت الحرف بعد مضيّ معناه، استجازوا حذف الفعل، كما قال الشاعر: (1) وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ فِي الْقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وَكَثِيبُ (2) فحذف الفعل بعد "كيف"، لتقدم ما يراد بعدها قبلها. ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى، وهذي هضبة وكثيب، لا ينجو فيهما منه أحد. * * *   (1) هو كعب بن سعد الغنوي. (2) الأصمعيات: 99، طبقات فحول الشعراء: 176، أمالي القالي: 151، جمهرة أشعار العرب: 135، ومعاني القرآن للفراء: 1: 424 وغيرها كثير. وهي من أشهر المرائي وأنبلها. وكان لكعب بن سعد أخ يقال له " أبو المغوار "، فأخذ المدينة وباء، فنصحوه بأن يفر بأخيه من الأرض الوبيئة، لينجو من طوارق الموت، فلما خرج به إلى البادية هلك أخوه، فتفجع عليه تفجع العربي النبيل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 145 واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) . فقال بعضهم، معناه: لا يرقبوا الله فيكم ولا عهدًا. * ذكر من قال ذلك: 16499- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، [سورة التوبة: 10] ، قال: الله. 16500- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، قال: مثل قوله: "جبرائيل"، "ميكائيل"، "إسرافيل"، كأنه يقول: يضيف "جَبْر" و "ميكا" و "إسراف"، إلى "إيل"، (1) يقول: عبد الله = (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، كأنه يقول: لا يرقبون الله. 16501- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثني محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا ولا ذمة) ، لا يرقبون الله ولا غيره. * * * وقال آخرون: "الإلّ"، القرابة. * ذكر من قال ذلك: 16502- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، يقول: قرابةً ولا عهدًا. وقوله: (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: "الإل"، يعني: القرابة، و"الذمة"، العهد. 16503- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي   (1) في المخطوطة: " كأنه يقول: يضاف جبر "، وفي المخطوطة: " كأنه يقول جبر يضف جبر. . . ". وفي المخطوطة أيضا " سراف " بغير ألف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 146 قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، "الإلّ"، القرابة، و"الذمة"، العهد، يعني أهل العهد من المشركين، يقول: ذمتهم. 16504- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية وعبدة، عن جويبر، عن الضحاك، "الإل"، القرابة. (1) 16505- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا محمد بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، قال: "الإلّ"، القرابة، و"الذمة"، العهد. 16506- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، قال سمعت، الضحاك يقول في قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، "الإل"، القرابة، و"الذمة"، الميثاق. 16507- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف وإن يظهروا عليكم) ، المشركون = (لا يرقبوا فيكم) ، عهدًا ولا قرابة ولا ميثاقًا. * * * وقال آخرون: معناه: الحلف. * ذكر من قال ذلك: 16508- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: "الإل"، الحلف، و"الذمة"، العهد. * * * وقال آخرون: "الإلّ"، هو العهد، ولكنه كرِّر لما اختلف اللفظان، وإن كان معناهما واحدًا.   (1) الأثر: 16504 - في المطبوعة: " عن حوشب، عن الضحاك "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب وهذا إسناد مضى مثله مرارا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 147 * ذكر من قال ذلك: 16509- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا) ، قال: عهدًا. 16510- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: لا يرقبوا فيكم عهدًا ولا ذمة. قال: إحداهما من صاحبتها كهيئة "غفور"، "رحيم"، قال: فالكلمة واحدة، وهي تفترق. قال: والعهد هو "الذمة". 16511- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن خصيف، عن مجاهد (ولا ذمة) ، قال: العهد. 16512- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن خصيف، عن مجاهد: (ولا ذمة) ، قال: "الذمة"، العهد. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيَّه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وحصرهم والقعود لهم على كل مرصد: أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم "إلا". و"الإلّ": اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد، والعقد، والحلف، والقرابة، وهو أيضا بمعنى "الله". فإذْ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خصّ من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يُعَمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة، فيقال: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ، ولا قرابةً، ولا عهدًا، ولا ميثاقًا. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى "القرابة" قول ابن مقبل: أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الإلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ (1)   (1) من أبيات مفرقة، لم أجدها مجموعة في مكان، وهذا بيت لم أجده أيضا في مكان آخر. و" خلوف " جمع " خلف " (بفتح فسكون) ، وهو بقية السوء والأشرار تخلف من سبقها. وفي المخطوطة: " أخلفوا " بالألف، والصواب ما في المطبوعة. و " الأعراق " جمع " عرق " وعرق كل شيء: أصله الذي منه ثبت. ويقال منه: " تداركه أعراق خير، وأعراق شر ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 148 بمعنى: قطعوا القرابة، وقول حسان بن ثابت: لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ (1) وأما معناه إذا كان بمعنى "العهد"، فقول القائل: (2) وَجَدْنَاهُمُ كَاذِبًا إلُّهُمْ ... وَذُو الإلِّ وَالْعَهْدِ لا يَكْذِبُ * * * وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين: أن "الإلّ"، و"العهد"، و"الميثاق"، و"اليمين" واحد = وأن "الذمة" في هذا الموضع، التذمم ممن لا عهد له، والجمع: "ذِمَم". (3) * * * وكان ابن إسحاق يقول: عنى بهذه الآية أهل العهد العام. 16513- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (كيف وإن يظهروا عليكم) ، أي: المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد   (1) ديوانه: 407، واللسان (ألل) ، من أبيات هجا بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وكان ممن يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو سفيان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويهجوه، ويؤذي المسلمين، فانبرى له حسان فأخذ منه كل ما أخذ. ثم أسلم في فتح مكة، وشهد حنينا، وثبت فيمن ثبت مع نبي الله، وظل آخذا بلجام بغلة رسول الله يكفها ورسول الله يركضها إلى الكفار. ثم ظل أبو سفيان بعد ذلك لا يرفع رأسه إلى رسول الله حياء منه. ولكن كان من هجاء حسان له، بعد البيت: فَإنَّكَ إِن تَمُتَّ إلى قُرَيْشٍ ... كَذَاتِ البَوِّ جائِلَةَ المَرَامِ وَأَنْتَ مُنَوَّطٌ بِهِمُ هَجِينٌ ... كما نِيطَ السَّرَائِحُ بالخِدَامِ فَلا تَفْخَر بِقَوْمٍ لَسْتَ مِنْهُمْ ... ولا تَكُ كاللِّئَامِ بَنِي هِشامِ " السقب "، ولد الناقة ساعة يولد. و " الرأل "، ولد النعام. يقول: ما قرابتك في قريش، إلا كقرابة الفصيل، من ولد النعام! . (2) لم أعرف قائله. (3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 253. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 149 العام = (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) . (1) * * * فأما قوله: (يرضونكم بأفواههم) ، فإنه يقول: يعطونكم بألسنتهم من القول، خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء (2) = (وتأبى قلوبهم) ، أي: تأبَى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم، بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذِّر جل ثناؤه أمرَهم المؤمنين، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله، وأن لا يقصِّروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه = (وأكثرهم فاسقون) ، يقول: وأكثرهم مخالفون عهدَكم، ناقضون له، كافرون بربهم، خارجون عن طاعته. (3) * * * القول في تأويل قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم الله، أيها المؤمنون، بقتلهم حيث وجدتموهم، بتركهم اتباعَ ما احتج الله به عليهم من حججه، يسيرًا من العوض قليلا من عرض الدنيا. (4) * * * وذلك أنهم، فيما ذُكر عنهم، كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول   (1) الأثر: 16513 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16492. (2) انظر تفسير " بدت البغضاء من أفواههم " 7: 145 - 147 / و " يقولون بأفواههم " 7: 378 / و " قالوا آمنا بأفواههم "، 10: 301 - 308. (3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) . (4) انظر تفسير " اشترى " فيما سلف 10: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير " الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة " (أيي) . = وتفسير " الثمن القليل " فيما سلف 10: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 150 الله صلى الله عليه وسلم بأكلةٍ أطعمهموها أبو سفيان بن حرب. 16514- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا) ، قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه، وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم. 16515- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. * * * وأما قوله: (فصدوا عن سبيله) ، فإن معناه: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام، وحاولوا ردَّ المسلمين عن دينهم (1) = (إنهم ساء ما كانوا يعلمون) ، يقول جل ثناؤه: إن هؤلاء المشركين الذين وصفت صفاتهم، ساء عملهم الذي كانوا يعملون، من اشترائهم الكفرَ بالإيمان، والضلالة بالهدى، وصدهم عن سبيل الله من آمن بالله ورسوله، أو من أراد أن يؤمن. (2) * * * القول في تأويل قوله: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم، أيها المؤمنون، بقتلهم حيث وجدتموهم، في قتل مؤمن لو قدورا عليه = (إلا ولا ذمة) ، يقول: فلا تبقوا عليهم، أيها المؤمنون، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم (3) = (وأولئك هم المعتدون) ، يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء. (4) * * *   (1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 13: 581، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير " سبيل الله " في سلف من فهارس اللغة (سبل) . (2) انظر تفسير " ساء " فيما سلف 13: 275، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الإل " و " الذمة " فيما سلف قريبا ص: 145 - 149. (4) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف 13: 182، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 151 القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم، أيها المؤمنون، بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله، إلى الإيمان به وبرسوله، وأنابوا إلى طاعته = (وأقاموا الصلاة) ، المكتوبة، فأدّوها بحدودها = (وآتوا الزكاة) ، المفروضة أهلَها (1) = (فإخوانكم في الدين) ، يقول: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به، وهو الإسلام = (ونفصل الآيات) ، يقول: ونبين حجج الله وأدلته على خلقه (2) = (لقوم يعلمون) ، ما بُيِّن لهم، فنشرحها لهم مفصلة، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16516- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) ، يقول: إن تركوا اللات والعزّى، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله = (فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون) . 16517- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن ليث،   (1) انظر تفسير " التوبة " و " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " في فهارس اللغة (توب) ، (قوم) ، (أتى) . (2) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف 13: 252، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير " الآيات " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 152 عن رجل، عن ابن عباس: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) ، قال: حرَّمت هذه الآية دماءَ أهل القِبْلة. 16518- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعًا لم يفرَّق بينهما. وقرأ: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) ، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه. 16519- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له. * * * وقيل: (فإخوانكم) ، فرفع بضمير: "فهم إخوانكم"، إذ كان قد جرى ذكرهم قبل، كما قال: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، [سورة الأحزاب: 5] ، فهم إخوانكم في الدين. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش، عهودَهم من بعد ما عاقدوكم أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدًا من أعدائكم (2) = (وطعنوا في دينكم) ، يقول: وقدَحوا في دينكم الإسلام،   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 425. (2) انظر تفسير " نكث " فيما سلف 13: 73. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 153 فثلبوه وعابوه (1) = (فقاتلوا أئمة الكفر) ، يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله (2) = (إنهم لا أيمان لهم) ، يقول: إن رؤساء الكفر لا عهد لهم (3) = (لعلهم ينتهون) ، لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم. (4) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلاف بينهم في المعنيِّين بأئمة الكفر. فقال بعضهم: هم أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب ونظراؤهم. وكان حذيفة يقول: لم يأت أهلها بعدُ. * ذكر من قال: هم من سمَّيتُ: 16520- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) ، إلى: (لعلهم ينتهون) ، يعني أهل العهد من المشركين، سماهم "أئمة الكفر"، وهم كذلك. يقول الله لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم، فقاتلهم، أئمةُ الكفر لا أيمان لهم (5) = (لعلهم ينتهون) . 16521- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) ، إلى: (ينتهون) ، فكان من أئمة الكفر: أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وسهيل بن عمرو، وهم الذين همُّوا بإخراجه. 16522- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،   (1) في المطبوعة: " فثلموه "، والصواب من المخطوطة. (2) انظر تفسير " الإمام " فيما سلف 3: 18. (3) انظر تفسير " اليمين " فيما سلف 8: 272، 273، 281. (4) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف 13: 543، تعليق: 3، والمراجع هناك. (5) أثبتت ما في المخطوطة، وهو صواب محض، وصححها في المطبوعة هكذا، كما ظن: " فقاتل أئمة الكفر لأنهم لا أيمان له " فزاد وغير! ! . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 154 عن قتادة: (أئمة الكفر) ، أبو سفيان، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة. 16523- حدثنا ابن وكيع وابن بشار = قال، ابن وكيع، حدثنا غندر = وقال ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر=، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) ، قال: أبو سفيان منهم. 16524- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن نكثوا أيمانهم) ، إلى: (ينتهون) ، هؤلاء قريش. يقول: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام، وطعنوا فيه، فقاتلهم. (1) 16525- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، يعني رؤوسَ المشركين، أهلَ مكة. 16526- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وسهيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله، وهمُّوا بإخراج الرسول. وليس والله كما تأوَّله أهل الشبهات والبدع والفِرَى على الله وعلى كتابه. (2) * * * * ذكر الرواية عن حذيفة بالذي ذكرنا عنه: 16527- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، قال: ما قوتل أهلُ هذه الآية بعدُ. (3)   (1) في المطبوعة: " فقاتلوهم "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) " الفرى " (بكسر ففتح) جمع " فرية "، وهي الكذب. ويعني بذلك الخوارج، فهم يستدلون بهذه الآية على قتال من خالفهم من أهل القبلة، ويستحلون بها دماءهم وأموالهم. (3) الأثر: 16527 - " زيد بن وهب الهمداني الجهني "، تابعي مخضرم، سمع عمر، وعبد الله، وحذيفة، وأبا الدرداء. روى له الجماعة. مضى برقم: 4222. وهذا الخبر رواه البخاري مطولا (الفتح 8: 243) ، بغير هذا اللفظ، من طريق محمد بن المثني، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب قال، كنا عند حذيفة. . . " وانظر الآثر التالي، والذي بعده. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 155 16528- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا حبيب بن حسان، عن زيد بن وهب قال: كنت عند حذيفة، فقرأ هذه الآية: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ. (1) 16529- حدثني أبو السائب قال، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب قال: قرأ حذيفة: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ. (2) 16530- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر: (إنهم لا أيمان لهم) ، لا عهد لهم. (3) 16531- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإن نكثوا أيمانهم) ، قال: عهدهم. 16532- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن نكثوا أيمانهم) ، عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام. 16533- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن عمار بن ياسر، في قوله: (لا أيمان لهم) ، قال: لا عهد لهم. (4)   (1) الأثر 16528 - مكرر الأثر السالف، وانظر تخريجه هناك. و " حبيب بن حسان "، هو " حبيب بن أبي الأشرس "، وهو " حبيب بن أبي هلال "، منكر الحديث، متروك قال ابن حبان: " منكر الحديث جدا، وكان قد عشق نصرانية، فقيل إنه تنصر وتزوج بها. فأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح ". وقال يحيى بن معين: " كانت له جاريتان نصرانيتان، فكان يذهب معهما إلى البيعة ". مترجم في الكبير 1 / 2 / 311، وميزان الاعتدال 1: 209، 211، ولسان الميزان 2: 167، 170. (2) الأثر: 16529 - مكرر الأثرين السالفين. (3) الأثر: 16530 - " صلة ابن زفر العبسي " تابعي ثقة. روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 322، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 446. وانظر رقم: 16533، مرفوعا إلى عمار بن ياسر. ورقم: 16534 مرفوعا إلى حذيفة. (4) الأثر: 16533 - مكرر الأثر رقم 16530، مرفوعا إلى عمار بن ياسر. و" صلة "، هو " صلة بن زفر العبسي " كما سلف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 156 16534- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) ، قال: لا عهد لهم. (1) * * * وأما "النكث" فإن أصله النقض، يقال منه: "نكث فلان قُوَى حبله"، إذا نقضها. (2) * * * و"الأيمان": جمع "اليمين". (3) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (إنهم لا أيمان لهم) . فقرأه قرأة الحجاز والعراق وغيرهم: (إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) ، بفتح الألف من "أيمان" بمعنى: لا عهود لهم، على ما قد ذكرنا من قول أهل التأويل فيه. * * * وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (إِنَّهُمْ لا إِيمَانَ لَهُمْ) ، بكسر الألف، بمعنى: لا إسلام لهم. * * * وقد يتوجَّه لقراءته كذلك وجهٌ غير هذا. وذلك أن يكون أراد بقراءته ذلك كذلك: أنهم لا أمان لهم = أي: لا تؤمنوهم، ولكن اقتلوهم حيث وجدتموهم = كأنه أراد المصدر من قول القائل: "آمنته فأنا أومنه إيمانًا". (4) * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك، الذي لا أستجيز القراءة بغيره، قراءة من قرأ بفتح "الألف" دون كسرها، لإجماع الحجة من القرأة على   (1) الأثر: 16534 - مكرر الأثرين السالفين مرفوعا إلى حذيفة. (2) انظر تفسير " النكث " فيما سلف ص: 153، وتعليق: 2 والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " اليمين " فيما سلف ص: 154، تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 425. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 157 القراءة به، ورفض خلافه، ولإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من أن تأويله: لا عهد لهم = و"الأيمان" التي هي بمعنى العهد، لا تكون إلا بفتح "الألف"، لأنها جمع "يمين" كانت على عقدٍ كان بين المتوادعين. * * * القول في تأويل قوله: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله، حاضًّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: (ألا تقاتلون) ، أيها المؤمنون، هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، وطعنوا في دينكم، وظاهروا عليكم أعداءكم، (1) = (وهموا بإخراج الرسول) ، من بين أظهرهم فاخرجوه (2) = (وهم بدءوكم أول مرة) ، بالقتال، يعني فعلهم ذلك يوم بدر، وقيل: قتالهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة = (أتخشونهم) ، يقول: أتخافونهم على أنفسكم فتتركوا قتالهم خوفًا على أنفسكم منهم (3) = (فالله أحق أن تخشوه) ، يقول: فالله أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم، وتحذروا سخطه عليكم، من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله = (إن كنتم مؤمنين) ، يقول: إن كنتم مقرِّين أن خشية الله لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم. * * *   (1) انظر تفسير " النكث "، ص: 157، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الهم " فيما سلف 9: 199 / 10: 100. (3) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف 10، 344، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 158 وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16535- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) ، من بعد عهدهم = (وهموا بإخراج الرسول) ، يقول: هموا بإخراجه فأخرجوه = (وهم بدأوكم أول مرة) ، بالقتال. 16536- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وهم بدأوكم أول مرة) ، قال: قتال قريش حلفاءَ محمد صلى الله عليه وسلم. 16537- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. 16538- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 16539- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص، (1) ومن كان من أهل العهد العامّ، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلا إلا أن يعدُوَ فيها عادٍ منهم، فيقتل بعدائه، (2) ثم قال: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول) ، إلى قوله: (والله خبير بما تعملون) . (3) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة أسقط " الخاص " وأثبتها من ابن هشام. (2) في المطبوعة: " إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقبل بعد ثم قال "، وهو كلام لا معنى له البتة وفي المخطوطة: " إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقتل بعدائه، فقال "، وقد دخلها تحريف شديد، فقوله: " يعودوا "، هو تحريف: " يعدو " و " على دينهم "، صوابها " عاد منهم "، فأساء كتابتها، والصواب من سيرة ابن هشام. (3) الأثر: 16539 - سيرة ابن هشام 4: 191، وهو تابع الأثر السالف قديما رقم: 16377. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 159 القول في تأويل قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قاتلوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم، وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم = (يعذبهم الله بأيديكم) ، يقول: يقتلهم الله بأيديكم = (ويخزهم) ، يقول: ويذلهم بالأسر والقهر (1) = (وينصركم عليهم) ، فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة = (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم، وإذلالكم وقهركم إياهم. وذلك الداء، هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموْجِدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه. * * * وقيل: إن الله عنى بقوله: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ،: صدورَ خزاعة حلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قريشًا نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونتهم بكرًا عليهم. * ذكر من قال ذلك: 16540- حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال: خزاعة. 16541- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السدي: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال: خزاعة، يشف صدورهم من بني بكر.   (1) انظر تفسير " الإخزاء " فيما سلف ص: 112، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 160 16542- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، مثله. 16543- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، خزاعة حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم. 16544- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة. 16545- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. * * * القول في تأويل قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) } قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: ويذهب وَجْدَ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة، (1) على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين، وغمَّها وكربَها بما فيها من الوجد عليهم، بمعونتهم بكرًا عليهم، (2) كما:- 16546- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السدي: (ويذهب غيظ قلوبهم) ، حين قتلهم بنو بكر، وأعانتهم قريش.   (1) انظر تفسير " الإذهاب " فيما سلف 12: 126 تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الغيظ " فيما سلف 7: 215. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 161 16547- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، مثله = إلا أنه قال: وأعانتهم عليهم قريش. (1) * * * وأما قوله: (ويتوب الله على من يشاء) ، فإنه خبر مبتدأ، ولذلك رفع، وجُزِم الأحرفُ الثلاثة قبل ذلك على وجه المجازاة، كأنه قال: قاتلوهم، فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم = ثم ابتدأ فقال: (ويتوب الله على من يشاء) ، لأن القتال غير موجب لهم التوبةَ من الله، وهو موجبٌ لهم العذابَ من الله، والخزيَ، وشفاءَ صدور المؤمنين، وذهابَ غيظ قلوبهم، فجزم ذلك شرطًا وجزاءً على القتال، ولم يكن موجبًا القتالُ التوبةَ، فابتُدِئ الخبرُ به ورُفع. (2) * * * ومعنى الكلام: ويمنّ الله على من يشاء من عباده الكافرين، فيقبل به إلى التوبة بتوفيقه إياه = (والله عليم) ، بسرائر عباده، ومَنْ هو للتوبة أهلٌ فيتوب عليه، ومَنْ منهم غير أهل لها فيخذله = (حكيم) ، في تصريف عباده من حال كفر إلى حال إيمان بتوفيقه من وفَّقه لذلك (3) = ومن حال إيمان إلى كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته وتوحيده، (4) وغير ذلك من أمرهم. (5) * * *   (1) في المطبوعة: " وأعانهم "، وفي المخطوطة: " وأعلسهم، وصواب قراءتها ما أثبت. " (2) في المطبوعة: " فابتدأ الحكم به "، والصواب ما أثبت من المخطوطة. (3) في المطبوعة: " بتوفيق "، وأثبت ما في المخطوطة. (4) السياق: " في تصريف عباده من حال كفر. . . ومن حال إيمان ". (5) انظر تفسير " تاب "، و " عليم "، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (علم) ، (حكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 162 القول في تأويل قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين، الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ، الآية، حاضًّا على جهادهم: (أم حسبتم) ، أيها المؤمنون (1) = أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها، وبغير اختبار يختبركم به، فيعرف الصادقَ منكم في دينه من الكاذب فيه = (ولما يعلم الله الذين جاهدوا) ، يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله، من المضيِّعين أمرَ الله في ذلك المفرِّطين (2) = (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله) ، يقول: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله ولا من دون المؤمنين = (وليجة) . * * * = هو الشيء يدخل في آخر غيره، يقالُ منه: "ولج فلان في كذا يلجِه، فهو وليجة". (3) * * * وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء، يفشون إليهم أسرارهم = (والله خبير بما تعملون) ، يقول: والله ذو خبرة بما تعملون، (4) من اتخاذكم من دون الله   (1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف 12: 388، تعليق 3: والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 77، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) في المخطوطة: " ولج في فلان كذا "، والذي في المطبوعة أجود. (4) انظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة (خبر) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 163 ودون رسوله والمؤمنين به أولياءَ وبطانةً، بعد ما قد نهاكم عنه، لا يخفى ذلك عليه، ولا غيره من أعمالكم، والله مجازيكم على ذلك، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. * * * وبنحو الذي قلت في معنى "الوليجة"، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16548- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا المؤمنين وليجة) ، يتولّجها من الولاية للمشركين. 16549- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع: (وليجة) ، قال: دَخَلا. 16550- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (أم حسبتم أن تتركوا) ، إلى قوله: (وليجة) ، قال: أبي أن يدعهم دون التمحيص. وقرأ: (" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ "، وقرأ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) ، [سورة آل عمران: 142] ، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) ، الآيات كلها، (1) [سورة البقرة 214] أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحِّصهم ويختبرهم. وقرأ: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، لا يختبرون (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ، [سورة العنكبوت: 1 - 3] ، أبى الله إلا أن يمَحِّص. 16551- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (وليجة) ، قال: هو الكفر والنفاق = أو قال أحدَهما. * * *   (1) صدر هذه الآية، لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة، كان بدؤها " ولم يأتكم. . . ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 164 وقيل: (أم حسبتم) ، ولم يقل: "أحسبتم"، لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام، فأدخلت فيه "أم" ليفرَّق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. وقد بينت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب. (1) * * * القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. يقول: إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها، لا للكفر به، فمن كان بالله كافرًا، فليس من شأنه أن يعمُرَ مساجد الله. * * * وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فإنها كما:- 16552- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، يقول: ما ينبغي لهم أن يعمروها. وأما (شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، فإن النصراني يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني = واليهودي، فيقول: يهودي = والصابئ، فيقول: صابئ = والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك! لم يكن ليقوله أحدٌ إلا العرب. 16553- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزي، عن أسباط، عن   (1) انظر ما سلف في تفسير " أم " 2: 492 - 494 / 3: 97 / 4: 287، 288، ثم انظر معاني القرآن للفراء 1: 426. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 165 السدي: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) ، قال: يقول: ما كان ينبغي لهم أن يعمروها. 16554- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: (شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، قال: النصراني يقال له: ما أنت؟ فيقول: نصراني = واليهودي يقال له: ما أنت؟ فيقول: يهودي = والصابئ يقال له: ما أنت؟ فيقول: صابئ. * * * وقوله: (أولئك حبطت أعمالهم) ، يقول: بطلت وذهبت أجورها، لأنها لم تكن لله بل كانت للشيطان (1) = (وفي النار هم خالدون) ، يقول: ماكثون فيها أبدًا، لا أحياءً ولا أمواتًا. (2) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) ، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (مساجد الله) ، على الجماع. (3) * * * وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: (مَسْجِدَ اللهِ) ، على التوحيد، بمعنى المسجد الحرام. * * * قال أبو جعفر: وهم جميعًا مجمعون على قراءة قوله: (4) (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ) ، على الجماع، لأنه إذا قرئ كذلك، احتمل معنى الواحد والجماع، لأن العرب   (1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 113: 116، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (3) في المطبوعة: " على الجمع "، وأثبت ما في المخطوطة، في هذا الموضوع ما يليه جميعا. (4) يعني أبو جعفر أن جميع القرأة مجمعون على قراءة الآية التالية: " إنما يعمر مساجد الله "، على الجماع، بلا خلاف بينهم في ذلك ولذلك زدت تمام الآية، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " مساجد الله "، دون: " إنما يعمر ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 166 قد تذهب بالواحد إلى الجماع، وبالجماع إلى الواحد، كقولهم: "عليه ثوب أخلاق". (1) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إنما يعمر مساجد الله) ، المصدِّق بوحدانية الله، المخلص له العبادة = (واليوم الآخر) ، يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياءً من قبورهم يوم القيامة (2) = (وأقام الصلاة) ، المكتوبة، بحدودها = وأدَّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له (3) = (ولم يخش إلا الله) ، يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه، سوى الله (4) = (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) ، يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم، أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق وإصابة الصواب. (5) 16555- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ، يقول: من وحَّد الله، وآمن باليوم الآخر. يقول: أقرّ بما أنزل   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 426، 427. (2) انظر تفسير " اليوم الآخر " فيما سلف من فهارس اللغة (آخر) . (3) انظر تفسير " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) ، (أتى) . (4) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف ص: 158، تعليق: 3، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير " عسى " فيما سلف 13: 45، تعليق 1، والمراجع هناك. = وتفسير " الاهتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 167 الله = (وأقام الصلاة) ، يعني الصلوات الخمس = (ولم يخش إلا الله) ، يقول: ثم لم يعبد إلا الله = قال: (فعسى أولئك) ، يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) ، [سورة الإسراء: 79] : يقول: إن ربك سيبعثك مقامًا محمودًا، وهي الشفاعة، وكل "عسى"، في القرآن فهي واجبة. 16556- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر قول قريش: إنَّا أهلُ الحرم، وسُقاة الحاج، وعُمَّار هذا البيت، ولا أحد أفضل منا! فقال: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ، أي: إن عمارتكم ليست على ذلك، (إنما يعمر مساجد الله) ، أي: من عمرها بحقها = (من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) = فأولئك عمارها = (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) ، و"عسى" من الله حق. (1) * * * القول في تأويل قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) } قال أبو جعفر: وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية. (2) * * *   (1) الأثر: 16556 - سيرة ابن هشام 4: 192، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16539. (2) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 168 وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16557- حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عن النعمان بن بشير الأنصاري قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج! وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام! وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم! فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم = وذلك يوم الجمعة = ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال: ففعل، فأنزل الله تبارك وتعالى: (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله: (والله لا يهدي القوم الظالمين) . (1) 16558- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني   (1) الأثر: 16557 - " أحمد بن عبد الرحمن بن بكار القرشي، الدمشقي "، " أبو الوليد "، شيخ الطبري، مضى مرارا، آخرها رقم: 11416. و" الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي "، سلف مرارا، آخرها رقم: 9071 روى له الجماعة. و" معاوية بن سلام بن أبي سلام ممطور الحبشي "، " أبو سلام الدمشقي "، روى له الجماعة، روى عن جده أبي سلام. مترجم في التهذيب، والكبير 4 /1 / 335، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 383. و" أبو سلام الأسود " واسمه " ممطور "، تابعي ثقة، مضى برقم: 15654، 15655. وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه (13: 25، 26) ، من طريق أبي توبة، عن معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، أنه سمع أبا سلام قال: حدثني النعمان بن بشير، ثم رواه من طريق يحيى بن حسان، عن معاوية، عن زيد، بمثله. وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 131، ونسبه لأبي داود، ولم استطع أن عليه في السنن. وزاد السيوطي في الدر المنثور 3: 218 نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وسيأتي بإسناد آخر رقم: 16560، من طريق أخرى مرسلة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 169 معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) ، قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني! (1) قال الله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، إلى قوله: (الظالمين) ، يعني أن ذلك كان في الشرك، ولا أقبل ما كان في الشرك. 16559- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، إلى قوله: (الظالمين) ، وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون، (2) من أجل أنهم أهله وعُمَّاره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ) [سورة المؤمنون: 66، 67] ، يعني أنهم يستكبرون بالحرم. وقال: (به سامرًا) ، لأنهم كانوا يسمرون، ويهجرون القرآن والنبيَّ صلى الله عليه وسلم. فخيَّر الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله صلى الله عليه وسلم، على عمران المشركين البيتَ وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به، أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه. قال الله: (لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة، فسماهم الله "ظالمين"، بشركهم، فلم تغن عنهم العمارة شيئًا. 16560- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن النعمان بن بشير، أن رجلا قال: ما أبالي أن لا   (1) " العاني "، الأسير. (2) في المطبوعة: " يستكبرون به "، بزيادة " به "، وليست في المخطوطة، وفيها " يستكثرون " وهو خطأ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 170 أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج! وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أعمر المسجد الحرامَ! وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم! فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم = وذلك يوم الجمعة = ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه! فنزلت: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، إلى قوله: (لا يستوون عند الله) ، (1) 16561- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عمرو، عن الحسن قال: نزلت في علي، وعباس، وعثمان، وشيبة، تكلموا في ذلك، فقال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيرًا. 16562- ... قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: نزلت في علي، والعباس، تكلما في ذلك. 16563- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرت عن أبي صخر قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار، وعباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة، أنا صاحب البيت، معي مفتاحه، لو أشاء بِتُّ فيه! وقال عباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بِتُّ في المسجد! وقال علي: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد! فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، الآية كلها. 16564- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن قال: لما نزلت (أجعلتم سقاية الحاج) ، قال العباس:   (1) الأثر 16560 - " يحيى بن أبي كثير الطافي "، ثقة، روى له الجماعة، روى عن زيد بن سلام بن أبي سلام، وأرسل عن أبي سلام الحبشي وغيره وهذا من مرسله عن النعمان بن بشير، أو عن أبي سلام. وقد مضى برقم: 9189، 11505 - 11507. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 171 ما أراني إلا تارك سقايتنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا". 16565- حدثني محمد بن الحسن قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) ، قال: افتخر علي، وعباس، وشيبة بن عثمان، فقال للعباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حُجَّاج بيت الله! وقال شيبة: أنا أعمُر مسجد الله! وقال علي: أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاهد معه في سبيل الله! فأنزل الله: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ، إلى: (نعيم مقيم) . 16566- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، الآية، أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسرُوا يوم بدر يعيِّرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنَّا نَعمُر المسجدَ الحرام، ونفُكُّ العاني، ونحجب البيتَ، ونسقي الحاج! فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، الآية. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أجعلتم، أيها القوم، سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله = (لا يستوون) هؤلاء، وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما، لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملا = (والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول: والله لا يوفّق لصالح الأعمال من كان به كافرًا ولتوحيده جاحدا. * * * ووضع الاسم موضع المصدر في قوله: (كمن آمن بالله) ، إذ كان معلومًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 172 معناه، كما قال الشاعر: (1) لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي (2) فجعل خبر "الفتيان"، "أن"، وهو كما يقال: "إنما السخاء حاتم، والشعر زهير". * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) } قال أبو جعفر: وهذا قضاءٌ من الله بَيْن فِرَق المفتخرين الذين افتخرَ أحدهم بالسقاية، والآخرُ بالسِّدانة، والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: (الذين أمنوا) بالله، وصدقوا بتوحيده من المشركين = (وهاجروا) دورَ قومهم (3) = (وجاهدوا) المشركين في دين الله (4) = (بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) ، وأرفع منزلة عنده، (5) من سُقَاة الحاج وعُمَّار المسجد الحرام، وهم بالله مشركون = (وأولئك) ، يقول: وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم، أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا = (هم الفائزون) ، بالجنة، الناجون من النار. (6) * * *   (1) لم أعرف قائله. (2) معاني القرآن للفراء 1: 427، شرح شواهد المغني: 325. و " الندي "، السخي. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 427. (4) انظر تفسير " هاجر " فيما سلف ص: 81، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير " جاهد " فيما سلف ص: 163، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (6) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف: 13: 389، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 173 القول في تأويل قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله (1) = (ربُّهم برحمة منه) ، لهم، أنه قد رحمهم من أن يعذبهم = وبرضوان منه لهم، بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه، وأدائهم ما كلَّفهم (2) = (وجنات) ، يقول: وبساتين (3) = (لهم فيها نعيم مقيم) ، لا يزول ولا يبيد، ثابت دائمٌ أبدًا لهم. (4) 16567- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله سبحانه: أُعطيكم أفضل من هذا، فيقولون: ربَّنا، أيُّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني. (5) * * *   (1) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف 11: 286، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص: 131 تعليق: 4، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الرضوان " فيما سلف 11: 245، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " النعيم " فيما سلف 10: 461، 462. = وتفسير " مقيم " فيما سلف 10: 293. (5) الأثر: 16567 - مضى هذا الخبر بإسناده ولفظه، وسلف تصحيحه برقم: 651 (ج 6: 262) . وكان في المطبوعة: " أبو أحمد الموسوي "، خطأ محض، لم يحسن قراءة المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 174 القول في تأويل قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره = (خالدين فيها) ، ماكثين فيها، يعنى في الجنات (1) = (أبدا) ، لا نهاية لذلك ولا حدَّ (2) = (إن الله عنده أجر عظيم) ، يقول: إن الله عنده لهؤلاء المؤمنين الذين نعتَهم جل ثناؤه النعتَ الذي ذكر في هذه الآية = (أجر) ، ثواب على طاعتهم لربّهم، وأدائهم ما كلفهم من الأعمال (3) = (عظيم) ، وذلك النعيم الذي وعدَهم أن يعطيهم في الآخرة. (4) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم، وتطلعونهم على عورة الإسلام وأهله، وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام (5) = (إن استحبُّوا الكفر على الإيمان) ، يقول: إن اختاروا الكفر بالله، على التصديق به والإقرار   (1) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (2) انظر تفسير " أبدًا " فيما سلف 11: 244، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) . (4) انظر تفسير " عظيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عظم) . (5) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 175 بتوحيده = (ومن يتولهم منكم) ، يقول: ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين، ويؤثر المقَام معهم على الهجرة إلى رسول الله ودار الإسلام (1) = (فأولئك هم الظالمون) ، يقول: فالذين يفعلون ذلك منكم، هم الذين خالفوا أمرَ الله، فوضعوا الولاية في غير موضعها، وعصوا الله في أمره. (2) * * * وقيل: إن ذلك نزل نهيًا من الله المؤمنين عن موالاة أقربائهم الذين لم يهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام. * ذكر من قال ذلك: 16568- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، قال: أمروا بالهجرة، فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج! وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا صاحب الكعبة، فلا نهاجر! فأنزلت: (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) ، إلى قوله: (يأتي الله بأمره) ، بالفتح، في أمره إياهم بالهجرة. هذا كله قبل فتح مكة. * * *   (1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (2) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 176 القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) } قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد، للمتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام، المقيمين بدار الشرك: إن كان المقام مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم = وكانت (أموال اقترفتموها) ، يقول: اكتسبتموها (1) = (وتجارة تخشون كسادها) ، بفراقكم بلدَكم = (ومساكن ترضونها) ، فسكنتموها = (أحب إليكم) ، من الهجرة إلى الله ورسوله، من دار الشرك = ومن جهاد في سبيله، يعني: في نصرة دين الله الذي ارتضاه (2) = (فتربصوا) ، يقول: فتنظّروا (3) = (حتى يأتي الله بأمره) ، حتى يأتي الله بفتح مكة = (والله لا يهدي القوم الفاسقين) ، يقول: والله لا يوفّق للخير الخارِجين عن طاعته وفي معصيته. (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير " الاقتراف " فيما سلف 12: 76: 173، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف من: 173، تعليق: 5، والمراجع هناك. = وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (3) انظر تفسير " التربص " فيما سلف 9؛ 323: تعليق: 3، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . = وتفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 177 16569- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (حتى يأتي الله بأمره) ، بالفتح. 16570- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ، فتح مكة. 16571- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها) ، يقول: تخشون أن تكسد فتبيعوها = (ومساكن ترضونها) ، قال: هي القصور والمنازل. 16572- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأموال اقترفتموها) ، يقول: أصبتموها. * * * القول في تأويل قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (لقد نصركم الله) ، أيها المؤمنون = في أماكن حرب توطِّنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة = (ويوم حنين) ، يقول: وفي يوم حنين أيضًا قد نصركم. * * * و (حنين) وادٍ، فيما ذكر، بين مكة والطائف. وأجرِيَ، لأنه مذكر اسم لمذكر. وقد يترك إجراؤه، ويراد به أن يجعل اسمًا للبلدة التي هو بها، (1) ومنه قول الشاعر: (2) نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكُلِ الأَبْطَالِ (3)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 429. (2) هو حسان بن ثابت. (3) ديوانه: 334، ومعاني القرآن للفراء 1: 429، واللسان (حنن) ، وسيأتي في التفسير 16: 111 (بولاق) ، وهو بيت مفرد. وقوله: " تواكل الأبطال "، من قولهم: " تواكل القوم "، إذا اتكل بعضهم على بعض، ولم يعفه في مأزق الحرب. وفي الحديث أنه نهى عن المواكلة، وهو: أن يكل كل امرئ صاحبه إلى نفسه، فلا يعينه فيما ينويه، وهو مفض إلى الضعف والتقاطع وفساد الأمور، أعاذنا الله من كل ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 178 16573- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: "حُنَين"، واد إلى جنب ذي المجاز. (1) * * * (إذ أعجبتكم كثرتكم) ، وكانوا ذلك اليوم، فيما ذكر لنا، اثنى عشر ألفًا. * * * وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم: لن نغلب من قِلَّة. * * * وقيل: قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وهو قول الله: (إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا) ، يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا (2) = (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) ، يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم. * * * و"الباء" ههنا في معنى "في"، ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها، وبرحبها. (3) * * * يقال منه: "مكان رحيب"، أي واسع. وإنما سميت الرِّحاب "رحابًا" لسَعَتَها. * * * = (ثم وليتم مدبرين) ، عن عدوكم منهزمين = "مدبرين"، يقول: وليتموهم، الأدبار، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس   (1) الأثر: 16572 - هو جزء من كتاب عروة، إلى عبد الملك بن مروان، الذي خرجته فيما سلف رقم: 16083، ورواه الطبري في تاريخه، في أثناء خبر طويل 2: 125. (2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف: 13: 445، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 430. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 179 بكثرة العدد وشدة البطش، وأنه ينصر القليلَ على الكثير إذا شاء، ويخلِّي الكثيرَ والقليلَ، فَيهْزِم الكثيرُ. (1) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16574- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين) ، حتى بلغ: (وذلك جزاء الكافرين) ، قال: "حنين"، ماء بين مكة والطائف، قاتل عليها نبيُّ الله هوازن وثقيفَ، وعلى هوازن: مالك بن عوف أخو بني نصر، وعلى ثقيف: عبد يا ليل بن عمرو الثقفيّ. قال: وذُكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفًا: عشرة آلافٍ من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطُّلقَاء، وذكر لنا أنَّ رجلا قال يومئذٍ: "لن نغلب اليوم بكَثْرة"! قال: وذكر لنا أن الطُّلقَاء انجفَلوا يومئذ بالناس، (2) وجلَوْا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء. وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: "أي رب، آتني ما وعدتني"! قال: والعباسُ آخذ بلجام بغلةِ رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ناد يا معشر الأنصار، ويا معشر المهاجرين! "، فجعل ينادي الأنصار فَخِذًا فخِذًا، ثم قال: "نادِ بأصحاب سورة البقرة! ". (3) قال: فجاء الناس عُنُقًا واحدًا. (4) فالتفت نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، وإذا عصابة من الأنصار، فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبي الله، والله لو عمدت إلى بَرْك الغِمادِ من ذي يَمَنٍ   (1) في المطبوعة: " ويخلي القليل فيهزم الكثير "؛ حذف بسوء رأيه فأفسد الكلام. وإنما أراد أن الله يخلي بين الكثير والقليل فلا ينصر القليل، فيهزم الكثير القليل، على ما جرت به العادة من غلبة الكثير على القليل. (2) " انجفل القوم عن رئيسهم "، ذعروا، فانقلعوا من حوله، ففروا مسرعين. (3) في المطبوعة: " ثم نادى بأصحاب سورة البقرة "، غير ما في المخطوطة عبثا. (4) قوله: " عنقا واحدا "، أي: جملة واحدة. ويقال: " جاء القوم عنقا عنقا "، أي: طائفة طائفة. ويقال: " هم عليه عنق "، أي: هم عليه إلب واحد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 180 لكنَّا مَعَك، (1) ثم أنزل الله نصره، وهزَمَ عدوّهم، وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول الله كفًّا من تراب = أو: قبضةً من حَصْباء = فرمى بها وجوه الكفار، وقال: "شاهت الوجوه! "، فانهزموا. فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأتى الجعرَّانة، فقسم بها مغانم حنين، وتألَّف أناسًا من الناس، فيهم أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فقالت الأنصار: "أمن الرجل وآثر قومه"! (2) فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُبَّة له من أَدَم، فقال: "يا معشر الأنصار، ما هذا الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضُلالا فهداكم الله، وكنتم أذلَّةً فأعزكم الله، وكنتم وكنتم! " قال: فقال سعد بن عبادة رحمه الله: ائذن لي فأتكلم! قال: تكلم. قال: أما قولك: "كنتم ضلالا فهداكم الله"، فكنا كذلك = "وكنتم أذلة فأعزكم الله"، فقد علمت العربُ ما كان حيٌّ من أحياء العرب أمنعَ لما وراء ظهورهم منَّا! فقال عمر: يا سعد أتدري من تُكلِّم! فقال: نعم أكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو سلكَتِ الأنصارُ واديًا والناس واديًا لسكت وادي الأنصار، ولولا الهجرةُ لكنت امرءًا من الأنصار. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " الأنصار كَرِشي وَعَيْبتي، فاقبلوا من مُحِسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". (3) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار، أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسولِ الله إلى بيوتكم! فقالت الأنصار: رضينا عن الله ورسوله، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدِّقانكم ويعذِرَانكم". (4) 16575- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته أو ظِئْره من بني سعد بن بكر، أتته فسألته سَبَايا يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أملكهم، وإنما لي منهم نصيبي، ولكن ائتيني غدًا فسلِيني والناس عندي، فإني إذا أعطيتُك نصيبي أعطاك الناس. فجاءت الغد، فبسط لها ثوبًا، فقعدت عليه، ثم سألته، فأعطاها نصيبه. فلما رأى ذلك الناس أعطوْها أنصباءهم. 16576- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ، الآية: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول الله، لن نغلب اليوم من قِلّة! وأعجبته كثرة الناس، وكانوا اثني عشر ألفًا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوُكِلوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول الله، غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ بين يديه. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الأنصار؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة؟ فتراجع الناس، فأنزل الله الملائكة بالنصر، فهزموا المشركين يومئذٍ، وذلك قوله: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها) ، الآية. 16577- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب، عن أبيه قال: لما كان يوم حنين، التقى المسلمون والمشركون، فولّى المسلمون يومئذٍ. قال: فلقد رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وما معه أحدٌ إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، آخذًا بغَرْزِ النبي صلى الله عليه وسلم، لا يألو ما أسرع نحو   (1) انظر ما سلف في تفسير " برك الغماد " رقم: 15720. (2) في المطبوعة: " حن الرجل إلى قومه "، غير ما في المخطوطة بلا ورع. (3) " الكرش "، وعاء الطيب، و " العيبة " وعاء من أدم يكون فيه المتاع والثياب. يقول: الأنصار خاصتي وموضع سري، أثق بهم، وأعتمد عليهم، وهم أنفس ما أحرز. (4) الأثر: 16574 - رواه ابن سعد مختصرا في الطبقات 4 / 1 / 11، 12. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 181 المشركين. (1) قال: فأتيت حتى أخذتُ بلجامه، وهو على بغلةٍ له شهباء، فقال: يا عباس. ناد أصحابَ السمرة! وكنت رجلا صَيِّتًا، (2) فأذَّنت بصوتي الأعلى: أين أصحاب السمرة! فالتفتوا كأنها الإبل إذا حُشِرت إلى أولادها، (3) يقولون: "يا لبيك، يا لبَّيك، يا لبيك"، وأقبل المشركون. فالتقوا هم والمسلمون، وتنادت الأنصار: "يا معشر الأنصار"، ثم قُصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، فتنادوا: "يا بني الحارث بن الخزرج"، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاوِل، إلى قتالهم فقال: "هذا حين حَمِي الوَطِيس"! (4) ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها، ثم قال: "انهزموا وربِّ الكعبة، انهزموا ورب الكعبة! " قال: فوالله ما زال أمرُهم مدبرًا، وحدُّهم كليلا حتى هزمهم الله، قال: فلكأنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركُضُ خلفهم على بَغْلَتِه. (5) 16578- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أنهم أصابوا يومئذٍ ستة آلاف سَبْيٍ، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله: أنت خيرُ الناس، وأبرُّ الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالَنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عندي من ترونَ! وإن خير القولِ أصدقُه، اختاروا: إما ذَراريكم ونساءكم، وإمّا أموالكم. قالوا: ما كنا نعدِل بالأحساب شيئًا! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاءوني مسلمين، وإنا خيَّرناهم بين الذَّراريّ والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا، فمن كان بيده منهم شيء فطابت نفسُه أن يردَّه فليفعل ذلك، ومن لا فليُعْطِنا، وليكن قَرْضًا علينا حتى نصيب شيئًا، فنعطيه مكانه. فقالوا: يا نبي الله، رضينا وسلَّمنا! فقال: "إني لا أدري لعلَّ منكم من لا يرضَى، فَمُروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعتْ إليه العُرَفاء أن قد رضوا وسلموا. (6) 16579- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبي همام، عن أبي عبد الرحمن = يعني الفهريّ = قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فلما رَكَدت الشمس، (7) لبستُ لأمَتي، (8) وركبت فرسي، حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظِلّ شجرة، فقلت: يا رسول الله، قد حان الرَّواح، فقال: أجل! فنادى: "يا بِلال! يا بلال! " فقام بلال من تحت سمرة، فأقبل كأن ظله ظلُّ طير، فقال: لبيك وسعديك، ونفسي فداؤك، يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسرج فرسي! فأخرج سَرْجًا دَفَّتَاه حشْوهما ليفٌ، ليس فيهما أَشَرٌ   (1) " الغرز "، ركاب الدابة. و " لا يألو " لا يقصر. (2) " الصيت " (على وزن جيد) : البعيد الصوت العاليه. (3) في المطبوعة: " إذا حنت إلى أولادها "، غير ما في المخطوطة، و " الحشر "، الجمع. وفي المراجع الأخرى: " لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ". والذي في طبقات ابن سعد، موافق لما في المطبوعة. (4) " الوطيس ": حفرة تحتفر، فتوقد فيها النار، فإذا حميت يختبز فيها ويشوى، ويقال لها " الإرة " وهذا من بليغ الكلام، ولم تسمع هذه الكلمة من أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (5) الأثر: 16577 - " كثير بن العباس بن عبد المطلب "، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد على عهد رسول الله، ولم يسمع منه، تابعي ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 207، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 153. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 1775 من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. وفصل أخي السيد أحمد تخريجه هناك، ثم رقم: 1776. ورواه مسلم في صحيحه 12: 113، من طريق يونس، عن الزهري. ثم رواه أيضا (12: 117) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، ومن طريق سفيان بن عيينه عن الزهري. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 327، من طريق يونس، عن الزهري. ورواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112 = 4 / 1 / 11، الثاني طريق محمد بن عبد الله، عن عمه، عن ابن شهاب الزهري، والأول من طريق محمد بن حميد العبدي، عن معمر، عن الزهري. ثم انظر تاريخ الطبري 3: 128، حديث ابن إسحاق، في سيرة ابن هشام 4: 87، 88. (6) الأثر: 16578 - رواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112. 87، 88. (7) " ركدت الشمس "، ثبتت، وذلك حين يقوم قائم الظهيرة. (8) " اللأمة " الدرع، وسلاح الحرب كله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 183 ولا بَطَرٌ (1) قال: فركب النبي صلى الله عليه وسلم، فصافَفْناهم يومَنا وليلتنا، فلما التقى الخيلان ولَّى المسلمون مدبرين، كما قال الله. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله، يا معشر المهاجرين! ". قال: ومال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه، فأخذ حَفْنَةً من تراب فرمى بها وجوههم، فولوا مدبرين = قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي مِنَّا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب. (2) 16580- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس: فَرَرتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: لكن رسول الله لم يفرَّ، وكانت هَوازن يومئذ رُماةً، وإنَّا لما حملنا عليهم انكشَفُوا فأكبَبْنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسِّهام، ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها وهو يقول: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عبدِ المُطَّلِبْ (3)   (1) " الأشر "، المرح والخيلاء. و " البطر "، الطغيان في النعمة من قلة احتمالها. (2) الأثر: 16579 - " يعلى بن عطاء العامري الطائفي "، ثقة مضى برقم: 2858، 11527، 11529. و" أبو همام " هو " عبد الله بن يسار "، روى عن عمرو بن حريث. وأبي عبد الرحمن الفهري. ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 202. و" أبو عبد الرحمن الفهري "، صحابي مختلف في اسمه، مترجم في الإصابة، والتهذيب، وأسد الغابة 5: 245، 246، والاستيعاب: 676. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 286 من طريق بهز عن حماد بن سلمة، ومن طريق عفان، عن حماد. ورواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112، 113، من طريق عفان، عن حماد بن سلمة. ورواه أبو داود في سننه 4: 485، 486، برقم: 5233 من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد مختصرا. ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب 676، بغير إسناد. ورواه ابن الأثير في أسد الغابة من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 181، 182، وقال: " رواه البزار، والطبراني، ورجالها ثقات ". (3) الأثران: 16580، 16581 - خبر البراء بن عازب، رواه مسلم من طرق كثيرة في صحيحه 12: 117 - 121، ورواه من طريق شعبة، عن أبي إسحاق في 12: 121. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 24) من طرق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 185 16581- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: سأله رجل: يا أبا عُمارة، وليتم يوم حنين؟ فقال البراء وأنا أسمع: أشهد أن رسول الله لم يولِّ يومئذ دُبُره، وأبو سفيان يقود بغلته. فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عبدِ المُطَّلِبْ فما رُؤي يومئذ أحد من الناس كان أشدَّ منه. 16582- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني جعفر بن سليمان، عن عوف الأعرابي، عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال، حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحابَ محمد عليه السلام، لم يقفوا لنا حَلَبَ شاةٍ أن كشفناهم، فبينا نحن نسوقهم، إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، فتلقانا رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا"! فرجعنا، وركبنا القوم، فكانت إياها. (1)   (1) الأثر: 16582 - " عبد الرحمن، مولى أم برثن "، هو " عبد الرحمن بن آدم، صاحب السقاية ". وكانت أم برثن تعالج الطيب، فأصابت غلاما لقطة، فربته حتى أدرك، وسمته عبد الرحمن، فكان مما يقال له " عبد الرحمن بن أم برثن "، وإنما قيل له: " عبد الرحمن بن آدم، نسب إلى أبي البشر جميعا، " آدم " عليه السلام، لم يكن يعرف له أب، وهو ثقة، مضى برقم: 7145. وكان في المخطوطة: " مولى برثن "، وهو خطأ، وانظر الخبر التالي رقم: 19587 من طريق أخرى. وقوله: " لم يقفوا لنا حلب شاة "، يعني: إلا قدر ما تحلب شاة، كناية من قلة الزمن، كما يقال: " فواق ناقة "، و " الفواق " ما بين الحلبتين إذا قبض الجانب على الضرع ثم أرسله. قوله: " فكانت إياها "، يعني، فكانت الهزيمة التي تعلم. وفي حديث معاوية بن عطاء: " كان معاوية رضي الله عنه إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة كانت إياها ". قالوا: اسم " كان " ضمير " السجدة "، و " إياها " الخبر، أي: كانت هي هي، أي: كان يرفع منها وينهض قائما إلى الركعة الأخرى من غير أن يقعد قعدة الاستراحة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 186 16583- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: أمدَّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين. قال: ويومئذ سمَّى الله الأنصار "مؤمنين". قال: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم يَروها) . 16584- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) ، قال: كانوا اثني عشر ألفًا. 16585- حدثنا محمد بن يزيد الأدَميّ قال، حدثنا معن بن عيسى، عن سعيد بن السائب الطائفي، عن أبيه، عن يزيد بن عامر قال: لما كانت انكشافةُ المسلمين حين انكشفوا يوم حنين، ضَرَب النبي صلى الله عليه وسلم يَده إلى الأرض، فأخذ منها قبضة من تراب، فأقبل بها على المشركين وهم يتْبعون المسلمين، فحثَاها في وجوهم وقال: "ارجعوا: شاهت الوجوه! ". قال: فانصرفنا، ما يلقى أحدٌ أحدًا إلا وهو يمسَحُ القَذَى عن عينيه. (1)   (1) الأثر: 16585 - " محمد بن يزيد الأدمي الخراز "، شيخ الطبري، ثقة زاهد، مضى برقم: 4894. و" معن بن عيسى الأشجعي، القزاز "، أحد أئمة الحديث، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 390، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 277. و" سعيد بن السائب الطائفي "، ثقة، مضى برقم: 15402. وأبوه " السائب بن أبي حفص الطائفي "، ثقة، مترجم في الكبير 2 / 2 / 156، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 245. و" يزيد بن عامر السوائي " " أبو حاجز " صحابي، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 316، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 281. وهذا الخبر، رواه البخاري في تاريخه 4 / 2 / 316 من طريق إبراهيم بن المنذر، عن معن بن عيسى. ورواه ابن الأثير في أسد الغابة 5: 115، 116. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (6: 182، 183) ، حديثان، كما جاء هنا في التفسير، وقال في الأول والثاني " رواه الطبراني، ورجاله ثقات ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 187 16586- وبه، عن يزيد بن عامر السُّوائي قال: قيل له: يا أبا حاجز، الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين، ماذا وجدتم؟ قال: وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّستِ فيطنُّ، ثم يقول: كان في أجوافِنَا مثل هذا! (1) 16587- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثني المعتمر بن سليمان، عن عوف قال، سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن = أو: أم برثم = قال، حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لما التقينا نحن وأصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، لم يقوموا لنا حَلَب شاة. قال: فلما كشفناهم جعلنا نسُوقهم في أدبارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عندَه رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه فقالوا لنا: "شاهت الوجوه، ارجعوا! "، قال: فانهزمنا، وركِبُوا أكتافنا، فكانت إيَّاهَا. (2) * * *   (1) 16586 - مكرر الأثر السالف، وتخريجه هناك. (2) الأثر: 16587 - " عبد الرحمن، مولى أم برثن، أو: أم برثم "، بإبدال النون ميما، مضى في الأثر رقم: 16582، وكان في المطبوعة هنا: " أو: أم مريم "، وهو خطأ محض، وتصرف في رسم المخطوطة، وهي غير منقوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 188 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم من بعد ما ضاقت عليكم الأرض بما رحبت، وتوليتكم الأعداءَ أدباركم، كشف الله نازل البلاء عنكم، بإنزاله السكينة = وهي الأمنة والطمأنينة = عليكم. * * * = وقد بينا أنها "فعيلة"، من "السكون"، فيما مضى من كتابنا هذا قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) * * * = (وأنزل جنودًا لم تروها) ، وهي الملائكة التي ذكرتُ في الأخبار التي قد مضى ذكرها = (وعذب الذين كفروا) ، يقول: وعذب الله الذين جحدوا وحدانيّته ورسالةَ رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بالقتل وسَبْي الأهلين والذراريّ، وسلب الأموال والذلة = (وذلك جزاء الكافرين) ، يقول: هذا الذي فعلنا بهم من القتل والسبي = (جزاء الكافرين) ، يقول: هو ثواب أهل جحود وحدانيته ورسالة رسوله. (2) 16588- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وعذب الذين كفروا) ، يقول: قتلهم بالسيف. 16589- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: (وعذب الذين كفروا) ، قال: بالهزيمة والقتل. 16590- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) ، قال: من بَقي منهم. * * *   (1) انظر تفسير " السكينة " فيما سلف 3: 66، 70 /5: 326 - 330. (2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 189 القول في تأويل قوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه، من بعد عذابه الذي به عذَّب من هلك منهم قتلا بالسيف = (على من يشاء) ، أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء، يُقْبِل به إلى طاعته = (والله غفور) ، لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها = (رحيم) ، بهم، فلا يعذبهم بعد توبتهم، ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرُّوا بوحدانيته: ما المشركون إلا نَجَس. * * * واختلف أهل التأويل في معنى "النجس"، وما السبب الذي من أجله سمَّاهم بذلك. فقال بعضهم: سماهم بذلك، لأنهم يجنبون فلا يغتسلون، فقال: هم نجس،   (1) انظر تفسير " التوبة "، و " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (غفر) ، (رحم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 190 ولا يقربوا المسجد الحرام = لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد. * ذكر من قال ذلك: 16591- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، في قوله: (إنما المشركون نجس) ،: لا أعلم قتادة إلا قال: "النجس"، الجنابة. 16592- وبه، عن معمر قال: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة، وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده، فقال حذيفة: يا رسول الله، إني جُنُب! فقال: إنّ المؤمن لا ينجُس. 16593- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) ، أي: أجْنَابٌ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ما المشركون إلا رِجْسُ خنزير أو كلب. وهذا قولٌ رُوِي عن ابن عباس من وجه غير حميد، فكرهنا ذكرَه. * * * وقوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عنى بذلك منعَهم من دخول الحرم، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام. * * * وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه. * ذكر من قال ذلك: 16594- حدثنا بشر، وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء: الحرمُ كله قبلةٌ ومسجد. قال: (فلا يقربوا المسجد الحرام) ، لم يعن المسجدَ وحده، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرَّةٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 191 وذكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما:- 16595- حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو: أن عمر بن عبد العزيز كتب: "أنِ آمنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين"، وأَتْبَعَ في نهيه قولَ الله: (إنما المشركون نجس) . 16596- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن: (إنما المشركون نجس) ، قال: لا تصافحوهم، فمن صافحَهم فليتوضَّأ. * * * وأما قوله: (بعد عامهم هذا) ، فإنه يعني: بعد العام الذي نادَى فيه علي رحمة الله عليه ببراءة، وذلك عام حجَّ بالناس أبو بكر، وهي سنة تسع من الهجرة، كما:- 16597- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحجَّ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجّة الوداع، لم يحجَّ قبلها ولا بعدها. * * * وقوله: (وإن خفتم عيلة) ، يقول للمؤمنين: وإن خفتم فاقَةً وفقرًا، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام = (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) . * * * يقال منه: عال يَعِيلُ عَيْلَةً وعُيُولا ومنه قول الشاعر: (1) وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاه ... وَمَا يَدْرِي الغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ (2)   (1) هو أحيحة بن الجلاح. (2) سلف البيت وتخريجه وشرحه، فيما سلف 7: 459، وانظر مجاز القرآن 1: 255. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 192 وقد حكي عن بعضهم أنّ من العرب من يقولُ في الفاقة: "عال يعول" بالواو. (1) * * * وذكر عن عمرو بن فائد أنه كان تأوّل قوله (2) (وإن خفتم عيلة) ، بمعنى: وإذ خفتم. ويقول: كان القوم قد خافُوا، وذلك نحو قول القائل لأبيه: "إن كنت أبي فأكرمني"، بمعنى: إذ كنت أبي. * * * وإنما قيل ذلك لهم، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم، انقطاع تجاراتهم، ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك. وأمَّنهم الله من العيلة، وعوَّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم، ما هو خير لهم منه، وهو الجزية، فقال لهم: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ، إلى: (صَاغِرُون) . * * * وقال قوم: بإدرار المطر عليهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16598- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: لما نَفَى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن، قال: من أين تأكلون، وقد نُفِيَ المشركون وانقطعت عنهم العيرُ! (3) فقال الله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من   (1) انظر تفسير " عال " فيما سلف 7: 548، 549. (2) " عمرو بن فائد "، أبو علي الأسواري، وردت عنه الرواية في حروف من القرآن. مترجم في طبقات القراء 1: 602 رقم: 2462، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 253، ولسان الميزان 4: 372، وميزان الاعتدال، 2: 298، وهو في الحديث ليس بشيء، بل هو منكر الحديث، متروك. (3) في المطبوعة: " وانقطعت عنكم " وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 193 فضله إن شاء) ، فأمرهم بقتال أهل الكتاب، وأغناهم من فضله. 16599- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت، ويجيئون معهم بالطعام، وَيتَّجرون فيه. فلما نُهُوا أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين لنا طعام؟ فأنزل الله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) ، فأنزل عليهم المطر، وكثر خيرهم، حتى ذهب عنهم المشركون. 16600- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة: (إنما المشركون نجس) ، الآية = ثم ذكر نحو حديث هنّاد، عن أبي الأحوص. 16601- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن واقد، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا، ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) . (1) 16602- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، عن سعيد بن جبير، قال: كان المشركون يقدَمون عليهم بالتجارة، فنزلت هذه الآية: (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله: (عيلة) ، قال: الفقر = (فسوف يغنيكم الله من فضله) . 16603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية العوفي قال: قال المسلمون: قد كنّا نصيب من تجارتهم وبِياعاتهم،   (1) الأثران: 16601، 16602 - " واقد، ولي زيد بن خليدة "، ثقة، سلف برقم: 11450. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 194 فنزلت: (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله: (من فضله) . 16604- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي =أحسِبه قال: أنبأنا أبو جعفر، عن عطية، قال: لما قيل: ولا يحج بعد العام مشرك! قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم. قال: فنزلت: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، يعني: بما فاتهم من بياعاتهم. 16605- حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا حدثنا ابن يمان، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، قال: الجزية. 16606- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان وأبو معاوية، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك، قال: أخرج المشركون من مكة، فشقَّ ذلك على المسلمين وقالوا: كنا نُصيب منهم التجارة والميرة. فأنزل الله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، 16607- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، كان ناس من المسلمين يتألَّفون العير; فلما نزلت "براءة" بقتال المشركين حيثما ثقفوا، وأن يقعدُوا لهم كل مرصد، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين: فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العير؟ فعلم الله من ذلك ما علم، فقال: أطيعوني، وامضوا لأمري، وأطيعوا رسولي، فإني سوف أغنيكم من فضلي. فتوكل لهم الله بذلك. 16608- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله: (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) ، قال: قال المؤمنون: كنا نصيب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 195 من متاجر المشركين! فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله، عوضًا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية مع أول "براءة" في القراءة، ومع آخرها في التأويل (1) (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، إلى قوله: (عن يد وهم صاغرون) ، حين أمر محمد وأصحابه بغزْوة تبوك. 16609- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. 16609م- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، شقَّ ذلك على المسلمين، وكانوا يأتون بِبَيْعَات ينتفع بذلك المسلمون. (2) فأنزل الله تعالى ذكره: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، فأغناهم بهذا الخراج، الجزيةَ الجاريةَ عليهم، يأخذونها شهرًا شهرًا، عامًا عامًا، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم بحالٍ، إلا صاحب الجزية، أو عبد رجلٍ من المسلمين. 16610- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذمّة. 16611- ...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: إلا صاحب جزية، أو عبد لرجلٍ من المسلمين. 16612- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن   (1) في المطبوعة: " من أول براءة. . . ومن آخرها "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض. (2) في المطبوعة: " ببياعات "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 196 عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) ، إلا أن يكون عبدًا، أو أحدًا من أهل الجزية. 16613- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، قال: أغناهم الله بالجزية الجارية شهرًا فشهرًا، وعامًا فعامًا. 16614- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن أبي الزبير، عن جابر: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشركٌ ولا ذميٌّ. 16615- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة) ، وذلك أن الناس قالوا: لتقطعنَّ عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المَرافق! (1) فقال الله عز وجل: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، من وجه غير ذلك = (إن شاء) ، إلى قوله: (وهم صاغرون) ، ففي هذا عوَض مما تخوَّفتم من قطع تلك الأسواق، فعوَّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطَاهم من أعْناق أهلِ الكتاب من الجزية. (2) * * * وأما قوله: (إن الله عليم حكيم) ، فإن معناه: (إن الله عليم) ، بما حدثتكم به أنفسكم، أيها المؤمنون، من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا   (1) في المطبوعة: " فنزل: وإن خفتم "، ولم تكن " فنزل " في المخطوطة، سها الكاتب وتجاوز ما كان ينقل منه، وأثبته من نص ابن إسحاق في سيرة ابن هشام. (2) الأثر: 16615 - سيرة ابن هشام 4: 192، 193، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16556. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 197 المسجد الحرام، وغير ذلك من مصالح عباده = (حكيم) ، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: (قاتلوا) ، أيها المؤمنون، القومَ = (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار (2) = (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) ، يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحقِّ، يعني: أنهم لا يطيعون طاعةَ أهل الإسلام (3) = (من الذين أوتوا الكتاب) ، وهم اليهود والنصارَى. * * * وكل مطيع ملكًا وذا سلطانٍ، فهو دائنٌ له. يقال منه: دان فلان لفلان فهو يدين له، دينًا"، قال زهير: لَئِنَ حَلَلْتَ بِجَوٍّ فِي بَنِي أَسَدٍ ... فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنا فَدَكُ (4)   (1) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) . (2) انظر تفسير " اليوم الآخر " فيما سلف من فهارس اللغة (أخر) . (3) انظر تفسير " الدين " فيما سلف 1: 155 /3: 571 / 9: 522. (4) ديوانه: 183، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 286، من قصيدة من جيد الكلام، أنذر بها الحارث بن ورقاء الصيداوي، من بني أسد، وكان أغار على بني عبد الله بن غطفان، فغنم، واستاق إبل زهير، وراعيه يسارا: يا حَارِ، لا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بِدَاهِيَةٍ ... لَمْ يَلْقَهَا سُوقَةٌ قَبْلِي ولا مَلِكُ فَارْدُدْ يَسَارًا، وَلا تَعْنُفْ عَلَيَّ وَلا ... تَمْعَكْ بِعِرْضِكَ إِن الغَادِرَ المَعِكَ وَلا تَكُونَنْ كَأَقْوَامٍ عَلِمْتَهُمُ ... يَلْوُونَ مَا عَنْدَهُمْ حَتَّى إذَا نَهِكُوا طَابْتْ نُفُوسُهُمُ عَنْ حَقِّ خَصْمِهِمْ ... مَخَافَهُ الشَّرِّ، فَارْتَدُّوا لِمَا تَرَكُوا تَعَلَّمَنْ: هَا، لَعَمْرُ اللهِ ذَا ; قَسَمًا ... فَاقْصِدْ بِذَرْعِكَ، وانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكَ لَئِنْ حَلَلْتَ. . . . . .. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لَيَأتِيَنَّكَ مِنِّي مَنْطِقٌ قَذَعٌ ... بَاقٍ، كَمَا دَنَّسَ القُبْطِيَّةَ الوَدَكُ و" جو " اسم لمواضع كثيرة في الجزيرة، وهذا " الجو " هنا في ديار بني أسد. و " عمرو "، هو: " عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء "، و " فدك " قرية مشهورة بالحجاز، لها ذكر في السير كثير. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 198 وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب) ، يعني: الذين أعطوا كتاب الله، (1) وهم أهل التوراة والإنجيل = (حتى يعطوا الجزية) . * * * و"الجزية": الفِعْلة من: "جزى فلان فلانًا ما عليه"، إذا قضاه، "يجزيه"، و"الجِزْية" مثل "القِعْدة" و"الجِلْسة". * * * ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراجَ عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دَفْعًا عنها. * * * وأما قوله: (عن يد) ، فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه. * * * وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرًا له، شيئًا طائعًا له أو كارهًا: "أعطاه عن يده، وعن يد". وذلك نظير قولهم: "كلمته فمًا لفمٍ"، و"لقيته كَفَّةً   (1) انظر تفسير " الإيتاء " فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 199 لكَفَّةٍ، (1) وكذلك: "أعطيته عن يدٍ ليد". * * * وأما قوله: (وهم صاغرون) ، فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون. * * * يقال للذليل الحقير: "صاغر". (2) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك. * ذكر من قال ذلك: 16616- حدثني محمد بن عروة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، حين أمر محمدٌ وأصحابه بغزوة تبوك. 16617- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. * * * واختلف أهل التأويل في معنى "الصغار"، الذي عناه الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائمٌ، والآخذ جالسٌ. * ذكر من قال ذلك: 16618- حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن عكرمة: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، قال:   (1) يقال: " لقيته كفة كفة " (بفتح الكاف، ونصب التاء) ، إذا استقبلته مواجهته، كأن كل واحد منهما قد كف صاحبه عن مجاوزته إلى غيره ومنعه. وانظر تفصيل ذلك في مادته في لسان العرب (كفف) . (2) انظر تفسير " الصغار " فيما سلف 13: 22، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 200 أي تأخذها وأنت جالس، وهو قائم. (1) * * * وقال آخرون: معنى قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، عن أنفسهم، بأيديهم يمشون بها، وهم كارهون، وذلك قولٌ رُوي عن ابن عباس، من وجهٍ فيه نظر. * * * وقال آخرون: إعطاؤهم إياها، هو الصغار. * * * القول في تأويل قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) } قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في القائل: (عزير ابن الله) . فقال بعضهم: كان ذلك رجلا واحدًا، هو فِنْحاص. * ذكر من قال ذلك: 16619- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، قال: قالها رجل واحد، قالوا: إن اسمه فنحاص. وقالوا: هو الذي قال: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، [سورة آل عمران: 181] .   (1) الأثر: 16618 - " عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري "، شيخ الطبري، ثقة، من شيوخ البخاري، مضى برقم: 13805. وفي المطبوعة: " عن ابن سعد "، وهو خطأ، خالف ما في المخطوطة وانظر " أبا سعد " في فهرس الرجال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 201 وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم. * ذكر من قال ذلك: 16620- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَلامُ بن مشكم، ونعمانُ بن أوفى، (1) وشأسُ بن قيس، ومالك بن الصِّيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قِبْلتنا، وأنت لا تزعم أنّ عزيرًا ابن الله؟ فأنزل في ذلك من قولهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) ، إلى: (أنى يؤفكون) . (2) 16621- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، وإنما قالوا: هو ابن الله من أجل أن عُزَيرًا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا، (3) ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التّابوت فيهم. فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء، رفع الله عنهم التابوت، وأنساهُم التوراة، ونسخها من صدورهم، وأرسل الله عليهم مرضًا، فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبدُه، حتى نسوا التوراة، ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثُوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبلُ من علمائهم، فدعا عزيرٌ الله، وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخَ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله، نزل نور من الله فدخل جَوْفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من   (1) في سيرة ابن هشام: " ونعمان بن أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، وشاس. . . ". (2) الأثر: 16620 - سيرة ابن هشام 2: 219. (3) في المطبوعة: " يعملون بها ما شاء الله "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 202 التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم، قد آتاني الله التوراةَ وردَّها إليَّ! فعلقَ بهم يعلمهم، (1) فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم. ثم إنَّ التابوت نزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرَضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلِّمهم، فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله. 16622- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، إنما قالت ذلك، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم، وأخذوا التوراة، وذهب علماؤهم الذين بقُوا، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال. (2) وكان عزير غلامًا يتعبَّد في رءوس الجبال، لا ينزل إلا يوم عيد. فجعل الغلام يبكي ويقول: "ربِّ تركتَ بني إسرائيل بغير عالم"! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفارُ عينيه، فنزل مرة إلى العيد، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلتْ له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه، ويا كاسِياه! فقال لها: ويحك، من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل؟ (3) قالت: الله! قال: فإن الله حي لم يمت! قالت: يا عزير، فمن كان يعلِّم العلماء قبلَ بني إسرائيل؟ قال: الله! قالت: فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خُصِم، (4) ولَّى مدبرًا، فدعته فقالت: يا عزير، إذا أصبحت غدًا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه، ثم اخرج فصلِّ ركعتين،   (1) في المطبوعة: " فعلق يعلمهم "، وفي المخطوطة "فعلق به يعلمهم، ورجحت صواب ما أثبت. يقال: " علقت أفعل كذا " بمعنى: طفقت. من قولهم: " علق بالشيء "، إذا لزمه، قال يزيد بن الطثرية: عَلِقْنَ حَوْلِي يَسْأَلْنَ القِرَى أُصُلا ... وليسَ يَرْضَيْنَ مِنِّي بالمعَاذِيرِ بمعنى: طفقن (انظر طبقات فحول الشعراء: 587، تعليق: 4) . (2) في المطبوعة: " فدفنوا "، وأثبت ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة، جعلها جميعًا بالواو على العطف، وأثبت ما في المخطوطة. (4) " خصم "، أي: غلب في الخصام والحجاج. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 203 فإنه يأتيك شيخٌ، فما أعطاك فخُذْه. فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر، فاغتسل فيه، ثم خرج فصلى ركعتين. فجاءه الشيخُ فقال: افتح فمك! ففتح فمه، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة، مجتمع كهيئة القوارير، ثلاث مرار. (1) فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل، إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا: يا عزير، ما كنت كذَّابًا! فعمد فربط على كل إصبع له قلمًا، وكتب بأصابعه كلها، فكتب التوراة كلّها. فلما رجعَ العلماء، أخبروا بشأن عزير، فاستخرج أولئك العلماء كُتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال، وكانت في خوابٍ مدفونة، (2) فعارضوها بتوراة عزير، فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه! * * * واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ "، لا ينونون "عزيرًا". * * * وقرأه بعض المكيين والكوفيين: (عُزَيْرٌ ابْنُ الله) ، بتنوين "عزير" قال: هو اسم مجْرًى وإن كان أعجميًّا، لخفته. وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله، فيكون بمنزلة قول القائل: "زيدٌ بن عبد الله"، وأوقع "الابن" موقع الخبر. ولو كان منسوبًا إلى الله لكان الوجه فيه، إذا كان الابن خبرًا، الإجراء، والتنوين، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه. وأما من ترك تنوين "عزير"، فإنه لما كانت الباء من "ابن" ساكنة مع التنوين الساكن، والتقى ساكنان، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه، قال الراجز: (3)   (1) في المطبوعة: " مجتمعا "، وأثبت ما في المخطوطة، والدر المنثور. وهذا الموضع من الخبر، يحتاج إلى نظر في صحته ومعناه. (2) " خوابي " جمع " خابية "، وهي الجرة الكبيرة. (3) لم أعرف قائله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 204 لَتَجدَنِّي بِالأمِيرِ بَرًّا ... وَبِالقَنَاةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا إذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا (1) فحذف النون للساكن الذي استقبلها. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) ، بتنوين "عزير"، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان "الابن" نعتًا للاسم، [وتنونه إذا كان خبرًا] ، كقولهم: "هذا زيدٌ بن عبد الله"، فأرادوا الخبر عن "زيد" بأنه "ابن الله"، (2) ولم يريدوا أن يجعلوا "الابن" له نعتًا و"الابن" في هذا الموضع خبر لـ "عزير"، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك، إنما أخبروا عن "عزير"، أنه كذلك، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين. * * * = (وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يعني قول اليهود: (عزير ابن الله) . يقول: يُشْبه قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابنٌ، كذِبَ اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرًا إلى أنه لله ابن، (3) ولا ينبغي أن يكون لله ولدٌ سبحانه،   (1) نوادر أبي زيد: 91، معاني القرآن للفراء 1: 431. اللسان (صهب) ، (دعس) ، (دعص) ، وغيرها، وقبله في النوادر: جاءُوا يجرُّون الحدِيدَ جَرًّا ... صُهْبَ السِّبالِ يَبتغونَ الشرَّا في النوادر: " يجرون السود "، وهذه رواية غيره. (2) هذه الجملة كانت في المخطوطة هكذا: " لأن النون العرب من الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم، كقولهم: هذا زيد بن عبد الله، فأرادوا الخبر عن زيد بأنه ابن الله ". وهو كلام مضطرب غاية الاضطراب. وصححها في المطبوعة هكذا: " لأن العرب لا تنون الأسماء، إذا كان الابن نعتا للاسم، كقولهم: هذا زيد بن عبد الله، فأرادوا الخبر عن عزير بأنه ابن الله "، وهو أيضا مضطرب. فأبقيت تصحيح الناشر الأول في صدر الجملة، ثم صححت سائر الكلام بما يوافق المخطوطة، ثم زدت فيه ما بين القوسين، حتى يستقيم الكلام على وجه مرضي بعض الرضى. ولا أشك أن الناسخ قد أسقط قدرا من كلام أبي جعفر. (3) في المطبوعة: " نسبة قول هؤلاء. . . ككذب اليهود وفريتهم "، أخطأ في قراءة " يشبه "، فجعلها " نسبة "، ثم زاد في " كذب " كافًا أخرى في أولها، ليستقيم الكلام، فلم يستقم. وقوله: " كذب " مفعول قوله: " يشبه ". وذلك معنى " المضاهأة " كما سيأتي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 205 بل له ما في السماوات والأرض، كل له قانتون. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16623- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: يُشبِّهون. 16624- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم. 16625- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في "عزيز". 16626- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: النصارى، يضاهئون قول اليهود. 16627- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان. * * * وقد قيل: إن معنى ذلك: يحكون بقولهم قولَ أهل الأوثان، (1) الذين قالوا: "اللات، والعزَّى، ومناة الثالثة الأخرى". (2) * * *   (1) في المطبوعة: " أهل الأديان "، والصواب ما أثبت من المخطوطة. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 433. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 206 واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (يُضَاهُونَ) ، بغير همز. * * * وقرأه عاصم: (يُضَاهِئُونَ) ، بالهمز، وهي لغة لثقيف. * * * وهما لغتان، يقال: "ضاهيته على كذا أضَاهيه مضاهاة" و"ضاهأته عليه مُضَأهاة"، إذا مالأته عليه وأعنته. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءَة في ذلك ترك الهمز، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة الفصحى. * * * وأما قوله: (قاتلهم الله) ، فإن معناه، فيما ذكر عن ابن عباس، ما:- 16628- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (قاتلهم الله) ، يقول: لعنهم الله. وكل شيء في القرآن "قتل"، فهو لعن. * * * وقال ابن جريج في ذلك ما:- 16629- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (قاتلهم الله) ، يعني النصارى، كلمةٌ من كلام العرب. (1) * * * فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون: معناه: قتلهم الله. والعرب تقول: "قاتعك الله"، و"قاتعها الله"، بمعنى: قاتلك الله. قالوا: و"قاتعك الله" أهون من "قاتله الله". وقد ذكروا أنهم يقولون: "شاقاه الله ما تاقاه"، يريدون: أشقاه الله ما أبقاه.   (1) يعني أنها كلمة تقولها العرب، لا تريد بها معنى " القتل "، كقولهم: " تربت يداك "، لا يراد بها وقوع الأمر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 207 قالوا: ومعنى قوله: (قاتلهم الله) ، كقوله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ، [سورة الذاريات: 10] ، و (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) ، [سورة البروج: 4] ، واحدٌ هو بمعنى التعجب. * * * فإن كان الذي قالوا كما قالوا، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس، لأنّ "فاعلت" لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين، كقولهم: "خاصمت فلانًا"، و"قاتلته"، وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم: "عافاك الله" منه، وأن معناه: أعفاك الله، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يُعْفيه من السوء. * * * وقوله: (أنى يؤفكون) ، يقول: أيَّ وجه يُذْهبُ بهم، ويحيدون؟ وكيف يصدُّون عن الحق؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (1) القول في تأويل قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم، وهم العلماء. * * * وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا قبل. واحدهم "حَبْرٌ"، و"حِبْرٌ" بكسر الحاء منه وفتحها. (2) وكان يونس الجرمي، (3) فيما ذكر عنه، يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا "حِبر"   (1) انظر تفسير " الإفك " فيما سلف 10: 486 / 11: 554. (2) انظر تفسير " الحبر " فيما سلف 6: 543، 544 / 10: 341، 448. (3) " يونس الجرمي "، انظر ما سلف 10: 120، تعليق: 1 / 11: 544، تعليق: 3 / 13: 129، تعليق: 3 = 138، تعليق: 4. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 208 بكسر الحاء، ويحتج بقول الناس: "هذا مِدَادُ حِبْرٍ"، يراد به: مدادُ عالم. وذكر الفرَّاء أنه سمعه "حِبْرًا"، و"حَبْرًا" بكسر الحاء وفتحها. * * * = والنصارى "رهبانهم"، (1) وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم، (2) كما:- 16630- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) ، قال: قُرَّاءهم وعلماءهم. * * * = (أربابا من دون الله) ، يعني: سادةً لهم من دون الله، (3) يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلُّوه لهم مما قد حرَّمه الله عليهم، ويحرِّمون ما يحرِّمونه عليهم مما قد أحلَّه الله لهم، كما:- 16631- حدثني الحسين بن يزيد الطحّان قال، حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في "سورة براءة": (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) ، فقال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا يحلّون لهم فيُحلُّون". (4)   (1) قوله: " والنصارى، ورهبانهم " هذا معطوف على قوله آنفا: " اتخذ اليهود أحبارهم ". (2) انظر تفسير " الرهبان " فيما سلف 10: 502، 503. (3) انظر تفسير " الرب " فيما سلف 1: 142 / 12: 286، 482. (4) الأثر: 16631 - حديث (عدي بن حاتم الطائي) ، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق متابعة، كلها من طريق عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، من 16631 - 16633. " الحسين بن يزيد السبيعي الطحان "، شيخ الطبري، وثقه ابن حبان، ولين حديثه أبو حاتم، مضى برقم: 2892، 7863، 9153. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " الحسن بن يزيد "، وهو خطأ " و" عبد السلام بن حرب الملائي النهدي "، الحافظ الثقة، مضى برقم: 1184، 5471، 12478. و" غطيف بن أعين الشيباني الجزري " أو " غصيف " وثقه ابن حبان، وقال الترمذي: " ليس بمعروف في الحديث " وضعفه الدارقطني، مترجم التهذيب، والكبير 4 / 1 / 106، ولم يذكر فيه جرحا، وترجمه ابن أبي حاتم في " غضيف " بالضاد، 3 / 2 / 55، ولم يذكر فيه جرحا. وسيأتي " غضيف " في رقم: 16633. و (مصعب بن سعد بن أبي وقاص) ، روى عن أبيه، وعلي، وعكرمة بن أبي جهل، وعدي بن حاتم، وابن عمر. وغيرهم، وروي عن غطيف بن أعين، وهو ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 9841، 11450. وهذا الخبر مختصر الذي يليه، فراجع التخريج التالي. ورواه الترمذي من هذه الطريق نفسها عن الحسين بن يزيد الكوفي الطحان في كتاب التفسير، وقال: " هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب. وغطيف بن أعين، ليس بمعروف في الحديث ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 230، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه. ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد، وضل عني مكانه في سنن البيهقي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 209 16632- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا مالك بن إسماعيل = وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد = جميعًا، عن عبد السلام بن حرب قال، حدثنا غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة"، فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! = واللفظ لحديث أبي كريب. (1) 16633- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية، عن قيس   (1) الأثر: 16632 - رواه من طريق مالك بن إسماعيل، عن عبد السلام بن حرب، بلفظه، البخاري في الكبير 4 / 1 / 106. وانظر التخريج السالف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 210 بن الربيع، عن عبد السلام بن حرب النهدي، عن غضيف، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "سورة براءة"، فلما قرأ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قلت: يا رسول الله، إما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال: صدقت، ولكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه، ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه. (1) 16634- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة: أنه سئل عن قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه. 16635- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري قال: قيل لأبي حذيفة، فذكر نحوه = غير أنه قال: ولكن كانوا يحلُّون لهم الحرام فيستحلُّونه، ويحرِّمون عليهم الحلال فيحرِّمونه. 16636- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن حبيب عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول الله: (اتخذوا أحبارهم) ؟ قال: أمَا إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه، فتلك كانت رُبوبيَّتهم. 16637- ...... قال، حدثنا جرير وابن فضيل، عن عطاء، عن أبي البختري: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال: انطلقوا   (1) الأثر: 16633 - " غضيف "، هو " غضيف بن أعين "، و " غطيف "، كما مر في تخريج الأثر: 16631. وكان في المخطوطة: " حصف " وجعلها في المطبوعة: " غطيف "، والصواب ما أثبت. كما أشرت إليه في التعليق المذكور. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 211 إلى حلال الله فجعلوه حرامًا، وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالا فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم. ولو قالوا لهم: "اعبدونا"، لم يفعلوا. 16638- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة فقال: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه. 16639- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن أشعث، عن الحسن: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال: في الطاعة. 16640- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، يقول: زيَّنُوا لهم طاعتهم. 16641- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال عبد الله بن عباس: لم يأمروهم أن يسجُدوا لهم، ولكن أمروهم بمعصية الله، فأطاعوهم، فسمَّاهم الله بذلك أربابًا. 16642- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الرُّبوبية التي كانت في بني إسرائيل؟ قال: [لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى] (1) "ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم"، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه، فاستنصحوا الرجالَ، ونبذُوا كتاب الله وراء ظهورهم.   (1) هذه الجملة التي وضعتها بين قوسين من المخطوطة، ولا أدري ما هي، ولكني أثبتها كما جاءت، فلعل أحدا يجد الخبر في مكان آخر فيصححه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 212 16643- حدثني بشر بن سويد قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، عن حذيفة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال: لم يعبدوهم، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي. (1) * * * وأما قوله: (والمسيح ابن مريم) ، فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا من دون الله. * * * وأما قوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا) ، فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا، وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى، وهو الله الذي له عبادة كل شيء، وطاعةُ كل خلق، المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية = "لا إله إلا هو"، يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهية إلا للواحد الذي أمر الخلقُ بعبادته، ولزمت جميع العباد طاعته = (سبحانه عما يشركون) ، يقول: تنزيهًا وتطهيرًا لله عما يُشرك في طاعته وربوبيته، القائلون: (عزير ابن الله) ، والقائلون: (المسيح ابن الله) ، المتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله. (2) * * *   (1) الأثر: 16643 - " بشر بن سويد "، لم أجد من يسمى بهذا الاسم، أخشى أن يكون: " بشر بن معاذ " شيخ الطبري، عن " سويد بن نصر المروزي ". (2) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 13: 102، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 213 القول في تأويل قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يريد هؤلاء المتخذون أحبارَهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا = (أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يعني: أنهم يحاولون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 213 بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعثَ به رسوله، وصدِّهم الناسَ عنه بألسنتهم، أن يبطلوه، وهو النُّور الذي جعله الله لخلقه ضياءً (1) = (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) ، يعلو دينُه، وتظهر كلمته، ويتم الحقّ الذي بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم = (ولو كره) إتمامَ الله إياه = (الكافرون) ، يعني: جاحديه المكذِّبين به. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16644- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم. * * * القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه = (الذي أرسل رسوله) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم = (بالهدى) ، يعني: ببيان فرائض الله على خلقه، وجميع اللازم لهم (2) = وبدين الحق، وهو الإسلام = (ليظهره على الدين كله) ، يقول: ليعلي الإسلام على الملل كلها = (ولو كره المشركون) ، بالله ظهورَه عليها. * * * وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ليظهره على الدين كله) .   (1) انظر تفسير " الإطفاء " فيما سلف 10: 458. (2) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 214 فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى، حين تصير المللُ كلُّها واحدةً. * ذكر من قال ذلك: 16645- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال، حدثنا شقيق قال، حدثني ثابت الحدّاد أبو المقدام، عن شيخ، عن أبي هريرة في قوله: (ليظهره على الدين كله) ، قال: حين خروج عيسى ابن مريم. (1) 16646- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن فضيل بن مرزوق قال، حدثني من سمع أبا جعفر: (ليظهره على الدين كله) ، قال: إذا خرج عيسى عليه السلام، اتبعه أهل كل دين. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائعَ الدين كلها، فيطلعه عليها. * ذكر من قال ذلك: 16647- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليظهره على الدين كله) ، قال: ليظهر الله نبيّه على أمر الدين كله، فيعطيه إيّاه كله، ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك. * * *   (1) الأثر: 16645 - " ثابت الحداد "، " أبو المقدام " هو: " ثابت بن هرمر الكوفي " مضى برقم: 5969. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 215 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (34) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيرًا من العلماء والقُرَّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى (1) = (ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، يقول: يأخذون الرشى في أحكامهم، ويحرّفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتبًا ثم يقولون: "هذه من عند الله"، ويأخذون بها ثمنًا قليلا من سِفلتهم (2) = (ويصدُّون عن سبيل الله) ، يقول: ويمنعون من أرادَ الدخول في الإسلام الدخولَ فيه، بنهيهم إياهم عنه. (3) * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16648- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، أما "الأحبار"، فمن اليهود. وأما "الرهبان"، فمن النصارى. وأما "سبيل الله"، فمحمد صلى الله عليه وسلم. * * *   (1) انظر تفسير " الأحبار "، و " الرهبان " فيما سلف ص: 209، تعليق: 2، وص: 208، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " أكل الأموال بالباطل " فيما سلف 9: 392، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الصمد " فيما سلف ص: 151، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير " سبيل الله " في فهارس اللغة (سبل) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 216 القول في تأويل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) . قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، ويأكلها أيضًا معهم (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول: بشّر الكثيرَ من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، بعذابٍ أليم لهم يوم القيامة، مُوجع من الله. (1) * * * واختلف أهل العلم في معنى "الكنز". فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة، فلم تؤدَّ زكاته. قالوا: وعنى بقوله: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، ولا يؤدُّون زكاتها. * ذكر من قال ذلك: 16649- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كل مال أدَّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مالٍ لم تؤدَّ زكاته، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن، يكوى به صاحبه، وإن لم يكن مدفونًا. (2) 16650- حدثنا الحسن بن الجنيد قال، حدثنا سعيد بن مسلمة قال، حدثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: كل مالٍ أدَّيت منه الزكاة فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مال لم تودَّ منه الزكاة، وإن لم   (1) انظر تفسير " أليم " فينا سلف من فهارس اللغة (ألم) . (2) الأثر: 16649 - حديث ابن عمرو في الكنز، رواه أبوه جعفر من طرق، بألفاظ مختلفة، موقوفا على ابن عمر، وهو الصواب، وإسناد هذا الخبر صحيح إلى ابن عمرو. رواه مالك بمعناه من طريق عبد الله بن دينار. عن عبد الله بن عمرو في الموطأ: 256. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 217 يكن مدفونًا، فهو كنز. (1) 16651- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: أيُّما مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض. وأيُّما مالٍ لم تودِّ زكاته، فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض. (2) 16652- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنز. (3) 16653- ...... قال، حدثنا أبي، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرَضِين. وما لم تؤدِّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا. (4) 16654- ...... قال، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عكرمة قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنز.   (1) الأثر: 16650 - " الحسن بن الجنيد البلخي "، شيخ الطبري، ويقال " الحسين "، مضى برقم: 8458. وكان في المخطوطة: " الحسين " وأثبت ما في المخطوطة. و" سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان "، ضعيف الحديث، مضى برقم: 8458. و" إسماعيل بن أمية الأموي "، مضى برقم: 2615، 8458. وهذا إسناد ضعيف لضعف " سعيد بن مسلمة ". (2) الأثر: 16651 - رواه البيهقي في السنن 4: 82، بنحو هذا اللفظ من طريق ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وقال: " هذا هو الصحيح، موقوف. وكذلك رواه جماعة عن نافع، وجماعة عن عبيد الله بن عمر. وقد رواه سويد بن عبد العزيز، وليس بالقوي، مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ". (3) الأثر: 16652 - "عطية"، هو "عطية بن سعد العوفي"، ضعيف الحديث، مضى تضعيفه في رقم: 305. (4) الأثر: 16653 - " العمري " وهو " عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب "، سلف مرارا وهذا الإسناد هو الذي أشار إليه البيهقي فيما سلف رقم 16551، في التعليق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 218 16655- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما (الذين يكنزون الذهب والفضة) ، فهؤلاء أهل القبلة، و"الكنز"، ما لم تؤدِّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض، وإن قلّ. وإن كان كثيرًا قد أدّيت زكاته، فليس بكنز. 16656- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مالٌ على رَفٍّ بين السماء والأرض لا تؤدَّى زكاته، أكنز هو؟ قال: يُكْوَى به يوم القيامة. * * * وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أدَّيت منه الزكاة أو لم تؤدِّ. * ذكر من قال ذلك: 16657- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها "نفقة"، فما كان أكثر من ذلك فهو "كنز"، (1) 16658- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي مثله. 16659- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي قال، أخبرني أبو حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه في قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما فوقها كنز. * * *   (1) الأثر: 16657 - " جعدة بن هبيرة المخزومي "، تابعي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أم هانئ بنت أبي طالب. خاله علي رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 238،وابن أبي حاتم 1 / 1 / 526. وسيأتي بعد من طريقين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 219 وقال آخرون: "الكنز" كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه. * ذكر من قال ذلك: 16660- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عبد الواحد: أنه سمع أبا مجيب قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صَفْرَاء أو بيضاء كُوِي بها. (1) 16661- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الأعمش وعمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبًّا للذهب! تبًّا للفضة! يقولها ثلاثًا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فأيَّ مال نتخذ؟! فقال عمر: أنا أعلم لكم   (1) الأثر: 16660 - " ابن عبد الواحد "، يقال: " عبد الله بن عبد الواحد الثقفي "، ويقال: " فلان بن عبد الواحد، رجل من ثقيف "، ويقال: " يحيى بن عبد الواحد " ويقال: " عبد الواحد ". مجهول، وكان في المطبوعة: " عن أنس، عن عبد الواحد "، غير فيها وزاد ما لم يكن في المخطوطة. و" أبو مجيب "، الشاشي. مجهول. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 168 من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن رجل من ثقيف يقال له فلان بن عبد الواحد قال: سمعت أبا مجيب. وذكره الحافظ في تعجيل المنفعة: 518، في ترجمة " أبو محمد ". وذكر نص حديث أحمد ثم قال: " وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الكنى، فيما حكاه الحاكم أبو أحمد عنه، من طريق ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عبد الله بن عبد الواحد الثقفي، عن أبي مجيب الشاشي، فذكره. وحكى الحاكم أنه قيل في اسم هذا الثقفي: يحيى، وقيل: عبد الواحد. وقال: الاختلاف فيه على شعبة ". وفي رواية أحمد: " لقي أبو ذر أبا هريرة، وجعل = أراه قال = قبيعة سيفه فضة ". و" قبيعة السيف "، هي التي تكون على رأس قائم السيف. وقيل: هي ما تحت شاربي السيف، مما يكون فوق الغمد، فيجيء مع قائم السيف. والشاربان: أنفان طويلان أسفل القائم، أحدهما من هذا الجانب، والآخر من هذا الجانب. وأما " نعل السيف "، فهو ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 220 ذلك! فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم، وقالوا: فأيَّ المال نتخذ؟ فقال: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجةً تُعين أحدكم على دينه. (1) 16662- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، بمثله. (2) 16663- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال المهاجرون: وأيَّ المال نتّخذ؟ فقال عمر: اسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه. قال: فأدركته على بعيرٍ فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: فأيَّ المال نتخذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا   (1) الأثر: 16661 - خبر عمر هذا رواه أبو جعفر من طرق. أولها هذا، ثم رقم: 16662، 16663، 16666. و" سالم بن أبي الجعد الأشجعي، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا. روى عن عمر، ولم يدركه. ومن هذا، هذا الخبر، ورقم: 16663. فهذا خبر ضعيف، لانقطاعه. وانظر تخريج الخبر التالي، وروايته في المسند من طريق عبد الله بن عمرو بن مرة، عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن ثوبان. (2) الأثر: 16662 - " سالم بن أبي الجعد "، عن " ثوبان "، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتراه ثم أعتقه. و" سالم بن أبي الجعد " لم يسمع من ثوبان، قال أحمد: " لم يسمع سالم من ثوبان، ولم يلقه. بينهما: معدان بن أبي طلحة. وليست هذه الأحاديث بصحاح ". وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5: 278 من طريق إسرائيل، عن منصور، عن سالم. ثم رواه أيضا 5: 282، من طريق وكيع، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن ثوبان. ورواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، بنحوه، وقال: " هذا حديث حسن. سألت محمد بن إسماعيل (البخاري) فقلت له: سالم بن أبي الجعد سمع ثوبان؟ فقال! لا؛ قلت له، ممن سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمع من جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وذكر غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ". وسيأتي من طريق سالم عن ثوبان برقم: 16666. وانظر تفسير ابن كثير 4: 155. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 221 شاكرًا، وزوجةً مؤمنةً، تعين أحدكم على دينه. (1) 16664- حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: توفي رجل من أهل الصُّفة، فوُجد في مئزرِه دينارٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيَّةٌ! ثم توفي آخر فوُجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيَّتان! (2) 16665- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن صديّ بن عجلان أبي أمامة قال: مات رجل: من أهل الصُّفة، فوجد في مئزره دينارٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيّةٌ! ثم توفيّ آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال نبي الله: كيّتان! (3) 16666- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن ثوبان قال: كنا في سفر، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المهاجرون: لوددنا أنَّا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل! فقال عمر: إن شئتم سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك! فقالوا: أجل!   (1) الأثر: 16663 - انظر تخريج الآثار السالفة. (2) الأثران: 16664، 16665 - " شهر بن حوشب "، مضى توثيقه مرارا. فهذا خبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند 5: 253، من طرق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر. ورواه من طريق روح، عن معمر، عن قتادة، ومن طريق حسين، عن شيبان، عن قتادة. ورواه أيضا 5: 252 عن حجاج قال: سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم = قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال: سمعت أبا الحسن يحدث = قال هاشم في حديثه: أبو الجعد مولى لبني ضبيعة، عن أبي أمامة. ثم رواه أيضا 5: 253، من حجاج، عن شعبة، عن عبد الرحمن، من أهل حمص، من بني العداء، من كندة، مختصرا. وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف رقم: 788، 1155، 1156، 1157. وانظر تفسير ابن كثير 4: 158، 159. (3) الأثران: 16664، 16665 - " شهر بن حوشب "، مضى توثيقه مرارا. فهذا خبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند 5: 253، من طرق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر. ورواه من طريق روح، عن معمر، عن قتادة، ومن طريق حسين، عن شيبان، عن قتادة. ورواه أيضا 5: 252 عن حجاج قال: سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم = قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال: سمعت أبا الحسن يحدث = قال هاشم في حديثه: أبو الجعد مولى لبني ضبيعة، عن أبي أمامة. ثم رواه أيضا 5: 253، من حجاج، عن شعبة، عن عبد الرحمن، من أهل حمص، من بني العداء، من كندة، مختصرا. وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف رقم: 788، 1155، 1156، 1157. وانظر تفسير ابن كثير 4: 158، 159. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 222 فانطلق، فتبعته أوضع على بعيري، (1) فقال: يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير فنتخذه؟ قال: نعم! فيتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجةٌ تعين أحدَكم على إيمانه. (2) * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، القولُ الذي ذكر عن ابن عمر: من أن كل مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز يحرُم على صاحبه اكتنازُه وإن كثر = وأنّ كل مالٍ لم تُؤَّد زكاته فصاحبه مُعاقب مستحقٌّ وعيدَ الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قلّ، إذا كان مما يجبُ فيه الزكاة. وذلك أن الله أوجب في خمس أواقٍ من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشْرها، (3) وفي عشرين مثقالا من الذهب مثل ذلك، رُبْع عشرها. فإذ كان ذلك فرضَ الله في الذهب والفضَّة على لسان رسوله، فمعلومٌ أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ، لو كان = وإن أدِّيت زكاته = من الكنوز التي أوعدَ الله أهلَها عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من رُبْع العُشْر. لأن ما كان فرضًا إخراجُ جميعِه من المال، وحرامٌ اتخاذه، فزكاته الخروجُ من جميعه إلى أهله، لا رُبع عُشره. وذلك مثلُ المال المغصوب الذي هو حرامٌ على الغاصب إمساكُه، وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده، التطهّر منه: ردُّه إلى صاحبه. فلو كان ما زادَ من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربِّه التي لا بد منها، مما يستحق صاحبُه باقتنائه = إذا أدَّى إلى أهل السُّهْمان حقوقهم منها من الصدقة = وعيدَ الله، لم يكن اللازمُ ربَّه فيه رُبْع عشره، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله، وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا   (1) " أوضع الراكب "، أسرع بدابته إسراعا دون العدو الشديد. (2) الأثر: 16666 - مكرر الخبر رقم: 16662، وانظر تخريج الأخبار السالفة. (3) " الورق " (بكسر الراء) ، الفضة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 223 من أن الواجب على غاصِبِ رجلٍ مالَه، رَدُّه على ربِّه. * * * وبعدُ، فإن فيما:- 16667- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، قال معمر، أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل يوم القيامة صفائحَ من نار يُكْوَى بها جبينه وجبهته وظهره، (1) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت إبلا إلا بُطِحَ لها بقاع قرقرٍ، (2) تطؤه بأخفافها = حسبته قال: وتعضه بأفواهها = يردّ أولاها على أخراها، حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله. وإن كانت غنمًا فمثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقُرُونها، وتطؤُه بأظلافها. (3) * * * = وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، الدلالةُ الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تُؤَدَّ الوظائفُ المفروضةُ فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها. وفيما بيّنا من ذلك البيانُ الواضح على أن الآية لخاصٍّ، كما قال ابن عباس، وذلك ما:- 16668- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي،   (1) في المخطوطة: " جسه " غير منقوطة، والذي في مسلم: " جنباه وجبينه " والاختلاف في هذه الأحرف ذكره مسلم في صحيحه، وأثبت ما في المخطوطة لموافقته لما في مسند أحمد رقم: 7706. (2) " بطح " (بالبناء للمجهول) ، ألقي على وجهه. و " القاع ": الأرض المستوية الفسيحة. و " قرقر "، هي الصحراء البارزة الملساء. (3) الأثر: 16667 - حديث صحيح. رواه مسلم مطولا في صحيحه 7: 67، من طريق محمد بن عبد الملك الأموي، عن عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي صالح. ورواه من طرق أخرى عن أبي صالح، ومن طرق عن أبي هريرة. ورواه أحمد في مسنده رقم: 7553، مطولا، وقد استوفى أخي السيد أحمد تخريجه هناك. ثم رواه أيضا رقم: 7706، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن سهيل بن أبي صالح، مختصرا، وفيه: " جبينه وجبهته وظهره " فمن أجل ذلك أثبت ما كان في المخطوطة (تعليق: 1) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 224 قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول: هم أهل الكتاب. وقال: هي خاصَّة وعامةٌ. * * * قال أبو جعفر: يعني بقوله: "هي خاصة وعامة"، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدِّ زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا. يدلُّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا، ما:- 16669- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) ، إلى قوله: (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، قال: هم الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. قال: وكل مالٍ لا تؤدَّى زكاته، كان على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنز وكل مالٍ تؤدَّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها. 16670- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال: "الكنز"، ما كنز عن طاعة الله وفريضته، وذلك "الكنز". وقال: افترضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرَّق بينهما. * * * قال أبو جعفر: وإنما قلنا: "ذلك على الخصوص"، لأن "الكنز" في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضُه على بعضٍ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها، يدلُّ على ذلك قول الشاعر: (1) لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَهُمْ ... قَرْفَ الْحَتِيِّ وعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ (2)   (1) هو المتنخل الهذلي. (2) ديوان الهذليين 2: 15، اللسان (كنز) ، وغيرهما كثير، وهي أبيات جياد، وصف فيها جوع الجائع وصفا لا يبارى، يقول بعده، ووصف رجلا ضاعت نعمه، وشردته البيد: * * *لَوْ أنَّهُ جَاءَني جَوْعَانُ مُهْتَلِكٌ ... مِنْ بُؤسِ النَّاسِ، عَنْهُ الخيْرُ مَحْجُوزُ أعْيَى وقَصَّرَ لَمَّا فَاتَهُ نَعَمٌ ... يُبَادِرُ اللَّيْلَ بالعَلْيَاء مَحْفُوزُ حَتَّى يَجِيءَ، وَجِنُّ اللَّيْلِ يُوغِلُهُ ... والشَّوْكُ فِي وَضَحِ الرِّجْلَيْنِ مَرْكُوزُ قَدْ حَالَ دُونَ دَرِيسَيْهِ مُؤَوِّبَةٌ ... نِسْعٌ، لَهَا بِعِضَاهِ الأرْضِ تَهْرِيزُ كَأنَّمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَلبَّتِهِ ... مِنْ جُلْبَةِ الجُوعِ جَيَّارٌ وإرْزِيزُ لَبَاتَ أُسْوَةَ حَجَّاجٍ وَإخْوَتِهِ ... فِي جَهْدِنا، أوْ لَهُ شَفٌّ وَتْمرِيزُ " القرف "، ما يقرف عن الشيء، وهي قشره. و " الحتى " الدوم. يقول: لا أطعمه الخسيس، والبر عندي مخزون بعضه على بعض. ثم يقول: ضاعت إبله، فتقاذفته البيد، فهو من قلقه يصعد على الروابي يتنور نارا يقصدها. ثم قال: يدفعه سواد الليل ومخاوفه، وقد أضناه السير، فوقع في أرض ذات شوك، فعلق به، لا يكاد ينقشه من شدة ضعفه. ثم يقول: اشتدت ريح الشمال الباردة بالليل = وهي المؤوبة، والشمال، هي النسع = فطيرت عنه ثوبيه الباليين، فأخذه الجوع والبرد، فحمي جوفه من شدة الجوع، وذلك هو " الجيار "، واصطكت أسنانه، وذلك هو " الإرزيز ". ثم يقول: لو جاءني هذا الجائع المشرد، لكان بين أهله، فهو عندي بمنزلة حجاج وإخوته، وهم أولاد المتنخل، في ساعة العسرة، بل لكان له فضل عليهم = وهو " الشف " =، ولكان له زيادة وتمييز = وهو " التمزيز ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 225 يعني بذلك: وعندي البرُّ مجموع بعضه على بعض. وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع: "مكتنز"، لانضمام بعضه إلى بعض. وإذا كان ذلك معنى "الكنز"، عندهم، وكان قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ولا ينفقونها في سبيل الله، وهو عامٌّ في التلاوة، ولم يكن في الآية بيانُ كم ذلك القدر من الذهب والفضّة الذي إذا جمع بعضُه إلى بعض، (1) استحقَّ الوعيدَ = (2) كان معلومًا أن خصوص ذلك إنما أدرك، لوقْف الرسول عليه، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يودَّ حق الله منه من الزكاة دون غيره، لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.   (1) في المخطوطة والمطبوعة: " لم يكن في الآية "، بغير واو، والصواب إثباتها. (2) السياق: " وإ ذا كان ذلك معنى الكنز عندهم. . . كان معلوما. . . ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 226 وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنز غير أنها خاصّة في أهل الكتاب، وإياهم عَنَى الله بها. * ذكر من قال ذلك: 16671- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذَة، فلقيت أبا ذَرّ، فقلت: يا أبا ذرّ، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشأم، فقرأت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينَا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب! قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم! قال: فارتَفَع في ذلك بيني وبينه القولُ، فكتب إلى عثمان يشكُوني، فكتب إليَّ عثمان أنْ أقبل إليّ! قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركِبني الناسُ كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تَنَحَّ قريبًا. قلت: والله لن أدعَ ما كنت أقول! (1) 16672- حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررنا بالربذة، ثم ذكر عن أبي ذر نحوه. (2)   (1) الأثر: 16671 - " أبو حصين "، " عبد الله بن أحمد بن يونس اليربوعي "، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 12336. و" حصين "، هو " حصين بن عبد الرحمن الهذلي "، ثقة سلف مرارا، آخرها رقم: 12193، 12304. و" زيد بن وهب الجهني" تابعي كبير، هاجر إلى رسول الله، ولم يدركه. مضى برقم: 4222، 16527، 16528. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 217 / 8: 244) ، أولهما من طريق هشيم، عن حصين، والثاني من طريق جرير، عن حصين. ورواه ابن سعد في الطبقات 4 / 1 / 166، من طريق هشيم، عن حصين. وسيرويه أبو جعفر من طريق هشيم أيضا برقم: 16674. (2) الأثر: 16672 - هذا مكرر الذي قبله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 227 16673- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث وهشام، عن أبي بشر قال، قال أبو ذر: خرجت إلى الشأم، فقرأت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب! قال فقلت: إنها لفينا وفيهم. (1) 16674- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذة، فإذا أنا بأبي ذر قال قلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال: فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم = ثم ذكر نحو حديث هشيم، عن حصين. (2) * * * فإن قال قائل: فكيف قيل: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فأخرجت "الهاء" و"الألف" مخرج الكناية عن أحدِ النوعين. قيل: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون "الذهب والفضة" مرادًا بها الكنوز، كأنه قيل: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونَها في سبيل الله، لأن الذهب والفضة هي "الكنوز"، في هذا الموضع. والأخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما، من الخبر عن الأخرى، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها، وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها، ومنه قول الشاعر: (3)   (1) الأثر: 16673 - " أبو بشر "، هو: " جعفر بن أبي وحشية "، مضى مرارا. وهو إسناد منقطع. (2) الأثر: 16674 - هو مكرر الأثر السالف رقم: 16671، انظر تخريجه هناك. (3) هو عمرو بن امرئ القيس، من بني الحارث بن الخزرج، جد عبد الله بن رواحة، جاهلي قديم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 228 نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاض، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ (1) فقال: "راض"، ولم يقل: "رضوان"، وقال الآخر: (2) إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأسْ ... وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنُونَا (3) فقال: "يعاص"، ولم يقل: "يعاصيا" في أشياء كثيرة. ومنه قول الله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) ، [سورة الجمعة: 11] ، ولم يقل: "إليهما" * * * القول في تأويل قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ (35) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يخرجون حقوق الله منها، يا محمد، بعذاب أليم = (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، فـ "اليوم" من صلة "العذاب الأليم"، كأنه قيل: يبشرهم بعذاب أليم، يعذبهم الله به في يوم يحمى عليها.   (1) جمهرة أشعار العرب: 127، سيبويه 1: 37، 38 (منسوبا لقيس بن الخطيم، وهو خطأ) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 434، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 258، الخزانة 2: 190، وغيرها، ومضى بيت منها 2: 21، وسيأتي في التفسير 22: 68 / 26: 99 (بولاق) من قصيدة قالها لمالك بن العجلان النجاري، في خبر طويل، يقول له: يا مَالِ، والسَّيِّدُ المُعَمَّمُ قَدْ ... يَطْرَأُ فِي بَعْضِ رأيِهِ السَّرَفُ خالَفْتَ فِي الرأيِ كُلَّ ذِي فَخَرٍ ... وَالحقُّ، يا مَالِ، غيرُ مَا تَصِفُ. (2) هو حسان بن ثابت. (3) ديوانه: 413، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 258، والكامل 2: 79، واللسان (شرخ) ، و " الشرخ ": الحد، أي غاية ارتفاعه، يعني بذلك: أقصى قوته ونضارته وعنفوانه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 229 ويعني بقوله: (يحمي عليها) ، تدخل النار فيوقد عليها، أي: على الذهب والفضة التي كنزوها = (في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) . * * * وكل شيء أدخل النار فقد أحمي إحماءً، يقال منه: "أحمَيت الحديدة في النار أحميها إحماءً". * * * وقوله: (فتكوى بها جباههم) ، يعني بالذهب والفضة المكنوزة، يحمى عليها في نار جهنم، يكوي الله بها. يقول: يحرق الله جباهَ كانزيها وجنوبَهم وظهورهم = (هذا ما كنزتم) ، ومعناه: ويقال لهم: هذا ما كنزتم في الدنيا، أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها لأنفسكم = (فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، يقول: فيقال لهم: فاطعَمُوا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوقَ الله وتكنزونها مكاثرةً ومباهاةً. (1) وحذف من قوله: (هذا ما كنزتم) و "يقال لهم"، لدلالة الكلام عليه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16675- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن حميد بن هلال قال: كان أبو ذر يقول: بشّر الكنّازين بكيّ في الجباه، وكيّ في الجنوب، وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. (2)   (1) انظر تفسير " ذاق " فيما سلف ص: 15، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) الأثر: 16675 - " حميد بن هلال العدوي "، ثقة، متكلم فيه، لأنه دخل في عمل السلطان. وقال البزار في مسنده: لم يسمع من أبي ذر. ومات حميد في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق. مضى برقم: 13768. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 230 16676- ...... قال: حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حَلْقَة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، (1) فقام عليهم فقال: بشِّر الكنازين برضْفٍ يحمى عليه في نار جهنم، (2) فيوضع على حَلَمة ثدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه، ويوضع على نُغْضِ كتفه، (3) حتى يخرج من حَلَمة ثدييه، يتزلزل، (4) قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. قال: وأدبر، فاتبعته، حتى جلس إلى ساريةٍ، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قُلْت! فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا. (5) 16677- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم قال، حدثني عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي نصر، عن الأحنف بن قيس، قال: رأيت في مسجد المدينة رجلا غليظ الثياب، رثَّ الهيئة، يطوف في الحِلَق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في جنوبهم، وكي في جباههم، وكيٍّ في   (1) في المطبوعة " خشن " في المواضع الثلاث. وأثبت ما في المخطوطة. وهو المطابق لرواية مسلم. " الخشن " و " الأخشن "، والأنثى " خشنة " و " خشناء ". من الخشونة. وهو الأحرش من كل شيء. ويقال. " رجل أخشن، خشن ". (2) " الرضف " (بفتح فسكون) : الحجارة المحماة على النار، والعرب يوغرون بها اللبن، ويشوون عليها اللحم. (3) " نغض الكتف " (بضم فسكون، أو فتح فسكون) و " ناغض الكتف "، هو عند أعلى الكتف، عظم رقيق على طرفه، ينغض إذا مشى الماشي، أي يتحرك. (4) " يتزلزل "، أي يتحرك ويضطرب، كأنه يزل مرة بعد أخرى، يقول: يضطرب الرضف المحمي نازلا من نغض الكتف حتى يخرج من حلمة الثدي. (5) الأثر 16676 - " الجريري "، هو " سعيد بن إياس الجريري " الحافظ المشهور، روى له الجماعة، مضى برقم: 196، 12274. و" أبو العلاء بن الشخير "، هو " يزيد بن عبد الله بن الشخير " ثقة وروى له الجماعة. مضى برقم 15514، 15515. وهذا الخبر رواه البخاري بنحوه مطولا في صحيحه (الفتح 3: 128) - ورواه مسلم في صحيحه 7 / 77 بلفظه من هذا الطريق مطولا أيضا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 231 ظهورهم! ثم انطلق وهو يتذمَّر يقول (1) ما عسى تصنعُ بي قريش!! (2) 16678- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال أبو ذر: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في الجباه، وكيٍّ في الجنوب، وكيٍّ في الظهور. 16679- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، قال: حية تنطوي على جبينه وجبهته تقول: أنا مالُك الذي بخلت به! (3) 16680- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: من ترك بعدَه كنزا مثَلَ له يوم القيامة شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، (4) يتبعه يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك! فلا يزال يتبعه حتى يُلْقِمه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده. (5)   (1) " يتذمر "، أي: يصخب من الغضب، كأنه يعاتب نفسه. (2) الأثر: 16677 - " عمرو بن قيس الملائي، ثقة، مضى مرارا. و" عمرو بن مرة الجملي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا. و" أبو نصر "، لم أعرف من هو؟ (3) الأثر: 16679 - " قابوس بن أبي ظبيان الجنبي "، ضعيف، لا يحتج به، مضى برقم: 9745، 10683. وأبوه: " أبو ظبيان الجنبي "، هو " حصين بن جندب "، ثقة، روى له الجماعة، مضى أيضا برقم: 9745، 10683. وانظر ما سلف في حديث ابن مسعود رقم: 8285 - 8289. (4) " الشجاع "، ضرب من الحيات مارد خبيث. " والأقرع "، هو الذي لا شعر له على رأسه، قد تمعط عليه رأسه لكثرة سمه، وطول عمره. و " الزبيبتان ": نكتتان سوداوان تكونان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. (5) الأثر: 16680 - " سالم بن أبي الجعد الأشجعي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 4244، 11546، 16661 - 16666. و" معدان بن أبي طلحة الكناني "، تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 38، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 404. وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 157، وقال: " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد بن سعيد، به. وأصل هذا الحديث في الصحيحين، من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه = وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة "، وذكر الخبر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 232 16681- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: بلغني أن الكنوز تتحوَّل يوم القيامة شجاعًا يتبع صاحبه وهو يفرُّ منه، ويقول: أنا كنزك! لا يدرك منه شيئًا إلا أخذه. 16682- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: والذي لا إله غيره، لا يكوى عبد بكنز فيمسُّ دينارٌ دينارًا ولا درهم درهمًا، ولكن يوسع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حِدَته. (1) 16683- ...... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: ما من رجل يكوَى بكنز فيوضع دينار على دينارٍ ولا درهم على درهم، ولكن يوسَّع جلده. (2) * * *   (1) الأثر: 16682 - هذا الخبر، ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 29، 30، وقال: " رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح ". وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 156، وقال: " وقد رواه ابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح رفعه، والله أعلم ". وذكره السيوطي في الدر المنثور 3: 233، ونسبه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، لم يذكر ابن جرير. (2) الأثر: 16683 - هو مكرر الأثر السالف، بإسناد آخر، مختصرا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 233 القول في تأويل قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى = (يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، يقول: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر وثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 16684- حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنًى في أوسط أيام التشريق، فقال: يا أيها الناس، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، أوّلهن رجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. (1)   (1) الأثر: 16684 - " موسى بن عبد الرحمن المسروقي "، شيخ الطبري، مضى مرارا، آخرها رقم 8906. و" زيد بن حباب العكلي "، مضى مرارا، منها رقم: 11134. و" موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي "، ضعيف جدا، منكر الحديث مضى مرارا، منها رقم: 11134. و" صدقة بن يسار الجزري "، مكي ثقة، روى عن ابن عمر. مترجم في التهذيب والكبير 2 / 2/ 294، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 428. وهذا إسناد ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة الربذي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 234 16685- حدثنا محمد بن معمر قال، حدثنا روح قال، حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ورجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان. (1) 16686- حدثنا يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان. (2)   (1) الأثر: 16685 - "محمد بن معمر بن ربعي البحراني"، شيخ الطبري، ثقة من شيوخ البخاري ومسلم، مضى برقم: 241، 3056، 5393. و"روح"، هو "روح بن عبادة القيسي"، ثقة، مضى مرارًا كثيرة. و"أشعث"، هو "أشعث بن عبد الملك الحمراني"، ثقة مأمون، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \ 431، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 275. وهذا الخبر، نقله ابن كثير في تفسيره 4: 160، عن هذا الوضع، ثم قال: "رواه البزار، عن محمد بن معمر، به، ثم قال: لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه". (2) الأثر: 16686 - هذا خبر منقطع الإسناد، لأن محمد بن سيرين لم يسمع من أبي بكرة، ووصله البخاري في مواضع صحيحه، من طريق "أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة" (الفتح 1: 145، 177، 178 \ 3: 459 \ 6: 210، 211 \ 8: 83، 244) ، مطولا. ووصله مسلم أيضًا في صحيحه 11: 167. ورواه أحمد في مسنده 5: 37، منقطعا، كما رواه الطبري، وقد استوفى الحافظ ابن حجر، تفصيل القول في ذلك في الفتح، في المواضع التي ذكرتها آنفًا. والحديث صحيح متفق عليه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 235 16687- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سليمان التيمي قال، حدثني رجل بالبحرين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبُ الذي بين جمادى وشعبان". 16688- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان. 16689- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منًى: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". * * * وهو قول عامة أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16690- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أما (أربعة حرم) ، فذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وأما (كتاب الله) ، فالذي عنده. 16691- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (إن عدة الشهور عند الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 236 اثنا عشر شهرًا) ، قال: يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة. 16692- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله) ، قال: يذكر بها شأن النسيء. * * * وأما قوله: (ذلك الدين القيم) ، فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، وأن منها أربعة حرمًا: هو الدين المستقيم، كما:- 16693- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ذلك الدين القيم) ، يقول: المستقيم. 16694- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: (ذلك الدين القيم) ، قال: الأمر القيم. يقول: قال تعالى: واعلموا، أيها الناس، أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن، وأن من هذه الاثنى عشر شهرًا أربعةُ أشهرٍ حرمًا، ذلك دين الله المستقيم، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة، وتحريمه ما يحرِّمه منها. (1) وأما قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن معناه: فلا تعصوا الله فيها، ولا تحلُّوا فيهن ما حرَّم الله عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قِبَل لها به من سخط الله وعقابه. كما:-   (1) "النسئ"، هكذا جاءت في المخطوطة أيضًا، بمعنى "الناسئ"، وهو الذي كان يحلل لهم الشهر ويحرمه. وأخشى أن يكون وهمًا من الناسخ، فإن "النسئ" على وزن "فعيل"، وهو بمعنى "مفعول"، أو مصدر "نسأ الشهر"، ولم أرهم قالوا في الرجل إلا "ناسئ"، وجمعه "نسأة"، مثل "فاسق" و "فسقة". وانظر ما سيأتي في تفسير "النسئ" ص: 343، والخبر رقم: 16708، 16709، والتعليق هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 237 16695- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: الظلم العمل بمعاصي الله، والترك لطاعته. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه "الهاء"، و"النون" في قوله: (فيهن) . فقال بعضهم: عاد ذلك على "الاثنى العشر الشهر"، (1) وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلِّها أنفسكم. * ذكر من قال ذلك: 16696- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، في كلِّهن. ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. 16697- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: في الشهور كلها. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرُم أنفسكم = و"الهاء والنون" عائدة على "الأشهر الأربعة". * ذكر من قال ذلك: 16698- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أما قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن الظلم في الأشهر الحرم   (1) في المطبوعة: "على الاثنى عشر شهرًا"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 238 أعظم خطيئةً ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء. وقال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرامَ الأشهر الأربعة حلالا وحلالها حرامًا = أنفسَكم. * ذكر من قال ذلك: 16699- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا) ، إلى قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ،: أي: لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء، الذي كانوا يصنعون من ذلك، (زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا) ، الآية. (1) 166700- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: "ظلم أنفسكم"، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن. 16701- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن علي: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: "ظلم أنفسكم"، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن. 16702- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا   (1) الأثر: 16699 - سيرة ابن هشام 4: 193، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16615. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 239 سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد، بنحوه. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسَكم، باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظَّم حرمتها. وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويله، لقوله: (فلا تظلموا فيهن) ، فأخرج الكناية عنه مُخْرَج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة. وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة، إذا كَنَتْ عنه: "فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون، ولأربعة أيام بقين" وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين قالت: "فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت، ولأربع عشرة مضت" = فكان في قوله جل ثناؤه: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، وإخراجِه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة، الدليلُ الواضح على أن "الهاء والنون"، من ذكر الأشهر الأربعة، دون الاثنى العشر. لأن ذلك لو كان كناية عن "الاثنى عشر شهرًا"، لكان: فلا تظلموا فيها أنفُسكم. (1) * * * فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون ذلك كنايةً عن "الاثنى عشر"، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب؟ فقد علمت أن [من] المعروف من كلامها، (2) إخراجُ كناية ما بين الثلاث إلى العشر، بالهاء دون النون، وقد قال الشاعر: (3)   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 435. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "أن المعروف من كلامها"، والسياق يقتضي إثبات ما أثبت بين القوسين، لأن هذا القائل، أقر أولا بأن ما قاله الطبري هو "المعروف من كلامها"، أي المشهور المتفق عليه. فالجيد أن يعترض عليه بشيء آخر، هو "الجائز في كلامها"، فمن أجل هذا المعنى زدت " من " بين القوسين، ليستقيم منطق الكلام. (3) هو عمر بن لجأ التيمي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 240 أَصْبَحْنَ فِي قُرْحٍ وَفِي دَارَاتِها ... سَبْعَ لَيَالٍ غَيْرَ مَعْلُوفَاتِهَا (1) ولم يقل: "معلوفاتهن"، وذلك كناية عن "السبع"؟ قيل: إن ذلك وإن كان جائزًا، فليس الأفصحَ الأعرفَ في كلامها. وتوجيهُ كلام الله إلى الأفصح الأعرف، أولى من توجيهه إلى الأنكر. * * * فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يجب أن يكون مباحًا لنا ظُلْم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة؟ قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقتٍ وزمانٍ، ولكن الله عظَّم حرمة هؤلاء الأشهر وشرَّفهن على سائر شهور السنة، فخصّ الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصّهن بالتشريف، وذلك نظير قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) [سورة البقرة: 238] ، ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: (حافظوا على الصلوات) ، ولم يبح ترك المحافظة عليهن، بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى، ولكنه تعالى ذكره زادَها تعظيمًا، وعلى المحافظة عليها توكيدًا وفي تضييعها تشديدًا. فكذلك ذلك في قوله: (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ،. * * * وأما قوله: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، فإنه يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعًا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعًا، مجتمعين غير متفرقين، كما:- 16703- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،   (1) حماسة أبي تمام 4: 157، ومعاني القرآن للفراء 1: 435. واللسان (قرح) ، غير منسوبة ودل على أنها لعمر بن لجأ، أبيات رواها الأصمعي في الأصمعيات ص: 25، 26 و " قرح " (بضم القاف وسكون الراء) ، هو سوق وادي القرى، صلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنى به مسجدا، ورواية الحماسة واللسان، " حبسن في قرح ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 241 حدثنا أسباط، عن السدي: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، أما "كافة"، فجميع، وأمركم مجتمع. 16704- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وقاتلوا المشركين كافة) ، يقول: جميعًا. * * * 16705- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقاتلوا المشركين كافة) ،: أي: جميعا. * * * و"الكافة" في كل حال على صورة واحدة، لا تذكّر ولا تجمع، لأنها وإن كانت بلفظ "فاعلة"، فإنها في معنى المصدر، ك"العافية" و"العاقبة"، ولا تدخل العربُ فيها "الألف واللام"، لكونها آخر الكلام، مع الذي فيها من معنى المصدر، كما لم يدخلوها إذا قاتلوا: "قاموا معًا"، و"قاموا جميعا". (1) * * * وأما قوله: (واعلموا أن الله مع المتقين) ، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون بالله، أنكم إن قاتلتم المشركين كافة، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم، ولم تخالفوا أمره فتعصوه، كان الله معكم على عدوكم وعدوه من المشركين، ومن كان الله معه لم يغلبه شيء، (2) لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه. * * *   (1) انظر تفسير " كافة " فيما سلف 4: 257، 258، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 436. (2) انظر تفسير " مع " فيما سلف 13: 576 تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 242 القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما النّسيء إلا زيادة في الكفر. * * * و"النسيء" مصدر من قول القائل: "نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك"، أي: زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه: "نسيء". ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء: "نسيء"، وقيل للمرأة الحبلى: "نَسُوء"، و"نُسِئت المرأة"، لزيادة الولد فيها، وقيل: "نسأتُ الناقة وأنسأتها"، إذا زجرتها ليزداد سيرها. وقد يحتمل أن: "النسيء"، "فعيل" صرف إليه من "مفعول"، كما قيل: "لعينٌ" و"قتيل"، بمعنى: ملعون ومقتول. ويكون معناه: إنما الشهر المؤخَّر زيادة في الكفر. وكأنّ القول الأوّل أشبه بمعنى الكلام، وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة، وتصييرهم الحرام منهن حلالا والحلال منهن حرامًا، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكامَ الله وآياته. * * * وقد كان بعض القرأة يقرأ ذلك: (إِنَّمَا النَّسْيُ) بترك الهمز، وترك مدِّه: (يضل به الذين كفروا) ،. * * * واختلف القرأة في قراءة ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 243 فقرأته عامة الكوفيين: (يَضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى: يزول عن محجة الله التي جعلها لعباده طريقًا يسلكونه إلى مرضاته، الذين كفروا. * * * وقد حكي عن الحسن البصري: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى: يضل بالنسيء الذي سنه الذين كفروا، الناسَ. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكل واحدةٍ القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو "ضال"، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ. * * * وأما الصواب من القراءة في "النسيء"، فالهمزة، وقراءته على تقدير "فعيل" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه. * * * وأما قوله: (يحلونه عامًا) ، فإن معناه: يُحلُّ الذين كفروا النسيء = و"الهاء" في قوله: (يحلونه) ، عائدة عليه. ومعنى الكلام: يحلُّون الذي أخَّروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم، عامًا = (ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حلَّلوا من الشهور، وتحريمهم ما حرموا منها، عدّة ما حرّم الله (1) = (فيحلوا ما حرّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم) ، يقول: حُسِّن لهم وحُبِّب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها،   (1) انظر تفسير " عدة " فيما سلف 3: 459 \ 14: 234. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 244 وما خولف به أمرُ الله وطاعته (1) = (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، يقول: والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها، (2) وما لله فيه رضًى، القومَ الجاحدين توحيدَه، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخذّلهم عن الهُدى، كما خذَّل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16706- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: "النسيء"، هو أن "جُنَادة بن عوف بن أمية الكناني"، كان يوافي الموسم كلَّ عام، وكان يُكنى "أبا ثُمَامة"، (4) فينادي: "ألا إنّ أبا ثمامة لا يُحَابُ ولا يُعَابُ، (5) ألا وإن صَفَر العامِ الأوَّلِ العامَ حلالٌ"، (6) فيحله الناس، فيحرم صَفَر عامًا، ويحرِّم المحرم عامًا، فذلك قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله: (الكافرين) . وقوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول: يتركون المحرم عامًا، وعامًا يحرِّمونه. * * *   (1) انظر تفسير " زين " فيما سلف ص: 7: تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: " لمحاسن الأفعال وحلها "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وصوابه ما أثبت. (3) انظر تفسير " هدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . (4) انظر أخبار " النسأة "، وخبر " جنادة بن عوف بن أمية " في سيرة ابن هشام 1: 44 - 47، والمحبر: 156، 157، وغيرهما. و " جنادة بن عوف "، هو الذي قام عليه الإسلام من النسأة. (5) كان في المطبوعة: " لا يجاب " بالجيم، ووردت بالجيم في كثير من الكتب، منها لسان العرب (نسأ) ، ولكنه ورد في المحبر: 157، بالحاء المهملة، وهو من " الحوب "، أي: الإثم، أي: لا ينسب إلى الإثم. وانظر الخبر التالي رقم: 16710. (6) في المطبوعة: " صفر العام الأول حلال"، حذف " العام " الثانية، وهي ثابتة في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 245 قال أبو جعفر: وهذا التأويلُ من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ (النَّسْيُ) ، بترك الهمزة وترك المدّ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه "فَعْلٌ"، من قول القائل: "نسيت الشيء أنساه"، ومن قول الله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) ، [سورة التوبة: 67] ، بمعنى: تركوا الله فتركهم. 16707- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا، وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم، وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة، فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله. 16708- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: كان "النسيء" رجلا من بني كنانة، (1) وكان ذا رأي فيهم، وكان يجعل سنةً المحرمَ صفرًا، فيغزون فيه، فيغنمون فيه، ويصيبون، ويحرِّمه سنة. 16709- ...... قال حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، الآية، وكان رجل من بني كنانة يُسَمَّى "النسيء"، فكان يجعل المحرَّم صفرًا، ويستحل فيه الغنائم، فنزلت هذه الآية. 16710- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد قال، كان رجل من بني كنانة يأتي كلَّ عام في الموسم على حمار له، فيقول: "أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحَابُ، (2) ولا مَرَدَّ لما أقول، إنَّا قد   (1) قوله: " كان النسيء رجلا "، دال على صواب قوله هناك ص: 237، تعليق 1:، على أن " النسيء " في ذلك الموضع صواب أيضًا، وانظر الأثر التالي، قوله: "وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء"، وهذا كله لم تذكره كتب اللغة التي بين يدي. (2) " أحاب " مضى تفسيرها ص: 243، تعليق: 2، وكانت هنا في المطبوعة أيضًا "أجاب" بالجيم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 246 حرمنا المحرَّم، وأخَّرنا صفر". ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: "إنا قد حرَّمنا صفر وأخَّرنا المحرَّم"، فهو قوله: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، قال: يعني الأربعة = (فيحلوا ما حرم الله) ، لتأخير هذا الشهر الحرام. 16711- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، "النسيء"، المحرّم، وكان يحرم المحرَّم عامًا ويحرِّم صفر عامًا، فالزيادة "صفر"، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية. 16712- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله: (الكافرين) ، عمد أناسٌ من أهل الضلالة فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: "ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرَّم"، فيحرمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل فيقول: "ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر"، فيحرمونه ذلك العام. وكان يقال لهما "الصفران". قال: فكان أول من نَسَأ النسيء: بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بني أمية أحد بني فقيم بن الحارث، ثم أحد بني كنانة. (1)   (1) هكذا جاء في المخطوطة: " وكانوا ثلاثة "، ثم لم يذكر غير واحد. وقوله: " أبو ثمامة، صفوان بن أمية "، مضى قبل في الأثر رقم: 16706 أن "أبا ثمامة" هو "جنادة بن عوف بن أمية"، أما صفوان هذا فقد ذكره أبو عبيد البكري في شرح الأمالي: 10، وقال: قال الليثي: كان الذي انبرى للنسئ، القلمس، وهو: صفوان بن محرث، أحد بني مالك بن كنانة، وكان له بذلك ملكة وأكل، وتوارثه بنوه إلى الإسلام ". ولكن الذي ذكره ابن حبيب في المحبر، وابن هشام في سيرته 1: 44. قال ابن إسحاق: " وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت ما أحل، وحرمت منها ما حرم: القلمس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم ابن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. ثم قام بعده على ذلك، ابنه: عباد بن حذيفة. ثم قام بعد عباد: قلع بن عباد. ثم قام بعد قلع: أمية بن قلع. ثم قلم بعد أمية: عوف بن أمية. ثم قام بعد عوف: أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام ". وذلك ما قاله ابن حبيب، وما قاله ابن حزم في الجمهرة: 178، والمصعب الزبيري في نسب قريش: 12. ولم أجد هذا الخبر في مكان آخر، فأعرف مقالة قتادة في أمر النسئ والنسأة. و" صفوان بن محرث " الذي ذكره البكري، هو " صفوان بن أمية " المذكور في هذا الخبر، وهو: " صفوان بن أمية بن محرث بن بن خمل بن شق بن رقبة بن مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة "، وكان أحد حكام العرب في الجاهلية، وأحد من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية (انظر المحبر: 133، 237 \ أمالي القالي 1: 240 وذكر شعره في تحريم الخمر) . وبين من هذا كله أن " صفوان بن أمية "، ليس من " بني فقيم بن الحارث بن مالك ". بل من بني " مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك ". ثم انظر ص: 250، تعليق: 1، وذكر " القلمس " للناسئ في شعر عبد الرحمن بن الحكم، وأمه هي: " آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 247 16713- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: فرض الله الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، يحجون فيه مرة، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمُّون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان ورمضان، ثم يسمون رمضانَ شوالا ثم يسمُّون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجةُ أبي بكر رضي الله عنه الآخرَ من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجَّته التي حجَّ، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض". 16714- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 248 معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجُّوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". 16715- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشرا شهرًا، فيجعلون المحرَّم صفرًا، فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنزل الله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) . 16716- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) ، الآية. قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: "القَلَمَّس"، كان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمُدّ إليه يده. فلما كان هو، قال: "أخرجوا بنا"، قالوا له: "هذا المحرَّم"! فقال: "ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابلٍ قضينا، فجعلناهما محرَّمَين". قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: "لا تغزوا في صفر، حرِّموه مع المحرم، هما محرَّمان، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه. ذلك "الإنساء"، وقال منافرهم: (1)   (1) في المطبوعة: " وقال شاعرهم "، وأثبت ما في المخطوطة. و " المنافر "، هو المفاخر في المنافرة. قال ابن سيده: " وكأنما جاءت المنافرة، في أول ما استعملت، أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرا؟ ". و " المنافرة ": هي أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 249 وَمِنَّا مُنْسِي الشُّهُورِ القَلَمَّسُ (1) وأنزل الله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى آخر الآية. * * * وأما قوله: (زيادة في الكفر) ، فإن معناه زيادة كُفْر بالنسيء، إلى كفرهم بالله قبلَ ابتداعهم النسيء، (2) كما:- 16717- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول: ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم. * * * وأما قوله: (ليواطئوا) ، فإنه من قول القائل: "واطأت فلانا على كذا أواطئه مُواطأة"، إذا وافقته عليه، معينًا له، غير مخالف عليه. * * * وروي عن ابن عباس في ذلك ما:- 16718- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول: يشبهون. * * *   (1) هكذا جاء في المخطوطة مضطرب الميزان، وذكره القرطبي في تفسيره 8: 138. ومنا ناسئ الشهر القلمس وهو أيضًا غير مستقيم، والذي وجدته، هو ما قاله عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، قال: نمَانِي أبُو العَاصِي الأمِينُ وَهَاشِمٌ ... وعُثْمانُ، والنَّاسِي الشُّهُورَ القَلَمَّسُ وأم عبد الرحمن بن الحكم، ومروان بن الحكم، هي: " آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث بن خمل بن شق"، و "صفوان" هذا هو الذي جاء ذكره في الخبر رقم: 16712، وأنه كان من " النسأة "، وكل ناسئ كان يقال له: "القلمس"، فهذا البيت يؤيد ما قاله قتادة بعض التأييد. وانظر البيت الذي ذكرته في نسب قريش للمصعب الزبيري ص: 98. (2) في المطبوعة: " وقيل: ابتداعهم النسئ "، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام كله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 250 قال أبو جعفر: وذلك قريب المعنى مما بَيَّنَّا، وذلك أن ما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه. وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله. * * * القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) } قال أبو جعفر: وهذه الآية حثٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك. يقول جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله = (ما لكم) ، أيّ شيء أمرُكم = (إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) ، يقول: إذا قال لكم رسولُ الله محمدٌ = (انفروا) ، أي: اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم. * * * وأصل "النفر"، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجه على ذلك. ومنه: "نفورًا الدابة". غير أنه يقال: من النفر إلى الغزو: "نَفَر فلان إلى ثغر كذا ينْفِر نَفْرًا ونَفِيرًا"، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرِّقون بها بين اختلاف المخبر عنه، (1)   (1) يعني أبو جعفر، أنهم لم يقولوا في النفر إلى الغزو " نفورا " في مصدره، وقد أثبتت كتب اللغة أنه يقال في مصدره "نفر إلى الغزو نفورا". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 251 وإن اتفقت معاني الخبر. (1) * * * فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون، إذا قيل لكم: اخرجُوا غزاة = "في سبيل الله"، أي: في جهاد أعداء الله (2) = (اثَّاقلتم إلى الأرض) ، يقول: تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها. * * * وقيل: "اثّاقلتم" لإدغام "التاء" في "الثاء" فأحدثتْ لها ألف. (3) ليُتَوصَّل إلى الكلام بها، لأن "التاء" مدغمة في "الثاء". ولو أسقطت الألف، وابتدئ بها، لم تكن إلا متحركة، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها، كما قال جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) ، [سورة الأعراف: 38] ، وكما قال الشاعر: (4) تُولِي الضَّجِيعَ إذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا ... عَذْبَ المَذَاقِ، إذَا مَا أتَّابَعَ القُبَلُ (5) [فهو من "الثقل"، ومجازه مجاز "افتعلتم"] ، من "التثاقل". (6) وقوله: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ، يقول جل ثناؤه، أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه = (فما   (1) انظر "النفر" فيما سلف 8: 536، ولم يفسره هناك. (2) انظر تفسير "سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (3) في المطبوعة: "لأنه أدغم التاء في الثاء فأحدث لها ألف"، وكان في المخطوطة: "لأنه غام"، فلم يحسن قراءتها، فغير الكلام، فأثبته على الصواب من المخطوطة. وانظر ما سلف في الإدغام 2: 224. (4) لم أعرف قائله (5) مضى شرحه وتفسيره آنفًا 2: 223، ومعاني القرآن للفراء 1: 438. (6) مكان هذه الجملة في المطبوعة: "فهو بنى الفعل افتعلتم من التثاقل"، وهو كلام غث جدا. وفي المخطوطة: " فهو بين الفعل افتعلتم من التثاقل "، غير منقوط، وصححت هذه العبارة اجتهادا، مؤتنسًا بما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 260، قال: " ومجاز: اثاقلتم، مجاز: افتعلتم، من التثاقل، فأدغمت التاء في الثاء، فثقلت وشددت ". يعني أبو عبيدة: أنك لو بنيت " افتعل " من " الثقل "، كان واجبا إدغام التاء في الثاء. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 437، 438. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 252 متاع الحياة الدنيا في الآخرة) ، يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته (1) = (إلا قليل) ، يسير. يقول لهم: فاطلبوا، أيها المؤمنون، نعيم الآخرة، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه، (2) بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16719- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين. أمروا بالنَّفير في الصيف، حين خُرِفت النخل، (3) وطابت الثمار، واشتَهُوا الظلال، وشقّ عليهم المخرج. 16720- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف. أمرهم بالنَّفير في الصيف، حين اختُرِفت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشقَّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: "الثقيل"، ذو الحاجة، والضَّيْعة، والشغل، (4) والمنتشرُ به أمره في ذلك كله. فأنزل الله: (انفروا خفافا وثقالا) ، [سورة التوبة: 41] * * *   (1) انظر تفسير "متاع" فيما سلف من فهارس اللغة (متع) . (2) في المطبوعة: "وترف الكرامة"، والصواب ما في المخطوطة. (3) "خرف النخل يخرفه خرفًا، واخترفه اخترافًا"، صرم ثمره واجتناه بعد أن يطيب. (4) في المطبوعة: "فقالوا: منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة ... "، غير ما في المخطوطة، وكان في المخطوطة ما أثبت. وهو مقبول، مع شكي في أن يكون سقط من الكلام شيء. وقوله: " الثقيل: ذو الحاجة والضيعة " هو تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافًا وثقالا) ، جمع " ثقيل "، كما سترى في تفسير الآية ص: 262 وما بعدها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 253 القول في تأويل قوله: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعِّدَهم على ترك النَّفْر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا، أيها المؤمنون، إلى من استنفركم رسول الله، يعذّبكم الله عاجلا في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم، عذابًا مُوجعًا (1) = (ويستبدل قومًا غيركم) ، يقول: يستبدل الله بكم نبيَّه قومًا غيرَكم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله (2) = (ولا تضروه شيئا) ، يقول: ولا تضروا الله، بترككم النّفير ومعصيتكم إياه شيئًا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغني عنكم وأنتم الفقراء = (والله على كل شيء قدير) ، يقول جل ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم، وعلى كل ما يشاء من الأشياء، قدير. (3) * * * وقد ذكر أن "العذاب الأليم" في هذا الموضع، كان احتباسَ القَطْر عنهم. * ذكر من قال ذلك: 16721- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي قال، حدثني نجدة الخراساني قال: سمعت ابن عباس، سئل عن قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، قال: إن رسول الله   (1) انظر تفسير "النفر" فيما سلف قريبا ص: 249. (2) انظر تفسير "الاستبدال" فيما سلف 8: 123، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 254 صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابَهم، فذلك قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليما) . (1) 16722- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة قال: سألت ابن عباس، فذكر نحوه = إلا أنه قال: فكان عذابهم أنْ أمسك عنهم المطر. (2) 16723- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، استنفر الله المؤمنين في لَهَبَان الحرِّ في غزوة تبوك قِبَل الشأم، (3) على ما يعلم الله من الجَهْد. * * * وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة. * ذكر من قال ذلك: 16724- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، وقال: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا   (1) الأثر: 16721 - "زيد بن الحباب العكلي"، سلف مرارًا، آخرها رقم: 16684. و"عبد المؤمن بن خالد الحنفي"، ثقة، مضى برقم 11914. و" نجدة الخراساني " هو: " نجدة بن نفيع الحنفي "، ثقة، مضى أيضًا برقم: 11914. وهذا الخبر، رواه الطبري فيما يلي برقم: 16722، من طريق يحيى بن واضح، عن عبد المؤمن. ورواه أبو داود في سننه 3: 16، رقم: 2506، من طريق زيد بن الحباب، مختصرًا، ورواه البيهقي في السنن 9: 48، بنحوه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 239، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، وصححه الحاكم. (2) الأثر: 16722 - هو مكرر الأثر السالف، وهذا أيضا لفظ أبي داود والبيهقي: "المطر"، من طريق زيد بن الحباب السالف. (3) "لهبان الحر"، (بفتح اللام والهاء) ، شدته في الرمضاء. ويقال: " يوم لهبان "، صفة، أي شديد الحر. و " اللهبان " مصدر مثل: اللهب، واللهيب، واللهاب (بضم اللام) ، وهو اشتعال النار إذا خلصت من الدخان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 255 عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ، إلى قوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، فنسختها الآية التي تلتها: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، إلى قوله: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، [سورة التوبة: 120 - 122] . * * * قال أبو جعفر: ولا خبرَ بالذي قال عكرمة والحسن، من نسخ حكم هذه الآية التي ذكَرا، (1) يجب التسليم له، ولا حجةَ نافٍ لصحة ذلك. (2) وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عددٌ من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعدُ، وجائزٌ أن يكون قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، الخاص من الناس، ويكون المراد به من استنفرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، نهيًا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمنٍ مقيم فيها، وإعلامًا من الله لهم أن الواجب النَّفرُ على بعضهم دون بعض، وذلك على من استُنْفِرَ منهم دون من لم يُسْتَنْفَر. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيًا فيما عُنِيَتْ به. * * *   (1) في المطبوعة: "التي ذكروا"، والصواب من المخطوطة. (2) في المطبوعة: "ولا حجة تأتي بصحة ذلك" وفي المخطوطة: "ولا حجة بات بصحة ذلك"، غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 256 القول في تأويل قوله: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، = وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟ يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره = (إذ أخرجه الذين كفروا) ، بالله من قريش من وطنه وداره = (ثاني اثنين) ، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين. * * * وكذلك تقول العرب: "هو ثاني اثنين" يعني: أحد الاثنين، و"ثالث ثلاثة، ورابع أربعة"، يعني: أحد الثلاثة، وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم: "هو أخو ستة، وغلام سبعة"، لأن "الأخ"، و"الغلام" غير الستة والسبعة، "وثالث الثلاثة"، أحد الثلاثة. * * * وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ثاني اثنين) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار. * * * وقوله: (إذ هما في الغار) ، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 257 رحمة الله عليه، في الغار. * * * و"الغار"، النقب العظيم يكون في الجبل. * * * = (إذ يقول لصاحبه) ، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، (لا تحزن) ، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن"، لأن الله معنا والله ناصرنا، (1) فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا. يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره، وعدد جنودِه؟ * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16725- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا تنصروه) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه. يقول الله: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين. 16726- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، قال: ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ، فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك (ثانيَ اثنين إذ هما في الغار) . 16727- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، الآية، قال: فكان صاحبَه أبو بكر، وأما   (1) انظر تفسير "مع" فيما سلف ص: 240، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 258 "الغار"، فجبل بمكة يقال له: "ثَوْر". 16728- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله، (1) فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور، وهو "الغار" الذي سماه الله في القرآن. (2) 16729- حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام، عن ثابت، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ (3)   (1) " المنيحة"، شاة أو ناقة يعيرها الرجل أخاه، يحتلبها وينتفع بلبنها سنة، ثم يردها إليه. (2) الأثر: 16728 - هذا جزء من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، والذي خرجته فيما سلف برقم: 16083، ومواضع أخرى كثيرة. وهذا الجزء من الكتاب في تاريخ الطبري 2: 246. (3) الأثر: 16729 - " يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 302. و"عفان" هو "عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار"، ثقة، من شيوخ أحمد والبخاري، مضى برقم: 5392. و"حبان"، هو "حبان بن هلال الباهلي"، ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 5472. " حبان " بفتح الحاء لا بكسرها. و"همام" هو "همام بن يحيى بن دينار الأزدي"، ثقة روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها: 16306. و"ثابت" هو "ثابت بن أسلم البناني"، ثقة روى له الجماعة، مضى برقم: 2942، 7030. وهذا الخبر رواه من طريق عفان بن مسلم، ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 123، وأحمد في مسنده رقم: 11، والترمذي في تفسير الآية. ورواه من طريق حبان بن هلال، البخاري في صحيحه (الفتح 8: 245) ، ومسلم في صحيحه 15: 149. ورواه البخاري من طريق محمد بن سنان، عن هلال في صحيحه (الفتح 7: 9) . وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب، إنما يروى من حديث همام. وقد روى هذا الحديث حبان بن هلال، وغير واحد، عن همام، نحو هذا ". وخرجه السيوطي في الدر 3: 242، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وأبي عوانة، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 259 16730- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا. 16731- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (إذ هما في الغار) ، قال: في الجبل الذي يسمَّى ثورًا، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ. 16732- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيُّكم يقرأ "سورة التوبة"؟ (1) قال رجل: أنا. قال: اقرأ. فلما بلغ: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) ، بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبُه. (2) * * *   (1) في المخطوطة: "سورة البقرة"، وهو خطأ أبين من أن يدل على تصحيحه. (2) الأثر: 16732 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري"، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 5973. وأبوه "الحارث بن يعقوب بن ثعلبة، أو: ابن عبد الله، الأنصاري المصري". ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1\ 2 \ 282، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 93. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 260 القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله (1) = وقد قيل: على أبي بكر = (وأيده بجنود لم تروها) ، يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم (2) = (وجعل كلمة الذين كفروا) ، وهي كلمة الشرك = (السُّفْلى) ، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها، وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى = (وكلمة الله هي العليا) ، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله، وهي كلمتُه = (العليا) ، على الشرك وأهله، الغالبةُ، (3) كما:- 16733- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، وهي: الشرك بالله = (وكلمة الله هي العليا) ، وهي: لا إله إلا الله. * * * وقوله: (وكلمة الله هي العليا) ، خبر مبتدأ، غيرُ مردودٍ على قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، لأن ذلك لو كان معطوفًا على "الكلمة" الأولى، لكان نصبًا. (4) * * *   (1) انظر تفسير "السكينة" فيما سلف ص: 189، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " التأييد " فيما سلف ص: 44، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير "الأعلى" فيما سلف 7: 234. (4) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 438، وهو فصل جيد واضح. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 261 وأما قوله: (والله عزير حكيم) ، فإنه يعني: (والله عزيز) ، في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر = (حكيم) ، في تدبيره خلقَه، وتصريفه إياهم في مشيئته. (1) * * *   (1) انظر تفسير "عزيز" و "حكيم"، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 262 القول في تأويل قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في معنى "الخفة" و"الثقل"، اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنفر معه. فقال بعضهم: معنى "الخفة"، التي عناها الله في هذا الموضع، الشباب = ومعنى "الثقل"، الشيخوخة. * ذكر من قال ذلك: 16734- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن رجل، عن الحسن في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شيبًا وشبّانًا. 16735- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن قال: شيوخًا وشبانًا. 16736- ...... قال، حدثنا ابن عيينة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: (انفروا خفافا وثقالا) ، قال: كهولا وشبانًا، ما أسمع الله عَذَر واحدًا!! (1) فخرج إلى الشأم، فجاهد حتى مات. (2)   (1) في المطبوعة: "عذر أحدًا"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 16736 - " علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة"، مضى مرارًا، وثقة. أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 4897، وقد تكلم فيه أحمد وغيره قال: "ضعيف الحديث". و "أنس" هو "أنس بن مالك" خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. و"أبو طلحة"، هو "زيد بن سهل الأنصاري"، صاحب رسول الله، شهد العقبة، وبدرا، المشاهد كلها. وهذا الخبر، رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 66 من طريق عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، وعلي بن يزيد، عن أنس، مطولا، بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 353، من هذه الطريق نفسها وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 246، وزاد نسبته إلى ابن أبي عمر العدني في مسنده، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد الزهد، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 312، بغير هذا اللفظ، وقال: " رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 262 16737- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة بن النعمان قال: كان رجل من النَّخع، وكان شيخًا بادنًا، فأراد الغزوَ، فمنعه سعد بن أبي وقاص فقال: إن الله يقول: (انفروا خفافًا وثقالا) ، فأذن له سعد، فقتل الشيخ، فسأل عنه بعدُ عُمَرُ، فقال: ما فعل الشيخ الذي كأنّه من بني هاشم؟ (1) فقالوا: قتل يا أمير المؤمنين! (2) 16738- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: الشابُّ والشيخ. 16739- ...... قال، حدثنا أبو أسامة، عن مالك بن مغول، عن إسماعيل، عن عكرمة، قال: الشاب والشيخ. 16740- ...... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: كهولا وشبَّانًا. 16741- ...... قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن جعفر بن حميد، عن بشر بن عطية: كهولا وشبانًا (3)   (1) في المطبوعة: "كان من بني هاشم"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن الرجل "من النخع"، كما ذكر قبل، والصواب ما في المخطوطة. (2) الأثر: 16737 - "المغيرة بن النعمان النخعي"، ثقة، مضى برقم: 13622. (3) الأثر: 16741 - " حبويه، أبو يزيد "، هو " إسحاق بن إسماعيل الرازي "، مضى مرارًا، منها رقم: 15993، وكتب في المطبوعة: "حيوة"، وغير ما في المخطوطة، وهو خطأ محض. وأما "جعفر بن حميد"، فلم أجد له ذكرًا في شيء من مراجعي، والذي يروي عنه يعقوب بن عبد الله القمي، هو: " جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، والذي نقله ابن حجر في التهذيب في ترجمته عن أبي نعيم أن اسم "أبي المغيرة" هو: "دينار" لا "حميد". وأما " بشر بن عطية "، فلم أجد من يسمى بهذا إلا "بشر بن عطية"، رجل روى عنه مكحول، يقال هو صحابي، ويقال هو: "بشر بن عصمة المزني"، انظر لسان الميزان 2: 26، 27، في الترجمتين، والإصابة في ترجمة الاسمين. وهذا كله مضطرب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 263 16742- حدثنا الوليد قال، حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شبانًا وكهولا. 16743- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شبابًا وشيوخًا، وأغنياء ومساكين. 16744- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، قال الحسن: شيوخًا وشبّانًا. 16745- حدثني سعيد بن عمرو قال، حدثنا بقية قال، حدثنا حَرِيز قال، حدثني حبان بن زيد الشرعبيّ قال: نفرنا مع صَفْوان بن عمرو، وكان واليًا على حمص قِبَلَ الأفْسوس، إلى الجَرَاجمة، (1) فلقيت شيخًا كبيرًا هِمًّا، (2) قد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار. (3) فأقبلت عليه فقلت: يا عمِّ، لقد أعذر الله إليك! قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن   (1) "الأفسوس"، بلد بثغور طرسوس، و "طرسوس" مدينة بثغور الشأم بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. و" الجراجمة "، نبط الشأم، ويقال: هم قوم من العجم بالجزيرة. وكان في المخطوطة: " قبل الأفسون إلى الحراصه"، والصواب في المطبوعة وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير 4: 176، نقلا عن هذا الموضع من الطبري. (2) " الهم " (بكسر الهاء) : الشيخ الكبير الفاني البالي. (3) في المخطوطة: "أعات"، والصواب ما في المطبوعة، وهو موافق لما في ابن كثير. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 264 أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالا من يحبَّه الله يبتَليه، ثم يعيده فيبْتليه، (1) إنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله. (2) 16746- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: كل شيخ وشابّ. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: مشاغيل وغير مشاغيل. * ذكر من قال ذلك: 16747- حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: مشاغيل وغير مشاغيل. * * * وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء. * ذكر من قال ذلك:   (1) في المطبوعة: " من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه "، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب وحده. (2) الأثر: 16745 - "بقية" هو "بقية بن الوليد"، سلف مرارًا كثيرة. و" حريز" هو " حريز بن عثمان بن جبر الرحبي "، ثقة مأمون، ثبت في الحديث، وإنما وضع منه من وضع، لأنه كان ينال من علي رضي الله عنه، ثم ترك ذلك. و " حريز " (بفتح الحاء، وكسر الراء) . وقال أبو داود: " شيوخ حريز، كلهم ثقات ". مترجم في التهذيب، والكبير 2\ 1 \ 96، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 289. وكان في المطبوعة: " جرير "، وهو في المخطوطة غير منقوط. و" حبان بن زيد الشرعبي (بكسر الحاء من: حبان) ، أبو خداش الحمصي، ذكره ابن حبان في الثقات، وسلف قبل أن أبا داود، وثق جميع شيوخ حريز بن عثمان. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 78، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 269. و" صفوان بن عمرو "، كأنه هو " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، ثقة. والذي حملني على هذا الظن، أني رأيت في ترجمته في التهذيب عن أبي اليمان، عن صفوان: " أدركت من خلافة عبد الملك، وخرجنا في بعث سنة 94 "، ولكني لم أجد ذكرًا لولايته على حمص. وقد سلف " صفوان بن عمرو السكسكي " مرارًا، منها رقم: 7009، 12807، 13108. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 265 16748- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عمن ذكره، عن أبي صالح: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: أغنياء وفقراء. * * * وقال آخرون: معناه: نِشاطًا وغير نِشاط. * ذكر من قال ذلك: 16749- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، يقول: انفروا نِشاطًا وغير نِشاط. * * * 16750- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة: (خفافًا وثقالا) ، قال: نِشاطًا وغير نِشاط. * * * وقال آخرون: معناه: ركبانًا ومشاةَ. * ذكر من قال ذلك: 16751- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: إذا كان النَّفْر إلى دروب الشأم، نفر الناس إليها "خفافًا"، ركبانًا. وإذا كان النَّفْر إلى هذه السواحل، نفروا إليها "خفافًا وثقالا"، ركبانًا ومشاة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ذا ضَيْعَة، وغير ذي ضَيْعة. * ذكر من قال ذلك: 16752- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: "الثقيل"، الذي له الضيعة، فهو ثقيل يكره أن يُضيع ضَيْعته ويخرج = و"الخفيف" الذي لا ضيعة له، فقال الله: (انفروا خفافًا وثقالا) . 16753- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه قال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 266 زعم حضرميّ أنه ذُكر له أن ناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرًا فيقول: إن أجتنبْه إباءً، فإني آثم! (1) فأنزل الله: (انفروا خفافًا وثقالا) . 16754- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا، ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى، (2) إلا عامًا واحدًا. وكان أيوب يقول: (انفروا خفافًا وثقالا) ، فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا. (3) 16755- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا حَرِيز بن عثمان، عن راشد بن سعد، عمن رأى المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تابوتٍ من توابيت الصَّيارفة بحمص، وقد فَضَل عنها من عِظَمِه، فقلت له: لقد أعذر الله إليك! فقال: أبتْ علينا "سورة البعوث"، (4) (انفروا خفافًا وثقالا) . (5)   (1) في المطبوعة مكان: " إن أحتنبه إباء، فإني آثم " ما نصه: " فيقول: إني أحسبه قال: أنا لا آثم "، وهو مضطرب جدًا، وفي تفسير ابن كثير 4: 174، 175، اختصر الكلام وكتب: " فيقول: إني لا آثم "، وفي الدر المنثور 3: 246، مثله مختصرًا. وأما المخطوطة فكان رسمها هكذا: "فيقول: إن أحسبه أبًا قال آثم"، فآثرت قراءتها كما أثبتها، ومعناه: إن أجتنب النفر إباء للغزو، فإني آثم، ولكن علتي أو كبرى عذر يدفع عنى إثم التخلف. هذا ما رجحته، والله أعلم. (2) في المطبوعة: "إلا وهو في أخرى "، وفي المخطوطة: "في آخرين"، وحذف هذه العبارة ابن كثير في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور. وهي صحيحة المعنى، رواها ابن سعد " في أخرى " كما في المطبوعة: ورواها الحاكم: " إلا هو فيها ". (3) الأثر: 16754 - رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 49 من طريق إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، وهو " ابن عطية "، مطولا مفصلا. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 458، من هذه الطريق نفسها، مطولا. (4) هكذا جاء هنا في المخطوطة: " البعوث "، وأنا في شك منه شديد، لأني لم أجد من سمى " سورة التوبة "، " سورة البعوث "، بل أجمعوا على تسميتها " سورة البحوث "، كما سأفسره بعد ص: 265، تعليق: 6. ثم انظر آخر التعليق على الخبر رقم: 16756. (5) الأثر: 16755. " حريز بن عثمان بن جبر الرحبي "، مضى آنفا برقم 16745. وكان في المطبوعة: " جرير "، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. و" راشد بن سعد المقرائي الحبراني الحمصي "، ثقة، لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك، وشيوخ " حريز بن عثمان " ثقات جميعًا، كما أسلفت في رقم: 16745، و " حريز " ثقة في نفسه. وهذا الخبر سيأتي بعد هذا، ليس فيه مجهول. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 267 16756- حدثنا سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنا حريز قال، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة قال، حدثني أبو راشد الحبراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، قد فَضَل عنها من عِظَمه، (1) يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر الله إليك! فقال: أبَتْ علينا "سورة البُحُوث": (2) (انفروا خفافًا وثقالا) . (3) * * *   (1) في المطبوعة: " فضل عنه "، وأثبت ما في المخطوطة، لأنه صواب محض، فالتابوت، يذكر، وقد يؤنث. (2) في المطبوعة: " البعوث "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لرواية هذا الأثر في المراجع التي سأذكرها. و " البحوث ": منهم من يقولها بضم الباء، جمع " بحث "، سميت بذلك لأنها بحثت عن المنافقين وأسرارهم، أي: استثارتها وفتشت عنها. وقد قال ابن الأثير إنه رأى في "الفائق" للزمخشري "البحوث" بفتح الباء، ومطبوعة الفائق، لا ضبط فيها. ثم قال ابن الأثير: " فإن صحت، فهي فعول، من أبنية المبالغة، أما الزمخشري فقال: " سورة البحوث: هي سورة التوبة، لما فيها من البحث عن المنافقين وكشف أسرارهم، وتسمى المبعثرة ". وهذا كله يؤيد ما ذهبت إليه في ص، 265، التعليق رقم: 3. (3) الأثر: 16756 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 16755. " سعيد بن عمرو السكوني"، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 5563، 6521، وغيرهما. و" بقية بن الوليد "، مضى توثيقه، ومن تكلم فيه قريبًا رقم: 16745. و" حريز " هو " حريز بن عثمان "، سلف في الأثر السالف، ومراجعه هناك، وكان في المطبوعة هنا " جرير " أيضًا، والمخطوطة غير منقوطة. و" عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي "، أبو سلمة الحمصي، ثقة، لأن أبا داود قال: و "أبو راشد الحبراني الحميري الحمصي"، تابعي ثقة. لم يرو عنه غير "حريز". مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 30. وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 115، من طريق يزيد بن هارون، عن حريز بن عثمان (وفي الطبقات: جرير، وهو خطأ كما بينت) . ورواه الحاكم في المستدرك من طريق: بقية بن الوليد، عن حريز بن عثمان (وفيه: جرير، وهو خطأ) . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 30، وقال: " رواه الطبراني، وفيه بقية بن الوليد، وفيه ضعف، وقد وثق. وبقية رجاله ثقات ". قلت: قد تبين من التخريج أنه رواه عن " حريز"، " يزيد بن هارون "، وهو ثقة روى له الجماعة، كما سلف مرارًا. هذا، وقد جاء في مجمع الزوائد "سورة البعوث"، وانظر ما كتبته آنفا في ص: 265، تعليق: 3، وص: 265، تعليق: 6. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 268 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في "الخفاف" كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، (1) وقادرًا على الظهر والركاب. ويدخل في "الثقال"، كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال. فإذ كان قد يدخل في "الخفاف" و"الثقال" من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل. * * * 16757- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن مسلم بن صبيح قال: أول ما نزل من "براءة": (انفروا خفافًا وثقالا) .   (1) في المطبوعة: "ذا تيسر"، والذي في المخطوطة محض الصواب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 269 16758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، مثله. 16759- حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: إن أول ما نزل من "براءة": (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ، قال: يعرِّفهم نصره، ويوطِّنهم لغزوة تَبُوك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا) ، أيها المؤمنون، الكفارَ = (بأموالكم) ، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعًا أو كرهًا، أو يعطوكم الجزية عن يدٍ صَغَارًا، إن كانوا أهل كتابٍ، أو تقتلوهم (1) = (وأنفسكم) ، يقول: وبأنفسكم، فقاتلوهم بأيديكم، يخزهم الله وينصركم عليهم = (ذلكم خير لكم) ، يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافًا وثقالا وجهادِ أعدائه بأموالكم وأنفسكم، خيرٌ لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم، والخلودِ إليها، والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عِوضًا من الآخرة = إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بُيِّن لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه. * * *   (1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 173، تعليق: 5، والمراجع هناك. = وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 270 القول في تأويل قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلُّف عنه حين خرج إلى تبوك، فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه = (عرضا قريبا) ، يقول: غنيمة حاضرة (1) = (وسفرًا قاصدًا) ، يقول: وموضعًا قريبًا سهلا = (لاتبعوك) ، ونفروا معك إليهما، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرًا شاقًّا عليهم، لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ، وزمان القَيْظ وحين الحاجة إلى الكِنِّ = (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) ، يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك، يا محمد، هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك، اعتذارًا منهم إليك بالباطل، لتقبل منهم عذرهم، وتأذن لهم في التخلُّف عنك، بالله كاذبين = "لو استطعنا لخرجنا معكم"، يقول: لو أطقنا الخروجَ معكم بوجود السَّعة والمراكب والظهور وما لا بُدَّ للمسافر والغازي منه، وصحة البدن والقوى، لخرجنا معكم إلى عدوّكم = (يهلكون أنفسهم) ، يقول: يوجبون لأنفسهم، بحلفهم بالله كاذبين، الهلاك والعطب، (2) لأنهم يورثونها سَخَط الله، ويكسبونها أليم عقابه = (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، في حلفهم بالله: (لو استطعنا لخرجنا معكم) ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال، مما يحتاج إليه الغازي في غزوه، والمسافر في سفره،   (1) انظر تفسير " العرض " فيما سلف ص: 59، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الهلاك " فيما سلف 13: 150. تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 271 وصحة الأبدان وقوَى الأجسام. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16760- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لو كان عرضًا قريبًا) ، إلى قوله (لكاذبون) ، إنهم يستطيعون الخروج، ولكن كان تَبْطِئَةً من عند أنفسهم والشيطان، وزَهَادة في الخير. 16761- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لو كان عرضًا قريبًا) ، قال: هي غزوة تبوك. 16762- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، أي: إنهم يستطيعون. (1) * * * القول في تأويل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) } قال أبو جعفر: وهذا عتاب من الله تعالى ذكره، عاتبٌ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، من المنافقين. يقول جل ثناؤه: (عفا الله عنك) ، يا محمد، ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذي استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك، من قبل أن تعلم صدقه من كذبه (2) = (لم أذنت لهم) ، لأي شيء أذنت لهم؟ =   (1) الأثر: 16762 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16699. (2) انظر تفسير " العفو " فيما سلف من فهارس اللغة (عفا) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 272 (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) ، يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك إذ قالوا لك: (لو استطعنا لخرجنا معك) ، حتى تعرف مَن له العذر منهم في تخلفه، ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنتَ له منهم على علم منك بعذره، وتعلمَ مَنِ الكاذبُ منهم المتخلفُ نفاقًا وشكًّا في دين الله. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16763- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، قال: ناسٌ قالوا: استأذِنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. 16764- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) ، الآية، عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل الله التي في "سورة النور"، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، [سورة النور: 62] ، فجعله الله رخصةً في ذلك من ذلك. 16765- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل الله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، الآية. 16766- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، قرأت على سعيد بن أبي عروبة، قال: هكذا سمعته من قتادة، قوله: (عفا الله عنك لم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 273 أذنت لهم) ، الآية، ثم أنزل الله بعد ذلك في "سورة النور": (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، الآية. 16767- حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا موسى بن سَرْوان، قال: سألت مورِّقًا عن قوله: (عفا الله عنك) ، قال: عاتبه ربه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) } قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم سِيمَا المنافقين: أن من علاماتهم التي يُعرفون بها تخلُّفهم عن الجهاد في سبيل الله، باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروجَ معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تأذننَّ في التخلُّف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك، لمن استأذنك في التخلف من غير عذر، فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فأمَّا الذي يصدّق بالله، ويقرُّ بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب، فإنه لا يستأذنك في   (1) الأثر: 16767 - "صالح بن مسمار المروزي السلمي"، شيخ الطبري، مضى برقم: 224. و"النضر بن شميل المازني" الإمام النحوي، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 11512. و" موسى بن سروان العجلي "، ويقال: " ثروان " و " فروان " مضى برقم: 11411، وكان في المطبوعة هنا " موسى بن مروان "، وهو خطأ، وأثبت ما في المخطوطة. و" مورق "، هو " مورق بن مشمرج العجلي "، ثقة عابد من العباد الخشن. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 51، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 403. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 274 ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه (1) = (والله عليم بالمتقين) ، يقول: والله ذو علم بمن خافه، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه، وغير ذلك من أمره ونهيه. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16768- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، فهذا تعييرٌ للمنافقين حين استأذنوا في القُعود عن الجهاد من غير عُذْر، وعَذَر الله المؤمنين، فقال: (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، [سورة النور: 62] . * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنما يستأذنك، يا محمد، في التخلف خِلافكَ، وترك الجهاد معك، من غير عذر بيِّنٍ، الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده = (وارتابت قلوبهم) ، يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه (3) = (فهم في ريبهم يترددون) ، يقول: في شكهم متحيِّرون، وفي ظلمة الحيرة متردِّدون، لا يعرفون حقًّا من باطل، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين.   (1) انظر تفسير "جاهد" فيما سلف ص: 270، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) . (3) انظر تفسير "الارتياب" و "الريب" فيما سلف 11: 172، تعليق: 3، والمراجع هناك = ثم 11: 280، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 275 وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرت في "سورة النور". * ذكر من قال ذلك: 16769- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، إلى قوله: (فهم في ريبهم يترددون) ، نسختهما الآية التي في "النور": (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ) ، إلى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [سورة النور: 62] . * * * وقد بيَّنَّا "الناسخ والمنسوخ" بما أغنى عن إعادته ههنا. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أراد هؤلاء المستأذنوك، يا محمد، في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك، الخروجَ معك = (لأعدوا له عدة) ، يقول: لأعدوا للخروج عدة، ولتأهّبوا للسفر والعدوِّ أهْبَتهما (2) = (ولكن كره الله انبعاثهم) ، يعني: خروجهم لذلك (3) (فثبطهم) ، يقول: فثقَّل عليهم الخروجَ حتى استخفُّوا القعودَ في منازلهم خِلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك، فتركوا   (1) انظر مقالته في " الناسخ والمنسوخ " فيما سلف ص 42، تعليق: 2، والمراجع هناك. وانظر الفهارس العامة، وفهارس النحو والعربية وغيرهما. (2) انظر تفسير " أعد "، فيما سلف ص: 31. (3) انظر تفسير "الكره" فيما سلف 8: 104، تعليق: 1، والمراجع هناك. - وتفسير "البعث" فيما سلف 11: 407، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 276 لذلك الخروج = (وقيل اقعدوا مع القاعدين) ، يعني: اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان، واتركوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين في سبيل الله. (1) * * * وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، لعلمه بنفاقهم وغشهم للإسلام وأهله، وأنهم لو خرجوا معهم ضرُّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود كانوا: "عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول"، و"الجد بن قيس"، ومن كانا على مثل الذي كانا عليه. كذلك:- 16770- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوه فيما بلغني، من ذوي الشرف، منهم: عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجدّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم، أن يخرجوا معهم، (2) فيفسدوا عليه جنده. (3) * * *   (1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف 9: 85. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "يخرجوا معهم" وفي سيرة ابن هشام: "معه". (3) الأثر: 16770 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16762. وكان في المخطوطة: "فيفسدوا عليه حسه" غير منقوطة، فاسدة الكتابة. والذي في المطبوعة مطابق لما في سيرة ابن هشام، وهو الصواب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 277 القول في تأويل قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو خرج، أيها المؤمنون، فيكم هؤلاء المنافقون = (ما زادوكم إلا خبالا) ، يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادًا وضرًّا، ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم. * * * وقد بينا معنى "الخبال"، بشواهده فيما مضى قبل. (1) * * * (ولأوضعوا خلالكم) ، يقول: ولأسرعوا بركائبهم السَّير بينكم. * * * وأصله من "إيضاع الخيل والركاب"، وهو الإسراع بها في السير، يقال للناقة إذا أسرعت السير: "وضعت الناقة تَضَع وَضعًا ومَوْضوعًا"، و"أوضعها صاحبها"، إذا جدّ بها وأسرع، "يوضعها إيضاعًا"، ومنه قول الراجز: (2) يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ (3) * * *   (1) انظر تفسير "الخبال" فيما سلف 7: 139، 140. (2) هو دريد بن الصمة. (3) سيرة ابن هشام 4: 82، واللسان (وضع) ، وغيرهما، وهذا رجز قاله دريد في يوم غزوة حنين، وكان خرج مع هوزان، عليهم مالك بن عوف النصري، ودريد بن الصمة يومئذ شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا مجربًا. وكان مالك بن عوف كره أن يكون لدريد بن الصمة رأي في حربهم هذه أو ذكر، فقال دريد: "هذا يوم لم أشهده ولم يفتني". يَا لَيْتنِي فِيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ أَقُودُ وَطْفَاء الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ "الجذع"، الصغير الشاب. و "الخبب"، ضرب من السير كالوضع. ثم وصف فرسه فيما تمنى. "وطفاء"، طويلة الشعر، و "الزمعة" الهنة الزائدة الناتئة فوق ظلف الشاة. و "الشاة" هنا: الوعل وهو شاة الجبل. و "صدع" الفتى القوي من الأوعال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 278 وأما أصل "الخلال"، فهو من "الخَلَل"، وهي الفُرَج تكون بين القوم، في الصفوف وغيرها. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لا يَتَخَلَّلكُمْ [الشَّيَاطين، كأنها] أَوْلادُ الحذَفِ". (1) * * * وأما قوله: (يبغونكم الفتنة) ، فإن معنى: "يبغونكم الفتنة"، يطلبون لكم ما تفتنون به، عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه. (2) * * * يقال منه: "بغيتُه الشر"، و"بغيتُه الخير" "أبغيه بُغاء"، إذا التمسته له، بمعنى: "بغيت له"، وكذلك "عكمتك" و"حلبتك"، بمعنى: "حلبت لك"، و"عكمت لك"، (3) وإذا أرادوا: أعنتك على التماسه وطلبه، قالوا: "أبْغَيتُك كذا"، و"أحلبتك"، و"أعكمتك"، أي: أعنتك عليه. (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16771- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن   (1) لم يذكر إسناده، وهو حديث مشهور، رواه أبو داود في سننه 1: 252، رقم: 667، بغير هذا اللفظ، والنسائي في السنن 2: 92. والذي وضعته بين القوسين فيما رواه صاحب اللسان، لأنه في السنن: " كأنها الحذف "، وفي اللسان أيضًا " كأنها بنات حذف ". أما المطبوعة فقد ضم الكلام بعضه إلى بعض، مع أنه كان في المخطوطة، بياض بين "لا يتخللكم"، وبين "أولاد الحذف"، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ. و" الحذف " ضأن سود جرد صغار، ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها إلى الحجاز من جرش اليمن، واحدتها " حذفة " (بفتحتين) ، شبه الشياطين بها. (2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 86، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) "عكمه" و "عكم له"، هو أن يسوي له الأعدال على الدابة ويشدها. (4) انظر تفسير "بغى" فيما سلف 13: 84، تعليق: 1، والمراجع هناك. ثم انظر مثل هذا التفصيل فيما سلف 7: 53. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 279 معمر، عن قتادة: (ولأوضعوا خلالكم) ، بينكم = (يبغونكم الفتنة) ، بذلك. 16772- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ولأوضعوا خلالكم) ، يقول: [ولأوضعوا بينكم] ، خلالكم، بالفتنة. (1) 16773- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطئونكم قال: رفاعة بن التابوت، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول، وأوس بن قيظيّ. 16774- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولأوضعوا خلالكم) ، قال: لأسرعوا الأزقة (2) = (خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطِّئونكم = عبد الله بن نبتل، ورفاعة بن تابوت، وعبد الله بن أبي ابن سلول. 16775- ...... قال حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (ولأوضعوا خلالكم) ، قال: لأسرعوا خلالكم يبغونكم الفتنة بذلك. 16776- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ، قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. يسلِّي الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال: وما يُحزنكم؟ (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ،! يقولون: "قد جُمع لكم، وفُعِل وفُعِل، يخذِّلونكم" = (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، الكفر. * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "ولأضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة"، وهو لا يفيد معنى، وظني أن "أسلحتهم" هي "بينكم" وهو تفسير "خلالكم" كما مر في أثر قتادة السالف، ولكنه أخر اللفظ الذي فسره وهو "خلالكم". (2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "الأزقة"، وهو جمع "زقاق" "بضم الزاي"، وهو الطريق الضيق، دون السكة، وجعل "الأزقة" مفعولا لقوله: "أسرعوا"، غريب، وأخشى أن يكون في الكلام خلل أو تصحيف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 280 وأما قوله: (وفيكم سَمَّاعون لهم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يؤدُّونه إليهم، عيون لهم عليكم. * ذكر من قال ذلك: 16777- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفيكم سماعون لهم) ، يحدِّثون أحاديثكم، عيونٌ غير منافقين. 16778- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وفيكم سماعون لهم) ، قال: محدِّثون، عيون، غير المنافقين. (1) 16779- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وفيكم سماعون لهم) ، يسمعون ما يؤدُّونه لعدوِّكم. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويُطيع لهم. * ذكر من قال ذلك: 16780- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وفيكم سماعون لهم) ، وفيكم من يسمع كلامهم. 16781- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوا، فيما بلغني من ذوي الشرف، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجدُّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم: أن يخرجوا معهم، فيفسدوا عليه جُنده. وكان في جنده قوم أهلُ محبةٍ لهم وطاعةٍ فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: (وفيكم سمَّاعون لهم) . (2)   (1) في المطبوعة: "غير منافقين"، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 16781 - صدر هذا الخبر مضى برقم: 16770، وساقه هنا فيما بعد، وهو في سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16762. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 281 قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل: وفيكم أهلُ سمع وطاعة منكم، لو صحبوكم أفسدوهم عليكم، بتثبيطهم إياهم عن السير معكم. وأما على التأويل الأول، فإن معناه: وفيكم منهم سمَّاعون يسمعون حديثكم لهم، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم، عيون لهم عليكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: معناه: "وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يبلغونه عنكم، عيون لهم"، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: "سمَّاع"، وصف من وصف به أنه سماع للكلام، كما قال الله جل ثناؤه في غير موضع من كتابه: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) [سورة المائدة: 41] ، واصفًا بذلك قومًا بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه: "له سامع ومطيع"، ولا تكاد تقول: = "هو له سماع مطيع". (1) * * * وأما قوله: (والله عليم بالظالمين) ، فإن معناه: والله ذو علم بمن يوجّه أفعاله إلى غير وجوهها، ويضعها في غير مواضعها، ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر، ومن يستأذنه شكًّا في الإسلام ونفاقًا، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين، ومن يسمعه ليسرَّ بما سُرَّ به المؤمنون، (2) ويساء بما ساءهم، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. (3) * * * وقد بينا معنى "الظلم" في غير موضع من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) * * *   (1) انظر تفسير " سماع " فيما سلف 10: 309. (2) في المطبوعة: "بما سر المؤمنين"، وفي المخطوطة: "بما سر المؤمنون"، وصوابها ما أثبت. (3) انظر تفسير "عليم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) . (4) انظر تفسير "الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 282 القول في تأويل قوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك، يا محمد، التمسوا صدَّهم عن دينهم (1) وحرصوا على ردّهم إلى الكفرِ بالتخذيل عنه، (2) كفعل عبد الله بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أحدٍ، حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه. وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب وسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتنة من قبل. ويعني بقوله: (من قبل) ، من قبل هذا = (وقلبوا لك الأمور) ، يقول: وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به الله الرأيَ بالتخذيل عنك، (3) وإنكار ما تأتيهم به، وردّه عليك = (حتى جاء الحق) ، يقول: حتى جاء نصر الله = (وظهر أمر الله) ، يقول: وظهر دين الله الذي أمرَ به وافترضه على خلقه، وهو الإسلام (4) = (وهم كارهون) ، يقول: والمنافقون بظهور أمر الله ونصره إياك كارهون. (5) وكذلك الآن، يظهرك الله ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به، وهم كارهون. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16782- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وقلبوا   (1) انظر تفسير "ابتغى" فيما سلف قريبا ص: 279، تعليق: 4، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص:، 279 تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير "التقليب" فيما سلف 12: 44، 45، ومادة (قلب) في فهارس اللغة. (4) انظر تفسير "الظهور" فيما سلف ص: 214، 215. (5) انظر تفسير " الكره " فيما سلف ص: 276، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 283 لك الأمور) ، أي: ليخذِّلوا عنك أصحابك، ويردُّوا عليك أمرك = (حتى جاء الحق وظهر أمر الله) . (1) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت في نفرٍ مسمَّين بأعيانهم. 16783- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو، عن الحسن قوله: (وقلبوا لك الأمور) ، قال: منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن رافع، وزيد بن التابوت القينقاعي. (2) * * * وكان تخذيل عبد الله بن أبيٍّ أصحابَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة، كالذي: 16784- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم، كلُّ قد حدَّث في غزوة تبوك ما بلغَه عنها، وبعض القوم يحدِّث ما لم يحدِّث بعضٌ، وكلٌّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عُسْرةٍ من الناس، (3) وشدة من الحرّ، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طاب الثمار، وأحِبَّتِ الظلال، (4) فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها، على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوةٍ   (1) الأثر: 16782 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16781. (2) الأثر: 16782 - لم أجده في سيرة ابن هشام. ولكنه في تاريخ الطبري 3: 143، بمثله. (3) في السيرة: "في زمان من عسرة الناس". (4) "وأحبت الظلال" ليس في سيرة ابن هشام، وهو ثابت في رواية أبي جعفر في التاريخ 3: 142. وكذلك في المطبوعة: "والناس يحبون" وأثبت ما في المخطوطة، فهو مطلب السياق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 284 إلا كَنَى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يَصْمِدُ له، (1) إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيَّنها للناس، لبعد الشُّقَّة، وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صَمَد له، ليتأهَّب الناس لذلك أُهْبَتَه. فأمر الناس بالجهاد، وأخبرهم أنه يريد الروم. فتجهز الناسُ على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه، لما فيه، مع ما عظَّموا من ذكر الروم وغزوهم. (2) = ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ في سفره، فأمر الناس بالجهازِ والانكماش، (3) وحضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله. (4) = فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، (5) وضرب عبد الله بن أبي ابن سلول عسكره على حِدَةٍ أسفلَ منه بحذاء "ذباب" (6) = جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع = وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين. فلما سار رَسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلَّف   (1) "صمد للأمر يصمد"، قصده قصدًا. (2) هذه الجملة الأخيرة من أول قوله: "فتجهز الناس"، لم أجدها في هذا الموضع من سيرة ابن هشام 4: 159، وسأذكر موضع ما يليه في التخريج، فإنه قد أسقط ما بعد ذلك، حتى بلغ ما بعده. (3) "الانكماش" الإسراع والجد في العمل والطلب. (4) "الحملان" (بضم فسكون) مصدر مثل "الحمل"، يريد: حمل من لا دابة له على دابة يركبها في وجهه هذا. وهذه الجملة من أول قوله: "ثم إن رسول الله"، إلى هذا الموضع، في سيرة ابن هشام 4: 161، والذي يليه من موضع آخر سأبينه. (5) وهذه الجملة مفردة في سيرة ابن هشام 4: 162، بعدها كلام حذفه أبو جعفر، ووصله بما بعده. (6) في المطبوعة والمخطوطة: "على ذي حدة"، وكان في المخطوطة كتب قبل "ذي" "دين" ثم ضرب عليها. ولم أجدهم قالوا: "على ذي حدة"، يؤيد صواب ذلك أن ابن هشام قال: "على حدة"، وذكر أبو جعفر هذا الخبر في تاريخه 3: 143، فيه أيضًا "على حدة"، فمن أجل ذلك أغفلت ما كان في المطبوعة والمخطوطة = وكان في المطبوعة، وفي سيرة ابن هشام " نحو ذباب "، وفي المخطوطة: " نحوا "، والألف مطموسة قصيرة، والذي في التاريخ ما أثبته " بحذاء "، وهو الصواب الذي لا شك فيه. وبيان موضع الجبل، ليس مذكورًا في السيرة، وهو مذكور في التاريخ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 285 من المنافقين وأهل الريب. وكان عبد الله بن أبي، أخا بني عوف بن الخزرج، وعبد الله بن نبتل، أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، (1) أخا بني قينقاع، وكانوا من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله. = قال: وفيهم، فيما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، أنزل الله: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) ، الآية. (2) * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) } قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس. * * * ويعني جل ثناؤه بقوله: (ومنهم) ، ومن المنافقين = (من يقول ائذن لي) ، أقم فلا أشخَصُ معك = (ولا تفتني) ، يقول: ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتِهم، فإنّي بالنساء مغرمٌ، فأخرج وآثَمُ بذلك. (3) * * * وبذلك من التأويل تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل. * ذكر الرواية بذلك عمن قاله: 16785- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) في المطبوعة: "رفاعة بن يزيد"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، والتاريخ. (2) الأثر: 16784 - هذا خبر مفرق، ذكرت مواضعه فيما سلف، وهو في سيرة ابن هشام 4: 159 \ ثم 4: 161 \ ثم 4: 162، وهو بتمامه في تاريخ الطبري 3: 142، 143. والجزء الأخير من هذا الخبر، مضى برقم: 16873. (3) انظر تفسير "الفتنة" فيما سلف ص: 283، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 286 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ائذن لي ولا تفتني) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزُوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم! فقال الجدّ: ائذن لنا، ولا تفتنَّا بالنساء. 16786- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزوا تغنَموا بنات الأصفر = يعني نساء الروم، ثم ذكر مثله. 16787- ...... قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (ائذن لي ولا تفتني) ، قال: هو الجدّ بن قيس قال: قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي. 16788- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه، للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أوْ تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رَجل أشدّ عُجْبًا بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر أن لا أصبر عنهن! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك، ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، الآية، أي: إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم. (1) 16789- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في   (1) الأثر: 16788 - سيرة ابن هشام 4: 159، 160، وهو تابع صدر الأثر السالف رقم: 16784، بعد قوله هناك: "وأخبرهم أنه يريد الروم"، وبين الذي رواه أبو جعفر، وما في السيرة خلاف يسير في ختام الخبر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 287 قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، قال: هو رجل من المنافقين يقال له جَدُّ بن قيس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: العامَ نغزو بني الأصفر ونتَّخذ منهم سراريّ ووُصفاءَ (1) = فقال: أي رسول الله، ائذن لي ولا تفتني، إن لم تأذن لي افتتنت وقعدت! (2) وغضب [رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، (3) فقال الله: (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، وكان من بني سلمة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من سيدكم يا بني سَلِمة؟ فقالوا: جدُّ بن قيس، غير أنه بخيلٌ جبان! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيُّ داءٍ أدْوَى من البخل، ولكن سيِّدكم الفتى الأبيض، الجعد: بشر بن البراء بن مَعْرُور. (4) 16790- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، يقول: ائذن لي ولا تحرجني = (ألا في الفتنة سقطوا) ، يعني: في الحرج سقطوا. 16791- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا. * * *   (1) في المطبوعة: "سراري ووصفانًا"، والصواب من المخطوطة. و "الوصفاء" جمع "وصيف"، والأنثى "وصيفة"، وجمعها "وصائف"، وهو الخادم الغلام الشاب، ومثله الخادمة. (2) في المطبوعة: "ووقعت"، مكان "وقعدت"، وأثبت ما في المخطوطة، وأراد القعود عن الخروج إلى الغزوة خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) في المطبوعة: "فغضب"، وفي المخطوطة: "وغضب"، وظاهر أنه سقط من الخبر ما أثبته بين القوسين. (4) في المطبوعة: "الجعد الشعر البراء بن معرور"، غير ما كان في المخطوطة، وهو الصواب المحض، فإن الخبر هو خبر "بشر بن البراء بن معرور" في تسويده على بني سلمة. وأما أبوه "البراء بن معرور"، فهو من أول من بايع بيعة العقبة الأولى، وأول من استقبل القبلة، وأول من أوصى بثلث ماله، وهو أحد النقباء، ومات قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل مقدم رسول الله المدينة بشهر، ولما دفنوه، وجهوا قبره إلى القبلة. ويقال: "رجل جعد"، يراد به أنه مدمج الخلق، معصوب الجوارح، شديد الأسر، غير مسترخ ولا مضطرب، وهو من حلية الكريم. ويراد به أيضا: جعودة الشعر، وهو مدح العرب، لأن سبوطة الشعر إنما هي في الروم وفي الفرس. وإنما أراد في الخبر المعنى الأول. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 288 وقوله: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، يقول: وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذَّب رسله، محدقة بهم، جامعة لهم جميعًا يوم القيامة. (1) يقول: فكفى للجدّ بن قيس وأشكاله من المنافقين بِصِلِيِّها خزيًا. * * * القول في تأويل قوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن يصبك سرورٌ بفتح الله عليك أرضَ الروم في غَزاتك هذه، (2) يسؤ الجدَّ بن قيس ونظراءه وأشياعهم من المنافقين، وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها، (3) يقول الجد ونظراؤه: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، أي: قد أخذنا حذرَنا بتخلّفنا عن محمد، وترك أتباعه إلى عدوّه = (من قبل) ، يقول: من قبل أن تصيبه هذه المصيبة = (ويتولوا وهم فرحون) ، يقول: ويرتدُّوا عن محمد وهم فرحون بما أصاب محمدًا وأصحابه من المصيبة، (4) بفلول أصحابه وانهزامهم عنه، (5) وقتل من قُتِل منهم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 13: 581، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف: 13: 473، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير "الحسنة" فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) . (3) "الفلول"، مصدر "فل"، لازمًا، بمعنى: انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7: 313، تعليق: 3، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم: "من فل ذل"، أي: من انهزم وفر عن عدوه، ذل. (4) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . (5) "الفلول"، مصدر "فل"، لازمًا، بمعنى: انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7: 313، تعليق: 3، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم: "من فل ذل"، أي: من انهزم وفر عن عدوه، ذل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 289 * ذكر من قال ذلك: 16792- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، يقول: إن تصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك = (حسنة تسؤهم) ، قال: الجدُّ وأصحابه. 16793- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، حِذْرنا. 16794- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، قال: حِذْرنا. 16795- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، إن كان فتح للمسلمين كبر ذلك عليهم وساءَهم. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مؤدِّبًا نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك: (لن يصيبنا) ، أيها المرتابون في دينهم = (إلا ما كتب الله لنا) ، في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا (1) = (هو مولانا) ، يقول: هو ناصرنا على أعدائه (2) = (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ،   (1) انظر تفسير "كتب" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) . (2) انظر تفسير "المولى" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 290 يقول: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإنهم إن يتوكلوا عليه، ولم يرجُوا النصر من عند غيره، ولم يخافوا شيئًا غيره، يكفهم أمورهم، وينصرهم على من بغاهم وكادهم. (1) * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم وبينت لك أمرهم: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخَلَّتين اللتين هما أحسن من غيرهما، (2) إما ظفرًا بالعدو وفتحًا لنا بِغَلَبَتِناهم، ففيها الأجر والغنيمة والسلامة = وإما قتلا من عدوِّنا لنا، ففيه الشهادة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. وكلتاهما مما نُحبُّ ولا نكره = (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) ، يقول: ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة، تهلككم = (أو بأيدينا) ، فنقتلكم = (فتربصوا إنا معكم متربصون) ، يقول: فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا، وما إليه صائرٌ أمر كلِّ فريقٍ منَّا ومنكم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.   (1) انظر تفسير "التوكل" فيما سلف ص: 43، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "التربص" فيما سلف ص: 177، تعليق: 3، والمراجع هناك. = وتفسير " الحسنى " فيما سلف 9: 96، 97. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 291 * ذكر من قال ذلك: 16796- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (هل تربصون لنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول: فتح أو شهادة = وقال مرة أخرى: يقول القتل، فهي الشهادة والحياة والرزق. وإما يخزيكم بأيدينا. 16797- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول: قتل فيه الحياة والرزق، وإما أن يغلب فيؤتيه الله أجرًا عظيمًا، وهو مثل قوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، إلى (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 74] . 16798- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إلا إحدى الحسنيين) ، قال: القتل في سبيل الله، والظهور على أعدائه. 16799- ...... قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال: القتل في سبيل الله، والظهور. 16800- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إحدى الحسنيين) ، القتل في سبيل الله، والظهور على أعداء الله. 16801- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه = قال ابن جريج، قال ابن عباس: (بعذاب من عنده) ، بالموت = (أو بأيدينا) ، قال: القتل. 16802- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، إلا فتحًا أو قتلا في سبيل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 292 الله = (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) ، أي: قتل. * * * القول في تأويل قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين: أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره، وعلى أي حال شئتم، من حال الطوع والكره، (1) فإنكم إن تنفقوها لن يتقبَّل الله منكم نفقاتكم، وأنتم في شك من دينكم، وجهلٍ منكم بنبوة نبيكم، وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه = (إنكم كنتم قومًا فاسقين) ، يقول: خارجين عن الإيمان بربكم. (2) * * * وخرج قوله: (أنفقوا طوعا أو كرها) ، مخرج الأمر، ومعناه الجزاء، (3) والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها "إن"، التي تأتي بمعنى الجزاء، كما قال جل ثناؤه: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [سورة التوبة: 80] ، فهو في لفظ الأمر، ومعناه الجزاء، (4) ومنه قول الشاعر: (5) أَسِيئي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا، ولا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ (6)   (1) انظر تفسير "الطوع" فيما سلف 6: 564، 565. = وتفسير " الكره " فيما سلف ص: 283، تعليق: 5، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "الفسق" فيما سلف 13: 110، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة في الموضعين: "ومعناه الخبر"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 441. (4) في المطبوعة في الموضعين: "ومعناه الخبر"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 441. (5) هو كثير عزة. (6) سلف تخريجه وبيانه في التفسير 2: 294، ولم أشر هناك إلى هذا الموضع، ومعاني القرآن للفراء 1: 441. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 293 فكذلك قوله: (أنفقوا طوعًا أو كرهًا) ، إنما معناه: إن تنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يُتَقَبَّل منكم. * * * وقيل: إن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم: "هذا مالي أعينك به". 16803- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: قال، الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي! قال: ففيه نزلت (أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم) ، قال: لقوله "أعينك بمالي". * * * القول في تأويل قوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين، يا محمد، أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك، وفي غير ذلك من السبل، إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله، فـ "أن" الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، (1) لان معنى الكلام: ما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله = (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) ،   (1) يعني بالثانية "أن" المشددة في "أنهم"، وأما الأولى فهي "أن" الخفيفة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 294 يقول: لا يأتونها إلا متثاقلين بها. (1) لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابًا، ولا يخافون بتركها عقابًا، وإنما يقيمونها مخافةً على أنفسهم بتركها من المؤمنين، فإذا أمنوهم لم يقيموها = (ولا ينفقون) ، يقول: ولا ينفقون من أموالهم شيئًا = (إلا وهم كارهون) ، أن ينفقونه في الوجه الذي ينفقونه فيه، مما فيه تقوية للإسلام وأهله. (2) * * *   (1) انظر تفسير "كسالى" فيما سلف 9: 330، 331. (2) انظر تفسير "الكره" فيما سلف ص: 293. تعليق: 1 والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 295 القول في تأويل قوله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك، يا محمد، أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال: معنى ذلك التقديمُ، وهو مؤخر. * ذكر من قال ذلك: 16804- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) ، قال: هذه من تقاديم الكلام، (1)   (1) هذه أول مرّة أجد استعمال "تقاديم" جمعًا في هذا التفسير. وهي جمع "تقديم" كأمثاله من قولهم "التكاذيب"، "والتكاليف"، و "التحاسين"، و "التقاصيب"، وما أشبهها. وكان في المخطوطة: "هذه من تقاديم الله، ليعذبهم بها في الآخرة"، ولكن ناشر المطبوعة نقل هذا النص الثابت في المطبوعة، من الدر المنثور 3: 249، وكأنه الصواب، إن شاء الله، ولذلك تركته على حاله. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 442. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 295 يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. 16805- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، بما ألزمهم فيها من فرائضه. * ذكر من قال ذلك: 16806- حدثت عن المسيّب بن شريك، عن سلمان الأنصري، عن الحسن: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله. (1) 16807- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، بالمصائب فيها، هي لهم عذابٌ، وهي للمؤمنين أجرٌ. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، التأويلُ الذي ذكرنا عن الحسن. لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرْفُ تأويله إلى ما دلَّ عليه ظاهره، أولى من صرفه إلى باطنٍ لا دلالةَ على صحته. وإنما وجَّه من وجَّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجهًا يوجِّهه إليه، وقال: كيف يعذِّبهم   (1) الأثر: 16806 - " المسيب بن شريك التميمي، أبو سعيد "، ترك الناس حديثه، وقال البخاري: " سكتوا عنه ". مترجم في الكبير 4 \ 1 \ 408، وإن أبي حاتم 4 \ 1 \ 294، وميزان الاعتدال 3: 171، ولسان الميزان 6: 38. و"سلمان الأنصري"، هكذا في المخطوطة، وفي المطبوعة " الأقصري "، ولم أستطع أن أعرف شيئًا عن هذا الاسم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 296 بذلك في الدنيا، وهي لهم فيها سرور؟ وذهبَ عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامُه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيِّب النفس، ولا راجٍ من الله جزاءً، ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا، على ضجرٍ منه وكُرْهٍ. * * * وأما قوله: (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) ، فإنه يعني وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودهم نبوّةَ نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم. * * * يقال منه: "زَهَقَت نفس فلان، وزَهِقَت"، فمن قال: "زَهَقت" قال: "تَزْهَق"، ومن قال: "زَهِقت"، قال: "تزهق"، "زهوقًا"، ومنه قيل: "زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَق زُهُوقا" إذا سبقهم فتقدمهم. ويقال: "زهق الباطل"، إذا ذهب ودرس. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحلف بالله لكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون كذبًا وباطلا خوفًا منكم: (إنهم لمنكم) في الدين والملة. يقول الله تعالى، مكذّبًا لهم: (وما هم منكم) ، أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم، بل هم أهل   (1) لا أدري ما هذا، فإن أصحاب اللغة لم يذكروا في مضارع اللغتين إلا "تزهق" بفتح الهاء، أما الأخرى فلا أدري ما تكون، ولا أجد لها عندي وجهًا، فتركتها على حالها لم أضبطها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 297 شكٍّ ونفاقٍ = (ولكنهم قوم يفرقون) ، يقول: ولكنهم قوم يخَافونكم، فهم خوفًا منكم يقولون بألسنتهم: "إنا منكم"، ليأمنوا فيكم فلا يُقْتَلوا. * * * القول في تأويل قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون "ملجأ"، يقول: عَصَرًا يعتصِرون به من حِصْن، ومَعْقِلا يعتقِلون فيه منكم = (أو مغارات) ، * * * = وهي الغيران في الجبال، واحدتها: "مغارة"، وهي "مفعلة"، من: "غار الرجل في الشيء، يغور فيه"، إذا دخل، ومنه قيل، "غارت العين"، إذا دخلت في الحدقة. * * * (أو مدَّخلا) ، يقول: سَرَبًا في الأرض يدخلون فيه. * * * وقال: "أو مدّخلا"، الآية، لأنه "من ادَّخَل يَدَّخِل". (1) * * * وقوله: (لولَّوا إليه) ، يقول: لأدبروا إليه، هربًا منكم (2) = (وهم يجمحون) . يقول: وهم يسرعون في مَشْيِهم. * * * وقيل: إن "الجماح" مشيٌ بين المشيين، (3) ومنه قول مهلهل:   (1) في المطبوعة: " أو مدخلا الآية، لأنه "، وهو خطأ في الطباعة فيما أرجح، زاد " الآية لشبهه بقوله: " لأنه " بعده، وخالف الطابع المصحح، فأثبت له ما صححه! ! (2) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . (3) هذا نص نادر لا تجده في كتاب اللغة، فليقيد فيها هو وشاهده. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 298 لَقَدْ جَمَحْتُ جِمَاحًا فِي دِمَائِهِمُ ... حَتَّى رَأَيْتُ ذَوِي أَحْسَابِهِمْ خَمَدُوا (1) * * * وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة، لأنهم إنما أقاموا بين أَظْهُرِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله، لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم. فقال الله واصِفَهم بما في ضمائرهم: (لو يجدون ملجأ أو مغاراتٍ) ، الآية. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16808- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ) ، "الملجأ" الحِرْز في الجبال، "والمغارات"، الغِيران في الجبال. وقوله: (أو مدَّخلا) ، و"المدّخل"، السَّرَب. 16809- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لولّوا إليه وهم يجمحون) ، "ملجأ"، يقول: حرزًا = (أو مغارات) ، يعني الغيران = (أو مدخلا) ، يقول: ذهابًا في الأرض، وهو النفق في الأرض، وهو السَّرَب. 16810- وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) لم أجد هذا البيت فيما وقفت عليه من شعر مهلهل. وقوله: " خمدا "، أي: سكنوا فماتوا، كما تنطفئ الجمرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 299 عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، قال: حرزًا لهم يفرُّون إليه منكم. 16811- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا) ، قال: محرزًا لهم، لفرُّوا إليه منكم = وقال ابن عباس: قوله: (لو يجدون ملجأ) ، حرزًا = (أو مغارات) ، قال: الغيران = (أو مدّخلا) ، قال: نفقًا في الأرض. 16812- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، يقول: "لو يجدون ملجأ"، حصونًا = (أو مغارات) ، غِيرانًا = (أو مدخلا) ، أسرابًا = (لولوا إليه وهم يجمحون) . * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن المنافقين الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم في هذه الآيات = (من يلمزك في الصدقات) ، يقول: يعيبك في أمرها، ويطعُنُ عليك فيها. * * * يقال منه: "لمز فلان فلانًا يَلْمِزُه، ويَلْمُزُه" إذا عابه وقرصه، وكذلك "همزه"، ومنه قيل: "فلان هُمَزَةً لُمَزَة، ومنه قول رؤبة: قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وَجَمْزِي ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ بَاطِلي وَلَمْزِي (1)   (1) ديوانه: 64، من رجزه في أبان بن الوليد البجلي، ثم ذكر فيها نفسه، فقال: فَإن ترَيْنِي الْيَوْمَ أُمَّ حَمْزِ ... قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وجَمْزِي مِنْ بَعْدِ تَقْمَاص الشَّبَابِ الأَبْزِ ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ باطِلِي وَلَمْزِي فَكُلُّ بَدْءِ صَالحٍ أَوْ نِقْزِ ... لاقٍ حِمَامَ الأَجَلِ المُجْتَزِّ "أم حمز"، يعني "أم حمزة". و "العنق" ضرب من العدو، و "الجمز" فوق العنق، ودون الحضر، وهو العدو الشديد. يعني ما تقارب من جريه لما كبر، "تقماص الشباب"، من "القمص"، "قمص الفرس"، إذا نفر واستن، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معًا، ويعجن برجليه. و "التقماص" مصدر لم تذكره كتب اللغة. و "الأبز": الشديد الوثب، المتطلق في عدوه، يقال: "ظبي أبوز، وأباز"، ولم يذكروا في الصفات "الأبز"، وهو هنا صفة بالمصدر. و "البدء": السيد الشاب المقدم المستجاد الرأي. و "النقز" (بكسرالنون) : الخسيس الرذال من الناس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 300 ومنه قول الآخر: (1) إِذَا لَقَيْتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً ... وَإِنْ أُغَيَّبْ، فَأَنْتَ العَائِبُ اللُّمَزَهْ (2) = (فإن أعطوا منها رضوا) ، يقول: ليس بهم في عيبهم إياك فيها، وطعنهم عليك بسببها، الدِّينُ، ولكن الغضب لأنفسهم، فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك، وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) هو زياد الأعجم. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 263، إصلاح المنطق: 475، والجمهرة لابن دريد 3: 18، والمقاييس 6: 66، واللسان (همز) ، وسيأتي في التفسير 30: 188 (بولاق) بغير هذه الرواية، وهي: تُدْلِي بِوُدٍّ إذَا لاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أُغَيِّبْ فأنت الهَامِزُ اللُّمَزَهْ وهي رواية ابن السكيت، وابن فارس، والطبري بعد، ورواية ابن دريد، وصاحب اللسان، وابن دريد. إذَا لَقِيتُكَ عن شَحْطٍ تُكَاشِرُني وقوله: "وإن أغيب" بالبناء للمجهول، لا كما ضبط في مجاز القرآن. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 301 16813- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، قال: يروزك. (1) 16814- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، يروزك ويسألك، (2) قال ابن جريج: وأخبرني داود بن أبي عاصم قال: قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت. قال: ورآه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل؟ فنزلت هذه الآية. 16815- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، يقول: ومنهم من يطعُنُ عليك في الصدقات. وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديثَ عهدٍ بأعرابيّةٍ، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبًا وفضة، فقال: يا محمد، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل، ما عدلت! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! فمن ذا يعدل عليك بعدي! ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه، إنما أنا خازن. 16816- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، قال: يطعن. 16817- ...... قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري   (1) "رازه يروزه روزًا"، اختبره وامتحنه، وقد ذكر هذا الخبر في المعاجم من كلام مجاهد، وفسروه فقالوا: "يقال: رزت ما عند فلان، إذا اختبرته وامتحنته. والمعنى: يمتحنك ويذوق أمرك، هل تخاف لائمته أم لا". (2) "رازه يروزه روزًا"، اختبره وامتحنه، وقد ذكر هذا الخبر في المعاجم من كلام مجاهد، وفسروه فقالوا: "يقال: رزت ما عند فلان، إذا اختبرته وامتحنته. والمعنى: يمتحنك ويذوق أمرك، هل تخاف لائمته أم لا". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 302 عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قَسْمًا، إذ جاءه ابن ذي الخُوَيْصِرَة التميمي، (1) فقال: اعدل، يا رسول الله! فقال: ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه! قال: دَعْه، فإن له أصحابًا يحتقر أحدكم صلاته مع صَلاتهم، (2) وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، (3) فينظر في قُذَذَه فلا ينظر شيئًا، (4) ثم ينظر في نَصْله، فلا يجد شيئًا، ثم ينظر في رِصَافه فلا يجد شيئًا، (5) قد سبق الفَرْثَ والدم، (6) آيتهم رجل، أسود، (7) إحدى يده = أو قال: يديه = مثل ثدي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرُ، (8) يخرجون على حين فترة من الناس. قال: فنزلت: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) = قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليًّا رحمة الله عليه حين، قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (9) 16817م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في   (1) في مسلم والبخاري "ذو الخويصرة"، ليس فيها (ابن) ، وهذا هو المعروف المشهور. (2) في المطبوعة: " يحقر "، وهي كذلك في رواية الخبر في الصحيحين، ولكن هكذا جاءت في المخطوطة. (3) "مرق السهم من الرمية"، خرج من الجانب الآخر خروجًا سريعًا. و "الرمية"، المرمية، يعني الصيد المرمي بالسهم ونحوه. (4) "القذذ" جمع "قذة" (بضم القاف) ، وهي ريش السهم. (5) "الرصاف" جمع "رصفة" (بفتحات) ، وهي العقبة التي تلوى على موضع الفوق من السهم. (6) "الفرث"، سرجين الدابة، ما دام في كرشها. (7) "الآية"، العلامة. (8) "البضعة" القطعة من اللحم. "تدردر"، "تتدردر"، أي: تضطرب. (9) الأثر: 16817 - هذا حديث صحيح الإسناد، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 6: 455) ومسلم في صحيحه 7: 165، من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وجاء الخبر من طرق صحاح كثيرة، انظر شرح البخاري، وصحيح مسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 303 قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) ، قال: هؤلاء المنافقون، قالوا: والله ما يعطيها محمد إلا من أحبَّ، ولا يؤثر بها إلا هواه! فأخبر الله نبيه، وأخبرهم أنه إنما جاءت من الله، وإن هذا أمر من الله ليس من محمد: (إنما الصدقات للفقراء) ، الآية. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أنّ هؤلاء الذين يلمزونك، يا محمد، في الصدقات، رضَوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء، وقسم لهم من قسم = (وقالوا حسبنا الله) ، يقول: وقالوا: كافينا الله، (1) = (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) ، يقول: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقة وغيرها (2) = (إنا إلى الله راغبون) ، يقول: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم. * * *   (1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "آتى" و "فضل" في فهارس اللغة (آتى) ، (فضل) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 304 القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما الصدقات إلا للفقراء والمساكين، (1) ومن سماهم الله جل ثناؤه. * * * ثم اختلف أهل التأويل في صفة "الفقير" و"المسكين". فقال بعضهم: "الفقير"، المحتاج المتعفف عن المسألة، و"المسكين"، المحتاج السائل. (2) * ذكر من قال ذلك: 16818- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: "الفقير"، الجالس في بيته = "والمسكين"، الذي يسعى. 16819- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، = قال: "المساكين"، الطوافون، و"الفقراء"، فقراء المسلمين. 16820- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن جرير بن حازم قال، حدثني رجل، عن جابر بن زيد: أنه سئل عن "الفقراء"، قال: "الفقراء"، المتعففون، و"المساكين"، الذين يسألون.   (1) في المطبوعة: "لا ينال الصدقات"، وهو كلام غير مستقيم، والصواب ما كان في المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءته. (2) انظر تفسير "المسكين" فيما سلف 13: 560، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 305 16821- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزريّ قال: سألت الزهري عن قوله: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: الذين في بيوتهم لا يسألون، و"المساكين"، الذين يخرجون فيسألون. (1) 16822- حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الوارث بن سعيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الفقير" الذي لا يسأل، و"المسكين"، الذي يسأل. 16823- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: "الفقراء"، الذين لا يسألون الناس، أهلُ حاجة (2) = و"المساكين"، الذين يسألون الناس. 16824- حدثنا الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الفقراء"، الذين لا يسألون، و"المساكين" الذين يسألون. * * * وقال آخرون: "الفقير"، هو ذو الزمانة من أهل الحاجة، و"المسكين"، هو الصحيح الجسم منهم. (3) * ذكر من قال ذلك: 16825- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: "الفقير"، من به زَمانة = و"المسكين"، الصحيح المحتاج.   (1) الأثر: 16821 - "معقل بن عبيد الله الجزري العبسي، الحراني"، ثقة، ليس به بأس. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 1 \ 393، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 286. وكان في المطبوعة: "الحراني"، مكان "الجزري"، وهو صواب، ولكني أثبت ما كان في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "وهو أهل حاجة"، زاد ما ليس في المخطوطة. (3) في المطبوعة، أسقط "منهم". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 306 16826- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، أما "الفقير"، فالزَّمِن الذي به زَمانة، وأما "المسكين"، فهو الذي ليست به زمانة. * * * وقال آخرون: "الفقراء"، فقراء المهاجرين، و"المساكين"، من لم يهاجر من المسلمين، وهو محتاج. * ذكر من قال ذلك: 16827- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم، عن علي بن الحكم، عن الضحاك بن مزاحم: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: فقراء المهاجرين = و"المساكين"، الذين لم يهاجروا. (1) 16828- ...... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: (إنما الصدقات للفقراء) ، المهاجرين، قال: سفيان: يعني: ولا يعطى الأعراب منها شيئًا. 16829- حدثنا ابن وكيع قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان يقال: إنما الصدقة لفقراء المهاجرين. 16830- ...... قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين، وفي سبيل الله. 16831- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا (2) كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار، والزوجة، والعبد، والناقة يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهمًا في الزكاة. 16832- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا   (1) الأثر: 16827 - "علي بن الحكم البناني"، ثقة، له أحاديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 181. (2) في المطبوعة: "قال"، والصواب من المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 307 سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان يقال: إنما الصدقات في فقراء المهاجرين، وفي سبيل الله. * * * وقال آخرون: "المسكين"، الضعيف الكسب. (1) * ذكر من قال ذلك: 16833- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: قال عمر: ليس الفقير بالذي لا مال له، ولكن الفقير الأخلقُ الكسْب = قال يعقوب: قال ابن علية: "الأخلق"، المحارَفُ، عندنا. (2) 16834- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب عن ابن سيرين: أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ليس المسكين بالذي لا مال له، ولكن المسكين الأخلقُ الكسْبِ. * * * وقال بعضهم: "الفقير"، من المسلمين، و"المسكين" من أهل الكتاب. * ذكر من قال ذلك: 16835- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عمر بن نافع قال: سمعت عكرمة في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: لا تقولوا لفقراء المسلمين "مساكين"، إنما "المساكين"، مساكين أهل الكتاب. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: "الفقير"،   (1) في المطبوعة: "الضعيف البئيس"، لم يحسن قراءة المخطوطة، وكان فيها: " النسب "، وهو تحريف، دل على صوابه الآثار التالية. (2) أراد عمر: أن الفقير، هو الذي لم يقدم لآخرته شيئًا يثاب عليه، وأن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة، وأن فقر الدنيا أهون الفقرين. و "الأخلق" من قولهم: "هضبة خلقاء"، ملساء لا نبات بها. وللجبل المصمت الذي لا يؤثر فيه شيء "أخلق". وفي حديث فاطمة بنت قيس: "أما معاوية، فرجل أخلق من المال"، أي: خلو عار منه. وأما "المحارف"، كما فسره ابن علية، فهو المنقوص الحظ، فهو محدود محروم، إذا طلب الرزق لم يرزق، ضد " المبارك ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 308 هو ذو الفقر أو الحاجة، ومع حاجته يتعفّف عن مسألة الناس والتذلل لهم، في هذا الموضع = و"المسكين" هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، وإن كان الفريقان لم يُعْطَيا إلا بالفقر والحاجة، دون الذلة والمسألة، (1) لإجماع الجميع من أهل العلم أن "المسكين"، إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر، وأن معنى "المسكنة"، عند العرب، الذلة، كما قال الله جل ثناؤه: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) ، [سورة البقرة: 61] ، يعني بذلك: الهون والذلة، لا الفقر. فإذا كان الله جل ثناؤه قد صنَّف من قسم له من الصدقة المفروضة قسمًا بالفقر، فجعلهم صنفين، كان معلومًا أن كل صنف منهم غير الآخر. وإذ كان ذلك كذلك، كان لا شك أن المقسوم له باسم "الفقير"، غير المقسوم له باسم الفقر و"المسكنة"، والفقير المعطَى ذلك باسم الفقير المطلق، هو الذي لا مسكنة فيه. والمعطى باسم المسكنة والفقر، هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذلّ بالطلب والمسألة. = فتأويل الكلام، إذ كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء: المتعفِّف منهم الذي لا يسأل، والمتذلل منهم الذي يسأل. * * * وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبَرٌ. 16836- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالذي تردّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين المتعفف! اقرءوا إن شئتم: (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) ، (2) [سورة البقرة: 273] .   (1) في المطبوعة: "الذل والمسكنة"، والصواب ما في المخطوطة، ولم يحسن قراءتها. (2) الأثر: 16836 - "إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري" روى له الجماعة، مضى برقم: 6884، 8398. و" شريك بن أبي نمر "، هو " شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي " ثقة، روى له البخاري ومسلم، مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 2 \ 237، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 363. وهذا الخبر رواه البخاري من طريق محمد بن جعفر عن شريك بن أبي نمر (الفتح 8: 152) ، ورواه مسلم في الصحيح من طريق إسماعيل بن جعفر، عن شريك، ومن طريق محمد بن جعفر، عن شريك، عن عطاء بن يسار، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة (7: 129) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 309 ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما المسكين المتعفف" على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر "مساكين"، لا على تفصيل المسكين من الفقير. ومما ينبئ عن أن ذلك كذلك، انتزاعه صلى الله عليه وسلم بقول الله: (1) اقرءوا إن شئم: (لا يسألون الناس إلحافًا) ، وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) ، [سورة البقرة: 273] . * * * وقوله: (والعاملين عليها) ، وهم السعاة في قبضها من أهلها، ووضعها في مستحقِّيها، يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء. * * * وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16837- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري: عن "العاملين عليها"، فقال: السعاة. 16838- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (والعاملين عليها) ، قال: جُباتها الذين يجمعونها ويسعون فيها. 16839- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:   (1) في المطبوعة: "انتزاعًا لقول الله"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. يقال: "انتزع بالآية، وبالشعر"، إذا تمثل به. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 310 (والعاملين عليها) ، الذي يعمل عليها. * * * ثُمّ اختلف أهل التأويل في قدر ما يعطى العامل من ذلك. فقال بعضهم: يعطى منه الثُّمُن. * ذكر من قال ذلك: 16840- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن جويبر، عن الضحاك قال: للعاملين عليها الثمن من الصدقة. 16841- حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (والعاملين عليها) ، قال: يأكل العمال من السهم الثامن. * * * وقال آخرون: بل يعطى على قدر عُمالته. * ذكر من قال ذلك: 16842- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الأخضر بن عجلان قال، حدثنا عطاء بن زهير العامري، عن أبيه: أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الصدقة: أيُّ مالٍ هي؟ فقال: مالُ العُرْجان والعُوران والعميان، وكل مُنْقَطَع به. (1) فقال له: إن للعاملين حقًّا والمجاهدين! قال: إن المجاهدين قوم أحل لهم، والعاملين عليها على قدر عُمالتهم. (2) ثم قال: لا تحل الصدقة لغنيّ، ولا لذي مِرَّة سويّ (3)   (1) "منقطع به" (بالبناء للمجهول) ، هو الرجل إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت، أو قامت عليه راحلته، أو أتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه. يقال: "قطع به"، و "انقطع به". (2) في المطبوعة: " وللعاملين "، وأثبت ما في المخطوطة. (3) الأثر: 16842 - " عبد الوهاب بن عطاء الخفاف "، ثقة، مضى برقم: 5429، 5432، 10522. و"الأخضر بن عجلان الشيباني"، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 67. و" عطاء بن زهير بن الأصبغ العامري "، روى عن أبيه، روى عنه شميط، والأخضر بن عجلان، هكذا ذكره ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 332، ولم أجد له ترجمة في غيره. وأبوه: " زهير بن الأصبغ العامري "، روى عن عبد الله بن عمرو، روى عنه ابنه عطاء. مترجم في الكبير 2 \ 1 \ 392، وابن حاتم 1 \ 2 \ 587، ولم يذكرا فيه جرحًا. وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 252، ولم ينسبه إلا إلى أبي الشيخ، وفيه "عبد الله بن عمر"، وهو خطأ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 311 16843- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: يكون للعامل عليها إن عمل بالحق، ولم يكن عمر رحمه الله تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن، إنما يفرضون له بقدر عُمالته. 16844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: (والعاملين عليها) ، قال: كان يعطى العاملون. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: يعطى العامل عليها على قدر عُمالته وأجر مثله. وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم، وإنما عرّف خلقه أن الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم، وإذ كان كذلك، بما سنوضح بعدُ، وبما قد أوضحناه في موضع آخر، كان معلومًا أن من أعطي منها حقًّا، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطى فيه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله، لا على الحاجة التي تزول بالعطية، كان معلومًا أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عِوَض من سعيه وعمله، وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضًا من عمله الذي لا يزول بالعطية، وإنما يزول بالعزل. * * * وأما "المؤلفة قلوبهم"، فإنهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 312 والأقرع بن حابس، ونظرائهم من رؤساء القبائل. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16845- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والمؤلفة قلوبهم) ، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضَخ لهم من الصدقات، (1) فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح! وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه. 16846- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، (2) حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير: أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية: أبو سفيان بن حرب = ومن بني مخزوم: الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن يربوع = ومن بني جُمَح: صفوان بن أمية = ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى = ومن بني أسد بن عبد العزى: حكيم بن حزام = ومن بني هاشم: سفيان بن الحارث بن عبد المطلب = ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر = ومن بني تميم: الأقرع بن حابس = ومن بني نصر: مالك بن عوف = ومن بني سليم: العباس بن مرداس = ومن ثقيف: العلاء بن حارثة = أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مئة ناقة، إلا عبد الرحمن بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كلَّ رجل منهم خمسين. 16847- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا   (1) "رضخ له من ماله رضيخة"، أعطاه عطية مقاربة، ليست بالكثيرة، وأصله من "الرضخ"، وهو كسر النوى وغيره، كأنه كسر له من ماله شيئا. (2) في المطبوعة: "حدثنا عبد الأعلى"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وهذا إسناد دائر في التفسير وشيخ الطبري "محمد بن عبد الأعلى". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 313 عيسى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال، قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما بَرِح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليّ. (1) 16848- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ناس كان يتألفهم بالعطية، عيينة بن بدر ومن كان معه. 16849- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن: (والمؤلفة قلوبهم) ،: الذين يُؤَلَّفون على الإسلام. 16850- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وأما "المؤلفة قلوبهم"، فأناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا. 16851- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري عن قوله: (والمؤلفة قلوبهم) ، فقال: من أسلم من يهوديّ أو نصراني. قلت: وإن كان غنيًّا؟ قال: وإن كان غنيًّا. 16852- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري، عن الزهري: (والمؤلفة قلوبهم) ، قال: من هو يهوديّ أو نصرانيّ. (2)   (1) الأثر: 16847 - رواه مسلم في صحيحه 15: 72، 73، مطولا من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية. ورواه أحمد في مسنده 3: 401 من طريق زكريا بن عدي، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان، (هكذا جاء هنا في المسند) ، والصواب ما سيأتي في المسند 6: 465، من طريق زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب. (2) الأثر: 16852 - " معقل بن عبيد الله الجزري "، مضى قريبًا برقم: 16821، وكان في المطبوعة هنا أيضًا "الحراني"، مكان "الجزري"، وهو صواب، ولكني أثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 314 ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها، وهل يعطى اليوم أحدٌ على التألف على الإسلام من الصدقة؟ فقال بعضهم: قد بطلت المؤلفة قلوبهم اليوم، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها، وفي سبيل الله، أو لعامل عليها. * ذكر من قال ذلك: 16853- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: (والمؤلفة قلوبهم) ، قال: أما "المؤلفة قلوبهم" فليس اليوم. 16854- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 16855- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: وأتاه عيينة بن حصن: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، [سورة الكهف: 29] ، أي: ليس اليوم مؤلفة. 168856- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن قال: ليس اليوم مؤلفة. 16857- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر رحمة الله تعالى عليه، انقطعت الرشى. * * * وقال آخرون: "المؤلفة قلوبهم"، في كل زمان، وحقهم في الصدقات. * ذكر من قال ذلك: 16858- حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 315 إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: في الناس اليوم، المؤلفة قلوبهم. 16859- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، مثله. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سدُّ خَلَّة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يُعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونةً للدين. وذلك كما يعطى الذي يُعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيًّا كان أو فقيرًا، للغزو، لا لسدّ خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحًا بإعطائهموه أمرَ الإسلام وطلبَ تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله. فلا حجة لمحتجّ بأن يقول: "لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم"، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت. * * * وأما قوله: (وفي الرقاب) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه. فقال بعضهم، وهم الجمهور الأعظم: هم المكاتبون، يعطون منها في فك رقابهم. (1) * ذكر من قال ذلك: 16860- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسين: أن مكاتبًا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله تعالى وهو يخطب الناسَ يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير، حُثَّ الناس عليَّ! فحثَّ   (1) انظر تفسير " الرقاب " فيما سلف 3: 347 \ 9: 35، 36 \ 10: 552 - 557. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 316 عليه أبو موسى، فألقى الناسُ عليه عمامة وملاءة وخاتمًا، حتى ألقوا سَوادًا كثيرًا، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه! فجمع، ثم أمر به فبيع. فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرده على الناس، وقال: إنما أعطي الناسُ في الرقاب. 16861- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال، سألت الزهري عن قوله: (وفي الرقاب) ، قال: المكاتَبون. 16862- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وفي الرقاب) ، قال: المكاتَب. 16863- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: (وفي الرقاب) ، قال: هم المكاتبون. * * * وروي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن تُعْتَقَ الرقبة من الزكاة. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من قال: "عنى بالرقاب، في هذا الموضع، المكاتبون"، لإجماع الحجة على ذلك، فإن الله جعل الزكاة حقًّا واجبًا على من أوجبها عليه في ماله، يخرجها منه، لا يرجع إليه منها نفعٌ من عرض الدنيا، ولا عِوَض. والمعتق رقبةً منها، راجع إليه ولاء من أعتقه، وذلك نفع يعود إليه منها. * * * وأما "الغارمون"، فالذين استدانوا في غير معصية الله، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عَرَض. * * * وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 317 16864- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: "الغارمون"، من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه، ويدَّانُ على عياله، فهذا من الغارمين. 16865- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في قوله: (والغارمين) ، قال: من احترق بيته، وذهب السيل بماله، وادَّان على عياله. 16866- حدثنا أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "الغارمين"، المستدين في غير سَرَف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال. 16867- ...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألنا الزهري عن "الغارمين"، قال: أصحاب الدين. 16868- ...... قال، حدثنا معقل، عن عبد الكريم قال، حدثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أن يُعْطى الغارمون = قال أحمد: أكثر ظني: من الصدقات. 16869- ...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "الغارمون"، المستدين في غير سرف. 16870- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أما "الغارمون"، فقوم غرَّقتهم الديون في غير إملاق، (1) ولا تبذير ولا فساد. 16871- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "الغارم"، الذي يدخل عليه الغُرْم. 16872- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (والغارمين) ، قال: هو الذي يذهب السيل والحريق بماله، ويدَّان على عياله.   (1) " الإملاق " هنا هو: إنفاق المال وتبذيره حتى يورث حاجة، و " الإملاق " أيضًا: الإفساد. وانظر ما سلف في الخبر رقم: 6233، ج 5: 602، تعليق: 2. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 318 16873- ...... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: المستدين في غير فساد. 16874- ...... قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: "الغارمون"، الذين يستدينون في غير فساد، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم. 16875- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير، فجعل الله لهم في هذه الآية سهمًا. * * * وأما قوله: (وفي سبيل الله) ، فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده، بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار. (1) * * * وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16876- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وفي سبيل الله) ، قال: الغازي في سبيل الله. 16877- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدَّق عليه فأهداها له. (2)   (1) انظر تفسير " سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (2) الأثر: 16877 - رواه أبو داود في سننه 2: 158، رقم: 1635 من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، موقوفًا، ثم رواه برقم: 1636، من طريق معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا. ورواه ابن ماجه في سننه: 589، رقم: 1841، مرفوعًا، بنحوه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 319 16878- ...... قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة: في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار فتصدق عليه، فأهداها له. (1) * * * وأما قوله: (وابن السبيل) ، فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد. * * * و"السبيل": الطريق، (2) وقيل للضارب فيه: "ابن السبيل"، للزومه إياه، كما قال الشاعر: (3) أنَا ابنُ الحَرْبِ رَبَّتْنِي وَلِيدًا ... إلَى أنْ شِبْتُ واكْتَهَلَتْ لِدَاتِي وكذلك تفعل العرب، تسمي اللازم للشيء يعرف به: "ابنه". (4) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16879- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "ابن السبيل"، المجتاز من أرض إلى أرض. 16880- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا   (1) الأثر: 16878 - "عطية" هو "عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، ضعيف، مضى مرارًا. وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه 2: 160، رقم: 1637، من طريق سفيان، عن عمران البارقي، عن عطية، بنحوه، ثم قال أبو داود: "ورواه فراس، وابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله". وهو حديث ضعيف لضعف "عطية العوفي". (2) انظر تفسير "السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . = وتفسير " ابن السبيل " فيما سلف 3: 345 \ 4: 295 \ 8: 346 - 347. (3) لم أعرف قائله. (4) في المطبوعة والمخطوطة: "يعرف بابنه"، وهو لا يستقيم، صوابه ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 320 مندل، عن ليث، عن مجاهد: (وابن السبيل) ، قال: لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنيًّا، إذا كان مُنْقَطَعًا به. 16881- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري عن "ابن السبيل"، قال: يأتي عليَّ ابن السبيل، وهو محتاج. قلت: فإن كان غنيًّا؟ قال: وإن كان غنيًا. 16882- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وابن السبيل) ، الضيف، جعل له فيها حق. 16883- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال [ابن زيد] : "ابن السبيل"، المسافر من كان غنيًّا أو فقيرًا، إذا أصيبت نفقته، أو فقدت، أو أصابها شيء، أو لم يكن معه شيء، فحقه واجب. (1) 16884- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، أنه قال: في الغني إذا سافر فاحتاج في سفره. قال: يأخذ من الزكاة. 16885- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "ابن السبيل"، المجتاز من الأرض إلى الأرض. * * * وقوله: (فريضة من الله)) ، يقول جل ثناؤه: قَسْمٌ قسمه الله لهم، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم (2) = (والله عليم) ، بمصالح خلقه فيما فرض لهم، وفي غير ذلك، لا يخفى عليه شيء. فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة = (حكيم) ، في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل. (3)   (1) الأثر: 16883 - في المطبوعة والمخطوطة: " قال قال ابن السبيل ". والزيادة بين القوسين من إسناده قبل، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم 16876. (2) انظر تفسير " الفريضة " فيما سلف 9: 212، تعليق:، والمرجع هناك. (3) انظر تفسير "عليم" و "حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 321 واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حق، أو ذلك إلى رب المال؟ ومن يتولى قسمها، في أن له أن يعطي جميعَ ذلك من شاء من الأصناف الثمانية. فقال عامة أهل العلم: للمتولي قسمُها ووضعُها في أيِّ الأصناف الثمانية شاء. وإنما سمَّى الله الأصناف الثمانية في الآية، إعلامًا منه خلقَه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها، لا إيجابًا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم. * ذكر من قال ذلك: 16886- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن الحجاج بن أرطاة، عن المنهال بن عمرو، عن زرّ بن حبيش، عن حذيفة في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) ، قال: إن شئت جعلته في صنف واحد، أو صنفين، أو لثلاثة. 16887- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن المنهال، عن زر، عن حذيفة قال: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك. 16888- ...... قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن عطاء، عن عمر: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: أيُّما صنف أعطيته من هذا أجزأك. 16889- ...... قال، حدثنا ابن نمير، عن عبد المطلب، عن عطاء: (إنما الصدقات للفقراء) ، الآية، قال: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك. ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعفِّفين فجبرتهم بها، كان أحبَّ إليَّ. 16890- ...... قال أخبرنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... وابن السبيل) ، فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 322 16891- ...... قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. 16892- ...... قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) ، قال: إنما هذا شيء أعلمَهُ، فأيَّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك. 16893- ...... قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك. 16894- ...... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك. 16895- ...... قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك. 16896- ...... قال، حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد، عن جعفر بن يرقان، عن ميمون بن مهران: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك. (1) 16897- ...... قال، حدثنا محمد بن بشر، عن مسعود، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، الآية، قال: أعلمَ أهلَها مَنْ همْ. 16898- ...... قال، حدثنا حفص، عن ليث، عن عطاء، عن عمر: أنه كان يأخذ الفرْض في الصدقة، ويجعلها في صنف واحد. * * * وكان بعض المتأخرين يقول: إذا تولى رب المال قَسْمها كان عليه وضعها في ستة أصناف، وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا، وأنّ سهم العاملين   (1) الأثر: 16896 - " خالد بن حيان الرقي "، أبو يزيد الكندي الخراز، ثقة، متكلم فيه، مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 133، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 326. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 323 يبطل بقسمه إياها. ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطي من كل صنف أقل من ثلاثة أنفس. وكان يقول: إن تولى قَسْمها الإمامُ، كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف، لا يجزي عنده غير ذلك. * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه (1) = (ويقولون هو أذن) ، سامعةٌ، يسمع من كل أحدٍ ما يقول فيقبله ويصدِّقه. * * * وهو من قولهم: "رجل أذنة"، مثل "فعلة" (2) إذا كان يسرع الاستماع والقبول، كما يقال: "هو يَقَن، ويَقِن" إذا كان ذا يقين بكل ما حُدِّث. وأصله من "أذِن له يأذَن"، إذا استمع له. ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أذِن الله لشيء كأذَنِه لنبيّ يتغنى بالقرآن"، (3) ومنه قول عدي بن زيد:   (1) انظر تفسير "الأذى" فيما سلف 8: 84 - 86، وص: 85، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة: "رجل أذنة مثل فعلة"، وهذا شيء لم أعرف ضبطه، ولم أجد له ما يؤيده في مراجع اللغة، والذي فيها أنه يقال: "رجل أذن" (بضم فسكون) و "أذن" (بضمتين) ، ولا أدري أهذه على وزن "فعلة" (بضم ففتح) : "همزة" و "لمزة"، أم على نحو وزن غيره. وأنا في ارتياب شديد من صواب ما ذكره هنا، وأخشى أن يكون سقط من الناسخ شيء، أو أن يكون حرف الكلام. (3) هذا الحديث، استدل به بغير إسناد، وهو حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه (6: 78، 79) من حديث أبي هريرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 324 أَيُّها القَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَنْ ... إنَّ هَمِّي فِي سَمَاعِ وَأَذَنْ (1) وذكر أن هذه الآية نزلت في نبتل بن الحارث. (2) 16899- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، ذكر الله غشَّهم (3) = يعني: المنافقين = وأذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ومنهم الذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أذن) ، الآية. وكان الذي يقول تلك المقالة، فيما بلغني، نبتل بن الحارث، أخو بني عمرو بن عوف، وفيه نزلت هذه الآية، وذلك أنه قال: "إنما محمد أذُنٌ! من حدّثه شيئًا صدّقه! "، يقول الله: (قل أذن خير لكم) ، أي: يسمع الخير ويصدِّق به. (4) * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: (قل أذن خير لكم) . فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) ، بإضافة "الأذن" إلى "الخير"، يعني: قل لهم، يا محمد: هو أذن خير، لا أذن شرٍّ. * * * وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) ، بتنوين "أذن"، ويصير "خير" خبرًا له، بمعنى: قل: من يسمع منكم، أيها المنافقون، ما تقولون ويصدقكم، إن كان محمد كما وصفتموه، من أنكم إذا أتيتموه، فأنكرتم (5) ما ذكر له عنكم من أذاكم إياه وعيبكم له، سمع منكم وصدقكم = خيرٌ   (1) أمالي الشريف المرتضى 1: 33، واللسان (أذن) و (ددن) ، و "الدد" (بفتح الدال) و "الددن"، اللهو. و "السماع"، الغناء، والمغنية يقال لها "المسمعة". (2) في المخطوطة والمطبوعة: " في ربيع بن الحارث "، وهو خطأ محض، لا شك فيه. (3) في المطبوعة: "ذكر الله عيبهم"، أخطأ، والصواب ما في المخطوطة، وسيرة ابن هشام. (4) الأثر: 16899 - سيرة ابن هشام 4: 195، وهو تابع الأثر السلف رقم: 16783، وانظر خبر نبتل بن الحارث أيضًا في سيرة ابن هشام 2: 168. (5) في المطبوعة: "إذا آذيتموه فأنكرتم"، وهو كلام لا معنى له، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 325 لكم من أن يكذبكم ولا يقبل منكم ما تقولون. ثم كذبهم فقال: بل لا يقبل إلا من المؤمنين = (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءةُ من قرأ: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) ، بإضافة "الأذن" إلى "الخير"، وخفض "الخير"، يعني: قل هو أذن خير لكم، لا أذن شر. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16900- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) ، يسمع من كل أحد. 16901- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) ، قال: كانوا يقولون: "إنما محمد أذن، لا يحدَّث عنا شيئًا، إلا هو أذن يسمع ما يقال له". 16902- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويقولون هو أذن) ، نقول ما شئنا، ونحلف، فيصدقنا. 16903- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (هو أذن) ، قال: يقولون: "نقول ما شئنا، ثم نحلف له فيصدقنا". 16904- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 444. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 326 وأما قوله: (يؤمن بالله) ، فإنه يقول: يصدِّق بالله وحده لا شريك له. وقوله: (ويؤمن للمؤمنين) ، يقول: ويصدق المؤمنين، لا الكافرين ولا المنافقين. وهذا تكذيب من الله للمنافقين الذين قالوا: "محمد أذن! "، يقول جل ثناؤه: إنما محمد صلى الله عليه وسلم مستمعُ خيرٍ، يصدِّق بالله وبما جاءه من عنده، ويصدق المؤمنين، لا أهل النفاق والكفر بالله. * * * وقيل: (ويؤمن للمؤمنين) ، معناه: ويؤمن المؤمنين، لأن العرب تقول فيما ذكر لنا عنها: "آمنتُ له وآمنتُه"، بمعنى: صدّقته، كما قيل: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) ، [سورة النمل: 72] ، ومعناه: ردفكم = وكما قال: (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [سورة الأعراف: 154] ، ومعناه: للذين هم ربّهم يرهبون. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16905- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال: حدثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) ، يعني: يؤمن بالله، ويصدق المؤمنين. * * * وأما قوله: (ورحمة للذين آمنوا منكم) ، فإن القرأة اختلفت في قراءته، فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، بمعنى: قل هو   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 444. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 327 أذن خير لكم، وهو رحمة للذين آمنوا منكم = فرفع "الرحمة"، عطفًا بها على "الأذن". * * * وقرأه بعض الكوفيين: (وَرَحْمَةٍ) ، عطفا بها على "الخير"، بتأويل: قل أذن خير لكم، وأذن رحمة. (1) * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه: (وَرَحْمَةٌ) ، بالرفع، عطفًا بها على "الأذن"، بمعنى: وهو رحمة للذين آمنوا منكم. وجعله الله رحمة لمن اتبعه واهتدى بهداه، وصدَّق بما جاء به من عند ربه، لأن الله استنقذهم به من الضلالة، وأورثهم باتِّباعه جنّاته. * * * القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لهؤلاء المنافقين الذين يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: "هو أذن"، وأمثالِهم من مكذِّبيه، والقائلين فيه الهُجْرَ والباطل، (2) عذابٌ من الله موجع لهم في نار جهنم. (3) * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 444. (2) انظر تفسير "الأذى" فيما سلف ص: 324، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير "أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 328 القول في تأويل قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: يحلف لكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون بالله، ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وذكرِهم إياه بالطعن عليه والعيب له، ومطابقتهم سرًّا أهلَ الكفر عليكم = بالله والأيمان الفاجرة: أنهم ما فعلوا ذلك، وإنهم لعلى دينكم، ومعكم على من خالفكم، يبتغون بذلك رضاكم. يقول الله جل ثناؤه: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ، بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا = (إن كانوا مؤمنين) ، يقول: إن كانوا مصدِّقين بتوحيد الله، مقرِّين بوعده ووعيده. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16906- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) ، الآية، ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقًّا، لهم شَرٌّ من الحمير! قال: فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد حق، ولأنت شر من الحمار! فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال له: ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتَعنُ، ويحلف بالله ما قال ذلك. (1) قال: وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدِّق الصادق، وكذِّب   (1) "التعن الرجل"، إذا أنصف في الدعاء على نفسه، أو لعن نفسه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 329 الكاذب! فأنزل الله في ذلك: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) . * * * القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون بالله كذبًا للمؤمنين ليرضوهم، وهم مقيمون على النفاق، أنه من يحارب الله ورسوله، ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما = (فأن له نار جهنم) ، في الآخرة = (خالدًا فيها) ، يقول: لابثًا فيها، مقيمًا إلى غير نهاية؟ (1) = (ذلك الخزي العظيم) ، يقول: فلُبْثُه في نار جهنم وخلوده فيها، هو الهوان والذلُّ العظيم. (2) * * * وقرأت القرأة: (فَأَنَّ) ، بفتح الألف من "أن" بمعنى: ألم يعلموا أنَّ لمن حادَّ الله ورسوله نارُ جهنم = وإعمال "يعلموا" فيها، كأنهم جعلوا "أن" الثانية مكررة على الأولى، واعتمدوا عليها، إذ كان الخبر معها دون الأولى. * * * وقد كان بعض نحويي البصرة يختار الكسر في ذلك، على الابتداء، بسبب دخول "الفاء" فيها، وأن دخولها فيها عنده دليلٌ على أنها جواب الجزاء، وأنها إذا كانت للجزاء جوابًا، (3) كان الاختيار فيها الابتداء. * * *   (1) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (2) انظر تفسير "الخزي" فيما سلف ص: 160، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) في المطبوعة: "إذا كانت جواب الجزاء"، وفي المخطوطة: "إذا كانت الجواب جزاء"، والصواب ما أثبت، إنما أخطأ الناسخ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 330 قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها فتح الألف في كلام الحرفين، أعني "أن" الأولى والثانية، لأن ذلك قراءة الأمصار، وللعلة التي ذكرت من جهة العربية. * * * القول في تأويل قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم (1) = (سورة تنبئهم بما في قلوبهم) ، يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. (2) * * * وقيل: إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا شيئًا من أمره وأمر المسلمين، قالوا: "لعل الله لا يفشي سِرَّنا! "، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: (استهزءوا) ، متهددًا لهم متوعدًا: (إن الله مخرج ما تحذرون) . * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16907- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) ، قال: يقولون القول بينهم، ثم يقولون: "عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا! ". 16908- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،   (1) انظر تفسير "الحذر" فيما سلف 10: 575. (2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف 13: 252، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 331 عن ابن جريج، عن مجاهد مثله = إلا أنه قال: سِرَّنا هذا. * * * وأما قوله: (إن الله مخرجٌ ما تحذرون) ، فإنه يعني به: إن الله مظهر عليكم، أيها المنافقون ما كنتم تحذرون أن تظهروه، فأظهر الله ذلك عليهم وفضحهم، (1) فكانت هذه السورة تدعَى: (الفَاضِحَةَ) . 16909- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت تسمَّى هذه السورة: (الفَاضِحَةَ) ، فاضحة المنافقين. * * * القول في تأويل قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) } قال أبو جعفر: يقول تعالى جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن سألت، يا محمد، هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب، ليقولن لك: إنما قلنا ذلك لعبًا، وكنا نخوض في حديثٍ لعبًا وهزؤًا! (2) يقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون؟ وكان ابن إسحاق يقول: الذي قال هذه المقالة: كما:- 16910- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذي قال هذه المقالة فيما بلغني، وديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد، من بني عمرو بن عوف. (3) * * *   (1) انظر تفسير "الإخراج" فيما سلف 2: 228 \ 12: 211. (2) انظر تفسير "الخوض" فيما سلف 11: 529، تعليق: 3، والمراجع هناك. = وتفسير "اللعب" فيما سلف 11: 529، تعليق: 4، والمراجع هناك. = وتفسير "الاستهزاء" فيما سلف 11: 262، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) الأثر: 16910 - سيرة ابن هشام 4: 195، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16899. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 332 16911- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم: أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقُرَّائنا هؤلاء أرغبُنا بطونًا وأكذبُنا ألسنةً، وأجبُننا عند اللقاء! فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه = قال زيد (1) قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبُهُ الحجارة، (2) يقول: (إنما كنا نخوض ونلعب) ! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن) ؟ ما يزيده. (3) 16912- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبتَ، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال زيد"، بالفاء، والسياق يقتضي إسقاطها. (2) "الحقب" (بفتحتين) : حبل يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله، لئلا يؤذيه التصدير، أو يجتذبه التصدير فيقدمه. و "نكبته الحجارة"، لثمت الحجارة رجله وظفره، أي نالته وآذته وأصابته. (3) الأثر: 16911 - "هشام بن سعد المدني"، ثقة، متكلم في، مضى برقم: 5490، 11704، 12821. " زيد بن أسلم العدوي" الفقيه، روى عن عبد الله بن عمر، روى له جماعة، مضى مرارًا كثيرة وسيأتي الخبر الذي يليه، من طريق ابن وهب، عنه. وهذا إسناد صحيح. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 333 تَنْكُبه الحجارة، وهو يقول: "يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! "، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) . (1) 16913- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة في قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، إلى قوله: (بأنهم كانوا مجرمين) ، قال: فكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: "اللهم إني أسمع آية أنا أعْنَى بها، تقشعرُّ منها الجلود، وتَجِبُ منها القلوب، (2) اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحدٌ: أنا غسَّلت، أنا كفَّنت، أنا دفنت"، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما من أحدٌ من المسلمين إلا وُجد غيره. 16914- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، الآية، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إلى تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: "يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها! هيهات هيهات"! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "احبسوا عليَّ الرَّكْب! (3) فأتاهم فقال: قلتم كذا، قلتم كذا. قالوا: "يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب"، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون. 16915- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ورَكْب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يظن هذا أن يفتح قصورَ الروم وحصونها! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه   (1) الأثر: 16912 - مكرر الأثر السالف، وهو صحيح الإسناد. (2) "وجب قلبه يجب وجيبًا"، خفق واضطرب. وكان في المطبوعة: "وتجل" باللام، كأنه يعني من "الوجل"، ولكنه لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. (3) في المطبوعة: "على هؤلاء الركب"، زاد "هؤلاء" لغير طائل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 334 وسلم على ما قالوا، فقال: عليّ بهؤلاء النفر! فدعاهم فقال: قلتم كذا وكذا! فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب! 16916- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرَّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء! فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كنا نخوض ونلعب! فقال: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) ، إلى قوله: (مجرمين) ، وإن رجليه لتنسفان الحجارة، (1) وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بنِسْعَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) 16917- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنما كنا نخوض ونلعب) ، قال: قال رجل من المنافقين: "يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، في يوم كذا وكذا! وما يدريه ما الغيب؟ ". 16918- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. * * *   (1) في المطبوعة: "ليسفعان بالحجارة"، غير ما كان في المخطوطة مسيئًا في فعله، والصواب ما في المخطوطة. "نسفت الناقة الحجارة والتراب في عدوها تنسفه نسفًا"، إذا أطارته، وكذلك يقال في الإنسان إذا اشتد عدوه. (2) "النسعة" (بكسر فسكون) : سير مضفور يجعل زمامًا للبعير، وقد تنسج عريضة تجعل على صدر البعير. ويقال للبطان والحقب: "النسعان". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 335 القول في تأويل قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الذين وصفت لك صفتهم: (لا تعتذروا) ، بالباطل، فتقولوا: (كنا نخوض ونلعب) = (قد كفرتم) ، يقول: قد جحدتم الحق بقولكم ما قلتم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به (1) = (بعد إيمانكم) ، يقول: بعد تصديقكم به وإقراركم به = (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) . (2) * * * وذكر أنه عُنِي: بـ "الطائفة"، في هذا الموضع، رجلٌ واحد. (3) وكان ابن إسحاق يقول فيما:- 16919- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذي عُفِي عنه، فيما بلغني مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي، (4) حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع. (5) 16920- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حبان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: (إن نعف عن طائفة منكم) ، قال: "طائفة"، رجل. * * *   (1) في المخطوطة: " يقول: لحم الحق "، وهي لا تقرأ، والذي في المطبوعة مقارب للصواب، فتركته على حاله. (2) انظر تفسير "العفو" فيما سلف من فهارس اللغة (عفا) . (3) انظر تفسير "الطائفة" فيما سلف 13: 398، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) في سيرة ابن هشام في هذا الموضع "مخشن بن حمير"، وقد أشار ابن هشام إلى هذا الاختلاف فيما سلف من سيرته، ابن هشام 4: 168. ولكني أثبت ما في المخطوطة. (5) الأثر: 16919 - سيرة ابن هشام 4: 195، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16910. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 336 واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: (إن نعف عن طائفة منكم) ، بإنكاره ما أنكر عليكم من قبل الكفر = (نعذب طائفة) ، بكفره واستهزائه بآيات الله ورسوله. * ذكر من قال ذلك: 16922- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال بعضهم: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث، يسير مجانبًا لهم، (1) فنزلت: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) ، فسُمِّي "طائفةً" وهو واحدٌ. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك. إن تتب طائفة منكم فيعفو الله عنه، يعذب الله طائفة منكم بترك التوبة. * * * وأما قوله: (إنهم كانوا مجرمين) ، فإن معناه: نعذب طائفة منهم باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله، وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) * * * القول في تأويل قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (المنافقون والمنافقات) ، وهم الذين يظهرون للمؤمنين الإيمانَ بألسنتهم، ويُسِرُّون الكفرَ بالله ورسوله (3) = (بعضهم   (1) في المطبوعة: "فيسير"، بالفاء، أثبت ما في المخطوطة. (2) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف 13: 408، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير "النفاق" فيما سلف 1: 234، 270، 273، 324 - 327، 346 - 363، 408، 409، 414 \ 4: 232، 233 \ 8: 513 \ 9: 7. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 337 من بعض) ، يقول: هم صنف واحد، وأمرهم واحد، في إعلانهم الإيمان، واستبطانهم الكفر = (يأمرون) مَنْ قبل منهم = (بالمنكر) ، وهو الكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به وتكذيبه (1) = (وينهون عن المعروف) ، يقول: وينهونهم عن الإيمان بالله ورسوله، وبما جاءهم به من عند الله (2) * * * وقوله: (ويقبضون أيديهم) ، يقول: ويمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل الله، ويكفُّونها عن الصدقة، فيمنعون الذين فرضَ الله لهم في أموالهم ما فرَض من الزكاة حقوقَهم، كما:- 16923- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ويقبضون أيديهم) ، قال: لا يبسطونها بنفقة في حق. 16924- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 16925- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 16926- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. 16927- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ويقبضون أيديهم) ، لا يبسطونها بخير. 16928- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ويقبضون أيديهم) ، قال: يقبضون أيديهم عن كل خير. * * *   (1) انظر تفسير "المنكر" فيما سلف 13: 165، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "المعروف" فيما سلف 13: 165، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 338 وأما قوله: (نسوا الله فنسيهم) ، فإن معناه: تركوا الله أن يطيعوه ويتبعوا أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته. * * * وقد دللنا فيما مضى على أن معنى "النسيان"، الترك، بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1) * * * وكان قتادة يقول في ذلك ما:- 16929- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، قتادة قوله: (نسوا الله فنسيهم) ، نُسُوا من الخير، ولم ينسوا من الشرّ. * * * قوله: (إن المنافقين هم الفاسقون) ، يقول: إن الذين يخادعون المؤمنين بإظهارهم لهم بألسنتهم الإيمانَ بالله، وهم للكفر مستبطنون، (2) هم المفارقون طاعةَ الله، الخارجون عن الإيمان به وبرسوله. (3) * * * القول في تأويل قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار) بالله = (نار جهنم) ، أن يصليهموها جميعًا = (خالدين فيها) ، يقول: ماكثين فيها أبدًا، لا يحيون فيها ولا يموتون (4) = (هي حسبهم) ، يقول: هي   (1) انظر تفسير "النسيان" فيما سلف 12: 475، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "النفاق" فيما سلف قريبا ص: 337، تعليق: 3، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص: 293، تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 339 كافيتهم عقابًا وثوابًا على كفرهم بالله (1) = (ولعنهم الله) ، يقول: وأبعدهم الله وأسحقهم من رحمته = (ولهم عذاب مقيم) ، يقول: وللفريقين جميعًا: يعني من أهل النفاق والكفر، عند الله = (عذابٌ مقيم) ، دائم، لا يزول ولا يبيد. (2) * * *   (1) انظر تفسير "حسب" فيما سلف ص: 403، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "مقيم" فيما سلف 10: 293، 294 \ 14: 172. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 340 القول في تأويل قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب) : أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزئون؟ = (كالذين من قبلكم) ، من الأمم الذين فعلوا فعلكم، فأهلكهم الله، وعجل لهم في الدنيا الخزي، مع ما أعدَّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة. يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم، فإنهم كانوا أشد منكم قوةً وبطشًا، وأكثر منكم أموالا وأولادًا = (فاستمتعوا بخلاقهم) ، يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم، (1) ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضًا من نصيبهم في الآخرة، (2)   (1) انظر تفسير "الاستمتاع" فيما سلف 12: 116، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "الخلاق" فيما سلف 2: 452 - 454 \ 4: 201 - 203 \ 6: 527، 528. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 340 وقد سلكتم، أيها المنافقون، سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم. يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم، كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، الذين أهلكتهم بخِلافهم أمري = (بخلاقهم) ، يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم = (وخضتم) ، في الكذب والباطل على الله = (كالذي خاضوا) ، يقول: وخضتم أنتم أيضًا، أيها المنافقون، كخوض تلك الأمم قبلكم. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16930- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتأخذُنَّ كما أخذ الأمم من قبلكم، ذراعًا بذراع، وشبرًا بشبر، وباعًا بباع، حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جُحر ضبٍّ لدخلتموه! = قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم القرآن: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) = قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟ (2) 16931- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،   (1) انظر تفسير "الخوض" فيما سلف ص: 332، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) الأثر: 16930 - إسناده ضعيف. "أبو معشر"، هو: "نجيج بن عبد الرحمن السندي"، منكر الحديث، مضى برقم: 1275. ولكن هذا الخبر له أصل في الصحيح، فقد رواه البخاري في صحيحه من طريق أحمد بن يونس، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة (الفتح 13: 254) ، بغير هذا اللفظ. يقال: "أخذ إخذ فلان"، إذا سار بسيرته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 341 عن ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: (كالذين من قبلكم) ، الآية قال، قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة! (كالذين من قبلكم) ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده لتَتَّبِعُنَّهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحْر ضبٍّ لدخلتموه. (1) 16932- ...... قال ابن جريج: وأخبرنا زياد بن سعد، عن محمد بن زيد بن مهاجر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لتتبعُن سَننَ الذين من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه! قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ أهلُ الكتاب! قال: فَمَهْ! (2)   (1) الأثر: 16931 - "عمر بن عطاء"، هذا الراوي عن عكرمة هو: "عمر بن عطاء بن وراز"، وهو ضعيف، ليس بشيء. قال أحمد: "روى ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، فهو: ابن وراز. وكل شيء روى ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن ابن عباس فهو ابن أبي الخوار"، فهما رجلان. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 13 \ 126، وميزان الاعتدال 2: 265. فهذا إسناد ضعيف أيضًا، ولكن له أصل في الصحيح، كما سلف من قبل. (2) الأثر: 16932 - هذا إسناد تابع للإسناد السالف، ولكني فصلته عنه، لأن الإسناد الأول قد تم برواية ابن جريج حديث ابن عباس، ثم انتقل إلى إسناد آخر إلى أبي هريرة. و"زياد بن سعد بن عبد الرحمن الخرساني"، وكان شريك ابن جريج، وهو ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 327، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 533. و"محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي القرشي"، ثقة، مضى برقم: 10521. فهذا خبر صحيح الإسناد. وأما قوله: "فمه"، فقد كتبها في المطبوعة: "فمن"، وهي في المخطوطة بالهاء واضحة عليها سكون، ويدل على صواب ذلك، اقتصار ابن جريج في الخبر التالي على ذكر "فمن"، دون ذكر الخبر، فهذا دال على أن الأولى مخالفة للثانية، لا مطابقة لها. واستعمال "مه" بمعنى الاستفهام، قد ذكر له صاحب اللسان في مادة "ما"، شاهدًا، ولكنه أساء في نقله عن ابن جني بعده، فلم يتبين ما أراد قبله. قال: "ما: حرف نفي، وتكون بمعنى الذي. . . وتكون موضوعة موضع: من، وتكون بمعنى الاستفهام وتبدل من الألف الهاء، فيقال: مه، قال الراجز: قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ ومِنْ هَاهُنَا وَمْنِ هُنَهْ إِنْ لَمْ أُرَوِّها فَمَهْ قال ابن جني: يحتمل، مه، هنا وجهين: أحدهما أن تكون: فمه، زجرًا منه، أي: فاكفف عني. ولست أهلا للعتاب = أو: فمه يا إنسان، يخاطب نفسه ويزجرها". قلت: وهذا تحكم من أبي الفتح بن جني، فإن سياق الرجز يوجب أن يكون معناه: إن لم أرو أنا هذا الإبل، فمن يرويها؟ وهو صريح معنى الاستدلال الذي ساقه صاحب اللسان، ولكنه أساء في البيان وقصر، وأساء في إردافه الكلام ما أردفه من كلام أبي الفتح. وهذا الخبر الذي رواه ابن جريج، عن أبي هريرة، دليل آخر وشاهد قوي على استعمالهم "مه"، بمعنى الاستفهام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 342 16933- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال أبو سعيد الخدري أنه قال: فمن. (1) 16934- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فاستمتعوا بخلاقهم) ، قال: بدينهم. 16935- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَذَّركم أن تحدثوا في الإسلام حَدَثًا، وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوامٌ من هذه الأمة، (2) فقال الله في ذلك: (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) ، وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وإن الفتنة عائدة كما بدأت. * * *   (1) الأثر: 16933 - حديث أبي سعيد الخدري، في معنى الأخبار السالفة رواه البخاري في صحيحه (الفتح 13: 255) ، ومسلم في صحيحه 16: 219، من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وهذا الخبر رواه ابن جريج مختصرًا على كلمة واحدة، وهي "فمن"، ليبين معنى رواية أبي هريرة قبل: "فمه"، أنها بمعنى "فمن"، استفهامًا، كما سلف في التعليق قبله. (2) جاء هكذا في المخطوطة: "حدثكم أن تحثوا في الإسلام حدثًا، وقد علمتم أنه ... "، وهو غير مقروء، ولا مستقيم، والذي في المطبوعة، كأنه منقول من الدر المنثور 3: 255، فقد نسبه إلى أبي الشيخ، ولم ينسبه إلى ابن جرير، وهو فضلا عن ذلك، مختصر في الدر المنثور. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 343 وأما قوله: (أولئك حبطت أعمالهم) ، فإن معناه: هؤلاء الذين قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب، وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم = (حبطت أعمالهم) ، يقول: ذهبت أعمالهم باطلا. فلا ثوابَ لها إلا النار، لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه (1) = (وأولئك هم الخاسرون) ، يقول: وأولئك هم المغبونون صفقتهم، ببيعهم نعيم الآخرة بخلاقهم من الدنيا اليسيرِ الزهيدِ (2) * * * القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يُسِرُّون الكفرَ بالله، وينهون عن الإيمان به وبرسوله = (نبأ الذين من قبلهم) ، يقول: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم، (3) حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا، ماذا حلّ بهم من عقوبتنا؟ ثم بين جل ثناؤه مَنْ أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نَبَأهُم، فقال: (قوم نوح) ، ولذلك خفض "القوم"، لأنه ترجم بهن عن "الذين"، و"الذين" في موضع خفض. * * *   (1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف ص: 166، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "الخسران" فيما سلف 13: 535، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير "النبأ" فيما سلف ص: 331، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 344 ومعنى الكلام: ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم، إذ كذبوا رسولي نوحًا، وخالفوا أمري؟ ألم أغرقهم بالطوفان؟ = (وعاد) ، يقول: وخبر عاد، إذ عصوا رسولي هودًا، ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية؟ = وخبر ثمود، إذ عصوا رسولي صالحًا، ألم أهلكهم بالرجفة، فأتركهم بأفنيتهم خمودًا؟ = وخبر قوم إبراهيم، إذ عصوه وردُّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحق، ألم أسلبهم النعمة، وأهلك ملكهم نمرود؟ = وخبر أصحابِ مَدْين بن إبراهيم، ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة إذ كذبوا رسولي شعيبًا؟ = وخبر المنقلبة بهم أرضُهم، فصار أعلاها أسفلها، إذ عصوا رسولي لوطًا، (1) وكذبوا ما جاءهم به من عندي من الحق؟ يقول تعالى ذكره: أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون بالله وبآياته ورسوله، أن يُسْلك بهم في الانتقام منهم، وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا، سبيلُ أسلافهم من الأمم، ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رُسلنا، إذ أتتهم بالبينات. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16936- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (والمؤتفكات) ، قال: قوم لوط، انقلبت بهم أرضهم، فجعل عاليها سافلها. 16937- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والمؤتفكات) ، قال: هم قوم لوط. * * *   (1) انظر تفسير "الائتفاك" فيما سلف ص: 208، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 345 فإن قال قائل: فإن كان عني بـ "المؤتفكات" قوم لوط، فكيف قيل: "المؤتفكات"، فجمعت ولم توحّد؟ قيل: إنها كانت قريات ثلاثًا، فجمعت لذلك، ولذلك جمعت بالتاء، على قول الله: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) ، [سورة النجم: 53] . (1) فإن قال: وكيف قيل: أتتهم رسلهم بالبينات، وإنما كان المرسل إليهم واحدًا؟ قيل: معنى ذلك: أتى كل قرية من المؤتفكات رسولٌ يدعوهم إلى الله، فتكون رُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى الله عن رسالته، رسلا إليهم، كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي: "الفُدَيْكات"، و"أبو فديك"، واحدٌ، ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم، دعوا بذلك، ونسبوا إلى رئيسهم. فكذلك قوله: (أتتهم رسلهم بالبينات) . * * * وقد يحتمل أن يقال معنى ذلك: أتت قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم الله في هذه الآية، رسلهم من الله بالبينات. * * * وقوله: (فما كان الله ليظلمهم) ، يقول جل ثناؤه: فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها، واستحقاقها من الله عظيم العقاب، لا ظلمًا من الله لهم، ولا وضعًا منه جل ثناؤه عقوبةً في غير من هو لها أهلٌ، لأن الله حكيم لا خلل في تدبيره، ولا خطأ في تقديره، ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله، حتى أسخطوا عليهم ربهم، فحقت عليهم كلمة العذاب فعذِّبوا. * * *   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 446. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 346 القول في تأويل قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما "المؤمنون والمؤمنات"، وهم المصدقون بالله ورسوله وآيات كتابه، فإن صفتهم: أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم (1) = (يأمرون بالمعروف) ، يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به من عند الله، (2) = [ (وينهون عن المنكر) ... ] (3) = (ويقيمون الصلاة) ، يقول: ويؤدُّون الصلاة المفروضة (4) = (ويؤتون الزكاة) ، يقول: ويعطون الزكاة المفروضةَ أهلَها (5) = (ويطيعون الله ورسوله) ، فيأتمرون لأمر الله ورسوله، وينتهون عما نهياهم عنه = (أولئك سيرحمهم الله) ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم، الذين سيرحمهم الله، فينقذهم من عذابه، ويدخلهم جنته، لا أهل النفاق والتكذيب بالله ورسوله، الناهون عن المعروف، الآمرون بالمنكر، القابضون أيديهم عن أداء حقّ الله من أموالهم = (إن الله عزيز حكيم) ، يقول: إن الله ذو عزة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيته وكفره به، لا يمنعه من الانتقام منه مانع، ولا ينصره منه ناصر = (حكيم) ، في انتقامه منهم، وفي جميع أفعاله. (6) * * *   (1) انظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (2) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص: 338، تعليق: 2، والمراجع هناك. (3) ما بين القوسين زدته استظهارًا، وهو تمام الآية، أخل به الناسخ، وأسقط تفسيره، كما هو بين من سياق أبي جعفر في تفسيره. انظر تفسير "المنكر" فيما سلف ص: 338، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) . (5) انظر تفسير " إيتاء الزكاة " فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) . (6) انظر تفسير "عزيز"، و "حكيم"، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 347 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16938- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كل ما ذكره الله في القرآن من "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فـ "الأمر بالمعروف"، دعاء من الشرك إلى الإسلام = و"النهي عن المنكر"، النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. 16939- ...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يقيمون الصلاة) ، قال: الصلوات الخمس. * * * القول في تأويل قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله، وأقرُّوا به وبما جاء به من عند الله، من الرجال والنساء = (جنات تجري من تحتها الأنهار) ، يقول: بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار (1) = (خالدين فيها) ، يقول: لابثين فيها أبدًا، مقيمين لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد (2) = (ومساكن طيبة) ، يقول: ومنازل يسكنونها طيبةً. (3)   (1) انظر تفسير "جنة" فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) . (2) انظر تفسير "الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (3) انظر تفسير " طيبة " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 348 و"طيبها" أنها، فيما ذكر لنا، كما:- 16940- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن جَسْر، عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب الله تبارك وتعالى: (ومساكن طيبة في جنات عدن) ، فقالا على الخبير سقطت! سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصرٌ في الجنة من لؤلؤ، فيه سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرًا. (1) 16941- حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا قرة بن حبيب، عن جَسْر بن فرقد، عن الحسن، عن عمران بن حصين وأبي هريرة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (ومساكن طيبه في جنات عدن) ، قال: قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريرًا، على كل سرير فراشًا من كل لون، على كل فراش زوجة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة،   (1) الأثر: 16940 - " إسحاق بن سليمان الرازي "، شيخ أبي كريب، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 13224. و" جسر " هو: " جسر بن فرقد، أبو جعفر القصاب "، روى عنه إسحاق بن سليمان، وروى هو عن الحسن وغيره، وكان رجلا صالحًا، ولكنه في الحديث ليس بشيء. مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 245، وقال: "ليس بذاك"، وفي ابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 538، وميزان الاعتدال 1: 184، ولسان الميزان 2: 104. وكان في المطبوعة: "إسحاق بن سليمان، عن الحسن قال سألت"، واسقط اسم "جسر"، لأنه كان في المخطوطة قد كتب: "عن الحسن، عن الحسن"، ثم ضرب الناسخ على "الألف واللام" من "الحسن" الأولى، فظنه قد ضرب عليه كله، والصواب ما أثبت، وسيأتي في الإسناد التالي. وهذا الخبر، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 30، 31، وقال: " رواه البزار والطبراني في الأوسط. وفيه جسر بن فرقد، وهو ضعيف، وقد وثقه سعيد بن عامر، وبقية رجال الطبراني ثقات". ثم خرجه في مجمع الزوائد 10: 420 وقال: " رواه الطبراني، وفيه: جسر بن فرقد، وهو ضعيف"، فاختصر ما سلف. وهو إسناد ضعيف كما قال، فقد ضعف جسر بن فرقد، البخاري وغيره من الأئمة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 349 على كل مائدة سبعون لونًا من طعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن من القوة في غَداةٍ واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع. (1) * * * وأما قوله: (في جنات عدن) ، فإنه يعني: وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جل ثناؤه، (في جنات عدن) . * * * و"في" من صلة "مساكن". * * * وقيل: "جنات عدن"، لأنها بساتين خلد وإقامة، لا يظعَنُ منها أحدٌ. * * * وقيل: إنما قيل لها (جنات عدن) ، لأنها دارُ الله التي استخلصها لنفسه، ولمن شاء من خلقه = من قول العرب: "عَدَن فلان بأرض كذا"، إذا أقام بها وخلد بها، ومنه "المَعْدِن"، ويقال: "هو في معدِن صدق"، يعني به: أنه في أصلٍ ثابت. وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى: وَإنْ يَسْتَضِيفُوا إلَى حِلْمِه ... يُضَافُوا إلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَن (2)   (1) 16941 - " قرة بن حبيب بن يزيد بن شهرزاد القنوي الرماح "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 41 \ 183، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 132. و" جسر بن فرقد " سلف في الإسناد وقبله. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " حسن بن فرقد "، وصوابه ما أثبت. وهو إسناد ضعيف أيضًا. (2) ديوانه: 17، ومخطوطة ديوانه القصيدة رقم: 15، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، واللسان " وزن "، وهي من كلمته الأولى التي أقبل بها على قيس بن معد يكرب الكندي، ورواية الديوان "إلى حكمه"، ولكنها في المخطوطة ومجاز القرآن كما أثبتها، ولكن المطبوعة كتب "حكمه". يقول قبله: ولكنّ رَبِّي كَفَى غُرْبتِي ... بِحَمْدِ الإِلَهِ، فقد بَلَّغَنْ أَخَا ثِقَةٍ عَاليًا كَعْبُهْ ... جَزيلَ العَطاء كَرِيمَ المِنَنْ كَرِيمًا شَمائلُهُ، مِنْ بَني ... مُعَاوِيةَ الأَكْرَمِينَ السُّنَنْ فَإنْ يَتْبَعُوا أَمْرَهُ يَرْشُدُوا ... وَإنْ يَسْأَلُوا مَالَهُ لا يَضِنّْ و"استضاف إليه"، لجأ إليه عند الحاجة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 350 وينشد: "قد وَزَن". (1) * * * وكالذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر، يتأوّلونه. 16942- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: (جنات عدن) ، قال: "معدن الرجل"، الذي يكون فيه. 16943- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا الليث بن سعد، عن زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يفتح الذكرَ في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن، وهي في داره التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، وهي مسكنه، ولا يسكن معه من بني آدم غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء، ثم يقول: طوبى لمن دخلك، وذكر في الساعة الثالثة. (2)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "قد وزن"، بالواو ورواية الديوان: "قد رزن" بالراء، وكله صحيح المعنى. وهذه التي ذكرها الطبري، هي الرواية التي فسرها صاحب اللسان في "وزن". يقال: "وزن الشيء"، أي: رجح، و "وزن الرجل وزانة"، إذا كان متثبتًا، و "رجل وزين الرأي"، أصيله. و "رزن" بالراء مثله في المعنى، يقال: "رجل رزين"، أي: وقور. (2) الأثران: 16943، 16944 - " زيادة بن محمد الأنصاري "، منكر الحديث، مترجم في التهذيب والكبير 2 \ 1 \ 407، وذكر إسناد هذا الخبر، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 619، وميزان الاعتدال 1: 361، وساق هذا الحديث بطوله، وفيه ذكر الساعة الثالثة، ثم قال: "وهذه ألفاظ منكرة، لم يأت بها غير زيادة". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 412 وقال: "رواه البزار، وفيه زيادة بن محمد، وهو ضعيف". وكان في المطبوعة في الخبر الأول: " الكندي سعد، عن زيادة بن محمد "، وصوابه " الليث بن سعد "، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنه وصل الحروف بعضها ببعض. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 351 16944- حدثني موسى بن سهل قال، حدثنا آدم قال، حدثنا الليث بن سعد قال، حدثنا زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عدن دارُه = يعني دار الله = التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، وهي مسكنه، ولا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء. يقول الله تبارك وتعالى: طوبى لمن دخلك. (1) * * * وقال آخرون: معنى (جنات عدن) ، جنات أعناب وكروم. * ذكر من قال ذلك: 16945- حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث: أن ابن عباس سأل كعبًا عن جنات عدن، فقال: هي الكروم والأعناب، بالسريانية. (2) * * * وقال آخرون: هي اسم لبُطْنان الجنة ووَسطها. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 16944 - انظر التعليق السالف. و "آدم"، هو "آدم بن أبي إياس". (2) الأثر: 16945 - " أحمد بن أبي سريج الرازي "، هو " أحمد بن الصباح النهشلي الرازي "، شيخ أبي جعفر. روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 56. و" زكريا بن عدي بن زريق التيمي "، ثقة، مضى برقم: 15446. و" عبيد الله بن عمرو الرقي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، منها رقم: 7187. و"زيد بن أبي أنيسة الجزري"، ثقة، مضى مرارًا آخرها: 13855. و"يزيد بن أبي زياد القرشي"، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، ثقة، يضعف حديثه. مضى مرارًا، آخرها رقم: 13308. و"عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي"، روى له الجماعة، مضى أيضا، برقم: 13308. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 352 16946- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: "عدن"، بُطْنان الجنة. 16947- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان وشعبة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: (جنات عدن) ، قال: بُطْنان الجنة = قال ابن بشار في حديثه، فقلت: ما بطنانها؟ = وقال ابن المثنى في حديثه، فقلت للأعمش: ما بطنان الجنة؟ = قال: وَسطها. 16948- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، وأبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله: (جنات عدن) ، قال: بطنان الجنة. 16949- ...... قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، بمثله. 16950- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، مثله. 16951- حدثنا أحمد بن أبي سريج قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، وعبد الله بن مرة، عنهما جميعًا، أو عن أحدهما، عن مسروق، عن عبد الله: (جنات عدن) ، قال: بطنان الجنة. 16952- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود في قول الله: (جنات عدن) ، قال: بُطْنان الجنة. * * * الجزء: 14 ¦ الصفحة: 353 وقال آخرون: "عدن"، اسم لقصر. * ذكر من قال ذلك: 16953- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبدة أبو غسان، عن عون بن موسى الكناني، عن الحسن قال: "جنات عدن"، وما أدراك ما جنات عدن؟ قصرٌ من ذهَب، لا يدخله إلا نبي، أو صدّيق، أو شهيد، أو حكم عدل، ورفع به صوته. (1) 16954- حدثنا أحمد بن أبي سريج قال، حدثنا عبد الله بن عاصم قال، حدثنا عون بن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول: جنات عدن، وما أدراك ما جنات عدن؟ قصر من ذهب، لا يدخله إلا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيد، أو حكم عدل = رفع الحسن به صوته. (2) 16955- حدثنا أحمد قال، حدثنا يزيد قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو قال: إن في الجنة قصرًا يقال له "عدن"، حوله البروج والرُّوح، له خمسون ألف باب، على كل باب حِبَرة، (3) لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق. 16956- حدثنا الحسن بن ناصح قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعت يعقوب بن عاصم يحدث، عن عبد الله بن عمرو:   (1) الأثر: 16953 - " عبدة، أبو غسان "، لم أعرف من يكون؟ و"عون بن موسى الكنافي الليثي"، أبو روح، ثقة سمع الحسن. مترجم في الكبير 4 \ 1 \ 17، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 386. (2) الأثر: 16954 - " أحمد بن أبي سريج "، مضى برقم: 16945. " عبد الله بن عاصم الحماني "، صدوق، روى عنه أبو حاتم، وأبو زرعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 134. "عون بن موسى الكناني"، مضى قبله. (3) "الحبرة" (بكسر الحاء وفتح الباء) : ضرب من برود اليمن منمر. وقالوا: " ليس: حبرة، موضعًا أو شيئًا معلومًا، إنما هو شيء ". وكأنه هو المراد في مثل هذا الخبر، أي: ستور موشية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 354 إن في الجنة قصرًا يقال له "عدن"، له خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبَرة، لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. (1) * * * وقيل: هي مدينة الجنة. * ذكر من قال ذلك: 16957- حدثت عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: في (جنات عدن) ، قال: هي مدينة الجنة، فيها الرُّسُل والأنبياء والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعدُ، والجنات حولها. * * * وقيل: إنه اسم نهر. * ذكر من قال ذلك: 16958- حدثت عن المحاربي، عن واصل بن السائب الرقاشي، عن عطاء قال: "عدن"، نهر في الجنة، جنّاته على حافتيه. * * * وأما قوله: (ورضوان من الله أكبر) ، فإن معناه: ورضَى الله عنهم أكبر من ذلك كله، (2) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) الأثر: 16956 - "الحسن بن ناصح"، هو "الحسن بن ناصح البصري السراج"، قال ابن أبي حاتم: "روى عن عثمان بن عثمان الغطفاني، ومعتمر بن سليمان، ومعاذ بن معاذ، ويحيى بن راشد، سمع منه أبي في المرحلة الثانية "، الجرح والتعديل 1 \ 2 \ 39، تاريخ بغداد 7: 435. وهناك أيضا: " الحسن بن ناصح الخلال المخرمي "، روى عن إسحاق بن منصور، وغيره قال ابن أبي حاتم: " أدركته. ولم أكتب عنه، وكان صدوقًا "، وكأن هذا هو شيخ الطبري. مترجم في ابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 39، وتاريخ بغداد 7: 435. وكان في المطبوعة: " الحسن بن ناجح "، وهو مخالفة لما في المخطوطة. و" يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي "، ذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 388، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 211. (2) انظر تفسير "الرضوان" فيما سلف ص 174، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 355 16959- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبّيك ربَّنَا وسعْدَيك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك. قالوا: يا ربّ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك! قال: أحِلّ عليكم رضوَاني، فلا اسخط عليكم بعده أبدًا. (1) 16960- حدثنا ابن حميد قال، حدثني يعقوب، عن حفص، عن شمر قال: يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب، إلى الرجل حين ينشقُّ عنه قبره، فيقول: أبشر بكرامة الله! أبشر برضوان الله! فيقول مثلك من يبشِّر بالخير؟ ومن أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي كُنْت أسهِر ليلك، وأُظمئ نهارك! فيحمله على رقبته حتى يُوافي به ربَّه، فيمثُلُ بين يديه فيقول: يا رب، عبدك هذا، اجزه عني خيرًا، فقد كنت أسهر ليله، وأظمئ نهاره، وآمره فيطيعني، وأنهاه فيطيعني. فيقول الرب تبارك وتعالى: فله حُلَّة الكرامة. فيقول: أي ربّ، زدْهُ، فإنه أهلُ ذلك! فيقول: فله رِضْواني = قال: (ورضوان من الله أكبر) . (2)   (1) الأثر: 16959 - هذا حديث صحيح رواه البخاري بهذا الإسناد نفسه، وبلفظه في صحيحه (الفتح 11: 363، 364) ، واستوفى الكلام عليه الحافظ ابن حجر في شرحه. ورواه مسلم في صحيحه 17: 168، وانظر ما سلف رقم: 6751، 16567، من حديث جابر بن عبد الله، غير مرفوع، وما علقت به عليه هناك. وذكره ابن كثير في تفسيره في هذا الموضع 4: 202 وقال: "رواه البزار في مسنده، من حديث الثوري. وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة. هذا عندي على شرط الصحيح". (2) الأثر: 16960 - "يعقوب"، هو: "يعقوب بن عبد الله القمي"، ثقة، مضى مرارًا، منها: 13045. و"حفص" هو "حفص بن حميد القمي"، ثقة، مضى برقم: 8518. و"شمر" هو "شمر بن عطية الأسدي الكاهلي"، ثقة، مضى برقم: 11545. وانظر شواهد لبعض ألفاظ هذا الخبر فيما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 159 - 165. ولم أجد هذا الخبر مسندًا بلفظه هذا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 356 وابتُدِئ الخبر عن "رضوان الله" للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جل ثناؤه، فرفع، وإن كان "الرضوان" فيما قد وعدهم. ولم يعطف به في الإعراب على "الجنات" و"المساكن الطيبة"، ليعلم بذلك تفضيلُ الله رضوانَه عن المؤمنين، على سائر ما قسم لهم من فضله، وأعطاهم من كرامته، نظير قول القائل في الكلام لآخر: "أعطيتك ووصلتك بكذا، وأكرمتك، ورضاي بعدُ عنك أفضل لك". (1) * * * = (ذلك هو الفوز العظيم) ، هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات = (هو الفوز العظيم) ، يقول: هو الظفر العظيم، والنجاء الجسيم، لأنهم ظفروا بكرامة الأبد، ونَجوْا من الهوان في سَقَر، (2) فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه. (3) * * *   (1) في المطبوعة، جعل الكلام هكذا: " أفضل ذلك، هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات. . . "، وهو غير مستقيم، والذي أثبته هو الذي في المخطوطة، ولكن ظاهر أنه قد سقط من الناسخ بعض كلام أبي جعفر. فاستظهرت أن السياق هو ذكر لفظ الآية، ثم تفسير " ذلك " بقوله: " هذه الأشياء. . . "، فأثبتها كذلك، وفصلت بين الكلامين فصلا تامًا. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 446. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " الهوان في السفر "، وهو لا معنى له، والصواب ما أثبت. (3) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف، 11: 286، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 357 القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (يا أيها النبي جاهد الكفار) ، بالسيف والسلاح = (والمنافقين) . * * * الجزء: 14 ¦ الصفحة: 357 واختلف أهل التأويل في صفة "الجهاد" الذي أمر الله نبيه به في المنافقين. (1) فقال بعضهم: أمره بجهادهم باليد واللسان، وبكل ما أطاق جهادَهم به. * ذكر من قال ذلك: 16961- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، ويحيى بن آدم، عن حسن بن صالح، عن علي بن الأقمر، عن عمرو بن جندب، عن ابن مسعود في قوله: (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهرَّ في وجهه. (2) * * * وقال آخرون: بل أمره بجهادهم باللسان. * ذكر من قال ذلك: 16962- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن   (1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 257، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير " المنافق " فيما سلف ص: 339؛ تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) الأثر: 16961 - " حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. و" يحيى بن آدم "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. و"حسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري"، ثقة، مضى مرارًا. و" علي بن الأقمر الوادعي الهمداني "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. و" عمرو بن أبي جندب " أو " عمرو بن جندب "، هو " أبو عطية الوادعي "، مختلف في اسمه. ترجم له في التهذيب، في الأسماء، وفي الكنى، وقال: " قال البخاري في تاريخه: روى عنه أبو إسحاق، وعلي بن الأقمر "، ثم قال: " والصواب أنه وإن كان يكنى أبا عطية، فإنه غير الوادعي ". وهو ثقة، من أصحاب عبد الله بن مسعود. ترجم له ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 224 باسم " عمرو بن جندب "، وكان في المطبوعة " عمرو بن جندب "، ولكني أثبت ما في المخطوطة، وهما صواب كما ترى. وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 248، ونسبه إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. وقوله: " فليكفهر في وجهه ": أي فليلقه بوجه منقبض عابس لإطلاقه فيه ولا بشر ولا انبساط. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 358 علي، عن ابن عباس قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهبَ الرفق عنهم. 16963- حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال: "الكفار"، بالقتال، و"المنافقين"، أن يغلُظ عليهم بالكلام. 16964- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، يقول: جاهد الكفار بالسيف، وأغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم. * * * وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم. * ذكر من قال ذلك: 16965- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحدود، أقم عليهم حدودَ الله. 16966- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، قال: أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين في الحدود. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، ما قال ابن مسعود: من أنّ الله أمر نبيَه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين، بنحو الذي أمرَه به من جهاد المشركين. فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظُهرِ أصحابه، مع علمه بهم؟ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 359 قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهرَ منهم كلمةَ الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأمّا مَنْ إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخِذ بها، أنكرها ورجع عنها وقال: "إني مسلم"، فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه، أن يحقِنَ بذلك له دمه وماله، وإن كان معتقدًا غير ذلك، وتوكَّل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحثَ عن السرائر. فلذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع علمه بهم وإطْلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صُدورهم، كان يُقِرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبَه الحرب على الشرك بالله، لأن أحدهم كان إذا اطُّلِع عليه أنه قد قال قولا كفر فيه بالله، ثم أخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه. فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله، عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قولٍ كان نطقَ به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميرِه الذي لم يبح الله لأحَدٍ الأخذ به في الحكم، وتولَّى الأخذَ به هو دون خلقه. * * * وقوله: (واغلظ عليهم) ، (1) يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرْهاب. (2) * * * وقوله: (ومأواهم جهنم) ، يقول: ومساكنهم جهنم، وهي مثواهم ومأواهم (3) = (وبئس المصير) ، يقول: وبئس المكان الذي يُصَار إليه جهنَّمُ. (4) * * *   (1) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 7: 341. (2) في المطبوعة: " والإرعاب " بالعين، خالف ما هو الصواب في العربية، وفي المخطوطة إنما يقال: " رعبه يرعبه رعبًا، فهو مرعوب ورعيب و " رعبه " ترعيبًا "، ونصوا فقالوا: " ولا تقل: أرعبه ". (3) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص: 77، تعليق: والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 13: 441 تعليق: 4، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 360 القول في تأويل قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية، والقول الذي كان قاله، الذي أخبر الله عنه أنه يحلف بالله ما قاله. فقال بعضهم: الذي نزلت فيه هذه الآية: الجُلاس بن سويد بن الصامت. * * * وكان القولُ الذي قاله، ما:- 16967- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) ، قال: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، قال: "إن كان ما جاء به محمد حقًّا، لنحن أشرُّ من الحُمُر! "، (1) فقال له ابن امرأته: والله، يا عدو الله، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت، فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعةٌ، وأؤاخذ بخطيئتك! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس، فقال: "يا جُلاس، أقلت كذا وكذا؟ فحلف ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمُّوا بما لم ينالوا وما نَقَموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) .   (1) انظر استعمال " أشر "، فيما سلف في الأثرين رقم: 5080، 11723. وكان في المطبوعة: " الحمير "، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 361 16968- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: نزلت هذه الآية: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) ، في الجلاس بن سويد بن الصامت، أقبل هو وابن امرأته مُصْعَب من قُباء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقًّا لنحن أشرُّ من حُمُرنا هذه التي نحن عليها! (1) فقال مصعب: أما والله، يا عدو الله، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتَ! فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وخشيت أن ينزل فيَّ القرآن، أو تصيبني قارعة، أو أن أخْلَط [بخطيئته] ، (2) قلت: يا رسول الله، (3) أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أُخْلَط بخطيئته، (4) أو تصيبني قارعة، ما أخبرتك. قال: فدعا الجلاس فقال له: يا جلاس، أقلت الذي قال مصعب؟ قال: فحلف، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) ، الآية. 16969- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذي قال تلك المقالة، فيما بلغني، الجلاس بن سويد بن الصامت، فرفعها عنه رجلٌ كان في حجره، يقال له "عمير بن سعيد"، (5) فأنكرها، (6) فحلف   (1) في المطبوعة: " حميرنا " بالإفراد وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " أخلط "، ليس فيها ذكر الخطيئة واستظهرتها من باقي الخبر، ومن تفسير ابن كثير. (3) في المطبوعة: " يا رسول أقبلت "، وهو من الطباعة. (4) في المطبوعة: " أن أؤاخذ بخطيئته "، غير ما في المخطوطة، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب، وهو موافق لما في تفسير ابن كثير 4: 204، 205. (5) في المخطوطة والمطبوعة: " سعيد "، والذي في سيرة ابن هشام، " سعد "، ولكني تركت ما في المخطوطة، لأني وجدت الحافظ ابن حجر في الإصابة، ذكر هذا الاختلاف، فأخشى أن تكون هذه رواية أبي جعفر في سيرة ابن إسحاق. (6) في المطبوعة: "فأنكر"، أثبت ما في المخطوطة، موافقا لابن هشام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 362 بالله ما قالها. فلما نزل فيه القرآن، تاب ونزع وحسنت، توبته فيما بلغني. (1) 16970- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كلمة الكفر) ، قال أحدهم: "لئن كان ما يقول محمد حقًّا لنحن شر من الحمير"! فقال له رجل من المؤمنين: أن ما قال لحقٌّ، ولأنت شر من حمار! قال: فهمَّ المنافقون بقتله، فذلك قوله: (وهموا بما لم ينالوا) . 16971- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 16972- ...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 16973- حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظلّ شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسانٌ فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه. فلم يلبث أن طلَع رجل أزرقُ، (2) فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علامَ تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، حتى تجاوَز عنهم، فأنزل الله: (يحلفون بالله ما قالوا) ، ثم نعتهم جميعًا، إلى آخر الآية. (3)   (1) الأثر: 16969 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16919. (2) إذا قيل: "رجل أزرق"، فإنما يعنون زرقة العين، وقد عدد الجاحظ في الحيوان 5: 330، " الزرق من العرب "، وكانت العرب تتشاءم بالأزرق، وتعده لئيما. وانظر طبقات فحول الشعراء: 111، في قول مزرد، في قاتل عمر رضي الله عنه: وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُ ... بِكَفَّيْ سَبَنْتَى أَزْرَقِ العَيْنِ مُطْرِقِ (3) الأثر: 16973 - " أيوب بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري "، أبو أيوب البغدادي، شيخ الطبري. قال ابن أبو حاتم: " كتبنا عنه بالرملة، وذكرته لأبي فعرفه، وقال: كان صدروقًا ". مترجم في ابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 241، وتاريخ بغداد 7: 9، 10. و" عبد الله بن رجاء بن عمرو "، أبو عمرو الغداني. كان حسن الحديث عن إسرائيل. وهو ثقة. مترجم في التهذيب. وهذا إسناد صحيح. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 258، وزاد نسبته إلى الطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 363 وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول: قالوا: والكلمة التي قالها ما:- 16974- حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يحلفون بالله ما قالوا) ، إلى قوله: (من وليّ ولا نصير) ، قال: ذكر لنا أنّ رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة، والآخر من غِفار، وكانت جهينة حلفاء، الأنصار، وظهر الغفاريّ على الجهنيّ، فقال عبد الله بن أبيّ للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: "سمِّن كلبك يأكلك"، وقال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) [سورة المنافقون: 8] ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) . 16975- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) ، قال: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنّهم يحلفون بالله كذبًا على كلمة كُفْر تكلموا بها أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما روي عن عروة: أن الجلاس قاله = وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول، والقول ما ذكر قتادة عنه أنه قال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 364 ولا علم لنا بأيّ ذلك من أيٍّ، (1) إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويُتوصَّل به إلى يقين العلم به، وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) . * * * وأما قوله: (وهموا بما لم ينالوا) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همَّ بذلك، وما الشيء الذي كان هم به. [فقال بعضهم: هو رجل من المنافقين، وكان الذي همَّ به] ، قتلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال، (2) وخشي أن يفشيه عليه. * ذكر من قال ذلك: 16976- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: همَّ المنافق بقتله = يعني قتل المؤمن الذي قال له: "أنت شر من الحمار"! فذلك قوله: (وهموا بما لم ينالوا) . 16977- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (3) * * *   (1) في المطبوعة والمخطوطة: "بأن ذلك من ي"، وهو لا معنى له، وصوابه ما أثبت، كما نبهت عليه مرارًا انظر ما سلف: 13: 260، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) كان في المخطوطة: ". . . وما الشيء الذي كان هم به قيل ابن امرأته، وجعلها في المطبوعة: ". . . هم به أقتل ابن امرأته، وعلق عليه فقال: " في العبارة سقط، ولعل الأصل: فقال بعضهم: كان الذي هم الجلاس بن سويد، والشيء الذي كان هم به قتل ابن امرأته إلخ، تأمل". والصواب، إن شاء الله، ما أثبت بين القوسين، لأن الخبر التالي من خبر مجاهد، ولم يبين فيه اسم المنافق، كما لم يبينه في رقم: 16970، وما بعده، فالصواب الجيد، أن يكون اسم المنافق مبهما في ترجمة سياق الأخبار، كدأب أبي جعفر في تراجم فصول تفسيره. (3) في المطبوعة: "عن مجاهد، به"، وفي المخطوطة، قطع فلم يذكر شيئًا، فأقررت ما درج على مثله أبو جعفر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 365 وقال آخرون: كان الذي همَّ، رجلا من قريش = والذي همّ به، قتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال ذلك: 16978- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شبل، عن جابر، عن مجاهد في قوله: (وهموا بما لم ينالوا) ، قال: رجل من قريش، همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: "الأسود". * * * وقال آخرون: الذي همّ، عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان همُّه الذي لم ينله، قوله: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) ، [سورة المنافقون: 8] ، من قول قتادة وقد ذكرناه. (1) * * * وقوله: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر، كان فقيرًا فأغناه الله بأن قُتِل له مولًى، فأعطاه رسول الله ديتَه. فلما قال ما قال، قال الله تعالى: (وما نقموا) ، يقول: ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، (2) = (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) . * ذكر من قال ذلك: 16979- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، وكان الجلاس قُتِل له مولًى، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته، فاستغنى، فذلك قوله: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) . 16980- ...... قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال:   (1) انظر ما سلف رقم: 16974. (2) انظر تفسير " نقم " 10: 433 \ 13: 35. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 366 قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفًا في مولى لبني عديّ بن كعب، وفيه أنزلت هذه الآية: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) . 16981- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال: كانت لعبد الله بن أبيٍّ ديةٌ، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له. 16982- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان قال، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة: أن مولى لبني عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفا، وفيه أنزلت: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال عمرو: لم أسمع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عكرمة = يعني: الدية اثني عشر ألفًا. 16983- حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا محمد بن سنان العَوَقيّ قال، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفًا. فذلك قوله: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال: بأخذ الديِّة. (1) * * * وأما قوله: (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قِيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه، يك رجوعهم وتوبتهم من   (1) الأثر: 16983 - " صالح بن مسمار السلمي المروزي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 224. و" محمد بن سنان الباهلي العوقي "، أبو بكر البصري، ثقة مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \ 109 وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 279. و" محمد بن مسلم الطائفي "، ثقة، يضعف، مضى برقم: 447، 3473، 4491. وهذا الخبر، لم يذكره أبو جعفر في باب الديات من تفسيره، انظر ما سلف رقم: 10143، في ج 9: 50. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 367 ذلك، خيرًا لهم من النفاق (1) = (وإن يتولوا) ، يقول: وإن يدبروا عن التوبة، فيأتوها ويصرُّوا على كفرهم، (2) = (يعذبهم الله عذابًا أليمًا) ، يقول: يعذبهم عذابًا موجعًا في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذبهم في الآخرة بالنار. (3) * * * وقوله: (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) ، يقول: وما لهؤلاء المنافقين إن عذبهم الله عاجل الدنيا = (من ولي) ، يواليه على منعه من عقاب الله (4) = (ولا نصير) ينصره من الله فينقذه من عقابه. (5) وقد كانوا أهل عز ومنعة بعشائرهم وقومهم، يمتنعون بهم من أرادهم بسوء، فأخبر جل ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم، لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه، إن احتاجوا إلى نصرهم. * * * وذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق. * ذكر من قال ذلك: 16984- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، قال: قال الجلاس: قد استثنى الله لي التوبة، فأنا أتوب. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 16985- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة عن أبيه: (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، الآية، فقال الجلاس:   (1) انظر تفسير "التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة (توب) . (2) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . (4) انظر تفسير "الولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (5) انظر تفسير "النصير" فيما سلف من فهارس اللغة (نصر) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 368 يا رسول الله، إني أرى الله قد استثنى لي التوبة، فأنا أتوب! فتابَ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. * * * القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم = (من عاهد الله) ، يقول: أعطى الله عهدًا (1) = (لئن آتانا من فضله) ، يقول: لئن أعطانا الله من فضله، ورزقنا مالا ووسَّع علينا من عنده (2) = (لنصدقن) ، يقول: لنخرجن الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربُّنا (3) = (ولنكونن من الصالحين) ، يقول: ولنعملنّ فيها بعَمَل أهل الصلاح بأموالهم، من صلة الرحم به، وإنفاقه في سبيل الله. (4) يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله = (فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به) ، بفضل الله الذي آتاهم، فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله = (وتولوا) ، يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله (5) = (وهم معرضون) ، عنه (6) = (فأعقبهم)   (1) انظر تفسير "عاهد" فيما سلف: ص 141، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "آتى"، و "الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) و (فضل) . (3) انظر تفسير " التصدق " فيما سلف 9: 31، 37، 38. (4) انظر تفسير "الصالح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) . (5) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) . (6) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 13: 463، تعليق: 6، والمراجع هناك. ج 14 (24) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 369 الله = (نفاقا في قلوبهم) ، ببخلهم بحق الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدُوا الله، ونقضهم عهدَه في قلوبهم (1) = (إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه) ، من الصدقة والنفقة في سبيله = (وبما كانوا يكذبون) ، في قيلهم، وحَرَمهم التوبة منه، لأنه جل ثناؤه اشترط في نفاقهم أنَّه أعقبهموه إلى يوم يلقونه، وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا. * * * واختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية. فقال بعضهم: عُني بها رجل يقال له: "ثعلبة بن حاطب"، من الأنصار. (2) * ذكر من قال ذلك: 16986- محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، الآية، وذلك أن رجلا يقال له: "ثعلبة بن حاطب"، من الأنصار، أتى مجلسًا فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله، آتيت منه كل ذي حقٍّ حقه، وتصدّقت منه، ووصلت منه القرابة! فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف الله ما وعدَه، وأغضبَ الله بما أخلفَ ما وعده. فقصّ الله شأنه في القرآن: (ومنهم من عاهد الله) ، الآية، إلى قوله: (يكذبون) . 16987- حدثني المثنى قال، حدثنا هشام بن عمار قال، حدثنا محمد بن شعيب قال، حدثنا معان بن رفاعة السلمي، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد الإلهاني: أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن: أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع   (1) انظر تفسير " النفاق " فيما سلف ص: 358، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المخطوطة، وقف عند قوله: "يقال له"، ولم يذكر اسم الرجل، واستظهره الناشر الأول من الأخبار، وأصاب فيما فعل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 370 الله أن يرزقني مالا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدِّي شكره، خير من كثير لا تطيقه! قال: ثم قال مرة أخرى، فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبيِّ الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئتُ أن تسيرَ معي الجبال ذهبًا وفضة لسارت! قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوتَ الله فرزقني مالا لأعطينّ كلّ ذي حق حقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبه مالا! قال: فاتَّخذ غنمًا، فنمت كما ينمو الدُّود، فضاقت عليه المدينة، فتنحَّى عنها، فنزل واديًا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فتنحّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقَّى الركبان يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنمًا فضاقت عليه المدينة! فأخبروه بأمره، فقال: يا ويْحَ ثعلبة! يا ويح ثعلبه! يا ويح ثعلبة! قال: وأنزل الله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) [سورة التوبة: 103] الآية، ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، رجلا من جهينة، ورجلا من سليم، وكتب لهما كيفَ يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: مرَّا بثعلبة، وبفلان، رجل من بني سليم، فخذا صدقاتهما! فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية! ما هذه إلا أخت الجزية! ما أدري ما هذا! انطلقا حتى تفرُغا ثم عودا إليّ. فانطلقا، وسمع بهما السُّلمي، فنظر إلى خِيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهم بها. فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى، فخذوه، (1) فإنّ نفسي بذلك طيّبة، وإنما هي لي! فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما رجعا، حتى مرَّا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما! فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة! قبل أن يكلِّمهما، ودعا للسلميّ بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلميّ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) ، إلى قوله: (وبما كانوا يكذبون) ، وعند رسول الله رجلٌ من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة! قد أنزل الله فيك كذا وكذا! فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته. فقال: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك! فجعل يَحْثِي على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني! فلما أبَى أن يقبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، رجع إلى منزله، وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئًا. ثم أتى أبا بكر حين اسْتخلِف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي! فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها! فقُبِض أبو بكر، ولم يقبضها. فلما ولي عمر، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي! فقال: لم يقبلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك! فقُبِض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان رحمة الله عليه، فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر رضوان الله عليهما وأنا أقبلها منك! (2) فلم يقبلها منه. وهلك ثَعْلبة في خلافة عثمان رحمة الله عليه. (3) 16988- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، الآية: ذكر لنا أن رجلا من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار، فقال: لئن آتاه الله مالا ليؤدِّين إلى كل ذي حقّ حقه! فآتاه الله مالا فصنع فيه ما تسمعون، قال: (فلما آتاهم من فضله بخلوا به) إلى قوله: (وبما كانوا يكذبون) . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدَّث أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاء بالتوراة إلى بني إسرائيل، قالت بنو إسرائيل: إن التوراة كثيرة، وإنا لا نفرُغ لها، فسل لنا ربَّك جِماعًا من الأمر نحافظ عليه، ونتفرغ فيه لمعاشنا! (4) قال: يا قوم، مهلا مهلا!   (1) " بلي " واستعمالها في غير جحد، قد سلف مرارًا، آخرها في رقم: 16305، ص: 67، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنا لا أقبلها"، والجيد حذف " لا " كما سلف في مقالة أبي بكر وعمر، وهو مطابق لما في أسد الغابة. (3) الأثر: 16987 - "هشام بن عمار بن نصير السلمي"، ثقة، روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وتكلموا فيه قالوا: لما كبر تغير. ومضى برقم: 11108. و " محمد بن شعيب بن شابور الأموي " ثقة، مضى برقم: 16987. و"معان بن رفاعة السلمي" أو: "السلامي" وهو المشهور، لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 70، وفي إحدى نسخه "السلمي" كما جاء في الطبري، ولذلك تركته على حاله، وابن أبي حاتم. و" علي بن يزيد الألهاني "، " أبو عبد الملك "، ضعيف بمرة، روى من القاسم بن عبد الرحمن صاحب أبي أمامة نسخة كبيرة، وأحاديثه هذه ضعاف كلها. مضى برقم: 11525. و" القاسم بن عبد الرحمن الشامي "، تقدم بيان توثيقه، وأن ما أنكر عليه إنما جاء من قبل الرواة عنه الضعفاء، مضى برقم: 1939، 11525. وأما ثعلبة بن حاطب الأنصاري، ففي ترجمته خلط كثير. أهو رجل واحد، أم رجلان؟ أولهما هو الذي آخى رسول الله بينه وبين معتب بن الحمراء، والذي شهد بدرًا وأحدًا. والآخر هو صاحب هذه القصة. يقال: إن الأول قتل يوم أحد. وجعلهما بعضهم رجلا واحدًا ونفوا أن يكون قتل يوم أحد. انظر ترجمته في الإصابة، والاستيعاب: 78، وأسد الغابة 1: 237، وابن سعد: 3 \ 2 \ 32. وهذا الخبر رواه بهذا الإسناد، ابن الأثير في أسد الغابة 1: 237، 238، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 21، 32، وقال: " رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك ". وهو ضعيف كل الضعف، ليس له شاهد من غيره، وفي بعض رواته ضعف شديد. وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 260، ونسبه إلى الحسن بن سفيان، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والعسكري في الأمثال، والطبراني، وابن منده، والبارودي، وأبي نعيم في معرفة الصحابة، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر. (4) في المطبوعة: "لمعايشنا"، وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 371 هذا كتاب الله، ونور الله، وعِصْمة الله! قال: فأعادوا عليه، فأعاد عليهم، قالها ثلاثًا. قال: فأوحى الله إلى موسى: ما يقول عبادي؟ قال: يا رب، يقولون: كيت وكيت. قال: فإني آمرهم بثلاثٍ إن حافظوا عليهن دخلوا بهن الجنة، أن ينتهوا إلى قسمة الميراثِ فلا يظلموا فيها، ولا يدخلوا أبصارَهم البيوت حتى يؤذن لهم، وأن لا يطعموا طعامًا حتى يتوضأوا وضوء الصلاة. قال: فرجع بهن نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، ففرحوا، ورأوا أنهم سيقومون بهن. قال: فوالله ما لبث القومُ إلا قليلا حتى جَنَحُوا وانْقُطِع بهم. فلما حدّث نبيُّ الله بهذا الحديث عن بني إسرائيل، قال: تكفَّلوا لي بستٍّ، أتكفل لكم بالجنة! قالوا: ما هنّ، يا رسول الله؟ قال: إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تُخْلفوا، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا، وكُفُّوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم: أبصارَكم عن الخيانة، وأيديكم عن السرقة، وفروجكم عن الزِّنا. 16989- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ثلاثٌ من كن فيه صار منافقًا وإن صامَ وصلى وزعم أنه مُسلم: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف. * * * وقال آخرون: بل المعنيُّ بذلك: رجلان: أحدهما ثعلبة، والآخر معتب بن قشير. * ذكر من قال ذلك: 16990- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية، (1) وكان الذي عاهد الله منهم: ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وهما من بني   (1) كان في المطبوعة: "من فضله، إلى الآخر"، وهو غريب جدًا، وفي المخطوطة: "من فضله الآخر"، وصواب قراءتها ما أثبت، وإنما سها الناسخ كعادته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 374 عمرو بن عوف. (1) 16991- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، قال رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن! فلما رزقهم بخلوا به. 16992- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن! فلما رزقهم بخلوا به، = (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه) ، حين قالوا: "لنصدقن"، فلم يفعلوا. 16993- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 16994- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية، قال: هؤلاء صنف من المنافقين، فلما آتاهم ذلك بخلوا به، فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقًا إلى يوم يلقونه، ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو، كما أصاب إبليس حين منعه التوبة. * * * وقال أبو جعفر: في هذه الآية، الإبانةُ من الله جل ثناؤه عن علامةِ أهل النفاق، أعني في قوله: (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) . * * *   (1) الأثر: 16990 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16969. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 375 وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين، ورُوِيت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) * ذكر من قال ذلك: 16995- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد قال، قال عبد الله: اعتبروا المنافق بثلاثٍ: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدَر، وأنزل الله تصديقَ ذلك في كتابه: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، إلى قوله: (يكذبون) . (2) 16996- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن صبيح بن عبد الله بن عميرة، عن عبد الله بن عمرو قال: ثلاث من كن فيه كان منافقًا: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان. قال: وتلا هذه الآية: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) ، إلى آخر الآية. (3)   (1) في المطبوعة: " ووردت به "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 16995 - " عمارة "، هو " عمارة بن عمير التيمي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 3294، 5789، 15359. و" عبد الرحمن بن يزيد النخعي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 3294، 3295، 3299. و" عبد الله "، إنما يعني " عبد الله بن مسعود ". وهذا خبر صحيح الإسناد، موقوف على ابن مسعود، ولم أجده مرفوعًا عنه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 108، بلفظه هذا، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح ". وذكر قبله حديثا نحوه، ليس فيه الآية: " عن عبد الله، يعني ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم "، ثم قال: " رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح ". (3) الأثر: 16996 - هذا الخبر، يأتي بإسناد آخر بعده. و" صبيح بن عبد الله بن عميرة " و " صبيح بن عبد الله العبسي "، في الذي يليه. وقد سلف برقم: 12741، 12742، وسلف أن البخاري ترجم له في الكبير 2 \ 2 \ 319، باسم " صبيح بن عبد الله "، زاد في الإسناد "العبسي"، وعلق المعلق هناك أنه في ابن ماكولا: " صبيح بن عبد الله بن عمير التغلبي " والذي قاله الطبري هنا " عميرة "، ولم أجد ما أرجح به، وترجم له في ابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 449، ولم يذكروا له رواية عن " عبد الله بن عمرو "، وكان في المطبوعة هنا " عبد الله بن عمر "، وأظنه خطأ، يدل عليه ما في الخبر بعده. (وانظر ما يلي) . وهذا الخبر بهذا الإسناد نقله أخي السيد أحمد في شرحه على المسند، في مسند " عبد الله بن عمرو بن العاص " رقم: 6879، ثم قال: " ورواه الحافظ أبو بكر الفريابي في كتاب صفة النفاق (ص: 50 - 51) ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن شعبة، عن سماك بن حرب، عن صبيح بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو "، ثم ساق الخبر بنحوه، ثم قال: " وهذا موقوف، وإسناده صحيح، وهو شاهد جيد لهذا الحديث، لأنه مثله مرفوع حكمًا. وصبيح بن عبد الله، بضم الصاد، تابعي كبير، أدرك عثمان وعليًا. وترجمه البخاري في الكبير 2 \ 2 \ 319، ولم يذكر فيه جرحًا ". وحديث المسند، حديث مرفوع. وحديث آية المنافق، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 1: 83، 84) من حديث أبي هريرة. وعبد الله بن عمرو. ورواه مسلم في صحيحه (2: 46 - 48) ، من حديث عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 376 16997- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت صبيح بن عبد الله العبسيّ يقول: سألت عبد الله بن عمرو عن المنافق، فذكر نحوه. (1) 16998- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو هشام المخزومي قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا عثمان بن حكيم قال، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: كنت أسمع أن المنافق يعرف بثلاث: بالكذب، والإخلاف، والخيانة، فالتمستُها في كتاب الله زمانًا لا أجدُها، ثم وجدتها في اثنتين من كتاب الله، (2) قوله: (ومنهم من عاهد الله) حتى بلغ: (وبما كانوا يكذبون) ، وقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة الأحزاب: 72] ، هذه الآية. 16999- حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا محمد المحرم قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) الأثر: 16997 - "صبيح بن عبد الله العبسي"، انظر ما سلف رقم: 16996، وكان في المطبوعة والمخطوطة "القيسي" بالقاف والياء، وصححته من المراجع، ومما سلف رقم: 12741، 12742. (2) في المطبوعة: "في آيتين" وأثبت ما في المخطوطة والذي رجح ذلك عندي، أن الذي ذكره بعد هذا، ثلاث آيات من سورة التوبة، وآية من سورة الأحزاب، فهذه أربعة. ولكنه أراد في سورتين من القرآن، أو نحو ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 377 ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقلت للحسن: يا أبا سعيد، لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني فتقاضاني، وليس عندي، وخفت أن يحبسني ويهلكني، فوعدته أن أقضيه رأسَ الهلال، فلم أفعل، أمنافق أنا؟ قال: هكذا جاء الحديث! ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو: أن أباه لما حضره الموت قال: زوِّجوا فلانًا، فإني وعدته أن أزوجه، لا ألقى الله بثُلُثِ النفاق! قال قلت: يا أبا سعيد، ويكون ثُلُث الرجل منافقًا، وثلثاه مؤمن؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح، فأخبرته الحديثَ الذي سمعته من الحسن، وبالذي قلت له وقال لي، فقال لي: (1) أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف عليه السلام، ألم يعدوا أباهم فأخلفوه، وحدَّثوه فكذبوه، وأتمنهم فخانوه، أفمنافقين كانوا؟ ألم يكونوا أنبياء؟ أبوهم نبيٌّ، وجدُّهم نبي؟ قال: فقلت لعطاء: يا أبا محمد، حدِّثني بأصل النفاق، وبأصل هذا الحديث. فقال: حدثني جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصَّة، الذين حدَّثوا النبي فكذبوه، وأتمنهم على سرّه فخانوه، ووعدوه أن يخرجوه معه في الغزو فأخلفوه. قال: وخرج أبو سفيان من مكة، فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه، واكتموا. قال: فكتب رجل من المنافقين إليه" "إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذرَكم". فأنزل الله: (لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، [سورة الأنفال: 27] ، وأنزل في المنافقين: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، إلى: (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدو وبما كانوا يكذبون) ، فإذا لقيت الحسن فأقرئه السلام، وأخبره بأصل هذا الحديث، وبما قلت لك. قال: فقدمت على الحسن فقلت: يا أبا سعيد، إن أخاك عطاءً يقرئك السلام، فأخبرته بالحديث الذي حدث، وما قال لي، فأخذ الحسن بيدي فأشالها، (2) وقال: يا أهل العراق، أعجزتم أن تكونوا مثلَ هذا؟ سمع مني حديثًا فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء، هكذا الحديث، وهذا في المنافقين خاصة. (3) 17000- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يعقوب، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فهو منافق. فقيل له: ما هي يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان. 17001- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثنا مبشّر، عن الأوزاعي عن هارون بن رباب، عن عبد الله بن عمرو بن وائل: أنه لما حضرته الوفاة قال: إنّ فلانًا خطب إليّ ابنتي، وإني كنت قلت له فيها قولا شبيهًا بالعِدَة، والله لا ألقى الله بثُلُث النفاق، وأشهدكم أني قد زوَّجته. (4) * * *   (1) في المطبوعة: " فقال "، أسقط " لي "، وأثبت ما في المخطوطة. (2) في المطبوعة: "فأمالها"، وهو لا معنى له البتة. وفي المخطوطة: "فأسالها"، غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. يقال: "شالت الناقة بذنبها وأشالته"، رفعته. ويقال: " أشال الحجر، وشال به، وشاوله "، رفعه، ويقال: " شال السائل بيديه "، إذا رفعهما يسأل بهما. (3) الأثر: 16999 - " القاسم بن بشر بن أحمد بن معروف "، شيخ الطبري، مضى برقم: 10509، 10531. و" شبابة "، هو " شبابة بن سوار الفزاري "، روى له الجماعة، مضى برقم: 12851، وقبله. وكان في المطبوعة: " أسامة "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فحرفه تحريفًا منكرًا. و " محمد المحرم "، هو " محمد بن عمر المحرم " ويقال هو: " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، وهو منكر الحديث. سلف بيان حاله برقم: 15922، تفصيلا، ومواضع ترجمته. وكان في المطبوعة: " محمد المخرمي "، غير ما في المخطوطة بلا دليل ولا بيان، وهو إساءة وخطأ. وهذا خبر منكر جدًا، أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير 1 \ 1 \ 248 في ترجمة " محمد المحرم "، قال: " عن عطاء، والحسن. منكر الحديث: إذا وعد أخلف، سمع منه شبابة "، يعني هذا الخبر. (4) الأثر: 17001 - "مبشر"، هو "مبشر بن إسماعيل الحلبي"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 11، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 343. وكان في المطبوعة: "ميسرة"، تصرف تصرفًا معيبًا، وفي المخطوطة: "مسر" غير منقوطة. و"هارون بن رياب التميمي الأسيدي"، كان من العباد ممن يخفي الزهد. ثقة. قال ابن حزم: " اليمان، وهارون، وعلي، بنو رياب = كان هارون من أهل السنة، واليمان من أئمة الخوارج، وعلي من أئمة الروافض، وكانوا متعادين كلهم "! ! مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 219، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 89. وأما " عبد الله بن عمرو بن وائل "، فهذا غريب ولكنه صحيح، فإنه " عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل "، فلا أدري لما فعل ذلك في سياق اسمه، إلا أن يكون سقط من الناسخ. هذا، وقد كان الإسناد في المطبوعة هكذا: " حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح، قال حدثنا ميسرة "، وقد صححت " ميسرة " قبله، أما " قال حدثني حجاج عن ابن جريج "، فقد كتبها ناسخ المخطوطة، ولكنه ضرب عليها ضربات بالقلم، يعني بذلك حذفه، ولكن الناشر لم يعرف اصطلاحهم في الضرب على الكلام، فأثبت ما حذفته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 378 وقال قوم: كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون، شيئًا نووه في أنفسهم، ولم يتكلموا به. * ذكر من قال ذلك: 17002- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول: ركبت البحرَ، فأصابنا ريحٌ شديدة، فنذر قوم منا نذورًا، ونويت أنا، لم أتكلم به. فلما قدمت البصرة سألت أبي سليمانَ فقال لي: يا بُنَيّ، فِ به. (1) = قال معتمر: وحدثنا كهمس، عن سعيد بن ثابت قال قوله: (ومنهم من عاهد الله) ، الآية، قال: إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله: (ألم يعلموا أن الله يعلم سِرَّهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) ؟ (2) * * *   (1) في المطبوعة: "فه به"، ولا يقال ذلك إلا عند الوقف، والصواب "ف" على حرف واحد، أمرًا من "وفى يفي". وأثبت ما في المخطوطة. (2) الأثر: 17002 - "كهمس بن الحسن التميمي"، ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير 4\ 1 \ 239، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 170. و"سعيد بن ثابت"، هكذا هو في المخطوطة، ولم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من كتب الرجال، وأخشى أن يكون قد دخله تحريف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 380 القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ (78) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرًّا، ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرًا = (أن الله يعلم سرهم) ، الذي يسرُّونه في أنفسهم، من الكفر به وبرسوله = (ونجواهم) ، يقول: "ونجواهم"، إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله، وذكرِهم بغير ما ينبغي أن يُذكروا به، فيحذروا من الله عقوبته أن يحلَّها بهم، وسطوته أن يوقعها بهم، على كفرهم بالله وبرسوله، وعيبهم للإسلام وأهله، فينزعوا عن ذلك ويتوبوا منه = (وأن الله علام الغيوب) ، يقول: ألم يعلموا أن الله علام ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسّهم، مما أكنّته نفوسهم، فلم يظهرْ على جوارحهم الظاهرة، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب، ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه، وإظهار خلاف ما يعتقدونه؟ (1) * * * القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة، بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم، ويطعنون فيها عليهم   (1) انظر تفسير "علام الغيوب" فيما سلف 11: 238، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 381 بقولهم: "إنما تصدقوا به رياءً وسُمْعة، ولم يريدوا وجه الله" (1) = ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدَّقون به إلا جهدهم، وذلك طاقتهم، فينتقصونهم ويقولون: "لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيًّا! " سخريةً منهم بهم = (فيسخرون منهم سخر الله منهم) . * * * وقد بينا صفة "سخرية الله"، بمن يسخر به من خلقه، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته ههنا. (2) * * * = (ولهم عذاب أليم) ، يقول: ولهم من عند الله يوم القيامة عذابٌ موجع مؤلم. (3) * * * وذكر أن المعنيّ بقوله: (المطوعين من المؤمنين) ، عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي الأنصاري = وأن المعنيّ بقوله: (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، أبو عقيل الأراشيّ، أخو بني أنيف. * ذكر من قال ذلك: 17003- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً! وقالوا: إن كان الله ورسولُه لَغنِيّيْنِ عن هذا الصاع!   (1) انظر تفسير "اللمز" فيما سلف ص: 300، 301. = وانظر تفسير "التطوع" فيما سلف 3: 247، 441، وسيأتي تفسيره بعد قليل ص: 392، 393. (2) لم يمض تفسير "سخر"، وإنما عني أبو جعفر قوله تعالى في سورة البقرة: (الله يستهزئ بهم) ، انظر ما سلف 1: 301 - 306. (3) انظر تفسير "أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 382 17004- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يومًا فنادى فيهم: أن أجمعوا صدقاتكم! فجمع الناس صدقاتهم. ثم جاء رجل من آخرهم بِمَنٍّ من تمر، (1) فقال: يا رسول الله، هذا صاع من تمرٍ، بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير الماءَ، (2) حتى نلت صاعين من تمرٍ، فأمسكت أحدَهما، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال وقالوا: والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا! وما يصنعان بصاعك من شيء"! ثم إن عبد الرحمن بن عوف، رجل من قريش من بني زهرة، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: لا! فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مئة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون! فقال: فعلِّمنا ما قلت؟ (3) قال: نعم! مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلافٍ فأقرضها ربيّ، وأما أربعة آلاف فلي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت! وكره المنافقون فقالوا: "والله ما أعطى عبد الرحمن عطيَّته إلا رياءً "! وهم كاذبون، إنما كان به متطوِّعًا. فأنزل الله عذرَه وعذرَ صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر، فقال الله في كتابه: (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآية.   (1) في المطبوعة: "من أحوجهم بمن من تمر"، غير ما في المخطوطة بلا طائل، و "المن" مكيال. (2) "الجرير"، الحبل، وأراد أنه أنه كان يسقي الماء بالحبل. (3) في المطبوعة: "أتعلم ما قلت"، وفي المخطوطة: "أفعلمنا ما قلت"، وهذا صواب قراءتها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 383 17005- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف، فلمزه المنافقون وقالوا: "راءَى" = (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، قال: رجل من الأنصار آجرَ نفسه بصاع من تمر، لم يكن له غيره، فجاء به فلمزوه، وقالوا: كان الله غنيًّا عن صاع هذا! 17006- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 17007- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. 17008- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، الآية، قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، فتقرَّب به إلى الله، فلمزه المنافقون فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة! فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له "حبحاب، أبو عقيل" (1)   (1) "حبحاب"، ذكره ابن حجر في الإصابة في "حبحاب". ثم قال: "قليل فيه بموحدتين، والأشهر بمثلثتين، وسيأتي" ولم يذكره في "حثحاث" كما يدل عليه تعقيبه هذا، وإنما ذكره في "جثجاث" بالجيم والثاء المثلثة فيما سلف قبله، وقال هناك: "قيل: هو اسم أبي عقيل، صاحب الصاع، ضبطه السهيلي تبعًا لابن عبد البر، وضبطه غير بالحاء المهملة. وقيل في اسمه غير ذلك. وتأتي ترجمته في الكنى" بيد أن الحافظ ابن حجر قال في فتح الباري 8: 249 "وذكر السهيلي أنه رآه بخط بعض الحفاظ مضبوطًا بجيمين". ولم أجد في الاستيعاب لابن عبد البر ضبطًا له، وهو مترجم هناك في "أبو عقيل صاحب الصاع" ص: 673، وهو في مطبوعة الاستيعاب بالحاء والثاء المثلثة من ضبط مصححه. وفي السهيلي (الروض الأنف 2: 331) : "جثجاث"، بالجيم والثاء. وأما صاحب أسد الغابة فترجم له في " أبو عقيل، صاحب الصاع " (5: 257) ، ولم يضبطه، وهو محرف في المطبوعة. ولكنه أورده في "حبحاب" (بالحاء والباء) ، وقال: هو أبو عقيل الأنصاري. أسد الغابة 1: 366. وترجم له ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 41 في "بني أنيف بن جشم بن عائذ الله، من بلى، حلفا بني جحجبا بن كلفة" وقال: " أبو عقيل، واسمه عبد الرحمن الإراشي الأنيفي "، ولم يذكر خبر الصاع. هذا، وقد استوفى الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8: 249، ذكر " أبي عقيل "، فذكر الاختلاف في صاحب الصاع، وهذا ملخصه: الأول: أنه " الحبجاب، أبو عقيل "، وذكر ما رواه الطبري هنا وفيما سيأتي، وما رواه غيره. الثاني: أنه " سهل بن رافع "، وحجته فيه، خبر رواه الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن عثمان البلوي، " عن جدته بنت عدي أن أمهما عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون "، وهكذا قال ابن الكلبي. الثالث: من طريق عكرمة: أنه " رفاعة بن سهل بن رافع "، وقال: وعند أبي حاتم " رفاعة بن سعد "، ويحتمل أن يكون تصحيفًا، ويحتمل أن يكون اسم " أبي عقيل " " سهل "، ولقبه " حبحاب " = أو هما اثنان من الصحابة. الرابع: في الصحابة " أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلوي "، بدري، لم يسمه موسى ابن عقبة، ولا ابن إسحاق، وسماه الواقدي " عبد الرحمن ". قال: واستشهد باليمامة. قال: وكلام الطبري يدل على أنه هو صاحب الصاع عنده. وتبعه بعض المتأخرين، والأول أولى. الخامس: أنه "عبد الرحمن بن سمحان"؟ ؟ (هكذا جاء) . السادس: أن صاحب الصاع هو "أبو خيثمة": " عبد الله بن خشيمة، من بني سالم، من الأنصار"، ودليله ما جاء في حديث توبة كعب بن مالك، وانظر الأثر رقم: 17016. السابع: عن الواقدي أن صاحب الصاع، هو "علية بن زيد المحاربي". وقال الحافظ: " وهذا يدل على تعدد من جاء بالصاع ". وهذا اختلاف شديد، يحتاج إلى فضل تحقيق ومراجعة، قيدته هنا ليكون تذكرة لمن أراد تتبعه وتحقيقه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 384 فقال: يا نبي الله، بتُّ أجرُّ الجرير على صاعين من تمر، أما صاع فأمسكته لأهلي، وأما صاع فها هو ذا! فقال المنافقون: "والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا". فأنزل الله في ذلك القرآن: (الذين يلمزون) ، الآية. 17009- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله، وكان ماله ثمانية آلاف دينار، فتصدق بأربعة آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء! فقال الله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) = وكان لرجل صاعان من تمر، فجاء بأحدهما، فقال ناس من المنافقين: إن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 385 كان الله عن صاع هذا لغنيًّا! فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم، فقال الله: (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) . 17010- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال، حدثنا أبو عوانة، عن [عمر بن] أبي سلمة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تصدقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا. قال: فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، إن عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما الله، وألفين لعيالي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت! فقال رجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمرٍ، صاعًا لربي، وصاعًا لعيالي! قال: فلمز المنافقون وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً! وقالوا: أو لم يكن الله غنيًّا عن صاع هذا! فأنزل الله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، إلى آخر الآية. (1) 17011- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن   (1) الأثر: 17010 - " أبو عوانة "، هو "الوضاح بن عبد الله اليشكري"، ثقة روى له الجماعة، مضى برقم: 4498، 10336، 10337. و"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف"، يضعف، مضى مرارًا، آخرها رقم: 12755. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو عوانة، عن أبي سلمة"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه من إسناده في تفسير ابن كثير، ومن مجمع الزوائد. وأبوه "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف"، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها: 12822. خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 32، عن أبي سلمة، وعن أبي هريرة، ثم قال: "رواه البزار من طريقين: إحداهما متصلة عن أبي هريرة، والأخرى عن أبي سلمة مرسلة. قال: ولم نسمع أحدًا أسنده من حديث عمر بن أبي سلمة، إلا طالوت بن عباد. وفيه عمر بن أبي سلمة، وثقه العجلي، وأبو خيثمة وابن حبان، وضعفه شعبة وغيره. وبقية رجالهما ثقات". وحديث البزار رواه ابن كثير في تفسيره 4: 212، 213، وهذا إسناده: "قال الحافظ أبو بكر البزار، حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة"، وساق الخبر. ثم قال ابن كثير: "ثم رواه عن أبي كامل، عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه مرسلا. قال: ولم يسنده أحد إلا طالوت". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 386 بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال: أصاب الناس جَهْدٌ شديد، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدَّقوا، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له فيما أمسك. فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة! قال: وجاء رجل بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي، وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن الله غنىٌّ عن صاع هذا! فأنزل الله هذه الآية: (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) . (1) 17012- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآية، وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات، (2) عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف دينار، وعاصم بن عدي أخا بني العَجلان، (3) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصدقة، وحضَّ عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف درهم، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمئة وَسْقٍ من تمر، فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء! وكان الذي تصدّق بجهده: أبو عقيل، أخو بني أنيف، الأراشي، حليف بني عمرو بن عوف، (4) أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صاع أبي عقيل!! (5)   (1) الأثر: 17011 - " عبد الرحمن بن سعد "، هو "عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي الرازي"، مضى برقم: 10666، 10855. (2) في المطبوعة: "من المطوعين"، وكان في المخطوطة قد كتب "وكان المطوعين"، ثم عاد بالقلم على الياء فجعلها واوًا، فتصرف الناشر ولم يبال بفعل الناسخ. والذي أثبته مطابق لما في السيرة. ولذلك غير الناسخ ما بعده فكتب، "أخو بني العجلان"، غير ما في المخطوطة. (3) في المطبوعة: "أخو بني عجلان"، تصرف تصرفًا معيبًا. (4) قوله: "الأراشي، حليف بني عمر بن عوف"، ليس في المطبوع من سيرة ابن هشام، وانظر التعليق السالف ص: 384، رقم: 1. (5) الأثر: 17012 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16990. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 387 17013- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل (1) = قال أبو النعمان: كنا نعمل = قال: فجاء رجل فتصدق بشيء كثير. قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر، فقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صاع هذا! فنزلت: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) . (2) 17014- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة قال، حدثني خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بتُّ أجرُّ الجرير على ظهري على صاعين من تمر (3) فانقلبتُ بأحدهما إلى أهلي يتبلَّغون به، (4) وجئت بالآخر أتقرَّب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (5) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: انثره في الصدقة. فسخر المنافقون منه. وقالوا:   (1) قوله "كنا نحامل"، من "المحاملة" وفسره الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: "أي نحمل على ظهورنا بالأجرة. يقال: حاملت، بمعنى: حملت، كسافرت. وقال الخطابي: يريد: نتكلف الحمل بالأجرة، لنكسب ما نتصدق به. ويؤيده في الرواية الثانية التي بعده - يعني في البخاري - حيث قال: انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل، أي: يطلب الحمل بالأجرة ". ويبين هذا أيضًا، تفسير أبي النعمان بقوله: " كنا نعمل "، وهو تفسير فيما أرجح، لا رواية أخرى في الخبر. (2) الأثر: 17013 - " أبو النعمان "، " الحكم بن عبد الله الأنصاري "، ثقة، قال البخاري: "حديثه معروف، كان يحفظ". وليس له في صحيح البخاري غير هذا الحديث. مترجم في التهذيب. و" أبو مسعود "، هو " أبو مسعود الأنصاري البدري "، واسمه " عقبة بن عمرو بن ثعلبة "، صاحب رسول الله، شهد العقبة. وكان في المخطوطة: " عن ابن مسعود "، وهو خطأ صرف. وهذا الخبر، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 224) من طريق عبيد الله بن سعيد، عن أبي النعمان الحكم بن عبد الله البصري بمثله، وفيه زيادة بعد قوله: "بشيء كثير"، هي "فقالوا: مرائي". ثم رواه البخاري أيضًا في صحيحه (الفتح 8: 249) من طريق بشر بن خالد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود، بغير هذا اللفظ، وفيه التصريح باسم " أبي عقيل " الذي أتى بنصف صاع. ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه 7: 105. ثم انظر: ص: 389، تعليق رقم: 1. (3) "الجرير": الحبل، وسلف شرحه ص: 383، تعليق: 2. (4) " تبلغ ببعض الطعام "، أي: اكتفى به من كثيره، حتى يبلغ ما يشبعه. (5) قوله: " إلى رسول الله "، متعلق بقوله: " جئت "، لا بقوله: " أتقرب به "، أي: جئت به إلى رسول الله، أتقرب به إلى الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 388 لقد كان الله غنيًّا عن صدقة هذا المسكين! فأنزل الله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآيتين. (1) 17015- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا الجريري، عن أبي السليل قال: وقف على الحيّ رجل، (2) فقال: حدثني أبي أو عمي فقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من يتصدق اليوم بصدقة أشهدُ له بها عند الله يوم القيامة؟ قال: وعليّ عمامة لي. قال: فنزعت لَوْثًا أو لوثيْن لأتصدق بهما، (3) قال: ثم أدركني ما يدرك ابن آدم، فعصبت بها رأسي. قال: فجاء   (1) الأثر: 17014 - "موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، ضعيف بمرة، لا تحل الرواية عنه، كما قال أحمد. مضى مرارًا، آخرها رقم: 11811. وأما "خالد بن يسار"، الذي روى عن ابن أبي عقيل، وروى عنه "موسى بن عبيدة"، فلم أجد له ترجمة ولا ذكرا. وهناك "خالد بن يسار"، روى عن أبي هريرة، روى عنه شعيب بن الحبحاب، ولا أظنه هو هو، وهذا أيضا قالوا: هو مجهول. وأما " ابن أبي عقيل "، فاسمه " رضى بن أبي عقيل "، مترجم في الكبير 2\ 1\ 313، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 523، قالا: " روى عن أبيه، وروى عن محمد بن فضيل " ولم يذكر فيه جرحًا. و"أبو عقيل"، مضى ذكره، وهو مترجم في الكنى للبخاري: 62، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 416، وقالا: روى عنه ابنه: رضى بن أبي عقيل. وهذا خبر ضعيف الإسناد جدًا، لضعف "موسى بن عبيدة"، وللمجهول الذي فيه، وهو " خالد بن يسار ". بيد أن الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 32، 33، روى هذا الخبر، بنحو لفظه، ثم قال: " رواه الطبراني، ورجاله ثقات، إلا خالد بن يسار، لم أجد من وثقه ولا جرحه ". فلا أدري أرواه عن " خالد بن يسار "، أحد غير " موسى بن عبيدة " في إسناد الطبراني، أم رواه " موسى بن عبيدة "، فإن يكن " موسى " هو راويه، فقد سلف مرارًا أن ضعفه الهيثمي. والظاهر أنه من رواية " موسى " لأني رأيت ابن كثير في تفسيره 4: 213، نقل هذا الخبر عن الطبري، ثم قال: " وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب، به. وقال: اسم أبي عقيل حباب (حبحاب) ، ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة " (انظر ص: 383، تعليق: 2) ، فهذا دال على أن في إسناد الطبراني "موسى بن عبيدة"، الضعيف بمرة. (2) في المسند: "وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع"، واختلف لفظ الخبر بعد. (3) " لاث العمامة على رأسه، يلوثها " أي: عصبها ولفها وأدارها. و " اللوث " اللفة من لفائف العمامة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 389 رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصرَ قِمَّة، (1) ولا أشدَّ سوادًا، ولا أدَمَّ بعينٍ منه، (2) يقود ناقة لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها. قال: أصدقةٌ هي، يا رسول الله؟ قال: نعم! قال: فدُونَكها! (3) فألقى بخطامها = أو بزمامها (4) = قال: فلمزه رجل جالسٌ فقال: والله إنه ليتصدّق بها، ولهي خيرٌ منه! فنظر إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو خير منك ومنها! (5) يقول ذلك ثلاثًا صلى الله عليه وسلم. (6) 17016- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك يقول: الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون: "أبو خيثمة الأنصاري". (7)   (1) " القمة " بالكسر، شخص الإنسان إذا كان قائمًا، وهي " القامة ". وهذا هو المراد هنا. و " القمة " أيضا، رأس الإنسان، وليس بمراد هنا. (2) في المطبوعة: " ولا أذم لعيني منه "، وهو فاسد، غير ما في المخطوطة. وهذه الجملة في مسند أحمد محرفة: " ولا آدم يعير بناقة "، وفي تفسير ابن كثير نقلا عن المسند: " ولا أذم ببعير ساقه "، فزاده تحريفا. والصواب ما في تفسير الطبري. " ولا أدم " من " الدمامة "، " دم الرجل يدم دمامة "، وهو القصر والقبح. وفي حديث ابن عمر: " لا يزوجن أحدكم ابنته بدميم ". (3) " دونكها "، أي: خذها. (4) في المخطوطة: " فألقى الله بخطامها أبو بزمامها "، وهو خطأ ظاهر، صوابه ما أثبت. ولكن ناشر المطبوعة حذف فكتب: " فألقى بخطامها ". (5) في المطبوعة والمخطوطة: " يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم "، وهو تحريف من الناسخ، وصوابه ما أثبت، وذلك أنه رأى في النسخة التي نقلنا عنها: " يقول ذلك ثلثا " فقرأها " نبينا "، وصوابه " ثلثا "، كما كانوا يكتبونها بحذف الألف. واستظهرت ذلك من حديث أحمد في المسند قال: " ثلاث مرات ". (6) الأثر: 1715 - "أبو السليل"، هو: "ضريب بن نقير بن سمير القيسي الجريري"، ثقة. روى عن سعيد الجريري وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 2 \ 343، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 470. وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5: 34، ونقله عن ابن كثير في تفسيره 4: 211، 212، بزيادة، واختلاف في بعض لفظه، كما أشرت إليه آنفًا في التعليقات. (7) الأثر: 17016 - "عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري"، ثقة. مضى برقم: 16147. وانظر ما سلف ج 13: 567، تعليق: 1. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 390 17017- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال، حدثنا عامر بن يساف اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! وجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله، بتُّ الليلة أجرُّ الماء على صاعين، فأما أحدهما فتركت لعيالي وأما الآخر فجئتك به، أجعله في سبيل الله، فقال: بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! فقال ناس من المنافقين: والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياءً وسمعة، ولقد كان الله ورسوله غنيَّين عن صاع فلان! فأنزل الله: (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات) ، يعني عبد الرحمن بن عوف: (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، يعني صاحب الصاع = (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) . (1) 17018- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال، قال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدَقاتهم، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف، فقال: هذا مالي أقرِضُه الله، وقد بقي لي مثله. فقال له: بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت! فقال المنافقون: ما أعطى إلا رياءً، وما أعطى صاحبُ الصّاع إلا رياءً، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا! وما يصنع الله بصاع من شيء!   (1) الأثر: 17017 - "ومحمد بن رجاء"، "أبو سهل العباداني"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع. و" عامر بن يساف اليمامي"، وهو " عامر بن عبد الله بن يساف " وثقه ابن معين وغيره، وقال ابن عدي: " منكر الحديث عن الثقات. ومع ضعفه يكتب حديثه ". مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 329، وميزان الاعتدال 2: 7، وتعجيل المنفعة: 206، ولسان الميزان 3: 224. و" يحيى بن أبي كثير اليمامي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 12760. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 391 17019- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، إلى قوله: (ولهم عذاب أليم) ، قال: أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدّقوا، فقام عمر بن الخطاب: فألفَى ذلك مالي وافرًا، فآخذ نصفه. (1) قال: فجئت أحمل مالا كثيرًا. فقال له رجل من المنافقين: ترائِي يا عمر! فقال: نعم، أرائي الله ورسوله، (2) وأما غيرهما فلا! قال: ورجلٌ من الأنصار لم يكن عنده شيء، فواجَرَ نفسه ليجرّ الجرير على رقبته بصاعين ليلته، (3) فترك صاعًا لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: إن الله ورسوله عن صاعك لغنيَّان! فذلك قول الله تبارك وتعالى: (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، هذا الأنصاري = (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) . * * * وقد بينا معنى "اللمز" في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى. (4) * * * وأما قوله: (المطوّعين) ، فإن معناه: المتطوعين، أدغمت التاء في   (1) في المطبوعة: " فقام عمر بن الخطاب، فألفى مالا وافرًا، فأخذ نصفه "، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة، فحرف وبدل وحذف، وأساء بما فعل غاية الإساءة. وإنما هذا قول عمر، يقول: فألفى هذا الأمر بالصدفة، مالي وافرا، فآخذ نصفه. (2) في المطبوعة: " فقال عمر: أراني الله. . .، وفي المخطوطة: " فقال نعم: إن الله ورسوله "، لم يحسن كتابتها، وأثبت الصواب من الدر المنثور 3: 263. (3) في المطبوعة: "فآجر نفسه"، وهي الصواب المحض، من قولهم: " أجر المملوك يأجره أجرًا، فهو مأجور" و "آجره إيجارًا، ومؤاجرة". وأما ما أثبته عن المخطوطة، فليس بفصيح، وإنما هو قياس ضعيف على قولهم في: "آمرته"، "وأمرته"، وقولهم في "آكله"، "وأكله" على البدل، وذلك كله ليس بفصيح ولا مرضي. وإنما أثبتها لوضوحها في المخطوطة، ولأنه من الكلام الذي يقال مثله. (4) انظر تفسير "اللمز" فيما سلف ص: 300، 301، 382. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 392 الطاء، فصارت طاء مشددة، كما قيل: (وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيْرًا) [سورة البقرة: 158] ، (1) يعني: يتطوّع. (2) * * * وأما "الجهد"، فإن للعرب فيه لغتين. يقال: "أعطاني من جُهْده"، بضم الجيم، وذلك فيما ذكر، لغة أهل الحجاز = ومن "جَهْدِه" بفتح الجيم، وذلك لغة نجد. (3) وعلى الضم قراءة الأمصار، وذلك هو الاختيار عندنا، لإجماع الحجة من القرأة عليه. وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد، وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه، كما اختلفت لغاتهم في "الوَجْد"، "والوُجْد" بالضم والفتح، من: "وجدت". (4) * * * وروي عن الشعبي في ذلك ما:- 17020- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبي قال: "الجَهْدُ"، و"الجُهْد"، الجَهْدُ في العمل، والجُهْدُ في القوت. (5) 17021- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبي، مثله.   (1) هذه القراءة، ذكرها أبو جعفر فيما سلف 3: 247، وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين. وأما قراءتنا في مصحفنا اليوم: (ومن تطوع خيرا) . (2) انظر تفسير " التطوع " فيما سلف 3: 247، 441 \ 14: 382، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 447. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 447،ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، وما سلف ص: 382. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 447،ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، وما سلف ص: 382. (5) في المطبوعة، حذف قوله: " الجهد، والجهد " وجعل " فالجهد "، " الجهد "، وبدأ به الكلام. وأثبت ما في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 393 17022- ...... قال، حدثنا ابن إدريس، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبي قال: الجَهْد في العمل، والجُهد في القِيتَة. (1) * * *   (1) في المطبوعة: " والجهد في المعيشة "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فغيرها. و " القوت " و" القيت " (بكسر القاف) و " القيتة " (بكسر القاف) ، كله واحد، وهو المسكة من الرزق، وما يقوم به بدن الإنسان من الطعام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 394 القول في تأويل قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ادع الله لهؤلاء المنافقين، الذين وصفت صفاتهم في هذه الآيات (1) بالمغفرة، أو لا تدع لهم بها. وهذا كلام خرج مخرج الأمر، وتأويله الخبر، ومعناه: إن استغفرت لهم، يا محمد، أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم. وقوله: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، يقول: إن تسأل لهم أن تُسْتر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضيحتهم بها، فلن يستر الله عليهم، ولن يعفو لهم عنها، ولكنه يفضحهم بها على رءوس الأشهاد يوم القيامة (2) (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) ، يقول جل ثناؤه: هذا الفعل من الله بهم، وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم، من أحل أنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله = (والله لا يهدي القوم الفاسقين) ، يقول: والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله، (3)   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " وصف صفاتهم "، وما أثبت أبين. (2) انظر تفسير "الاستغفار" و "المغفرة" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) . (3) انظر تفسير "الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 394 من آثر الكفر به والخروج عن طاعته، على الإيمان به وبرسوله. (1) * * * ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين نزلت هذه الآية قال: "لأزيدنّ في الاستغفار لهم على سبعين مرة"، رجاءً منه أن يغفر الله لهم، فنزلت: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [سورة المنافقون: 6] . 17023- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأصحابه: لولا أنكم تُنْفقون على محمد وأصحابه لانفَضُّوا من حوله! وهو القائل: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) [سورة المنافقون: 8] ، فأنزل الله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على السبعين! فأنزل الله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، فأبى الله تبارك وتعالى أن يغفر لهم. 17024- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، عن الشعبي قال: دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى جنازة أبيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قال: حُباب بن عبد الله بن أبيّ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، إن "الحُبَاب" هو الشيطان. (2) ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فأنا استغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين، وألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصَه وهو عَرِقٌ.   (1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف: 339، تعليق: 2، والمراجع هناك. (2) " الحباب " (بضم الحاء) ، الحية، قال ابن كثير: " ويقع على الحية أيضا، كما يقال لها الشيطان، فهما مشتركان فيه ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 395 17025- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن تستغفر لهم سبعين مرة) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأزيد على سبعين استغفارة! فأنزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون: (لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) ، عزمًا. (1) 17026- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 17027- ...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 17028- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. 17029- ...... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال: لما ثَقُل عبد الله بن أبيّ، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أبي قد احْتُضِر، فأحبُّ أن تشهده وتصليّ عليه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحُباب بن عبد الله. قال: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي، إن "الحباب" اسم شيطان. قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عَرِق، وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه وهو منافق؟ فقال: إن الله قال: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، ولأستغفرن له سبعين وسبعين! = قال هشيم: وأشكُّ في الثالثة. 17030- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) إلى قوله: (القوم الفاسقين) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: أسمعُ ربّي قد رَخّص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة،   (1) "عزما"، يعني توكيدًا، وحقًا واجبًا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 396 فلعل الله أن يغفر لهم! فقال الله، من شدة غضبه عليهم: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [سورة المنافقون: 6] . 17031- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فقال نبي الله: قد خيَّرني ربي، فلأزيدنهم على سبعين! فأنزل الله (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) ، الآية. 17032- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: لما نزلت: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على سبعين! فقال الله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) . * * * القول في تأويل قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح الذين خلَّفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه = (بمقعدهم خلاف رسول الله) ، يقول: بجلوسهم في منازلهم (1) = (خلاف رسول الله) ، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه   (1) انظر تفسير "القعود" فيما سلف 9: 85 \ 14: 277. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 397 ومقعده. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنَّفْر إلى جهاد أعداء الله، فخالفوا أمْرَه وجلسوا في منازلهم. * * * وقوله: (خِلاف) ، مصدر من قول القائل: "خالف فلان فلانًا فهو يخالفه خِلافًا"، فلذلك جاء مصدره على تقدير "فِعال"، كما يقال: "قاتله فهو يقاتله قتالا"، ولو كان مصدرًا من "خَلَفه" لكانت القراءة: "بمقعدهم خَلْفَ رسول الله"، لأن مصدر: "خلفه"، "خلفٌ" لا "خِلاف"، ولكنه على ما بينت من أنه مصدر: "خالف"، فقرئ: (خلاف رسول الله) ، وهي القراءة التي عليها قرأة الأمصار، وهي الصواب عندنا. * * * وقد تأول بعضهم ذلك بمعنى: "بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، (1) واستشهد على ذلك بقول الشاعر: (2) عَقَبَ الرَّبِيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا (3)   (1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 264. (2) هو الحارث بن خالد المخزومي. (3) الأغاني 3: 336 (دار الكتب) 15: 128 (ساسي) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، واللسان (عقب) ، (خلف) ، من قصيدة روى بعضها أبو الفرج في أغانيه، يقوله في عائشة بنت طلحة تعريضًا، وتصريحًا ببسرة جاريتها، يقول قبله: يَا رَبْع بُسرَةَ إن أضَرَّ بِكَ البِلَى ... فَلَقد عَهِدتُكَ آهلا مَعْمورًا ورواية أبي الفرج " عقب الرذاذ "، و " الرذاذ " صغار المطر. وأما " الربيع "، فهو المطر الذي يكون في الربيع. قال أبو الفرج الأصبهاني: " وقوله: عقب الرذاذ، يقول: جاء الرذاذ بعده. ومنه يقال: عقب لفلان غنى بعد فقر = وعقب الرجل أباه: إذا قام بعده مقامه. وعواقب الأمور، مأخوذة منه، واحدتها عاقبة. . . والشواطب: النساء اللواتي يشطبن لحاء السعف، يعملن منه الحصر. ومنه السيف المشطب، والشطبية: الشعبة من الشيء. ويقال: بعثنا إلى فلان شطبية من خيلنا، أي: قطعة ". قلت: وإنما وصف آثار الغيث في الديار، فشبه أرضها بالحصر المنمقة، للطرائق التي تبقى في الرمل بعد المطر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 398 وذلك قريبٌ لمعنى ما قلنا، لأنهم قعدوا بعده على الخلافِ له. * * * وقوله: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ، يقول تعالى ذكره: وكره هؤلاء المخلفون أن يغزُوا الكفار بأموالهم وأنفسهم (1) = (في سبيل الله) ، يعني: في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه، (2) ميلا إلى الدعة والخفض، وإيثارًا للراحة على التعب والمشقة، وشحًّا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله. * * * = (وقالوا لا تنفروا في الحر) ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة، وهي غزوة تبوك، في حرّ شديدٍ، (3) فقال المنافقون بعضهم لبعض: "لا تنفروا في الحر"، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) لهم، يا محمد = (نار جهنم) ، التي أعدّها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله = (أشد حرًّا) ، من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه. يقول: الذي هو أشد حرًا، أحرى أن يُحذر ويُتَّقى من الذي هو أقلهما أذًى = (لو كانوا يفقهون) ، يقول: لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظَه، ويتدبَّرون آي كتابه، (4) ولكنهم لا يفقهون عن الله، فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروهًا وأخفَّه أذًى، ويواقعون أشدَّه مكروهًا (5) وأعظمه على من يصلاه بلاءً. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:   (1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 358، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . (3) انظر تفسير " النفر " فيما سلف 58: 536 \ 14: 251، 254. (4) انظر تفسير "فقه" فيما سلف ص: 51، تعليق: 1، والمراجع هناك. (5) في المطبوعة والمخطوطة: " ويوافقون أشده مكروهًا "، وهو خطأ من الناسخ، والصواب ما أثبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 399 17033- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) ، إلى قوله: (يفقهون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله، الحرُّ شديدٌ، ولا نستطيع الخروجَ، فلا تنفر في الحرّ! فقال الله: (قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فأمره الله بالخروج. 17034- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتاده في قوله: (بمقعدهم خلاف رسول الله) ، قال: هي غزوة تبوك. (1) 17035- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ إلى تبوك، فقال رجل من بني سَلِمة: لا تنفروا في الحرّ! فأنزل الله: (قل نار جهنم) ، الآية. 17036- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: [ثم] ذكر قول بعضهم لبعض، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وأجمع السير إلى تبوك، على شدّة الحرّ وجدب البلاد. يقول الله جل ثناؤه: (وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًّا) . (2) * * *   (1) في المطبوعة: "من عزوة تبوك"، والصواب ما في المخطوطة. (2) الأثر: 17036 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17012. والزيادة بين القوسين منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 400 القول في تأويل قوله: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، فليضحكوا فرحين قليلا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولَهْوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلا في جهنم مكانَ ضحكهم القليل في الدنيا = (جزاء) ، يقول: ثوابًا منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوّهم، وقعودهم في منازلهم خلافَ رسول الله (1) = (بما كانوا يكسبون) ، يقول: بما كانوا يجترحون من الذنوب. (2) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 17037- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن أبي رزين: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال يقول الله تبارك وتعالى: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير. 17038- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم: (فليضحكوا قليلا) ، قال: في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، قال: في الآخرة. 17039- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين في قوله: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال: في الآخرة. 17040- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا   (1) انظر تفسير "الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) . (2) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 401 شعبة، عن منصور، عن أبي رزين أنه قال في هذه الآية: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال: ليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في النار كثيرًا. وقال في هذه الآية: (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) ، [سورة الأحزاب: 16] ، قال: إلى آجالهم = أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خثيم. (1) 17041- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فليضحكوا قليلا) ، قال: ليضحكوا قليلا في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، في الآخرة، في نار جهنم = (جزاء بما كانوا يكسبون) . 17042- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فليضحكوا قليلا) ،: أي في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ،: أي في النار. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا. ذكر لنا أنه نودي عند ذلك، أو قيل له: لا تُقَنِّط عبادي. 17043- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم، (فليضحكوا قليلا) ، قال: في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، قال: في الآخرة. 17044- ...... قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين: (فليضحكوا قليلا) ، قال: في الدنيا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع، فذلك الكثير. 17045- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني   (1) الأثر: 17040 - سيأتي هذا الجزء نفسه بإسناده في تفسيره آية " سورة الأحزاب ". وكان في المطبوعة هنا: " قال: أجلهم "، وفي المخطوطة: " قال: آجالهم "، أسقط " إلى "، أثبتها من نص الخبر في تفسير سورة الأحزاب. وكان في المطبوعة في هذا الأثر، والذي قبله، وما سيأتي: " الربيع بن خيثم "، والصواب: " خيثم "، كما سلف مرارًا، فغيرته، ولم أنبه عليه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 402 معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال: هم المنافقون والكفار، الذين اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا. يقول الله تبارك وتعالى: (فليضحكوا قليلا) ، في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، في النار. 17046- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فليضحكوا) ، في الدنيا، (قليلا) = (وليبكوا) ، يوم القيامة، (كثيرًا) . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) ، حتى بلغ: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ، [سورة المطففين: 36] . * * * القول في تأويل قوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن ردّك الله، يا محمد، إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه (1) = (فاستأذنوك للخروج) ، معك في أخرى غيرها = (فقل) لهم = (لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًّا إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرة) ، وذلك عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك (2) = (فاقعدوا مع الخالفين) ، يقول: فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنكم منهم، فاقتدوا بهديهم،   (1) انظر تفسير "طائفة" فيما سلف ص: 336، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير "القعود" فيما سلف ص: 397، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 403 واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله، فإن الله قد سخط عليكم. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 17047- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله، الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا تنفر في الحرّ! = وذلك في غزوة تبوك = فقال الله: (قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فأمره الله بالخروج. فتخلف عنه رجال، فأدركتهم نفوسهم فقالوا: والله ما صنعنا شيئًا! فانطلق منهم ثلاثة، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل الله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) ، إلى قوله: (ولا تقم على قبرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلك الذين تخلَّفوا، فأنزل الله عُذْرَهم لما تابوا، فقال: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ) ، إلى قوله: (إن الله هو التواب الرحيم) ، [سورة التوبة: 117، 118] . 17048- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) ، إلى قوله: (فاقعدوا مع الخالفين) ، أي: مع النساء. ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين، قيل فيهم ما قيل. (1) 17049- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فاقعدوا مع الخالفين) ، و"الخالفون"، الرجال. * * * قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في قوله: (الخالفين) ، ما قال ابن عباس.   (1) في المطبوعة: " فقيل فيهم. . . "، وكان في المخطوطة: " قتل منهم ما قتل "، صوابه ما في المطبوعة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 404 * * * فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء، فقولٌ لا معنى له. لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهن رجال، بالياء والنون، ولا بالواو والنون. ولو كان معنيًّا بذلك النساء لقيل: "فاقعدوا مع الخوالف"، أو "مع الخالفات". ولكن معناه ما قلنا، من أنه أريد به: فاقعدوا مع مرضى الرِّجال وأهل زَمانتهم، والضعفاء منهم، والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر، فإن العرب تغلب الذكور على الإناث، ولذلك قيل: (فاقعدوا مع الخالفين) ، والمعنى ما ذكرنا. * * * ولو وُجِّه معنى ذلك إلى: فاقعدوا مع أهل الفساد، من قولهم: "خَلَف الرجال عن أهله يخْلُف خُلُوفًا، إذا فسد، ومن قولهم: "هو خَلْف سَوْءٍ" = كان مذهبًا. وأصله إذا أريد به هذا المعنى، من قولهم: "خَلَف اللبن يَخْلُفُ خُلُوفا"، إذا خبث من طول وضعه في السِّقاء حتى يفسد، ومن قولهم: "خَلَف فم الصائم"، إذا تغيرت ريحه. (1) * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) } قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تصلِّ، يا محمد، على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدًا = (ولا تقم على قبره) ، يقول: ولا تتولَّ دفنه وتقبيره. (2)   (1) انظر تفسير " خلف " فيما سلف: 13: 209، 210. (2) في المطبوعة: " وتقبره "، غير ما في المخطوطة. و " التقبير " بمعنى: الدفن، من ألفاظ قدماء الفقهاء. وقد سلف استخدام أبي جعفر هذه اللفظة، وتعليقي عليها فيما سلف 9: 387، تعليق: 1. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 405 من قول القائل: "قام فلان بأمر فلان"، إذا كفاه أمرَه. * * * = (إنهم كفروا بالله) ، يقول: إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله = وماتوا وهم خارجون من الإسلام، مفارقون أمرَ الله ونهيه. (1) * * * وقد ذكر أن هذه الآية نزلت حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ. * ذكر من قال ذلك: 17050- حدثنا محمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع، وسوار بن عبد الله قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: جاء ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله حين مات أبوه فقال: أعطني قميصَك حتى أكفّنه فيه، وصلّ عليه، واستغفر له. = فأعطاه قميصه = وإذا فرغتم فآذنوني. (2) فلما أراد أن يصلي عليه، [جذبه] عمر، (3) وقال: أليس قد نهاك الله أن تُصَليّ على المنافقين؟ فقال: بل خيّرني وقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) ، قال: فصلي عليه. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: (ولا تُصَلِّ على أحَدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) ، قال: فترك الصلاة عليهم. (4)   (1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص: 385، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) في المطبوعة: " قال: وإذا فرغتم "، وليس في المخطوطة: " قال " بل فيها: " وإذا وإذا فرغتم "، بالتكرار. (3) "جذبه" التي بين القوسين، ساقطة من المخطوطة، زادها الناشر الأول، وأصاب. . (4) الأثر: 17050 - خبر " عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 110 \ 8: 251، 255) ، رواه من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، ثم من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله، ثم من طريق أنس بن عياض، عن عبيد الله. ورواه مسلم في صحيحه 17: 121، من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر. وسيأتي من رواية أبي جعفر، من طريق أسامة، في الذي يليه، رقم: 17051. وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 217 - 219، فراجعه هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 406 17051- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ بثوب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ابنَ سلول! أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما خيَّرني ربّي، فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، وسأزيد على سبعين. فقال: إنه منافق! فصلى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) . (1) 17052- حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن مجاهد قال، حدثني عامر، عن جابر بن عبد الله: أن رأسَ المنافقين مات بالمدينة، فأوصى أن يصلي عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأن يكفَّن في قميصه، فكفنه في قميصه، وصلى عليه وقام على قبره، فأنزل الله تبارك وتعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) . (2) 17053- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) . (3)   (1) الأثر: 17051 - انظر التخريج السالف. (2) الأثر: 17052 - حديث جابر بن عبد الله من هذه الطريق، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 219، عن مسند البزار، من طريق عمرو بن علي، عن يحيى، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، وقال: "وإسناده لا بأس به، وما قبله شاهد له". وسيأتي حديث جابر من طريق أخرى رقم: 17054 (3) الأثر: 17053 - " يزيد الرقاشي "، هو " يزيد بن أبان الرقاشي "، ضعيف بل متروك، مضى برقم: 6654، 6728، 7577، وغيرها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 407 17054- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر قال: جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن أبيّ وقد أدخل حُفْرته، فأخرجه فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه، وتَفَل عليه من ريقه، والله أعلم. (1) 17055- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه. فلما وقف عليه يريد الصلاة، تحوَّلتُ حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله، أتصلي على عدوّ الله عبد الله بن أبي، القائل يوم كذا كذا وكذا!! أعدِّد أيّامه، (2) ورسول الله عليه السلام يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخِّر عنّي يا عمر، إني خُيِّرت فاخترت، وقد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فلو أنّي أعلم أنّي إن زدت على السبعين غفر له، لزدت! قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبتُ لي وجُرْأتي (3) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصلِّ على أحدا منهم مات أبدًا) ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَه على منافق، ولا قام   (1) الأثر: 17054 - حديث جابر، مضى من طريق الشعبي آنفا رقم: 10752. وأما هذه الطريق، فمنها رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 111) ، ومسلم في صحيحه 175: 121، وروا أيضا من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار. وقوله: " والله أعلم "، يعني: والله أعلم بقضائه، إذ فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، مع قضاء الله في المنافقين بما قضى به فيهم. (2) هكذا في السيرة: " أعدد أيامه " وظنها بعضهم خطأ، وهو صواب. يعني يعدد ما كان منه في أيام من أيامه، يوم قال كذا، ويوم قال كذا. (3) في المطبوعة: "أتعجب لي"، وفي المخطوطة: "تعجبت"، وأثبت نص ابن هشام في سيرته. وفي السيرة: "ولجرأتي". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 408 على قبره، حتى قبضه الله. (1) 17056- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما مات عبد الله بن أبي، أتى ابنه عبد الله بن عبد الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله قميصه، فأعطاه، فكفَّن فيه أباه. (2) 17057- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: لما مات عبد الله بن أبيّ = فذكر مثل حديث ابن حميد، عن سلمة. (3) 17058- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) ، الآية، قال: بعث عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه، فنهاه عن ذلك عمر. فأتاه نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ اليهود! قال فقال: يا نبي الله، إني لم أبعث إليك لتؤنّبني، ولكن بعثت إليك لتستغفر لي! وسأله قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه، فاستغفر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمات فكفن في قميص رسول الله صلى الله عليه   (1) الأثر: 17055 - سيرة ابن هشام 4: 196، 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17036. وحديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 254) ، من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب الزهري. وسيأتي من هذه الطريق برقم: 17057. وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 218. وقوله: " أخر عني يا عمر "، أي: أخر عني رأيك، فاختصر إيجاز وبلاغة - هكذا قالوا: وقد ذكرت آنفا ج 10: 339، تعليق: 6، أنهم قصروا من شرحه، وأن معناه، اصرف عني رأيك وأبعده، وأنه مما يزداد على بيان كتب اللغة. (2) الأثر: 17056 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام. (3) الأثر: 17057 - سلف تخريجه في رقم: 17055. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 409 وسلم، ونفث في جلده، ودلاه في قبره، فأنزل الله تبارك وتعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا) ، الآية. قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كُلّم في ذلك فقال: وما يغني عنه قميصي من الله = أو: ربي = وصلى عليه = وإني لأرجو أن يسلم به ألفٌ من قومه. (1) 17059- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فلما دخل عليه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ يهود! قال: يا رسول الله، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتؤنبني! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفّن فيه، فأعطاه إياه، وصلى عليه، وقام على قبره، فأنزل الله تعالى ذكره: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبرة) . * * * القول في تأويل قوله: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تعجبك، يا محمد، أموالُ هؤلاء المنافقين وأولادهم، فتصلي على أحدهم إذا مات وتقوم   (1) قوله: " وصلى عليه "، هكذا في المخطوطة، وجعلها في المطبوعة: " وصلاتي عليه "، كأنه ظنه معطوفًا على قوله: " ما يغنى عنه قميصي "، ولكن جائز أن يكون ما أثبته من المخطوطة، هو الصواب، وهو خبر من قتادة أو غيره، فصل به بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك وضعته بين خطين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 410 على قبره، من أجل كثرة ماله وولده، فإني إنما أعطيته ما أعطيته من ذلك لأعذبه بها في الدنيا بالغموم والهموم، بما ألزمه فيها من المؤن والنفقات والزكوات، وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات، = (وتزهق أنفسهم) ، يقول: وليموت فتخرج نفسه من جسده، (1) فيفارق ما أعطيته من المال والولد، فيكون ذلك حسرة عليه عند موته، ووبالا عليه حينئذٍ، ووبالا عليه في الآخرة، بموته جاحدًا توحيدَ الله، ونبوةَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. 17060- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن السدي: (وتزهق أنفسهم) ، في الحياة الدنيا. * * * القول في تأويل قوله: {وَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل عليك، يا محمد، سورة من القرآن، بأن يقال لهؤلاء المنافقين: (آمنوا بالله) ، يقول: صدِّقوا بالله = (وجاهدوا مع رسوله) ، يقول: اغزوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) = (استأذنك أولوا الطول منهم) ، يقول: استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك، والقعود في أهله (3) = (وقالوا ذرنا) ، يقول: وقالوا لك: دعنا، (4) نكن ممن يقعد في منزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم، ومن لا يقدر على   (1) انظر تفسير " زهق " فيما سلف ص: 297. (2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 399، تعليق: 1، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الطول " فيما سلف 8: 182 - 185. (4) انظر تفسير " ذر " فيما سلف 13: 291، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 411 الخروج معك في السفر. (1) * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 17061- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (استأذنك أولوا الطول) ، قال: يعني أهل الغنى. 17062- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (أولوا الطول منهم) ، يعني: الأغنياء. 17063- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم) ، كان منهم عبد الله بن أبيّ، والجدُّ بن قيس. فنعى الله ذلك عليهم. (2) * * *   (1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص: 404، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) الأثر: 17063 - سيرة ابن هشام 4: 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17055، غير أن ابن هشام قال: " وكان ابن أبي من أولئك، فنعى الله ذلك عليه، وذكره منه ". ولم يذكر هنا " الجد بن قيس ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 412 القول في تأويل قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رضي هؤلاء المنافقون = الذين إذا قيل لهم: آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله، استأذنك أهل الغنى منهم في التخلف عن الغزو والخروج معك لقتال أعداء الله من المشركين = أن يكونوا في منازلهم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 412 كالنساء اللواتي ليس عليهن فرض الجهاد، فهن قعود في منازلهنّ وبيوتهنّ (1) = (وطبع على قلوبهم) ، يقول: وختم الله على قلوب هؤلاء المنافقين = (فهم لا يفقهون) ، عن الله مواعظه، فيتعظون بها. (2) * * * وقد بينا معنى "الطبع"، وكيف الختم على القلوب، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3) * * * وبنحو الذي قلنا في معنى "الخوالف" قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 17064- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال: "الخوالف" هنّ النساء. 17065- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، يعني: النساء. 17066- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال: النساء. 17067- ...... قال: حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (مع الخوالف) ، قال: مع النساء. 17068- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة   (1) انظر تفسير " الخوالف " فيما سلف ص: 405، تعليق 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " فقه " فيما سلف ص: 399، تعليق: 4، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف 13: 10، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 413 قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، أي: مع النساء. 17069- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قالا النساء. 17070- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 17071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. 17072- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال: مع النساء. * * * القول في تأويل قوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يجاهد هؤلاء المنافقون الذين اقتصصت قصصهم المشركين، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين صدقوا الله ورسوله معه، هم الذين جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم، فأنفقوا في جهادهم أموالهم واتعبوا في قتالهم أنفسهم وبذلوها (1) = (وأولئك) ، يقول: وللرسول وللذين آمنوا معه الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم = (الخيرات) ، وهي خيرات الآخرة، وذلك: نساؤها، وجناتها، ونعيمها. * * *   (1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 411، تعليق: 2، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 414 = واحدتها "خَيْرَة"، كما قال الشاعر: (1) وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامِعَ الرَّبَلاتِ ... رَبَلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ المَلِكاتِ (2) و"الخيرة"، من كل شيء، الفاضلة. (3) * * * = (وأولئك هم المفلحون) ، يقول: وأولئك هم المخلدون في الجنات، الباقون فيها، الفائزون بها. (4) * * * القول في تأويل قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أعد الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا معه (5) = (جنات) ، وهي البساتين، (6) تجري من تحت أشجارها الأنهار = (خالدين فيها) ، يقول: لابثين فيها، لا يموتون فيها، ولا يظعنون عنها (7) = (ذلك الفوز العظيم) ، يقول: ذلك النجاء العظيم، والحظّ الجزيل. (8) * * *   (1) لرجل من بني عدي، عدي تيم تميم، وهو جاهلي. (2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 267، واللسان (خير) ، و " الربلات " جمع " ربلة " (بفتح الراء وسكون الباء، أو فتحها) ، وهي لحم باطن الفخذ. عنى أمرًا قبيحًا. وقوله " خيرة "، مؤنث " خير "، صفة، لا بمعنى التفضيل، يقال: " رجل خير، وامرأة خيرة "، فإذا أردت التفضيل قلت: " فلانة خير الناس ". (3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 267. (4) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 13: 574، تعليق: 2، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير " أعد " فيما سلف ص: 31، 267. (6) انظر تفسير " الجنة " فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) . (7) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) . (8) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف ص: 357، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 415 القول في تأويل قوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وجاء) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم = (المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم) ، في التخلف = (وقعد) ، عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه (1) = (الذين كذبوا الله ورسوله) ، وقالوا الكذب، واعتذرُوا بالباطل منهم. يقول تعالى ذكره: سيُصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم، عذابٌ أليم. (2) * * * فإن قال قائل: (وجاء المعذّرون) ، وقد علمت أن "المعذِّر"، في كلام العرب، إنما هو: الذي يُعَذِّر في الأمر فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه؟ وليست هذه صفة هؤلاء، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّهم، وحرصوا على ذلك، فلم يجدوا إليه السبيل، فهم بأن يوصفوا بأنهم: "قد أعذروا"، أولى وأحق منهم بأن يوصفوا بأنهم "عذَّروا". وإذا وصفوا بذلك، (3) فالصَّواب في ذلك من القراءة، ما قرأه ابن عباس، وذلك ما:- 17073- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك قال: كان ابن عباس يقرأ: (وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ) ، مخففةً، ويقول: هم أهل العذر. = مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه؟   (1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص: 412، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) . (3) في المطبوعة: " بأنهم عذروا، إذا وصفوا بذلك "، كأنه متعلق بالسالف. والصواب أنه ابتداء كلام، والواو في " وإذا " ثابتة في المخطوطة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 416 قيل: إن معنى ذلك على غير ما ذهبتَ إليه، وإن معناه: وجاء المعتذِرون من الأعراب = ولكن "التاء" لما جاورت "الذال" أدغمت فيها، فصُيِّرتا ذالا مشدَّدة، لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى، كما قيل: "يذَّكَّرون" في "يتذكرون"، و"يذكّر" في "يتذكر" وخرجت العين من "المعذّرين" إلى الفتح، لأن حركة التاء من "المعتذرين"، وهي الفتحة، نقلت إليها، فحركت بما كانت به محركة. والعرب قد توجِّه في معنى "الاعتذار"، إلى "الإعذار"، فيقول: "قد اعتذر فلان في كذا"، يعني: أعذر، (1) ومن ذلك قول لبيد: إِلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلا كَامِلا فَقَدِ اعتَذَرْ (2) فقال: فقد اعتذر، بمعنى: فقد أعْذَر. * * * على أن أهل التأويل قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم "معذِّرين". فقال بعضهم: كانوا كاذبين في اعتذارهم، فلم يعذرهم الله. * ذكر من قال ذلك: 17074- حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي، عن الحسين قال: كان قتادة يقرأ: (وجاء المعذرون من الأعراب) ، قال: اعتذروا بالكذب. 17075- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وجاء المعذرون من الأعراب) ، قال: نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا، فلم يعذرهم الله. * * * = فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء: أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار   (1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 447، 448. (2) سلف البيت وتخريجه 1: 119، تعليق: 1. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 417 بالباطل لا بالحق، فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار، إلا أن يوصفوا بأنهم أعْذَرُوا في الاعتذار بالباطل. فأمّا بالحق = على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء = فغير جائز أن يوصَفوا به. * * * وقد كان بعضهم يقول: إنما جاءوا معذّرين غير جادِّين، يعرضون ما لا يريدون فعله. فمن وجَّهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك، غير أني لا أعلم أحدًا من أهل العلم بتأويل القرآن وجَّه تأويله إلى ذلك، فأستحبُّ القول به. (1) وبعدُ، فإن الذي عليه من القراءة قرأة الأمصار، التشديد في "الذال"، أعني من قوله: (المُعَذّرُونَ) ، ففي ذلك دليلٌ على صحة تأويل من تأوله بمعنى الاعتذار، لأن القوم الذين وُصفوا بذلك لم يكلفوا أمرًا عَذَّرُوا فيه، وانما كانوا فرقتين: إما مجتهد طائع، وإما منافق فاسقٌ، لأمر الله مخالف. فليس في الفريقين موصوفٌ بالتعذير في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو معذّر مبالغٌ، أو معتَذِر. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الحجة من القرأة مجمعة على تشديد "الذال" من " المعذرين "، عُلم أن معناه ما وصفناه من التأويل. * * * وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس. 17076- حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن حميد قال: قرأ مجاهد: (وَجاءَ المُعذَرُونَ) ، مخففةً، وقال: هم أهل العذر. 17077- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان المعذرون، [فيما بلغني، نفرًا من بني غِفارٍ، منهم: خفاف بن أيماء بن   (1) في المطبوعة: " فاستحبوا " جمعًا، وإنما جاء الخطأ من سوء كتابة المخطوطة، لأنه أراد أن يكتب بعد آخر الباء واوًا، ثم عدل عن ذلك، فأخذ الناشر بما عدل عنه الناسخ! ! . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 418 رَحَضة، ثم كانت القصة لأهل العذر، حتى انتهى إلى قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية] . (1) * * * القول في تأويل قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو، (2) ولا على المرضى، ولا على من لا يجد نفقة يتبلَّغ بها إلى مغزاه = "حرج"، وهو الإثم، (3) يقول: ليس عليهم إثم، إذا نصحوا لله ولرسوله في مغيبهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم = (ما على المحسنين من سبيل) ، يقول: ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد معه، لعذر يعذر به، طريقٌ يتطرَّق عليه فيعاقب من قبله (4) = (والله غفور رحيم) ، يقول: والله ساتر على ذنوب المحسنين، يتغمدها بعفوه لهم عنها = (رحيم) ، بهم، أن يعاقبهم عليها. (5) * * * وذكر أن هذه الآية نزلت في "عائذ بن عمرو المزني". * * *   (1) الأثر: 17077 - سيرة ابن هشام 4: 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17063. وكان هذا الخبر في المخطوطة والمطبوعة مبتورًا، أتممته من سيرة ابن هشام، ووضعت تمامه بين القوسين. (2) انظر تفسير " الضعفاء " فيما سلف 5: 551 \ 8: 19. (3) انظر تفسير " الحرج " فيما سلف 12: 295، تعليق: 2، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " المحسن " و " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) ، (سبل) . (5) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 419 وقال بعضهم في "عبد الله بن مغفل". * * * * ذكر من قال: نزلت في "عائذ بن عمرو". 17078- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) ، نزلت في عائذ بن عمرو. * * * * ذكر من قال: نزلت في "ابن مغفل". 17079- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) ، إلى قوله: (حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه، فيهم "عبد الله بن مغفل المزني"، فقالوا: يا رسول الله، احملنا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أجد ما أحملكم عليه! فتولوا ولهم بكاءٌ، وعزيزٌ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، (1) ولا يجدون نفقةً ولا محملا. فلما رأى الله حرصَهم على محبته ومحبة رسوله، أنزل عذرهم في كتابه فقال: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) ، إلى قوله: (فهم لا يعلمون) . * * *   (1) في المطبوعة: " وعز عليهم "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 420 القول في تأويل قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا سبيل أيضًا على النفر الذين إذا ما جاءوك، لتحملهم، يسألونك الحُمْلان، ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداءِ الله معك، يا محمد، قلت لهم: لا أجد حَمُولةً أحملكم عليها = (تولوا) ، يقول: أدبروا عنك، (1) = (وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا) ، وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون، (2) ويتحمَّلون به للجهادِ في سبيل الله. * * * وذكر بعضهم: أن هذه الآية نزلت في نفر من مزينة. * ذكر من قال ذلك: 17080- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) ، قال: هم من مزينة. 17081- حدثني المثنى قال: أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، قال: هم بنو مُقَرِّنٍ، من مزينة. 17082- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن مجاهد في قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، إلى قوله: (حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون) ، قال: هم بنو مقرِّن. من مزينة.   (1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) . (2) انظر تفسير " تفيض من الدمع " فيما سلف 10: 507 الجزء: 14 ¦ الصفحة: 421 17083- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، قال: هم بنو مقرِّن من مزينة. 17084- ...... قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عروة، عن ابن مغفل المزني، وكان أحد النفر الذين أنزلت فيهم: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية. 17085- حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا) ، قال: منهم ابن مقرِّن = وقال سفيان: قال الناس: منهم عرباض بن سارية. * * * وقال آخرون: بل نزلت في عِرْباض بن سارية. * ذكر من قال ذلك: 17086- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا دخلنا على عرباض بن سارية، وهو الذي أنزل فيه: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية. (1) 17087- حدثني المثنى قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا ثور، عن خالد، عن عبد الرحمن بن عمرو، وحجر بن حجر بنحوه. * * * وقال آخرون: بل نزلت في نفر سبعة، من قبائل شتى. * ذكر من قال ذلك:   (1) الأثر: 17086 - " عبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي "، ثقة، مترجم في التهذيب. و " حجر بن حجر الكلاعي "، ثقة، مترجم في التهذيب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 422 17088- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب وغيره قال: جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه، فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه) ! فأنزل الله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية. قال: هم سبعة نفر: من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير = ومن بني واقف: هرمي بن عمرو (1) = ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب، يكنى أبا ليلى = ومن بني المعلى: سلمان بن صخر = ومن بني حارثة: عبد الرحمن بن يزيد، أبو عبلة، وهو الذي تصدق بعرضِه فقبله الله منه = ومن بني سَلِمة: عمرو بن غنمه، وعبد الله بن عمرو المزني. 17089- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، إلى قوله: (حزنًا) ، وهم البكاؤون، كانوا سبعة. (2) * * * القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما السبيل بالعقوبة على أهل العذر، يا محمد، ولكنها على الذين يستأذنونك في التخلف خِلافَك، وترك الجهاد معك، وهم أهل غنى وقوّةٍ وطاقةٍ للجهاد والغزو، نفاقًا وشكًّا في وعد الله ووعيده (3) = (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، يقول: رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النساء = وهن   (1) في المطبوعة والمخطوطة: " حرمي بن عمرو "، والصواب " هرمي " بالهاء، انظر ترجمته في الإصابة. (2) الأثر: 17089 - سيرة ابن هشام 4: 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17077، وليس فيه في هذا الموضع قوله: " وهم سبعة ". وأما عدتهم عند ابن إسحاق فقد ذكرها ابن هشام في سيرته 4: 161، وقال: " وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم "، ثم عددهم. (3) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 423 "الخوالف"، خلف الرجال في البيوت، ويتركوا الغزو معك، (1) = (وطبع الله على قلوبهم) ، يقول: وختم الله على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب (2) = (فهم لا يعلمون) ، سوء عاقبتهم، بتخلفهم عنك، وتركهم الجهاد معك، وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا، وعظيم البلاء في الآخرة. * * *   (1) انظر تفسير " الخوالف " فيما سلف ص: 413، تعليق: 1، والمراجع هناك. (2) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف ص: 413، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 424 القول في تأويل قوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يعتذر إليكم، أيها المؤمنون بالله، هؤلاء المتخلفون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، التاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين، بالأباطيل والكذب، إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم = "قل"، لهم، يا محمد، = (لا تعتذروا لن نؤمن لكم) ، يقول: لن نصدِّقكم على ما تقولون = (قد نبأنا الله من أخباركم) ، يقول: قد أخبرنا الله من أخباركم، وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبَكم (1) = (وسيرى الله عملكم ورسوله) ، يقول: وسيرى الله ورسوله فيما بعدُ عملكم، أتتوبون من نفاقكم، أم تقيمون عليه؟ = (ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة) ، يقول: ثم ترجعون بعد مماتكم = (إلى عالم الغيب والشهادة) ، يعني: الذي يعلم السرَّ والعلانية، الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم   (1) انظر تفسير " نبأ " فيما سلف ص: 344، تعليق: 3، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 424 وظواهرها (1) = (فينبئكم بما كنتم تعملون) ، فيخبركم بأعمالكم كلها سيِّئها وحسنها، (2) فيجازيكم بها: الحسنَ منها بالحسن، والسيئَ منها بالسيئ. * * * القول في تأويل قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سيحلف، أيها المؤمنون بالله، لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله = (إذا انقلبتم إليهم) ، يعني: إذا انصرفتم إليهم من غزوكم (3) = (لتعرضوا عنهم) ، فلا تؤنبوهم = (فأعرضوا عنهم) ، يقول جل ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم، وخلوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق (4) (إنهم رجس ومأواهم جهنم) ، يقول: إنهم نجس (5) = (ومأواهم جهنم) ، يقول: ومصيرهم إلى جهنم، وهي مسكنهم الذي يأوُونه في الآخرة (6) = (جزاء بما كانوا يكسبون) ، (7) يقول: ثوابًا بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من معاصي الله. (8) * * *   (1) انظر تفسير " عالم الغيب والشهادة " فيما سلف من فهارس اللغة (غيب) ، (شهد) . (2) في المخطوطة: " سيئها " وأسقط " وحسنها "، والصواب ما في المطبوعة. (3) انظر تفسير " الانقلاب " فيما سلف 13: 35، تعليق: 1، والمراجع هناك. (4) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص: 369، تعليق: 6، والمراجع هناك. (5) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف 12: 194، تعليق: 3، والمراجع هناك. (6) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص: 360، تعليق: 3، والمراجع هناك. (7) في المطبوعة والمخطوطة " جزاء بما كانوا يعملون "، سهو من الناسخ فيما أرجح. (8) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) . = وتفسير "الكسب" فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 425 وذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين من المنافقين، قالا ما:- 17090- حدثنا به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا) ، إلى: (بما كانوا يكسبون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تغزو بني الأصفر، (1) لعلك أن تصيب بنت عظيم الرُّوم، فإنهنّ حِسان! (2) فقال رجلان: قد علمت، يا رسول الله، أن النساء فتنة، فلا تفتنَّا بهنَّ! فأذن لنا! فأذن لهما. فلما انطلقا، قال أحدهما: إن هو إلا شَحْمةٌ لأوّل آكلٍ! (3) فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل عليه في ذلك شيء، فلما كان ببعض الطريق، نزل عليه وهو على بعض المياه: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) [سورة التوبة: 42] ، ونزل عليه: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [سورة التوبة: 43] ، ونزل عليه: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة التوبة: 44] ، ونزل عليه: (إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) . فسمع ذلك رجل ممن غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم وهم خلفهم، فقال: تعلمون أنْ قَد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَكم قرآن؟ قالوا: ما الذي سمعت؟ قال: ما أدري، غير أني سمعت أنه يقول: "إنهم رجس"! فقال رجل يدعى "مخشيًّا"، (4) والله لوددت أني أجلد مئة جلدة، وأني لست معكم!   (1) "بنو الأصفر"، هم الروم. (2) في المطبوعة والمخطوطة " فإنهم حسان " والصواب ما أثبت. (3) " الشحمة "، عنى بها قطعة من " شحم سنام البعير "، وشحمة السنام من أطايب البعير، يسرع إليها الآكل، قال زفر بن الحارث الكلابي: وكُنَّا حَسِبْنا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ... لَيالِيَ قارَعْنا جُذَامَ وحمِيرَا فَلَمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ، بَعضَهُ ... بِبَعضٍ، أَبَتْ عِيدانُهُ أَنْ تكَسَّرا وفي المثل: "ما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة". (4) في المخطوطة: " مخشي "، والصواب ما في المطبوعة وهو " مخشي بن حمير الأشجعي "، انظر ترجمته في الإصابة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 426 فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جاء بك؟ فقال: وجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفَعه الريح، وأنا في الكِنّ!! (1) فأنزل الله عليه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [سورة التوبة: 49] ، (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) [سورة التوبة: 81] ، ونزل عليه في الرجل الذي قال: "لوددت أني أجْلد مئة جلدة" قولُ الله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) [سورة التوبة: 64] ، فقال رجل مع رسول الله: لئن كان هؤلاء كما يقولون، ما فينا خير! فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أنت صاحب الكلمة التي سمعتُ؟ " فقال: لا والذي أنزل عليك الكتاب! فأنزل الله فيه: (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [سورة التوبة: 74] ، وأنزل فيه: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، [سورة التوبة: 47] . 17091- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعبَ بن مالك يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، جلس للناس. فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيَتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وصَدَقته حديثي. فقال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطُّ، بعد أن هداني للإسلام، أعظمَ في نفسي من صدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي، (2) شرَّ   (1) "سفعته النار، والشمس، والسموم، تسفعه سفعًا "، لفحته لفحًا يسيرًا فغيرت لون بشرته وسودته. و "الكن" (بكسر الكاف) : ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن، وكل ما ستر من الشمس والسموم فهو كن. (2) في المطبوعة والمخطوطة: " حين أنزل الوحي ما قال لأحد "، بإسقاط " شر "، وهو لا يستقيم، وأثبته من نص روايته في صحيح مسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 427 ما قال لأحد: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) ، إلى قوله: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) . (1) * * * القول في تأويل قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحلف لكم، أيها المؤمنون بالله، هؤلاء المنافقون، اعتذارًا بالباطل والكذب = (لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) ، يقول: فإن أنتم، أيها المؤمنون، رضيتم عنهم وقبلتم معذرتهم، إذ كنتم لا تعلمون صِدْقهم من كذبهم، فإن رضاكم عنهم غيرُ نافعهم عند الله، لأن الله يعلم من سرائر أمرهم ما لا تعلمون، ومن خفيّ اعتقادهم ما تجهلون، وأنهم على الكفر بالله ......... (2) يعني أنهم الخارجون من الإيمان إلى الكفر بالله، ومن الطاعة إلى المعصية. (3) * * *   (1) الأثر: 17091 - هذا مختصر من الخبر الطويل في توبة كعب بن مالك، رواه مسلم في صحيحه 17: 87 - 100، من هذه الطريق، وقد مضى جزء آخر منه برقم: 16147. (2) لا أشك أن موضع هذه النقط خرم في كلام أبي جعفر، من ناسخ كتابه، وكأن صواب الكلام: " وأنهم على الكفر بالله مقيمون، وأنهم هم الفاسقون، يعني: أنهم الخارجون. . . "، أو كلامًا شبيهًا بهذا. (3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص: 406، تعليق: 1، والمراجع هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 428 القول في تأويل قوله: {الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) } قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الأعراب أشدُّ جحودًا لتوحيد الله، وأشدّ نفاقًا، من أهل الحضر في القرى والأمصار. وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك، لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبًا، وأقلُّ علمًا بحقوق الله. * * * وقوله: (وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) ، يقول: وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، (1) وذلك فيما قال قتادة: السُّنن. 17092- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) ، قال: هم أقل علمًا بالسُّنن. 17093- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَنْد، فقال: والله إنّ حديثك ليعجبني، وإن يدك لَتُرِيبُني! فقال زيد: وما يُريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري، اليمينَ يقطعون أم الشمالَ؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله: (الأعرابُ أشدُّ كفرًا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزلَ الله على رسوله) . (2) * * *   (1) انظر تفسير " حدود الله " فيما سلف 8: 68، تعليق: 3، والمراجع هناك. (2) الأثر: 17093 - " عبد الرحمن بن مغراء الدوسي "، ثقة، متكلم فيه. مضى برقم: 11881. وكان في المطبوعة: " عبد الرحمن بن مقرن "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فبدل من عند نفسه. و"زيد بن صوحان العبدي "، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ثقة قليل الحديث، مضى برقم: 13486. وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 6: 84، 85 من طريق يعلي بن عبيد، عن الأعمش، عن إبراهيم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 429